بقلم أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
"التزوير الورع" عبارة إرتبطت إرتباطا وثيقا ، فى جميع اللغات ، بالتاريخ الكنسى منذ القرون الأولى للمسيحية ، ولا تزال .. وعلى الرغم من عدم إمكانية الدفاع عن كمّ وتنوّع أساليب الغش والخداع والتزوير والتحريف فى النصوص الدينية ، فقد اكتفى النقاد والمؤرخون التابعون للمؤسسة الكنسية بإضافة عبارة "الورع" لكلمة التزوير بأنواع ، للتخفيف من وقعها على ذهن الأتباع – بمعنى أن هذا التزوير كان يتم للترويج للعقيدة الجديدة ، عملا بمقولة بولس الرسول القائل أنه " كان يكذب لزيادة مجد الله " (إلى أهل رومية 3 : 7).
والتزوير الورع تقنية مألوفة استخدمها كتبة المسيحيين الأوائل للتعريف بشئ ما. فقد كان كل هدفهم تنصير أى شخص ، وكل شخص ، بأية وسيلة وبأى ثمن .. ومن أشهر أساليبهم للإقناع ، كتابة نص ما وقول أنه أصلى ، بمعنى منزّل أو متوارث.. فعلى سبيل المثال لا الحصر ، من الثابت يقيناً أن نصوص الأناجيل الأربعة لم تكتبها الأسماء التى هى معروفة بها. وقد تم إثبات ذلك علمياً منذ أكثر من ثلاثمائة عام. وحتى يومنا هذا ما من شخص يمكنه قول مَن كتب حقاً ذلك الجزء من هذه النصوص. وهوما أثبته أيضاً معهد ويستار وأبحاثه المعروفة ب "ندوة عيسى"، التى تضم أكثر من مائتين عالم مسيحى متخصص ، أثبتوا أن 86% من الأقوال المنسوبة ليسوع لم يقلها ، و 84 % من الأعمال المنسوبة إليه لم يقم بها ..
وهذه الأناجيل الأربعة تعد نموذج متكامل الأركان لعبارة "التزوير الورع " ، وهى أساس عملية الخديعة الكبرى، المعروفة باسم: "المسيحية الحالية".. ففى القرنين الأول والثانى كان القساوسة-الكتبة ، الذين سيتم إعتبارهم فيما بعد "آباء الكنيسة"، غارقون فى إمتصاص أهم مكونات الديانات القائمة ودمجها في الديانة الجديدة التى ستعرف بالمسيحية، وتحديدا باسم "كاثوليكية روما" لتسهيل عملية إستقطاب أتباع جدد .. لذلك يعد الكتاب المقدس ثمرة جهود وصياغات مئات الكتبة. وما أن تمت ترجمة تلك النصوص إلى اللاتينية، حتى بدأت عملية طمس معالم النصوص الإبتدائية ، وتاهت مع عملية "الترجمة الورعة ". وهو ما يفسر لماذا كانت الكنيسة تحرّم على الأتباع قراءة الكتاب المقدس وتتعقبهم حتى الموت – فهى أكثر الناس دراية بما تحتوى عليه هذه النصوص من أخطاء ومتناقضات ولا معقول أو أكاذيب تتناثر بطول صفحاته و عرضها .. ولولا اكتشاف المطبعة كوسيلة نشر، وسحبت الزمام من بين أيديها، لاستمر الحال على ما كان عليه من تحريم .
وإذا عدنا إلى الوراء ، فى القرون الأولى ، عند بداية صياغة وتجميع الأناجيل الأربعة ، نجد أن معظم الشعوب كانت من الأميين ، ولم يكن العلم منتشراً بينها ، بل كانت المؤسسة الكنسية الصاعدة ، التى تجاهد للإستحواذ على السلطة ، تحارب العلم بضراوة .. لذلك كان بوسع قساوستها قول أى شئ وفرضه قهراً على أنه حقيقة مطلقة .. وأساليب الترويع معروفة وثابتة تاريخياً .
وتعد الترجمة من أشهر مجالات التلاعب والتزوير. فلو بدأنا بسفر التكوين ، فى العهد القديم، لوجدنا أن اليهود الذين يتحدث عنهم ليسوا موحدون بإله واحد وإنما مشركون يؤمنون بتعدد الالهة .. ويمكن لأى قارئ أن يستعين بأى قاموس عبرى ليتأكد بنفسه من ذلك. فكلمة إل (el) تعنى إله ، وجمعها آلهة ، تعنى "إلوهيم" (elohim) . ولو بدأنا بأول جملة فى أول إصحاح من سفر التكوين لوجدناها تقول : "فى البدء خلق الله السماوات والأرض" . ولو رجعنا للنص العبرى لوجدنا ما نطقه بالعربية : "بريشيت بارا إلوهيم" (Bereshith bara elohim) وتعنى : "فى البدء الآلهة خلقت السماوات والأرض" !! وفى نفس الإصحاح ترد عبارة "إلوهيم" ، أى الآلهة ، ثلاثين مرة .. أى أنها ليست من الأخطاء اللغوية أو المطبعية !
ونطالع فى الإصحاح 3 عدد 22 من نفس سفر التكوين ، أن النص العربى لطبعة 1966 يقول : "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منّا .." ، فهل يمكن للإله الواحد أن يقول عبارة " كواحد منّا " إلا لو كان هو بين عدد من الالهة الأخرى ؟!
وترد كلمة "إلوهيم" ( آلهة ) 2570 مرة فى النص العبرى وفى كل مرة تترجم بالمفرد . ومن الواضح أن النص العبرى يفرق بين إله واحد وآلهة متعددة ، وبين إله واحد إسمه "يهوا" . ففى سفر التكوين (2 :4 ) نطالع: " يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات "، وهى تحريف واضح للجملة الأصلية التى تقول: "يهوا والآلهة عملوا الأرض و السماوات" ..
فهل نخرج من ذلك بأن القساوسة الكرام لا يعرفون حتى الآن الفرق بين المفرد والجمع لكلمة إله ، أم هو تواطؤ ضمنى ، لإيهام القارئ بأن ذلك الكتاب " المقدس " لا يعرف تعدد الآلهة ولا يتبعها ، وإنما يعبد الإله الواحد كما يقولون ؟!
وإن كان ما تقدم مجرد مثال على "التزوير الورع" فى مجال الترجمة ، ففيما يلى أشهر مثال على "التحريف الورع" بدس نصٍ فى غير مكانه ، وهو من الشهرة فى عالم التزوير الورع الكنسى حتى بات له إسما يدل عليه تحديداً فى كافة المراجع ، وهو : " Testimonium Flavium " أى " شهادة فلافيوم " نسبة إلى فلافيوس جوزيف ، المؤرخ اليهودى الشهير. وهى شهادة أثارت جدل المؤرخين لمدة قرون ، إنتهوا بعدها إلى أنها تمثل واحدة من أكبر وأشهر عمليات التزوير فى السجل الكنسى.
وقد أثيرت مسألة أصالة هذه الفقرة تحديدا منذ القرن السادس عشر لسبب بسيط هو : المعروف عن فلافيوس جوزيف أنه من مواليد سنة 30 م وتوفى فى نهاية القرن. ومعنى ذلك إن والده كان معاصرا لكافة الأحداث المتعلقة بيسوع ، وأنه أى فلافيوس نفسه ، كان معاصرا للفترة الأخيرة من حياة يسوع ولكل ما واكبها أو نجم عنها من أحداث.. بل لقد كان فلافيوس متزوجا من أخت هيرود ، أى أنه كانت له صله بالحاكم وبالبلاط .. كما كان من كبار مؤرخى عصره ، وهو إنسان شديد التعصب ليهوديته. وقد أنشأ أطفاله على عقيدته هذه ، و يفخر بأنه من سلالة حاخامات يهود شديدى التعصب ..
ومن أهم مؤلفاته "حرب اليهود ضد الرومان" من سبعة مجلدات ، و"الأثار اليهودية" أو "تاريخ اليهود" من عشرين مجلدا ، إضافة إلى كتاب "ضد أبيون" من جزئين ، وسيرته الذاتية. ومن غير المعقول ألا توجد فى كل هذه المجلدات سوى فقرة، من بضعة أسطر، فى كتابه عن آثار اليهود ، الذى وصل فيه بتاريخ اليهود حتى حربهم مع الرومان سنة 66 م. ، وتقول الفقرة :
" وفي نـفس العصر أتى يسوع ، إنه رجـل عـاقـل ، إذا ما كان يجب أن نطلق عليه رجـلاً . لأنه كان صانع مُعجزات وسيد الرجال الذين يتلقـون عنه الحقيقة بسعادة. وقــد جــذب إليه العـديد من اليهود والهلليـنين. أنه كان المسيح. وعندما حكم عليه بيــلاطس بالصلب بناء على وشاية من مواطنينا الأوائل ، لم يكف الذين كانوا يحبونه عن الإعجاب به لأنه ظهر لهم بعد ثـلاثة أيــام ، لقد قام، إذ كان الأنبياء الـقدامى قـد أعلـنوا ذلك وآلاف الأشياء الأخـرى بشأنه . والجماعة التي يطـلق عليها المسيحيين لم تخـتف بعـد" !
وأول ما نخرج به من هذا النص الذى صاغه ودسه أحد الآباء ، أن اليهود هم الذين وشوا بيسوع وتسببوا فى صلبه كما يقولون .. فكيف تقوم الكنيسة بتبرأتهم بعد2000 عام من إتهامهم بقتله ؟!
ولو كانت هذه الفقرة الوحيدة حقيقية ، بقلم فلافيوس جوزيف ، لكانت حاسمة فى وضع يسوع بذلك الإطار الزمنى. إلا أن المؤرخ، يوضح فى مقدمة ذلك الكتاب التاريخى، مؤكدا على سيادة الدين اليهودى على كل الديانات السائدة آنذاك. لذلك لا يعقل أن يعترف بأسس العقيدة المسيحية ولا يمكنه تأكيد أن يسوع هو المسيح ، لأنه قول يخالف عقيدته كيهودى مؤمن بأن المسيح لم يأت بعد – وفقا للعقيدة اليهودية.
وتزايد الخلاف حول ذلك الإستشهاد وتواصل حتى القرن الثامن عشر عندما فرض الفليسوف فولتير ومجموعة كتّاب الموسوعة ، حقيقة أن الفقرة عبارة عن تزييف فاضح ، وأنها مقحمة على النص، ومقحمة فى فقرة تتناول حدثين مختلفين ، ولو تم حذفها لاستقام النص وكأنها لم تكن !. وحاول بعض الكنسيين الدفاع عن هذا التزوير بأنه عبارة عن "تحريف طفيف" ، ثم باءت كل محاولات الدفاع بالفشل بعد التأكد من أن هذه الفقرة مقحمة فكفّوا حتى عن الدفاع عنها !.
ويستشهد النقاد المعاصرون بهذه الواقعة والآلاف غيرها ليؤكدوا أن حياة يسوع ، فى الواقع المعاش، لا علاقة لها بالنصوص الوحيدة التى نسجتها الكنيسة، بعد أن محت كل ما عداها ، لفرض ما قامت بصياغته. أو بقول آخر : أنه لا يمكن كتابة حياة يسوع ، بصورة منطقية ، من الوثائق التى لم تترك الكنيسة سواها..
ولا أدل على التغيير والتبديل أو الإستخفاف بالعقول، من أن يسوع ، عليه السلام ، يقول فى الأناجيل 28 مرة عبارة أنه "إبن الإنسان" .. ورغمها ، تصر المؤسسة الكنسية على تجاهله لتجعل منه "إبن الله".. ثم جعلته إلاها ثلاثى الأقانيم، ثم أطلقت عليه عبارة : "ربنا يسوع المسيح" - وهو ما يعبدونه حالياً !!.
ترى هل من الممكن أن يعود الأتباع إلى النصوص للتأكد من كل ما تقدم، والكثير غيره، بدلا من الإكتفاء بما يقال لهم فى الكنائس ، ليروا بأعينهم ما تجاهد الكنيسة لتفرضه على العالم أجمع بعمليات تنصير ممجوجة مأجورة .. ؟!
28 / 8 / 2009