بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
يقول الخطاب الذى أرسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام إلى ، قيصر، ملك الروم :
"بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم
سلام على من إتبع الهدى وأما بعد ، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام إسلم تَسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعض أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهد بأنّا مسلمون)" ..
وعادة ما يتوقف القارئ عند كلمة "الأريسيين" ، رغم وضوح معناها ولو إستنتاجاُ، إذ يُفهم أنهم من يحكم عليهم هرقليوس قيصر الروم ، فهى عبارة جديرة بأن نتوقف عندها لما تكشف عنه من حقائق عادة ما يتم التعتيم عليها .. وقبل الدخول فى تفاصيلها، لا بد من الإشارة إلى ما كان عليه حال المسيحية آنذاك خاصة فى الإمبراطورية الرومانية وإمتدادها الإستعمارى ..
لا شك فى أن كتابة تاريخ المسيحية كانت تسبب مشكلة كبيرة حتى عهد قريب ، فلم يكن هناك سوى ما تقدمه المؤسسة الكنسية فى أعمال الرسل التى يرجعون تاريخها إلى ما بين سنة 80 و 90 م ، وما تحتوى عليه الأناجيل الأربعة التى قام بتجميعها وتعديلها القديس جيروم فى أواخر القرن الرابع ، وهى وثائق لا يُعتد بها من الناحية العلمية.. ثم تبيّن تدريجياً وخاصة منذ أيام والتر بوير W. Bauer)) أنه لم تكن هناك أى وحدة فى العقائد المسيحية الأولى ، وثبُت منذ أيام أدولف فون هارناك (A. v. Harnak) أن العقائد قد خلقت الإنقسامات الشديدة وأن الهرطقة والأصولية أصبح لكل منها منهجه.. لذلك يتكون تاريخ المسيحية من سلسلة ممتدة من الإنقسامات والمعارك الضارية القائمة على خلافات عقائدية جذرية.
والثابت من ناحية أخرى، أن المسيحية لم تنبثق دفعة واحدة من ذهن يسوع كما يتخيل البعض ، وإنما كانت ثمرة تاريخ ممتد من الصراعات والإضافات المتناقضة المتتالية وتم نسجها فعلا عبر المجامع على مر التاريخ. لذلك يظل السؤال مطروحا لليوم : من الذى أسس المسيحية حقاً : يسوع ، بولس ، أو مارسيون ؟! فلقد كانت هناك فرقاً متنافرة ومتناحرة كالفريسيين ، والصدوقيين ، والأسينيين ، والثوار ، وأتباع يوحنا ، والعديد غيرها لذلك لا بد من أخذ كل هذه التيارات فى الإعتبار عند الحديث عن الإطار العام الدينى والثقافى آنذاك.
كما أوجد فريدرخ أوفربيك (F. Overbeck) أستاذ التاريخ الكنسى فى جامعة بال ، منعطفا أساسيا فى تاريخ المسيحية حين أوضح أن الفراغ الأساسى للعقيدة المسيحية وغياب أى موضوع متجانس إضطرها ، لكى تتمكن من الإستمرار ، إلى الإستحواذ على العقائد والفلسفات السائدة آنذاك وتنصيرها وفقا لكل عصر ، من القرون الأولى حتى القرن التاسع عشر ، حينما بدأ النقد العلمى والتاريخى... وما يؤكده أوفربيك عن وجه حق هو : " أن رسالة يسوع كانت التبشير بالملكوت فقط ، وحينما لم يتحقق هذا الملكوت واختفت فكرة إنتظاره بين المسيحيين ، فقدت المسيحية كيانها ولم تعد ذات موضوع ، وأن مصداقية الأناجيل لم تعد باقية إلا فى الأوساط الكنسية الأصولية " ..
كان لا بد من هذه المقدمة الشديدة الإيجاز ليفهم القارئ المناخ العام الذى أحاط بحياة القس السكندرى أريوس ، الذى أوجد شرخا لا يمكن رأبه فى المسيحية، فلا تزال أصداؤه نابضة لليوم ..
وُلد أريوس (256-336 م) فى ليبيا ودرس اللاهوت على يد العالم ليسينيوس الإنطاقى. وفى عام 314 م أُسندت إليه رئاسة كنيسة بقرب ميناء الإسكندرية. وهو من المشهود لهم بالصلابة أيام الإضطهاد الكبير الذى قاده ديوكلسيان ومن تبعوه ، ذلك الإضطهاد الذى بدأ عام 303 م وإنتهى بانتخاب قسطنطين الأول إمبراطوراً للرومان ، وتلاه صدور مرسوم التسامح عام 311 .. أى أنه سُمح للمسيحيين بكل فرقهم المتناحرة ممارسة عقائدهم ، مثل باقى الفرق الوثنية السائدة آنذاك ، والتى كانت تمثل الأغلبية الساحقة بين هذه الشعوب ، أو بقول آخر ذلك يوضح أنه حتى القرن الرابع لم يكن تم الإعتراف بالمسيحية كديانة رسمية ولم تكن تمارس إلا سراً بين الأتباع هربا من الإضطهاد ..
وكانت أهم المعارك المحتدمة فى الإمبراطورية وخاصة فى الإسكندرية، تلك المعركة الضارية بين أنصار التثليث وأنصار التوحيد ، فلم تكن عقيدة التثليث قد إستتبت بعد. وأنصار التثليث أمرهم وشركهم بالله عز وجل معروف ، إذ يساوون بين الآب والإبن والروح القدس قائلين أن ثلاثتهم واحد من نفس الكيان ونفس الجوهر!. أما أنصار التوحيد فهم الذين كانوا يرفضون تأليه يسوع ويرفضون مساواته بالآب أى بالله ، على أن "الله" غير مادى ولا يمكن أن يكون جزءا من العالم المادى . وأهم ما تمسك به أريوس الرافض لتأليه يسوع ، هو أن الإبن أقل من الآب لأنه مخلوق ولا يمكن مساواته بالخالق ، ولا يمكن للإبن أن يكون بنفس خلود الله وأزليته ، وهو ما يهدم العقيدة المسيحية من أساسها .. وفى واقع الأمر ، لم يكن ذلك فكر أريوس وحده وإنما كان بمثابة الإطار العام الذى ينتمى إليه منطقيا السواد الأعظم من الأتباع ومن رجال الدين لأنه الأقرب إلى العقل والمنطق ..
وفى عام 314 كان أسقف الإسكندرية الجديد ، إسكندر السكندرى ، وأطنازيوس ، سكرتيره وإبنه بالتبنى، يؤمنان بالتثليث ويقودان المعارك الفكرية المتأججة ، قائلين "أن الإبن هو تجسد لرب إسرائيل" ، أو "الإبن إكتسب صفات الآب وسار مساويا تماماً له فى الألوهية " .. وقام الأسقف إسكندر بعقد مجمع من الأباء المحليين عام 318 م ، وتم طرد أريوس وحرمانه توطئة لإغتياله ، وطرد معه أسقفان آخران وستة رهبان وعدد من القائمين بالخدمة وعدد من العذارى المكرثين للكنيسة والتابعات لفكر أريوس. فهرب أريوس إلى بيت عانيا وحظى بحماية أوسبيوس ، خاصة وأنه حتى ذلك الوقت لم يكن تقنين العقائد المسيحية قد بدأ وإنما كانت كل كنيسة أو كل جماعة تتبع إنجيلها ومعتقداتها..
وتم إنعقاد مجمع لرفع الحرمان الذى فُرض على أريوس فى الإسكندرية . وكانت هذه هى المرة الأولى التى يقوم فيها مجمع محلى بإلغاء قرار لكنيسة أخرى ، لكنها لم تكن آخر مرة ، فما أكثر الخلافات والإنقسامات التى كانت دائرة ولا تزال ..
وفى خضم هذه المعارك أرسل الإمبراطور قسطنطين مستشاره للشؤن الدينية، أوسيوس القرطبى، إلى إنطاقيا لحسم الموقف ، الأمر الذى يكشف عن مدى إتساع هذه المعركة المتعلقة أساسا بتحريف عقيدة التوحيد .. بينما قام أسقف الإسكندرية وسكرتيره بإعداد إقرار بأمر من أوسيوس ، مستشار قسطنطين ، ليوقع عليه أريوس وأتباعه من رجال اللاهوت ، جاء به :
* الإعتراف بأن هناك إله واحد هو يسوع المسيح فقد إنتقلت إليه الألوهية عن طريق الآب ؛
* وأن يسوع إبن وحيد مولود وليس مخلوق ؛
* وأنه موجود من قديم الزمان ؛
* وأنه لا يمكن تغييره أو تبديله ؛
* وأنه ليس مجرد إرادة الله وإنما هو الوجود الفعلى لله !!
وتلى هذه البنود سلسلة من اللعنات والحرمان على كل من لا يقرها .. وكانت هذه الوسيلة لفرض الخضوع وتغيير الرأى ، على المخالفين لتيار المؤسسة الكنسية ، هى المرة الأولى من نوعها فى مسيرتها القمعية التى لا تزال تتبع نفس عمليات القمع والترويع حتى يومنا هذا ..
ويقال أن ستون أسقفا قاموا بالتوقيع على وثيقة أوسيوس ، بينما رفض أريوس وثلاثة آخرين وتم حرمانهم وتوقيع اللعنة عليهم. وقرر أسقف الإسكندرية عقد مجمع فى أنقرة ، إلا أن الإمبراطور قسطنطين قد فاجأ الجميع بنقل مكان المجمع إلى مدينة نيقية على بُعد ثلاثمائة كيلومترا من أنقرة ! وبذلك تحول المجمع المحلى الذى كان سيعقد للبت فى شأن كنسى داخلى إلى مجمع عام ، يضم كافة الكنائس ، لذلك يسمى أول مجمع مسكونى أو مجمع نيقية الأول ، وإنعقد فى منتصف عام 325 م..
ترأس الإمبراطور قسطنطين المجمع إذ كان يتابع أحداث فكر أريوس طوال سبع سنوات لأنها كانت تثير القلاقل على مدى إتساع الإمبراطورية وبين عواصمها الرئيسية الثلاث. وقد أدى الصراع بين أنصار التوحيد وأنصار التثليث إلى إستحداث ظاهرة جديدة استمرت بعد ذلك وتفاقمت ، ألا وهى : إستخدام السياسة فى الصراع الدينى ! وانتهى المجمع بإدانة أريوس وحرمانه لرفضه تأليه يسوع ورفضه فكرة الخلاص التى إختلقتها المؤسسة الكنسية وأضفتها على يسوع . كما أدان أوريجين ، رغم انه يُعد ن آباء الكنيسة وأحد آباء تفسير الأناجيل إلا أنه كان يؤمن بالتصعيد المطلق لله !
ولترسيخ وتثبيت فكرة تأليه يسوع وسد الباب على أريوس وأتباعه ، إختلق مجمع نيقية عقيدة إيمان جديدة وقام بتعديل العقيدة السابقة والمعروفة بإسم "عقيدة الحواريين" مؤكدا على أن يسوع من نفس طبيعة الله ومن نفس جوهره باستخدام عبارة "هوموأوسيوس" وترسيخها ؛ وقام بتثبيت عيد الفصح بأول يوم أحد بعد إكتمال قمر الربيع لإبعاده عن عيد الفصح اليهودى ؛ وأقر مبدأ اللعنة على كل من يخالف هذه التعليمات الكنسية !!
وعلى عكس ما تقدمه العديد من المراجع الإنتقائية ، من أن مجمع نيقية وضع حداً لمعركة أريوس ، ففى واقع الأمر كان هذا المجمع بداية المعركة الحقيقية التى واجهت الكنيسة ولا تزال رغم الحكم بالإدانة والحرمان واللعنة .. فقد إنتشرت الأريوسية لتسيطر على القرن الرابع باستقرارها فى دار الإمبراطورية إذ تبناها قسطنطين وتنصر وفقا لعقيدة الأريوسية ، ومن بعده الإمبراطور قنسطانس ، حيث أصبحت الديانة الرسمية للدولة. ومن الواضح أنها إستمرت سائدة حتى عهد هركليوس، فى القرن السابع، بدليل أن سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، حين وجه خطابه للقيصر حمّله ذنب الأريسيين لو لم يسلم ويدخلهم معه فى الإسلام ..
وإن كانت الأريوسية بدأت كمذهب رافض لمساواة المسيح بالله وأدانتها عدة مجامع محلية قبل أن يدينها مجمع نيقية لأغراض سياسية، إلا أنها واصلت إنتشارها بين الأتباع وفى العديد من البلدان الأوروبية بعد ذلك ، إذ إنتشرت فى كل أطراف الإمبراطورية والشعوب الجرمانية ، وظلت فترة طويلة فى بلاد القوط والفندال والبورجينيون واللومبار.. وكان لها مفكريها من أمثال أوسبيوس ، وإينوميوس ، وفليكس الثانى ، والأسقف فولفيلا ، والباطريارك مقدونيوس ، والبطريارك إكسودس ، وديموفيلوس.
وذلك الإنتشار الواسع رغم محاولات الحصار والإبادة هو الذى جعل الشعوب التى إمتد إليها الإسلام تتقبله ببساطة على أن الأساس فى توحيد الله وعدم الشرك به واحد بينهم ، فالأريوسية هى التى كانت سائدة فى مصر أيام الفتح الإسلامى ، والأريوسية هى التى كانت سائدة فى الشام حينما إمتد إليها الإسلام ، وهى التى كانت سائدة فى إسبانيا وتقبّل الإسبان المسلمين ليخلصوهم من إضطهاد المؤسسة الفاتيكانية.. إلا أن التعصب الكنسى تصدى لها بضراوة وإقتلع شعوبا بأسرها كالفودوَا والكاتار والبجوميل لمجرد أنهم رافضون لتأليه المسيح ..
ولا نجد أفضل من رد هركليوس، إمبراطور الروم، على خطاب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، لننهى به هذا العرض المقتضب عن أريوس والأريوسية ، وهو رد يكشف عن الكثير من المسكوت عنه أو المتعتم عليه :
" إلى أحمد رسول الله الذى بشر به عيسى ، من قيصر الروم ،
أنه جاءنى كتابك مع رسولك ، وأنى أشهد أنك رسول الله ، نجدك عندنا فى الإنجيل ، بشرنا بك عيسى بن مريم. وأنى دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ، ولو أطاعونى لكان خيراً لهم ، ولوددتُ أنى عندك فأخدمك وأغسل قدميك " ..
(أصل هذه الوثيقة الشريفة موجود ضمن المقتنيات الخاصة بالديوان الملكى الأردنى الهاشمى).
( 25/6/2009 )
أستاذة الحضارة الفرنسية
يقول الخطاب الذى أرسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام إلى ، قيصر، ملك الروم :
"بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم
سلام على من إتبع الهدى وأما بعد ، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام إسلم تَسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعض أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهد بأنّا مسلمون)" ..
وعادة ما يتوقف القارئ عند كلمة "الأريسيين" ، رغم وضوح معناها ولو إستنتاجاُ، إذ يُفهم أنهم من يحكم عليهم هرقليوس قيصر الروم ، فهى عبارة جديرة بأن نتوقف عندها لما تكشف عنه من حقائق عادة ما يتم التعتيم عليها .. وقبل الدخول فى تفاصيلها، لا بد من الإشارة إلى ما كان عليه حال المسيحية آنذاك خاصة فى الإمبراطورية الرومانية وإمتدادها الإستعمارى ..
لا شك فى أن كتابة تاريخ المسيحية كانت تسبب مشكلة كبيرة حتى عهد قريب ، فلم يكن هناك سوى ما تقدمه المؤسسة الكنسية فى أعمال الرسل التى يرجعون تاريخها إلى ما بين سنة 80 و 90 م ، وما تحتوى عليه الأناجيل الأربعة التى قام بتجميعها وتعديلها القديس جيروم فى أواخر القرن الرابع ، وهى وثائق لا يُعتد بها من الناحية العلمية.. ثم تبيّن تدريجياً وخاصة منذ أيام والتر بوير W. Bauer)) أنه لم تكن هناك أى وحدة فى العقائد المسيحية الأولى ، وثبُت منذ أيام أدولف فون هارناك (A. v. Harnak) أن العقائد قد خلقت الإنقسامات الشديدة وأن الهرطقة والأصولية أصبح لكل منها منهجه.. لذلك يتكون تاريخ المسيحية من سلسلة ممتدة من الإنقسامات والمعارك الضارية القائمة على خلافات عقائدية جذرية.
والثابت من ناحية أخرى، أن المسيحية لم تنبثق دفعة واحدة من ذهن يسوع كما يتخيل البعض ، وإنما كانت ثمرة تاريخ ممتد من الصراعات والإضافات المتناقضة المتتالية وتم نسجها فعلا عبر المجامع على مر التاريخ. لذلك يظل السؤال مطروحا لليوم : من الذى أسس المسيحية حقاً : يسوع ، بولس ، أو مارسيون ؟! فلقد كانت هناك فرقاً متنافرة ومتناحرة كالفريسيين ، والصدوقيين ، والأسينيين ، والثوار ، وأتباع يوحنا ، والعديد غيرها لذلك لا بد من أخذ كل هذه التيارات فى الإعتبار عند الحديث عن الإطار العام الدينى والثقافى آنذاك.
كما أوجد فريدرخ أوفربيك (F. Overbeck) أستاذ التاريخ الكنسى فى جامعة بال ، منعطفا أساسيا فى تاريخ المسيحية حين أوضح أن الفراغ الأساسى للعقيدة المسيحية وغياب أى موضوع متجانس إضطرها ، لكى تتمكن من الإستمرار ، إلى الإستحواذ على العقائد والفلسفات السائدة آنذاك وتنصيرها وفقا لكل عصر ، من القرون الأولى حتى القرن التاسع عشر ، حينما بدأ النقد العلمى والتاريخى... وما يؤكده أوفربيك عن وجه حق هو : " أن رسالة يسوع كانت التبشير بالملكوت فقط ، وحينما لم يتحقق هذا الملكوت واختفت فكرة إنتظاره بين المسيحيين ، فقدت المسيحية كيانها ولم تعد ذات موضوع ، وأن مصداقية الأناجيل لم تعد باقية إلا فى الأوساط الكنسية الأصولية " ..
كان لا بد من هذه المقدمة الشديدة الإيجاز ليفهم القارئ المناخ العام الذى أحاط بحياة القس السكندرى أريوس ، الذى أوجد شرخا لا يمكن رأبه فى المسيحية، فلا تزال أصداؤه نابضة لليوم ..
وُلد أريوس (256-336 م) فى ليبيا ودرس اللاهوت على يد العالم ليسينيوس الإنطاقى. وفى عام 314 م أُسندت إليه رئاسة كنيسة بقرب ميناء الإسكندرية. وهو من المشهود لهم بالصلابة أيام الإضطهاد الكبير الذى قاده ديوكلسيان ومن تبعوه ، ذلك الإضطهاد الذى بدأ عام 303 م وإنتهى بانتخاب قسطنطين الأول إمبراطوراً للرومان ، وتلاه صدور مرسوم التسامح عام 311 .. أى أنه سُمح للمسيحيين بكل فرقهم المتناحرة ممارسة عقائدهم ، مثل باقى الفرق الوثنية السائدة آنذاك ، والتى كانت تمثل الأغلبية الساحقة بين هذه الشعوب ، أو بقول آخر ذلك يوضح أنه حتى القرن الرابع لم يكن تم الإعتراف بالمسيحية كديانة رسمية ولم تكن تمارس إلا سراً بين الأتباع هربا من الإضطهاد ..
وكانت أهم المعارك المحتدمة فى الإمبراطورية وخاصة فى الإسكندرية، تلك المعركة الضارية بين أنصار التثليث وأنصار التوحيد ، فلم تكن عقيدة التثليث قد إستتبت بعد. وأنصار التثليث أمرهم وشركهم بالله عز وجل معروف ، إذ يساوون بين الآب والإبن والروح القدس قائلين أن ثلاثتهم واحد من نفس الكيان ونفس الجوهر!. أما أنصار التوحيد فهم الذين كانوا يرفضون تأليه يسوع ويرفضون مساواته بالآب أى بالله ، على أن "الله" غير مادى ولا يمكن أن يكون جزءا من العالم المادى . وأهم ما تمسك به أريوس الرافض لتأليه يسوع ، هو أن الإبن أقل من الآب لأنه مخلوق ولا يمكن مساواته بالخالق ، ولا يمكن للإبن أن يكون بنفس خلود الله وأزليته ، وهو ما يهدم العقيدة المسيحية من أساسها .. وفى واقع الأمر ، لم يكن ذلك فكر أريوس وحده وإنما كان بمثابة الإطار العام الذى ينتمى إليه منطقيا السواد الأعظم من الأتباع ومن رجال الدين لأنه الأقرب إلى العقل والمنطق ..
وفى عام 314 كان أسقف الإسكندرية الجديد ، إسكندر السكندرى ، وأطنازيوس ، سكرتيره وإبنه بالتبنى، يؤمنان بالتثليث ويقودان المعارك الفكرية المتأججة ، قائلين "أن الإبن هو تجسد لرب إسرائيل" ، أو "الإبن إكتسب صفات الآب وسار مساويا تماماً له فى الألوهية " .. وقام الأسقف إسكندر بعقد مجمع من الأباء المحليين عام 318 م ، وتم طرد أريوس وحرمانه توطئة لإغتياله ، وطرد معه أسقفان آخران وستة رهبان وعدد من القائمين بالخدمة وعدد من العذارى المكرثين للكنيسة والتابعات لفكر أريوس. فهرب أريوس إلى بيت عانيا وحظى بحماية أوسبيوس ، خاصة وأنه حتى ذلك الوقت لم يكن تقنين العقائد المسيحية قد بدأ وإنما كانت كل كنيسة أو كل جماعة تتبع إنجيلها ومعتقداتها..
وتم إنعقاد مجمع لرفع الحرمان الذى فُرض على أريوس فى الإسكندرية . وكانت هذه هى المرة الأولى التى يقوم فيها مجمع محلى بإلغاء قرار لكنيسة أخرى ، لكنها لم تكن آخر مرة ، فما أكثر الخلافات والإنقسامات التى كانت دائرة ولا تزال ..
وفى خضم هذه المعارك أرسل الإمبراطور قسطنطين مستشاره للشؤن الدينية، أوسيوس القرطبى، إلى إنطاقيا لحسم الموقف ، الأمر الذى يكشف عن مدى إتساع هذه المعركة المتعلقة أساسا بتحريف عقيدة التوحيد .. بينما قام أسقف الإسكندرية وسكرتيره بإعداد إقرار بأمر من أوسيوس ، مستشار قسطنطين ، ليوقع عليه أريوس وأتباعه من رجال اللاهوت ، جاء به :
* الإعتراف بأن هناك إله واحد هو يسوع المسيح فقد إنتقلت إليه الألوهية عن طريق الآب ؛
* وأن يسوع إبن وحيد مولود وليس مخلوق ؛
* وأنه موجود من قديم الزمان ؛
* وأنه لا يمكن تغييره أو تبديله ؛
* وأنه ليس مجرد إرادة الله وإنما هو الوجود الفعلى لله !!
وتلى هذه البنود سلسلة من اللعنات والحرمان على كل من لا يقرها .. وكانت هذه الوسيلة لفرض الخضوع وتغيير الرأى ، على المخالفين لتيار المؤسسة الكنسية ، هى المرة الأولى من نوعها فى مسيرتها القمعية التى لا تزال تتبع نفس عمليات القمع والترويع حتى يومنا هذا ..
ويقال أن ستون أسقفا قاموا بالتوقيع على وثيقة أوسيوس ، بينما رفض أريوس وثلاثة آخرين وتم حرمانهم وتوقيع اللعنة عليهم. وقرر أسقف الإسكندرية عقد مجمع فى أنقرة ، إلا أن الإمبراطور قسطنطين قد فاجأ الجميع بنقل مكان المجمع إلى مدينة نيقية على بُعد ثلاثمائة كيلومترا من أنقرة ! وبذلك تحول المجمع المحلى الذى كان سيعقد للبت فى شأن كنسى داخلى إلى مجمع عام ، يضم كافة الكنائس ، لذلك يسمى أول مجمع مسكونى أو مجمع نيقية الأول ، وإنعقد فى منتصف عام 325 م..
ترأس الإمبراطور قسطنطين المجمع إذ كان يتابع أحداث فكر أريوس طوال سبع سنوات لأنها كانت تثير القلاقل على مدى إتساع الإمبراطورية وبين عواصمها الرئيسية الثلاث. وقد أدى الصراع بين أنصار التوحيد وأنصار التثليث إلى إستحداث ظاهرة جديدة استمرت بعد ذلك وتفاقمت ، ألا وهى : إستخدام السياسة فى الصراع الدينى ! وانتهى المجمع بإدانة أريوس وحرمانه لرفضه تأليه يسوع ورفضه فكرة الخلاص التى إختلقتها المؤسسة الكنسية وأضفتها على يسوع . كما أدان أوريجين ، رغم انه يُعد ن آباء الكنيسة وأحد آباء تفسير الأناجيل إلا أنه كان يؤمن بالتصعيد المطلق لله !
ولترسيخ وتثبيت فكرة تأليه يسوع وسد الباب على أريوس وأتباعه ، إختلق مجمع نيقية عقيدة إيمان جديدة وقام بتعديل العقيدة السابقة والمعروفة بإسم "عقيدة الحواريين" مؤكدا على أن يسوع من نفس طبيعة الله ومن نفس جوهره باستخدام عبارة "هوموأوسيوس" وترسيخها ؛ وقام بتثبيت عيد الفصح بأول يوم أحد بعد إكتمال قمر الربيع لإبعاده عن عيد الفصح اليهودى ؛ وأقر مبدأ اللعنة على كل من يخالف هذه التعليمات الكنسية !!
وعلى عكس ما تقدمه العديد من المراجع الإنتقائية ، من أن مجمع نيقية وضع حداً لمعركة أريوس ، ففى واقع الأمر كان هذا المجمع بداية المعركة الحقيقية التى واجهت الكنيسة ولا تزال رغم الحكم بالإدانة والحرمان واللعنة .. فقد إنتشرت الأريوسية لتسيطر على القرن الرابع باستقرارها فى دار الإمبراطورية إذ تبناها قسطنطين وتنصر وفقا لعقيدة الأريوسية ، ومن بعده الإمبراطور قنسطانس ، حيث أصبحت الديانة الرسمية للدولة. ومن الواضح أنها إستمرت سائدة حتى عهد هركليوس، فى القرن السابع، بدليل أن سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، حين وجه خطابه للقيصر حمّله ذنب الأريسيين لو لم يسلم ويدخلهم معه فى الإسلام ..
وإن كانت الأريوسية بدأت كمذهب رافض لمساواة المسيح بالله وأدانتها عدة مجامع محلية قبل أن يدينها مجمع نيقية لأغراض سياسية، إلا أنها واصلت إنتشارها بين الأتباع وفى العديد من البلدان الأوروبية بعد ذلك ، إذ إنتشرت فى كل أطراف الإمبراطورية والشعوب الجرمانية ، وظلت فترة طويلة فى بلاد القوط والفندال والبورجينيون واللومبار.. وكان لها مفكريها من أمثال أوسبيوس ، وإينوميوس ، وفليكس الثانى ، والأسقف فولفيلا ، والباطريارك مقدونيوس ، والبطريارك إكسودس ، وديموفيلوس.
وذلك الإنتشار الواسع رغم محاولات الحصار والإبادة هو الذى جعل الشعوب التى إمتد إليها الإسلام تتقبله ببساطة على أن الأساس فى توحيد الله وعدم الشرك به واحد بينهم ، فالأريوسية هى التى كانت سائدة فى مصر أيام الفتح الإسلامى ، والأريوسية هى التى كانت سائدة فى الشام حينما إمتد إليها الإسلام ، وهى التى كانت سائدة فى إسبانيا وتقبّل الإسبان المسلمين ليخلصوهم من إضطهاد المؤسسة الفاتيكانية.. إلا أن التعصب الكنسى تصدى لها بضراوة وإقتلع شعوبا بأسرها كالفودوَا والكاتار والبجوميل لمجرد أنهم رافضون لتأليه المسيح ..
ولا نجد أفضل من رد هركليوس، إمبراطور الروم، على خطاب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، لننهى به هذا العرض المقتضب عن أريوس والأريوسية ، وهو رد يكشف عن الكثير من المسكوت عنه أو المتعتم عليه :
" إلى أحمد رسول الله الذى بشر به عيسى ، من قيصر الروم ،
أنه جاءنى كتابك مع رسولك ، وأنى أشهد أنك رسول الله ، نجدك عندنا فى الإنجيل ، بشرنا بك عيسى بن مريم. وأنى دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ، ولو أطاعونى لكان خيراً لهم ، ولوددتُ أنى عندك فأخدمك وأغسل قدميك " ..
(أصل هذه الوثيقة الشريفة موجود ضمن المقتنيات الخاصة بالديوان الملكى الأردنى الهاشمى).
( 25/6/2009 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق