٠٢‏/٠٣‏/٢٠١٠

الرئيس السادات والتمرد الطائفي

أطلق اليساريون والشيوعيون كذبة رخيصة وصدقوها . قالوا إن الرئيس السادات – رحمه الله – أطلق سراح الإسلاميين ليقضي على الناصريين ومن والاهم ، ولكنه لم يستطع السيطرة عليهم فقتلوه !

الأكذوبة تواترت ، وتم تناقلها كأنها حقيقة مطلقة لا تقبل الجدل أو النقاش . ورددها بعض الكتاب الكبار ؛ والصحفيين من محدودي المعرفة والثقافة ، كأنها نص مقدس لا يجوز المساس به أو تغييره .. مع أن الحقيقة تخالف ذلك ، ويعرفها من عايش فترة الرئيس السادات ووعاها جيدا. وقد كنت ممن عارضوا الرئيس السادات في حياته ؛ وخاصة بعد ذهابه إلى القدس وتوقيع اتفاقات الصلح الأسود ؛ وسجلت ذلك في كتاب لي صدر وتم توزيعه على الناس أيامئذ . فضلا عن مشاركتي المتواضعة مع غيري في رفع سقف المعارضة من مفهوم إسلامي عبر مجلة الاعتصام – رد الله غربتها - وكانت مجلة شهرية تصدر بإمكانات متواضعة للغاية ، ومحرومة من الإعلان والدعم ، فحظيت بغضب جارف من جميع الطغاة والفاسدين والعملاء.. وتطورت المعارضة في منتصف السبعينيات من خلال مجلة الدعوة والصحف الإسلامية الأخرى ، مما أغضب السادات وأحنقه على المعارضة الإسلامية ؛ التي كانت ولم تزل تمثل المعارضة الحقيقية حتى الآن .

أقول إنني عايشت الإفراج عن خصوم عبد الناصر ، وعودة المنفيين في الداخل والمهاجرين في الخارج ، الذين فتح لهم السادات أبواب البلاد بعد حرمان طويل تخللته هزيمة الوطن والأمة هزيمة تاريخية غير مسبوقة مازلنا ندفع ثمنها حتى الآن ، وكان من بين المفرج عنهم والعائدين مجموعات كبيرة من الصحفيين والمثقفين والسياسيين من غير الإسلاميين ، أذكر منهم مصطفى أمين وعلى أمين وجلال الحمامصي وأحمد أبو الفتح وعبد العزيز خميس ومرسي الشافعي ورائد العطار ومحمود عبد المنعم مراد في المجال الصحفي ، مع إتاحة الفرصة لكثير من الكتاب والأدباء والشعراء ومن طبقت عليهم قوانين العزل السياسي من الوفديين والأحرار الدستوريين والشيوعيين ومصر الفتاة للعودة إلى الحياة العامة .. وكان سلوك السادات في هذا السياق ملائما لمنهج حاكم جديد يريد أن يرفع الظلم عمن ظلمهم سلفه من ناحية ، ويريد أن يظهر أمام الدنيا بصورة الرجل الذي يجمع الاتجاهات الوطنية تحت مظلة حكمه الجديد من ناحية أخري ؛ ليرتب على ذلك حالة من التوافق العام ؛ تؤيد قراراته المصيرية التي تتعلق بالقتال ضد العدو الرابض على قناة السويس ..

بالطبع لم يكن السادات محتاجا إلى الإسلاميين ليقضي على الشيوعيين أو اليسار كما تدعي الأكذوبة ، فقد استعان بكثير منهم ، وفتح لهم مجالات متعددة ، وكان بعضهم يكتب خطبه ورسائله مثل " أحمد بهاء الدين " الذي كان يستدعيه من الكويت - وكان رئيسا لتحرير مجلة العربي المعروفة - ثم يعود إليها بعد انتهاء مهمته مع الرئيس ، وتدخل السادات ليقنع الحكومة القطرية باستقبال " رجاء النقاش " لينشئ جريدة الراية القطرية ، خوفا من أن تتولاها جنسية أخرى معادية لمصر !، بل كان بعض اليساريين يوافيه بتقارير سياسية عن رفاقه في باريس ولندن ممن تركوا مصر للعمل في صحافة النفط المهاجرة وأماكن أخرى ، وكانت الصحف آنئذ تنشر عن لقاءات السادات بهم في استراحة القناطر !

ثم إن اليسار والشيوعيين لم تكن لهم ولن تكون لهم القوة التي تخيف نظام الحكم في مصر ، فهم أقلية ، ولكن صوتها عال يشبه نقيق الضفادع ، مع أنها ضعيفة الهيكل ، ضئيلة الحجم ، وكان مصطفي أمين يتندر بعددهم ، فيقول إنه يمكن جمعهم في أوتوبيس واحد !

لم يكن السادات إذا محتاجا إلى الإسلاميين ليحمي نظامه ، فالنظام لديه آليات معروفة لإخصاء من يهدده ؛ وسحقه إذا أراد ! كان السادات في كل الأحوال محتاجا إلى إعادة البلاد إلى الوضع الطبيعي الذي افتقدته منذ انتقلت إلى الوضع الاستثنائي بعد 1952م ،وانتهي بالهزيمة المدمرة ، والخراب المقيم ، والعار الذي ما زال يدفع ثمنه جميع الناس – باستثناء اللصوص - إلى ما شاء الله ..

وخطا السادات خطوات موفقة في بناء الجيش وإعداده للقتال ، وأصدر أول أمر هجومي مصري في القرن العشرين ، وعبرت القوات المسلحة إلى الضفة الشرقية للقناة ، ورأى الناس لأول مرة منظر الأسري الغزاة اليهود عبر شاشات التلفزة المحلية والعالمية ، ثم فتح الباب لإنشاء الأحزاب ( الديكورية !) بقيادة الحزب الذي تصنعه السلطة ، وهرول أعضاؤه لحزب آخر أشأنه السلطة وجعلت السادات رئيسا له ، ورأينا صحافة حزبية ذات صوت عال ، وتظهر فيها شخصية مخلص الوسطاني رمز الحزب الحكومي يضحكنا على فساد الحكومة ومفارقاتها، ثم أعطي السادات المجال ليتخلص الناس من النظام الاشتراكي ، ويبدأ انفتاحا جديدا بإيجابياته ، وسلبياته التي تعاظمت وتغولت في زماننا ، وجعلت ملوك الخردة سادة البلاد والعباد والمال والاقتصاد والسياسة والفكر !

وهنا نسأل أين كان السادات من التمرد الطائفي ؟ وهل هو الذي صنعه كما يردد بعض المنافقين والمتملقين والأفاقين ، وخدام التمرد الطائفي الذين يرجعون التمرد الطائفي إلى إلغاء السادات للدولة المدنية التي أنشأها عبد الناصر ، وحرم عليها الإسلام ؟ وهل كان السادات حين أعلن أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة يقف ضد النصارى أو اليهود بوصفهم أصحاب ديانة مغايرة ، ويلغي ما يسمي بالمواطنة ؟

أذكر أن السادات حين مات الأنبا كيرلس السادس رئيس الكنيسة الأرثوذكسية ، استقبل شنودة بعد أن تولى ، وأغدق عليه كثيرا من الاهتمام ، وقد راجت شائعات يومها أن الدولة تدخلت في انتخابات البطريك ، ورأت أن شنودة أقل تعصبا من الأنبا " متى المسكين " الذي بدا لها أصوليا غير متوافق مع السلطة أو متفاهم معها بحكم انتمائه إلى جماعة الأمة القبطية العنصرية المتعصبة ،وسبق عزله من جانب الأنبا يوساب الثاني، وقال الخبثاء إن الورقة التي قام الطفل بسحبها عند اختيار البطريك الجديد ، كانت واحدة من ورقات ثلاث تحمل كلها اسم شنودة ، ولا تحمل اسم الأنبا متى المسكين ، على طريقة إسماعيل يس في فيلم البحرية ، حين أراد زملاؤه مساعدته ليتزوج ، فساعدوه على هيئة جمعية ، وقالوا أن الاسم الذي سيظهر في الورقة هو أول من يقبض الجمعية ، وكانت الأوراق الموضوعة في الطبق كلها تحمل اسم إسماعيل يس ، ليكون هو الشخص الفائز ، ففتحها جميعا ، ليجد أن اسمه مكتوب فيها جميعا ، فتأثر لموقف زملائه !

أيا كان الأمر ، وبعيدا عن الجانب الهزلي ؛ فقد صار شنودة ، راعيا لكنيسة مار مرقص ، وذهب الأنبا متى المسكين إلى ديره يلفه الصمت والسكون حتى استدعاه السادات بعد نحو عشر سنوات ليقود المجلس المشترك لقيادة الكنيسة التي خلا كرسي رئاستها بعزل شنودة ، وتحديد إقامته لدوره الذي تحدثت عنه الدولة في التمرد الطائفي ، وأيدته المحكمة المختصة بحكم تاريخي بعد سنوات من رحيل السادات !

كان الأب متى المسكين منزويا في ديره يتحدث عن خلاص الروح ، ويدرس لتلامذته ، ويؤلف الكتب في تعاليم المسيح ، ويزرع الأرض المتاحة حول الدير مع بقية الرهبان ،وكان بعيدا عن السياسة وطموحاتها ولعله اكتشف عبث فكر جماعة الأمة القبطية الإرهابي .. أما الأنبا شنودة فقد كان له اتجاه آخر ! لقد جاء من مدارس الأحد التي تعلم فيها وانحاز إليها وهي مدارس تبث التعصب وروح الاستشهاد ، وجماعة الأمة القبطية الإرهابية التي تدعو إلى استقلال أرض مصر ،وتحريرها ، ليس من الإنجليز واليهود الغزاة ،ولكن من المسلمين العرب البدو المتخلفين ، ويشير تاريخها إلى اختطافها للأنبا يوساب واعتقاله ومحاولة إرغامه على التنازل عن كرسي البابوية ، وقيل أنها قتلته في المستشفى القبطي الذي كان مودعا فيه حتى يتولى البابا كيرلس السادس أحد أفراد الجماعة الإرهابية ! ..

وكان أول تجليات شنودة إرسال عشرات الرهبان إلى الخانكة مزودين بنصيحته الدموية أن يعودوا عشرة فقط بدلا من العشرات ، في سبيل التظاهر ضد الدولة وضد المسلمين بسبب منع بناء كنيسة غير مرخصة . وكان احتكاك ، وأحداث ، وإعلام غربي صليبي يتحدث عما يسمى فتنة طائفية ! ومتى ؟ قبيل المواجهة التاريخية مع الغزاة القتلة اليهود في سيناء المحتلة !

وتتابعت التجليات في الزاوية الحمراء والإسكندرية ، ونشر الشيخ الغزالي – رحمه الله – التقرير الذي تسرب إليه ، ويتناول الخطة التي وضعها زعيم التمرد ،وتتأسى بما فعله الأندلسيون النصارى لمحو الإسلام من الأندلس ، وهي خطة طويلة المدى تقوم على أساس التفوق العددي للنصارى على النصارى من خلال زيادة نسلهم وتقليل نسل المسلمين ، وأشياء أخرى !

ثم كان الاهتمام البالغ بنصارى مصر من جانب الولايات المتحدة ، بعد حرب رمضان ، واستقبال زعيم التمرد في البيت الأبيض استقبال الزعماء والرؤساء أو يفوق، مع الدعم المادي والمعنوي للكنيسة ، ثم كان التفريط لأول مرة في استقلال الكنيسة المصرية ، والانضمام إلى المجلس العالمي للكنائس ، وهو مجلس استعماري تنصيري ، يقوم على شئونه الفاتيكان ، والدول الاستعمارية الصليبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ..

وفي خلال هذه الفترة- فترة السادات - بدأ التحرش بالتربية الإسلامية في المدارس ، ومحاولة وضع كتاب مشترك يسمى كتاب الأخلاق ، وهو ما واجهه فضيلة الإمام عبد الحليم محمود – رضي الله عنه بكل قوة وصلابة ، علنا وأمام الأمة كلها ، وفي حضور السادات وشنودة على شاشة التلفزيون !

ونتابع بإذنه تعالى


كتب د . حلمي محمد القاعود (المصريون)

ليست هناك تعليقات: