باريس - رويترز
وجه كردينال كبير في الفاتيكان الشكر للمسلمين على إعادة الاهتمام بالدين في المجتمعات الأوروبية، وقال إنه ليس أمام أصحاب العقائد المختلفة أي خيار سوى الاشتراك في حوار بين الأديان.وقال الكردينال جان لويس توران رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان إن الحديث عن الدين والكتابة عنه أصبحا الآن أكثر من أي وقت مضى في أوروبا.
وأضاف -في خطاب نشرته أوسرفاتوري رومانو الصحيفة الرسمية للفاتيكان، الجمعة 28-11-2008- "الفضل في ذلك يعود للمسلمين... المسلمون هم الذين طالبوا بوجود مساحة للدين في المجتمع بعد أن أصبحوا أقلية مهمة في أوروبا".وشكا مسؤولو الفاتيكان طويلا من علمانية أوروبا، حيث تراجع الذهاب إلى الكنيسة بشكل كبير في العقود الأخيرة، وحثوا على العودة إلى الجذور المسيحية التاريخية. لكن توران اعتبر أنه لا يوجد مجتمع به عقيدة واحدة فقط. وقال -خلال اجتماع لعلماء اللاهوت الكاثوليك في نابولي- "نعيش في مجتمعات متعددة الثقافة والأديان، وهذا أمر واضح... لا توجد حضارة دينية محضة".وتأتي كلمة توران بشأن الحوار بين الأديان، بعد أن أثار تصريح للبابا بنديكت تكهنات وسائل الإعلام بأن الفاتيكان بدأ يفقد الاهتمام بخصوص هذه المسألة. وعبّر بعض الزعماء اليهود عن شعور بالقلق، لكن الفاتيكان نفى أي تغيير في موقفه.وتشاهد بوضوح "العودة إلى الله" في فرنسا مسقط رأس توران، حيث جلبت أكبر أقلية مسلمة في أوروبا قضايا دينية مثل حجاب المرأة إلى حلبة النقاش السياسي، بعد أن ظلت تعتبر هذه القضايا لعقود قضايا خاصة.
وجه كردينال كبير في الفاتيكان الشكر للمسلمين على إعادة الاهتمام بالدين في المجتمعات الأوروبية، وقال إنه ليس أمام أصحاب العقائد المختلفة أي خيار سوى الاشتراك في حوار بين الأديان.وقال الكردينال جان لويس توران رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان إن الحديث عن الدين والكتابة عنه أصبحا الآن أكثر من أي وقت مضى في أوروبا.
وأضاف -في خطاب نشرته أوسرفاتوري رومانو الصحيفة الرسمية للفاتيكان، الجمعة 28-11-2008- "الفضل في ذلك يعود للمسلمين... المسلمون هم الذين طالبوا بوجود مساحة للدين في المجتمع بعد أن أصبحوا أقلية مهمة في أوروبا".وشكا مسؤولو الفاتيكان طويلا من علمانية أوروبا، حيث تراجع الذهاب إلى الكنيسة بشكل كبير في العقود الأخيرة، وحثوا على العودة إلى الجذور المسيحية التاريخية. لكن توران اعتبر أنه لا يوجد مجتمع به عقيدة واحدة فقط. وقال -خلال اجتماع لعلماء اللاهوت الكاثوليك في نابولي- "نعيش في مجتمعات متعددة الثقافة والأديان، وهذا أمر واضح... لا توجد حضارة دينية محضة".وتأتي كلمة توران بشأن الحوار بين الأديان، بعد أن أثار تصريح للبابا بنديكت تكهنات وسائل الإعلام بأن الفاتيكان بدأ يفقد الاهتمام بخصوص هذه المسألة. وعبّر بعض الزعماء اليهود عن شعور بالقلق، لكن الفاتيكان نفى أي تغيير في موقفه.وتشاهد بوضوح "العودة إلى الله" في فرنسا مسقط رأس توران، حيث جلبت أكبر أقلية مسلمة في أوروبا قضايا دينية مثل حجاب المرأة إلى حلبة النقاش السياسي، بعد أن ظلت تعتبر هذه القضايا لعقود قضايا خاصة.
هناك ٤٠ تعليقًا:
جزاك الله خيرا أستا>نا خالد المصرى
(((((((السيرة النبوية الشريفة كما وردت بكتاب النصارى المقدس))))))))))
من المولد الشريف إلى فتح مكة المكرمة
يقول سبحانه وتعالى في الشعراء 196 ـ 197:وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ{196} أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ{197}
إعداد
المهندس زهدي جمال الدين محمد
السيرة النبوية الشريفة كما وردت في الكتاب المقدس
مقدمة
هذه الدراسة موجهة للقس عـبد المسيح بسيط أبو الخير كاهن كنيسة السيدة العـذراء الأثرية بمسطرد بالقاهرة، حيث تراه يحرف النص عن موضعه وذلك في كتابه:
( هل تنبّأ الكتاب المقدّسعن نبيّ آخر يأتي بعد المسيح؟)، الطبعة الأولى7/1/2004م.
وفيها نتناول الموضوعات التالية من الكتاب المقدس بدون تأويل للنصوص:
ـ المولد الشريف للنبي محمد r والنشأة الطاهرة ..
ـ ثم نراه r مع جبريل عليه السلام في الغار..
ـ ثم الهجرة النبوية الشريفة ..
ـ ثم حديث عن غزوة بدر ..
ـ بالإضافة إلى صفة الصحابة t كما وردت في التوراة والإنجيل، وكما أخبرنا بذلك رب العزة عز وجل في سورة الفتح..
ـ وأخيراً نتناول الحديث عن فتح مكة..
كل هذا بالأدلة والمستندات والخرائط الجغرافية المؤيدة لذلك ولسوف تكتشف بنفسك كيف أن جناب القس قد حرف الكلم عن مواضعه.
ولسوف نعرض للأحداث بتسلسلها، دون أن نتعرض لكلام جناب القس بالتعليق حتى لا أشتت القارئ الكريم وإنما أرجئ النقاش مع نيافته في أخر الدراسة.
وليعلم القارئ الكريم أنني قد بعثت بهذه الدراسة إليه ومازلت في انتظار رده عليها، وإنا لمنتظرون. ولقد صدق الله العلي العظيم إذ يقول له ولأمثاله، في سورة طه 133:
) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى{133}4( وأجاب سبحانه بقوله تعالى تكملة الآية الكريمة:
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى }.
ويقول سبحانه وتعالى في سورة المائدة 15ـ 16: p يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ{15} يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{16}
وليس من بينة ابلغ من البشارة المذكورة في الصحف الأولى ، لأنها دائمة وبريئة من تهمة التزوير، خصوصاً إذا لم يمكن انطباقها على غير واحد، وان البشارات الدالة على أحقية رسالة محمد rكثيرة .
فلقد أرسل الله سبحانه و تعالى نبينا محمّداً rليخرج الناس من غياهبالظلمات..إلى النور, وأكرمه سبحانه وتعالى بالآيات البينات والمعجزات الباهرات..
وكان الكتابالمبارك أعظمها قدراً، وأعلاها مكانة وفضلاً.
هذا والله ولي التوفيق
زهدي جمال الدين محمد
أولاً: المولد الشريف
وُلِدَ النبي صلى الله عليه وسلم بوادي بكة، فهل في الكتاب المقدس ما يشير إلى ذلك؟.
كما تحدثت المزامير عن مدينة المسيح المخلص، المدينة المباركة التي فيها بيت الله، والتي تتضاعف فيها الحسنات، فالعمل فيها يعدل الألوف في سواها، وقد سماها باسمها (بكة)، فجاء فيها:[ 4طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ أَبَداً يُسَبِّحُونَكَ. سِلاَهْ. 5طُوبَى لِأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ. طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. 6عَابِرِينَ فِي وادِي الْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعاً. أَيْضاً بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ. 7يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ اللهِ فِي صِهْيَوْنَ. 8يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ اسْمَعْ صَلاَتِي و اصْغَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ. 9يَا مِجَنَّنَا انْظُرْ يَا اللهُ وَالْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ مَسِيحِكَ. 10لأَنَّ يَوْماً وَاحِداً فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلَهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ. 11لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْداً. لاَ يَمْنَعُ خَيْراً عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ. 12يَا رَبَّ الْجُنُودِ طُوبَى لِلإِنْسَانِ الْمُتَّكِلِ عَلَيْكَ!] (المزمور 84/4-10).
والمدقق في المقطع التالي من النبوءة: [6عَابِرِينَ فِي وادِي الْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعاً.].
يجد أن النص في الترجمة الإنجليزية هكذا:
"through the valley ofBa'ca make it a well"
فذكر أن اسمها بكة،وترجمته إلى وادي البكاء صورة من التحريف .
وقد سماها النص العبري بكة، فقال: [בְּעֵמֶקהַבָּכָא]، وتقرأ : (بعيمق هبكا)، أي وادي بكة، وهذا النص بالذات أحرج الكنيسة فغيرته وبدلت كلمة وادِيالْبُكَاءِ والتي هي محرفة أصلاً إلىكلمة (7يعبُرونَ في واديالجفافِ،).
وهذا الاسم العظيم (بكة) هو اسم بلد محمد صلى الله عليه وسلم الاسم الذي استخدمه القرآن للبلد الحرام آل عمران: 96
p إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)i .
ثانيا:مع جبريل عليه السلام في الغار
ويتوعد النبي إشعيا بني إسرائيل الذين يحرفون كتاب الله ولا يلتزمون شريعته، إن اعتكاف الرسول في الغار والطريقة التي أُنْزِلَ إليه بها القران, وكون الرسول أميا لا يعرف الكتابة ولا القراءة ، إنما هي انجاز في سفر إشعياء (29 : 12) هذا نصها:
[12أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: «اقْرَأْ هَذَا» فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ» أي" مَا أَنَابِقَارِئٍ ".] ومن لا يعرف الكتابة فهو لا يعرف القراءة،و أليس هذا هو عين ما نزل على النبيصلى الله عليه وسلم في البدايات الأولى للوحي حينما نزل عليه جبريل عليه السلام وهو يتحنث في غار حراء فقال له: «اقْرَأْ هَذَا».
ومن ألزم ما يجب أن تعرفه هو انه لم يكن هنالك نسخة عربية من الكتاب المقدس في القرن السادس الميلادي, أي حينما كان محمد صلى الله عليه وسلم حيا، فضلا على ذلك فانه أمي.
يقول القران الكريم عنه في سورة الأعراف/157: p الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)ši.
النص في جميع الترجمات العالمية: بمعنى : "لا أعرف القراءة" فيما سوى الترجمة العربية، ولا يخفى أنه أريد من تحريف الترجمة العربية، وتحويل العبارة من (لا أعرف القراءة) إلى (لا أعرف الكتابة) نوع من التحريف أريد منه صرف القارئ العربي عن تحقق القصة بألفاظها في غار حراء .
وفي النص العبراني: (וְנִתַּןהַסֵּפֶר, עַלאֲשֶׁרלֹא-יָדַעסֵפֶרלֵאמֹר--קְרָאנָא-זֶה; וְאָמַר, לֹאיָדַעְתִּיסֵפֶר)، ولفظة: (קְרָא) العبرانية والتي تلفظ (كرا) تعني القراءة، لا الكتابة.
وقوله: ( 12أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: «اقْرَأْ هَذَا» فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ».)، يسجل اللحظة العظيمة التي يبدأ نزول الوحي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم .
ففي صحيح البخاري عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت:
[ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ :أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِفَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِيغَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَابِقَارِئٍ (קְרָא) قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ :
pاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)i.العلق:1-3.
ثالثاً: الهجرة النبوية الشريفة
جاء في سفر إشعياء: اَلإصْحَاحُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ:
[13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ».].
إن دوافع دراساتنا لهذا النص نبوءة أشعياء 21/13-17 :[13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ] والذي يعد من أقوى النصوص التي استدل بها علماء ودعاة الإسلام عند محاججتهم أهل الكتاب، للتسليم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم ذكره ووصفه في أسفار أهل الكتاب وأنهم، وكما أخبر القرآن يعرفون رسول الله وصفته وما وقع له من أمور وأحداث، كما يعرفون أبناءهم قال الله تعالى في محكم كتابه في سورة البقرة/146:
p الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)i.
ونبوءة أشعياء ـ الذي يصفونه بأنه من أعظم أنبياء اليهود ـ تتكلم عن العرب و تصف حادثاً جللاً يحدث في بلاد العرب.
لذلك سنبدأ بتعريف النبوءة عند علماء النصارى:
تعرف دائرة المعارف الكتابية النبوءة الصريحة بإجماع اتفاق اليهود والنصارى بـ:
"النبوة الحقيقية ـ حسب المفهوم الكتابي ـ لابد أن تتم، فهذا الإتمام هو الدليل القاطع على أصالة النبؤة،ـ التثنية 18 : 20 ـ 22[20وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَمًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ. 21وَإِنْ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: كَيْفَ نَعْرِفُ الْكَلاَمَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ؟ 22فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ، فَهُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ، بَلْ بِطُغْيَانٍ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ، فَلاَ تَخَفْ مِنْهُ.].
ـ فإن لم تتحقق النبوة، فإنها تسقط إلى الأرض، وتصبح مجرد كلمات خاوية من كل معنى، ولا قيمة لها، ويكون قائلها كاذباً غير أهل للثقة.
ففي الكلمة التي ينطق بها النبي تكمن قوة إلهية، وفي اللحظة التي ينطق بها، تصبح أمراً واقعاً، وإن كان الناس لم يروها بعد..
ويمكن للمعاصرين الحكم على صحة النبوة بالمعنى الوارد في سفــر التثنية ( 18: 22 )
[ 22فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ، فَهُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ، بَلْ بِطُغْيَانٍ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ، فَلاَ تَخَفْ مِنْهُ.].
عندما يحدث الإتمام بعد وقت قصير، وتكون النبؤة ـ في تلك الحالة ـ " علامة " واضحة عن صدق النبي ـ ارجع ً إلى إرميا 28 : 16[15فَقَالَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ لِحَنَنِيَّا النَّبِيِّ: «اسْمَعْ يَا حَنَنِيَّا. إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يُرْسِلْكَ، وَأَنْتَ قَدْ جَعَلْتَ هذَا الشَّعْبَ يَتَّكِلُ عَلَى الْكَذِبِ. 16لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا طَارِدُكَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ. هذِهِ السَّنَةَ تَمُوتُ، لأَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِعِصْيَانٍ عَلَى الرَّبِّ». 17فَمَاتَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ.].
ـ أما في الحالات الأخرى فإن الأجيال المتأخرة هي التي تقدر أن تحكم على إتمام النبوءات.
ولنتعرف بدءاً بنص النبوءة في عدد من الترجمات للكتاب المقدس (أسفار اليهود والنصارى) حتى يتسنى لنا قراءته والتعرف على ما جاء فيه:
نص النبوءة من سفر أشعيا الإصحاح21 الفقرات 13-17 بالعهد القديم من الكتاب المقدس.ـ Holy Bible: (Old Testament), Book of Isaiah, chapter 2 ,verse 13-17 ـ
1- ترجمة الفاندايك (الذائعة الصيت):
نبوءة عن بلاد العرب
13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: ( فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ).
2- ترجمة الكاثوليك (دار المشرق)
13 قَولٌ على العَرَبة: في الغابَةِ في العَرَبةِ تَبيتون يا قَوافِلَ الدَّدانِيِّين. 14 هاتوا الماءَ لِلِقاءَ العَطْشان يا سُكَّانَ أَرضِ تَيماء. استَقبِلوا الهارِبَ بِالخُبْز 15 فإِنَّهم قد هَرَبوا مِن أَمامِ السُّيوف
مِن أَمامِ السَّيفِ المَسْلول والقَوسِ المَشْدودةِ وشِدَّةِ القِتال. 16 لِأَنَّه هكذا قالَ لِيَ السَّيِّد: ( بَعدَ سَنَةٍ كسِني الأَجير، يَفْنى كُلُّ مَجدِ قيدار، 17 وباقي عَدَدِ أَصْحابِ القِسِيِّ مِن أَبْطالِ بَني قيدار يُصبِحُ شَيئاً قَليلاً، لِأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرائيلَ قد تَكَلَّم).
3- الترجمة العربية المشتركة:
13وحي على العربِ: بيتُوا في صَحراءِ العربِ، يا قوافِلَ الدَّدانيِّينَ! 14هاتوا ماءً لِلعَطشانِ يا سُكَّانَ تيماءَ! إستَقبِلوا الهارِبَ الجائِعَ بالخبزِ. 15هُم هارِبونَ مِنْ أمامِ السُّيوفِ، مِنْ أمامِ السَّيفِ المَسلولِ والقَوسِ المَشدودةِ ووَيلاتِ الحربِ. 16وهذا ما قالَهُ ليَ الرّبُّ: ( بعدَ سنَةٍ بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ يَفنى كُلُّ مَجدِ قيدارَ 17ولا يَبقى مِنْ أصحابِ القِسيِّ، مِنْ جبابِرةِ بَني قيدارَ، غيرُ القليلِ. أنا الرّبُّ إلهُ بَني إِسرائيلَ تكلَّمتُ).
هذا النص هو نبوءة وشروط النبوءة الدينية الصادقة أن تتسم بالتالي:
1ـ أن تصف جملة من الأحداث أو حدثاً ما، فيتحقق في الزمان،فتصبح جزءاً من الموروث التاريخي لأمة ما، ومن ثم يتعزز إيمانها بنص النبوءة ورسالتها، وهو ما نسميه بالإشارات ذات الدلالة التاريخية، فالحقيقة التاريخية لابد وأن تكون معلومة للجميع، وأن تشهد بوقوع الحدث المتنبأ به حتى تكون النبوءة صادقة فنتثبت منها ونقول إنها تحققت فعلاً.
2ـ ترتبط النبوءة غالباً بما يحدث مستقبلاً لأشخاص قد لا تصرح النبوءة بأسمائهم بالضرورة ولكنها تشير إلى الأدوار التي يتحتم عليهم أن يقوموا بها فتصفهم بها.
3ـ قد ترتبط النبوءة بمجموعات بشرية وليس بأفراد تسميهم النبوءة وقد تحدد أدوارهم في الحدث المتنبأ به وعلاقتهم به.
4ـ قد تشير النبوءة إلى مكان ما على الخارطة الجغرافية ، فتتحقق فيه جملة من الأمور أو الأحداث كما أخبرت النبوءة، أو إلى عدد من الأماكن في منطقة جغرافية واحدة، وقد تحدد العلاقة بين هذه الأماكن من جهة وصلتها بالحدث المتنبأ عنه من جهة أخرى ، أو صلتها بالأشخاص أو الشخص المشار إليه في النبوءة.
أهداف الدراسة
1ـ تحليل الإشارات الجغرافية الواردة في نص نبوءة أشعياء 21/13- 17 للمحاججة العلمية المرتكزة على المكان الجغرافي وتاريخه وحقائقه.
2ـ الكشف عن المعطيات الزمنية التي حددتها نبوءة أشعياء و قَدَّرَتْها بسنة كاملة تلي حدثاً آخر بعده (الهجرة) ، له أثره في تغير مجرى التاريخ الإسلامي .
3ـ تحليل الإشارات الواردة ودلالاتها بتحليل منطقي مترابط ومتسلسل ومتكامل بأوجهه الدينية والتاريخية والجغرافية.
تساؤلات الدراسة
تَطرح الدراسة عدداً من التساؤلات بإلحاح على عقل المنصف والباحث هي:
من هو العطشان ومن هو الهارب في رحلة الهروب من الوعر من بلاد العرب؟.
أين هو المكان الجغرافي المقصود في رحلة الهروب وما خصائصه ؟.
ما هي الأحداث الزمنية والمكانية الهامة التي حدثت بعد رحلة الفرار (الهجرة) حتى يتنبأ بها قبل بعثة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
وهل من الممكن أن يصف الكتاب المقدس ( أسفار اليهود والنصارى ) معركة حدثت بعد الهجرة بسنة بين قبيلة عربية اشتهرت بالسيادة والبطش وشدة الحرب والرماية، ومجموعة من المؤمنين تنتهي بهزيمة القبيلة هزيمة نكراء قاسية لجبابرتها و صناديدها وأبطالها؟.
و ماهو موقف أهل الكتاب يهوداً ونصارى من هذا النص؟.
منهجية الدراسة
ارتكزت منهجية دراسة النص وتحليله من وجهة النظر الإسلامية وفق قواعد أهل الكتاب لدراسة نصوص أسفارهم ، ووفق القواعد العامة المنطقية المتعارف عليها لفهم النص الديني ودلالاته من خلال مايلي :
الاعتماد على مصادر أهل الكتاب المعتمدة لدى مختلف طوائفهم من المعاجم، والقواميس، والموسوعات، والكتب التي تشرح أسفارهم (التفاسير).
التحليل والنقد الموضوعي عند تفسير وشروحات أهل الكتاب للنص .
التصدي لمحاولات المعارضين أو المعاندين من أهل الكتاب عند لجوءهم لتقديم تفسيرات بديلة يتلمسون بها صيغ التعبير المجازية والرمزية
أدوات تفسير النصوص في أسفار الكتاب المقدس
تبين دائرة المعارف الكتابية النصرانية أن هناك ثلاث أدوات لتفسير النصوص هي:
1ـ تحديد المعنى في اللغة الأصلية لأي عبارة:
وهذا يستلزم المعرفة باللغات العبرية والآرامية واليونانية، فإذا لم يتوفر ذلك للمفسر، فعليه أن يستعين بأفضل ترجمات الكتاب المقدس المتاحة له، كما أن عليه أن يعرف الهدف من كتابة السفر، والظروف التاريخية التي أدت إلى كتابته، ففي العهد القديم، ارتبط بنو إسرائيل ـ بسبب أو بآخرـ بالمصريين والأشوريين والبابليين والفرس وغيرهم من الشعوب والممالك. وفى العهد الجديد نشأت الكنيسة في بيئة يهودية ثم امتدت وانتشرت في العالم اليوناني الروماني.
ولغات الكتاب المقدسة تعكس هذه الثقافات المختلفة، فيجب أن يكون المفسر على دراية ووعي باستخدام الكلمات في قرائنها المختلفة.
2- تفسير الكلمات في أي آية أو فقرة بقرينتها المباشرة:
فالقرينة هي الحكم النهائي في تحديد معنى الكلمة، لأن القاموس قد يعطيك جملة من المعاني،
ولكن القرينة هي التي تساعد على تضييق مجال الاختيار وتحديد المعنى،كما يجب أن تؤخذ في الاعتبار قرينة الكتاب ككل، فمبدأ وحدة الكتاب يجب أن يصحح التفسيرات المنعزلة، ويحمى الأفكار المبتترة المبنية على معلومات محدودة.
3ـ معرفة الأسلوب الأدبي المستخدم في موضوع الدراسة:
هل يؤخذ بألفاظه؟ أو أنه يستخدم الصورة المجازية؟ هل هو سرد لأحداث، أم هو حوار أو مادة تعليمية الهدف منها توصيل فكرة معينة؟، مما يستلزم بعض المعرفة بالعوائد المألوفة في ثقافات مختلفة، وبالمصطلحات المستخدمة في التعبير عن مختلف الأفكار.
تحليل النص ودلالاته في أسفار اليهود والنصارى:
انتهجنا نهجاً تحليلياً بعيداً عن التفسير المجازي الذي يعتمد على الصورة المجازية أو الرمزية عند تحليل نص نبوءة أشعياء في تفسير الحدث الذي يحدث في زمان ومكان محدد ، ويرتبط ببلاد العرب، وبالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو ما تؤكده دائرة المعارف الكتابية حين تقول عما تسميه بالحقيقة الحرفية أنها: " في رواية أحداث كما وقعت، وهذه يجب تفسيرها بمعناها البسيط الواضح".
وهدفنا من ذلك توضيح نهجنا في التصدي لمحاولات المعارضين أو المعاندين من أهل الكتاب عند لجوئهم لتقديم تفسيرات بديلة يتلمسون بها صيغ التعبير المجازية والرمزية، وهو ما اعتاد عليه المنصرون عند الحوار معهم ، فعند مواجهتهم نسمع رداً بأن كل هذه رموز.
جاء في سفر إشعياء: اَلإصْحَاحُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
[13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ».].تفيد هذه البشارة أن الله أوحى إلى أشعيا :" لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم " بأن وحياً سيأتي من جهة بلاد العرب : " وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ " وأن تلك الجهة من بلاد العرب هي الوعر التي تبيت فيها قوافل الددانيين ، وددان قرب المدينة النبوية المنورة كما تدل على ذلك الخرائط القديمة . خريطة(1).
طرق التجارة العربية في جزيرة العرب في الألف الثاني قبل الميلاد
ويأمر الوحي الذي تلقاه أشعيا أهل تيماء أن يقدموا الشراب والطعام لهارب يهرب من أمام السيوف ، ومجيء الأمر بعد الإخبار عن الوحي الذي يكون من جهة بلاد العرب قرينة بأن الهارب هو صاحب ذلك الوحي الذي يأمر الله أهل تيماء بمناصرته :
[14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ ] وأرض تيماء منطقة من أعمال المدينة ، وفيها يهود تيماء الذين انتقل معظمهم إلى يثرب.
ويذكر المؤرخون الإخباريون العرب نقلا عن اليهود في الجزيرة العربية أن أول قدوم اليهود إلى الحجاز كان في زمن موسى عليه السلام عندما أرسلهم في حملة ضد العماليق في تيماء، وبعد قضائهم على العالميق وعودتهم إلى الشام بعد موت موسى منعوا من دخول الشام بحجة مخالفتهم لشريعة موسى لاستبقائهم إبناً لملك العماليق، فاضطروا للعودة إلى الحجاز والاستقرار في تيماء ثم انتقل معظمهم إلى يثرب.
فأهل يثرب من اليهود هم من أهل تيماء المخاطبين في النص.
لابد أن تكون تلك التيماء إذن ذات أمر عظيم !!.
وكان تاريخ مخاطبة إشعياء لأهل تيماء في هذا الإصحاح هو النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد، ويفيد الوحي إلى إشعيا أن الهارب هرب ومعه آخرون:
[15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ.].
ثم يذكر الوحي الخراب الذي يحل بمجد قيدار بعد سنة من هذه الحادثة ،[ وفي هذا إشارة إلى غزوة بدر الكبرى والتي حدثت بعد عام ونصف من الهجرة النبوية الشريفة، كما سنعرض لها بعد قليل] مما يدل على أن الهروب كان منهم ، وأن عقابهم كان بسبب تلك الحادثة :
[16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ] .
وتنطبق هذه البشارة على محمد صلى الله عليه وسلم وهجرته تمام الانطباق، فقد نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب، وفي الوعر من بلاد العرب، في مكة والمدينة.
وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة من أرض بني قيدارقريش الذين كانوا قد عينوا من كل بطن من بطونهم شاباً جلداً ليجتمعوا لقتل محمد صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته ، فجاء الشباب ومعهم أسلحتهم فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجراً هارباً ، فتعقبته قريش بسيوفها وقسيها كما تذكر العبارة : [15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ.].
ثم عاقب الله U قريشاً أبناء قيدار بعد سنة ونيف من هجرته صلى الله عليه وسلم بما حدث في غزوة بدر من هزيمة نكراء أذهبت مجد قريش ، وقتلت عدداً من أبطالهم :
[16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ] .
وتؤكد العبارة أن هذا الإخبار وأن هذا التبشير بنزول الوحي في بلاد العرب ، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما يجري له من هجرة ونصر هو بوحي من الله :
[لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ».].
إن ما حملته هذه البشارة من معانٍ لابد أن يكون قد وقع، لأنه يقع في عصرٍ آلة الحرب فيه السيف والنبل، وقد انتهى عصر الحرب بالسيف والنبل.
• فهل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن ؟!
• وهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة واستقبله أهل تيماء غير محمد صلى الله عليه وسلم ؟!
• وهل هناك هزيمة لقريش بعد عام من الهجرة إلا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر ؟!.
إن هذه البشارة تدل على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنها إعلان إلهي عن مقدمه ينقلها أحد أنبياء بني إسرائيل أشعياء، وبقي هذا النص إلى يومنا هذا على الرغم من حرص كفرة أهل الكتاب على التحريف والتبديل .
فما رأيك يا جناب القس؟؟.
أتعرف أن الدكتور القس منيس عبد النور رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر التزم الصمت ولم يقو على الإجابة حينما واجهته بهذا الأمر عند ردي على كتابه "شبهات وهمية حول الكتاب المقدس" في سنة 1981م، ومثله القس صموئيل حبيب مشرقي راعي الكنيسة الخمسينية بالقاهرة عند ردي على كتابه " الكتاب المقدس يتحدى مشاكل الاعتراضات "، وحينما بعثت إليك بدراستي حول البرقليط جاء ردك متأخراً كثيراً جداً،حتى أنني ظننت أنك قد انتقلت إلى الدار الآخرة
دلالات المكان ووصفه عند دراسة نص أشعياء و ما جاء فيه من أخبار وأحداث في
(أسفار اليهود والنصارى):
نستقرئ من دلالات النص تسلسل للمراحل التالية:
المرحلة الأولى تحديد مكان الوحي ووصفه
حدد النص [13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ] بأن بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء ، والأحداث التاريخية تؤكد على أنه لم يكن هناك وحي من جهة بلاد العرب سوى الوحي وبدء رسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وقد وردت كلمة الوحي بدلالة اللفظ المستخدم لدى المسلمين العرب في القرآن p كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)ُi سورة الشورى آية : 3 .
ونستنتج من النص مايلي:
حددت هذه النبوءة من بلاد العرب مكان بدء الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بكل دقة لفظاً ومكاناَ.
وصف طبيعة بلاد العرب الجبلية بالوعورة (في الوعر).
والوعر هو الجبل (القاموس المحيط )، وإن أرض الحجاز وسلاسل جبالها هي الموصوفة بالوعر.
ولفظ : [13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ] دليل دامغ لموقع الحدث وخصائصه الطبيعية .
المرحلة الثانية تحديد منشأ حدث الهجرة ومقصدها
ذكر النص حدث الهجرة النبوية وحدد مكانين اثنين حدثت فيهما رحلة الهجرة هما:
1- منشأ خروج المهاجر (مكة المكرمة).
2- وجهة (المقصد) وهي (المدينة المنورة) التي هاجر إليها.
يترتب على تحديد الموقع الذي هاجر منه الرسول صلى الله عليه وسلم والذي هاجر إليه في رحلة الهجرة، تفسيراً وتحليلاً للحدث من المنظور التاريخي والجغرافي وربطه بالموقع المكاني المرتحل منه وإليه في رحلة الهجرة من مكان خروجه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة (يثرب) فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلا للمدينة فقط .
ونستنتج من هذا النص التالي:
ـ اعترافاً صريحاً بنبي هذه الأمة وخاتم الأنبياء الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
ـ إقراراً بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتنبؤ بها .
ـ تحديداً للجهة التي هاجر منها وإليها.
ـ وصف أسباب الهجرة كما في النص: [15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ].
ونحن نعرف الأحداث التي سبقت الهجرة ، ومحاولة قتل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك هربا من بطش قريش، عندما تسلحوا بسيوفهم وأقواسهم،وحاصروا بيته لقتله في الفراش، ونوم علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بدلاً منه، وقصة الهروب إلى غار حراء مع أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
ـ اعترافاً بالظلم الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم المرسل في مكة من قومه.
ـ وصفه أحوال المهاجر صلى الله عليه وسلم من اضطهاد قريش له في مكة المكرمة في النص (لأَنَّهُمْ قَدْ فَرُّوا مِنَ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَالْقَوْسِ الْمُتَوَتِّرِ، وَمِنْ وَطِيسِ الْمَعْرَكَةِ) أشعياء 21/ 15.
المرحلة الثالثة مطالبة سكان تيماء بنصرة المهاجر
في هذه المرحلة يطلب أشعياء من سكان منطقة "تيماء" مناصرة المهاجر الهارب والعطشان، وإتباع هذا الدين الحنيف الذي يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأثرها في تغير مجريات الأحداث والتاريخ في العالم .
وإن هذا النص بين لنا أن النداء كان لسكان ومنطقة المكان المهاجر إليه في (يثرب) وتيماء وهي أماكن تشكل نسيجاً واحداً متكاملاً من حيث السكان والظروف والوظيفة التجارية كمعبر للقوافل، وهي متقاربة بمفهوم المسافة الطبيعية.
فالنص يخاطب الدداينين من أهل تيماء، ويطلب منهم حماية الهارب إلى بلادهم الوعرة، ويبشرهم بفناء مجد أبناء قيدار بن إسماعيل بعد سنة من الهروب (الهجرة).
والددانيون كما يشير معجم الكتاب المقدس هم سكان تيماء في شمال الحجاز، وما تتميز به سلسة الجبال من وعورة في التضاريس .
فنستدل من ذلك، على أنه خطاب موجه لسكان منطقة المدينة المنورة (يثرب) وما حولها، بأن عليهم عمل التالي:
أن يأتوا لملاقاة العطشان الهارب من الظلم، وأن يطعموه، وأن ينصروا المهاجرين المظلومين، ونحن نعرف كم خرج أهل يثرب فرحين منتظرين قدومه وهم ينشدون (طلع البدر علينا)، وملاقاتهم للرسول صلى الله عليه وسلم الذي عرفوا دعوته في مكة ومبايعتهم له ودعوتهم له،ثم ما تلا ذلك من أحداث في مناصرتهم وإطعامهم وإسقاهم ومقاسمتهم أموالهم وأرزاقهم (ولذلك سموا بالأنصار).
وقد كان الرجل يورث أخاه المهاجر وغير ذلك من أحداث ليست من موضوع الدارسة.
طالب أشعياء سكان تيماء من اليهود، بمناصرة المهاجر لمعرفته وإيمانه بالرسالة،وأهميتها، ودورها المستقبلي على المنطقة المهاجر إليها .
ومنطقة تيماء يقطنها جماعات من اليهود، وعلى ذلك فخطابه لهم من واقع عظمة الحدث المشهود.
وهكذا فلقد تنبأ أشعياء بالدعوة،وبالفتح الإسلامي الذي سيتجاوز مكان الهجرة (يثرب) إلى تيماء وحدود جزيرة العرب إلى أنحاء المعمورة .خارطة رقم (2).
وإن من أسباب رفض اليهود للتسليم بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ على الرغم من أمر الله سبحانه وتعالى لهم بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يقول في سورة الأعراف آية : 158 :p قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)i. ـ هو أن رغبتهم كانت في أن يكون خروج النبي القادم من بينهم، بل ولابد وأن يكون من اليهود أنفسهم، وعلى ذلك فكافة الحروب والنزاعات التي وقعت فيما بين المسلمين واليهود في ذلك العهد كانت بسبب المعتقدات والعادات القبلية والاجتماعية السائدة في ذلك المكان الذي يحتم على الفرد الولاء لقبيلته والمحافظة على ما توارثه من معتقدات، وإن الخروج عليهم بمعتقد ودين كالإسلام ونبي هو محمد الذين يعرفون قدومه وينكرونه هو بمثابة التهديد للسيادة والأعراف، ومن ثم تلاحقت الأحداث بمعاداة الإسلام ومحاولات تدبير المكائد والصراعات ، وما نجم عنها من إجلاءهم من مناطق وجودهم فيها.
ونحن عندما نستقرئ أحداث ما بعد الهجرة، نتبين كيف كانت العلاقة بين اليهود والمسلمين في المدينة المنورة وما تضمنته من صراعات وحروب ومكائد من اليهود حتى طردوا منها.
وفي ذلك دلالة كما تؤكد الأحداث والعهود والمواثيق احترام المسلمين لليهود في صدر الإسلام والتعامل معهم بعد أن أتاح لهم الحياة في المجتمع مع المسلمين .
رابعاً:غزوة بدر الكبرى في نص أشعياء
نستدل من بشارة أشعياء 21/13-17 بحدوث معركة بدر الكبرى، من قول أشعياء بعد ذكر حدث الهجرة:
[16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ:«فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ] ، وقيدار كما يشير الباحثين إلى أنه أحد أولاد إسماعيل عليه السلام. كما جاء في سفر التكوين 25/13 [13وَهذِهِ أَسْمَاءُ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بِأَسْمَائِهِمْ حَسَبَ مَوَالِيدِهِمْ: نَبَايُوتُ بِكْرُ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيدَارُ، وَأَدَبْئِيلُ وَمِبْسَامُ ]، وأن أبناءه هم أهل مكة.
فنستنتج من النص التالي :
ـ أشار النص لمعركة بدر الكبرى التي تحدث بعد سنة من الهجرة.
ـ حدد النص وقت وقوع معركة بدر الكبرى ، بعد سنة من هجرة [العطشان.. والهارب].
ـ تنبأ النص بنتيجة معركة بدر الكبرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصناديد قريش وهزيمتهم بفناء مجد قيدار [فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ] وقد قُتل سبعون من قادة و صناديد قريش يوم بدر وهو دليل على انتصار هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على قومه [لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ».]،ولأن رسالة هذا النبي من عند الله، وتنتشر دعوة هذا النبي وينتصر لأن هذا أمر الله.
ـ وصف الأسلحة التي كانت، وهي القسي والسيوف، و ذلك من خلال الإشارة إلى هروبهم من السيف المسلول وأن قسي أبطال قيدار ستقل بعد المعركة الفاصلة بين الحق والباطل . [17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ]... [يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ].
ـ لقد حدثت معركة بدر الكبرى وقد نصر الله سبحانه وتعالى فيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد مرور سنة أي في السنة الثانية من الهجرة والتي استخدم حدثها تقويماً يؤرخ لما بعدها ، وكانت بداية فناء أمجاد قيدار واعتناقهم للإسلام فيما بعد.
إذاً نستخلص من قراءة النص وتحليله ما يلي:
ـ أن المتكلم في النبوءة هو الرب في نص أشعياء، وهو الآمر أهل تيماء بمناصرة العطشان والهارب، مما يدل على أن كلا الشخصين من الأبرار والأخيار وأهل الحق والإيمان، قال الله تعالى في سورة الأنعام آية 20:p الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)i.
هناك وعيد لقيدار بالهزيمة مجدداً فيها وقت المعركة بعد سنة من حدث هجرة المسلمين ، وعدد أبطال قيدار يقل بالقتل وتنكسر شوكتهم بالهزيمة مما يعني أنهم من الأشرار وأهل الضلال والكفر ولذا استوجبوا العقوبة.
إن أي باحث محايد إن أراد أن يلخص القراءة المذكورة أعلاه لظاهر النص لسوف يجد نفسه أمام هذين الحدثين:
(الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة) و(غزوة بدر الكبرى) .
ـ وإن نحن استندنا على الحدث التاريخي والموروث الديني الإسلامي لوجدنا المسرح الجغرافي وهو مكان الحدث يعضده، فشبه جزيرة العرب مذكورة وموصوفة في النص صراحة لا تلميحاُ.
ـ وقد حدد النص بلاد العرب، والجزء الوعر منها الذي يتصف بطبيعته التضاريسية الجبلية(جبال الحجاز).
ـ وطالب قوافل الددانيين فيها بترقب قدوم العطشان مع الهارب، و ومناصرتهما ومساعدتهما ضد أهل قيدار الأشداء الذين كانوا يطلبونهما ، والذين ُعرف عنهم أنهم أهل شدة في الحرب ويستخدمون القوس.
ـ قوام الجيش المكي: نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل..
ـ وبين لنا النص أن قيدار تتصدى لحربهم بعدها سنة من فرار وهجرة الهارب والعطشان فتكون النتيجة خسارة مجد قيدار، وإن من علامات ذلك مقتل وأسر عدد من أبطالها وصناديدها في تلك المعركة.
ـ قال ابن إسحاق: ومن الأسرى من المشركين من قريش يوم بدر: من بني هاشم بن عبد مناف عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ; ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم . ومن بني المطلب بن عبد مناف: السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، ونعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب , أما من قتل منالمشركين يوم بدر من قريش من بني عبد شمس بن عبد مناف : حنظلة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس ، قتله زيد بن حارثة ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ابن هشام ويقال اشترك فيه حمزة وعلي وزيد فيما قال ابن هشام . قال ابن إسحاق : والحارث بن الحضرمي وعامر بن الحضرمي حليفان لهم قتل عامرا : عمار بن ياسر ، وقتل الحارث النعمان بن عصر ، حليف للأوس فيما قال ابن هشام . وعمير بن أبي عمير ، وابنه موليان لهم . قتل عمير بن أبي عمير : سالم مولى أبي حذيفة ; فيما قال ابن هشام . قال ابن إسحاق : وعبيدة بن سعيد ( بن ) العاص بن أمية بن عبد شمس ، قتله الزبير بن العوام ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية قتله علي بن أبي طالب . وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، أخو بني عمرو بن عوف صبرا .
قال ابن هشام: ويقال قتله علي بن أبي طالب. قال ابن إسحاق : وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، قتله عبيدة بن الحارث بن المطلب . قال ابن هشام : اشترك فيه هو وحمزة وعلي . قال ابن إسحاق : وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس ، قتله حمزة بن عبد المطلب ، والوليد بن عتبة بن ربيعة ، قتله علي بن أبي طالب ; وعامر بن عبد الله حليف لهم من بني أنمار بن بغيض قتله علي بن أبي طالب . اثنا عشر رجلا . سيرة ابن هشام 2/362 .
ولكننا من خلال القراءة الفاحصة والناقدة للترجمات العربية المقارنة لنص أشعياء نلاحظ ونتساءل عن المفردات المستخدمة في النص:
لماذا تم تغيير الترجمة الكاثوليكية العربية للاسم الجغرافي من بلاد العرب (شبه جزيرة العرب) في النص إلى العرَبَة (وادي العربة)؟!
النص من سفر أشعياء 21/13ـ17: النسخة الكاثوليكية
[ 13 قَولٌ على العَرَبة:في الغابَةِ في العَرَبةِ تَبيتون يا قَوافِلَ الدَّدانِيِّين. 14 هاتوا الماءَ لِلِقاءَ العَطْشان يا سُكَّانَ أَرضِ تَيماء.إِستَقبِلوا الهارِبَ بِالخُبْز15 فإِنَّهم قد هَرَبوا مِن أَمامِ السُّيوف
مِن أَمامِ السَّيفِ المَسْلول والقَوسِ المَشْدودةِ وشِدَّةِ القِتال. 16 لِأَنَّه هكذا قالَ لِيَ السَّيِّد: ( بَعدَ سَنَةٍ كسِني الأَجير، يَفْنى كُلُّ مَجدِ قيدار، 17 وباقي عَدَدِ أَصْحابِ القِسِيِّ مِن أَبْطالِ بَني قيدار يُصبِحُ شَيئاً قَليلاً، لِأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرائيلَ قد تَكَلَّم).].
وهل هناك تميز في أسفار النصارى بين مدلول لفظ (بلاد العرب) و (العَرَبة) أم أن كليهما مرادف للآخر؟ .
إن الثابت بنص هذه الأسفار أن بلاد العرب والعرب تعني الجزيرة العربية وأهلها، أما إذا أرادت هذه الأسفار الإشارة إلى المنحدر الجغرافي الضيق الذي يجري فيه نهر الأردن ويسمى بـ(وادي العربة) فإنها تشير إليه باسمه المعروف وهو (العَرَبة).
وللتدليل على ذلك ما ورد في المصادر التالية وتعريفاتها:
من قاموس الكتاب المقدس :
عَربة: اسم عبري معناه (قفر) وهي الاسم الجغرافي للمنحدر الذي يجري فيه نهر الأردن، وتتسع فيه بحيرة طبرية والبحر الميت.
ففي يشوع 18: 20 وهو يتحدث عن نَصِيبُ بَنِي بَنْيَامِينَ مَعَ تُخُومِهِ. يقول:[ 18وَعَبَرَ إِلَى الْكَتِفِ مُقَابِلَ الْعَرَبَةِ شِمَالاً، وَنَزَلَ إِلَى الْعَرَبَةِ. 19وَعَبَرَ التُّخُمُ إِلَى جَانِبِ بَيْتِ حُجْلَةَ شِمَالاً. وَكَانَتْ مَخَارِجُ التُّخُمِ عِنْدَ لِسَانِ بَحْرِ الْمِلْحِ شِمَالاً إِلَى طَرَفِ الأُرْدُنِّ جَنُوبًا. هذَا هُوَ تُخُمُ الْجَنُوبِ. 20وَالأُرْدُنُّ يَتْخُمُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ. فَهذَا هُوَ نَصِيبُ بَنِي بَنْيَامِينَ مَعَ تُخُومِهِ مُسْتَدِيرًا حَسَبَ عَشَائِرِهِمْ. ].
وفي بعض الأماكن كما في تثنية 1: 1 [1هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ، فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ، فِي الْبَرِّيَّةِ فِي الْعَرَبَةِ، قُبَالَةَ سُوفَ، بَيْنَ فَارَانَ وَتُوفَلَ وَلاَبَانَ وَحَضَيْرُوتَ وَذِي ذَهَبٍ. ].
وفي تثنية 2: 8[8فَعَبَرْنَا عَنْ إِخْوَتِنَا بَنِي عِيسُو السَّاكِنِينَ فِي سِعِيرَ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبَةِ، عَلَى أَيْلَةَ، وَعَلَى عِصْيُونَِ جَابِرَ، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا وَمَرَرْنَا فِي طَرِيقِ بَرِّيَّةِ مُوآبَ. ].
وقصد بالاسم هنا المنطقة بين البحر الميت والبحر الأحمر، والعرب اليوم يسمون هذه المنطقة بالعربة.
وفي حزقيال 47: 8 [ 8وَقَالَ لِي: «هذِهِ الْمِيَاهُ خَارِجَةٌ إِلَى الدَّائِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَتَنْزِلُ إِلَى الْعَرَبَةِ وَتَذْهَبُ إِلَى الْبَحْرِ. إِلَى الْبَحْرِ هِيَ خَارِجَةٌ فَتُشْفَى الْمِيَاهُ.]، قصد به من شمال البحر الميت إلى خليج العقبة، وطوله مئة ميل.
ذكر الاسم أيضاً في يشوع 11: 2 [2وَإِلَى الْمُلُوكِ الَّذِينَ إِلَى الشِّمَالِ فِي الْجَبَلِ، وَفِي الْعَرَبَةِ جَنُوبِيَّ كِنَّرُوتَ، وَفِي السَّهْلِ، وَفِي مُرْتَفَعَاتِ دُورَ غَرْبًا ]. و يشوع 12: 3 [3وَالْعَرَبَةِ إِلَى بَحْرِ كِنَّرُوتَ نَحْوَ الشُّرُوقِ، وَإِلَى بَحْرِ الْعَرَبَةِ (بَحْرِ الْمِلْحِ) نَحْوَ الشُّرُوقِ، طَرِيقِ بَيْتِ يَشِيمُوتَ، وَمِنَ التَّيْمَنِ تَحْتَ سُفُوحِ الْفِسْجَةِ. ].
و عاموس 6: 14[«لأَنِّي هأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكُمْ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ، أُمَّةً فَيُضَايِقُونَكُمْ مِنْ مَدْخَلِ حَمَاةَ إِلَى وَادِي الْعَرَبَةِ». ]..
ومن دائرة المعارف الكتابية تحت مدخل (عربة ـ العربة):
"عربة": كلمة سامية تعني القفر أو البادية أو البرية أو السهل، وقد تُرجم هكذا في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس. وعندما تذكر الكلمة مُعَّرفة " بأل " كما هو الغالب في الكتاب المقدس ، فإنها تعني الوادي الذي يجري من جنوبي بحر الجليل ، بما في ذلك وادي الأردن والبحر الميت ، ويمتد حتى خليج العقبة ، وهي بذلك تشكل منطقة جغرافية لها أهميتها في التاريخ الكتابي ، كما أنها جزء واضح في تضاريس المنطقة .
ويسمى " البحر الميت " أحياناً " ببحر العربة ":
كما هو في تثنية 4 : 49 [49وَكُلَّ الْعَرَبَةِ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ نَحْوَ الشُّرُوقِ إِلَى بَحْرِ الْعَرَبَةِ تَحْتَ سُفُوحِ الْفِسْجَةِ. ].
يشوع 3 : 16 [ 16وَقَفَتِ الْمِيَاهُ الْمُنْحَدِرَةُ مِنْ فَوْقُ، وَقَامَتْ نَدًّا وَاحِدًا بَعِيدًا جِدًّا عَنْ «أَدَامَ» الْمَدِينَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ صَرْتَانَ، وَالْمُنْحَدِرَةُ إِلَى بَحْرِ الْعَرَبَةِ «بَحْرِ الْمِلْحِ» انْقَطَعَتْ تَمَامًا، وَعَبَرَ الشَّعْبُ مُقَابِلَ أَرِيحَا. ].
وفي يشوع12 : 3 [3وَالْعَرَبَةِ إِلَى بَحْرِ كِنَّرُوتَ نَحْوَ الشُّرُوقِ، وَإِلَى بَحْرِ الْعَرَبَةِ (بَحْرِ الْمِلْحِ) نَحْوَ الشُّرُوقِ، طَرِيقِ بَيْتِ يَشِيمُوتَ، وَمِنَ التَّيْمَنِ تَحْتَ سُفُوحِ الْفِسْجَةِ.].
وفي 2 ملوك 14 : 25 [25هُوَ رَدَّ تُخُمَ إِسْرَائِيلَ مِنْ مَدْخَلِ حَمَاةَ إِلَى بَحْرِ الْعَرَبَةِ، حَسَبَ كَلاَمِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ عَبْدِهِ يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ النَّبِيِّ الَّذِي مِنْ جَتَّ حَافِرَ. ] . ويسمى الآن الجزء الذي يجري فيه نهر الأردن " الغور ".
أما الجزء الممتد جنوبي البحر الميت إلى خليج العقبة فيسمى " وادي عربة ".
ومن قاموس الكتاب المقدس فإن كلمة عربية تدل على مايلي:
عَرَبية: اسم سامي معناه (قفر) شبه جزيرة في الطرف الغربي الجنوبي من القارة الآسيوية، وأكبر شبه جزيرة في العالم، يحدها الخليج الفارسي ( العربي) من الشرق ، والمحيط الهندي من الجنوب والبحر الأحمر من الغرب والهلال الخصيب من الشمال، وتبلغ مساحتها ربع مساحة القارة الأوربية وثلث مساحة الولايات المتحدة.
وتقسم شبه جزيرة العرب إلى عدة أقسام جغرافية: القسم الشمالي من المرتفعات الوسطى، ويسمى نجد، وتنفصل نجد عن الشاطئ الغربي بمنطقة رملية تسمى الحجاز، وعسير إلى الجنوب من الحجاز، أما اليمن فهو الركن الغربي الجنوبي، وعمان على الركن الجنوبي الشرقي، والكويت والإحساء على الساحل الشرقي، ومعظم البلاد صحراوي، وهو قليل المحاصيل الزراعية والحيوانية، وقد استخرج منه حديثاً الزيوت التي تعتبر شبه الجزيرة في مقدمة الدول المنتجة لها في العالم، وهي اليوم مستقلة استقلالاً كاملا.ً
وتعتبر شبه جزيرة العرب مهد الشعوب السامية ومركز توزعهم في العالم، وكانت تلك الشعوب تقوم بهجرة كبرى كل حوالي ألف سنة، بسبب القحط والجفاف ومن أشهر دولها القديمة السبائيون والمنائيون والحميريون ثم الدول الإسلامية من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الكتاب المقدس الأقسام الشمالية من الجزيرة العربية أكثر من الأقسام الجنوبية (اليمن).
وكانت كلمة أعرابي تعني لليهود سكان القفار المتنقلين أكثر مما تعني سكان المراعي الذين يتحضّرون ويستقرون وخاصة المتنقلين منهم قرب الهلال الخصيب كما في إشعيا 13: 20
[ 20لاَ تُعْمَرُ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ تُسْكَنُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، وَلاَ يُخَيِّمُ هُنَاكَ أَعْرَابِيٌّ، وَلاَ يُرْبِضُ هُنَاكَ رُعَاةٌ، 21بَلْ تَرْبُضُ هُنَاكَ وُحُوشُ الْقَفْرِ، وَيَمْلأُ الْبُومُ بُيُوتَهُمْ، وَتَسْكُنُ هُنَاكَ بَنَاتُ النَّعَامِ، وَتَرْقُصُ هُنَاكَ مَعْزُ الْوَحْشِ،].
وفي 2 إخبار 21: 16 [16وَأَهَاجَ الرَّبُّ عَلَى يَهُورَامَ رُوحَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَالْعَرَبَ الَّذِينَ بِجَانِبِ الْكُوشِيِّينَ، ].
وسمى بنو إسرائيل القسم الشمالي من شبه الجزيرة جبل المشرق كما في تكوين 10: 30 [29وَأُوفِيرَ وَحَوِيلَةَ وَيُوبَابَ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ بَنُو يَقْطَانَ. 30وَكَانَ مَسْكَنُهُمْ مِنْ مِيشَا حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ سَفَارَ جَبَلِ الْمَشْرِقِ.
وارض المشرق.[ تك 25: 6 [6وَأَمَّا بَنُو السَّرَارِيِّ اللَّوَاتِي كَانَتْ لإِبْرَاهِيمَ فَأَعْطَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَطَايَا، وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِهِ شَرْقًا إِلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ. ].
وارض بني المشرق كما في تكوين 29: 1 [1ثُمَّ رَفَعَ يَعْقُوبُ رِجْلَيْهِ وَذَهَبَ إِلَى أَرْضِ بَنِي الْمَشْرِقِ. ].
وهي المنطقة نفسها التي سميت بالعربية في غلاطية 1: 17[17وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ.].
واعتبرت سيناء والعربة جزءاً من شبه الجزيرة العربية أيضاً ،كما في غلاطية 4: 25[25لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا.].
وكذلك سكان تلك المنطقة من ضمن العرب، ومن بينهم الإسماعيليون والعمالقة والمعينيون والمديانيون.
وللتدليل والربط مع مواقع أخرى وردت في نصوص أخرى من أسفار اليهود والنصارى تشير إلى مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم, ففي سفر أشعياء تسبيح للرب 42/10ـ17 :[10غَنُّوا لِلرَّبِّ أُغْنِيَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَهُ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ. أَيُّهَا الْمُنْحَدِرُونَ فِي الْبَحْرِ وَمِلْؤُهُ وَالْجَزَائِرُ وَسُكَّانُهَا، 11لِتَرْفَعِ الْبَرِّيَّةُ وَمُدُنُهَا صَوْتَهَا، الدِّيَارُ الَّتِي سَكَنَهَا قِيدَارُ. لِتَتَرَنَّمْ سُكَّانُ سَالِعَ. مِنْ رُؤُوسِ الْجِبَالِ لِيَهْتِفُوا. 12لِيُعْطُوا الرَّبَّ مَجْدًا وَيُخْبِرُوا بِتَسْبِيحِهِ فِي الْجَزَائِرِ. 13الرَّبُّ كَالْجَبَّارِ يَخْرُجُ. كَرَجُلِ حُرُوبٍ يُنْهِضُ غَيْرَتَهُ. يَهْتِفُ وَيَصْرُخُ وَيَقْوَى عَلَى أَعْدَائِهِ.14«قَدْ صَمَتُّ مُنْذُ الدَّهْرِ. سَكَتُّ. تَجَلَّدْتُ. كَالْوَالِدَةِ أَصِيحُ. أَنْفُخُ وَأَنَخُرُ مَعًا. 15أَخْرِبُ الْجِبَالَ وَالآكَامَ وَأُجَفِّفُ كُلَّ عُشْبِهَا، وَأَجْعَلُ الأَنْهَارَ يَبَسًا وَأُنَشِّفُ الآجَامَ، 16وَأُسَيِّرُ الْعُمْيَ فِي طَرِيق لَمْ يَعْرِفُوهَا. فِي مَسَالِكَ لَمْ يَدْرُوهَا أُمَشِّيهِمْ. أَجْعَلُ الظُّلْمَةَ أَمَامَهُمْ نُورًا، وَالْمُعْوَجَّاتِ مُسْتَقِيمَةً. هذِهِ الأُمُورُ أَفْعَلُهَا وَلاَ أَتْرُكُهُمْ. 17قَدِ ارْتَدُّوا إِلَى الْوَرَاءِ. يَخْزَى خِزْيًا الْمُتَّكِلُونَ عَلَى الْمَنْحُوتَاتِ، الْقَائِلُونَ لِلْمَسْبُوكَاتِ: أَنْتُنَّ آلِهَتُنَا!.].
وقيدار كما ورد في النص هو أحد أبناء إسماعيل كما جاء في سفر التكوين الإصحاح الخامس والعشرون العدد الثالث عشر وتشير لمكة المكرمة.
[ 12وَهذِهِ مَوَالِيدُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي وَلَدَتْهُ هَاجَرُ الْمِصْرِيَّةُ جَارِيَةُ سَارَةَ لإِبْرَاهِيمَ. 13وَهذِهِ أَسْمَاءُ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بِأَسْمَائِهِمْ حَسَبَ مَوَالِيدِهِمْ: نَبَايُوتُ بِكْرُ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيدَارُ، وَأَدَبْئِيلُ وَمِبْسَامُ 14وَمِشْمَاعُ وَدُومَةُ وَمَسَّا 15وَحَدَارُ وَتَيْمَا وَيَطُورُ وَنَافِيشُ وَقِدْمَةُ. 16هؤُلاَءِ هُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَهذِهِ أَسْمَاؤُهُمْ بِدِيَارِهِمْ وَحُصُونِهِمْ. اثْنَا عَشَرَ رَئِيسًا حَسَبَ قَبَائِلِهِمْ. 17وَهذِهِ سِنُو حَيَاةِ إِسْمَاعِيلَ: مِئَةٌ وَسَبْعٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً، وَأَسْلَمَ رُوحَهُ وَمَاتَ وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ. 18وَسَكَنُوا مِنْ حَوِيلَةَ إِلَى شُورَ الَّتِي أَمَامَ مِصْرَ حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ أَشُّورَ. أَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ نَزَلَ.].
وسالع جبل سلع في المدينة المنورة .
والترنم والهتاف ذلك الأذان الذي كان ولا يزال يشق أجواء الفضاء كل يوم خمس مرات , وذلك التحميد والتكبير في الأعياد وفي أطراف النهار وآناء الليل كانت تهتف به الأفواه الطاهرة من أهل المدينة الطيبة الرابضة بجانب سلع.
نتائج الدراسة:
إننا إن طبقنا شروط النبوءات الدينية لنتعرف على ما اجتمع منها في نص نبوءة أشعياء 21/13-17 فنستنتج ما يلي:
1ـ رَسَم نص نبوءة أشعياء 21/13-17 وبدقة المسرح الجغرافي لحدثين هامين متعاقبين في المكان (بلاد العرب ـ وظروف الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة ومسارها) .
والخارطة رقم(3) توضح صورة جبل سلع في المدينة المنورة.
2ـ حَدَد نص نبوءة أشعياء 21/13-17 هوية المخاطبين (سكان تيماء) وأدوارهم كجماعة بشرية يسكنون في تلك المناطق المذكورة بالاسم .
3ـ وَصَف نص نبوءة أشعياء 21/13-17 شخصين رئيسين في قلب الحدث (الهجرة) وهما كما في القرآن الكريم : الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
يقول الله عز وجل :p إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)i [ سورة التوبة آية : 40 ].
4ـ ذكر النص أهمية حدث ( الهجرة) وتأثيره على التاريخ الذي أصبح يؤرخ به التاريخ الهجري ودوره في الدولة الإسلامية.
5ـ ذكر النص أهمية الحدث الذي يحدث بعد الهجرة بعام هي(غزوة بدر الكبرى) وأهميتها في تغير مجرى الأحداث في المدينة المنورة والإسلام.
خامساً:صفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التوراة
قول داود في المزمور الثاني والسبعين:
اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ
[1اَللهُمَّ أَعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ وَبِرَّكَ لاِبْنِ الْمَلِكِ. 2يَدِينُ شَعْبَكَ بِالْعَدْلِ وَمَسَاكِينَكَ بِالْحَقِّ. 3تَحْمِلُ الْجِبَالُ سَلاَماً لِلشَّعْبِ وَالآكَامُ بِالْبِرِّ. 4يَقْضِي لِمَسَاكِينِ الشَّعْبِ. يُخَلِّصُ بَنِي الْبَائِسِينَ وَيَسْحَقُ الظَّالِمَ. 5يَخْشُونَكَ مَا دَامَتِ الشَّمْسُ وَقُدَّامَ الْقَمَرِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. 6يَنْزِلُ مِثْلَ الْمَطَرِ عَلَى الْجُزَازِ وَمِثْلَ الْغُيُوثِ الذَّارِفَةِ عَلَى الأَرْضِ. 7يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ الصِّدِّيقُ وَكَثْرَةُ السَّلاَمِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ الْقَمَرُ. 8وَيَمْلِكُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. 9أَمَامَهُ تَجْثُو أَهْلُ الْبَرِّيَّةِ وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ التُّرَابَ. 10مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً 11وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ الْمُلُوكِ. كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ 12لأَنَّهُ يُنَجِّي الْفَقِيرَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْمَِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ. 13يُشْفِقُ عَلَى الْمَِسْكِينِ وَالْبَائِسِ وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ الْفُقَرَاءِ. 14مِنَ الظُّلْمِ وَالْخَطْفِ يَفْدِي أَنْفُسَهُمْ وَيُكْرَمُ دَمُهُمْ فِي عَيْنَيْهِ. 15وَيَعِيشُ وَيُعْطِيهِ مِنْ ذَهَبِ شَبَا. وَيُصَلِّي لأَجْلِهِ دَائِماً. الْيَوْمَ كُلَّهُ يُبَارِكُهُ. 16تَكُونُ حُفْنَةُ بُرٍّ فِي الأَرْضِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ. تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا وَيُزْهِرُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ الأَرْضِ. 17يَكُونُ اسْمُهُ إِلَى الدَّهْرِ. قُدَّامَ الشَّمْسِ يَمْتَدُّ اسْمُهُ. وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ الأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ. ].
وقال المهتدي الطبري:تأمل قوله " وَيُصَلِّي لأَجْلِهِ دَائِماً. الْيَوْمَ كُلَّهُ يُبَارِكُهُ. "
(ولا نعلم أحداً يصلى عليه في كل وقت غير محمد صلى الله عليه وسلم).
وغني هذا النص عن زيادة تعليق أو شرح، فلم تتحقق هذه الصفات متكاملة لنبي أو ملك قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما تحققت له، وبمقارنة سريعة بين الآيات التي سأوردها وهذا النص يتضح التماثل التام بينهما، قال تعالى في سورة التوبة 128:
pلَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)i.
وهذا هو عين الموجود بالنبوءة:[كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ 12لأَنَّهُ يُنَجِّي الْفَقِيرَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْمَِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ. 13يُشْفِقُ عَلَى الْمَِسْكِينِ وَالْبَائِسِ وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ الْفُقَرَاءِ. 14مِنَ الظُّلْمِ وَالْخَطْفِ يَفْدِي أَنْفُسَهُمْ وَيُكْرَمُ دَمُهُمْ فِي عَيْنَيْهِ.].
ولاحظ الدقة في النص عند قوله ( كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ ) قال (لَهُ) ولم يقل: ( به).
pقُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)i.(الأعراف: 158 ).
ولقد ذكرت السيدة خديجة بنت خويلد صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الغار ولقائه جبريل عليه السلام فقالت له كما رواه البخاري في كتاب الوحي:
فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً ،[ كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ ] إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ[12لأَنَّهُ يُنَجِّي الْفَقِيرَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْمَِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ. 13يُشْفِقُ عَلَى الْمَِسْكِينِ وَالْبَائِسِ وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ الْفُقَرَاءِ. ].
وقوله تعالى في سورة الفتح/ 28: p هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)i.
وفي قوله:
[16تَكُونُ حُفْنَةُ بُرٍّ فِي الأَرْضِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ. تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا وَيُزْهِرُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ الأَرْضِ. ].
هو هو عين الموجود في آخر سورة الفتح:
p مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)i
وقد تضمن المزمور الذي وردت فيه هذه البشارة بعض الألفاظ التي لا تزال مشرقة وشاهدة وهي قول داود:
(7يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ الصِّدِّيقُ وَكَثْرَةُ السَّلاَمِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ الْقَمَرُ. 8وَيَمْلِكُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. 9أَمَامَهُ تَجْثُو أَهْلُ الْبَرِّيَّةِ وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ التُّرَابَ.) .
ولنفاسه هذا اللفظ أحببت إيراده، وقد ضُبطت لفظة " الصِّدِّيقُ " بالشكل الذي نقلته، فهل بعد هذا الإيضاح يبقى إشكال لذي عقل؟ وقد ذكر صاحبه الصديق رضي الله عنه، وذكر سنة من سنن دينه وهي كثرة السلام إلى أن يضمحل القمر، واضمحلال القمر تعبير عن الساعة يشهد له أول سورة التكوير والانفطار.
أما قوله: (9أَمَامَهُ تَجْثُو أَهْلُ الْبَرِّيَّةِ وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ التُّرَابَ.).
فلقد عبر عنها القرآن الكريم في سورة الأحزاب آية 27 :p وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)i.
وفي سورة الفتح/ 19ـ20 : pوَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)i.
سادسا:فتح مكة المكرمة
ورد في سفر تثنية الآيات 1-3 من الإصحاح الـ33 والتي تشكّل المقدّمة، والتي تقرأ كما يلي:
[ وَهَذِهِ هِيَ البَرَكَةُ التِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى رَجُلُ اللهِ بَنِي إِسْرَائِيل قَبْل مَوْتِهِ 2فَقَال: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِ القُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لهُمْ. 3فَأَحَبَّ الشَّعْبَ. جَمِيعُ قِدِّيسِيهِ فِي يَدِكَ وَهُمْ جَالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ يَتَقَبَّلُونَ مِنْ أَقْوَالِكَ].
وقد أورد المهتدي الإسكندراني هذه البشارة باللغة العبرية كالتالي والتي تنطق هكذا:
( وآماد أذوناى مسيناى إشكلي ودبهور يقايه مسيعير اثحزى لانا استخى بغبورتيه تمل طوراد فاران وعميه مربواث قديسين ).
والنص العبري هكذا:
[אוְזֹאתהַבְּרָכָה, אֲשֶׁרבֵּרַךְמֹשֶׁהאִישׁהָאֱלֹהִים-אֶת-בְּנֵייִשְׂרָאֵל:לִפְנֵי, מוֹתוֹ. בוַיֹּאמַר, יְהוָהמִסִּינַיבָּאוְזָרַחמִשֵּׂעִירלָמוֹ—הוֹפִיעַמֵהַרפָּארָן, וְאָתָהמֵרִבְבֹתקֹדֶשׁ; מִימִינוֹ, אשדתאֵשׁדָּתלָמוֹ. גאַףחֹבֵבעַמִּים, כָּל-קְדֹשָׁיובְּיָדֶךָ; וְהֵםתֻּכּוּלְרַגְלֶךָ, יִשָּׂאמִדַּבְּרֹתֶיךָ.].
أرجو ملاحظة كلمة (מֵרִבְבתـمربواث ـקדֶשׁ ـ قديسين ) الواردة في النص السابق،إنها تعني عشرة آلاف قديس بالتحديد وذلك طبقاً للغة العبرية وطبقاً لما هو وارد في القاموس العبري بالإضافة إلي دقة النص المترجم إلى اللغة الإنجليزية وتحديداً نسخة الملك جيمس كما سنرى، والعجيب أن جناب القس عـبد المسيح بسيط أبو الخير قد حرف النص عن موضعه، حيث أنه قد أثبت الرسم وحرف النطق هكذا:
من ( מֵרִבְבתקדֶשׁ مربواث قديسين ) إلى ( מֵרִבְבתקדֶשׁ ـ مربيبوت قودش )
فالنص العبري هو هو ولكن النطق غير سليم فمن مربواث قديسين إلى مربيبوت قودش.
فما المقصود بربوات القدس ( מֵרִבְבתקדֶשׁ ـ مربيبوت قودش ) طبقاً لتفسير القس المبجل؟.
يقول بالحرف الواحد ما نصه:[ " قودش = قدس أو مقدس "، ومن ثمّ فترجمة النص العبري إلى العربية حرفيًا هو:
" أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَفَ عَلَيْهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَجلّيَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ؛ وَأَتَى مِنْ رُبَي القُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ مُشْتَعَلَة "].
لاحظ أنه نطق كلمة קדֶשׁ قديسين هكذا: [ قودش ] لتصبح القدس بعد ذلك ويصبح النص بناء على كلامه كالآتي:
يقول:
[ قبل موت موسى النبي مباشرة أخذ يبارك أسباط إسرائيل الإثنى عشر ويذكّرهم بأعمال الله العظيمة التي عملها معهم طوال رحلة الخروج من مصر، ويعرّفهم بماهيّة الرب ( يهوه יְהוָה) مانح البركة ثم يقدم لهم في الإصحاح الـ 33 بركة فردية خاصة لكل سبط من أسباط إسرائيل الإثنى عشر، ويبدأ الإصحاح بقوله " وَهَذِهِ هِيَ البَرَكَةُ التِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى رَجُلُ اللهِ بَنِي إِسْرَائِيل قَبْل مَوْتِهِ، فَقَال: " جَاءَ الرَّبُّ ( يهوه יְהוָה) مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ
( يهوه יְהוָה) لهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلأْلأَ( يهوه יְהוָה) مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِالقُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لهُمْ. "]. (تثنية33/1و2).
تصحيح خطأ جناب القس:
لو نظرنا إلى الترجمة الحرفية للنص نجدها كالتالي:
بداية جاءت العبارة في اللغة العبرية ( מֵרִבְבתקדֶשׁ ـ مربواث قديسين ) ،وليست كما قال جناب القس: (مربيبوت قودش ).
مع ملاحظة أن كلمة [ מֵ ـ مي ] تعني [مع] وليست [ من ]، وكلمة [רִבְבתـ ربواث ] تعني [عشرة آلاف] وليست [ربوات جمع ربوة] ، كما يذكر نيافته، كما أن كلمة [ קדֶשׁ] تعني [ قديسين ]، وليست [القدس] كما يحاول التضليل، نسأل الله له ولنا الهداية.
والمدقق في النص نجد أن جناب القس قد أغفل كلمة ( يهوهיְהוָה) من باقي النص كما هو متبع في شرحه حيث قال:
[ وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِالقُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لهُمْ.] وبناءً على تفسيره يفترض أن يصبح النص هكذا:
[وَأَتَى( يهوهיְהוָה) مِنْ رَبَوَاتِالقُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ ( يهوهיְהוָה) نَارُ شَرِيعَةٍ لهُمْ. ] حيث أن الضمير في النص يعود على( يهوهיְהוָה)، ومع ذلك فهو لم يفعل ، لماذا لأنه بعد ذلك أكد أن القادم مِنْ رُبَي القُدْسِ هو السيد المسيح، وإليك إعادة قوله مرة ثانية:
[ ومن ثمّ فترجمة النص العبري إلى العربية حرفيًا هو " أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَفَ عَلَيْهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَجلّيَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ؛ وَأَتَى مِنْ رُبَي القُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ مُشْتَعَلَة ].
والذي نرتاح إليه ونركن، هو ما ذكره المهتدي سعيد الإسكندراني والمهتدي عبد الأحد داوود وليس كما ذكره جناب القس كاهن كنيسة السيدة العـذراء الأثرية بمسطرد بالقاهرة، ويصبح النص كالتالي:
[ אוְזֹאתהַבְּרָכָה, אֲשֶׁרבֵּרַךְמֹשֶׁהאִישׁהָאֱלֹהִים-אֶת-בְּנֵייִשְׂרָאֵל:לִפְנֵי, מוֹתוֹ. בוַיֹּאמַר, יְהוָהמִסִּינַיבָּאוְזָרַחמִשֵּׂעִירלָמוֹ—הוֹפִיעַמֵהַרפָּארָן, וְאָתָהמֵרִבְבֹתקֹדֶשׁ; מִימִינוֹ, אשדתאֵשׁדָּתלָמוֹ ] .
وإليك النص من ترجمة King James والتي أنقلها كالآتي:
1 And this is the blessing, wherewith Moses the man of God blessed the children of Israel before his death.
2 And he said, The LORD came from Sinai, and rose up from Seir unto them; he shined forth from mount Paran, and he came with ten thousands of saints: from his right hand went a fiery law for them.
والربوات μυριασι في اللغة اليونانية وفي اللغة العبرية רִבְבתتعني عشرة آلاف، كما جاءت في معاجم اللغة العبرية مثل ( Dictionary Young’s Hebrew ) تعني:
[ ten thousands, multitude, ] عشرة آلاف.
أما النص المستشهد به من قبل جناب القس فلقد تم التحريف فيه هكذا:
“2 And he said The Lord came from Sinai and dawned over them from Seir; He shone forth from Mount Paran. He came from myriads of holyones from his right hand went a fierly”
ويقوم بالشرح والتعليق على النص بقوله:
" مع ملاحظة أنّ عبارة [ holy ones] هي حرفيًا [holy one].
ونقلت في بعض الترجمات الإنجليزية ومنها الترجمة الدولية الحديثة، " myriads " NIV
في حين أن كلمة " myriad " كما جاء في " The Lexicon Webster Dictionary " والتي استشهد بها نيافته تعني عشرة آلاف وإليك التعريف كما هو وارد في القاموس :
Indefinite, immense number; a multitude of things or people” “: ten thousand
وما لنا نذهب بعيداً إليك النص التوراتي الشارح لها:
جاء في سفر عزرا اَلإصْحَاحُ الثَّانِي عدد 64و65:
[63وَقَالَ لَهُمُ التِّرْشَاثَا أَنْ لاَ يَأْكُلُوا مِنْ قُدْسِ الأَقْدَاسِ حَتَّى يَقُومَ كَاهِنٌ لِلأُورِيمِ وَالتُّمِّيمِ. 64كُلُّ الْجُمْهُورِ مَعاً اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ مِئَةٍ وَسِتُّونَ 65فَضْلاً عَنْ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ فَهَؤُلاَءِ كَانُوا سَبْعَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَ مِئَةٍ وَسَبْعَةً وَثَلاَثِينَ وَلَهُمْ مِنَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ مِئَتَانِ.].
وجاء في سفر نحميااَلإصْحَاحُ السَّابِعُ عدد 65ـ76:
[ 65وَقَالَ لَهُمُ التَّرْشَاثَا أَنْ لاَ يَأْكُلُوا مِنْ قُدْسِ الأَقْدَاسِ حَتَّى يَقُومَ كَاهِنٌ لِلأُورِيمِ وَالتُّمِّيمِ. 66كُلُّ الْجُمْهُورِ مَعاً أَرْبَعُ رَبَوَاتٍ وَأَلْفَانِ وَثَلاَثُ مِئَةٍ وَسِتُّونَ 67فَضْلاً عَنْ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمِ الَّذِينَ كَانُوا سَبْعَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَ مِئَةٍ وَسَبْعَةً وَثَلاَثِينَ.].
ويقول البروفسور عبد الأحد داوود والذي أورد نصّ الفقرة كالآتي:
[ جاء نور الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران وجاء معه عشرة آلاف قديس، والشريعة المشعّة بيده ]… ففي الكلمات شبه نور الرب بنور الشمس:
" إنه يأتي من سيناء ويشرق من ساعير، ولكنه تلألأ بالمجد من ( فاران ) حيث يظهر مع عشرة آلاف قديس ( مؤمن ) ويحمل الشريعة بيده اليمني "
[كتاب " محمد... في كتب اليهود والنصارى " للبروفيسور عبد الأحد داود ص10. ]
و هذا يعني دخول النبي صلى الله عليه وسلم مع عشرة آلاف قديس ( مؤمن ) وجاء بنور الشريعة إلى شعبه فلقد جاء في كتاب ( السيرة النبوية وأخبار الخلفاء للإمام الحافظ أبي حاتم بن أحمد التميمي المتوفي 354 ه الطبعة الثالثة صفحة 326) والذي كتب عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة ??????=====((((القرآن وأميّة بن أبى الصلت: أيهما أخذ من الآخر؟???((((أمية بن أبى الصلت شاعر مخضرم من قبيلة ثقيف، التى كانت تسكن الطائف. وكان أبوه أيضا شاعرا، كما كانت له أخت تُسَمَّى: "الفارعة"، وبنتان وعدة أبناء بعضهم شعراء، وأخٌ اسمه "هذيل" أُسِر وقُتِل مشركا فى حصار الطائف. وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وأزعجهم التردِّى الخلقى الذى كان شائعا فى الجزيرة العربية، وتطلعوا إلى نبى يُبْعَث من بين العرب، بل إنه هو بالذات كان يرجو أن يكون ذلك النبى. وكان أمية يخالط رجال الدين ويقرأ كتبهم ويقتبس منها فى أشعاره. وكان رجل أسفار وتجارة، كما كان يمدح بعض كبار القوم كعبد الله بن جدعان وينال عطاياهم وينادمهم على الخمر، وإن قيل إنه قد حرَّمها بعد ذلك على نفسه. وتُجْمِع المصادر على أنه مات كافرا حَسَدًا منه وبَغْيًا، إذ ما إن بلغه مبعث النبى محمد حتى ترك الطائف فارًّا إلى اليمن ومعه بنتاه اللتان تركهما هناك، وأخذ يجول فى أرجاء الجزيرة ما بين اليمن والبحرين ومكة والشام والمدينة والطائف. وتذكر لنا الروايات مع ذلك أنه وفد على النبى ذات مرة وهو لا يزال فى أم القرى واستمع منه إلى سورة "يس" وأبدى تصديقه به مؤكدا لمن سأله من المشركين أنه على الحق. بَيْدَ أن حقده الدفين منعه من أن يعلن دخوله فى الإسلام رسميا وبصورة نهائية رغم أنه، كما جاء فى إحدى الروايات، كان قد اعتزم أن يذهب إلى المدينة للقاء الرسول مرة أخرى وإعلان دخوله فى الدين الجديد، لكن الكفار خذّلوه وأثاروا نار حقده على محمد من خلال تذكيره بأنه قتل أقاربه فى بدر ورماهم فى القليب، فما كان منه إلا أن عاد أدراجه بعد أن شقّ هدومه وبكى وعقر ناقته مثلما يصنع الجاهليون. ثم لم يكتف بهذا، بل رثى هؤلاء القتلى وأخذ يحرض المشركين على الثأر لهم منضمًّا بذلك إلى جبهة الشرك والوثنية ضد الإسلام، وظل هكذا حتى لقى حتفه على خلاف فى السنة التى مات فيها ما بين الثانية للهجرة إلى التاسعة منها قبل فتح النبى الطائف بقليل، وهو الأرجح (شعراء النصرانية قبل الإسلام/ ط2/ دار المشرق/ بيروت/219 وما بعدها، ود. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ ط2/ دار العلم للملايين/ 1978م/ 6/ 478- 500، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ مطبوعات وزارة الإعلام/ بغداد/ 1975م/ 46 فصاعدا. وله تراجم فى "طبقات الشعراء"، و"الشعر والشعراء"، و"الأغانى" وغيرها).
ولأمية ديوان شعر يختلط فيه الشعر الصحيح النسبة له بالشعر المنسوب له ولغيره بالشعر الذى لا يبعث على الاطمئنان إلى أنه من نظمه، وهذا القسم الأخير هو الغالب. وأكثر شعر الديوان فى المسائل الدينية: تأمّلاً فى الكون ودلالته على ربوبية الله، ووصفًا للملائكة وعكوفهم على تسبيح ربهم والعمل على مرضاته، وإخبارًا عن اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وحكايةً لقصص الأنبياء مع أقوامهم، إلى جانب أشعاره فى مدح عبد الله بن جدعان والفخر بنفسه وقبيلته وما إلى ذلك. ومن الشعر الدينى المنسو ب إليه ما يقترب اقترابا شديدا من القرآن الكريم معنًى ولفظًا وكأننا بإزاء شاعرٍ وَضَع القرآنَ بين يديه وجَهَدَ فى نظم آياته شعرا. ومن هذه الأشعار الشواهد التالية:
لك الحمد والنعماء والمُلْك ربنا * فلا شىء أعلى منك جَدًّا وأَمْجَدُ
مليكٌ على عرش السماء مهيمنٌ * لعزّته تَعْنُو الجباه وتسجدُ
مليك السماوات الشِّدَاد وأرضها * وليس بشىء فوقنا يتأودُ
تسبِّحه الطير الكوامن فى الخفا * وإذ هى فى جو السماء تَصَعَّدُ
ومن خوف ربى سبّح الرعدُ حمده* وسبّحه الأشجار والوحش أُبَّدُ
من الحقد نيران العداوة بيننا * لأن قال ربى للملائكة: اسجدوا
لآدم لمّا كمّل الله خلقه * فخَرُّوا له طوعًا سجودا وكدّدوا
وقال عَدُوُّ الله للكِبْر والشَّقا: * لطينٍ على نار السموم فسوَّدوا
فأَخْرَجَه العصيان من خير منزلٍ * فذاك الذى فى سالف الدهر يحقدُ
* * *
ويوم موعدهم أن يُحْشَروا زُمَرًا * يوم التغابن إذ لاينفع الحَذَرُ
مستوسقين مع الداعى كأنهمو * رِجْل الجراد زفتْه الريح تنتشرُ
وأُبْرِزوا بصعيدٍ مستوٍ جُرُزٍ * وأُنـْزِل العرش والميزان والزُّبُرُ
وحوسبوا بالذى لم يُحْصِه أحدٌ * منهم، وفى مثل ذاك اليوم مُعْتبَرُ
فمنهمو فَرِحُ راضٍ بمبعثه * وآخرون عَصَوْا، مأواهم السَّقَرُ
يقول خُزّانها: ما كان عندكمو؟ * ألم يكن جاءكم من ربكم نُذُرُ؟
قالوا: بلى، فأطعنا سادةً بَطِروا * وغرَّنا طولُ هذا العيشِ والعُمُرُ
قالوا: امكثوا فى عذاب الله، ما لكمو* إلا السلاسل والأغلال والسُّعُرُ
فذاك محبسهم لا يبرحون به * طول المقام، وإن ضجّوا وإن صبروا
وآخرون على الأعراف قد طمعوا * بجنةٍ حفّها الرُّمّان والخُضَرُ
يُسْقَوْن فيها بكأسٍ لذةٍ أُنُفٍ * صفراء لا ثرقبٌ فيها ولا سَكَرُ
مِزاجها سلسبيلُ ماؤها غَدِقٌ * عذب المذاقة لا مِلْحٌ ولا كدرُ
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها * ولا البصير كأعمى ما له بَصَرُ
فاسْتَخْبِرِ الناسَ عما أنت جاهلهُ * إذا عَمِيتَ، فقد يجلو العمى الخبرُ
كأَيِّنْ خلتْ فيهمو من أمّةٍ ظَلَمَتْ * قد كان جاءهمو من قبلهم نُذُرُ
فصدِّقوا بلقاء الله ربِّكمو * ولا يصُدَّنَّكم عن ذكره البَطَرُ
* * *
قال: ربى، إنى دعوتك فى ا لفـــــــــــــــ*ــجر، فاصْلِحْ علىَّ اعتمالى
إننى زاردُ الحديد على النــــــــــــــــــــــــ*ــاس دروعًا سوابغ الأذيالِ
لا أرى من يُعِينُنِى فى حياتى * غير نفسى إلا بنى إسْرالِ
وقد ظنت طوائف المبشرين ممن فقدوا رشدهم وحياءهم أن بمستطاعهم الإجلاب على الإسلام ورسوله وكتابه بالباطل فأخذوا يزعمون أن القرآن مسروق من شعر أمية بن أبى الصلت لهذه المشابهات. والواقع أن عددا من كبار دارسى الأدب الجاهلى، من المستشرقين قبل العرب والمسلمين، قد رَأَوْا عكس هذا الذى يزعمه المبشرون، إذ قالوا بأن هذه الأشعار التى تُنْسَب لأمية مما يتشابه مع ما ورد فى القرآن عن خلق الكون والسماوات والأرض، وعن العالم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار، وعن الأنبياء السابقين وأقوامهم وما إلى ذلك، هى أشعار منحولة عليه. قال ذلك على سبيل المثال تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، ود. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود.عمر فروخ ود.شوقى ضيف ود. جواد على وبهجة الحديثى من العلماء العرب، وإن كان من المستشرقين مع ذلك من يدعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بعض قرآنه من شعر هذا المتحنّف كالمستشرق الفرنسى كليمان هوار، ومنهم من قال إن الرسول وورقة قد استمدا كلاهما من مصدر واحد.
وإلى القارئ تفصيلا بهذا: فالمستشرق الألمانى كارل بروكلمان يؤكد أن أكثر ما يُرْوَى من شعر أمية هو فى الواقع منحول عليه، ماعدا مرثيته فى قتلى المشركين ببدر، وأنه إذا كان كليمن هوار المستشرق الفرنسى قد زعم أن شعره كان مصدرا من مصادر القرآن، فإن الحق ما قال تور أندريه من أن الأشعار التى نظر إليها هوار فى اتهامه هذا إنما هى نَظْمٌ جَمَع القُصَّاصُ فيه ما استخرجه المفسرون من مواد القصص القرآنى، وأن هذه الأشعار لا بد أن تكون قد نُحِلَتْ لأمية منذ عهد مبكر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، فقد سماه الأصمعى: "شاعر الآخرة"، كما أراد محمد بن داود الأنطاكى أن يفتتح القسم الثانى فى الدِّينِيّات من كتابه "الزهرة" بأشعار أمية (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1/ 113). يريد بروكلمان أن يقول: لولا أنه كان هناك شعر يدور حول الموضوعات الدينية التى ذكرناها قبلا منسوب لأمية منذ ذلك الوقت المبكر لما أطلق عليه الأصمعى هذه التسمية ولما فكر الأنطاكى أن يورد له أشعارا دينية فى كتابه المذكور. ويقول المستشرق براو كاتب مادة "أمية بن أبى الصلت" بـالطبعة الأولى من "دائرة المعارف الإسلامية"، تعليقا على اتهام هوار للقرآن بأنه قد استمد بعض مواده من أشعار أمية، إن صحة القصائد المنسوبة لهذا الشاعر أمر مشكوك فيه، شأنها شأن أشعار الجاهليين بوجه عام، وإن القول بأن محمدا قد اقتبس شيئا من قصائد أمية هو زعم بعيد الاحتمال لسبب بسيط، هو أن أمية كان على معرفة أوسع بالأساطير التى نحن بصددها، كما كانت أساطيره تختلف فى تفصيلاتها عما ورد فى القرآن. ثم أضاف أنه، وإن استبعد أن يكون أمية قد اقتبس شيئا من القرآن، لا يرى ذلك أمرا مستحيلا. وهو يعلل التشابه بين أشعار أمية وما جاء فى القرآن الكريم بالقول بأنه قد انتشرت فى أيام البعثة وقبلها بقليل نزعات فكرية شبيهة بآراء الحنفاء استهوت الكثيرين من أهل المدن كمكّة والطائف، وغذّتها ونشّطتها كلٌّ من تفاسير اليهود للتوراة وأساطير المسلمين. ثم يخبرنا براو بما توصَّل إليه تور أندريه من أنه ليس فى قصائد أمية الدينية ما هو صحيح النسبة إليه، وأن هذا اللون من شعره هو من انتحال المفسرين (دائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 4/ 463- 464).
وعند طه حسين أن "هذا الشعر الذى يضاف إلى أمية بن أبى الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبى (ص) وجاؤوا قبله إنما نُحِلَ نَحْلاً. نحله المسلمون ليثبتوا أن للإسلام قُدْمَةً وسابقةً فى البلاد" (فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1958م/ 145). ويرى الشيخ محمد عرفة أنه لو كانت هناك مشابهةٌ فعلا بين شعر أمية والقرآن الكريم لقال المشركون، الذين تحداهم الرسول بأن يأتوا بآية من مثله، إن أمية قد سبق أن قال فى شعره ما أورده هو فى القرآن زاعمًا أنه من لدن الله. لكنهم لم يقولوا هذا، بل اتهموه بأنه إنما يعلّمه عبد أعجمى فى مكة. كذلك يؤكد أن شعر أمية لا يشبه فى نسيجه شعر الجاهلية القوى المحكم، إذ هو شعر بيِّن الصنعة والضعف على غرار شعر المولَّدين. ومن هنا كان هذا الشعر المنسوب لذلك المتحنف الطائفى هو شعر منحول عليه ومنسوب زورا إليه (من تعليق الشيخ محمد عرفة على مادة "أمية بن أبى الصلت" فى "دائرة المعارف الإسلامية"/ 4/ 465).
أما د. عمر فروخ فيؤكد أن القسم الأوفر من شعر أمية قد ضاع، وأنه لم يثبت له على سبيل القطع سوى قصيدته فى رثاء قتلى بدر من المشركين. وبالمثل نراه يؤكد أن كثيرا من الشعر الدينى المنسوب لذلك الشاعر هو شعر ضعيف النسج لا رونق له (د.عمر فروخ/ تاريخ الأدب العربى/ ط5/ دار العلم للملايين/ 1948م/ 1/ 217- 218). ويرى د. شوقى ضيف أن المعانى التى يتضمنها شعر أمية مستمدة من القرآن بصورة واضحة، إلا أنه لا يرتب على ذلك أن يكون أمية قد تأثر بالقرآن، بل يؤكد أن الشعر الذى يحمل اسمه هو شعر ركيك مصنوعٌ نَظَمَه بعضُ القُصّاص والوُعّاظ فى عصور متأخرة عن الجاهلية. وردًّا على دعوى هوار بأن القرآن قد استمد بعض مادته من أشعار أمية يقول الأستاذ الدكتور إن ذلك المستشرق لا علم له بالعربية وأساليب الجاهليين، وإلا لتبين له أنها أشعار منحولةٌ بيِّنة النحل، ولما وقع فى هذا الحكم الخاطئ (د. شوقى ضيف/ العصر الجاهلى/ ط10/ دار المعارف/ 395- 396).
ويؤكد د. جواد على فى كتابه "المفصل فى تاريخ العرب" أن بعض أشعار أمية الدينية مدسوسة عليه، ومن ثَمّ لا يمكن أن يكون أميّة قد اقتبس شيئا من القرآن، وإلا لقام النبى عليه الصلاة والسلام والمسلمون بفضحه. وعلى هذا فهو أيضا يرى أن شعره الذى يوافق فيه القرآنَ إنما صُنِع بعد الإسلام صنعا لأنه ليس موجودا فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا غيرهما من الكتب الدينية، اللهم إلا القرآن الكريم، وأن أكثره قد وُضِع فى عهد الحجاج تقربا إليه، وبخاصة أن شعره الدينى يختلف عن شعره المَدْحِىّ والرثائى وغيره، إذ يقترب من أسلوب الفقهاء والمتصوفة ونُسّاك النصارى، كما تكررت إشارات الرواة إلى أن هذا الشعر أو ذاك مما يُعْزَى له قد نُسِب لغيره من الشعراء. ثم إنه قد مدح الرسول عليه السلام، كما أن فى الشعر المنسوب له ما يدل على أنه قد آمن به، فكيف يتسق هذا مع رثائه لقتلى بدر من المشركين؟ (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 491- 496). أما بهجة عبد الغفور الحديثى فإنه يقسم شعر أمية الدينى إلى قسمين: قسم يظهر عليه أثر الحنيفية وكتب اليهود والنصارى، وقسم يظهر عليه أثر القرآن. وهو يميل إلى أن يكون القسم الأول له كما يظهر من أسلوبه ومعانيه، أما الثانى فمنحول عليه بدليل ما يبدو عليه من ركاكة لغته وضعف صياغته، ومن أسلوبه المستمد من القرآن (أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ 127).
وقد بحثت عن طريق المشباك (النِّتّ) فى كتب الأحاديث النبوية الشريفة عن روايات تذكر شيئا من شعر أمية فلم أجد إلا ثلاثة أبيات له فى مُسْنَد أحمد يتحدث فيها عن الشمس وعرش الله بما لم يأت شىء منه فى القرآن، وأن الرسول عليه السلام قد صدّقه فيها، وهذا نصها:
رجلٌ وثورٌ تحت رجْل يمينه * والنسر لليسرى، وليثٌ مُرْصَدُ
والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراءَ يصبح لونها يتورّدُ
تأبَى فلا تبدو لنا فى رِسْلها * إلا مُعَذَّبَةً وإلا تُجْلَدُ
كما جاء أيضا فى مُسْنَدَىْ ابن ماجة وأحمد أن الشريد بن الصامت قد أنشد النبىَّ ذات مرة مائة بيت من شعر أمية، وكان كلما انتهى من إنشاد بيتٍ قال النبى عليه الصلاة والسلام: "هِيهْ"، يستحثه على الاستمرار فى الإنشاد، ثم عقّب صلى الله عليه وسلم فى النهاية قائلا: "كاد أن يُسْلِم"، وفى رواية أخرى فى مسند أحمد أن النبى لم يعلّق فى نهاية الإنشاد بشىء، بل سكت فسكت الشريد بدوره. وهذا كل ماهنالك، فلم نعرف من الحديث ما هى الأبيات التى أنشدها الصحابى الكريم على مسامع رسول الله، ولا مدى مشابهتها للقرآن. على أن هاهنا نقطة لا بد من تجليتها قبل الانتقال إلى شىء آخر، إذ لا أظن الصحابى الجليل قد قصد عدد المائة تحديدا، فليس من المعقول أنه كان يعدّ الأبيات التى كان ينشدها على مسامع النبى أوّلاً بأوّل وهو يتلوها. ذلك أمر غير متخيَّل، والأرجح بل الصواب الذى لا أستطيع أن أفكر فى غيره أنه أراد الإشارة إلى أنه قد أنشد سيّدَ الأنبياء عددا غير قليل من الأبيات.
كذلك رجعتُ إلى تخريجات القصائد المشابهة للقرآن الكريم التى قام بها بهجة الحديثى فى رسالته عن أمية، فلفت انتباهى أن هذه القصائد، أو على الأقل الأبيات التى يوجد فيها ذلك التشابه، لم تَرِدْ فى أىٍّ من كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتبرة ككتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبى زيد القرشى، أو "طبقات الشعراء" لابن سلام، أو "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، أو "الأغانى" للأصفهانى، أو "تاريخ الرسل والملوك" أو "جامع البيان فى تفسير القرآن" للطبرى مثلا. بل إن كثيرا من هذه الأشعار لم تَرِدْ فى طبعة الديوان الأولى، فضلا عن أن بعضها قد نُسِب فى ذات الوقت إلى غيره من الشعراء. ونقطة أخرى مهمة جدا: لماذا لم يُثِرْ علماؤنا المتقدمون قضية التشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم باستثناء محمد بن داود الأنطاكى، الذى كان يردّ، فيما يبدو، على من اتهم القرآن بالأخذ عن أمية بأن ذلك غير صحيح لأنه عليه السلام لا يمكن أن يستعين فى كتابه بشعر رجل أقر بنبوته وصدّق بدعوته، وأنه لو كان صحيحا رغم ذلك لسارع أمية إلى اتهام الرسول بالسرقة من شعره، وبذلك تسقط دعوته صلى الله عليه وسلم بأيسر مجهود وأقلّه؟ (الزهرة/ تحقيق د. إبراهيم السامرائى ود. نور حمود القيسى/ ط2/ مكتبة المنار/ الزرقاء/ 1406هـ- 1985م/ 2/ 503). لقد كان ابن داود الأنطاكى من أهل القرن الثالث الهجرى، فى حين أن صاحب "الأغانى" قد جاء بعده بقرن، فكيف اطمأن المتقدم وشكّ المتأخر، أو فلنقل: كيف أورد المتقدمُ الشعرَ المنسوب لأمية، بينما لم يورده الأصفهانى، الذى جاء بعده بقرن كما قلنا؟ والأحرى أن يكون الوضع بالعكس حيث يكون المتقدم أقرب زمنا إلى صاحب الشعر فيستطيع من ثم أن يحسم الحكم فى مسألة نسبة الشعر إليه، على الأقل قبل تراكم الروايات وازدياد صعوبة غربلتها وإصدار حكم بشأنها. بَيْدَ أن مثل هذا الوضع لا غرابة فيه، فعندنا مثلا ابن إسحاق وابن هشام اللذان اشتركا فى كتابة "سيرة رسول الله": تأليفًا بالنسبة لابن إسحاق، ومراجعةً وتعليقًا وتنقيةً بالنسبة لابن هشام، وجاء الأول قبل الثانى بزمن غير قصير كما هو معروف، ومع هذا لم يمنع ابنَ هشام تأخُّرُ زمنه عن النظر فى السيرة التى كتبها سَلَفُه وإجالة قلمه فيما يرى أنه لا بد من تغييره أو تصحيحه أو التعليق عليه بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للحق، مثلما فعل عندما أنكر على ابن إسحاق مثلا إيراد أشعار لآدم وثمود والجن، بل لأفراد من قريش ذاتها ممن قال إن أهل العلم لا يعرفون لهم شعرًا أصلا أو ينكرون ما ينسب إليهم من شعر. والمسألة بَعْدُ هى مسألة اختلاف فى شخصية الباحث ما بين مطمئنٍ يقبل ما يُرْوَى له ومدقِّقٍ لا يقبل إلا بعد تمحيص وتقليب...وهكذا. ومعروف أن ابن سلام وابن قتيبة وأبا الفرج الأصفهانى هم من النقاد ومؤرخى الأدب القدماء المشهود لهم بالتمحيص والتنقيب وعدم قبول أى شىء على علاته، بينما لا يزيد ما فعله ابن داود الأنطاكى فى كتابه "الزهرة" عن جمع الأشعار وتنسيقها، إلا حين يعلّق بكلمة هنا أو هناك تدور عادةً على شرح لفظة صعبة أو تحليل جانب من جوانب عاطفة الحب التى ألف كتابه عنها. إن هذا كله من شأنه أن يعضّد القول الذى سمعنا كبار دارسى الأدب العربى من مستشرقين وعرب يرددونه من أن القصائد التى تتشابه مع القرآن من الشعر المنسوب لأمية هى فى الواقع قصائد منحولة. ولقد نبهنى هذا الاكتشاف إلى ما أحسست به عند مراجعتى لديوان أمية مؤخرا من أنى لا أستطيع أن أتذكر قراءتى لأىٍّ من هذه الأشعار فى الكتب التى أومأتُ إليها لِتَوِّى. وهذا هو السبب فى أننى قد استبدّ بى الاستغراب أثناء مطالعتى لذلك النوع من قصائد أمية حين فكرت فى الكتابة عن هذه القضية بالرغم من كثرة ما قرأت عن الرجل من قبل فى "الأغانى" و"طبقات الشعراء" و"الشعر والشعراء" مثلا، وكذلك فى كتب تاريخ الأدب العربى التى ألفها باحثون معاصرون ممن تكلموا فى هذه القضية، لكنهم لم يوردوا شيئا من الأشعار محل الخلاف والمناقشة مكتفين بالكلام النظرى فيها. وبالمثل كان الانطباع الذى شعرتُ به بمجرد قراءة تلك الأشعار هو أنها أقرب إلى النظم الذى وضع صاحبُه أمام عينيه آياتِ القرآن الكريم وأخذ يجتهد فى تضمينها ما ينظم من أبيات: فالكلام مهلهل وغير مستوٍ، وفيه فجوات يملؤها الناظم بما يكمّل البيت بأى طريقة والسلام، على عكس شعر أمية فى رثاء قتلى المشركين ببدر مثلا أو مدائحه لعبد الله بن جدعان. وغنى عن القول ألاّ وجه لمقارنة هذا الشعر بأسلوب القرآن وما يتسم به من فحولة وجلال وشدة أسر وسحر ينفذ إلى القلوب نفوذا غلابا قاهرا، وهو ما يجعل القول بتأثر شعر أمية بالقرآن لا العكس هو ما يمليه المنطق وتَهَشّ له العقول والضمائر إذا صحَّت نسبة هذه الأشعار له. ومع ذلك كله فلسوف أسلك الطريق الصعب فأفترض أن تلك الأشعار محلَّ الخلاف هى أشعار صحيحة قالها أمية فعلا، وأن الأحداث التى رافقت نظم هذه القصائد هى بالتالى أحداث صحيحة وقعت هى أيضا.
والآن لو تتبعنا أهم الأحداث فى حياة المصطفى وأمية مما يتصل بهذه القضية فماذا نجد؟ أول كل شىء أن شاعرنا كان، كما جاء فى الروايات التى تحدثت عنه، يتوقع أن يكون هو النبى المنتظر، وأنه حين علم أن النبوة تجاوزته لم يستطع صبرا على المُقام بالطائف على مقربة من الرجل الذى كان حُكْم القدر أن ينزل عليه وحى السماء، فأخذ ابنتيه وهرب إلى اليمن. ومعنى ذلك أنه هو الذى كان مشغولا بمحمد لا العكس. وهذا أحرى أن يجعله متنبها لكل ما يتعلق بمحمد، وعلى رأسه القرآن، الذى كان يتمنى بخلع الضرس بل بِفَقْءِ العين أن يكون هو النبى الذى يتلقاه ويبلغه للناس، حرصا منه على الشهرة والسمعة والمكانة بين قومه، جاهلا فى غمرة حماقته وحسده الأسود العقيم أنه سبحانه وتعالى "أعلم حيث يجعل رسالته". ومن المنطقى جدا، كما أومأنا، القول بأنه لم يستطع أن يتجاهل الرسول رغم غيظه، بل قل: بسبب غيظه من عدم اختياره هو نبيا للعرب، وأنه كان يتصيد الآيات والسُّوَر التى تنزل على الرسول ويضعها نصب عينيه وهو يَنْظِم شعره، جَرْيًا على المثل الشعبى القائل: "إن فاتك المِيرِىّ تمرَّغْ فى ترابه". إنه "عبده مشتاق" الجاهلى، الذى يمكن أن نرى فيه رائدا لـنظيره فى كاريكاتير جريدة "الأخبار" القاهرية، مع بعض التلوينات المختلفة هنا وهناك تبعا لاختلاف طبيعة الدور الذى يريد كل من هذين العبدين أن يؤديه والظروف التى يتحرك فى نطاقها! ولقد فاتته النبوة، فليضمّن نصوصَ وحيها إذن شعره، فهذا أفضل من أن "يخرج من المولد بلا حمّص"! وهو حين يصنع هذا إنما كان يجرى على عادته قبل سطوع بدر الإسلام من العكوف على الكتب الدينية السابقة والاقتباس منها فيما يَنْظِم من أشعار. فهو إذن لا يفترع طريقا جديدا حين يقتبس من القرآن، بل يستمر فى سبيله القديم. والطبع غلاب كما يقولون! ولا أدرى فى الواقع لماذا، بدلا من هذا الهروب غير المجدى من الطائف، لم يواجه محمدا ويقول له فى وجهه إنه قد سبقه فى شعره إلى ما يقوله هو فى قرآنه، وإن هذا دليل على أنه ليس نبيا حقيقيا، ومن ثم فهو أفضل منه، على الأقل من ناحية العلم والحكمة. ألم يكن هذا هو ما يقتضيه المنطق لو كان عند أمية ذلك الدليل القاهر الذى يلوّح به بعض المستشرقين ويتابعهم عليه، فى غباءٍ لا يليق بمن عنده مسكة من عقل، مبشّرو آخر الزمان، ومن خلفهم ذيول المسلمين الذين فقدوا كل معنى من معانى الكرامة والرجولة؟ ومن الواضح أن الرجل كان يحب الظهور بمظهر العالم الحكيم، هذا الوصف الذى وصفه به خطأً بعض من ترجموا له من القدماء، إذ لو كانت الحكمة من صفاته حقا لما ترك الحسدَ يطوّحه ويقلقله فى بلاد العرب جنوبا وشمالا وشرقا وغربا كراهيةَ أن يكون على مقربة من الرجل الذى آثرته السماء عليه فى مسألة النبوة (وإن ذكرتْ بعضُ الروايات، حسبما رأينا، أنه وفد عليه فى مكة واستمع إلى ما تلاه عليه من قرآن وقال كلاما طيبا فى حقه)، ولأَقْبَلَ بدلا من ذلك عليه بجْمْع قلبه وإخلاصه ما دام يرى أنه على الحق كما يشير إلى ذلك الشعر الذى يتحدث فيه، قبل البعثة النبوية، عن حاجة البلاد لنبى يأخذ بيدها فى طريق الهداية، وكذلك القصيدة التى قالها فى مدحه عليه الصلاة والسلام والدين الذى أتى به. بَيْدَ أنه، لحَِظّه التعيس، لم يحزم أمره، وظل مترددا يقترب بقلبه حينًا بعد حينٍ من الدين الجديد، لكنه سرعان ما تثور به عقارب الحقد فيبتعد عنه...إلى أن أقبل أخيرا فى نوبة قوية بعض الشىء من نوبات يقظته الخلقية والروحية ليعلن إسلامه رسميا، فوقفت قريش فى طريقه وأخبرته بأن المسلمين قتلوا عُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة وغيرهما من رجالات الطائف ممن كانوا يمتّون إليه بواشجة القرابة، فما كان منه إلا أن لوى عِنَان فرسه مبتعدا عن طريق النور والسعادة حاكما بذلك على نفسه ببؤس المصير إلى الأبد، وهو ما يدل بأجلى بيان على أنه لم يحزم أمره يوما، وهذه هى مشكلته المزمنة مع نفسه، فأين الحكمة هنا إذن؟ أما العلم فإن نصيبه منه لا يخرج، فيما هو واضح، عن نقل النصوص والقصص من كتب الأمم السابقة إلى شعره دون الانتفاع الحق بها، فهو إذن كالحمار يحمل أسفارا، وإلا فلماذا لم يستفد بها فى اتّباع الحق الذى كان يؤمن به فى أعماق قلبه، وفضّل عليه الانحياز إلى الوثنية ممثلةً فى أقاربه الذين رثاهم ومجَّدهم حين سقطوا وهم يحاربون تحت رايتها ضد التوحيد، وزاد فشقّ جيوبه عليهم وبكى وجدع أنف ناقته كما كان يفعل أهل الجاهلية الجهلاء حسبما ذكرت كتب السيرة وتاريخ الأدب (د.جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 479)، وهو الذى طالما صدّع أدمغتنا من قبل بالحديث عن الحنيفية؟ ولْنقارن بين موقفه هذا وموقف النبى عليه السلام حين أسلم وَحْشِىّ قاتل عمه الغالى وأخيه من الرضاع حمزة بن عبد المطلب، وكذلك هندٌ آكلة الأكباد ومدبّرة مقتله المأساوى رضى الله عنه. لقد قَبِلهما النبى فى دينه، وكأن شيئا لم يكن، رغم الجرح الغائر الذى خلّفه موت سيد الشهداء فى قلبه، وذلك نزولا على مبدئه العظيم القائل بأن "الإسلام يَجُبّ ما قبله". أو لماذا لم يقم هو بالدعوة إلى ما كان يؤمن به (حسبما نقرأ فى الشعر المنسوب إليه)، ولو فى أضيق نطاق بين قومه فى الطائف فقط ما دام ادعاء النبوة سهلا إلى هذا الحد كما فعل محمد، الذى لم يكن قارئا كاتبا مثله؟ فانظر وقارن يتبين لك الفرق بين النبوة والحسد الذى يأكل قلب صاحبه أكلاً فلا يتركه يهنأ بحياته أبدا!
أما المحطة الثانية التى نحب أن نقف عندها فهى ذهاب رسول الله إلى الطائف حين شعر أن مكة تستعصى على دعوته بغباء غريب ما عدا القليلين الذين دخلوا فى دعوته رغم التضييق والعنت الشديد والأذى المتواصل، فحَسِبَ أن الطائف قد تكون أحسن استقبالا للدين الجديد، لكن أهلها للأسف لم يكونوا أفضل حالا من قومه فى مكة. ترى لو كان أمية قد سبق القرآن إلى تناول الموضوعات التى نقرؤها فى ذلك الكتاب بنفس الألفاظ والعبارات فى كثير من الأحيان، ومن ثم أخذ محمد بعض قرآنه من شعره، أكان يفكر مجرد تفكير فى السفر إلى بلد ذلك الشاعر معرضا نفسه للسخرية والاتهام من جانب أهلها بدلا من إقبالهم عليه ودخولهم فى دينه؟ إنه إذن لـ"كالمستجير من الرمضاء بالنار" كما جاء فى أمثال العرب، أو كمن "جاء يُكَحِّلها فأعماها" كما يقول المثل الشعبى! ولم يكن الرسول يوما بالشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا التصرف الأخرق العجيب، بل لم يتهمه أحد من أَعْدَى أعدائه بشىء من ذلك قط! ثم فلنفترض بعد هذا أنه قد ارتكب هذا التصرف الأحمق (وأستغفر الله العظيم على هذا التعبير الذى اقترفتُه لأكون فى غاية السماحة مع "الأنعام" الذين لهم قلوب لكن لا يعقلون بها، ولهم أعين لكن لا يبصرون بها، ولهم آذان لكن لا يسمعون بها!)، فكيف فات الطائفيين الأمرُ فلم يجابهوه ويجبهوه بهذه السرقة التى كانت كفيلة بقصم ظهر الدعوة التى أتى بها بدلا من إغرائهم صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم بمطاردته بالحجارة فى شوارع المدينة حتى أخرجوه منها منتهكين بتصرفهم الوحشىّ هذا ما توجبه التقاليد العربية الراسخة القاضية بإكرام الضيف الوافد، واضطروه إلى اللجوء إلى بستانٍ لعُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة حيث قابل هناك خادمهما عداس، الذى قدّم له قِطْفا من العنب يتقوّت به ويزيل عن نفسه التعب، ثم أقبل عليه فى حب وإجلال حين رآه يسمّى الله قبل الطعام وعرف شيئا من دينه على ما هو معروف لقارئى السيرة النبوية؟
ثم هناك قدوم أمية على النبى ومدحه إياه بقصيدة يقرّه فيها على دعوته ويثنى عليه ويصدّق به. ويبدو أن ذلك كان بتأثير الأسئلة التى من المؤكد أنها كانت توجَّه له ممن حوله، إذ لا بد أن يثور فى أذهانهم التساؤل عن السبب، يا ترى، الذى يمنعه من الإيمان بمحمد ما دام يردد ما يقوله تقريبا ويضمّن شعره بعض ما جاء فى قرآنه! أقول هذا رغم أن فى نفسى من صحة هذه القصيدة شيئا للأسباب التى سأذكرها من فورى، لكننى قلتُه على الشرط الذى وضعتُه حين بينتُ أنه لكى نقبل أشعار أمية التى تشابه القرآن الكريم لا بد أن نقبل معها الأحداث التى صاحبتها حسبما أوردتها الروايات. على أية حال هأنذا أورد جُلّ أبيات القصيدة أولا، ثم ننظر فيها بعد ذلك:
لك الحمد والمنّ رب العبا * د. أنت المليك وأنت الحَكَمْ
ودِنْ دين ربك حتى التُّقَى * واجتنبنّ الهوى والضَّجَمْ
محمدًا ارْسَلَه بالهدى * فعاش غنيا ولم يُهْتَضَمْ
عطاءً من الله أُعْطِيتَه * وخصَّ به الله أهل الحرمْ
وقد علموا أنه خيرهم * وفى بيتهم ذى الندى والكرمْ
نبىُّ هدًى صادقٌ طيبٌ * رحيمٌ رءوف بوصل الرَّحِمْ
به ختم الله من قبله * ومن بعده من نبىٍّ ختمْ
يموت كما مات من قد مضى* يُرَدّ إلى الله بارى النَّسَمْ
مع الأنبيا فى جِنَان الخلو * دِ، هُمُو أهلها غير حلّ القَسَمْ
وقدّس فينا بحب الصلاة * جميعا، وعلّم خطّ القلمْ
كتابًا من الله نقرا به * فمن يعتريه فقدْمًا أَثِمْ
(أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره" لبهجة عبد الغفور الحديثى/ 260- 264)
وقد رفض د. جواد على هذه القصيدة على أساس أن ما فيها من إيمان قوى بالنبى ودينه يتناقض مع ما نعرفه من تردد أمية بالنسبة للإسلام وافتقار قلبه إلى الإيمان العميق، وأنه يشير فيها إلى وفاة الرسول التى لم تقع إلا بعد موت أمية أوّلا (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 497- 498). لكن بهجة الحديثى لا يشك فى القصيدة، بل يرى أنها تمثل خطرة من الخطرات التى كانت تنتاب أمية، فالمعروف أنه لم يكفر بالرسول تكذيبا بل حسدا، إذ كان فى دخيلة نفسه مصدِّقا بما جاء به، بل همّ أن يعلن إسلامه فعلا. كما أن الأنطاكى، الذى كان يعيش فى القرن الثالث الهجرى، قد أكد أنها موجودة فى شعره ومفهومة عند أهل الخبرة به (أمية بن أبى الصلت/ 78- 79). والحق أن الحجة الأخيرة تكاد تكون العقبة الوحيدة التى تمنعنى من القطع بزيف هذه القصيدة رغم ما فيها مما يدابر المنطق: فهى تتحدث عن اختتام النبوة بمحمد عليه السلام، وهى قضية لم تكن قد طُرِحَت بعد، لأن القصيدة لا بد أن تكون قد سبقت غزوة بدر على آخر تقدير حيث حسم أمية أمره بعد تلك الغزوة وشقَّ جيوبه وعقر ناقته وتراجع نهائيا عن الدخول فى الإسلام، على حين أن الإشارة إلى أن نبوة محمد هى خاتمة النبوات قد وردت فى سورة "الأحزاب"، التى نزلت بعد ذلك بزمن طويل على ما هو معروف. أما ما جاء فى القصيدة من ذكر موت النبى فلا يعنى بالضرورة أنه قد مات فعلا، إذ الكلام يحتمل هذا، كما يحتمل أنه سيموت كسائر البشر حسبما جاء فى قوله تعالى: "إنك ميتٌ، وإنهم ميتون" (الزُّمَر/ 30)، إذ أتى الفعلُ الدالّ على الموت فى القصيدة فى صيغة المضارع لا الماضى كما لا بد أن يكون القارئ قد لاحظ، رغم أن فى ذكر الموت فى حد ذاته فى هذا السياق كثيرا من الغرابة والخروج على مقتضيات المديح. كذلك فوصف الرسول بأنه "رحيم رءوف" هو صَدًى لوصفه فى القرآن فى الآية قبل الأخيرة من سورة "التوبة" بهاتين الصفتين، وإن جاءتا فى القصيدتين بعكس ترتيبهما فى السورة، والآية المذكورة تنتمى لمرحلة زمنية متأخرة عن تاريخ نظم القصيدة. كذلك ففى القصيدة صَدًى لقول رسول الله فى حديث أبى هريرة: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيَلِج النار إلا تحلَّة القسم"، والمقصود الإشارة إلى قوله تعالى فى الآية 71 من سورة "مريم": "وإنْ منكم إلا وارِدُها.كان على ربك حتما مقضيًّا"، ومعروف أن أبا هريرة إنما أسلم فى المدينة فى السنة السابعة للهجرة، أى بعد نظم أمية قصيدته بأعوام، فكيف يمكن أن يتأثر أمية بحديث كهذا لم يكن قد قيل إلا بعد ذلك ببضع سنوات؟ وأنا هنا، كما يلاحظ القارئ، أنطلق من أن القصيدة هى التى تأثرت بالقرآن لا العكس ما دام أمية قالها فى مدح النبى والتصديق بدعوته، إذ معنى هذا أنه لم يكن يرى فى القرآن أى أثر لشعره، وإلا ما فكر فى مدحه عليه السلام بتاتًا، بل فى هجائه وفَضْحه. ثم إن فى النظم هَنَاتٍ لا يقع فيها جاهلىٌّ عادة: فقد جاءت كل من كلمتى "أرسله" و"الأنبياء" فى القصيدة بهمزة، وهو ما يحدث اضطرابا فى موسيقى البيتين اللذين وردت الكلمتان فيهما، إلا إذا حذفنا الهمزتين كما فعلت أنا هنا، فعندئذ نشعر على الفور أننا بإزاء شعر إسلامى صوفى مما يصعب انتماؤه للعصر الأموى أو حتى بدايات العباسى. لكن هل يمكن أن يكون هذا قد فات ابن داود الأنطاكى؟ تلك هى المعضلة. إلا أننا لو استحضرنا فى المقابل أن كبار مؤرخى الأدب ونقاده فى تلك الفترة، وهم العلماء الذين شغلتهم قضية الانتحال فى الشعر الجاهلى والمخضرم كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ وأبى الفرج وابن هشام، لم يَرْوُوا شيئا من هذا الشعر لأمية، لوجدنا أنها ليست بالمعضلة التى تستعصى على الحل. وأيا ما يكن الأمر فكما قلت: إن من يريد منا أن نقبل نسبة الأشعار محل الدراسة لأمية فلا بد أن يقبل معها الأحداث المصاحبة لها فى الروايات التى أوردتْها لنا.
ومما تقوله الروايات عن النبى وأمية أيضا ذلك اللقاء الذى تم بينه صلى الله عليه وسلم وفارعة أخت الشاعر حينما جاءته عند دخوله الطائف فى السنة التاسعة للهجرة وحكت له قصة أخيها وأنشدته من شعره بناءً على طلبه، وما عقَّب به عليه السلام قائلا: "يا فارعة، إن مَثَل أخيك كمَثَل من آتاه الله آياته فانسلخ منها" (ابن حجر/ الإصابة فى معرفة الصحابة/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 363، والاستيعاب فى معرفة الأصحاب/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 379). هل يعقل أنه صلى الله عليه وسلم يسعى إلى فتح ملفّ أمية ويقول فيه هذه الكلمة القارصة، وعلى مسمع من أخته، وفى أشد اللحظات على أهل الطائف وطأةً لأنها لحظة انكسار وانهزام، لو كان قد استمد شيئا من قرآنه من شعر الرجل؟ إنه فى هذه الحالة كمن يمد يده فى جحر الثعابين والعقارب معرِّضا نفسه لخطر الهلاك الوَحِىّ دونما أدنى داع، ومعاذَ الذكاء المحمدى أن يفوته عليه السلام ما ينتظره من الخطر فيقدم على التصرف بمثل هذا التهور! ونفس الشىء نقوله عن موقفه من الشريد بن الصامت، إذ لماذا يشجعه صلى الله علي وسلم على الاستمرار فى إنشاد الشعر الذى من شأنه أن يفضح دعواه لو كان أمية قد قاله فعلا قبل القرآن، واستمد هو قرآنه منه؟ بل لماذا ينشد سويد أمامه شعر أمية أصلا لو كان متطابقا مع القرآن هذا التطابق الذى يدل على استمداده منه؟ بل كيف لم يتنبه لهذا التشابه ولم يختلج على الأقل ضميره بالشكوك والوساوس؟ ولنفترض بعد ذلك كله أنه صلى الله عليه وسلم قد أقدم على هذا التصرف الخاطئ فى الحالين، فكيف لم يصدر عن الطرف الآخر أى شىء يُلْمِح إلى أسبقية شعر أمية على القرآن أو حتى إلى مجرد المشابهة بين النصين ولو على سبيل فلتات اللسان؟
وعندنا من الثقفيين، غير فارعة أخت شاعرنا، كنانة بن عبد ياليل، وكان رئيس ثقيف فى زمانه، واشترك مع أبى عامر الراهب العدو اللدود للإسلام فى التآمر على الدين الجديد وصاحبه، ولم يتركا سبيلا إلا وسلكاه لبلوغ هذه الغاية حتى إنهما ذهبا إلى قيصر للاستعانة به ضد الإسلام. ولما فشلا بقى أبو عامر فى الشام، وعاد ابن عبد ياليل بعد تطواف هنا وهناك وأعلن إسلامه. ويقال إنه كان من بين المرتدين، ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى. والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن لو كان الرسول قد أخذ شيئا من شعر أمية هو: كيف سكت مِثْلُ كنانة فلم يتخذ من هذا الأمر سلاحا يوجهه إلى قلب الإسلام فى مقتل فيريح نفسه وقومه والعرب جميعا من هذا البلاء الذى أرَّقهم وأزعجهم بدلا من الضرب فى الآفاق والاستعانة بمن يساوى ومن لا يساوى؟ أليس هذا هو ما كان ينبغى أن يمليه المنطق على مثل ذلك الزعيم القبلى؟ لكنه لم يفعل، فعلام يدل هذا؟ أيعقل أن يكون بيده ذلك السلاح الحاسم ولا يفكر فى استخدامه على طول ما حارب الإسلام وكثرة ما تآمر ضده؟ (ابن حجر/ الإصابة فى معرفة الصحابة/ 2/ 496، و3/ 305).
وكان عروة بن مسعود الثقفى قد بكَّر بالدخول فى الإسلام قبل قومه بزمن، فأراد من حبه لهم أن يهديهم الله على يديه، فاستأذن الرسولَ عليه السلام أن يأتيهم فيدعوهم إلى الدخول فى دين التوحيد، لكنه صلى الله عليه وسلم حذره من أنهم سيقتلونه. إلا أنه لم يكن يتصور أنهم يمكن أن يعادوه ويتأبَّوْا عليه اعتقادا منه أنهم يحبونه ويكرمونه أشد الإكرام، فعاود الاستئذان، والرسول يحذره، ثم أذن له فى الثالثة ليذهب إليهم ويلقى المصير الذى حاول الرسول أن يجنبه إياه، إذ ما إن بدأ يدعوهم إلى الإسلام حتى اجتمعوا إليه من كل جانب ورَمَوْه بالنبل فقتلوه، رضى الله عنه (أبو نعيم الأصفهانى/ دلائل النبوة/ ط2/ حيدر أباد الدكن/ 1950م/ 467). أولو كان الرسول قد أخذ قرآنه من أمية ابن الطائف التى طال استعصاؤها على الإسلام إلى وقت متأخر، أكان عروة يدخل فى دينه مخالفا قومه بهذه البساطة؟ بل أكان الرسول يرضى أن يذهب إليهم هذا المندفع الذى لا يفكر فى العواقب، ومعروف أن أول ماسيجيبونه به هو: أوقد نسيت أن الرسول الذى تدعونا إلى الإيمان بدينه ليس سوى سارق لشعر شاعرنا، أخذه وزعم أنه قرآن يُوحَى إليه من السماء؟ وحتى لو لم يفكر أى منهما فى تلك النتيجة التى لا يمكن أن يتجه الذهن إلى أى شىء غيرها، أكانت ثقيف تدع تلك الفرصة السانحة دون أن تتهكم بعروة على غفلته وتحمسه لدين يقوم على هَبْش النصوص الشعرية من الشعراء الآخرين والزعم بأنه وحى من عند رب العالين؟
وهناك أيضا من مشاهير الثقفيين الشاعر أبو محجن، الذى كان مدمنا للشراب، وكان يتأرجح بين عشقه المتوله للخمر وتحرجه الدينى، وإن كان للعشق الغلبة فى بداية أمره حتى لقد حُدَّ فيها مرارا، ونفاه عمر إلى إحدى الجزر...إلى أن جاءت حرب القادسية، وقصته فيها معروفة، إذ كان ساعتها فى القيد فى بيت سعد بن أبى وقاص (قائد المسلمين فى تلك المعركة) بسبب الخمر انتظارا لإيقاع الحدّ عليه، فأخذ يلحّ على امرأة سعد من وراء زوجها أن تحل وثاقه كى يستطيع المشاركة فى الجهاد فى سبيل الله، ولها عليه عهد الله أن يعود من تلقاء نفسه بعد المعركة فيضع رجليه فى القيد كرة ثانية، حتى نجح فى إقناعها فأطلقته فحارب وأبلى فى الحرب بلاء حسنا وانتصر المسلمون، فكان عند كلمته وعاد فوضع رجليه فى القيد، ثم أعلن توبته النهائية عن أم الخبائث بعد أن أبدى سعد إعجابه به ووعده أنه لن يحده أبدا، إذ صرَّح قائلا إنه يستطيع الآن أن يقلع عنها دون الخوف من أن يقول أحد عنه إنه تركها خشية العقاب. ولا يزال ديوانه يمتلئ بالأشعار التى يتغزل فيها فى بنت الكَرْم متمردا على تحريمها فى دين محمد. بل إنه كان أحد الذين دافعوا عن الطائف أثناء حصار المسلمين لها عقب فتح مكة، وأصاب سهمه فيها ابنًا لأبى بكر (الزركلى/ الأعلام/ ط3/ 5/ 243، ودائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 2/ 597- 598، وديوان الشاعر، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت/ 42- 43). والسؤال هنا أيضا: كيف لم يتحدث مثل هذا الشاعر عن استعانة الرسول بشعر ابن قبيلته ولو فى نوبة من نوبات تهتكه وتمرده على تحريم الإسلام الصارم لأم الخبائث، أو فى شعره قبل دخوله فى الإسلام؟
ثم لدينا من الثقفيين أيضا الحجاج بن يوسف، الذى كان معلما للقرآن فى بداية حياته كأبيه لا يبتغى بذلك مالا، بل احتسابًا عند الله، ثم أصبح فيما بعد أحد عمال بنى أمية الكبار. وهو الذى أدخل على نظام الكتابة العربية المزيد من الإتقان والضبط، إذ عهد إلى نصر بن عاصم بإعجام الخط، أى وَضْع النقاط للتمييز بين الأحرف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء...طلبًا لمزيد من الدقة والتسهيل فى قراءة القرآن، الذى يدَّعى بعض الرُّقَعاء أنه مقتبَس فى بعض مواضعه من شعر أمية. كما كان، رغم كل ما قيل عن قسوته أيام ولايته على العراق، من المداومين على قراءة القرآن. وكذلك كان يشجع بكل وسيلة على حِفْظه، ويُدْنِى منه حُفّاظه (أحمد صدقى العَمَد/ الحجاج بن يوسف الثقفى- حياته وآراؤه السياسية/ دار الثقافة/ بيروت/ 1975م/ 86- 87، 96، 474، 477- 478، وهزاع بن عيد الشّمّرى/ الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى فى تاريخ الإسلام/ دار أمية/ الرياض/ 44). والآن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما الذى جعل الحجاج يتحمس لدين محمد كل هذا التحمس لو كان هناك ولو ذرة واحدة من الشك تحوم حول مصدر هذا الكتاب، وبخاصة أن المصدر فى هذه الحالة لن يكون شيئا آخر غير شعر ابن القبيلة التى يعتزى هو إليها؟ لا ليس ابن قبيلته فقط، بل هو ابن خالة جده الرابع لأمه: معتب بن مالك (انظر فى نَسَبه "الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى فى تاريخ الإسلام" لهزاع بن عيد الشّمّرى/ 15). ولا يظنَّنّ أحد أن شعر أمية لم يكن يهم الحجاج لانشغاله بالسياسة وما يتصل بها، فقد رُوِىَ عنه قوله: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام" (د. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 483 )، أى أن نصوص الشعر والأدب إنما تضيع بذهاب من يحفظونها. وههنا نقطة مهمة جدا، ألا وهى أن شعر أمية قد ضاع، على أقلّ تقدير،ٍ جانبٌ كبير منه قبل الحجاج، فكيف وصلنا إذن كل هذا الشعر الذى يشابه القرآن إذا كان واحد من أقرب من تصله به رابطة الدم يشكو من ضياعه على هذا النحو؟
وأهم من ذلك كله دلالةً على ما نريد من أن القضية التى يثيرها الفارغون الجهّال من المبشرين ومَنْ لَفَّ لفَّهم من أبناء المسلمين الذين ختم الله على قلوبهم وعقولهم وأعينهم، فهم لا يفكرون ولا يستمعون إلا لكل مغرض ممن يريد أن يقضى عليهم وعلى أمتهم، إنما هى زوبعة فى كستبان لا أكثر، أن الفارعة أخت أمية، وأبناءه القاسم وأمية وربيعة ووَهْبًا، قد دخلوا مع ثقيف كلها فى الإسلام، وكان القاسم وأمية وربيعة يقولون الشعر، ولم يُؤْثَر عن أى منهم ولا من غيرهم ممن كان يمتّ بصلة نسب إلى أميّة أية كلمة تومئ مجرد إيماء إلى أن الرسول يمكن (يمكن فقط) أن يكون قد استفاد من شعر ذلك الشاعر على أى نحو من الأنحاء، ودعك من أن مجرد اعتناقهم الإسلام هو فى حد ذاته برهان على تكذيبهم بأبيهم وانحيازهم إلى محمد، وهو ما ينقض ما يهرف به الأغبياء المحترقون حقدًا على دين محمد من أن القرآن هو فى بعض جوانبه اقتباس من شعر متحنّف الطائف. كما أن كثيرا من العرب قد ارتدّ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان لكل قبيلة تعلاتها السخيفة التى تحاول أن تسوّغ بها هذه الردة، لكننا لم نسمع قطّ أن أحدا ممن ارتدّ قد فتح هذا الموضوع. بل إن قبيلة ثقيف قد هَمَّتْ بالارتداد، لولا أن عثمان بن العاص كرّه إليهم الإقدام على مثل ذلك التصرف الذى لا يليق، فما كان منهم إلا أن فاؤوا إلى رشدهم ولم يعودوا إليها، بل كان منهم كثيرون حاربوا المرتدّين بكل إخلاص. وهنا أيضا لم نسمع أية نأمة حول الاستفادة المحمدية المزعومة من شعر أمية! ليس ذلك فحسب، فهناك، كما أشار د. جواد على (فى كتابه: "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"/ 6/ 493)، يوحنا الدمشقى مثلا، وهو من أوائل من كتب من النصارى مهاجما الإسلام، وكان معاصرا لدولة بنى أمية. أفلو كان لهذه الشبهة أىّ ظل من الحقيقة مهما ضَؤُل، أكان هذا الراهب المتعصب على الإسلام، والذى يريد أن يهدمه على رؤوس أصحابه ويثبت بكل وسيلة أن محمدا لم يكن نبيًّا صادقًا، يُفْلِت تلك السانحة الغالية ويسكت فلا يستخدم هذه الورقة الجاهزة والرابحة بكل يقين؟
بهذا تكون القضية قد ظهرت على وجهها الحقيقى: فلا أمية ولا أى واحد من أبنائه أو أقاربه أو قبيلته أو حتى من العرب، بل ولا من النصارى واليهود الذين عاصروا النبى أو جاؤوا بعده بقليل، قد أثار هذا الأمر على أى وضع. أليس لنا الحق بعدئذ فى أن نصف من يفتح هذا الموضوع الآن بالرقاعة والوقاحة؟ إن ذلك بمثابة رفع دعوى من غير ذى صفة، بل من شخص لا يستند إلى أى توكيل من أىٍّ من أصحاب الشأن رغم أن الظروف كلها من شأنها أن تدفع أصحاب الشأن هؤلاء إلى الكلام لو كان لتلك المزاعم أساسٌ أىّ أساس! خلاصة القول إنه ليس أمامنا فى هذه المسالة إلا أمران: فإما قلنا بزيف نسبة هذه الأشعار إلى أمية، وإما قلنا إنه قد نظمها تقليدا لما جاء فى القرآن. لكن د. جواد على يرفض الاحتمال الثانى ولا يرى إلا احتمالا واحدا هو زيف الأشعار المعزوّة إلى أمية. ومن بين ما اعتمد عليه فى هذا الرأى أن النبى عليه السلام لم يتهم أمية بالأخذ منه (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/491). وأنا، وإن كنت أميل إلى رأى الأستاذ الدكتور، لا أستطيع أن أنبذ الرأى الآخر مائة فى المائة لعدم توفر دليل قاطع على صحته، ولكيلا أترك فرصة لأى جَعْجَاع يريد أن يُجْلِب على القرآن والرسول، فكان لا بد أن أسدّ هذه الثغرة. ومن هنا فإنى أجيب على الحجة التى ساقها د. جواد بالقول إن النبى عليه السلام أكبر من أن يقف عند هذه الأشياء، وبخاصة أنه قد نزل عليه القرآن كى يفيد منه الناسُ أيا كان نوع تلك الإفادة لا ليشمخ به عليهم. ثم إن القرآن ليس ملكا للرسول بل هو كتاب الله، فماذا كان يمكن للرسول أن يقول لأمية فى هذه الحالة، وبالذات إذا علمنا أن أمية لم يواجهه بل اكتفى بالازورار؟ وحتى هذا الازورار لم يكن كاملا، فقد جاء فى بعض الروايات أنه وفد عليه ذات مرة واستمع منه إلى سورة "يس"، وشهد له بالحق، وأنه، عند عودته من الشام، قد أخذ طريقه إلى المدينة ليعلن الدخول فى دين محمد لولا تحريض المشركين له بإثارة نقمته على الرسول جرّاء مقتل بعض أقاربه على يد المسلمين فى بدر حسبما جاء فى "الإصابة" لابن حجر و"مجمع البيان" للطَّبَرْسِىّ وغيرهما (د. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 486). أما إذا كان لا بد من أن يردّ عليه النبى رغم ذلك كله، أفلا يكفينا ما رُوِىَ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله فيه: "آمن شعره، وكفر قلبه" أو "آمن لسانه، وكفر قلبه" (صحيح مسلم من كتاب "الشعر". وقد أورده الدكتور جواد نفسه فى "المفصّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام "/ 485)؟ إذ معنى "آمن شعره أو لسانه" أنه كان يأخذ ما جاء فى القرآن ويردّده فى شعره ترديد المؤمن به، لكن حسده له عليه السلام قد منعه أن يعلن ذلك بصفة رسمية ونهائية، وهذا معنى كفران قلبه. أما الاحتمال الثالث الذى طرحه بعض المستشرقين، كالمستشرق الألمانى شولتس ناشر ديوان أمية، من أن النبى وأمية قد استقيا كلاهما من مصدر ثالث مشترك فهو احتمال ليس له رِجْلان يمشى عليهما، إذ أين ذلك المصدر المشترك؟ ولِمَ لَمْ يظهر طوال كل هاتيك القرون؟ وكيف وقع كل منهما عليه، وبينهما كل هذا البعد المكانى والنفسى؟ ثم لماذا هما وحدهما بالذات
(((((((((((((((((((((((((((((((الانتصار لرسول الله ضد قُوَى الكفر والسفالة وقلة الأدب: ))))))))))):د.إبراهيم عوض
ه
استعلن القوم فى المهجر بقلة الأدب والسفالة التى كانوا يخفونها تحت رداء الرقة والسماحة والمحبة الكاذبة، وأخذوا يشتمون رسول الله أبشع الشتائم: فهو مرة الرسول المخنَّث، ومرة الرسول النّكَّاح، ومرة الشيطان الكافر المنافق القاتل الزانى اللص. كما سَمَّوْا كتاب الله
قرآن سافو"، و"قرآن رابسو"، و"الوحى الشيطانى"، ووصفوا المسلمين بأنهم كفرة منافقون زناة أولاد زانيات، وألفوا قرآنا كاذبا مزيفا وأطلقوا عليه "الفرقان الحق" تصورا من الأوغاد الأوباش أن بمقدورهم إزاحة كتاب الله وإحلال هذا العهر محله. ولم يكتفوا بهذا بل يرسلون إلينا بخطابات مشباكية ويصرخون فى الفضائيات يهددوننا بأمريكا التى ستأتى وتمحقنا وتعيد دين الله إلى البلاد التى جاء منها، وكأن دينهم صناعة مصرية ولم يأت هو أيضا من خلف الحدود، فضلا عن أن الإسلام لم يتعرض لما تعرض له دينهم من عبث وتحريف... إلى آخر ما يفعلون مما يدل على أنهم قد فقدوا عقولهم وليس فى أيديهم شىء يمكن أن يجادلوا به. وقد كنا نسمع هذا كله ونقرؤه وأكثر منه ثم نسكت ونقول: إذا كان هؤلاء الشراميط مجانين فلنكن نحن عقلاء. ويبدو أن ذلك الموقف المتسامى قد غرَّهم فظنوا أن الساحة خالية لهم يقولون فى ربنا ونبينا وكتابنا وفينا نحن أنفسنا وفى أمهاتنا وآبائنا ما يشاؤون دون رقيب أو حسيب. لكن الكيل قد فاض، فكان لا بد من الرد على هذه السفالات والبذاءات. وفى القرآن الكريم: "فمن اعتدى عليكم فاعْتَدُوا عليه بمثل ما اعْتَدَى عليكم"، "وإنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"، وفى الأمثال والحِكَم التى يرددها العقلاء من جيل إلى جيل: "الشر بالشر، والبادئ أظلم". وفى هذه الهوجة كتب القُمّص المنكوح فى موقعه المعروف على المشباك كلمة بعنوان "بين السيد المسيح والنبى محمد فى القرآن والإنجيل" يقارن فيها بين عيسى بن مريم والرسول الكريم بغية الوصول إلى أن ثمة فرقا شاسعا لا يمكن اجتيازه بين المسيح (الله أو ابن الله) وبين محمد، الذى ينكر القُمّص المنكوح نبوّته كفرا منه وحمقا سيورده بمشيئة الله موارد الجحيم إلا إذا كتب الله له توبةً قبل أن يغرغر. وتقوم الكلمة المأبونة كصاحبها على أساس أن القرآن الكريم يقول فى المسيح كذا وكذا مما لم يذكره لمحمد، وهو ما يدل فى نظر المأبون على أن محمدا رجل كذاب، وأن عيسى بن مريم إله أو ابن للإله، وذلك على النحو التالى:
"المسيح فى القرآن هو:
1ـ كلمة الله 2ـ وروح منه 3ـ آية من الله
4ـ بلا مساس من البشر 5ـ وأنه تكلم فى المهد 6ـ وخلق طيراً
7ـ شفى المرضى 8ـ أقام موتى 9ـ تنبأ بالغيب
10ـ مؤيد بالروح القدس 11ـ مباركاً 12ـ خلت من قبله الرسل
13ـ ممسوح من الأوزار والخطايا 14ـ صعد إلى السموات 15ـ سيأتى حكماً مقسطاً
16 ـ وأنه وجيهاً فى الدنيا والآخرة". ودائما ما يختم الأحمق كلامه فى كل موضوع من هذه المواضيع بالسؤال التالى: وماذا عن محمد؟ وهو سؤال لا يحتاج إلى شرح ما يحمل فى طياته من مغزًى كما هو بَيِّنٌ واضح. وسوف نتناول ما قاله هذا المنكوح بمنطق باتر لا يفهمه لا هو ولا أمثاله ممن تعودوا على الإيمان بما لا يعقلون، بل يرددون ما يُلْقَى إليهم دون وعى ولا إدراك ولا ذوق.
وسنبدأ بما قاله عن وصف القرآن للسيد المسيح بأنه "كلمة الله". وهذا كلامه بنصّه: "المسيح هو كلمة الله : (1) (النساء 4: 171) "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه". (2) (سورة آل عمران 3: 45) "إذ قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشرك بكلمة منه، إسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً فى الدنيا والآخرة ومن المقربين".(3) (يوحنا 1: 1،2،14) "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله. كان فى البدء عند الله. والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب". (4) معنى الكلمة فى اللغة اليونانية التى كُتب بها الكتاب المقدس هى : لوغوس: أى عقل الله الناطق". والواقع أننى لا أدرى كيف يمكن الوصول إلى النتيجة التى يريدها هذا الأفاك من النصوص القرآنية التى أوردها. إن القرآن يؤكد أن المسيح عليه السلام لم يكن سوى رسول، أى أنه لم يكن إلها أو ابن إله، إذ ليس للقَصْر فى هذا الموضع إلا ذلك المعنى. بل إن مجرد كونه رسولا ليس له من معنى إلا أنه كان بشرا، فقد جاء فى القرآن عن الرسل قوله سبحانه وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نُوحِى إليهم" (يوسف/ 109، والنحل/ 43)، "ولقد أرسلنا رُسُلاً من قَبْلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" (الرعد/ 38)، "يا بنى آدم، إمّا يأتينّكم رسل منكم (أى بشر مثلكم)..." (الأعراف/ 35). أى أن الرسل لم يُبْعَثوا إلا من البشر، سواء قلنا إن "الرجال" هنا معناها "البشر" على وجه العموم (جمع "رَجُل" و"رَجُلَة") أو "الذكور" منهم خاصة. ذلك أن الوثنيين كانوا يستنكرون أن يكون الرسول من البشر، قائلين: "أَبَعَث اللهُ بشرًا رسولا؟" (الإسراء/ 94)، فرَدَّ القرآنُ عليهم: "قل: لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنّين لنزّلنا عليهم من السماء مَلَكًا رسولا" (الإسراء/ 95). وبالمثل يقع النص التالى قريبا من هذا المعنى: "وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ " (الأنعام/ 8- 9). فمعنى أن المسيح عليه السلام لم يكن سوى رسول أنه كان بشرا من البشر. وقد قال القرآن هذا ردًّا على كفر النصارى الذين ألّهوه عليه السلام كما هو معروف، لكن زيكو مزازيكو يظن بخيابته أنه يستطيع خداع القراء، على حين أنه لا يخدع إلا نفسه ومن على شاكلته ممن يعيشون على الكذب والتدليس. ويا ليته تدليس ذكى، إذن لكنا أُعْجِبْنا ببهلوانيته وتنطيطه، لكنه تدليس غبى مثل صاحبه لا يبعث على الإعجاب، بل على البصق على وجه المدلِّس الكذاب!
أما وصف القرآن له عليه السلام بأنه كلمة من الله فمعناه أنه قد خُلِق بالأمر المباشر لأنه لم تكتمل له الأسباب الطبيعية التى تحتاجها ولادة طفل جديد: وهى الاتصال الجنسى بين رجل وامرأة، وتأهّل كليهما للإنجاب، ووقوع الاتصال فى الأوقات التى يمكن أن يتم فيها الحمل، وغير ذلك. والمقصود أن الله قد قال له: "كن" فكان، وهو نفسه الحال فى خَلْق آدم: "إنّ مَثَلُ عيسى عند الله كمَثَل آدم. خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون" (آل عمران/ 59). إن الكذاب البهلوان يحاول الاستشهاد بالقرآن، فكان من الواجب عليه الأمانة فى النقل عن القرآن وعدم اقتطاع أى نص من نصوصه من سياقه العام ولا من سياقه فى الآيات التى تحيط به...إلخ.
ثم إن المدلّس البهلوان يسوق لنا كلام يوحنا ليدلل به على ألوهية المسيح عليه السلام، وهو: "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله. والكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب" (يوحنا 1: 1، 2، 14). وهذا كلام مضحك لا يوصّل لشىء مما يريد أن يدلّس به علينا، إذ إن يوحنا يتناقض من كلمة للكلمة التى تليها مباشرة، وليس عنده البراعة فى حَبْك البكش الذى يمارسه للأسف. كيف؟ لقد قال فى البداية إن الكلمة كان (أو كانت) عند الله. أى أنها لم تكن هى الله، بل عند الله. ذلك أن الشىء لا يكون عند نفسه، بل عند غيره. لكن يوحنا سرعان ما ينسى فيقول إن الكلمة التى كانت عند الله هى الله ذاته. الله أكبر! ثم لا يكتفى جنابه بهذا أيضا بل يمضى فى التخبط قائلا إن الكلمة كانت كالابن الوحيد للأب (أو "الآب")، وكل ذلك فى سطرين اثنين لا غير! ومع ذلك كله فإنه لا يكتفى بهذا ويكفأ على الخبر الفاضح ماجورا، بل يأبى إلا أن تكون الفضيحة من النوع ذى الجلاجل، أى الأجراس والشخاليل، حتى يمكن أى راقصة شرقية أن تتشخلع عليها وتأخذ راحتها على الآخر وتكون الليلة ليلة فُلَّلِيّة! ولهذا نراه يقول إن معنى "الكلمة" فى اللغة اليونانية التى كُتب بها الكتاب المقدس هى "لوغوس"، أى عقل الله الناطق. الله أكبر مرة أخرى وثالثة ورابعة وعاشرة ومائة وألفا ومليونا... إلى ما شاء الله!
معنى هذا أن البكّاش قد جعل هو ويوحناه من "الكلمة" شيئا عند الله، ثم عادا فجعلاها هى الله ذاته، ثم عادا فجعلاها ابنه الوحيد، ثم عادا فجعلاها عقل الله (عقل الله الناطق من فضلك، وليس عقله الأخرس الأبكم. ترى هل هناك عقل ناطق وعقل ساكت؟ ولمن؟ لله سبحانه!). فتعالَوْا "أيها المتعبون والثقيلى الأحمال" نحاول معا أن نحل هذه الفزورة (أو "الحزورة" كما يقول بعض الأطفال)! أما إنك يا زيكو "لَوَضِيعٌ ومتواضعُ العقل" كما جاء فى كتابك المقدس، مع استبدال "الوضيع" بــ"الوديع" و"العقل" بــ"القلب" لتناسب الموقف المضحك الذى نحن فيه! طيب يا وضيع يا متواضع العقل، ألم تفكر فيما سيحدث لله حين يتركه عقله ويأتى فيتجسد فى دنيانا؟ ترى كيف سيدبر سبحانه العالم بدون عقل؟ ألا خيبة الله على عقلك التَرَلَّلِى أنت وقائل هذا السخف! يا أيها الوضيع المتواضع العقل، إننا الآن فى القرن الحادى والعشرين، وأنت وأمثالك ما زلتم ترددون هذا الكلام المضحك الذى تحاول أن تضحك علينا به ويقول الغربيون إنهم قد تجاوزوه، على حين أنهم فى أوروبا و"أمريكا يا ويكا" يشجعونك أنت وأشباهك من المعوقين عقليا ونفسيا على ترديد هذا الكلام! لا وإيه؟ إنهم يشجعونكم على محاولة تنصير أولادنا وبناتنا وتحويلهم إلى مجموعة من المعاتيه المخابيل عَبَدة الخِرْفان ذات الجِزّة الصوفية المعتبرة التى يمكن بعد ذبحها وأكلها أن نتخذها "فروة" نفرشها تحت أقدامنا فى ليالى الشتاء الباردة فنكون قد استفدنا من الخروف لحما وصوفا ولم نرم منه إلا المصارين والأظلاف والقرون! لا بل إننا لنستطيع أن نصنع من المصارين (بعد غسلها جيدا) سجقا لذيذا، ومن الأظلاف والقرون غِرَاءً نلصق به شفتيك النجستين فلا تزعجنا بعدها بكلامك هذا الأبله!
ليس ذلك فقط، بل إن الوغد ليتكلف خفة الظل تكلفًا رغم ثقل روحه، فيسوق قوله تعالى: "قل: سبحان ربى! هل كنت إلا بشرًا رسولاً؟" (الإسراء/ 93)، "إنما أنا بشرٌ مثلكم" (الكهف/ 110، وفُصِّلَتْ/ 6) دليلا على أن القرآن، فى الوقت الذى يحكم فيه لعيسى أنه ابن الله أو الله نفسه، يقول عن محمد إنه ليس سوى رسول. وهذا كله كذب وخداع لا أدرى كيف يجرؤ أى إنسان يحترم نفسه ويقول إنه على الحق أن يُقْدِم عليه! أيمكن أن يُقْبِل مثل ذلك الشخص على الكذب بهذا الأسلوب المفضوح السخيف؟ لقد كان على الرجل، إذا تنازلنا وقلنا عن أمثاله إنهم رجال، أن يُطْلِع قارئه على الآيات القرآنية الكريمة التى تنفى الألوهية تماما عن عيسى عليه السلام وتؤكد أنه مجرد إنسان كسائر الناس، يأكل ويشرب ويدخل الحمام ليعمل كما يعمل الناس، وأنتم تعرفون بطبيعة الحال ماذا يعمل الناس فى الحمام! أليس كذلك؟ أم أقول لكم ماذا كان يفعل هناك؟ لا، لا داعى للإحراج، ولا داعى لأن تدفعونى إلى التصريح بأنه كان يتبول ويتبرز، لأن التصريح هنا لا يصح! ثم أى إله ذلك الذى كان يعملها على روحه وهو طفل صغير فتمسحها له أمه بخرقة؟ يا له من إله! أم تراكم تقولون إنه كان يتبول عصيرًا، ويتبرز كفتةً وكبابًا؟ لكنه لن يكون حينئذ أيضا إلا بشرا لأن الآلهة لا تتبول ولا تتبرز على أى نحو! ثم يجد المتاعيس فى أنفسهم جرأة ليشتموا رسولنا ويقولوا عنه: "الرسول النكّاح". طيب، وما له؟ فلم إذن خُلِق الرجال إذا لم ينكحوا النساء؟ أم تراهم يُنْكَحون كالنساء مثلما يُنْكَح أشباه هذا الجلف من القساوسة والأساقفة ممن كانوا طول عمرهم يُنْكَحون، ثم لم يعودوا الآن فى بلاد الغرب يهتمون بالتوارى عن الأنظار والاستخفاء بهذا الرجس عن عيون الناس فأصبحوا يعلنون أنهم يُنْكَحون، مع أننا نعرف أنهم كانوا كذلك من قديم الأزل، لأن الإنسان إما ناكح أو منكوح يا زيكو يا أبا المناكيح!
قال تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة/ 72- 77)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المائدة/ 116- 117)، "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة/ 30- 31). كما مر قبل قليل أن عيسى مثل آدم: كلاهما مخلوق بكلمة "كن" لا من اتصال رجل بامرأة!
ويستمر زيكو مزازيكو فى تخاريفه التى يخال أنها يمكن أن تجوز على العقول، غير دارٍ أن عقول الآخرين ليست كلها كعقله الضحل المتهافت، فتراه يستشهد على زعمه أن المسيح يختلف عن الرسول الكريم (فى أنه روح، وبالتالى فإنه إله لا إنسان) بقوله جل جلاله: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (النساء/ 171). ثم يعقب قائلا إن "البعض يعترض بأن معنى "روح" الله أى "رحمة" من الله. والواقع أنا لا أدرى لماذا يموّه المسلمون الحقائق. ففى "المعجم الوسيط" (الجزء الأول ص 380) تجد هناك كلمتين : 1ـ (الرَّوْحُ): [بفتح الراء وسكون الواو] معناها: الراحة أو الرحمة. أو نسيم الريح. 2ـ (الرُّوحُ): [بضم الراء ومد الواو] معناها: النفس. و(رُوحُ القدُس): [عند النصارى] الأقنوم الثالث. ويقول البعض أن المقصود بروح القدس فى القرآن هو جبريل عليه السلام (سيأتى الحديث عن ذلك بعد قليل). وقد يعترض البعض أيضاً بأن مَثَل المسيح أنه روح من الله كمَثَل آدم الذى قيل عنه: "ونفختُ فيه من روحى" [سورة الحجر/ 29، وسورة ص/ 72]. فدعنا نناقش هذا الرأى. بمقارنة ما قيل عن المسيح وعن آدم نجد اختلافاً كبيراً:
المسيح آدم
إنما المسيح ... روح منه ونفختُ فيه من روحى
ومعنى روح منه : يتطابق مع الآيات القرآنية التى تتحدث عن تأييد السيد المسيح بالروح القدس، وهو فى المهد، كما توضح الآيات التالية … هذا التعبير الذى قيل عن آدم ليس كالتعبير الذى قيل عن المسيح، بل كالتعبير الذى قيل عن مريم: [الأنبياء/ 91] "والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" فهل نحن نؤله العذراء؟
ومن الواضح الجلى أن الرجل قد غُشِّىَ على عقله تماما، إذ مهما يكن معنى الروح فى كلام القرآن عن عيسى عليه السلام فلا ريب أن "الروح" هنا هى نفسها الروح فى حال سائر البشر، أما ما يقوله هو فكلام فارغ لا سبيل إلى صحته أبدا. كيف؟ يقول زكزك إن القرآن يقول عن آدم: "ونفحتُ فيه من روحى"، مثلما يقول عن مريم: "ونفخنا فيها من روحنا". أى أن النفخ، حسبما يقول، لم يتم فى آدم وعيسى، بل فى آدم ومريم، فلا وجه للشَّبَه إذن بين آدم وعيسى. أتعرف أيها القارئ ما الذى يترتب على هذا؟ الذى يترتب عليه هو أن يكون الخارج من آدم ومريم متشابهين، أى أن البشر جميعا (وهم الذين خرجوا من صلب آدم) يشبهون عيسى (الذى خرج من رحم مريم). وعلى هذا فإما أن نقول إن الطرفين جميعا (البشر من ناحية، وعيسى من الناحية الأخرى) آلهة إذا قلنا إن "الروح" هنا تعنى "الألوهية"، أو أن نقول إنهما جميعا بشر على أساس أن "الروح" تعنى "الحياة والوعى والإرادة وما إلى ذلك". واختر يا زيكو ما تحب، ولكن عليك أن تعرف أن الطريق أمامك إلى التمييز بين عيسى عليه السلام وأبناء آدم مسدود، إذ هما شىء واحد. ويبقى آدم نفسه: فأما الإسلام فيقول إنه بشر مخلوق من طين، وأما الكتاب المقدس فيقول فى نسبه إنه ابن الله، فى الوقت الذى ينسب عيسى إلى يوسف النجار. يا ألطاف السماوات! هكذا؟ نعم " هكذا ببساطة وبكل وضوح!": "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي 24 بن متثات بن لاوي بن ملكي بن ينّا بن يوسف 25 بن متاثيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي بن نجّاي 26 بن مآث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا 27 بن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شألتيئيل بن نيري 28 بن ملكي بن أدي بن قصم بن ألمودام بن عير 29 بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي 30 بن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن ألياقيم 31 بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود 32 بن يسّى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون 33 بن عميناداب بن ارام بن حصرون بن فارص بن يهوذا 34 بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم بن تارح بن ناحور 35 بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح 36 بن قينان بن ارفكشاد بن سام بن نوح بن لامك 37 بن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان 38 بن انوش بن شيت بن آدم ابن الله" (لوقا/ 3). فالمسيح، كما هو واضح من النص، لم يُنْسَب لله، بل الذى نُسِبَ لله هو آدم! يعنى؟ يعنى أن الكتاب المقدس نفسه يضع آدم فى مكانة أعلى بما لا يقاس بالنسبة للمسيح، عليهما جميعا السلام. وغنى عن القول إننا لا نولى هذا الكلام المضحك شيئا من الاهتمام على الإطلاق!
وفى النص التالى، وهو عبارة عن الإصحاح الأول كله من إنجيل متى، نقرأ: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم . 2 ابراهيم ولد اسحق . واسحق ولد يعقوب . ويعقوب ولد يهوذا واخوته . 3 ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار . وفارص ولد حصرون . وحصرون ولد
ارام . 4 وارام ولد عميناداب . وعميناداب ولد نحشون . ونحشون ولد سلمون . 5 وسلمون ولد بوعز من راحاب . وبوعز ولد عوبيد من راعوث . وعوبيد ولد يسى . 6 ويسى ولد داود الملك . وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا. 7 وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا . وابيا ولد آسا . 8 وآسا ولد يهوشافاط . ويهوشافاط ولد يورام . ويورام ولد عزيا. 9 وعزيا ولد يوثام . ويوثام ولد آحاز . وآحاز ولد حزقيا . 10 وحزقيا ولد منسّى . ومنسّى ولد آمون . وآمون ولد يوشيا . 11 ويوشيا ولد يكنيا واخوته عند سبي بابل . 12 وبعد سبي بابل يكنيا ولد شألتيئيل . وشألتيئيل ولد زربابل . 13 وزربابل ولد ابيهود . وابيهود ولد الياقيم . والياقيم ولد عازور . 14 وعازور ولد صادوق . وصادوق ولد اخيم. واخيم ولد اليود . 15 واليود ولد أليعازر . وأليعازر ولد متان . ومتان ولد يعقوب . 16 ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح . 17 فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا . ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا 18 اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا . لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس . 19 فيوسف رجلها اذ كان بارا ولم يشأ ان يشهرها اراد تخليتها سرّا . 20 ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك . لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس . 21 فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلّص شعبه من خطاياهم . 22 وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل . 23 هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا 24 فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب واخذ امرأته . 25 ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر . ودعا اسمه يسوع". ولاحظ كيف أن سلسلة نسب المسيح تمر قبله مباشرة بيوسف النجار. لماذا؟ أترك الجواب لعبقرية زكازيكو تفكر فيه على مهل! إذن فآدم (وليس المسيح) هو ابن الله، أما المسيح فابن ... ابن من؟ حزّر فزّر! وبالمناسبة فلم يحدث قط أن سُمِّىَ المسيح عليه السلام: "عمّانوئيل" من أى إنسان، رغم أن هذا الاسم يُطْلَق على كثير من الناس الذين ليسوا بأبناء لله! كما أن النص يقول إنها ستسميه: "يسوع" لكى تتحقق النبوءة القديمة التى تقول إنه سيسمَّى: "عمانوئيل"! أرأيتم الضلال والغباء والعمى الحيسى؟ فكأن الله يأبى إلا أن يخزى القوم فى كل ما يقولون كذبا وبهتانا عن عيسى وبنوته لله سبحانه، ومن فمهم وبلسانهم نفسه يُدَانُون!
وكان الناس جميعا يقولون إن أبا عيسى هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة! لقد كتب يوحنا فى إنجيله (1 / 5) أن الناس كانت تسميه: "ابن يوسف"، وهو نفس ما قاله متى (1 / 55) ولوقا (3 / 23، و 4/ 22)، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم. بل إن لوقا نفسه قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما "أبواه" أو "أبوه وأمه" ( 2 / 27، 33، 41، 42 ). كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه (لوقا /2 /48). وقد رأينا كيف أن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم، وهو إنجيل متى، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ("رجل مريم" كما سماه مؤلف هذا الإنجيل) ثم تتوقف عنده. فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة...؟ لقد توقعتُ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس لـه أب من البشر، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا، فعرفتُ أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا.
أما إذا أصر الرجل (الرجل مجازا فقط) على القول بأن عيسى هو ابن الله، فليكن صادقا وشريفا مرة واحدة فيذكر أن كلمة "ابن الله" أو "أبناء الله" قد أُطْلِقت فى كتابه المقدس على بَشَرٍ كثيرين منذ أول الخليقة حين سُمِّىَ آدم كما رأينا: "ابن الله". وهذه شواهد على ما نقول، وهى أكبر برهان على أن كل ما يزعمه القوم هو كلام باطل: باطل بأدلة من كتابهم المقدس نفسه لا من العقل والمنطق فحسب، فضلا عن القرآن الكريم: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض وولد لهم بنات 2 ان ابناء الله رأوا بنات الناس انهنّ حسنات. فاتّخذوا لانفسهم نساء من كل ما اختاروا... وبعد ذلك ايضا اذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم اولادا . هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم 4" (تكوين/ 6)، "قدموا للرب يا ابناء الله قدموا للرب مجدا وعزّا" (مزمور/ 1/ 29)، ” من في السماء يعادل الرب . من يشبه الرب بين ابناء الله" (مزمور/ 6/ 89)، "اسرائيل ابني البِكْر" (خروج/ 1/ 22، و4/ 22- 23). كما يصف الله داود قائلا: "أنت ابنى. أنا اليوم ولدتك". (مزمور/ 2/ 7)، ويبتهل أشعيا له بقوله: "أنت أبونا" (أشعيا/ 63/ 15- 16)، كما يقول المسيح ذاته: ”طوبى لصانعي السلام. لانهم أبناء الله يُدْعَوْن" (متى/ 9/ 5)، "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى فى السماوات" (متى/ 6/ 1)، ويقول النصارى فى صلواتهم: "أبانا الذى فى السماوات..."، فضلا عن أن المسيح قد أخذه الشيطان ليجربه فوق الجبل ويدفعه إلى السجود له، وليس من المعقول أن يجرب الشيطان الله ليرى أيمكن أن يسجد له الله أم لا، مثلما ليس من المعقول أن يكون رد الله على الشيطان هنا هو: "اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد"، وهو ما يعنى بكل جلاء أن عيسى كان ينظر لله على أنه "ربه" لا على أنه "هو نفسه" ولا على أنه "أبوه"، وعلى أن من الواجب عليه أن يسجد له. كما أنه عليه السلام قد سمَّى نفسه أيضا: "ابن الإنسان" (متى/ 11/ 19)، وهى ذات الكلمة التى استخدمها للإنسان كجنس (متى/ 12/ 8). وفوق ذلك فإن له، عليه السلام، كلمة ذات مغزى خطير، إذ يُفْهَم منها أن "البنوّة" التى يعبِّر بها أحيانا عن علاقته بالله ليست شيئا آخر سوى الطاعة المخلصة له سبحانه والانصياع لإرادته انصياعا تاما. ومن هنا نراه يقول عن كل من يفعلون مثلما يفعل إنهم إخوته وأمه، كما هو الحال عندما أخبروه ذات مرة، وكان بداخل أحد البيوت، بأن أمه وإخوته بالخارج يريدونه، فأجابهم قائلا: "من هى أمى؟ ومن هم إخوتى؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمى وإخوتى، لأن من يصنع مشيئة أبى الذى فى السماوات هو أخى وأختى وأمى" (متى/ 12/ 47- 49). وهى إجابة تدل على أنه أن أمه لم تكن تستحق بنوته لها ولا أن إِخْوَته يستحقون أُخُوّته لهم، وذلك لما يراه من تفريطها وتفريطهم فى الإيمان بدعوته. وهو ملحظ فى منتهى الخطورة، إذ ها هى ذى أم الإله يتبرأ منها ابنها ولا يراها جديرة بأن يجمع بينه وبينها نسب واحد. يا لها من ألوهية رخيصة! ويا له من نسب لا يشرِّف!
بعد ذلك كله فإن الجواب على السؤال التالى الذى طرحه الملتاث: "هل قيل فى القرآن كله إن محمداً هو روح من الله؟" هو: "لم يُقَلْ ذلك فى القرآن عن محمد وحده، بل قيل عن آدم أبى البشر، ومن ثم عن البشر كلهم بما فيهم محمد عليه السلام كما رأينا. والسبب هو أن آدم لم يُخْلَق بالطريق الذى أصبح هو الطريق المعتاد بعد خلق آدم وحواء، أى من خلال رجل وامرأة، فلذلك نفخ الله فيه مباشرة من روحه، وهو ما تكرر فى حالة السيد المسيح عليه السلام، وإن كان على نحو أضيق، إذ كانت له أم، بخلاف آدم، الذى لم يكن له أب ولا أم.
بل إننا لنذهب فى تحدى زيكو بالتنبيه إلى أنهم إذا كانوا يتخذون من خلق المسيح دون أب دليلا على أنه ابن الله، فليمضوا مع منطقهم إلى آخر المدى ويجعلوا آدم هو الله نفسه (أستغفر الله!) لا ابنه فقط لأنه لم يكن له بابا ولا ماما، فهو إذن يتفوق على المسيح من هذه الناحية كما هو واضح إن كان فى هذا تفوق على الإطلاق، وهو ما لا نسلم به، لكننا نتبنى منطق الأبعد لقطع الطريق عليه وعلى بهلوانياته! ثم إن المسكين يستمر فى سياسة البكش فيقول إن قوله تعالى على لسان مريم تخاطب الروح حين تمثل لها بشرا كى ينفخ فيها: "أَنَّى يكون لى غلامٌ، ولم يَمْسَسْنى بَشَرٌ؟" معناها أنه عليه السلام "ليس من بشر". وهذا غير صحيح البتة، فقد جاء عليه السلام من بشر، وهى مريم، التى حملت به وحفظته فى رحمها وتغذى من دمها الذى يجرى فى عروقها تسعة أشهر، ثم وضعته وأرضعته من لبنها الذى فى صدرها، إلا أنه لم يكن له أب. وهذا كل ما هنالك! فإذا قلت: "النفخة"، كان جوابنا: لكن آدم تم النفخ فيه دون أن يكون هناك رَحِمٌ يحمله ولا صدرٌ يرضعه ولا أم تربّيه...، وهذا أَوْغَل فى الخروج عن السنن المعتادة فى الخلق!
بعد ذلك ينتقل زيكو إلى نقطة أخرى هى تأييد المسيح بروح القدس، الذى يجعله دليلا على أن عيسى يتفوق على محمد عليه السلام، وهذا نص كلامه: "التأييد بالروح القدس: (البقرة 2: 78، 253) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدُس". وللرد على ذلك نورد الأدلة والبراهين القاطعة التى تثبت بطلان هذا الإدعاء، من هذه الأدلة : 1ـ [سورة المائدة 5: 110] "إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلا". 2ـ فإن هذه الآية غاية فى الأهمية فى دلالتها، إذ توضح أن تأييد المسيح بروح القدس هو منذ أن كان فى المهد صبيا، ولذلك كلم الناس فى هذه السن. فكيف يكون الروح القدس هو جبريل، وهو الذى نطق على لسان من فى المهد؟ 3ـ كيف يتفق هذا مع ما جاء فى [سورة يوسف 12: 87] "ولا تيأسوا من روح الله ، ولا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرين" فهل معنى روح الله هنا هو جبريل ؟ 4ـ وقد جاء تفسير روح الله فى [تفسير ابن كثير ج2 ص260] "لا تيأسوا أى لا تقطعوا رجاءكم وأملكم (من روح الله) أى من الله". 5ـ [وأيضاً تفسير ابن كثير ج1 ص87] "روح منه: أى اسم الله الأعظم". 6ـ وهناك آيات تشهد أن القدوس هو الله: [سورة الحشر 59: 23] "هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس" وأيضاً فى [سورة الجمعة 62: 1] "يسبح لله ما فى السموات وما فى الأرض الملك القدوس".
وكما يرى القارئ بنفسه، فالرجل يخبص خبصا كثيرا دون عقل أو منطق. إنه يتصرف كقاتل ضُبِط وهو يطعن ضحيته، وقد تضرجت يداه بالدماء، فهو يتخبط ويكذب ويحلف زورا بغية التفلت من قبضة الشرطة والعدالة. ولكن كيف يا زيكو، وقد ضُرِب حولك حصار محكم لا يمكنك الهروب منه. إن الأسداد لتأخذك من كل ناحية. إنه يزعم أن المسيح، بنص القرآن، كان مؤيَّدا بالروح القدس، أما محمد فلا. يريد أن يقول إن عيسى عليه السلام كان إلها أو ابن إله، أما محمد فمجرد بشر عادى. إذن فسيادة جنابه يستشهد بالقرآن، أولم يقرأ إذن فى القرآن قوله تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ (يا رسول الله) فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون* وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل/98- 102)، "وَإِنَّهُ ( أى القرآن) لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (الشعراء/ 192- 195)، "رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ" (غافر/ 15)، "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ (أى عَادَى) اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة/ 22)؟
فكما يرى القارئ العزيز، فإن روح القدس لا يؤيد الرسول الكريم فقط، بل ينزل على قلبه بالقرآن مثلما ينزل على كل الرسل والأنبياء، كما أنه يؤيد المؤمنين الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله. وليكن معنى "الروح القدس" بعد هذا ما يكون، فالمهم أنه لا يختص بعيسى عليه السلام، وعلى هذا لا يمكن اتخاذه ذريعة للقول بتميز عيسى تميز الإله أو ابن الإله عن سائر البشر. أما خلط صاحبنا الأبله فى قوله تعالى: "وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه ِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (الذى يحرّفه على طريقتهم فى التلاعب بكتبهم فيكتبه هكذا: "ولا تيأسوا من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرين" متعمدا عدم ضبط "الروح" لغرض فى نفسه سيتضح للتو، ومبدلا عبارة "إنه لا ييأس" إلى "ولا ييأس"، ومخطئا بجلافة لا تليق إلا بواحد مثله فيكتب: "الكافرين" مكان "الكافرون")، أقول: أما خلطه بين "الرُّوح" (بضم الراء المشددة) كما فى الآيات الآنفة و"الرَّوْح" (بفتح الراء، وهو الراحة والرحمة) رغم أنه سبق أن فرق بينهما قبل قليل، فهو مصيبة المصائب. إنه، كما قلت، بهلوان، ومن ثم لا يثبت على حل ولا على حال، بل كلما رأى ما يظن أنه يمكن أن يخدم قضيته سارع باتخاذه دون أن يعى أنه قد سبق له اتخاذ عكس ذلك تماما.
وعلى أى حال فكيف يا ترى يكون روح الله وروح القدس هو الله؟ كيف يكون روح الله هو الله نفسه، أو يكون "روح القدس" هو "القدوس"؟ لكن إذا تذكرنا ما قلناه عن "كلمة الله" التى كانت "عند" الله، ثم أصبحت بعد قليل هى "الله" ذاته، لتعود مرة أخرى فتكون "وحيد الله"، ثم "عقل الله" عرفنا أن صلاح حال القوم ميؤوس منه، فهم هكذا كانوا، وهكذا سيظلون، ولا أمل فى تغيرهم، وإلا انهار بناؤهم كله لأنه بناء مؤسس على السراب! إن وصف الروح هنا بالقداسة لا ترتِّب للمسيح أية ألوهية أو بنوة لله، وإلا فقد وُصِف الوادى الذى رأى فيه موسى النار بـــ"الوادى المقدس"، مثلما وُصِفت أرض فلسطين بــ"الأرض المقدسة" و"المباركة". أفنجعل منهما أيضا إلهين أو ولدين من أولاد الإله؟ قال عز شأنه على لسان موسى عليه السلام: "يا قوم، ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم" (المائدة/ 21)، وقال جل جلاله مخاطبا موسى: "يا موسى، إنى أنا ربك، فاخلع نعليك. إنك بالوادى المقدَّس طُوًى" (طه/ 12). وعلى أية حال فلم يوصف عيسى عليه السلام فى القرآن بالقداسة، فهل نقول إنه أقل مرتبة وشأنا من وادى الطور وأرض فلسطين؟
كذلك يشير صُوَيْحِبنا إلى وصف القرآن لعيسى عليه السلام بأنه "آية"، متسائلا: هل فى القرآن أيضا أن محمدا آية كالمسيح؟ ولنقرأ ما قال نصًّا: "آية من الله : (1) [سورة المؤمنون 23: 50] "وجعلنا ابن مريم وأمه آية". (2) [سورة الأنبياء 21: 91] "فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين". (3) [سورة مريم 19: 21] "قال كذلك قال ربك هو علىّ هين، ولنجعله آية للناس". (4) [المعجم ج1 ص 35] "آية تعنى: العلامة والإمارة، العبرة، والمعجزة ". وماذا عن محمد؟ هل قيل فى القرآن كله أن محمداً كان آية من الله؟".
وهو بهذا يظن أنه قد وضعنا فى "خانة اليك"، مع أن الكلام الذى يقوله هنا لا يخرج عن الترهات والتفاهات التى يحسب أصحابها الجهلاء أنها هى العلم اللدنى. ولنبدأ على بركة الله فى قَشّ ذلك السخف بِمِقَشّة العلم والعقل فنقول: لقد وَصَفَتْ بعضُ الآيات السيدةَ مريم مع المسيح معا بــ"الآية"، أفنفهم من هذا، بناءً على منطقكم، أنها تساوى المسيح، أى أنها هى أيضا إله؟ فهذه واحدة، أما الثانية فكيف يا أخرق قد فاتك أن الآية (التى تجعل منها قصة وأقصوصة) قد تكون ناقة، أو جرادا وضفادع ودما وقملا، أو طينا وطيرا، أو مائدة طعام، أو جثة فارقتها الروح قد لفظها البحر، أو عصًا تحولت إلى ثعبان، أو عَجْزًا عن النطق... إلخ؟ فهل نجعل الناقة والعصا والقملة والضفدعة والطين والطير آلهة مثلما تريدون أن تجعلوا من وصف عيسى عليه السلام بــ"الآية" دليلا على أنه إله وأنه يتميز من ثم على محمد عليه السلام؟ وهذا إن حصرنا معنى الآية فى المعجزة، وإلا فكل شىء فى العالم من حولنا هو آية على وجود الله وقدرته وحكمته. وقد تكررت الكلمة كثيرا فى القرآن بهذا المعنى كما هو معروف، ومن ذلك قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون"َ (البقرة/ 164)، "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" (النحل/ 10- 13)، "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ " (الروم/ 21- 25)... إلخ. إذن فأين الميزة التى تظن أيها الأبله أن عيسى عليه السلام يتفوق بها هنا على سيد الأنبياء والمرسلين؟ إننا نحب سيدنا عيسى ونجله ونحترمه ونضعه فى العيون منا والقلوب، بل نعد أنفسنا أتباعه الحقيقيين المخلصين، لكننا لا يمكننا القبول بألوهيته، وإلا كفرنا بالله سبحانه وبرسله الكرام الذين إنما أَتَوْا ليَدْعُوا أول شىء إلى وحدانية الله سبحانه وعدم الإشراك به.
والآن لتنظر إلى قوله تعالى فى النصوص التالية التى تشهد لما نقول، وذلك لو كان لك عينان للنظر أو أذنان للسمع، وأشك فى ذلك كثيرا، فعينا البعيد ليستا تنظران، كما أن أذنيه ليستا تسمعان. ذلك أنه قد طُمِس، والعياذ بالله، على سمعه وبصره. يقول صالح عليه السلام لقومه: "وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ" (هود/ 64)، ويقول سبحانه عن قوم فرعون: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ" (الأعراف/ 133)، "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِين"َ (المائدة/ 112- 114)، ويقول تعالى مخاطبا زكريا عليه السلام: "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ ألاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ" (آل عمران/ 41). .. إلخ. ثم إن "الآية" هى شىء يخلقه الله، أى أنها شىء مخلوق لا إله ولا ابن إله! هل رأيت الآن بنفسك، أيها القارئ الكريم، كيف ضاقت بل استحالت على الرجل السبل والمذاهب؟
وينتقل الجاهل إلى نقطة أخرى ليوقع كالعادة نفسه فى مأزق جديد ما كان أغناه عنه لولا حماقته وسخف عقله. إنه يذكر الآيات التى أجراها الله سبحانه على يد عيسى عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام، وهى كلامه فى المهد، وإبراؤه الأكمه والأبرص وشفاؤه المرضى وإحياؤه الموتى وخلقه الطير من الطين بإرادةِ الله وقدرتِه لا بقدرة منه هو ولا بإرادته، فضلا عن تمكينه سبحانه إياه من التنبؤ بما يأكل الناس وما يدّخرونه فى بيوتهم، ثم يتساءل قائلا: وماذا عن محمد؟ يعنى أن الرسول الكريم لا يمكن أن يسامى عيسى عليه السلام هنا أيضا! وهذه مكايدة صغيرة مضحكة، فإن لمحمد عليه السلام معجزاته التى روتها كتب السيرة والأحاديث، وإن كانت من نوع مختلف، مثلما أن لكل من الأنبياء والرسل الآخرين معجزته الخاصة به. أى أن عيسى لا يتميز عن غيره من النبيين والمرسلين هنا أيضا. وهبه انفرد بوقوع المعجزات على يديه دون غيره من الأنبياء والرسل الكرام، أفينبغى أن نعد هذا تميزا منه عليهم؟ لا، لأنه لم يفعل ذلك ولم يستطعه من تلقاء نفسه، بل بقدرة الله سبحانه وإرادته. وهو، قبل هذا وبعد هذا، ليس إلا نبيا من الأنبياء ورسولا من المرسلين، أى عبدا من العباد، وهذا هو المهم لأنه هو جوهر الموضوع، أما وقوع المعجزات أو عدم وقوعها فلا يعنى شيئا ذا بال فى تلك القضية!
أما الإنباء بالغيب ففى القرآن نبوءة بانتصار الروم على الفرس فى بضع سنين، وقد تحققت. وفى القرآن نبوءة بانتصار الإسلام على غيره من الأديان، وقد تحققت. وفى القرآن نبوءة بأن الناس لن تستطيع قتل الرسول عليه السلام، وقد تحققت. وفى القرآن أن الحلى تُسْتَخْرَج من البحر العذب ومن البحر الملح كليهما، وهو ما لم يكن أحد يعرفه فى منطقة الشرق الأوسط على الأقل، ثم اتضح الآن أنه صحيح. وفى القرآن نبوءة بأن عبد العُزَّى عم الرسول سيَصْلَى نارا ذات لهب، وقد تحققت، إذ مات كافرا. وفى الحديث نبوءة بأنه سيأتى يوم على المسلمين تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأَكَلَة على قصعتها، لا من قلة فى العدد، بل لأنهم غُثَاء كغثاء السَّيْل (يعنى: زبالة)، وقد تحققت فى الأعصر الأخيرة، وبخاصة هذه الأيام كما يرى كل من له عينان. وقد قال الرسول ذلك، والمسلمون فى عز قوتهم الإيمانية حينما كان الإسلام لا يزال أخضر غضًّا فى النفوس، وهو ما لم يتصوره الصحابة حينذاك لأنه كان غريبا تمام الغرابة على العقل والمنطق، إذ كان مَدّ الإسلام من العنفوان والجيشان بحيث لم يكن أحد يتصور خلاف ذلك!
وعلى كل حال فليست العبرة بالمعجزات الحسية، وإلا فمن الأنبياء من لم تأت معجزاتهم بالثمرة المرجوة منها لأن أقوامهم قد بَقُوا رغم ذلك متمسّكين بكفرهم وعصيانهم، ومن هؤلاء السيد المسيح، إذ كفر به اليهود إلا القليلين منهم، مما اضطره (حسبما ورد فى أناجيلهم المصنوعة التى ألّفتها أقلام البشر) إلى التحول بدعوته إلى الأمم الأخرى رغم أنه كان فى البداية يستنكر أن يتطلع أى من هذه الأمم إلى مشاركة بنى إسرائيل فى الدعوة التى أتى بها وكان يشبّههم بالكلاب، الذين ينبغى فى رأيه أن يُحْرَموا من الخبز ويُذَادوا عنه لأنه مخصص للأبناء وحدهم. بل لم تنفع المعجزات هنا أيضا، إذ إن هؤلاء قد انحرفوا بالتوحيد الذى أتاهم به عليه السلام وحوّلوه إلى تثليث مثلما فعلت الأمم الوثنية القديمة كالأغارقة والهنود والفرس والمصريين. وأخيرا وليس آخرا، فالمعجزات ليست من البراهين الحاسمة، فعلاوة على عدم استطاعتها تليين القلوب اليابسة والرؤوس الصلبة والرقاب الغليظة وإضاءة النفوس المعتمة كما قلنا، فإنها لا تستطيع أن تغالب الأيام، إذ ما إن يمر زمانها حتى تنصل صورتها فى النفوس ولا يعود لها أى تأثير، بل تصبح مظنة التزييف والتلفيق! وهى فى حالة نبينا، عليه وعلى إخوانه الأنبياء السلام، لم تكن ردا على تحدى الكفار له، بل كانت موجهة إلى المؤمنين (فى الدرجة الأولى على الأقل) تثبيتا لإيمانهم، لا إلى الكفار الذين ثبت أنهم لا يصيخون السمع إليها!
وبالمناسبة فإن النصارى لا يُقِرّون بكلام عيسى فى المهد لأنه غير مذكور فى الأناجيل التى يعترفون بها، وإن جاء فى بعض الأناجيل الأخرى غير المعتمدة عندهم شىء قريب من ذلك. أى أن القُمّص يحاججنا بما ورد فى القرآن رغم إعلانه الكفر به. وعلى كل حال فلست العبرة بإحياء شخص أو عدة أشخاص ثم ينتهى الأمر عند هذا الحد، بل العبرة كل العبرة فى إحياء الأمم من العدم الحضارى والخلقى والنفسى والسياسى والاجتماعى والذوقى، وهو ما كرَّم الله محمدا به، إذ أنهضت يداه المباركتان الميمونتان أمة العرب من حالة الهمجية والوحشية والتخلف المزرى الذى كان ضاربا أطنابه فوق بلادهم ومجتمعاتهم بل فوق حياتهم كلها، وجعل منهم حكاما يسوسون العالم ويقودونه ثقافيا وخلقيا وعقيديا لعدة قرون دون سند، اللهم إلا سند القرآن والإيمان! ولم يحيدوا طوال ذلك عن عقيدة التوحيد رغم كل المصائب التى وقعت فوق رؤوسهم، سواء كانت من صنع أيديهم أو من صنع أعدائهم، بخلاف غيرهم من الأمم التى ما إن يغيب عنها نبيها حتى ترتد إلى الوثنية والكفر، والعياذ بالله، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت!
وبالمناسبة فملاحدة النصارى يفسرون معجزات عيسى عليه السلام بأنها حِيَلٌ وتواطؤات مع المرضى الذين شفاهم أو أعادهم إلى الحياة، على حين أنهم (حسبما يقول هؤلاء الملحدون) لم يكونوا قد ماتوا ولا كانوا مرضى أصلا! كما أن الموتى الذين عادوا على يديه إلى الحياة لم يحدّثونا عما خَبَروه فى العالم الآخر. ولَعَمْرِى إنه لأمر غريب أن يسكتوا فلا يذكروا شيئا عن تلك التجربة العجيبة! وفوق هذا فما الفائدة التى عادت على العالم أو حتى على المجتمع الإسرائيلى أو الرومانى من عودة من أعادهم إلى الدنيا كرة أخرى؟ إنها معجزات وقتية لا قيمة لها إلا لمن شاهدها، بل لا قيمة لها إلا لمن كتب الله له الإيمان، وإلا فاليهود بوجه عام لم يولوا هذه المعجزات أية أهمية وظلوا يكفرون بالمسيح ويتهمون أمه بأنها بَغِىٌّ، فضلا عن تآمرهم عليه ليصلبوه لولا أن توفاه الله إليه وتركهم فى ظلمات لا يبصرون بعد أن شَبَّه لهم أنهم قتلوه فعلا! بل إن معظم الذين اتبعوه قد انحرفوا بدعوته أفظع الانحراف، إذ قلبوها رأسا على عقب وحولوها من التوحيد إلى الشرك الغبى الغليظ، والعياذ بالله! وها هى ذى الثمرة العطنة العفنة تطالعنا متمثلةً فى زيكو العجيب، ذى الدبر الرحيب!
كذلك فقد أحيا إيليّا ميِّتًا مثلما فعل عيسى، فهل نَعُدّه ابنا ثانيا لله؟ ولكن من أى زوجة يا ترى؟ وهل تعدد الزوجات معروف لدى الآلهة هم أيضا؟ خيَّبك الله يا شبه الرجال! وهذه قصة إيليّا حسبما حكاها الكتاب المقدس (الملوك الثانى/ 17): "وبعد هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت واشتدّ مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة . 18 فقالت لايليا ما لي ولك يا رجل الله . هل جئت اليّ لتذكير اثمي واماتة ابني . 19 فقال لها اعطيني ابنك . واخذه من حضنها وصعد به الى العلية التي كان مقيما بها واضجعه على سريره 20 وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أايضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت باماتتك ابنها . 21 فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ الى الرب وقال يا رب الهي لترجع نفس هذا الولد الى جوفه . 22 فسمع الرب لصوت ايليا فرجعت نفس الولد الى جوفه فعاش 23 . فاخذ ايليا الولد ونزل به من العلية الى البيت ودفعه لامه. وقال ايليا انظري . ابنك حيّ . 24 فقالت المرأة لايليا هذا الوقت علمت انك رجل الله وان كلام الرب في فمك حق".
أما قول الغبى المحتال المختال زعيم العيال والأنغال إن عيسى عليه السلام يتميز عن سيد الأنبياء والمرسلين بأنه "قد خَلَتْ من قبله الرسل"، فهو ما لم أفهم مقصده منه، إذ إنه صلى الله عليه وسلم قد خلت الرسول من قبله هو أيضا. ألم يسبقه عيسى ويحيى وزكريا والْيَسَع وموسى وهارون وشُعَيْب وسليمان وداود ويعقوب وإسحاق وإسماعيل ولوط وإبراهيم وهود وصالح ونوح وغيرهم؟ اللهم إلا إذا كان المأفون لم يفهم معنى "خَلَتْ"، وهو ما أرجحه. بل ما من نبى إلا خلت من قبله الرسل ما عدا أول نبى بطبيعة الحال. بَيْدَ أنى، رغم ذلك، لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون هذا ميزة لأحد من الأنبياء على أحد! أترى أول نبى كان يقل عمن جاءوا بعده لا لشىء إلا لأنه لم يَخْلُ قبله أحد من الرسل؟ أما إذا أصر المأفون على ما يهرف به بجهله الغليظ فإن محمدا عليه السلام يزيد على عيسى من هذه الناحية بدرجة، إذ إن عدد من خلا قبله من الرسل يزيد على من خلا قبل عيسى برسول هو عيسى نفسه. أليس كذلك؟ لا بل إن محمدا هو الذى يَفْضُل عيسى من هذه الناحية، فعيسى مَحُوطٌ بالمرسلين من قبل ومن بعد، أما الرسول الكريم فكان خاتم النبيين، وهو أمر لم يُكْتَب لأحد من إخوانه الكرام، فهو الختام الِمْسك الذى بلغت على يديه الكريمتين ظاهرة النبوة أسمق مستوياتها، ولم يعد هناك من جديد يمكن أن يضاف إليها، وبخاصة أن الكتاب الذى أتى به ما زال باقيا على حاله الأول غَضًّا نضرًا لم تمتد يد التضييع أو التزييف والعبث إليه على عكس الكتب السابقة عليه، وبالذات كتابا عيسى وموسى. أعتقد أن الأمر واضح، وأن مأفوننا لا عقل لديه ولا فهم، وأنه يردد كالمعاتيه كلاما لا يعنى شيئا!
لقد رأيت الرجل مرة فى المرناء عند أحد أقاربى الذين كانوا يسألوننى رأيى فى ذلك الكائن فطلبت منهم أن يُرُونى حلقة من حلقات برنامجه الذى يهاجم فيه الإسلام ورسوله العظيم، فوجدته ينتفش كالديك وهو يرد على ما كتبه المرحوم ديدات، وكأنه قد أُوتِىَ علم الأولين والآخرين جميعا، مع أنه (كما اتضح الآن، وكما سوف يزداد وضوحا مع كل سطر نكتبه هنا) من أجهل الجهلاء وأبلد البلداء وأغلظهم حِسًّا وأعماهم عقلاً وفهمًا! ووالله لقد حاك فى صدرى قبل أن أراه وأقرأ له أنه لابد أن يكون على شىء من الذكاء والمعرفة، فإذا بى آخذ مقلبا لم آخذه من قبل! خيَّبك الله يا زيكو خيبةً لم يَخِبْها أحد! أهذا كل ما عندك؟ لقد تيقنت الآن أنه ما فى الدنيا من قسيس واحد عليه الطلاوة فى العلم أو فى العقل! وهذا فى واقع الأمر طبيعى جدا، فإن من يؤمن بما يؤمن به هؤلاء البشر لا يمكن أن يكون ذا عقل سليم مستقيم!
إن ما قاله القرآن هنا ليجرى فى عكس الاتجاه الذى يلوى القُمّصُ الغبىُّ الآيةَ نحوه، فالقرآن يقول: "ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (المائدة/ 75)، ومعناه أن المسيح لا يمكن أن يكون إلها أو ابن إله، إنما هو واحد من الرسل الكثيرين الذين مَضَوْا من قبله، فكما كانوا بشرا فهو أيضا مثلهم بشر من البشر. وعلى أية حال فقد قيل الشىء نفسه عن محمد عليه الصلاة السلام، وبنفس التركيب، وهذا هو: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (آل عمران/ 144)، وكان ذلك حين ظُنّ فى معركة أُحُد أنه قد مات (صلى الله عليه وسلم، ومسح الأرض بكرامة من يتطاول عليه من كل كلب وثنى عابد للبشر عُتُلٍّ زنيم)، فقال الله لهم إن محمدا ليس إلا رسولا كسائر الرسل الذين سبقوه، وسيموت كما ماتوا، ولا معنى لانقلاب أحد على عقبيه بعد موته، لأن اللهَ صاحبَ الدين حىٌّ لا يموت، أما محمد فلم يكن إلا رسولا جاء ليبلغ العِبَاد دعوة الله!
ومما يظن الأحمق أنه يستطيع الشغب به على المسلمين قوله إن عيسى كان مبارَكا، أما محمد فلا. ولا أدرى من أين له بأن عيسى وحده هو الذى بورك دون الأنبياء جميعا. لقد ذكر القرآن، الذى يعتمد عليه أحمقنا فى محاولة التنقص من سيد الرسل والنبيين، أن البركة قد أُنْزِلَتْ على أشياء وأشخاص كثيرين، لا على عيسى وحده، كما أن البركة فى غير حالة عيسى عليه السلام قد تُذْكَر بلفظ آخر، أو يُذْكَر ما يزيد عليها فى الإكرام والمحبة. فبعض أجزاء الأرض قد باركها الله: "وأورثْنا القومَ الذين كانوا يُسْتَضْعَفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركْنا فيها" (الأعراف/ 137)، والمسجد الأقصى بارك الله حوله: "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله" (الإسراء/ 1)، والموضع الذى رأى موسى فيه النار فى سيناء قد بارك الله حوله أيضا: "فلما جاءها نُودِىَ أنْ بُورِكَ مَنْ فى النار ومَنْ حولها" (النمل/ 8)، وإبراهيم وإسحاق قد بارك الله عليهما: "وباركنا عليه وعلى إسحاق" (الصافات/ 113)، وهناك نوح والأمم التى كانت مع نوح، وقد بارك الله عليه وعليهم حسبما جاء فى كلامه سبحانه له: "يا نوح، اهبط (أى من السفينة بعد انحسار الطوفان) بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك" (هود/ 48)، وهناك البيت الحرام، وقد باركه الله: "إن أول بيت وُضِع للناس لَلّذِى ببَكَّةَ مباركا وهدى للعالمين" (آل عمران/ 96)، وكذلك القرآن الكريم، وقد جعله الله مباركا أيضا: "وهذا ذِكْرٌ مباركٌ أنزلناه، أفأنتم له منكرون؟" (الأنبياء/ 50)، كما أن الليلة التى أُنْزِلَ فيها هذا الذكر هى أيضا ليلة مباركة: "إنا أنزلناه فى ليلة مباركة" (الدخان/ 3).
أما بالنسبة لنبينا، عليه وعلى كل الأنبياء الكرام أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فقد جاء فى القرآن أنه عز وجل يريد أن يُذْهِب الرِّجْس عن أهل بيته جميعا ويطهِّرهم تطهيرا: "إنما يريد الله لِيُذْهِب عنكم الرِّجْس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا" (الأحزاب/ 33) ، كما أثنى المولى عليه أعطر الثناء، وذلك فى قوله: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم/ 4) ، وقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء/ 107)، وقوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ" (التوبة/ 128)، وقوله: "رسولاً يتلو عليكم آياتِ الله مبيِّناتٍ ليُخْرِج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور" (الطلاق/ 11)، وقوله: "من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع الله" (النساء/ 80)، وقوله: "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا َصَلُّوا عليه وسَلِّموا تسليما" (الأحزاب/ 56). والحق أن ما قاله سبحانه وتعالى فى تكريم حبيبه محمد فى هذه الآيات وغيرها لم ينزل مثله فى أى نبى آخر، وإن لم يكن مقصدنا هنا المقارنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه الكرام، اللهم إلا ردا على ذلك الأحمق الذى يريد أن يثيرها نعرة جاهلية رعناء. ولقد بلغ من عظمة نفسه عليه السلام ونبل أخلاقه أنْ نَهَى أتباعه عن تفضيله على أى من إخوانه الكرام كما يتبين من الأحاديث التالية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استبَّ رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود. قال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيِّروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبل أو كان ممن استثنى الله". وعن أبي هريرة أيضا قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. قال: ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف ثم جاءني الرسول أجبتُ. ثم قرأ: فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن". وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى".
ولم نكن لنحبّ أن ندخل فى هذا المضيق، إلا أن للضرورة أحكاما، إذ لم يكن متصوَّرا أن يهبّ الوثنيون فى هذا العصر فيتطاولوا على سيد الأنبياء جهارا نهارا، فكان لا مناص من إلجامهم بلجام الخَرَس حتى يعرفوا حدودهم ويلزموها فلا يُقِلّوا أدبهم عليه، أخزى الله كل وثنى حقير. وبالمناسبة فتكملة الآية الكريمة التى جاء فيها على لسان المسيح أن الله قد جعله مباركا هى "وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا" (مريم/ 31). أى أنه عبد له سبحانه وتعالى لا ربٌّ مثله ولا ابنٌ له كما يدَّعى القوم، ولذلك أمره الله بالصلاة والزكاة ما دام حيا، إذ الرب لا يُؤْمَر ولا يُنْهَى، بل الذى يُؤْمَر ويُنْهَى هو العبد. لكن القُمّص البكاش الذى سيحرقه الله فى نار جهنم التى خلقت له ولأمثاله ما لم يَتُبْ ويؤمن بمحمد كما فعل كثير من القساوسة والأساقفة والقمامصة والشمامسة الذين كانوا يحاربون الله ورسوله ثم كتب الله لهم الهداية فيُقِرّ بالحقيقة التى يعرفها لكنه، ككل بكاش مثله، يكتمها فى قلبه من أجل حظوظ الدنيا وما يجنيه من مال حرام سوف يكويه فى جوفه يوم القيامة ويُشْوَى به جنباه ووجهه وظهره، هذا القُمّص البكاش يتجاهل هذا ولا يستشهد به حتى لا تنكشف فضيحته!
كذلك جاء فى كلام القُمّص الأرعن الأحمق أن عيسى عليه السلام سيأتى حَكَمًا مُقْسِطًا بدليل الحديث التالى الذى أورده البخارى: "لن تقوم الساعة حتى ينزل فيكم (أى بينكم) ابن مريم حكمًا مقسطًا (أى عادلا)"، والذى يفسر غبيُّنا لفظَ "المقسط" فيه بأنه اسم من أسماء الله الحسنى، بما يفيد أن عيسى هو الله أو على الأقل ابن الله، إذ ذكر أن "المعجم الوسيط" قد شرح "المقسط" بأنه اسم من أسماء الله الحسنى. ثم ختم كلامه قائلا: "وماذا عن محمد؟". وهذا الكلام هو تخبيص فى تخبيص! إنه شغل عيال بكل معنى يمكن، أيها القارئ، أن يخطر فى بالك لكلمة "العيال"!
أتدرى لماذا؟ لأن هذا الحديث وأمثاله من الآثار التى تتحدث عن عودة المسيح عليه السلام إلى الدنيا إنما تؤكد ما يَسُوء وجهَ هذا المنافق ويكشف سوأته المنتنة، تلك السوأة التى لا تعرف النظافة لأن صاحبها واحد من الأقذار الذين يَسْخَرون من شعائر الطهارة الموجودة فى دين سيد الأنقياء محمد عليه الصلاة والسلام. ذلك أن تلك الأحاديث إنما تتحدث عن رجوع المسيح ليكسر الصلبان ويحطم أوعية الخمور ويقتل الخنزير ويدعو الناس بدعوة التوحيد التى أتى بها نبينا عليه السلام وضلّ عنها من يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام وينسخ التثليث الذى انحرف إليه القوم ويتبرأ منهم على رؤوس الأشهاد. لكن الماكر الخبيث، وإن كان خبثه مع هذا خبثًا عياليًّا، يقتطع من هذه الأحاديث جملة ينتزعها من سياقها ظانًّا أنه يمكن أن يُجْلِب بها على العقول ويمضى فى سبيله دون أن يعقب عليه أحد ويهتك ستر سوأته المنتنة ليراها الناس على حقيقتها من القبح والتدويد ويشموا نتنها فيلعنوها هى وصاحبها لعنة تصل إلى السماء السابعة وتستجاب فى الحال!
نقرأ مثلا فى "صحيح البخارى": "حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيَّب سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليُوشِكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عَدْلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها". ويقول صاحب "فتح البارى بشرح صحيح البخارى" فى تعليقه على هذا الحديث: "روى مسلم من حديث ابن عمر في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين. وروى نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيهم مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة. وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعا. وفي هذا الحديث "ينزل عيسى عليه ثوبان ممصران فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأَمَنَة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل وتلعب الصبيان بالحيّات. وقال في آخره: ثم يُتَوَفَّى ويصلي عليه المسلمون". وروى أحمد ومسلم من طريق حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة: "لَيُهِلَّنّ ابنُ مريم بفجّ الروحاء بالحج والعمرة" الحديث. وفي رواية لأحمد من هذا الوجه: ينزل عيسى فيُقْتَل الخنزير ويُمْحَى الصليب وتُجْمَع له الصلاة ويُعْطَى المال حتى لا يُقْبَل ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما". ولكى يعرف القراء الكرام مدى الخبث الخائب الذى يلجأ إليه زيكو العبيط أسوق إليهم كاملا نص الحديث الذى اقتطع منه المحتال الدجال الذى يُفْعَل فيه ما يُفْعَل بالعيال ما اقتطع. جاء فى "صحيح البخارى": "حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لَيُوشِكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ويشبهه ما جاء فى "مسند أحمد بن حنبل": "حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم: يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"، وكذلك ما جاء فى "سنن الترمذى": حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ثم إن الأحاديث التى وردت فى هذا الموضوع تسمِّى كلُّها السيدَ المسيح: "ابن مريم"، أى أنه مولود لمريم، على حين أن القرآن الكريم ينفى نفيا قاطعا أن يكون الله قد وَلَدَ أو وُلِدَ، وهو ما يعنى أن الله لا يكون أبا أو ابنا، لكن البكّاش الهجّاس يتجاهل هذا كله ويريد أن نتخلى عن عقولنا وديننا وتوحيدنا ونجرى وراءه إلى العقائد الوثنية!
أما التحايل المتهافت الذى يتخابث به تافهنا من خلال الاستشهاد بــ"المعجم الوسيط" على أن "المقسط" هو اسم من أسماء الله الحسنى، فنفضحه بالإشارة إلى أن النبى الكريم قد وُصِف هو أيضا (وفى القرآن لا فى الحديث) بأنه رؤوف رحيم وكريم وحق وشهيد، وهى من أسماء الله الحسنى أيضا، كما وُصِف خُلُقه بأنه "عظيم"، وهو اسم آخر من تلك الأسماء الكريمة. كما أُمِر الرسول بأن يكون من المقسطين، و"المقسط" من أسماء الله الحسنى حسبما نقل التافه الغليظ العقل عن "المعجم الوسيط". قال تعالى: "لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم"، "إنه (أى القرآن) لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ" (الحاقة/ 40)، "وشهدوا أن الرسول حق" (آل عمران/ 86)، "لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا" (البقرة/ 143)، "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم/ 4)، "وإن حَكَمْتَ فاحكم بينهم بالقِسْط، إن الله يحب الـمُقْسِطين" (المائدة/ 42). وبناءً على هذا المنطق العيالى فالرسول محمد هو إله أو ابن الإله! وسلم لى على المنطق يا أبا الزيك! نقرك الديك، فى دبرك الهَتِيك!
إنه قلّما كان اسم من أسماء الله إلا أمكن استخدامه للبشر، إلا أنه بالنسبة إلى الله يكون مطلقا، أما فى حالة البشر فهو مقيَّد محدود. كذلك فقد قال الحديث إن "ابن مريم" (لاحظ: "ابن مريم" لا "ابن الله" ولا "الله" ذاته) سوف ينزل "حَكَمًا مٌقْسِطا"، بتنكير كلمة "حَكَم"، وكأنه فرد فى مجموعة من جنسه، مع أنه سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، الذى ليس كمثله أحد. كما أن الله لا ينزل من رَحِم امرأة وفَرْجها ويخالط الناس ويمشى وسطهم ويأكل ويشرب ويتبول ويتبرز ويتقايأ وتصيبه الأمراض والمخاوف مثلهم حسبما تقول عقيدة القوم، ودعنا الآن من صلبه وقتله وطعنه بالرمح فى جنبه وكسر رجليه وشتمه وإهانته وصراخه من الألم والعذاب طالبا النجدة (النجدة ممن، إذا كان الله نفسه هو الذى يُضْرَب ويُقْتَل ويهان؟)، فضلا عن أن يُتَوَفَّى ويُصَلَّى عليه (يُصَلَّى"عليه" لا "له")، تعالى الله عن أن يُتَوَفَّى أو يُصَلِّىَ عليه أحد! وأخيرا فــ"المعجم الوسيط" (وغير الوسيط أيضا بطبيعة الحال) لا يعنى أن معنى "المقسط" ينحصر فى أنه اسم "من أسماء الله الحسنى" وحَسْب، بل يذكر ذلك على أنه معنى من المعانى التى تُسْتَخْدَم فيها الكلمة، وإلا فقد ورد هذا اللفظ فى القرآن عدة مرات منسوبا للبشر كما هو معروف، إذ قال عَزّ شأنه مثلا: "إن الله يحب المقسطين" (المائدة/ 42، والحجرات/ 9، والممتحنة/ 8)، إلا أن البكّاش النتّاش يسوق الكلام وكأنه لا معنى لهذا اللفظ غير ما قال.
خيبة الله مرة ثانية عليك يا زكازيكو! أتظن أن الناس كلهم كتلك البنت المسكينة التى نَجَحْتَ فى خداعها لبعض الوقت أنت والعيال أمثالك بمثل هذه الصبيانيات، والتى ألومها أشد اللوم أَنِ استطاع هذا البغل الأسترالى أن يثير شكوكها فى دينها، وهى التى تخرجت من الجامعة! لقد كان ينبغى أن تتلاعب هى به وتجعل منه مُسْخَةً لكل رائحٍ وغادٍ شأن أى واحد أو واحدة من أتباع النبى الكريم، لكن أوضاع التعليم وكسل الطلاب والطالبات قد أثمرا هذه الثمرات العطنة. ومع ذلك فقد كشف الله للفتاة المخدوعة الغطاء عن حقيقة هذا القَذِر قبل فوات الأوان وردها ردا جميلا إلى دين التوحيد، وإلا لهلكت وثنية كافرة، والعياذ بالله! أما أنتِ يا أمة محمد يا من تناشدين هذا وذاك من أمثال بغلنا الزنيم أن يتدخلوا لثَنْيه عن سبّ النبى، فلعنة الله عليك من أمة منحطة وصل بها الحال إلى هذا الدرك الأسفل من المذلة والهوان، إذ جعلتِ أعداءك الذين تستنجدين بهم يضحكون منك ملء أردانهم فى تَشَفٍّ وتلذذٍ! إن محمدا ليبرؤ من كل ذليل يهون على نفسه وعلى الآخرين، ويُطْمِع العدوَّ فيه ويعطيهم الفرصة ليضحكوا منه وعليه! أَوَمِثْل زيكو هذا يستحق أن يُنَاشَد أحد لإسكاته؟ أليس فى رِجْل البُعَداء صَرْمَةٌ قديمةٌ يقذفونه بها فى فمه المنتن؟ يا رسول الله، إنى أعتذر إليك مما فعلته هذه الأمة، وأستميحك العفو!
ولا يكتفى الكذاب بهذا، بل يضيف كذبة أخرى قائلا إن عيسى عليه السلام، طبقا لما يقول القرآن، سوف يكون شفيعا فى الدنيا والآخرة. وقد استشهد على هذه الكذبة المنتنة نتانة فمه وسوأته بقوله تعالى عن ابن مريم عليه السلام مخاطبا أمه على لسان الملائكة: "يا مريم، إن الله يبشّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ". وهذا نص كلامه: "شفيعاً فى الدنيا والآخرة : (1) سورة ( آل عمران 3 : 45) " اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين". (2) [ابن كثير ج1 ص 283] "وفى الدار الآخرة يشفع عند الله ..."، ثم يختم كالعادة بالسؤال التالى: "وماذا عن محمد؟". والملاحظ أولا أن القرآن الذى يستشهد به هذا الأفاق لم يذكر الشفاعة لعيسى بل لم يشر إليها مجرد إشارة، وكل ما قاله أنه سيكون "وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين". إنما قال ذلك ابن كثير، وهو مجرد اجتهاد من عنده لا يُلْزِمنا بشىء ما دام لم يَسُقْ لنا الحيثيات التى أقام عليها هذه الدعوى. إن فى القرآن كلاما عن ابن مريم يوم القيامة يصوره عليه السلام وهو واقف أمام ربه يسأله عما أتاه أتباعه من بعده من تأليههم له سؤال الرب للعبد الخائف الراجف الذى يعرف حدوده جيدا، فهو يسارع بالتنصل من هذا الكفر الشنيع وممن قالوه. وحتى لو كانت له عليه السلام فى ذلك الموقف شفاعة، فما الذى فى هذه المكرمة مما يشنَّع به على محمد عليه الصلاة والسلام؟
إن محمدا عليه الصلاة السلام لهو صاحب الشفاعة العظمى حسبما نَصَّ على ذلك كثير من الأحاديث النبوية. روى البخارى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْبَس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا. فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس. خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلَّمك أسماء كل شيء. لِتَشْفَعْ لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال: فيقول: لستُ هُنَاكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب: أكْله من الشجرة وقد نُهِيَ عنها، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا فيقول: لستُ هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر ثلاث كلمات كَذَبَهُنّ، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلَّمه وقرَّبه نَجِيًّا. قال: فيأتون موسى، فيقول: إني لستُ هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: قَتْله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته. قال: فيأتون عيسى، فيقول: لستُ هُنَاكم، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعتُ ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه. قال: ثم أشفع فيحدّ لي حَدًّا فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال قتادة: وسمعته يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَه. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناءٍ وتحميدٍ يعلّمنيه. قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود. قال: ثم تلا هذه الآية: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. قال: وهذا المقام المحمود الذي وُعِدَه نبيكم صلى الله عليه وسلم"، وهو ما يدل على أنه لا شفاعة لابن مريم فى ذلك الموقف، بل ستكون الشفاعة لسيدنا محمد عليه السلام وحده من دون الأنبياء والرسل. وهذه إحدى المكرمات التى اخْتُصَّ بها سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا لا ينال من عيسى ولا غيره من المرسلين فى شىء، فتقديم أحد الأنبياء على سائر إخوانه لا يسىء إليهم فى قليل ولا كثير، فكلهم مكرَّمون معظَّمون بفضل الله، لكنه يدل على أن صاحب التقديم قد اخْتُصَّ بمزيد من التكريم والتعظيم. وهذا هو وضع المسألة دون طنطنات ولا سخافات فارغة من تلك التى يبرع فيها أحلاس الجهل والحقد والكفر، أخسأ الله كل جاهل حاقد كفور!
أما ما نقله الكذَّاب المدلِّس عن ابن كثير فقد عبث به كعادته ليبلغ غاية فى نفسه، إذ أخذ منه ما يريد وحَذَف ما لا يريد، لكن الله لم يتركه يهنأ بتلك الغاية، إذ ذهب العبد لله إلى ابن كثير فألفيتُه يقول فى تفسير قوله تعالى عن المسيح بن مريم عليه السلام: "وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ": "أَيْ لَهُ وَجَاهَة وَمَكَانَة عِنْد اللَّه فِي الدُّنْيَا بِمَا يُوحِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ الشَّرِيعَة وَيُنْزِلهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَاب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا مَنَحَهُ اللَّه بِهِ وَفِي الدَّار الآخِرَة يَشْفَع عِنْد اللَّه فِيمَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ فَيَقْبَل مِنْهُ أُسْوَة بِإِخْوَانِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْم صَلَوَات اللَّه وَسَلامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ". ومعنى هذا، لو أخذنا بتفسير ابن كثير، أن عيسى لن تكون له هنا أية ميزة استثنائية، سواء بالنسبة لرسولنا محمد خصوصا أو بالنسبة للأنبياء كلهم عموما، فالشفاعة ستكون للجميع، وليس لعيسى وحده كما أراد هذا الأُبَيْلِيس أن يوهمنا كذبًا وزورًا. بَيْدَ أن الشفاعة العظمى إنما هى من نصيب سيد الأنبياء والمرسلين كما ورد فى الحديث الآنف الذكر. أما الشفاعة النصرانية التى تكلم عنها سفر "رؤيا يوحنا" (تلك الرؤيا التى حلم بها وهو يعانى من قرصات الجوع المؤلمة المربكة للعقل فجعلت هذا الخروف يتخيل ربه خروفا مثله) فهى شفاعةٌ خِرْفانيةٌ لا يليق بالآدميين المتحضرين المثقفين أن يناقشوها، فلنتركها للخروف زيكو عابد الخروف!
ومن ادعاءاته الطفولية قوله إن عيسى قد أُصْعِد إلى السماء حيا، فماذا عن محمد؟ والجواب هو أن محمدا قد عُرِج به إلى السماوات العلا حتى بلغ سدرة المنتهى كما ذكر القرآن الذى تُحَاجِجُنا به. هذه واحدة، والثانية هى أن النص القرآنى ليس قاطع الدلالة فى موضوع صعود عيسى عليه السلام بالجسد ولا صعوده حيًّا، إذ تقول الآية الكريمة: "إذ قال الله: يا عيسى، إنى متوفيك ورافعك إلىَّ" (آل عمران/ 55). وليس فيها على سبيل القطع الذى لا تمكن المماراة فيه أنه سبحانه قد أصعده إلى السماء حيًّا بجسده. إن من المسلمين من يفهم تلك الآية كما فهمها القُمّص، لكن هناك أيضا من المسلمين من يقولون بالوفاة العادية ورِفْعَة المكانة لا الجسد. وعلى أية حال هل هناك فرق كبير بين قوله سبحانه عن السيد المسيح وبين قوله عن إدريس عليهما السلام: "واذْكُرْ فى الكتاب إدريس، إنه كان صِدِّبقًا نبيًّا* ورفعناه مَكانًا عَلِيًّا" (مريم/ 56- 57)؟ ثم إن الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى ذكر كذلك أن إيليّا قد رفعه الله إليه أيضا بالمعنى المادى، أى أصعد جسده إلى السماء: "وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ. وَكَانَ أَلِيشَعُ يَرَى وَهُوَ يَصْرُخُ: «يَا أَبِي، يَا أَبِي، مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا». وَلَمْ يَرَهُ بَعْدُ" (ملوك 2/ 2/ 11- 12). إننى، كما قلت من قبل، لا أبغى أبدا التقليل من شأن سيدنا عيسى عليه السلام، على الأقل لأننا نحن المسلمين نَعُدّ أنفسنا أتباعه الحقيقيين ونرى أن أولئك الذين يدّعون أنهم أتباعه قد كفروا به وضلّوا عن سواء السبيل وأشركوا بالله ما لم ينزِّل به سلطانا. كل ما هنالك أننا نحاول أن نقدم صورة منطقية ومستقيمة وصحيحة فى المقارنة بين النبيين العظيمين: محمد وعيسى عليهما السلام، صورة تُظْهِرهما فى أبعادهما الصحيحة على أساس أن عيسى هو من محمد بمثابة الأخ الأصغر: سنًّا وإنجازًا وأثرًا. وهذا كل ما هنالك. وفى النهاية نقول: فلنفترض أن عيسى قد أُصْعِد فعلا بجسده إلى السماء وأنه هو وحده الذى حدث له ذلك، فالسؤال حينئذ هو: وماذا بعد؟ وما الفائدة التى عادت على الدعوة من جراء هذا؟ لقد انحرف أتباعه أضلّ انحراف بسبب هذا الصعود وغيره وأشركوه مع الله، وهو البشر الضعيف العاجز الفانى!
ويتبقى كلام ذلك الخروف عن مسح عيسى عليه السلام من الأوزار وسؤاله المعتاد فى آخر الكلام: "وماذا عن محمد؟"، وهذا ما قاله نَصًّا:"ممسوح من الأوزار: (أنظر حتمية الفداء ص 24): (1) [سورة مريم]. (2) [سورة آل عمران]. (3) الإمام الرازى ج3 ص 676. (4) أبى هريرة. (5) صحيح البخارى. وماذا عن محمد؟". وهو بإشارته إلى سُورَتَىْ "آل عمران" إنما يقصد قوله تعالى عن امرأة عمران (أم مريم عليها السلام) وإعاذتها إياها هى وذريتها عند ولادتها من الشيطان الرجيم: "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (آل عمران/ 36)، أما سورة "مريم" فلم أجد فيها شيئا يتعلق بالموضوع الذى نحن بإزائه. وبالنسبة لما جاء فى "آل عمران" فليس فيه سوى أن زوجة عمران قد استعاذت لابنتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم، وهو ما يفعله كل مؤمن لنفسه ولأولاده. وفى تفسير الرازى: "روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استعاذ في اليوم عشر مرات وَكّل الله تعالى به مَلَكًا يَذُود عنه الشيطان". وفى "سنن أبى داود" عن ابن عمر أن رسول الله قال: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه. فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تَرَوْا أنكم قد كافأتموه".
فليس فى الآية فى حد ذاتها إذن ما يدل على أن عيسى عليه السلام كان ممسوحا وحده من الأوزار دون الأنبياء والمرسلين، وإن كنا نؤمن أنهم جميعا عليهم الصلاة السلام، كانوا من خيرة صفوة البشر، وكانت أخلاقهم من السمو والرفعة بحيث تتلاءم مع المهمة الجليلة التى انتدبهم الله لها من بين سائر البشر. ومع هذا فهناك مثلا، فى مسند ابن حنبل، حديث عن النبى عليه السلام رواه أبو هريرة يقول فيه: "ما من مولود يُولَد إلا نخسه الشيطان فيستهلّ صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه. ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وإنى أُعِيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". وفى "سنن الدارمى" عن ابن عباس أنه قال: "ليس من مولود إلا يستهلّ، واستهلاله يعصر الشيطان بطنه، فيصيح إلا عيسى ابن مريم". وليس فيه، كما هو واضح، أية إشارة إلى مسحه عليه السلام من الأوزار والخطايا، بل الكلام فيه عن نخسة الشيطان التى يبكى الطفل بسببها عند الولادة أول ما يستقبل الحياة والتى يقول الأطباء إن سببها هو استنشاقه لأول مرة الهواء استنشاقا مباشرا، فهو رد فعل بيولوجى لا مَعْدَى عنه لأى طفل. لكنْ لأن ولادة عيسى كانت ولادة غير طبيعية فلربما كان ذلك هو السبب فى أنه لم يصرخ عند نزوله من بطن أمه كما يصنع سائر الأطفال.
وأغلب الظن أن النبى عليه الصلاة والسلام قد أراد، بذلك الحديث، أن يدفع عن أخيه الصغير عيسى وأمه من طَرْفٍ خَفِىٍّ قالةَ السوء والشُّنْع التى بهتهما بها اليهود الأرجاس. إذن فليس فى القرآن ولا فى الحديث أن سيدنا عيسى عليه السلام كان ممسوحا من الأوزار والخطايا وحده دون النبيين والمرسلين أجمعين، وإن لم يَعْنِ هذا أنه كان ذا أوزار وخطايا، إذ الأنبياء والرسل كلهم هم من ذؤابة البشر خُلُقًا وفضلاً وسلوكًا لا عيسى وحده. ومع ذلك فقد قرأنا فى حديث الشفاعة العظمى كلام الرسول الأعظم عن غفران الله له هو كل ذنوبه: ما تقدم منها وما تأخر، وهو ما استحق به وبغيره تلك المرتبة العالية، وإن لم يعن هذا أيضا أنه، صلى الله عليه وسلم، كانت له ذنوب تُذْكَر، وإلا ما قال الله فيه: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ" أو "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم" أو "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا، صَلُّوا عليه وسلِّموا تسليما". وقد أورد الرازى الذى يستشهد به مأفونُنا الحديثَ التالى: "ما منكم أحد إلا وله شيطان. قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأَسْلَم". وأظن أن هذا الحديث يضع حدا للجدال السخيف الذى فتح بابَه ذلك المأفونُ المتهالكُ العقل!
والآن إلى ما قاله الرازى فى هذا الموضوع: "ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن (يقصد القبول المذكور فى سورة "آل عمران" حين ابتهلت أم مريم إلى الله أن يعيذ ابنتها وذريتها من الشيطان الرجيم) وجوهًا: الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يُولَد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهلّ صارخًا من مس الشيطان إلا مريم وابنها"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ الرَّجِيمِ". طعن القاضي في هذا الخبر وقال: "إنه خَبَرُ واحدٍ على خلاف الدليل، فوجَب ردُّه، وإنما قلنا إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ أحدُها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك. والثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم. والثالث: لمِ َخُصَّ بهذا الاستثناء مريمُ وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام؟ الرابع: أن ذلك النخس لو وُجِد بَقِيَ أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه". واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر، والله أعلم". ومن هذا يتبين لنا بأجلى بيان أن الكذاب لم يقطع عادته فى الكذب والتدليس، إذ لم يقل الرازى إن عيسى عليه السلام قد مُسِح من الأوزار والخطايا، بل ساق كلام المفسرين القائلين بذلك، لكن بإيجاز شديد، أما من نَفَوْا هذا فقد فصَّل كلامهم تفصيلا. ثم اكتفى بالقول بأن وجوه الاعتراض التى اعترض بها هؤلاء ليست قاطعة فى النفى، وإن كان من الممكن رغم ذلك أن تكون صحيحة. أى أنه لم يَنْفِ ولم يُثْبِتْ، بل اكتفى بإيراد الرأيين. وأقصى ما يمكن نسبته له من الرأى فى هذه القضية أن الأدلة التى احتج بها القاضى (عبد الجبار المعتزلى) لا تحسم الأمر. وهذا كل ما هنالك، فأين ما نسبه زيكو الحقير إلى ذلك المفسر الكبير؟
إننى لا أستطيع أن أهدأ كلما تذكرت أن هذا المَسْخ الغبىّ قد تمكن يوما من إضلال فتاة مسلمة من أتباع سيدنا النبى وجعلها تدق صليبا على يدها، ولولا لطف الله لهلكت البنت المتسرعة النزقة كافرةً فاستحقت لعنة الدنيا وجحيم الآخرة! أمعقول يا بنيتى يا خريجة الجامعة أن يستطيع هذا البهيمة الجهول أن يضحك عليك؟ فأين عقلك يا بنت الحلال؟ وأين اعتزازك بانتسابك لسيد النبيين والمرسلين؟ كيف بالله عليك ظننتِ أن مثل هذا الوغد السافل يمكن أن يكون على حق؟ أهذه سَحْنة إنسان صادق؟ أهذا صوت واحد من بنى آدم المخلصين؟ إنه ليس إلا أُبَيْلِيسا حقيرا لا عقل عنده ولا علم، أُبَيْلِيس لا يصلح فى دنيا الشيطنة إلا لــ"لَمّ السَّبَارِس" من تحت أرجل الشياطين الجالسين على المقاهى مثلما كنت أرى بعض الأطفال فى صباى بمقاهى طنطا يفعلون، وهذا إن كان فى دنيا الشياطين مقاهٍ وسَبَارِس. وأرجو أن أكون قد أعذرتُ إلى الله إذ ضيعتُ بعضًا من وقتى فى فضح جهله وغبائه، ولا داعى للحديث عن أسلوبه القبيح القمىء مثله، وكل ذلك من أجل أن قصتكِ قد آلمتنى، إذ كان السؤال ومازال: كيف يرضى مسلم من أتباع سيد النبيين والمرسلين أن يلوث عقله بالعقائد التى يعتقدها مثل ذلك الحمار السفيه الذى يصيح كالملدوغ: "الرسول النكّاح"، على حين تتلوَّى استه المنتنة شَبَقًا إلى من يطعنها حتى تهدأ، لا أهدأها الله ولا أراح صاحبها أبدا، وجعل ذلك الحمار، يعيش حياته كلها على نار، ويوم القيامة يزيد استه المنتنة (لأنه هو وأمثاله لا يستنجون ولا يعرفون للطهارة معنى)، يوم القيامة يزيد الله استه المنتنة نارا وأُوَارًا واستعارًا واحمرارًا؟! أتقول يا أيها الحمار: "الرسول النكاح"؟ وماذا فى ذلك؟ الدور والباقى عليك يا أيها "القُمّص المنكوح، صاحب الدبر المقروح"! ولعل القراء الآن يستطيعون أن يفسروا سر تقلقل ذلك النجس أثناء كلامه فى التلفاز وعدم استقراره فى جلسته على حال. السر كله لا فى شويبس كما كان يقول المرحوم حسن عابدين، بل فى دبر القُمّص المنتن، عليه وعلى دبره اللعنات! لقد دخل زيكو بدبره التاريخ، وأصبح دبره أشهر دبر فى العالم! وكما أنهم يقولون: "بعوضة النمرود، وعصا موسى، وبقرة بنى إسرائيل، وهدهد سليمان، وخُفّا حُنَيْن، وفيل أبرهة، وبخلاء الجاحظ، وذهب المعزّ وسَيْفه، ومعطف جوجول، وكرمة ابن هانئ، ودعاء الكروان، وبيضة الديك، ومعزة حسن أبى على، وبقرة حاحا، وصندوق أبى لمعة"، فإننا بدورنا نقول: "دبر زيكو"!
وفى النهاية أحب أن أنبه القراء الأفاضل إلى أن الأناجيل تخلو تماما من الإشارة (مجرد الإشارة) إلى الثالوث والتثليث والأقانيم الثلاثة التى يصدِّع بها الأغرارُ الحمقى أمخاخَنا، والتى يقوم دينهم المرقع على أساسها. وليس لهذا من معنى إلا أن تلك العقيدة الوثنية لم تظهر إلى الوجود، فيما يخص النصرانية، إلا بعد المسيح وكتابة الأناجيل. أى أنها لم تكن يوما من العقيدة التى جاء بها السيد المسيح عليه السلام وأنها إنما اختُرِعَتْ بأُخَرة. ليس هذا فحسب، بل إنه ما من نبى من قبل عيسى أو من بعده قد جاء بشىء من هذا الكفر: لا من أنبياء بنى إسرائيل ولا من سواهم. فلماذا يريد المعاتيه البلهاء أن نصدق بهذا الضلال؟ وما الذى يجرِّئهم كل هذه الجراءة ونحن الآن فى القرن الواحد والعشرين؟ إن مكان أولئك المتاعيس هو متحف التاريخ الطبيعى الخاص بالكائنات المنقرضة كالديناصورات وأشباهها مما غبر على اختفائه ملايين السنين، بحيث يكون تعليق كل من يرى بقاياهم هم وعقيدتهم أن يقول وهو فاغر فاه من الدهشة: ياه! تصوروا! لقد كان هناك قبل كذا مليون سنة ناسٌ متخلفون بلهاء كانوا يؤمنون بأن الله قد تجسّد وأنجب ولدًا (حيلة أبيه وأمه)، ثم سرعان ما أماته على الصليب! يا له من إله مخلول العقل! مسكين! عنده شعرة: ساعة تروح، وساعة تجىء! شفاه الله!
وبهذا نكون قد فرغنا من تفنيد سخافات زيكو فى المقارنة بين محمد وعيسى عليهما السلام، ونقيم نحن مقارنتنا بين النبيين الكريمين، ولكن على أسس منطقية وتاريخية وحضارية سليمة: فالتوحيد الذى نادى به محمد بقى كما هو، والحمد لله، رغم مرور أربعة عشر قرنا من الزمان على رحيل سيد الأنبياء عن الدنيا، ورغم كل الدواهى والمصائب التى نزلت على يافوخ المسلمين، ورغم المؤامرات التى حاكها وما زال يحيكها الصليبيون والصهاينة ضدهم وضد دينهم، بخلاف أتباع عيسى عليه السلام الذين سرعان ما عبثت أيديهم بما أتاهم به من التوحيد النقى واستبدلوا به وثنية بشرية. كذلك فتلاميذ عيسى قد تركوه عند أول تجربة حقيقية وهربوا ناجين بجلدهم حين جاء جند الرومان للقبض عليه حسبما تقول الأناجيل المزيفة، رغم أنه قد أنبأهم بأنهم سوف يفرّون ويخلّفونه وحيدا فى يد الأعداء ورغم تأكيدهم مع ذلك أنهم لن يفعلوا. بل إن بطرس قد أنكر معرفته إياه وأقسم بالله إنه لا صلة له به على الإطلاق. أما صحابة محمد فكانوا يفدّون نبيهم بالنفس والنفيس. وقد ترَّسُوا عليه مثلا فى غزوة أُحُد وتَلَقَّوْا عنه السهام بظهورهم، ولولا ذلك لكان من الممكن أن تصل إليه يد الكفار بالأذى الشنيع، إذ كانوا حريصين أشد الحرص على قتله آنذاك! كما أن رسالة محمد هى رسالة عالمية، على عكس رسالة عيسى التى كانت خاصة ببنى إسرائيل. ليس ذلك فقط، بل إن دعوة عيسى عليه السلام كما تصورها لنا السِّيَر التى كتبها بعض من يدَّعون الانتساب إليه (وهى المسماة بــ"الأناجيل") ليست أكثر من مواعظ خلقية تسودها التشنجات المثالية التى لا يمكن نجاحها فى دنيا البشر، أما رسالة محمد فرسالة شاملة، إذ هى رسالة عقيدية خلقية اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية. بعبارة أخرى هى رسالة حضارية تغطى جميع جوانب الحياة. ومرة ثانية لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن محمدا قد وضع رسالته موضع التنفيذ والتطبيق ونجح فى ذلك نجاحا مذهلا لم يحدث من قبل ولا من بعد، وكانت ثمرة ذلك أن أنهض الله على يديه المباركتين أمة العرب من العدم فحلّقت فى الذُّرَى العالية وأضحت سيدة العالم لقرون طوال. ومثال أو مثالان هنا يغنياننا عن ضرب غيرهما، فإن أمة لم تبلغ فى تجنب الخمر ما بلغته العرب بفضل دعوة محمد وإيمانها بدعوة محمد، أما أمم النصرانية فالخمر جزء لا يتجزأ من حياتها. كما أن الرهبانية التى ابتدعها مدَّعو التمسك بدينه والتى حذّرنا منها رسول الفطرة النقية المستقيمة قد جرّتْ وراءها انحرافات جنسية خطيرة ومستطيرة، ليس أكبرها الاعتداء على الغلمان والنساء حتى فى أقدس الأماكن عندهم، فضلا عن العلاقات غير الشرعية بين الرهبان والراهبات، وكذلك المُلاَوَطَة بين الأولين، والمُسَاحَقة بين الأخيرات. وهذان مثالان اثنان لا غير على النجاح الخارق الذى أحرزته دعوة رسولنا الكريم والذى لم تستطعه دعوة أى نبى أو مصلح آخر على مدار التاريخ البشرى كله. أما دعوة عيسى عليه السلام حسبما نطالعها فيما يسمى بــ"الأناجيل" فلم تطبَّق ولو ليوم واحد. إننا طول الوقت إزاء جماعة من المرضى والممسوسين والعُرْج والبُرْص والعُمْى يفدون على السيد المسيح طلبًا للبركة والشفاء، مع بعض المواعظ المشجية، وكان الله يحب المحسنين. ومرة ثالثة لا ينتهى الأمر هنا، ذلك أن عيسى، كما نقرأ فى الأناجيل المزيفة، لم يأت إلى قومه بشريعة، ودعنا من نقضه الشريعة الموسوية رغم أنه قد أكد أنه لم يأت لينقض الناموس، بل ليكمله. ثم جاء بولس فأتى على البقية الضئيلة من تلك الشريعة. يعنى بالعربى: "جاء بدرفها"! ومرة رابعة (أو خامسة، لا أدرى) لا تنتهى المسألة عند هذا الحد، إذ لو نظرنا إلى الموضوع من الزاوية الشخصية لوجدنا أن هناك فرقا بين محمد وعيسى كبيرا: فمحمد كان يعيش حياته كاملة فتزوج وأنجب ذرية، أما عيسى فلم يمارس هذا الجانب من جوانب شخصيته. وقد كان محمد خير زوج وأب عرفته الأرض، أما عيسى فلا شك أن حياته لم تعرف هذا الشىء، وإن كنا لا نقف أمامه طويلا ولا نستطيع أن ندلى برأينا فى السبب الذى من أجله لم يقيَّض له عليه السلام أن يتزوج وينجب كما يفعل الرجال فى الظروف المعتادة، إلا أننا نستنكر بشدة ما يتهمه به بعض الملاحدة الغربيين المجرمين من أنه عليه السلام كانت له علاقات منحرفة بهذه أو بذاك من أتباعه. أستغفر الله العظيم من هذا الرجس النجس الذى يراد به تلويث عِرْضِ واحدٍ من أطهر الرسل الكرام. وأخيرا وليس آخرا: أين يا ترى ذهب الإنجيل الذى بشر به السيد المسيح؟ إن الذى معنا الآن إنما هو مجموعة من السِّيَر التى كتبها بعض المنتسبين لدينه بعد وفاته بعشرات السنين ودون أن يلتزموا فيها بأى منهج، إذ كل ما اعتمدوا عليه هو الأقاويل التى سمعوها من هنا وههنا وأوردوها بعَبَلها وعُجَرها وبُجَرها دون تمحيص. وهذه السِّيَر ليست هى السِّيَر الوحيدة التى وصلتنا، بل هناك سِيَرٌ أخرى أهملتها الكنيسة وأخذت بهذه، ولا أحد يعرف السبب الذى على أساسه تمت هذه التفرقة! أما القرآن الذى نزل على قلب محمد فباقٍ كما هو لم يتغير فيه شىء. بهذه الطريقة يمكننا أن نعرف الفرق الحقيقى بين محمد وعيسى عليهما السلام. وإنى لأشبِّههما، كما قلت، بأخوين: أخٍ :د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.comهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته
استعلن القوم فى المهجر بقلة الأدب والسفالة التى كانوا يخفونها تحت رداء الرقة والسماحة والمحبة الكاذبة، وأخذوا يشتمون رسول الله أبشع الشتائم: فهو مرة الرسول المخنَّث، ومرة الرسول النّكَّاح، ومرة الشيطان الكافر المنافق القاتل الزانى اللص. كما سَمَّوْا كتاب الله
قرآن سافو"، و"قرآن رابسو"، و"الوحى الشيطانى"، ووصفوا المسلمين بأنهم كفرة منافقون زناة أولاد زانيات، وألفوا قرآنا كاذبا مزيفا وأطلقوا عليه "الفرقان الحق" تصورا من الأوغاد الأوباش أن بمقدورهم إزاحة كتاب الله وإحلال هذا العهر محله. ولم يكتفوا بهذا بل يرسلون إلينا بخطابات مشباكية ويصرخون فى الفضائيات يهددوننا بأمريكا التى ستأتى وتمحقنا وتعيد دين الله إلى البلاد التى جاء منها، وكأن دينهم صناعة مصرية ولم يأت هو أيضا من خلف الحدود، فضلا عن أن الإسلام لم يتعرض لما تعرض له دينهم من عبث وتحريف... إلى آخر ما يفعلون مما يدل على أنهم قد فقدوا عقولهم وليس فى أيديهم شىء يمكن أن يجادلوا به. وقد كنا نسمع هذا كله ونقرؤه وأكثر منه ثم نسكت ونقول: إذا كان هؤلاء الشراميط مجانين فلنكن نحن عقلاء. ويبدو أن ذلك الموقف المتسامى قد غرَّهم فظنوا أن الساحة خالية لهم يقولون فى ربنا ونبينا وكتابنا وفينا نحن أنفسنا وفى أمهاتنا وآبائنا ما يشاؤون دون رقيب أو حسيب. لكن الكيل قد فاض، فكان لا بد من الرد على هذه السفالات والبذاءات. وفى القرآن الكريم: "فمن اعتدى عليكم فاعْتَدُوا عليه بمثل ما اعْتَدَى عليكم"، "وإنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"، وفى الأمثال والحِكَم التى يرددها العقلاء من جيل إلى جيل: "الشر بالشر، والبادئ أظلم". وفى هذه الهوجة كتب القُمّص المنكوح فى موقعه المعروف على المشباك كلمة بعنوان "بين السيد المسيح والنبى محمد فى القرآن والإنجيل" يقارن فيها بين عيسى بن مريم والرسول الكريم بغية الوصول إلى أن ثمة فرقا شاسعا لا يمكن اجتيازه بين المسيح (الله أو ابن الله) وبين محمد، الذى ينكر القُمّص المنكوح نبوّته كفرا منه وحمقا سيورده بمشيئة الله موارد الجحيم إلا إذا كتب الله له توبةً قبل أن يغرغر. وتقوم الكلمة المأبونة كصاحبها على أساس أن القرآن الكريم يقول فى المسيح كذا وكذا مما لم يذكره لمحمد، وهو ما يدل فى نظر المأبون على أن محمدا رجل كذاب، وأن عيسى بن مريم إله أو ابن للإله، وذلك على النحو التالى:
"المسيح فى القرآن هو:
1ـ كلمة الله 2ـ وروح منه 3ـ آية من الله
4ـ بلا مساس من البشر 5ـ وأنه تكلم فى المهد 6ـ وخلق طيراً
7ـ شفى المرضى 8ـ أقام موتى 9ـ تنبأ بالغيب
10ـ مؤيد بالروح القدس 11ـ مباركاً 12ـ خلت من قبله الرسل
13ـ ممسوح من الأوزار والخطايا 14ـ صعد إلى السموات 15ـ سيأتى حكماً مقسطاً
16 ـ وأنه وجيهاً فى الدنيا والآخرة". ودائما ما يختم الأحمق كلامه فى كل موضوع من هذه المواضيع بالسؤال التالى: وماذا عن محمد؟ وهو سؤال لا يحتاج إلى شرح ما يحمل فى طياته من مغزًى كما هو بَيِّنٌ واضح. وسوف نتناول ما قاله هذا المنكوح بمنطق باتر لا يفهمه لا هو ولا أمثاله ممن تعودوا على الإيمان بما لا يعقلون، بل يرددون ما يُلْقَى إليهم دون وعى ولا إدراك ولا ذوق.
وسنبدأ بما قاله عن وصف القرآن للسيد المسيح بأنه "كلمة الله". وهذا كلامه بنصّه: "المسيح هو كلمة الله : (1) (النساء 4: 171) "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه". (2) (سورة آل عمران 3: 45) "إذ قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشرك بكلمة منه، إسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً فى الدنيا والآخرة ومن المقربين".(3) (يوحنا 1: 1،2،14) "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله. كان فى البدء عند الله. والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب". (4) معنى الكلمة فى اللغة اليونانية التى كُتب بها الكتاب المقدس هى : لوغوس: أى عقل الله الناطق". والواقع أننى لا أدرى كيف يمكن الوصول إلى النتيجة التى يريدها هذا الأفاك من النصوص القرآنية التى أوردها. إن القرآن يؤكد أن المسيح عليه السلام لم يكن سوى رسول، أى أنه لم يكن إلها أو ابن إله، إذ ليس للقَصْر فى هذا الموضع إلا ذلك المعنى. بل إن مجرد كونه رسولا ليس له من معنى إلا أنه كان بشرا، فقد جاء فى القرآن عن الرسل قوله سبحانه وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نُوحِى إليهم" (يوسف/ 109، والنحل/ 43)، "ولقد أرسلنا رُسُلاً من قَبْلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" (الرعد/ 38)، "يا بنى آدم، إمّا يأتينّكم رسل منكم (أى بشر مثلكم)..." (الأعراف/ 35). أى أن الرسل لم يُبْعَثوا إلا من البشر، سواء قلنا إن "الرجال" هنا معناها "البشر" على وجه العموم (جمع "رَجُل" و"رَجُلَة") أو "الذكور" منهم خاصة. ذلك أن الوثنيين كانوا يستنكرون أن يكون الرسول من البشر، قائلين: "أَبَعَث اللهُ بشرًا رسولا؟" (الإسراء/ 94)، فرَدَّ القرآنُ عليهم: "قل: لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنّين لنزّلنا عليهم من السماء مَلَكًا رسولا" (الإسراء/ 95). وبالمثل يقع النص التالى قريبا من هذا المعنى: "وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ " (الأنعام/ 8- 9). فمعنى أن المسيح عليه السلام لم يكن سوى رسول أنه كان بشرا من البشر. وقد قال القرآن هذا ردًّا على كفر النصارى الذين ألّهوه عليه السلام كما هو معروف، لكن زيكو مزازيكو يظن بخيابته أنه يستطيع خداع القراء، على حين أنه لا يخدع إلا نفسه ومن على شاكلته ممن يعيشون على الكذب والتدليس. ويا ليته تدليس ذكى، إذن لكنا أُعْجِبْنا ببهلوانيته وتنطيطه، لكنه تدليس غبى مثل صاحبه لا يبعث على الإعجاب، بل على البصق على وجه المدلِّس الكذاب!
أما وصف القرآن له عليه السلام بأنه كلمة من الله فمعناه أنه قد خُلِق بالأمر المباشر لأنه لم تكتمل له الأسباب الطبيعية التى تحتاجها ولادة طفل جديد: وهى الاتصال الجنسى بين رجل وامرأة، وتأهّل كليهما للإنجاب، ووقوع الاتصال فى الأوقات التى يمكن أن يتم فيها الحمل، وغير ذلك. والمقصود أن الله قد قال له: "كن" فكان، وهو نفسه الحال فى خَلْق آدم: "إنّ مَثَلُ عيسى عند الله كمَثَل آدم. خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون" (آل عمران/ 59). إن الكذاب البهلوان يحاول الاستشهاد بالقرآن، فكان من الواجب عليه الأمانة فى النقل عن القرآن وعدم اقتطاع أى نص من نصوصه من سياقه العام ولا من سياقه فى الآيات التى تحيط به...إلخ.
ثم إن المدلّس البهلوان يسوق لنا كلام يوحنا ليدلل به على ألوهية المسيح عليه السلام، وهو: "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله. والكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب" (يوحنا 1: 1، 2، 14). وهذا كلام مضحك لا يوصّل لشىء مما يريد أن يدلّس به علينا، إذ إن يوحنا يتناقض من كلمة للكلمة التى تليها مباشرة، وليس عنده البراعة فى حَبْك البكش الذى يمارسه للأسف. كيف؟ لقد قال فى البداية إن الكلمة كان (أو كانت) عند الله. أى أنها لم تكن هى الله، بل عند الله. ذلك أن الشىء لا يكون عند نفسه، بل عند غيره. لكن يوحنا سرعان ما ينسى فيقول إن الكلمة التى كانت عند الله هى الله ذاته. الله أكبر! ثم لا يكتفى جنابه بهذا أيضا بل يمضى فى التخبط قائلا إن الكلمة كانت كالابن الوحيد للأب (أو "الآب")، وكل ذلك فى سطرين اثنين لا غير! ومع ذلك كله فإنه لا يكتفى بهذا ويكفأ على الخبر الفاضح ماجورا، بل يأبى إلا أن تكون الفضيحة من النوع ذى الجلاجل، أى الأجراس والشخاليل، حتى يمكن أى راقصة شرقية أن تتشخلع عليها وتأخذ راحتها على الآخر وتكون الليلة ليلة فُلَّلِيّة! ولهذا نراه يقول إن معنى "الكلمة" فى اللغة اليونانية التى كُتب بها الكتاب المقدس هى "لوغوس"، أى عقل الله الناطق. الله أكبر مرة أخرى وثالثة ورابعة وعاشرة ومائة وألفا ومليونا... إلى ما شاء الله!
معنى هذا أن البكّاش قد جعل هو ويوحناه من "الكلمة" شيئا عند الله، ثم عادا فجعلاها هى الله ذاته، ثم عادا فجعلاها ابنه الوحيد، ثم عادا فجعلاها عقل الله (عقل الله الناطق من فضلك، وليس عقله الأخرس الأبكم. ترى هل هناك عقل ناطق وعقل ساكت؟ ولمن؟ لله سبحانه!). فتعالَوْا "أيها المتعبون والثقيلى الأحمال" نحاول معا أن نحل هذه الفزورة (أو "الحزورة" كما يقول بعض الأطفال)! أما إنك يا زيكو "لَوَضِيعٌ ومتواضعُ العقل" كما جاء فى كتابك المقدس، مع استبدال "الوضيع" بــ"الوديع" و"العقل" بــ"القلب" لتناسب الموقف المضحك الذى نحن فيه! طيب يا وضيع يا متواضع العقل، ألم تفكر فيما سيحدث لله حين يتركه عقله ويأتى فيتجسد فى دنيانا؟ ترى كيف سيدبر سبحانه العالم بدون عقل؟ ألا خيبة الله على عقلك التَرَلَّلِى أنت وقائل هذا السخف! يا أيها الوضيع المتواضع العقل، إننا الآن فى القرن الحادى والعشرين، وأنت وأمثالك ما زلتم ترددون هذا الكلام المضحك الذى تحاول أن تضحك علينا به ويقول الغربيون إنهم قد تجاوزوه، على حين أنهم فى أوروبا و"أمريكا يا ويكا" يشجعونك أنت وأشباهك من المعوقين عقليا ونفسيا على ترديد هذا الكلام! لا وإيه؟ إنهم يشجعونكم على محاولة تنصير أولادنا وبناتنا وتحويلهم إلى مجموعة من المعاتيه المخابيل عَبَدة الخِرْفان ذات الجِزّة الصوفية المعتبرة التى يمكن بعد ذبحها وأكلها أن نتخذها "فروة" نفرشها تحت أقدامنا فى ليالى الشتاء الباردة فنكون قد استفدنا من الخروف لحما وصوفا ولم نرم منه إلا المصارين والأظلاف والقرون! لا بل إننا لنستطيع أن نصنع من المصارين (بعد غسلها جيدا) سجقا لذيذا، ومن الأظلاف والقرون غِرَاءً نلصق به شفتيك النجستين فلا تزعجنا بعدها بكلامك هذا الأبله!
ليس ذلك فقط، بل إن الوغد ليتكلف خفة الظل تكلفًا رغم ثقل روحه، فيسوق قوله تعالى: "قل: سبحان ربى! هل كنت إلا بشرًا رسولاً؟" (الإسراء/ 93)، "إنما أنا بشرٌ مثلكم" (الكهف/ 110، وفُصِّلَتْ/ 6) دليلا على أن القرآن، فى الوقت الذى يحكم فيه لعيسى أنه ابن الله أو الله نفسه، يقول عن محمد إنه ليس سوى رسول. وهذا كله كذب وخداع لا أدرى كيف يجرؤ أى إنسان يحترم نفسه ويقول إنه على الحق أن يُقْدِم عليه! أيمكن أن يُقْبِل مثل ذلك الشخص على الكذب بهذا الأسلوب المفضوح السخيف؟ لقد كان على الرجل، إذا تنازلنا وقلنا عن أمثاله إنهم رجال، أن يُطْلِع قارئه على الآيات القرآنية الكريمة التى تنفى الألوهية تماما عن عيسى عليه السلام وتؤكد أنه مجرد إنسان كسائر الناس، يأكل ويشرب ويدخل الحمام ليعمل كما يعمل الناس، وأنتم تعرفون بطبيعة الحال ماذا يعمل الناس فى الحمام! أليس كذلك؟ أم أقول لكم ماذا كان يفعل هناك؟ لا، لا داعى للإحراج، ولا داعى لأن تدفعونى إلى التصريح بأنه كان يتبول ويتبرز، لأن التصريح هنا لا يصح! ثم أى إله ذلك الذى كان يعملها على روحه وهو طفل صغير فتمسحها له أمه بخرقة؟ يا له من إله! أم تراكم تقولون إنه كان يتبول عصيرًا، ويتبرز كفتةً وكبابًا؟ لكنه لن يكون حينئذ أيضا إلا بشرا لأن الآلهة لا تتبول ولا تتبرز على أى نحو! ثم يجد المتاعيس فى أنفسهم جرأة ليشتموا رسولنا ويقولوا عنه: "الرسول النكّاح". طيب، وما له؟ فلم إذن خُلِق الرجال إذا لم ينكحوا النساء؟ أم تراهم يُنْكَحون كالنساء مثلما يُنْكَح أشباه هذا الجلف من القساوسة والأساقفة ممن كانوا طول عمرهم يُنْكَحون، ثم لم يعودوا الآن فى بلاد الغرب يهتمون بالتوارى عن الأنظار والاستخفاء بهذا الرجس عن عيون الناس فأصبحوا يعلنون أنهم يُنْكَحون، مع أننا نعرف أنهم كانوا كذلك من قديم الأزل، لأن الإنسان إما ناكح أو منكوح يا زيكو يا أبا المناكيح!
قال تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة/ 72- 77)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المائدة/ 116- 117)، "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة/ 30- 31). كما مر قبل قليل أن عيسى مثل آدم: كلاهما مخلوق بكلمة "كن" لا من اتصال رجل بامرأة!
ويستمر زيكو مزازيكو فى تخاريفه التى يخال أنها يمكن أن تجوز على العقول، غير دارٍ أن عقول الآخرين ليست كلها كعقله الضحل المتهافت، فتراه يستشهد على زعمه أن المسيح يختلف عن الرسول الكريم (فى أنه روح، وبالتالى فإنه إله لا إنسان) بقوله جل جلاله: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (النساء/ 171). ثم يعقب قائلا إن "البعض يعترض بأن معنى "روح" الله أى "رحمة" من الله. والواقع أنا لا أدرى لماذا يموّه المسلمون الحقائق. ففى "المعجم الوسيط" (الجزء الأول ص 380) تجد هناك كلمتين : 1ـ (الرَّوْحُ): [بفتح الراء وسكون الواو] معناها: الراحة أو الرحمة. أو نسيم الريح. 2ـ (الرُّوحُ): [بضم الراء ومد الواو] معناها: النفس. و(رُوحُ القدُس): [عند النصارى] الأقنوم الثالث. ويقول البعض أن المقصود بروح القدس فى القرآن هو جبريل عليه السلام (سيأتى الحديث عن ذلك بعد قليل). وقد يعترض البعض أيضاً بأن مَثَل المسيح أنه روح من الله كمَثَل آدم الذى قيل عنه: "ونفختُ فيه من روحى" [سورة الحجر/ 29، وسورة ص/ 72]. فدعنا نناقش هذا الرأى. بمقارنة ما قيل عن المسيح وعن آدم نجد اختلافاً كبيراً:
المسيح آدم
إنما المسيح ... روح منه ونفختُ فيه من روحى
ومعنى روح منه : يتطابق مع الآيات القرآنية التى تتحدث عن تأييد السيد المسيح بالروح القدس، وهو فى المهد، كما توضح الآيات التالية … هذا التعبير الذى قيل عن آدم ليس كالتعبير الذى قيل عن المسيح، بل كالتعبير الذى قيل عن مريم: [الأنبياء/ 91] "والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" فهل نحن نؤله العذراء؟
ومن الواضح الجلى أن الرجل قد غُشِّىَ على عقله تماما، إذ مهما يكن معنى الروح فى كلام القرآن عن عيسى عليه السلام فلا ريب أن "الروح" هنا هى نفسها الروح فى حال سائر البشر، أما ما يقوله هو فكلام فارغ لا سبيل إلى صحته أبدا. كيف؟ يقول زكزك إن القرآن يقول عن آدم: "ونفحتُ فيه من روحى"، مثلما يقول عن مريم: "ونفخنا فيها من روحنا". أى أن النفخ، حسبما يقول، لم يتم فى آدم وعيسى، بل فى آدم ومريم، فلا وجه للشَّبَه إذن بين آدم وعيسى. أتعرف أيها القارئ ما الذى يترتب على هذا؟ الذى يترتب عليه هو أن يكون الخارج من آدم ومريم متشابهين، أى أن البشر جميعا (وهم الذين خرجوا من صلب آدم) يشبهون عيسى (الذى خرج من رحم مريم). وعلى هذا فإما أن نقول إن الطرفين جميعا (البشر من ناحية، وعيسى من الناحية الأخرى) آلهة إذا قلنا إن "الروح" هنا تعنى "الألوهية"، أو أن نقول إنهما جميعا بشر على أساس أن "الروح" تعنى "الحياة والوعى والإرادة وما إلى ذلك". واختر يا زيكو ما تحب، ولكن عليك أن تعرف أن الطريق أمامك إلى التمييز بين عيسى عليه السلام وأبناء آدم مسدود، إذ هما شىء واحد. ويبقى آدم نفسه: فأما الإسلام فيقول إنه بشر مخلوق من طين، وأما الكتاب المقدس فيقول فى نسبه إنه ابن الله، فى الوقت الذى ينسب عيسى إلى يوسف النجار. يا ألطاف السماوات! هكذا؟ نعم " هكذا ببساطة وبكل وضوح!": "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي 24 بن متثات بن لاوي بن ملكي بن ينّا بن يوسف 25 بن متاثيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي بن نجّاي 26 بن مآث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا 27 بن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شألتيئيل بن نيري 28 بن ملكي بن أدي بن قصم بن ألمودام بن عير 29 بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي 30 بن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن ألياقيم 31 بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود 32 بن يسّى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون 33 بن عميناداب بن ارام بن حصرون بن فارص بن يهوذا 34 بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم بن تارح بن ناحور 35 بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح 36 بن قينان بن ارفكشاد بن سام بن نوح بن لامك 37 بن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان 38 بن انوش بن شيت بن آدم ابن الله" (لوقا/ 3). فالمسيح، كما هو واضح من النص، لم يُنْسَب لله، بل الذى نُسِبَ لله هو آدم! يعنى؟ يعنى أن الكتاب المقدس نفسه يضع آدم فى مكانة أعلى بما لا يقاس بالنسبة للمسيح، عليهما جميعا السلام. وغنى عن القول إننا لا نولى هذا الكلام المضحك شيئا من الاهتمام على الإطلاق!
وفى النص التالى، وهو عبارة عن الإصحاح الأول كله من إنجيل متى، نقرأ: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم . 2 ابراهيم ولد اسحق . واسحق ولد يعقوب . ويعقوب ولد يهوذا واخوته . 3 ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار . وفارص ولد حصرون . وحصرون ولد
ارام . 4 وارام ولد عميناداب . وعميناداب ولد نحشون . ونحشون ولد سلمون . 5 وسلمون ولد بوعز من راحاب . وبوعز ولد عوبيد من راعوث . وعوبيد ولد يسى . 6 ويسى ولد داود الملك . وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا. 7 وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا . وابيا ولد آسا . 8 وآسا ولد يهوشافاط . ويهوشافاط ولد يورام . ويورام ولد عزيا. 9 وعزيا ولد يوثام . ويوثام ولد آحاز . وآحاز ولد حزقيا . 10 وحزقيا ولد منسّى . ومنسّى ولد آمون . وآمون ولد يوشيا . 11 ويوشيا ولد يكنيا واخوته عند سبي بابل . 12 وبعد سبي بابل يكنيا ولد شألتيئيل . وشألتيئيل ولد زربابل . 13 وزربابل ولد ابيهود . وابيهود ولد الياقيم . والياقيم ولد عازور . 14 وعازور ولد صادوق . وصادوق ولد اخيم. واخيم ولد اليود . 15 واليود ولد أليعازر . وأليعازر ولد متان . ومتان ولد يعقوب . 16 ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح . 17 فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا . ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا 18 اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا . لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس . 19 فيوسف رجلها اذ كان بارا ولم يشأ ان يشهرها اراد تخليتها سرّا . 20 ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك . لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس . 21 فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلّص شعبه من خطاياهم . 22 وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل . 23 هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا 24 فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب واخذ امرأته . 25 ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر . ودعا اسمه يسوع". ولاحظ كيف أن سلسلة نسب المسيح تمر قبله مباشرة بيوسف النجار. لماذا؟ أترك الجواب لعبقرية زكازيكو تفكر فيه على مهل! إذن فآدم (وليس المسيح) هو ابن الله، أما المسيح فابن ... ابن من؟ حزّر فزّر! وبالمناسبة فلم يحدث قط أن سُمِّىَ المسيح عليه السلام: "عمّانوئيل" من أى إنسان، رغم أن هذا الاسم يُطْلَق على كثير من الناس الذين ليسوا بأبناء لله! كما أن النص يقول إنها ستسميه: "يسوع" لكى تتحقق النبوءة القديمة التى تقول إنه سيسمَّى: "عمانوئيل"! أرأيتم الضلال والغباء والعمى الحيسى؟ فكأن الله يأبى إلا أن يخزى القوم فى كل ما يقولون كذبا وبهتانا عن عيسى وبنوته لله سبحانه، ومن فمهم وبلسانهم نفسه يُدَانُون!
وكان الناس جميعا يقولون إن أبا عيسى هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة! لقد كتب يوحنا فى إنجيله (1 / 5) أن الناس كانت تسميه: "ابن يوسف"، وهو نفس ما قاله متى (1 / 55) ولوقا (3 / 23، و 4/ 22)، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم. بل إن لوقا نفسه قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما "أبواه" أو "أبوه وأمه" ( 2 / 27، 33، 41، 42 ). كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه (لوقا /2 /48). وقد رأينا كيف أن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم، وهو إنجيل متى، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ("رجل مريم" كما سماه مؤلف هذا الإنجيل) ثم تتوقف عنده. فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة...؟ لقد توقعتُ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس لـه أب من البشر، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا، فعرفتُ أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا.
أما إذا أصر الرجل (الرجل مجازا فقط) على القول بأن عيسى هو ابن الله، فليكن صادقا وشريفا مرة واحدة فيذكر أن كلمة "ابن الله" أو "أبناء الله" قد أُطْلِقت فى كتابه المقدس على بَشَرٍ كثيرين منذ أول الخليقة حين سُمِّىَ آدم كما رأينا: "ابن الله". وهذه شواهد على ما نقول، وهى أكبر برهان على أن كل ما يزعمه القوم هو كلام باطل: باطل بأدلة من كتابهم المقدس نفسه لا من العقل والمنطق فحسب، فضلا عن القرآن الكريم: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض وولد لهم بنات 2 ان ابناء الله رأوا بنات الناس انهنّ حسنات. فاتّخذوا لانفسهم نساء من كل ما اختاروا... وبعد ذلك ايضا اذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم اولادا . هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم 4" (تكوين/ 6)، "قدموا للرب يا ابناء الله قدموا للرب مجدا وعزّا" (مزمور/ 1/ 29)، ” من في السماء يعادل الرب . من يشبه الرب بين ابناء الله" (مزمور/ 6/ 89)، "اسرائيل ابني البِكْر" (خروج/ 1/ 22، و4/ 22- 23). كما يصف الله داود قائلا: "أنت ابنى. أنا اليوم ولدتك". (مزمور/ 2/ 7)، ويبتهل أشعيا له بقوله: "أنت أبونا" (أشعيا/ 63/ 15- 16)، كما يقول المسيح ذاته: ”طوبى لصانعي السلام. لانهم أبناء الله يُدْعَوْن" (متى/ 9/ 5)، "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى فى السماوات" (متى/ 6/ 1)، ويقول النصارى فى صلواتهم: "أبانا الذى فى السماوات..."، فضلا عن أن المسيح قد أخذه الشيطان ليجربه فوق الجبل ويدفعه إلى السجود له، وليس من المعقول أن يجرب الشيطان الله ليرى أيمكن أن يسجد له الله أم لا، مثلما ليس من المعقول أن يكون رد الله على الشيطان هنا هو: "اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد"، وهو ما يعنى بكل جلاء أن عيسى كان ينظر لله على أنه "ربه" لا على أنه "هو نفسه" ولا على أنه "أبوه"، وعلى أن من الواجب عليه أن يسجد له. كما أنه عليه السلام قد سمَّى نفسه أيضا: "ابن الإنسان" (متى/ 11/ 19)، وهى ذات الكلمة التى استخدمها للإنسان كجنس (متى/ 12/ 8). وفوق ذلك فإن له، عليه السلام، كلمة ذات مغزى خطير، إذ يُفْهَم منها أن "البنوّة" التى يعبِّر بها أحيانا عن علاقته بالله ليست شيئا آخر سوى الطاعة المخلصة له سبحانه والانصياع لإرادته انصياعا تاما. ومن هنا نراه يقول عن كل من يفعلون مثلما يفعل إنهم إخوته وأمه، كما هو الحال عندما أخبروه ذات مرة، وكان بداخل أحد البيوت، بأن أمه وإخوته بالخارج يريدونه، فأجابهم قائلا: "من هى أمى؟ ومن هم إخوتى؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمى وإخوتى، لأن من يصنع مشيئة أبى الذى فى السماوات هو أخى وأختى وأمى" (متى/ 12/ 47- 49). وهى إجابة تدل على أنه أن أمه لم تكن تستحق بنوته لها ولا أن إِخْوَته يستحقون أُخُوّته لهم، وذلك لما يراه من تفريطها وتفريطهم فى الإيمان بدعوته. وهو ملحظ فى منتهى الخطورة، إذ ها هى ذى أم الإله يتبرأ منها ابنها ولا يراها جديرة بأن يجمع بينه وبينها نسب واحد. يا لها من ألوهية رخيصة! ويا له من نسب لا يشرِّف!
بعد ذلك كله فإن الجواب على السؤال التالى الذى طرحه الملتاث: "هل قيل فى القرآن كله إن محمداً هو روح من الله؟" هو: "لم يُقَلْ ذلك فى القرآن عن محمد وحده، بل قيل عن آدم أبى البشر، ومن ثم عن البشر كلهم بما فيهم محمد عليه السلام كما رأينا. والسبب هو أن آدم لم يُخْلَق بالطريق الذى أصبح هو الطريق المعتاد بعد خلق آدم وحواء، أى من خلال رجل وامرأة، فلذلك نفخ الله فيه مباشرة من روحه، وهو ما تكرر فى حالة السيد المسيح عليه السلام، وإن كان على نحو أضيق، إذ كانت له أم، بخلاف آدم، الذى لم يكن له أب ولا أم.
بل إننا لنذهب فى تحدى زيكو بالتنبيه إلى أنهم إذا كانوا يتخذون من خلق المسيح دون أب دليلا على أنه ابن الله، فليمضوا مع منطقهم إلى آخر المدى ويجعلوا آدم هو الله نفسه (أستغفر الله!) لا ابنه فقط لأنه لم يكن له بابا ولا ماما، فهو إذن يتفوق على المسيح من هذه الناحية كما هو واضح إن كان فى هذا تفوق على الإطلاق، وهو ما لا نسلم به، لكننا نتبنى منطق الأبعد لقطع الطريق عليه وعلى بهلوانياته! ثم إن المسكين يستمر فى سياسة البكش فيقول إن قوله تعالى على لسان مريم تخاطب الروح حين تمثل لها بشرا كى ينفخ فيها: "أَنَّى يكون لى غلامٌ، ولم يَمْسَسْنى بَشَرٌ؟" معناها أنه عليه السلام "ليس من بشر". وهذا غير صحيح البتة، فقد جاء عليه السلام من بشر، وهى مريم، التى حملت به وحفظته فى رحمها وتغذى من دمها الذى يجرى فى عروقها تسعة أشهر، ثم وضعته وأرضعته من لبنها الذى فى صدرها، إلا أنه لم يكن له أب. وهذا كل ما هنالك! فإذا قلت: "النفخة"، كان جوابنا: لكن آدم تم النفخ فيه دون أن يكون هناك رَحِمٌ يحمله ولا صدرٌ يرضعه ولا أم تربّيه...، وهذا أَوْغَل فى الخروج عن السنن المعتادة فى الخلق!
بعد ذلك ينتقل زيكو إلى نقطة أخرى هى تأييد المسيح بروح القدس، الذى يجعله دليلا على أن عيسى يتفوق على محمد عليه السلام، وهذا نص كلامه: "التأييد بالروح القدس: (البقرة 2: 78، 253) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدُس". وللرد على ذلك نورد الأدلة والبراهين القاطعة التى تثبت بطلان هذا الإدعاء، من هذه الأدلة : 1ـ [سورة المائدة 5: 110] "إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلا". 2ـ فإن هذه الآية غاية فى الأهمية فى دلالتها، إذ توضح أن تأييد المسيح بروح القدس هو منذ أن كان فى المهد صبيا، ولذلك كلم الناس فى هذه السن. فكيف يكون الروح القدس هو جبريل، وهو الذى نطق على لسان من فى المهد؟ 3ـ كيف يتفق هذا مع ما جاء فى [سورة يوسف 12: 87] "ولا تيأسوا من روح الله ، ولا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرين" فهل معنى روح الله هنا هو جبريل ؟ 4ـ وقد جاء تفسير روح الله فى [تفسير ابن كثير ج2 ص260] "لا تيأسوا أى لا تقطعوا رجاءكم وأملكم (من روح الله) أى من الله". 5ـ [وأيضاً تفسير ابن كثير ج1 ص87] "روح منه: أى اسم الله الأعظم". 6ـ وهناك آيات تشهد أن القدوس هو الله: [سورة الحشر 59: 23] "هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس" وأيضاً فى [سورة الجمعة 62: 1] "يسبح لله ما فى السموات وما فى الأرض الملك القدوس".
وكما يرى القارئ بنفسه، فالرجل يخبص خبصا كثيرا دون عقل أو منطق. إنه يتصرف كقاتل ضُبِط وهو يطعن ضحيته، وقد تضرجت يداه بالدماء، فهو يتخبط ويكذب ويحلف زورا بغية التفلت من قبضة الشرطة والعدالة. ولكن كيف يا زيكو، وقد ضُرِب حولك حصار محكم لا يمكنك الهروب منه. إن الأسداد لتأخذك من كل ناحية. إنه يزعم أن المسيح، بنص القرآن، كان مؤيَّدا بالروح القدس، أما محمد فلا. يريد أن يقول إن عيسى عليه السلام كان إلها أو ابن إله، أما محمد فمجرد بشر عادى. إذن فسيادة جنابه يستشهد بالقرآن، أولم يقرأ إذن فى القرآن قوله تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ (يا رسول الله) فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون* وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل/98- 102)، "وَإِنَّهُ ( أى القرآن) لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (الشعراء/ 192- 195)، "رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ" (غافر/ 15)، "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ (أى عَادَى) اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة/ 22)؟
فكما يرى القارئ العزيز، فإن روح القدس لا يؤيد الرسول الكريم فقط، بل ينزل على قلبه بالقرآن مثلما ينزل على كل الرسل والأنبياء، كما أنه يؤيد المؤمنين الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله. وليكن معنى "الروح القدس" بعد هذا ما يكون، فالمهم أنه لا يختص بعيسى عليه السلام، وعلى هذا لا يمكن اتخاذه ذريعة للقول بتميز عيسى تميز الإله أو ابن الإله عن سائر البشر. أما خلط صاحبنا الأبله فى قوله تعالى: "وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه ِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (الذى يحرّفه على طريقتهم فى التلاعب بكتبهم فيكتبه هكذا: "ولا تيأسوا من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرين" متعمدا عدم ضبط "الروح" لغرض فى نفسه سيتضح للتو، ومبدلا عبارة "إنه لا ييأس" إلى "ولا ييأس"، ومخطئا بجلافة لا تليق إلا بواحد مثله فيكتب: "الكافرين" مكان "الكافرون")، أقول: أما خلطه بين "الرُّوح" (بضم الراء المشددة) كما فى الآيات الآنفة و"الرَّوْح" (بفتح الراء، وهو الراحة والرحمة) رغم أنه سبق أن فرق بينهما قبل قليل، فهو مصيبة المصائب. إنه، كما قلت، بهلوان، ومن ثم لا يثبت على حل ولا على حال، بل كلما رأى ما يظن أنه يمكن أن يخدم قضيته سارع باتخاذه دون أن يعى أنه قد سبق له اتخاذ عكس ذلك تماما.
وعلى أى حال فكيف يا ترى يكون روح الله وروح القدس هو الله؟ كيف يكون روح الله هو الله نفسه، أو يكون "روح القدس" هو "القدوس"؟ لكن إذا تذكرنا ما قلناه عن "كلمة الله" التى كانت "عند" الله، ثم أصبحت بعد قليل هى "الله" ذاته، لتعود مرة أخرى فتكون "وحيد الله"، ثم "عقل الله" عرفنا أن صلاح حال القوم ميؤوس منه، فهم هكذا كانوا، وهكذا سيظلون، ولا أمل فى تغيرهم، وإلا انهار بناؤهم كله لأنه بناء مؤسس على السراب! إن وصف الروح هنا بالقداسة لا ترتِّب للمسيح أية ألوهية أو بنوة لله، وإلا فقد وُصِف الوادى الذى رأى فيه موسى النار بـــ"الوادى المقدس"، مثلما وُصِفت أرض فلسطين بــ"الأرض المقدسة" و"المباركة". أفنجعل منهما أيضا إلهين أو ولدين من أولاد الإله؟ قال عز شأنه على لسان موسى عليه السلام: "يا قوم، ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم" (المائدة/ 21)، وقال جل جلاله مخاطبا موسى: "يا موسى، إنى أنا ربك، فاخلع نعليك. إنك بالوادى المقدَّس طُوًى" (طه/ 12). وعلى أية حال فلم يوصف عيسى عليه السلام فى القرآن بالقداسة، فهل نقول إنه أقل مرتبة وشأنا من وادى الطور وأرض فلسطين؟
كذلك يشير صُوَيْحِبنا إلى وصف القرآن لعيسى عليه السلام بأنه "آية"، متسائلا: هل فى القرآن أيضا أن محمدا آية كالمسيح؟ ولنقرأ ما قال نصًّا: "آية من الله : (1) [سورة المؤمنون 23: 50] "وجعلنا ابن مريم وأمه آية". (2) [سورة الأنبياء 21: 91] "فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين". (3) [سورة مريم 19: 21] "قال كذلك قال ربك هو علىّ هين، ولنجعله آية للناس". (4) [المعجم ج1 ص 35] "آية تعنى: العلامة والإمارة، العبرة، والمعجزة ". وماذا عن محمد؟ هل قيل فى القرآن كله أن محمداً كان آية من الله؟".
وهو بهذا يظن أنه قد وضعنا فى "خانة اليك"، مع أن الكلام الذى يقوله هنا لا يخرج عن الترهات والتفاهات التى يحسب أصحابها الجهلاء أنها هى العلم اللدنى. ولنبدأ على بركة الله فى قَشّ ذلك السخف بِمِقَشّة العلم والعقل فنقول: لقد وَصَفَتْ بعضُ الآيات السيدةَ مريم مع المسيح معا بــ"الآية"، أفنفهم من هذا، بناءً على منطقكم، أنها تساوى المسيح، أى أنها هى أيضا إله؟ فهذه واحدة، أما الثانية فكيف يا أخرق قد فاتك أن الآية (التى تجعل منها قصة وأقصوصة) قد تكون ناقة، أو جرادا وضفادع ودما وقملا، أو طينا وطيرا، أو مائدة طعام، أو جثة فارقتها الروح قد لفظها البحر، أو عصًا تحولت إلى ثعبان، أو عَجْزًا عن النطق... إلخ؟ فهل نجعل الناقة والعصا والقملة والضفدعة والطين والطير آلهة مثلما تريدون أن تجعلوا من وصف عيسى عليه السلام بــ"الآية" دليلا على أنه إله وأنه يتميز من ثم على محمد عليه السلام؟ وهذا إن حصرنا معنى الآية فى المعجزة، وإلا فكل شىء فى العالم من حولنا هو آية على وجود الله وقدرته وحكمته. وقد تكررت الكلمة كثيرا فى القرآن بهذا المعنى كما هو معروف، ومن ذلك قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون"َ (البقرة/ 164)، "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" (النحل/ 10- 13)، "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ " (الروم/ 21- 25)... إلخ. إذن فأين الميزة التى تظن أيها الأبله أن عيسى عليه السلام يتفوق بها هنا على سيد الأنبياء والمرسلين؟ إننا نحب سيدنا عيسى ونجله ونحترمه ونضعه فى العيون منا والقلوب، بل نعد أنفسنا أتباعه الحقيقيين المخلصين، لكننا لا يمكننا القبول بألوهيته، وإلا كفرنا بالله سبحانه وبرسله الكرام الذين إنما أَتَوْا ليَدْعُوا أول شىء إلى وحدانية الله سبحانه وعدم الإشراك به.
والآن لتنظر إلى قوله تعالى فى النصوص التالية التى تشهد لما نقول، وذلك لو كان لك عينان للنظر أو أذنان للسمع، وأشك فى ذلك كثيرا، فعينا البعيد ليستا تنظران، كما أن أذنيه ليستا تسمعان. ذلك أنه قد طُمِس، والعياذ بالله، على سمعه وبصره. يقول صالح عليه السلام لقومه: "وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ" (هود/ 64)، ويقول سبحانه عن قوم فرعون: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ" (الأعراف/ 133)، "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِين"َ (المائدة/ 112- 114)، ويقول تعالى مخاطبا زكريا عليه السلام: "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ ألاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ" (آل عمران/ 41). .. إلخ. ثم إن "الآية" هى شىء يخلقه الله، أى أنها شىء مخلوق لا إله ولا ابن إله! هل رأيت الآن بنفسك، أيها القارئ الكريم، كيف ضاقت بل استحالت على الرجل السبل والمذاهب؟
وينتقل الجاهل إلى نقطة أخرى ليوقع كالعادة نفسه فى مأزق جديد ما كان أغناه عنه لولا حماقته وسخف عقله. إنه يذكر الآيات التى أجراها الله سبحانه على يد عيسى عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام، وهى كلامه فى المهد، وإبراؤه الأكمه والأبرص وشفاؤه المرضى وإحياؤه الموتى وخلقه الطير من الطين بإرادةِ الله وقدرتِه لا بقدرة منه هو ولا بإرادته، فضلا عن تمكينه سبحانه إياه من التنبؤ بما يأكل الناس وما يدّخرونه فى بيوتهم، ثم يتساءل قائلا: وماذا عن محمد؟ يعنى أن الرسول الكريم لا يمكن أن يسامى عيسى عليه السلام هنا أيضا! وهذه مكايدة صغيرة مضحكة، فإن لمحمد عليه السلام معجزاته التى روتها كتب السيرة والأحاديث، وإن كانت من نوع مختلف، مثلما أن لكل من الأنبياء والرسل الآخرين معجزته الخاصة به. أى أن عيسى لا يتميز عن غيره من النبيين والمرسلين هنا أيضا. وهبه انفرد بوقوع المعجزات على يديه دون غيره من الأنبياء والرسل الكرام، أفينبغى أن نعد هذا تميزا منه عليهم؟ لا، لأنه لم يفعل ذلك ولم يستطعه من تلقاء نفسه، بل بقدرة الله سبحانه وإرادته. وهو، قبل هذا وبعد هذا، ليس إلا نبيا من الأنبياء ورسولا من المرسلين، أى عبدا من العباد، وهذا هو المهم لأنه هو جوهر الموضوع، أما وقوع المعجزات أو عدم وقوعها فلا يعنى شيئا ذا بال فى تلك القضية!
أما الإنباء بالغيب ففى القرآن نبوءة بانتصار الروم على الفرس فى بضع سنين، وقد تحققت. وفى القرآن نبوءة بانتصار الإسلام على غيره من الأديان، وقد تحققت. وفى القرآن نبوءة بأن الناس لن تستطيع قتل الرسول عليه السلام، وقد تحققت. وفى القرآن أن الحلى تُسْتَخْرَج من البحر العذب ومن البحر الملح كليهما، وهو ما لم يكن أحد يعرفه فى منطقة الشرق الأوسط على الأقل، ثم اتضح الآن أنه صحيح. وفى القرآن نبوءة بأن عبد العُزَّى عم الرسول سيَصْلَى نارا ذات لهب، وقد تحققت، إذ مات كافرا. وفى الحديث نبوءة بأنه سيأتى يوم على المسلمين تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأَكَلَة على قصعتها، لا من قلة فى العدد، بل لأنهم غُثَاء كغثاء السَّيْل (يعنى: زبالة)، وقد تحققت فى الأعصر الأخيرة، وبخاصة هذه الأيام كما يرى كل من له عينان. وقد قال الرسول ذلك، والمسلمون فى عز قوتهم الإيمانية حينما كان الإسلام لا يزال أخضر غضًّا فى النفوس، وهو ما لم يتصوره الصحابة حينذاك لأنه كان غريبا تمام الغرابة على العقل والمنطق، إذ كان مَدّ الإسلام من العنفوان والجيشان بحيث لم يكن أحد يتصور خلاف ذلك!
وعلى كل حال فليست العبرة بالمعجزات الحسية، وإلا فمن الأنبياء من لم تأت معجزاتهم بالثمرة المرجوة منها لأن أقوامهم قد بَقُوا رغم ذلك متمسّكين بكفرهم وعصيانهم، ومن هؤلاء السيد المسيح، إذ كفر به اليهود إلا القليلين منهم، مما اضطره (حسبما ورد فى أناجيلهم المصنوعة التى ألّفتها أقلام البشر) إلى التحول بدعوته إلى الأمم الأخرى رغم أنه كان فى البداية يستنكر أن يتطلع أى من هذه الأمم إلى مشاركة بنى إسرائيل فى الدعوة التى أتى بها وكان يشبّههم بالكلاب، الذين ينبغى فى رأيه أن يُحْرَموا من الخبز ويُذَادوا عنه لأنه مخصص للأبناء وحدهم. بل لم تنفع المعجزات هنا أيضا، إذ إن هؤلاء قد انحرفوا بالتوحيد الذى أتاهم به عليه السلام وحوّلوه إلى تثليث مثلما فعلت الأمم الوثنية القديمة كالأغارقة والهنود والفرس والمصريين. وأخيرا وليس آخرا، فالمعجزات ليست من البراهين الحاسمة، فعلاوة على عدم استطاعتها تليين القلوب اليابسة والرؤوس الصلبة والرقاب الغليظة وإضاءة النفوس المعتمة كما قلنا، فإنها لا تستطيع أن تغالب الأيام، إذ ما إن يمر زمانها حتى تنصل صورتها فى النفوس ولا يعود لها أى تأثير، بل تصبح مظنة التزييف والتلفيق! وهى فى حالة نبينا، عليه وعلى إخوانه الأنبياء السلام، لم تكن ردا على تحدى الكفار له، بل كانت موجهة إلى المؤمنين (فى الدرجة الأولى على الأقل) تثبيتا لإيمانهم، لا إلى الكفار الذين ثبت أنهم لا يصيخون السمع إليها!
وبالمناسبة فإن النصارى لا يُقِرّون بكلام عيسى فى المهد لأنه غير مذكور فى الأناجيل التى يعترفون بها، وإن جاء فى بعض الأناجيل الأخرى غير المعتمدة عندهم شىء قريب من ذلك. أى أن القُمّص يحاججنا بما ورد فى القرآن رغم إعلانه الكفر به. وعلى كل حال فلست العبرة بإحياء شخص أو عدة أشخاص ثم ينتهى الأمر عند هذا الحد، بل العبرة كل العبرة فى إحياء الأمم من العدم الحضارى والخلقى والنفسى والسياسى والاجتماعى والذوقى، وهو ما كرَّم الله محمدا به، إذ أنهضت يداه المباركتان الميمونتان أمة العرب من حالة الهمجية والوحشية والتخلف المزرى الذى كان ضاربا أطنابه فوق بلادهم ومجتمعاتهم بل فوق حياتهم كلها، وجعل منهم حكاما يسوسون العالم ويقودونه ثقافيا وخلقيا وعقيديا لعدة قرون دون سند، اللهم إلا سند القرآن والإيمان! ولم يحيدوا طوال ذلك عن عقيدة التوحيد رغم كل المصائب التى وقعت فوق رؤوسهم، سواء كانت من صنع أيديهم أو من صنع أعدائهم، بخلاف غيرهم من الأمم التى ما إن يغيب عنها نبيها حتى ترتد إلى الوثنية والكفر، والعياذ بالله، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت!
وبالمناسبة فملاحدة النصارى يفسرون معجزات عيسى عليه السلام بأنها حِيَلٌ وتواطؤات مع المرضى الذين شفاهم أو أعادهم إلى الحياة، على حين أنهم (حسبما يقول هؤلاء الملحدون) لم يكونوا قد ماتوا ولا كانوا مرضى أصلا! كما أن الموتى الذين عادوا على يديه إلى الحياة لم يحدّثونا عما خَبَروه فى العالم الآخر. ولَعَمْرِى إنه لأمر غريب أن يسكتوا فلا يذكروا شيئا عن تلك التجربة العجيبة! وفوق هذا فما الفائدة التى عادت على العالم أو حتى على المجتمع الإسرائيلى أو الرومانى من عودة من أعادهم إلى الدنيا كرة أخرى؟ إنها معجزات وقتية لا قيمة لها إلا لمن شاهدها، بل لا قيمة لها إلا لمن كتب الله له الإيمان، وإلا فاليهود بوجه عام لم يولوا هذه المعجزات أية أهمية وظلوا يكفرون بالمسيح ويتهمون أمه بأنها بَغِىٌّ، فضلا عن تآمرهم عليه ليصلبوه لولا أن توفاه الله إليه وتركهم فى ظلمات لا يبصرون بعد أن شَبَّه لهم أنهم قتلوه فعلا! بل إن معظم الذين اتبعوه قد انحرفوا بدعوته أفظع الانحراف، إذ قلبوها رأسا على عقب وحولوها من التوحيد إلى الشرك الغبى الغليظ، والعياذ بالله! وها هى ذى الثمرة العطنة العفنة تطالعنا متمثلةً فى زيكو العجيب، ذى الدبر الرحيب!
كذلك فقد أحيا إيليّا ميِّتًا مثلما فعل عيسى، فهل نَعُدّه ابنا ثانيا لله؟ ولكن من أى زوجة يا ترى؟ وهل تعدد الزوجات معروف لدى الآلهة هم أيضا؟ خيَّبك الله يا شبه الرجال! وهذه قصة إيليّا حسبما حكاها الكتاب المقدس (الملوك الثانى/ 17): "وبعد هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت واشتدّ مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة . 18 فقالت لايليا ما لي ولك يا رجل الله . هل جئت اليّ لتذكير اثمي واماتة ابني . 19 فقال لها اعطيني ابنك . واخذه من حضنها وصعد به الى العلية التي كان مقيما بها واضجعه على سريره 20 وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أايضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت باماتتك ابنها . 21 فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ الى الرب وقال يا رب الهي لترجع نفس هذا الولد الى جوفه . 22 فسمع الرب لصوت ايليا فرجعت نفس الولد الى جوفه فعاش 23 . فاخذ ايليا الولد ونزل به من العلية الى البيت ودفعه لامه. وقال ايليا انظري . ابنك حيّ . 24 فقالت المرأة لايليا هذا الوقت علمت انك رجل الله وان كلام الرب في فمك حق".
أما قول الغبى المحتال المختال زعيم العيال والأنغال إن عيسى عليه السلام يتميز عن سيد الأنبياء والمرسلين بأنه "قد خَلَتْ من قبله الرسل"، فهو ما لم أفهم مقصده منه، إذ إنه صلى الله عليه وسلم قد خلت الرسول من قبله هو أيضا. ألم يسبقه عيسى ويحيى وزكريا والْيَسَع وموسى وهارون وشُعَيْب وسليمان وداود ويعقوب وإسحاق وإسماعيل ولوط وإبراهيم وهود وصالح ونوح وغيرهم؟ اللهم إلا إذا كان المأفون لم يفهم معنى "خَلَتْ"، وهو ما أرجحه. بل ما من نبى إلا خلت من قبله الرسل ما عدا أول نبى بطبيعة الحال. بَيْدَ أنى، رغم ذلك، لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون هذا ميزة لأحد من الأنبياء على أحد! أترى أول نبى كان يقل عمن جاءوا بعده لا لشىء إلا لأنه لم يَخْلُ قبله أحد من الرسل؟ أما إذا أصر المأفون على ما يهرف به بجهله الغليظ فإن محمدا عليه السلام يزيد على عيسى من هذه الناحية بدرجة، إذ إن عدد من خلا قبله من الرسل يزيد على من خلا قبل عيسى برسول هو عيسى نفسه. أليس كذلك؟ لا بل إن محمدا هو الذى يَفْضُل عيسى من هذه الناحية، فعيسى مَحُوطٌ بالمرسلين من قبل ومن بعد، أما الرسول الكريم فكان خاتم النبيين، وهو أمر لم يُكْتَب لأحد من إخوانه الكرام، فهو الختام الِمْسك الذى بلغت على يديه الكريمتين ظاهرة النبوة أسمق مستوياتها، ولم يعد هناك من جديد يمكن أن يضاف إليها، وبخاصة أن الكتاب الذى أتى به ما زال باقيا على حاله الأول غَضًّا نضرًا لم تمتد يد التضييع أو التزييف والعبث إليه على عكس الكتب السابقة عليه، وبالذات كتابا عيسى وموسى. أعتقد أن الأمر واضح، وأن مأفوننا لا عقل لديه ولا فهم، وأنه يردد كالمعاتيه كلاما لا يعنى شيئا!
لقد رأيت الرجل مرة فى المرناء عند أحد أقاربى الذين كانوا يسألوننى رأيى فى ذلك الكائن فطلبت منهم أن يُرُونى حلقة من حلقات برنامجه الذى يهاجم فيه الإسلام ورسوله العظيم، فوجدته ينتفش كالديك وهو يرد على ما كتبه المرحوم ديدات، وكأنه قد أُوتِىَ علم الأولين والآخرين جميعا، مع أنه (كما اتضح الآن، وكما سوف يزداد وضوحا مع كل سطر نكتبه هنا) من أجهل الجهلاء وأبلد البلداء وأغلظهم حِسًّا وأعماهم عقلاً وفهمًا! ووالله لقد حاك فى صدرى قبل أن أراه وأقرأ له أنه لابد أن يكون على شىء من الذكاء والمعرفة، فإذا بى آخذ مقلبا لم آخذه من قبل! خيَّبك الله يا زيكو خيبةً لم يَخِبْها أحد! أهذا كل ما عندك؟ لقد تيقنت الآن أنه ما فى الدنيا من قسيس واحد عليه الطلاوة فى العلم أو فى العقل! وهذا فى واقع الأمر طبيعى جدا، فإن من يؤمن بما يؤمن به هؤلاء البشر لا يمكن أن يكون ذا عقل سليم مستقيم!
إن ما قاله القرآن هنا ليجرى فى عكس الاتجاه الذى يلوى القُمّصُ الغبىُّ الآيةَ نحوه، فالقرآن يقول: "ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (المائدة/ 75)، ومعناه أن المسيح لا يمكن أن يكون إلها أو ابن إله، إنما هو واحد من الرسل الكثيرين الذين مَضَوْا من قبله، فكما كانوا بشرا فهو أيضا مثلهم بشر من البشر. وعلى أية حال فقد قيل الشىء نفسه عن محمد عليه الصلاة السلام، وبنفس التركيب، وهذا هو: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (آل عمران/ 144)، وكان ذلك حين ظُنّ فى معركة أُحُد أنه قد مات (صلى الله عليه وسلم، ومسح الأرض بكرامة من يتطاول عليه من كل كلب وثنى عابد للبشر عُتُلٍّ زنيم)، فقال الله لهم إن محمدا ليس إلا رسولا كسائر الرسل الذين سبقوه، وسيموت كما ماتوا، ولا معنى لانقلاب أحد على عقبيه بعد موته، لأن اللهَ صاحبَ الدين حىٌّ لا يموت، أما محمد فلم يكن إلا رسولا جاء ليبلغ العِبَاد دعوة الله!
ومما يظن الأحمق أنه يستطيع الشغب به على المسلمين قوله إن عيسى كان مبارَكا، أما محمد فلا. ولا أدرى من أين له بأن عيسى وحده هو الذى بورك دون الأنبياء جميعا. لقد ذكر القرآن، الذى يعتمد عليه أحمقنا فى محاولة التنقص من سيد الرسل والنبيين، أن البركة قد أُنْزِلَتْ على أشياء وأشخاص كثيرين، لا على عيسى وحده، كما أن البركة فى غير حالة عيسى عليه السلام قد تُذْكَر بلفظ آخر، أو يُذْكَر ما يزيد عليها فى الإكرام والمحبة. فبعض أجزاء الأرض قد باركها الله: "وأورثْنا القومَ الذين كانوا يُسْتَضْعَفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركْنا فيها" (الأعراف/ 137)، والمسجد الأقصى بارك الله حوله: "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله" (الإسراء/ 1)، والموضع الذى رأى موسى فيه النار فى سيناء قد بارك الله حوله أيضا: "فلما جاءها نُودِىَ أنْ بُورِكَ مَنْ فى النار ومَنْ حولها" (النمل/ 8)، وإبراهيم وإسحاق قد بارك الله عليهما: "وباركنا عليه وعلى إسحاق" (الصافات/ 113)، وهناك نوح والأمم التى كانت مع نوح، وقد بارك الله عليه وعليهم حسبما جاء فى كلامه سبحانه له: "يا نوح، اهبط (أى من السفينة بعد انحسار الطوفان) بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك" (هود/ 48)، وهناك البيت الحرام، وقد باركه الله: "إن أول بيت وُضِع للناس لَلّذِى ببَكَّةَ مباركا وهدى للعالمين" (آل عمران/ 96)، وكذلك القرآن الكريم، وقد جعله الله مباركا أيضا: "وهذا ذِكْرٌ مباركٌ أنزلناه، أفأنتم له منكرون؟" (الأنبياء/ 50)، كما أن الليلة التى أُنْزِلَ فيها هذا الذكر هى أيضا ليلة مباركة: "إنا أنزلناه فى ليلة مباركة" (الدخان/ 3).
أما بالنسبة لنبينا، عليه وعلى كل الأنبياء الكرام أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فقد جاء فى القرآن أنه عز وجل يريد أن يُذْهِب الرِّجْس عن أهل بيته جميعا ويطهِّرهم تطهيرا: "إنما يريد الله لِيُذْهِب عنكم الرِّجْس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا" (الأحزاب/ 33) ، كما أثنى المولى عليه أعطر الثناء، وذلك فى قوله: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم/ 4) ، وقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء/ 107)، وقوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ" (التوبة/ 128)، وقوله: "رسولاً يتلو عليكم آياتِ الله مبيِّناتٍ ليُخْرِج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور" (الطلاق/ 11)، وقوله: "من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع الله" (النساء/ 80)، وقوله: "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا َصَلُّوا عليه وسَلِّموا تسليما" (الأحزاب/ 56). والحق أن ما قاله سبحانه وتعالى فى تكريم حبيبه محمد فى هذه الآيات وغيرها لم ينزل مثله فى أى نبى آخر، وإن لم يكن مقصدنا هنا المقارنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه الكرام، اللهم إلا ردا على ذلك الأحمق الذى يريد أن يثيرها نعرة جاهلية رعناء. ولقد بلغ من عظمة نفسه عليه السلام ونبل أخلاقه أنْ نَهَى أتباعه عن تفضيله على أى من إخوانه الكرام كما يتبين من الأحاديث التالية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استبَّ رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود. قال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيِّروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبل أو كان ممن استثنى الله". وعن أبي هريرة أيضا قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. قال: ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف ثم جاءني الرسول أجبتُ. ثم قرأ: فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن". وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى".
ولم نكن لنحبّ أن ندخل فى هذا المضيق، إلا أن للضرورة أحكاما، إذ لم يكن متصوَّرا أن يهبّ الوثنيون فى هذا العصر فيتطاولوا على سيد الأنبياء جهارا نهارا، فكان لا مناص من إلجامهم بلجام الخَرَس حتى يعرفوا حدودهم ويلزموها فلا يُقِلّوا أدبهم عليه، أخزى الله كل وثنى حقير. وبالمناسبة فتكملة الآية الكريمة التى جاء فيها على لسان المسيح أن الله قد جعله مباركا هى "وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا" (مريم/ 31). أى أنه عبد له سبحانه وتعالى لا ربٌّ مثله ولا ابنٌ له كما يدَّعى القوم، ولذلك أمره الله بالصلاة والزكاة ما دام حيا، إذ الرب لا يُؤْمَر ولا يُنْهَى، بل الذى يُؤْمَر ويُنْهَى هو العبد. لكن القُمّص البكاش الذى سيحرقه الله فى نار جهنم التى خلقت له ولأمثاله ما لم يَتُبْ ويؤمن بمحمد كما فعل كثير من القساوسة والأساقفة والقمامصة والشمامسة الذين كانوا يحاربون الله ورسوله ثم كتب الله لهم الهداية فيُقِرّ بالحقيقة التى يعرفها لكنه، ككل بكاش مثله، يكتمها فى قلبه من أجل حظوظ الدنيا وما يجنيه من مال حرام سوف يكويه فى جوفه يوم القيامة ويُشْوَى به جنباه ووجهه وظهره، هذا القُمّص البكاش يتجاهل هذا ولا يستشهد به حتى لا تنكشف فضيحته!
كذلك جاء فى كلام القُمّص الأرعن الأحمق أن عيسى عليه السلام سيأتى حَكَمًا مُقْسِطًا بدليل الحديث التالى الذى أورده البخارى: "لن تقوم الساعة حتى ينزل فيكم (أى بينكم) ابن مريم حكمًا مقسطًا (أى عادلا)"، والذى يفسر غبيُّنا لفظَ "المقسط" فيه بأنه اسم من أسماء الله الحسنى، بما يفيد أن عيسى هو الله أو على الأقل ابن الله، إذ ذكر أن "المعجم الوسيط" قد شرح "المقسط" بأنه اسم من أسماء الله الحسنى. ثم ختم كلامه قائلا: "وماذا عن محمد؟". وهذا الكلام هو تخبيص فى تخبيص! إنه شغل عيال بكل معنى يمكن، أيها القارئ، أن يخطر فى بالك لكلمة "العيال"!
أتدرى لماذا؟ لأن هذا الحديث وأمثاله من الآثار التى تتحدث عن عودة المسيح عليه السلام إلى الدنيا إنما تؤكد ما يَسُوء وجهَ هذا المنافق ويكشف سوأته المنتنة، تلك السوأة التى لا تعرف النظافة لأن صاحبها واحد من الأقذار الذين يَسْخَرون من شعائر الطهارة الموجودة فى دين سيد الأنقياء محمد عليه الصلاة والسلام. ذلك أن تلك الأحاديث إنما تتحدث عن رجوع المسيح ليكسر الصلبان ويحطم أوعية الخمور ويقتل الخنزير ويدعو الناس بدعوة التوحيد التى أتى بها نبينا عليه السلام وضلّ عنها من يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام وينسخ التثليث الذى انحرف إليه القوم ويتبرأ منهم على رؤوس الأشهاد. لكن الماكر الخبيث، وإن كان خبثه مع هذا خبثًا عياليًّا، يقتطع من هذه الأحاديث جملة ينتزعها من سياقها ظانًّا أنه يمكن أن يُجْلِب بها على العقول ويمضى فى سبيله دون أن يعقب عليه أحد ويهتك ستر سوأته المنتنة ليراها الناس على حقيقتها من القبح والتدويد ويشموا نتنها فيلعنوها هى وصاحبها لعنة تصل إلى السماء السابعة وتستجاب فى الحال!
نقرأ مثلا فى "صحيح البخارى": "حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيَّب سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليُوشِكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عَدْلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها". ويقول صاحب "فتح البارى بشرح صحيح البخارى" فى تعليقه على هذا الحديث: "روى مسلم من حديث ابن عمر في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين. وروى نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيهم مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة. وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعا. وفي هذا الحديث "ينزل عيسى عليه ثوبان ممصران فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأَمَنَة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل وتلعب الصبيان بالحيّات. وقال في آخره: ثم يُتَوَفَّى ويصلي عليه المسلمون". وروى أحمد ومسلم من طريق حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة: "لَيُهِلَّنّ ابنُ مريم بفجّ الروحاء بالحج والعمرة" الحديث. وفي رواية لأحمد من هذا الوجه: ينزل عيسى فيُقْتَل الخنزير ويُمْحَى الصليب وتُجْمَع له الصلاة ويُعْطَى المال حتى لا يُقْبَل ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما". ولكى يعرف القراء الكرام مدى الخبث الخائب الذى يلجأ إليه زيكو العبيط أسوق إليهم كاملا نص الحديث الذى اقتطع منه المحتال الدجال الذى يُفْعَل فيه ما يُفْعَل بالعيال ما اقتطع. جاء فى "صحيح البخارى": "حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لَيُوشِكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ويشبهه ما جاء فى "مسند أحمد بن حنبل": "حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم: يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"، وكذلك ما جاء فى "سنن الترمذى": حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ثم إن الأحاديث التى وردت فى هذا الموضوع تسمِّى كلُّها السيدَ المسيح: "ابن مريم"، أى أنه مولود لمريم، على حين أن القرآن الكريم ينفى نفيا قاطعا أن يكون الله قد وَلَدَ أو وُلِدَ، وهو ما يعنى أن الله لا يكون أبا أو ابنا، لكن البكّاش الهجّاس يتجاهل هذا كله ويريد أن نتخلى عن عقولنا وديننا وتوحيدنا ونجرى وراءه إلى العقائد الوثنية!
أما التحايل المتهافت الذى يتخابث به تافهنا من خلال الاستشهاد بــ"المعجم الوسيط" على أن "المقسط" هو اسم من أسماء الله الحسنى، فنفضحه بالإشارة إلى أن النبى الكريم قد وُصِف هو أيضا (وفى القرآن لا فى الحديث) بأنه رؤوف رحيم وكريم وحق وشهيد، وهى من أسماء الله الحسنى أيضا، كما وُصِف خُلُقه بأنه "عظيم"، وهو اسم آخر من تلك الأسماء الكريمة. كما أُمِر الرسول بأن يكون من المقسطين، و"المقسط" من أسماء الله الحسنى حسبما نقل التافه الغليظ العقل عن "المعجم الوسيط". قال تعالى: "لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم"، "إنه (أى القرآن) لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ" (الحاقة/ 40)، "وشهدوا أن الرسول حق" (آل عمران/ 86)، "لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا" (البقرة/ 143)، "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم/ 4)، "وإن حَكَمْتَ فاحكم بينهم بالقِسْط، إن الله يحب الـمُقْسِطين" (المائدة/ 42). وبناءً على هذا المنطق العيالى فالرسول محمد هو إله أو ابن الإله! وسلم لى على المنطق يا أبا الزيك! نقرك الديك، فى دبرك الهَتِيك!
إنه قلّما كان اسم من أسماء الله إلا أمكن استخدامه للبشر، إلا أنه بالنسبة إلى الله يكون مطلقا، أما فى حالة البشر فهو مقيَّد محدود. كذلك فقد قال الحديث إن "ابن مريم" (لاحظ: "ابن مريم" لا "ابن الله" ولا "الله" ذاته) سوف ينزل "حَكَمًا مٌقْسِطا"، بتنكير كلمة "حَكَم"، وكأنه فرد فى مجموعة من جنسه، مع أنه سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، الذى ليس كمثله أحد. كما أن الله لا ينزل من رَحِم امرأة وفَرْجها ويخالط الناس ويمشى وسطهم ويأكل ويشرب ويتبول ويتبرز ويتقايأ وتصيبه الأمراض والمخاوف مثلهم حسبما تقول عقيدة القوم، ودعنا الآن من صلبه وقتله وطعنه بالرمح فى جنبه وكسر رجليه وشتمه وإهانته وصراخه من الألم والعذاب طالبا النجدة (النجدة ممن، إذا كان الله نفسه هو الذى يُضْرَب ويُقْتَل ويهان؟)، فضلا عن أن يُتَوَفَّى ويُصَلَّى عليه (يُصَلَّى"عليه" لا "له")، تعالى الله عن أن يُتَوَفَّى أو يُصَلِّىَ عليه أحد! وأخيرا فــ"المعجم الوسيط" (وغير الوسيط أيضا بطبيعة الحال) لا يعنى أن معنى "المقسط" ينحصر فى أنه اسم "من أسماء الله الحسنى" وحَسْب، بل يذكر ذلك على أنه معنى من المعانى التى تُسْتَخْدَم فيها الكلمة، وإلا فقد ورد هذا اللفظ فى القرآن عدة مرات منسوبا للبشر كما هو معروف، إذ قال عَزّ شأنه مثلا: "إن الله يحب المقسطين" (المائدة/ 42، والحجرات/ 9، والممتحنة/ 8)، إلا أن البكّاش النتّاش يسوق الكلام وكأنه لا معنى لهذا اللفظ غير ما قال.
خيبة الله مرة ثانية عليك يا زكازيكو! أتظن أن الناس كلهم كتلك البنت المسكينة التى نَجَحْتَ فى خداعها لبعض الوقت أنت والعيال أمثالك بمثل هذه الصبيانيات، والتى ألومها أشد اللوم أَنِ استطاع هذا البغل الأسترالى أن يثير شكوكها فى دينها، وهى التى تخرجت من الجامعة! لقد كان ينبغى أن تتلاعب هى به وتجعل منه مُسْخَةً لكل رائحٍ وغادٍ شأن أى واحد أو واحدة من أتباع النبى الكريم، لكن أوضاع التعليم وكسل الطلاب والطالبات قد أثمرا هذه الثمرات العطنة. ومع ذلك فقد كشف الله للفتاة المخدوعة الغطاء عن حقيقة هذا القَذِر قبل فوات الأوان وردها ردا جميلا إلى دين التوحيد، وإلا لهلكت وثنية كافرة، والعياذ بالله! أما أنتِ يا أمة محمد يا من تناشدين هذا وذاك من أمثال بغلنا الزنيم أن يتدخلوا لثَنْيه عن سبّ النبى، فلعنة الله عليك من أمة منحطة وصل بها الحال إلى هذا الدرك الأسفل من المذلة والهوان، إذ جعلتِ أعداءك الذين تستنجدين بهم يضحكون منك ملء أردانهم فى تَشَفٍّ وتلذذٍ! إن محمدا ليبرؤ من كل ذليل يهون على نفسه وعلى الآخرين، ويُطْمِع العدوَّ فيه ويعطيهم الفرصة ليضحكوا منه وعليه! أَوَمِثْل زيكو هذا يستحق أن يُنَاشَد أحد لإسكاته؟ أليس فى رِجْل البُعَداء صَرْمَةٌ قديمةٌ يقذفونه بها فى فمه المنتن؟ يا رسول الله، إنى أعتذر إليك مما فعلته هذه الأمة، وأستميحك العفو!
ولا يكتفى الكذاب بهذا، بل يضيف كذبة أخرى قائلا إن عيسى عليه السلام، طبقا لما يقول القرآن، سوف يكون شفيعا فى الدنيا والآخرة. وقد استشهد على هذه الكذبة المنتنة نتانة فمه وسوأته بقوله تعالى عن ابن مريم عليه السلام مخاطبا أمه على لسان الملائكة: "يا مريم، إن الله يبشّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ". وهذا نص كلامه: "شفيعاً فى الدنيا والآخرة : (1) سورة ( آل عمران 3 : 45) " اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين". (2) [ابن كثير ج1 ص 283] "وفى الدار الآخرة يشفع عند الله ..."، ثم يختم كالعادة بالسؤال التالى: "وماذا عن محمد؟". والملاحظ أولا أن القرآن الذى يستشهد به هذا الأفاق لم يذكر الشفاعة لعيسى بل لم يشر إليها مجرد إشارة، وكل ما قاله أنه سيكون "وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين". إنما قال ذلك ابن كثير، وهو مجرد اجتهاد من عنده لا يُلْزِمنا بشىء ما دام لم يَسُقْ لنا الحيثيات التى أقام عليها هذه الدعوى. إن فى القرآن كلاما عن ابن مريم يوم القيامة يصوره عليه السلام وهو واقف أمام ربه يسأله عما أتاه أتباعه من بعده من تأليههم له سؤال الرب للعبد الخائف الراجف الذى يعرف حدوده جيدا، فهو يسارع بالتنصل من هذا الكفر الشنيع وممن قالوه. وحتى لو كانت له عليه السلام فى ذلك الموقف شفاعة، فما الذى فى هذه المكرمة مما يشنَّع به على محمد عليه الصلاة والسلام؟
إن محمدا عليه الصلاة السلام لهو صاحب الشفاعة العظمى حسبما نَصَّ على ذلك كثير من الأحاديث النبوية. روى البخارى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْبَس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا. فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس. خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلَّمك أسماء كل شيء. لِتَشْفَعْ لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال: فيقول: لستُ هُنَاكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب: أكْله من الشجرة وقد نُهِيَ عنها، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا فيقول: لستُ هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر ثلاث كلمات كَذَبَهُنّ، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلَّمه وقرَّبه نَجِيًّا. قال: فيأتون موسى، فيقول: إني لستُ هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: قَتْله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته. قال: فيأتون عيسى، فيقول: لستُ هُنَاكم، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعتُ ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه. قال: ثم أشفع فيحدّ لي حَدًّا فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال قتادة: وسمعته يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَه. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناءٍ وتحميدٍ يعلّمنيه. قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود. قال: ثم تلا هذه الآية: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. قال: وهذا المقام المحمود الذي وُعِدَه نبيكم صلى الله عليه وسلم"، وهو ما يدل على أنه لا شفاعة لابن مريم فى ذلك الموقف، بل ستكون الشفاعة لسيدنا محمد عليه السلام وحده من دون الأنبياء والرسل. وهذه إحدى المكرمات التى اخْتُصَّ بها سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا لا ينال من عيسى ولا غيره من المرسلين فى شىء، فتقديم أحد الأنبياء على سائر إخوانه لا يسىء إليهم فى قليل ولا كثير، فكلهم مكرَّمون معظَّمون بفضل الله، لكنه يدل على أن صاحب التقديم قد اخْتُصَّ بمزيد من التكريم والتعظيم. وهذا هو وضع المسألة دون طنطنات ولا سخافات فارغة من تلك التى يبرع فيها أحلاس الجهل والحقد والكفر، أخسأ الله كل جاهل حاقد كفور!
أما ما نقله الكذَّاب المدلِّس عن ابن كثير فقد عبث به كعادته ليبلغ غاية فى نفسه، إذ أخذ منه ما يريد وحَذَف ما لا يريد، لكن الله لم يتركه يهنأ بتلك الغاية، إذ ذهب العبد لله إلى ابن كثير فألفيتُه يقول فى تفسير قوله تعالى عن المسيح بن مريم عليه السلام: "وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ": "أَيْ لَهُ وَجَاهَة وَمَكَانَة عِنْد اللَّه فِي الدُّنْيَا بِمَا يُوحِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ الشَّرِيعَة وَيُنْزِلهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَاب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا مَنَحَهُ اللَّه بِهِ وَفِي الدَّار الآخِرَة يَشْفَع عِنْد اللَّه فِيمَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ فَيَقْبَل مِنْهُ أُسْوَة بِإِخْوَانِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْم صَلَوَات اللَّه وَسَلامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ". ومعنى هذا، لو أخذنا بتفسير ابن كثير، أن عيسى لن تكون له هنا أية ميزة استثنائية، سواء بالنسبة لرسولنا محمد خصوصا أو بالنسبة للأنبياء كلهم عموما، فالشفاعة ستكون للجميع، وليس لعيسى وحده كما أراد هذا الأُبَيْلِيس أن يوهمنا كذبًا وزورًا. بَيْدَ أن الشفاعة العظمى إنما هى من نصيب سيد الأنبياء والمرسلين كما ورد فى الحديث الآنف الذكر. أما الشفاعة النصرانية التى تكلم عنها سفر "رؤيا يوحنا" (تلك الرؤيا التى حلم بها وهو يعانى من قرصات الجوع المؤلمة المربكة للعقل فجعلت هذا الخروف يتخيل ربه خروفا مثله) فهى شفاعةٌ خِرْفانيةٌ لا يليق بالآدميين المتحضرين المثقفين أن يناقشوها، فلنتركها للخروف زيكو عابد الخروف!
ومن ادعاءاته الطفولية قوله إن عيسى قد أُصْعِد إلى السماء حيا، فماذا عن محمد؟ والجواب هو أن محمدا قد عُرِج به إلى السماوات العلا حتى بلغ سدرة المنتهى كما ذكر القرآن الذى تُحَاجِجُنا به. هذه واحدة، والثانية هى أن النص القرآنى ليس قاطع الدلالة فى موضوع صعود عيسى عليه السلام بالجسد ولا صعوده حيًّا، إذ تقول الآية الكريمة: "إذ قال الله: يا عيسى، إنى متوفيك ورافعك إلىَّ" (آل عمران/ 55). وليس فيها على سبيل القطع الذى لا تمكن المماراة فيه أنه سبحانه قد أصعده إلى السماء حيًّا بجسده. إن من المسلمين من يفهم تلك الآية كما فهمها القُمّص، لكن هناك أيضا من المسلمين من يقولون بالوفاة العادية ورِفْعَة المكانة لا الجسد. وعلى أية حال هل هناك فرق كبير بين قوله سبحانه عن السيد المسيح وبين قوله عن إدريس عليهما السلام: "واذْكُرْ فى الكتاب إدريس، إنه كان صِدِّبقًا نبيًّا* ورفعناه مَكانًا عَلِيًّا" (مريم/ 56- 57)؟ ثم إن الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى ذكر كذلك أن إيليّا قد رفعه الله إليه أيضا بالمعنى المادى، أى أصعد جسده إلى السماء: "وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ. وَكَانَ أَلِيشَعُ يَرَى وَهُوَ يَصْرُخُ: «يَا أَبِي، يَا أَبِي، مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا». وَلَمْ يَرَهُ بَعْدُ" (ملوك 2/ 2/ 11- 12). إننى، كما قلت من قبل، لا أبغى أبدا التقليل من شأن سيدنا عيسى عليه السلام، على الأقل لأننا نحن المسلمين نَعُدّ أنفسنا أتباعه الحقيقيين ونرى أن أولئك الذين يدّعون أنهم أتباعه قد كفروا به وضلّوا عن سواء السبيل وأشركوا بالله ما لم ينزِّل به سلطانا. كل ما هنالك أننا نحاول أن نقدم صورة منطقية ومستقيمة وصحيحة فى المقارنة بين النبيين العظيمين: محمد وعيسى عليهما السلام، صورة تُظْهِرهما فى أبعادهما الصحيحة على أساس أن عيسى هو من محمد بمثابة الأخ الأصغر: سنًّا وإنجازًا وأثرًا. وهذا كل ما هنالك. وفى النهاية نقول: فلنفترض أن عيسى قد أُصْعِد فعلا بجسده إلى السماء وأنه هو وحده الذى حدث له ذلك، فالسؤال حينئذ هو: وماذا بعد؟ وما الفائدة التى عادت على الدعوة من جراء هذا؟ لقد انحرف أتباعه أضلّ انحراف بسبب هذا الصعود وغيره وأشركوه مع الله، وهو البشر الضعيف العاجز الفانى!
ويتبقى كلام ذلك الخروف عن مسح عيسى عليه السلام من الأوزار وسؤاله المعتاد فى آخر الكلام: "وماذا عن محمد؟"، وهذا ما قاله نَصًّا:"ممسوح من الأوزار: (أنظر حتمية الفداء ص 24): (1) [سورة مريم]. (2) [سورة آل عمران]. (3) الإمام الرازى ج3 ص 676. (4) أبى هريرة. (5) صحيح البخارى. وماذا عن محمد؟". وهو بإشارته إلى سُورَتَىْ "آل عمران" إنما يقصد قوله تعالى عن امرأة عمران (أم مريم عليها السلام) وإعاذتها إياها هى وذريتها عند ولادتها من الشيطان الرجيم: "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (آل عمران/ 36)، أما سورة "مريم" فلم أجد فيها شيئا يتعلق بالموضوع الذى نحن بإزائه. وبالنسبة لما جاء فى "آل عمران" فليس فيه سوى أن زوجة عمران قد استعاذت لابنتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم، وهو ما يفعله كل مؤمن لنفسه ولأولاده. وفى تفسير الرازى: "روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استعاذ في اليوم عشر مرات وَكّل الله تعالى به مَلَكًا يَذُود عنه الشيطان". وفى "سنن أبى داود" عن ابن عمر أن رسول الله قال: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه. فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تَرَوْا أنكم قد كافأتموه".
فليس فى الآية فى حد ذاتها إذن ما يدل على أن عيسى عليه السلام كان ممسوحا وحده من الأوزار دون الأنبياء والمرسلين، وإن كنا نؤمن أنهم جميعا عليهم الصلاة السلام، كانوا من خيرة صفوة البشر، وكانت أخلاقهم من السمو والرفعة بحيث تتلاءم مع المهمة الجليلة التى انتدبهم الله لها من بين سائر البشر. ومع هذا فهناك مثلا، فى مسند ابن حنبل، حديث عن النبى عليه السلام رواه أبو هريرة يقول فيه: "ما من مولود يُولَد إلا نخسه الشيطان فيستهلّ صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه. ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وإنى أُعِيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". وفى "سنن الدارمى" عن ابن عباس أنه قال: "ليس من مولود إلا يستهلّ، واستهلاله يعصر الشيطان بطنه، فيصيح إلا عيسى ابن مريم". وليس فيه، كما هو واضح، أية إشارة إلى مسحه عليه السلام من الأوزار والخطايا، بل الكلام فيه عن نخسة الشيطان التى يبكى الطفل بسببها عند الولادة أول ما يستقبل الحياة والتى يقول الأطباء إن سببها هو استنشاقه لأول مرة الهواء استنشاقا مباشرا، فهو رد فعل بيولوجى لا مَعْدَى عنه لأى طفل. لكنْ لأن ولادة عيسى كانت ولادة غير طبيعية فلربما كان ذلك هو السبب فى أنه لم يصرخ عند نزوله من بطن أمه كما يصنع سائر الأطفال.
وأغلب الظن أن النبى عليه الصلاة والسلام قد أراد، بذلك الحديث، أن يدفع عن أخيه الصغير عيسى وأمه من طَرْفٍ خَفِىٍّ قالةَ السوء والشُّنْع التى بهتهما بها اليهود الأرجاس. إذن فليس فى القرآن ولا فى الحديث أن سيدنا عيسى عليه السلام كان ممسوحا من الأوزار والخطايا وحده دون النبيين والمرسلين أجمعين، وإن لم يَعْنِ هذا أنه كان ذا أوزار وخطايا، إذ الأنبياء والرسل كلهم هم من ذؤابة البشر خُلُقًا وفضلاً وسلوكًا لا عيسى وحده. ومع ذلك فقد قرأنا فى حديث الشفاعة العظمى كلام الرسول الأعظم عن غفران الله له هو كل ذنوبه: ما تقدم منها وما تأخر، وهو ما استحق به وبغيره تلك المرتبة العالية، وإن لم يعن هذا أيضا أنه، صلى الله عليه وسلم، كانت له ذنوب تُذْكَر، وإلا ما قال الله فيه: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ" أو "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم" أو "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا، صَلُّوا عليه وسلِّموا تسليما". وقد أورد الرازى الذى يستشهد به مأفونُنا الحديثَ التالى: "ما منكم أحد إلا وله شيطان. قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأَسْلَم". وأظن أن هذا الحديث يضع حدا للجدال السخيف الذى فتح بابَه ذلك المأفونُ المتهالكُ العقل!
والآن إلى ما قاله الرازى فى هذا الموضوع: "ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن (يقصد القبول المذكور فى سورة "آل عمران" حين ابتهلت أم مريم إلى الله أن يعيذ ابنتها وذريتها من الشيطان الرجيم) وجوهًا: الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يُولَد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهلّ صارخًا من مس الشيطان إلا مريم وابنها"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ الرَّجِيمِ". طعن القاضي في هذا الخبر وقال: "إنه خَبَرُ واحدٍ على خلاف الدليل، فوجَب ردُّه، وإنما قلنا إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ أحدُها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك. والثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم. والثالث: لمِ َخُصَّ بهذا الاستثناء مريمُ وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام؟ الرابع: أن ذلك النخس لو وُجِد بَقِيَ أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه". واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر، والله أعلم". ومن هذا يتبين لنا بأجلى بيان أن الكذاب لم يقطع عادته فى الكذب والتدليس، إذ لم يقل الرازى إن عيسى عليه السلام قد مُسِح من الأوزار والخطايا، بل ساق كلام المفسرين القائلين بذلك، لكن بإيجاز شديد، أما من نَفَوْا هذا فقد فصَّل كلامهم تفصيلا. ثم اكتفى بالقول بأن وجوه الاعتراض التى اعترض بها هؤلاء ليست قاطعة فى النفى، وإن كان من الممكن رغم ذلك أن تكون صحيحة. أى أنه لم يَنْفِ ولم يُثْبِتْ، بل اكتفى بإيراد الرأيين. وأقصى ما يمكن نسبته له من الرأى فى هذه القضية أن الأدلة التى احتج بها القاضى (عبد الجبار المعتزلى) لا تحسم الأمر. وهذا كل ما هنالك، فأين ما نسبه زيكو الحقير إلى ذلك المفسر الكبير؟
إننى لا أستطيع أن أهدأ كلما تذكرت أن هذا المَسْخ الغبىّ قد تمكن يوما من إضلال فتاة مسلمة من أتباع سيدنا النبى وجعلها تدق صليبا على يدها، ولولا لطف الله لهلكت البنت المتسرعة النزقة كافرةً فاستحقت لعنة الدنيا وجحيم الآخرة! أمعقول يا بنيتى يا خريجة الجامعة أن يستطيع هذا البهيمة الجهول أن يضحك عليك؟ فأين عقلك يا بنت الحلال؟ وأين اعتزازك بانتسابك لسيد النبيين والمرسلين؟ كيف بالله عليك ظننتِ أن مثل هذا الوغد السافل يمكن أن يكون على حق؟ أهذه سَحْنة إنسان صادق؟ أهذا صوت واحد من بنى آدم المخلصين؟ إنه ليس إلا أُبَيْلِيسا حقيرا لا عقل عنده ولا علم، أُبَيْلِيس لا يصلح فى دنيا الشيطنة إلا لــ"لَمّ السَّبَارِس" من تحت أرجل الشياطين الجالسين على المقاهى مثلما كنت أرى بعض الأطفال فى صباى بمقاهى طنطا يفعلون، وهذا إن كان فى دنيا الشياطين مقاهٍ وسَبَارِس. وأرجو أن أكون قد أعذرتُ إلى الله إذ ضيعتُ بعضًا من وقتى فى فضح جهله وغبائه، ولا داعى للحديث عن أسلوبه القبيح القمىء مثله، وكل ذلك من أجل أن قصتكِ قد آلمتنى، إذ كان السؤال ومازال: كيف يرضى مسلم من أتباع سيد النبيين والمرسلين أن يلوث عقله بالعقائد التى يعتقدها مثل ذلك الحمار السفيه الذى يصيح كالملدوغ: "الرسول النكّاح"، على حين تتلوَّى استه المنتنة شَبَقًا إلى من يطعنها حتى تهدأ، لا أهدأها الله ولا أراح صاحبها أبدا، وجعل ذلك الحمار، يعيش حياته كلها على نار، ويوم القيامة يزيد استه المنتنة (لأنه هو وأمثاله لا يستنجون ولا يعرفون للطهارة معنى)، يوم القيامة يزيد الله استه المنتنة نارا وأُوَارًا واستعارًا واحمرارًا؟! أتقول يا أيها الحمار: "الرسول النكاح"؟ وماذا فى ذلك؟ الدور والباقى عليك يا أيها "القُمّص المنكوح، صاحب الدبر المقروح"! ولعل القراء الآن يستطيعون أن يفسروا سر تقلقل ذلك النجس أثناء كلامه فى التلفاز وعدم استقراره فى جلسته على حال. السر كله لا فى شويبس كما كان يقول المرحوم حسن عابدين، بل فى دبر القُمّص المنتن، عليه وعلى دبره اللعنات! لقد دخل زيكو بدبره التاريخ، وأصبح دبره أشهر دبر فى العالم! وكما أنهم يقولون: "بعوضة النمرود، وعصا موسى، وبقرة بنى إسرائيل، وهدهد سليمان، وخُفّا حُنَيْن، وفيل أبرهة، وبخلاء الجاحظ، وذهب المعزّ وسَيْفه، ومعطف جوجول، وكرمة ابن هانئ، ودعاء الكروان، وبيضة الديك، ومعزة حسن أبى على، وبقرة حاحا، وصندوق أبى لمعة"، فإننا بدورنا نقول: "دبر زيكو"!
وفى النهاية أحب أن أنبه القراء الأفاضل إلى أن الأناجيل تخلو تماما من الإشارة (مجرد الإشارة) إلى الثالوث والتثليث والأقانيم الثلاثة التى يصدِّع بها الأغرارُ الحمقى أمخاخَنا، والتى يقوم دينهم المرقع على أساسها. وليس لهذا من معنى إلا أن تلك العقيدة الوثنية لم تظهر إلى الوجود، فيما يخص النصرانية، إلا بعد المسيح وكتابة الأناجيل. أى أنها لم تكن يوما من العقيدة التى جاء بها السيد المسيح عليه السلام وأنها إنما اختُرِعَتْ بأُخَرة. ليس هذا فحسب، بل إنه ما من نبى من قبل عيسى أو من بعده قد جاء بشىء من هذا الكفر: لا من أنبياء بنى إسرائيل ولا من سواهم. فلماذا يريد المعاتيه البلهاء أن نصدق بهذا الضلال؟ وما الذى يجرِّئهم كل هذه الجراءة ونحن الآن فى القرن الواحد والعشرين؟ إن مكان أولئك المتاعيس هو متحف التاريخ الطبيعى الخاص بالكائنات المنقرضة كالديناصورات وأشباهها مما غبر على اختفائه ملايين السنين، بحيث يكون تعليق كل من يرى بقاياهم هم وعقيدتهم أن يقول وهو فاغر فاه من الدهشة: ياه! تصوروا! لقد كان هناك قبل كذا مليون سنة ناسٌ متخلفون بلهاء كانوا يؤمنون بأن الله قد تجسّد وأنجب ولدًا (حيلة أبيه وأمه)، ثم سرعان ما أماته على الصليب! يا له من إله مخلول العقل! مسكين! عنده شعرة: ساعة تروح، وساعة تجىء! شفاه الله!
وبهذا نكون قد فرغنا من تفنيد سخافات زيكو فى المقارنة بين محمد وعيسى عليهما السلام، ونقيم نحن مقارنتنا بين النبيين الكريمين، ولكن على أسس منطقية وتاريخية وحضارية سليمة: فالتوحيد الذى نادى به محمد بقى كما هو، والحمد لله، رغم مرور أربعة عشر قرنا من الزمان على رحيل سيد الأنبياء عن الدنيا، ورغم كل الدواهى والمصائب التى نزلت على يافوخ المسلمين، ورغم المؤامرات التى حاكها وما زال يحيكها الصليبيون والصهاينة ضدهم وضد دينهم، بخلاف أتباع عيسى عليه السلام الذين سرعان ما عبثت أيديهم بما أتاهم به من التوحيد النقى واستبدلوا به وثنية بشرية. كذلك فتلاميذ عيسى قد تركوه عند أول تجربة حقيقية وهربوا ناجين بجلدهم حين جاء جند الرومان للقبض عليه حسبما تقول الأناجيل المزيفة، رغم أنه قد أنبأهم بأنهم سوف يفرّون ويخلّفونه وحيدا فى يد الأعداء ورغم تأكيدهم مع ذلك أنهم لن يفعلوا. بل إن بطرس قد أنكر معرفته إياه وأقسم بالله إنه لا صلة له به على الإطلاق. أما صحابة محمد فكانوا يفدّون نبيهم بالنفس والنفيس. وقد ترَّسُوا عليه مثلا فى غزوة أُحُد وتَلَقَّوْا عنه السهام بظهورهم، ولولا ذلك لكان من الممكن أن تصل إليه يد الكفار بالأذى الشنيع، إذ كانوا حريصين أشد الحرص على قتله آنذاك! كما أن رسالة محمد هى رسالة عالمية، على عكس رسالة عيسى التى كانت خاصة ببنى إسرائيل. ليس ذلك فقط، بل إن دعوة عيسى عليه السلام كما تصورها لنا السِّيَر التى كتبها بعض من يدَّعون الانتساب إليه (وهى المسماة بــ"الأناجيل") ليست أكثر من مواعظ خلقية تسودها التشنجات المثالية التى لا يمكن نجاحها فى دنيا البشر، أما رسالة محمد فرسالة شاملة، إذ هى رسالة عقيدية خلقية اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية. بعبارة أخرى هى رسالة حضارية تغطى جميع جوانب الحياة. ومرة ثانية لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن محمدا قد وضع رسالته موضع التنفيذ والتطبيق ونجح فى ذلك نجاحا مذهلا لم يحدث من قبل ولا من بعد، وكانت ثمرة ذلك أن أنهض الله على يديه المباركتين أمة العرب من العدم فحلّقت فى الذُّرَى العالية وأضحت سيدة العالم لقرون طوال. ومثال أو مثالان هنا يغنياننا عن ضرب غيرهما، فإن أمة لم تبلغ فى تجنب الخمر ما بلغته العرب بفضل دعوة محمد وإيمانها بدعوة محمد، أما أمم النصرانية فالخمر جزء لا يتجزأ من حياتها. كما أن الرهبانية التى ابتدعها مدَّعو التمسك بدينه والتى حذّرنا منها رسول الفطرة النقية المستقيمة قد جرّتْ وراءها انحرافات جنسية خطيرة ومستطيرة، ليس أكبرها الاعتداء على الغلمان والنساء حتى فى أقدس الأماكن عندهم، فضلا عن العلاقات غير الشرعية بين الرهبان والراهبات، وكذلك المُلاَوَطَة بين الأولين، والمُسَاحَقة بين الأخيرات. وهذان مثالان اثنان لا غير على النجاح الخارق الذى أحرزته دعوة رسولنا الكريم والذى لم تستطعه دعوة أى نبى أو مصلح آخر على مدار التاريخ البشرى كله. أما دعوة عيسى عليه السلام حسبما نطالعها فيما يسمى بــ"الأناجيل" فلم تطبَّق ولو ليوم واحد. إننا طول الوقت إزاء جماعة من المرضى والممسوسين والعُرْج والبُرْص والعُمْى يفدون على السيد المسيح طلبًا للبركة والشفاء، مع بعض المواعظ المشجية، وكان الله يحب المحسنين. ومرة ثالثة لا ينتهى الأمر هنا، ذلك أن عيسى، كما نقرأ فى الأناجيل المزيفة، لم يأت إلى قومه بشريعة، ودعنا من نقضه الشريعة الموسوية رغم أنه قد أكد أنه لم يأت لينقض الناموس، بل ليكمله. ثم جاء بولس فأتى على البقية الضئيلة من تلك الشريعة. يعنى بالعربى: "جاء بدرفها"! ومرة رابعة (أو خامسة، لا أدرى) لا تنتهى المسألة عند هذا الحد، إذ لو نظرنا إلى الموضوع من الزاوية الشخصية لوجدنا أن هناك فرقا بين محمد وعيسى كبيرا: فمحمد كان يعيش حياته كاملة فتزوج وأنجب ذرية، أما عيسى فلم يمارس هذا الجانب من جوانب شخصيته. وقد كان محمد خير زوج وأب عرفته الأرض، أما عيسى فلا شك أن حياته لم تعرف هذا الشىء، وإن كنا لا نقف أمامه طويلا ولا نستطيع أن ندلى برأينا فى السبب الذى من أجله لم يقيَّض له عليه السلام أن يتزوج وينجب كما يفعل الرجال فى الظروف المعتادة، إلا أننا نستنكر بشدة ما يتهمه به بعض الملاحدة الغربيين المجرمين من أنه عليه السلام كانت له علاقات منحرفة بهذه أو بذاك من أتباعه. أستغفر الله العظيم من هذا الرجس النجس الذى يراد به تلويث عِرْضِ واحدٍ من أطهر الرسل الكرام. وأخيرا وليس آخرا: أين يا ترى ذهب الإنجيل الذى بشر به السيد المسيح؟ إن الذى معنا الآن إنما هو مجموعة من السِّيَر التى كتبها بعض المنتسبين لدينه بعد وفاته بعشرات السنين ودون أن يلتزموا فيها بأى منهج، إذ كل ما اعتمدوا عليه هو الأقاويل التى سمعوها من هنا وههنا وأوردوها بعَبَلها وعُجَرها وبُجَرها دون تمحيص. وهذه السِّيَر ليست هى السِّيَر الوحيدة التى وصلتنا، بل هناك سِيَرٌ أخرى أهملتها الكنيسة وأخذت بهذه، ولا أحد يعرف السبب الذى على أساسه تمت هذه التفرقة! أما القرآن الذى نزل على قلب محمد فباقٍ كما هو لم يتغير فيه شىء. بهذه الطريقة يمكننا أن نعرف الفرق الحقيقى بين محمد وعيسى عليهما السلام. وإنى لأشبِّههما، كما قلت، بأخوين: أخٍ أكبر (هو محمد)، وأخٍ أصغر (هو عيسى)، عليهما وعلى جميع الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه!
(((((((إلى القُمّص المنكوح"قراءة فى إنجيل متى"))))))))))))))لم نكن نحب أبدا أن نتعرض لدين أحد لمعرفتنا أن كل إنسان يعتز بدينه أيما اعتزاز ويتألم إذا تعرض له أحد بغض النظر عما إذا كان هذا الدين صوابا أو خطأ، بيد أن القوم فى المهجر دأبوا منذ سنين على التباذؤ فى حق الإسلام ونبيه وأتباعه وقلة الأدب مع الله رب العالمين على نحو لم يسبق له مثيل وفتحوا لذات الغرض الخسيس دكانةً للقُمّص المنكوح
ظانين أن أحدا لن يرد عليهم ومتصورين أن أمريكا ستضرب وتُرْهِب كل من تسول له نفسه الكريمة الغيرة على دينه ورسوله وأمته، إلى أن فاض الكيل وتكرر عتب الناس علينا لسكوتنا عن هذا الإجرام وهذه السفاهة، فكان لا بد من وقفة نعرّف فيها السفهاء ذوى الأدبار المنتنة التى لا تعرف الطهارة وتراها رجسا من عمل الشيطان حجمهم الحقيقى ونُظْهِر هشاشة ما يعتقدون ويعتنقون من دين. والشر بالشر، والبادئ أظلم، وعلى نفسها جنت براقش! وفى هذا المقال نتناول بالدراسة النقدية السريعة الأناجيل كما يؤمن بها هؤلاء وأمثالهم، متخذين من "إنجيل متى" نموذجا لها. وسوف نبدأ دائما بنقل كل فصل ندرسه بنصه، ثم نثنِّى بعد ذلك بنقده. وغايتنا هنا ليست كغاية زيكو العجيب ، هو وأشباهه ممن يلجأون إلى الكذب لنصرة مذهبهم بالباطل، فتراهم ينتقون أشياء ويهملون عن عَمْدٍ أشياء، ويخترعون أشياء ويلوون عنق أشياء... إلى آخر الوسائل المريبة التى يستعملونها فى هذا الغرض، بل سنكتفى فى كل مرة بسَوْق النص كما هو فى الإنجيل دون بتر شىء منه وتَرْكه يتكلم بلسانه هو لا بلساننا، محترمين المنطق والمنهج العلمى تمام الاحترام، وكذلك حرية كل إنسان فى الإيمان بما يشاء والكفر بما يشاء. وسوف يكون اعتمادنا على نسخة الكتاب المقدس التى تقدمها جمعية الكتاب المقدس بلبنان كما هو على المشباك، أما الشواهد فمن ترجمة سميث وفانديك. والآن على بركة الله نبدأ:
الفصل الأول:
"نسب يسوع
هذا نسَبُ يسوعَ المسيحِ اَبنِ داودَ اَبنِ إبراهيمَ: 2إبراهيمُ ولَدَ إسحق. وإسحق وَلَدَ يَعقوبَ. ويَعقوبُ ولَدَ يَهوذا وإخوتَه. 3ويَهوذا ولَدَ فارِصَ وزارَحَ مِنْ ثامارَ. وفارِصُ ولَدَ حَصْرونَ. وحَصْرونُ ولَدَ أرامَ. 4وأرامُ ولَدَ عَمَّينادابَ. وعَمَّينادابُ ولَدَ نَحْشونَ. ونَحْشونُ ولَدَ سَلَمونَ. 5وسَلَمونُ ولَدَ بُوعَزَ مِنْ راحابَ. وبُوعَزُ ولَدَ عُوبيدَ مِنْ راعُوثَ. وعُوبيدُ ولَدَ يَسّى. 6ويَسّى ولَدَ داودَ المَلِكَ.
وداودُ ولَدَ سُلَيْمانَ مِن اَمرأةِ أوريَّا. 7وسُلَيْمانُ ولَدَ رَحْبَعامَ. ورَحْبَعامُ ولَدَ أبيّا. وأبيّا ولَدَ آسا. 8وآسا ولَدَ يوشافاطَ. ويوشافاطُ ولَدَ يُورامَ. ويُورامُ ولَدَ عُزَّيّا. 9وعُزَّيّا ولَدَ يُوثامَ. ويُوثامُ ولَدَ أحازَ. وأحازُ ولَدَ .حَزْقِيّا. 10وحَزْقِيّا ولَدَ مَنَسّى. ومَنَسّى ولَدَ آمونَ. وآمونُ ولَدَ يوشِيّا. 11ويوشِيّا ولَدَ يَكُنيّا وإخوَتَه زَمَنَ السبْـيِ إلى بابِلَ.
12وبَعْدَ السّبْـي إلى بابِلَ يَكُنِيّا ولَدَ شَأَلْتَئيلَ. وشَأَلْتيئيلُ ولَدَ زَرُبابِلَ. 13وزَرُبابِلُ ولَدَ أبيهُودَ. وأبيهُودُ ولَدَ ألِياقيمَ. وألِياقيمُ ولَدَ عازُورَ. 14وَعازُورُ ولَدَ صادُوقَ. وصادُوقُ ولَدَ أَخيمَ. وأخيمُ ولَدَ أليُودَ. 15وأليُودُ ولَدَ أليعازَرَ. وأليعازَرُ ولَدَ مَتّانَ. ومَتّانُ ولَدَ يَعقوبَ. 16ويَعقوبُ ولَدَ يوسفَ رَجُلَ مَرْيمَ التي ولَدَتْ يَسوعَ الذي يُدعى المَسيحَ.
17فمَجْموعُ الأجْيالِ مِنْ إبراهيمَ إلى داودَ أرْبَعَةَ عَشَرَ جيلاً. ومِنْ داودَ إلى سَبْـيِ بابِلَ أرْبَعَةَ عَشَرَ جيلاً. ومِنْ سَبْـيِ بابِلَ إلى المَسيحِ أرْبَعَةَ عَشَرَ جيلاً.
ميلاد يسوع
18وهذِهِ سيرَةُ ميلادِ يَسوعَ المَسيحِ: كانَت أُمٌّهُ مَريَمُ مَخْطوبَةً ليوسفَ، فَتبيَّنَ قَبْلَ أنْ تَسْكُنَ مَعَهُ أنَّها حُبْلى مِنَ الرٌّوحِ القُدُسِ. 19وكانَ يوسفُ رَجُلاً صالِحًا فَما أرادَ أنْ يكْشِفَ أمْرَها، فَعزَمَ على أنْ يَترُكَها سِرُا.
20وبَينَما هوَ يُفَكَّرُ في هذا الأمْرِ، ظَهَرَ لَه مَلاكُ الرَّبَّ. في الحُلُمِ وقالَ لَه: "يا يوسفُ اَبنَ داودَ، لا تخَفْ أنْ تأخُذَ مَرْيمَ اَمرأةً لكَ. فَهيَ حُبْلى مِنَ الروحِ القُدُسِ، 21وسَتَلِدُ اَبناً تُسمّيهِ يَسوعَ، لأنَّهُ يُخَلَّصُ شعْبَهُ مِنْ خَطاياهُمْ".
22حَدَثَ هذا كُلٌّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبٌّ بلِسانِ النَّبـيَّ: 23"سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ اَبْناً يُدْعى "عِمّانوئيلَ"، أي الله مَعَنا.
24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبَّ. فَجاءَ باَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوع"َ.
أول شىء نلاحظه أن متى (إن كان كاتب هذا الإنجيل هو متى حقا) يقول عن عيسى عليه السلام إنه "ابن دواد بن إبراهيم". ولا يمكن أن يكون عيسى هو ابن داود ولا أن يكون داود هو ابن إبراهيم إلا على المجاز، إذ بين كل ابن من الابنين وأبيه أجيال وأجيال. ومع ذلك نسمع القوم يتصايحون ويولولون لأن القرآن يقول عن مريم: "ابنة عمران". فما الفرق بين هذا وذاك؟ ولماذا يبتلعون تلك ويرفضون هذه، وهما شىء واحد؟ وهذا بافتراض أن مريم ليست ابنة عمران حقيقة، إذ لا يوجد فى أناجيلهم الأربعة التى قبلتها الكنيسة أنها ابنة يواقيم الذى على أساسه يجأرون بتكذيب القرآن، بل لا يوجد مصدر أكيد يقول إن أبا مريم هو هذا اليواقيم، بل الذى قال ذلك أحد الأناجيل التى لا تعترف بها الكنيسة. أليس ذلك أمرا مضحكا؟
الأمر الثانى أن مؤلف الإصحاح يقول عن داود إنه قد أنجب سليمان من امرأة أوريّا. أيدرى القارئ معنى هذه الإشارة؟ معناها أن جد عيسى وجدته هذين زانيان من الزناة القارحين الذين لا يخجلون: فداود، حسبما كتب مؤلفو الكتاب المقدس، كان ذات يوم يتنزه فوق قصره (أو لا أدرى ماذا كان يفعل هناك، ولعله كان يتفرج على غِيّة الحمام فوق القصر، أو يطيّر طيارة ورقية من التى يلعب بها العيال، يقتل بها الوقت ويتسلى من الملل)، فتصادف أن وقعت عيناه على بَتْشَبَع امرأة جاره وقائده العسكرى وهى تستحم عارية كما ولدتها أمها فى فناء بيتها المجاور للقصر. ويبدو أنها كانت تشتغل ممثلة فى هوليود وتقوم بأدوار الإسْتِرِبْتِيز الساخنة، وعرفتْ أن داود سوف يصعد إلى سطح القصر بعد قليل فاستعدت له بالطست والكوز والليفة والصابونة والحركات إياها التى تُسِيل لُعَاب الرجال إياهم، أو ربما اتصلت به هاتفيا أو برسالة فورية على الماسنجر فهُرِع إليها ليتلذذ بمفاتنها العارية، وكانت هى قد اتخذت أسخن الأوضاع وأشدها دفقا للدم فى العروق، اللهم إلا إذا أحسنّا بها الظن كما ينبغى للمؤمن أن يفعل، وقلنا إن غرفة الحمّام كانت تحت الصيانة حينئذ، وحُبِكَ الاستحمام ولم يعد لتأجيله من سبيل، وكانت السيدة الجليلة ربة الصون والعفاف مطمئنة إلى جارهم النبى الملك الذى "طلع شُورْبَة وأى كلام" فلم يكن عند حسن الظن به وصعد إلى السطح غير مراعٍ للجيرة ولا لعِرْض قائده حرمة. وكان ما كان مما لا بد أن نذكره، فظُنّ شَرًّا واسأل كما تحب عن الخبر، فهو خبر يُخْجِل حتى الأوباش، إذ أرسل داود إليها فجاءته وزنى بها، ثم لم يكتف بهذا بل تآمر على قتل زوجها ليخلو له وجه المرأة على الدوام، ثم لما نجحت المؤامرة وقُتِل الزوج استلحقها بحريمه، لكنْ بطبيعة الحال بعد استيفائها العدة! يا سلام على قوة الإيمان واحترام الشريعة! وقد أنجب منها سليمان، وربما كان سليمان (على كلامهم هم لا كلامنا) هو فَرْخ الزنا، أستغفر الله! وهذه هى جَدّة يسوع، وهذا هو جَدّه! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ! ثم يقولون إن هذا كلام الله! أستغفر الله!
الأمر الثالث أن مؤلف السِّفْر يَصِم يسوع وأمه وصمة عار، لأن نسب المسيح، حسبما ذكر، يبدأ من لدن آدم، وينتهى بيوسف النجار رجل مريم كما يقول! ولا أظن أن هناك ما يمكن أن يقال من جانبى تعليقا على هذا، فهو من الوضوح والشُّنْع بحيث لا أستطيع أن أضيف له شيئا من عندى، والعياذ بالله. أى أن المؤلف يردد ما يتهم اليهود به مريم، عليهم لعنات الله، إذ يجعلون من عيسى ابنا ليوسف منها. ولما لم يكن يوسف قد تزوج من مريم، فلم يبق إلا أن يكون ابنا لهما من الحرام. أستغفر الله استغفارا يوائم هذا الكفر، الذى نقول نحن (بسببه ولأسباب أخرى مشابهة له فى الشناعة) إن القوم قد حرّفوا كتابهم فيسبّون الرسول الكريم ويَقْرِفونه بكل نقيصة غباءً منهم وضلالاً، إذ المفروض أن الإنسان العاقل يحب من يدافع عنه ومن يفتح له بابا يخرج به من ورطته، لكن هؤلاء قد بلغوا فى الغباء مدًى جِدّ بعيد!
الأمر الرابع أن مؤلف الإنجيل الذى يحمل اسم لوقا يقدّم للسيد المسيح نسبا مختلفا إلى حد بعيد عن سلسلة النسب المذكورة له هنا: مختلفا من حيث عدد حلقات السلسلة، ومختلفا من حيث سقوط بعض الأجداد هنا وهناك، ومختلفا من حيث اختلاف طائفة من الأسماء فى الأولى عنها فى الثانية. ثم يقولون بكل بجاحة إن هذا كلام الله! وإلى القارئ الكريم نسب السيد المسيح عليه السلام كما ورد فى الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا، وأترك له مهمة المقارنة بين النسبين ليتسلى ويضحك ملء أشداقه: "23وكانَ يَسوعُ في نحوِ الثلاثينَ مِنَ العُمرِ عِندَما بدَأَ رِسالتَهُ. وكانَ النـاسُ يَحسِبونَهُ اَبنَ يوسُفَ، بنِ عالي، 24بنِ مَتْثاثَ، بنِ لاوِي، بنِ مَلْكي، بنِ يَنَّا، بنِ يوسُفَ، 25بنِ متَّاثِـيا، بنِ عاموصَ، بنِ ناحومَ، بنِ حَسْلي، بنِ نَجّايِ، 26بنِ مآتَ، بنِ متَّاثيا، بنِ شَمْعي، بنِ يوسفَ، بنِ يَهوذا، 27بنِ يوحنَّا، بنِ رِيسا، بنِ زرُبَّابِلَ، بنِ شأَلْتيئيلَ، بنِ نيري، 28بنِ مَلِكي، بنِ أدّي، بنِ قوصَمَ، بنِ المُودامِ، بنِ عِيرِ، 29بنِ يشوعَ، بنِ أليعازارَ، بنِ يوريَمَ، بنِ مَتثاثَ، بنِ لاوي، 30بنِ شَمعُونَ، بنِ يَهوذا، بنِ يوسُفَ، بنِ يونانَ، بنِ ألياقيم، 31بنِ مَلَيا، بنِ مَيْنانَ، بن متَّاثا. بنِ ناثانَ، بنِ داودَ، 32بنِ يسَّى، بنِ عُوبـيدَ، بنِ بُوعزَ، بنِ شالح، بنِ نَحْشونَ، 33بنِ عَمِّينادابَ، بنِ أدمي، بنِ عرني، بنِ حَصرونَ، بنِ فارِصَ، بنِ يَهوذا، 34بنِ يَعقوبَ، بنِ اَسحَقَ، بنِ إبراهيمَ، بنِ تارَحَ، بنِ ناحورَ، 35بنِ سَروجَ، بنِ رَعُو، بنِ فالجَ، بنِ عابرَ، بنِ شالحَ، 36بنِ قَينانَ، بنِ أرفكْشادَ، بنِ سامِ، بنِ نوحِ، بنِ لامِكَ، 37بنِ مَتوشالِـحَ، بنِ أخنوخَ، بنِ يارِدَ، بنِ مَهلَلْئيلَ، بنِ قينانَ، 38بنِ أنوشَ، بنِ شيتَ، بنِ آدمَ، اَبنِ الله".
الأمر الخامس أن هناك تناقضًا حادًّا لا يمكن رَتْقه بين ما قاله المؤلف فى الفقرة رقم 18 عن السر الخاص بحمل مريم وما قاله هو نفسه فى الفقرة رقم 20، إذ مرة يقول: لقد تبين أنها حبلى من الروح القدس، ومرة يقول إن هاتفا جاء ليوسف بعد ذلك فى المنام قائلا له إنها حبلى من الروح القدس، وينبغى من ثم أن يقف إلى جوارها ويستمر فى خِطْبتها ولا يتركها. والسؤال هو: لِمَنْ تبيَّن إذن من قبل أنها حبلى من الروح القدس؟ ليوسف؟ أبدا، فها هو ذا يوسف كان يريد تركها بسبب شكه فيها لولا المنام الذى قيل له فيه إنها حُبْلَى من الروح القدس. للناس إذن؟ ولا تلك أيضا، فها هو ذا لوقا يقول إن الناس كانت تظن أنه ابن يوسف. أى أنه حتى بعد وقوع الولادة لم يكن الناس يعرفون أنه من الروح القدس! بل لقد ظلوا يقولون عنه إنه ابن يوسف النجار حتى بعد أن أصبح نبيا: "ولمّا أتَمَّ يَسوعُ هذِهِ الأمثالَ، ذهَبَ مِنْ هُناكَ وعادَ إلى بلَدِهِ، وأخَذَ يُعلَّمُ في مَجمَعِهِم، فتَعَجَّبوا وتَساءَلوا: "مِنْ أينَ لَه هذِهِ الحِكمةُ وتِلْكَ المُعْجزاتُ؟ أما هوَ اَبنُ النجّارِ؟ أُمٌّهُ تُدعى مَريمَ، وإِخوتُهُ يَعقوبَ ويوسفَ وسِمْعانَ ويَهوذا؟" (13/ 53- 55). والآن إلى الفقرتين المضحكتين: "كانَت أُمٌّهُ مَريَمُ مَخْطوبَةً ليوسفَ، فَتبيَّنَ قَبْلَ أنْ تَسْكُنَ مَعَهُ أنَّها حُبْلى مِنَ الرٌّوحِ القُدُسِ. 19وكانَ يوسفُ رَجُلاً صالِحًا فَما أرادَ أنْ يكْشِفَ أمْرَها، فَعزَمَ على أنْ يَترُكَها سِرًّا. 20وبَينَما هوَ يُفَكَّرُ في هذا الأمْرِ، ظَهَرَ لَه مَلاكُ الرَّبَّ. في الحُلُمِ وقالَ لَه: "يا يوسفُ اَبنَ داودَ، لا تخَفْ أنْ تأخُذَ مَرْيمَ اَمرأةً لكَ. فَهيَ حُبْلى مِنَ الروحِ القُدُس"ِ.
الأمر السادس أن الكاتب يقول إن هناك نبوءة بأن مريم ستلد ولدا وتسميه: "عمانوئيل"، ثم ينسى المؤلف المغيَّب الذهن فيقول قبل ذلك مباشرة، وعقب ذلك مباشرة أيضا، إن يوسف سماه: "يسوع" تحقيقا لهذه النبوءة. كيف؟ أفتونى أنتم أيها القراء الكرام، فقد غُلِبْتُ وغُلِبَ حمارى! إن هذا يذكّرنا بأغنية شادية التى تقول فيها إنها، من ارتباكها بسبب مشاغلة حبيبها لها، إذا طلب أبوها أن تُعِدّ له كوبا من القهوة فإنها تعد بدلا من ذلك كوبا من الشاى وتعطيه لأمها: "21وسَتَلِدُ اَبناً تُسمّيهِ يَسوعَ، لأنَّهُ يُخَلَّصُ شعْبَهُ مِنْ خَطاياهُمْ".22حَدَثَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبٌّ بلِسانِ النَّبـيَّ: 23"سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ اَبْناً يُدْعى "عِمّانوئيلَ"، أي الله مَعَنا. 24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبَّ. فَجاءَ باَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوع"َ. وبالمناسبة فلم يحدث أن سمى أحد سيدنا عيسى عليه السلام فى يوم من الأيام: "عمانوئيل" رغم أن كثيرا من النصارى الذين صبيانًا وبناتٍ ممن ليسوا أبناءً أو بناتٍ لله يُسَمَّوْن: "عمانوئيل"! كما أن بقية النبوءة التى تنسب لإِشَعْيَا عن حَبَل العذراء وولادتها طفلا يسمَّى: "عمانوئيل" تقول: "زبدا وعسلا يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير، لأنه قبل أن يعرف الصبى أن يرفض الشر ويختار الخير تُخْلَى الأرض التى أنت خاشٍ من مَلِكَيْها" (إشعيا/ 7/ 15- 16)، ولم يرد فى الأناجيل قط أنه، عليه السلام، قد أكل زبدا وعسلا، فهل نقول، بناء على هذا وطبقا لما جاء فى النبوءة، إنه لم يستطع أن يرفض الشر ويختار الخير؟ يا للداهية الثقيلة!
ثم إن الكلام هنا عن طفلٍ بشرى تماما، طفلٍ يجرى عليه ما يجرى على كل أطفال البشر، فهو لم ينزل من بطن أمه عارفا الخير والشر كما ينبغى لابن الإله أن يكون، وهذا إن كان من الممكن أو حتى من اللائق أن ينزل ابن الإله من بطن امرأة (وهو الأمر المستحيل بطبيعة الحال)، بل عليه أن يمر بعدة مراحل حتى يكتسب موهبة التعرف إلى الخير والشر والتمييز بينهما. ولقد رجعت إلى كتاب "A New Commentary on Holy Scripture" (لندن/ 1929م) لأمحص ما أرى أنه هو التفسير الصحيح أو الأقرب إلى الصحة على الأقل، فوجدت محرريه: تشارلز جور وهنرى جاودج وألفرد جيوم يقولون إن إشعيا إنما كان يتنبأ بما سيحدث لبنى إسرائيل فى المستقبل القريب، وإن حَبَل العذراء ليس إلا إشارة إلى الآية التى سيقع عندها ما أخبر به، إلا أن النصارى قد استغلوا تلك النبوءة فى الكلام عن ميلاد عيسى عليه السلام، وهو ما لا يوافق عليه اليهود أبدا. وقد ورد فى شرح المحررين المذكورين أن النبوءة تقول إن التى ستحبل وتلد طفلا يسمى عمانوئيل هى "damsel"، وليس "virgin" التى تستعمل للعذراء مريم عليها السلام، وهو ما يعضده استخدام بعض الترجمات الفرنسية عندى لكلمة "la jeune fille"، وإن كنت وجدتها فى بعض الترجمات الفرنسية والإنجليزية الأخرى "vierge, virgin: عذراء". وقد انقدح فى ذهنى عندئذ أن السبب فى هذا الاضطراب هو أن الكلمة الأصلية تعنى "damsel"، التى تعنى أيضا "غادة، آنسة، صبية"، وأن رغبة النصارى فى تحميلها المعنى الذى يريدون هى المسؤولة عن ترجمتهم لها بــ"عذراء".
ومرة أخرى لم يكتف العبد لله بذلك، بل اتخذتُ خطوة أخرى فرجعت إلى مادة "IMMANUEL" فى موسوعة "The International Standard Bible Encyclopedia" لأقرأ تحت هذا العنوان الجانبى: "The Sign of Immanuel" السطور التالية عن النبى إشعيا والعلامة الثانية التى عرضها على الملك أحاز كى يَثْنِيَه عن تحالفه مع مملكة آشور، هذا التحالف الذى رأى أنه يؤدى إلى التبعية لتلك الدولة:وفيه، كما يرى القارئ بنفسه، أن الكلمة المستخدمة فى الأصل معناها "عروس" أو "شابة على وشك الزواج" أو "زوجة جديدة"، وليس "عذراء"، وأن تفسير الآية المذكورة فى النبوءة ليس واضحا، وإنْ كان التفسير القائل بالحمل الإعجازىّ مستبعَدا رغم ذلك، فضلا عن أن هناك من يقول إن المقصود بالغادة هو زوجة إشعيا نفسه، ومن يقول إن المقصود بــ"عمانوئبل" ليس شخصا بل فكرة من الأفكار العظيمة!
ومرة أخرى غير المرة الأخرى السابقة لا يكتفى العبد لله بهذا، بل أعود لــ"دائرة المعارف الكتابية" (مادة "عمانوئيل") فأجد الآتى: ""عمانوئيل" كلمة عبرية معناها "الله معنا" أو بالحري "معنا الله". وهو اسم رمزي جاء في نبوة إشعياء لآحاز ملك يهوذا كعلامة على أن الله سينقذ يهوذا من أعدائها (إش 7: 14، 8 و 10). وقد جاء في إنجيل متى أنها كانت نبوة عن "الرب يسوع المسيح" (مت 1: 23). لقد نطق إشعياء بهذه النبوة في حوالي 753 ق. م في أثناء مأزق حرج كان فيه الملك آحاز، حيث تحالف ضده فقح بن رمليا ملك إسرائيل ورصين ملك أرام، لأنهما أراداه أن ينضم إليهما في حلف ضد أشور القوة الصاعدة، لكنه فضَّل الوقوف إلى جانب أشور (انظر 2 مل 16: 5- 9، 2 أخ 28: 16- 21) . ولكن إشعياء النبي أكد لآحاز أنه ليس في حاجة إلى أن يخشى رصين وفقح، ولا إلى التحالف مع أشور، وقال له : "اطلب لنفسك آية" ليتأكد من صدق ما قاله النبي. ولكن آحاز، بدافع من عدم الإيمان، وتحت ستار التقوى الكاذبة، قال له: "لا أطلب ولا أجرِّب الرب". وعندئذ أعلن إشعياء أن السيد الرب نفسه سيعطيهم آية: "ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل"، وفي سنواته الباكرة ستنتهي الدولتان اللتان كان يخشاهما (أرام وإسرائيل). وهو ما تم على يد تغلث فلاسر الثالث ملك أشور الذي صعد إلى دمشق وفتحها وسبى أهلها وقتل رصين ملكها في 732 ق. م. وبعد ذلك بعشر سنوات حاصر شلمنأسر ملك أشور السامرة مدة ثلاث سنوات، وأخيراً سقطت في يد الأشوريين في 722 ق. م.
وتتباين الآراء حول من كان هذا "الابن المدعو عمانوئيل" ، ومن أمه التي توصف بأنها "عذراء" ("عُلْمة"...). ويرى كثيرون من حيث أنها كانت علامة لآحاز، فلابد أنها كانت تشير أولاً إلى مرمى قريب يستطيع آحاز أن يميزه. وهناك أربعة آراء تدور حول هذا اللغز: (1) يرى بعض المفسرين أن كلمة "عُلْمة" (العذراء) لا تدل على واحدة بالذات، بل هي اسم جنس، فيكون "عمانوئيل" في هذه الحالة رمزاً للجيل الجديد الذي ستتم النبوة في باكر أيامه. ولكن هذا التفسير لا يتفق مع ما جاء بالعهد الجديد، ويقطع الصلة بين هذه النبوة وسائر النبوات المتعلقة بالمسيا. (2) إنها نبوة تشير إلى إحدى إمرأتين: إما امرأة إشعياء، أو امرأة آحاز. وفي الحالة الأولى يكون المقصود "بعمانوئيل" هو "مهير شلال حاش بز" (إش 8 : 1-4)، وأمه هي زوجة إشعياء الموصوفة بأنها "النبية" (إش 8 : 3)، التي كان إشعياء على وشك الاقتران بها، أي أنها كانت مازالت عذراء في وقت النطق بالنبوة، ويؤيدون هذا الرأي بأن أولاد إشعياء كانوا رموزاً (انظر عب 2: 13 مع إش 8: 18). ويرى آخرون أن "العذراء" المقصودة هي إحدى زوجات آحاز، وأن الابن المقصود هو "حزقيا"، ولكن هذا الرأي تعترضه صعوبات خطيرة، فحزقيا كان قد وُلد فعلاً منذ نحو تسع سنوات قبل النطق بالنبوة (انظر 2 مل 16: 2 ، 18: 2)، بينما من الواضح أن النبوة لم تكن عن أمر قد حدث، بل عن أمر سيحدث. (3) أن النبوءة تشير إلى المستقبل البعيد، وبخاصة في ضوء ما جاء في إنجيل متى (1: 23) عن العذراء مريم وابنها يسوع الذي "يُدعى اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" لأنه كان هو الله الذي "ظهر في الجسد" (1 تى 3: 16) ، والذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً" (كو 2: 9). ومع أنه تفسير سليم بالنسبة لمرمى النبوة البعيد لكنه يتغاضى عن أن النبوة كانت علامة لآحاز. (4) أن النبوة مزدوجة المرمى، كالكثير من نبوات العهد القديم، فعمانوئيل والعذراء رمزان، فالعذراء يرمز بها في المرمى القريب إلى امرأة إشعياء أو امرأة آحاز، وفي المرمى البعيد إلى العذراء مريم. و"عمانوئيل" يرمز في المرمى القريب إلى "مهيرشلال حاش بز" أو إلى "حزقيا"، أما في المرمى البعيد فإلى الرب يسوع.
ولاشك في أن النبوة كانت في مرماها البعيد تتعلق بولادة الرب يسوع المسيح من مريم العذراء، وهو ما نراه بكل وضوح في إنجيل متى حيث نقرأ: "هذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: "هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (مت 1: 21- 23). وهو الذي يقول عنه إشعياء أيضاً: "لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً، أباً أبدياً رئيس السلام " (إش 6: 9)، فهو وحده الذي يحق أن يقال عنه "الله معنا"، ولم يكن مولده خلاصاً من ضيقة وقتية، بل خلاصاً أبدياً من الخطية والموت". ومن هذه المادة يتضح الأمر كله، فالقوم يلوون عنق النص كى ينطق بما يريدون رغم أنه لا علاقة له بهذا الذى يريدون، وذلك على مبدإ: "عنزة ولو طارت"!
الفصل الثانى:
"المجوس
ولمَّا وُلِدَ يَسوعُ في بَيتَ لَحْمِ اليَهودِيَّةِ، على عَهْدِ المَلِكِ هِيرودُسَ، جاءَ إلى أُورُشليمَ مَجوسٌ. مِنَ المَشرِقِ 2وقالوا: "أينَ هوَ المَولودُ، مَلِكُ اليَهودِ؟ رَأَيْنا نَجْمَهُ في المَشْرِقِ، فَجِئْنا لِنَسْجُدَ لَه".
3وسَمِعَ المَلِكُ هِيرودُسُ، فاَضْطَرَبَ هوَ وكُلُّ أُورُشليمَ. 4فجَمَعَ كُلَ رُؤساءِ الكَهَنةِ ومُعَلَّمي الشَّعْبِ وسألَهُم: "أينَ يولَدُ المَسيحُ؟" 5فأجابوا: "في بَيتَ لَحْمِ اليَهودِيَّةِ، لأنَّ هذا ما كَتَبَ النَبِـيٌّ: 6"يا بَيتَ لَحْمُ، أرضَ يَهوذا، ما أنتِ الصٌّغْرى في مُدُنِ يَهوذا، لأنَّ مِنكِ يَخْرُجُ رَئيسٌ يَرعى شَعْبـي إِسرائيلَ".
7فَدَعا هيرودُسُ المَجوسَ سِرُا وتَحقَّقَ مِنْهُم مَتى ظَهَرَ النَّجْمُ، 8ثُمَّ أرسَلَهُم إلى بَيتَ لَحْمَ وقالَ لَهُم: "اَذْهَبوا واَبْحَثوا جيَّدًا عَنِ الطَّفلِ. فإذا وجَدْتُموهُ، فأَخْبِروني حتى أذهَبَ أنا أيضًا وأسْجُدَ لَه".
9فلمَّا سَمِعوا كلامَ المَلِكِ اَنْصَرَفوا. وبَينَما هُمْ في الطَّريقِ إذا النَّجْمُ الذي رَأَوْهُ في المَشْرقِ، يَتَقَدَّمُهُمْ حتى بَلَغَ المكانَ الذي فيهِ الطِفلُ فوَقَفَ فَوْقَه. 10فلمَّا رَأوا النَّجْمَ فَرِحوا فَرَحًا عَظيمًا جِدُا، 11ودَخَلوا البَيتَ فوَجَدوا الطَّفْلَ معَ أُمَّهِ مَرْيَمَ. فرَكَعوا وسَجَدوا لَه، ثُمَّ فَتَحوا أَكْياسَهُمْ وأهْدَوْا إلَيهِ ذَهَبًا وبَخورًا ومُرًّا.
12وأنْذَرَهُمُ الله في الحُلُمِ أنْ لا يَرجِعوا إلى هيرودُسَ، فأخَذوا طَريقًا آخَرَ إلى بِلادِهِم.
الهرب إلى مصر
13وبَعدَما اَنْصرَفَ المَجوسُ، ظَهَرَ مَلاكُ الرَّبَّ لِيوسفَ في الحُلُمِ وقالَ لَه: "قُمْ، خُذِ الطِفْلَ وأُمَّهُ واَهربْ إلى مِصْرَ وأقِمْ فيها، حتى أقولَ لكَ متى تَعودُ، لأنَّ هيرودُسَ سيَبحَثُ عَنِ الطَّفْلِ ليَقتُلَهُ". 14فقامَ يوسفُ وأخذَ الطَّفْلَ وأُمَّهُ ليلاً ورحَلَ إلى مِصْرَ. 15فأقامَ فيها إلى أنْ ماتَ هيرودُسُ، ليتِمَّ ما قالَ الربٌّ بِلسانِ النبـيَّ: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ اَبني".
مقتل أولاد بيت لحم
16فَلمَّا رَأى هيرودُسُ أنَّ المَجوسَ اَستهزَأوا بِه، غَضِبَ جدُا وأمرَ بقَتلِ.كُلٌ طِفْلٍ في بَيتَ لحمَ وجِوارِها، مِنِ اَبنِ سَنَتَينِ فَما دونَ ذلِكَ، حسَبَ الوَقتِ الَّذي تحقَّقَهُ مِنَ المَجوسِ، 17فتَمَ ما قالَ النبـيٌّ إرْميا: 18"صُراخٌ سُمِعَفي الرٍامَةِ، بُكاءٌ ونَحيبٌ كثيرٌ، راحيلُ تَبكي على أولادِها ولا تُريدُ أنْ تَــتَعزّى، لأنَّهُم زالوا عَنِ الوجودِ".
الرجوع من مصر إلى الناصرة
19ولمَّا ماتَ هِيرودُس ظهَرَ ملاكُ الرَّبَّ ليوسفَ في الحُلمِ، وهوَ في مِصْرَ 20وقالَ لَه: "قُمْ، خُذِ الطَّفْلَ وأُمَّهُ واَرجِـــعْ إلى أرضِ إِسرائيلَ، لأنَّ الَّذينَ أرادوا أنْ يَقتُلوهُ ماتوا". 21فقامَ وأخَذَ الطَّفْلَ وأُمَّهُ ورَجَعَ إلى أرضِ إِسرائيلَ. 22لكِنَّهُ سَمِعَ أنَّ أرخيلاوُسَ يَملِكُ على اليَهودِيَّةِ خلَفًا لأبيهِ هِيرودُسَ، فخافَ أن يذهَبَ إلَيها. فأَنذَرَهُ الله في الحُلُمِ، فلَجأَ إلى الجَليلِ. 23وجاءَ إلى مدينةٍ اَسمُها النّاصِرَةُ فسكَنَ فيها، لِيَـتمَّ ما قالَ الأنبياءُ: "يُدعى ناصِريًّا".
أول ما يخطر على البال هنا هو أمر أولئك المجوس: من أين لهم العلم بأن هناك مَلِكًا لليهود قد وُلِد؟ أوقد ذُكِر ذلك فى كتبهم؟ لكن أين النص عندهم على ذلك؟ ولماذا يُذْكَر مثل هذا الأمر لديهم، وهم ليسوا من بنى إسرائيل، الذين إنما أُرْسِل لهم وحدهم السيد المسيح وليس إلى المجوس بأى حال؟ وإذا غضضنا النظر عن هذا فإن السؤال سرعان ما يجلجل فى الذهن: فما فائدة عِلْم المجوس بولادة عيسى؟ هل آمنوا؟ إنهم لم يقولوا: لقد جئنا لنعلن إيماننا بعيسى، بل ليسجدوا له. وهل السجود من علامات الإيمان أو مقتضياته؟ لقد أجاب المسيح، حسبما سنقرأ بعد قليل، بأنه قد قيل: للرب إلهك وحده تسجد! ولا يمكن القول بأنهم كانوا يعتقدون أنه ابن الله أو الله، إذ كل ما قالوه عنه هو أنه "ملك اليهود"كما مرّ. كما لا يمكن القول بأنهم أرادوا أن يعظموا هذا الملك، أولا لأنه لم يصبح ملكا بعد (ولن يصبح أبدا طبعا)، وثانيا لأنه ليس ملكا فارسيا ولا مجوسيا، فلماذا يسجدون له؟ وعلى أية حال لماذا لم نسمع بهؤلاء المجوس بعد ذلك؟ الطبيعى أن يظهروا بعد هذا حين يئين الأوان ويكبر عليه السلام ويبلغ مبلغ الأنبياء ويعلن دعوته كى يكونوا من حوارييه ما داموا قد تجشموا المجىء من بلادهم وتعرّضوا بسبب ذلك للخطر كما رأينا! أليس كذلك؟ واضح أن كاتب هذه التخاريف لا يستطيع أن يَسْبِك التأليف كما ينبغى، ولذلك ترك فيه ثغرات كثيرة! ثم من هؤلاء القوم؟ من أى بلد فى فارس؟ ما أسماؤهم؟ ماذا كانوا يعملون فى بلدهم قبل أن يفدوا إلى فلسطين؟ ثم كيف أَتَوْا إلى فلسطين؟ وماذا صنعوا عند عودتهم إلى بلادهم؟ ولماذا لم يدعوا الناس إلى الدخول فى دين عيسى؟ إن فارس تكاد أن تكون هى البلد الوحيد فى الشرق الأوسط الذى لم يعتنق النصرانية رغم أن ذلك النفر المجوسى هم أول البشر معرفةً بميلاد المسيح وإظهارًا لمشاعرهم نحوه وتبجيلهم له؟
ثم أليس غريبا أن يعتمد هيرودس، الذى أهمّه مولد عيسى كل هذا الهم، على أولئك المجوس الغرباء فى معرفة المكان الذى وُلِد فيه المسيح؟ أليس عنده العيون والجواسيس الذين يستطيعون أن يأتوه بهذا الخبر؟ ألم يكن بمقدوره على الأقل أن يرسل فى أعقابهم من يرقب حركاتهم وسكناتهم حتى يعرف بيت الوليد الجديد بدلا من أن ينتظر حتى يأتوه هم بالخبر كما قال المؤلف السقيم الخيال؟ ثم هناك حكاية النجم، وهذه فى حد ذاتها بَلْوَى مُسَيَّحة! كيف يا ترى يمكن أىَّ إنسان التعرفُ على بيت من البيوت من وقوف أحد النجوم فوقه؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه! إن الكاتب الجاهل يظن أن النجم المذكور قد ظهر إثر ميلاد عيسى، غافلا (لأنه مغفل) أن الضوء الذى زعم أن المجوس كانوا يَرَوْنَه آنذاك إنما صدر من النجم قبل ذلك بآلاف السنين، ولم يأت لتوه كما توهم بجهله! ولقد كتب لى أحدهم منذ أَشْهُرٍ رسالةً مشباكيةً يحاول أن يقنعنى فيها بأنه كان من السهل على أولئك المجوس أن يعرفوا أن النجم واقف فوق بيت الطفل الوليد خَبْط لَزْق باستعمال بعض الآلات الفلكية! يا حلاوة يا أولاد! معنى ذلك أنهم كانوا علماء فى الفلك والرياضيات (ولعلهم من أحفاد عمر الخيام، لكن بالمقلوب!)، جاؤوا من بلادهم ومعهم مرصد وضعوه على ظهر حمار مثلا (تخيلوا مرصدا على ظهر حمار!)، فنصبوه فى زقاق من أزقة بيت لحم وأخذوا يرصدون ويكتبون ويحسبون ويتجادلون برطانتهم الفارسية، وفى أيديهم الآلات الحاسبة ومسطرة حرف "تى" لزوم المنظرة، والناس تنظر إليهم وتتفرج عليهم (كما كنا نفعل ونحن لا نزال فى الجامعة حين نرى طلاب كلية الهندسة أثناء تدريباتهم على أعمال المساحة والقياس فى حديقة الأورمان)، لينتهوا فى آخر المطاف بعد فشلهم فى حسابات الفلك إلى اللجوء للطريقة التقليدية فى بلادنا التى لا يوجد أحسن منها للشعوب المتخلفة (أما كان من الأول بدلا من تضييع كل هذا الوقت؟) فينادوا فى الشوارع عن "عَيِّل مولود حديثا يا أولاد الحلال، ولابس بيجامة كستور مقلّمة وفى فمه بزّازة، وفى رجله فردة لَكْلُوك واحدة بأبزيم صفيح، فمن يدلنا على بيته له مكافأة ثمينة! وشىء لله يا عَدَوِى"! ثم كيف يا ترى كان النجم يتقدمهم أثناء سفرهم، والنجوم لا تظهر إلا ليلا؟ هل معنى هذا أنهم كانوا ينامون نهارا ثم يستيقظون ليلا ليستأنفوا المسير؟ أم ترى مخترع الإنجيل كان يظن أن المسافة بين فارس وبيت لحم فى فلسطين لا تزيد عن "فَرْكَة كَعْب" وتُقْطَع فى بضع ساعات من الليل؟ أليس ذلك أمرا يبعث على الاشمئزاز؟ ثم إذا أردنا أن ننصحهم ونأخذ بيدهم كى ننتشلهم من هذا التخريف لأن حالهم يصعب علينا شتموا نبينا وأقلّوا أدبهم عليه!
كما أشار الكاتب فى النصّ الذى بين أيدينا إلى النبوءة الخاصة بولادة المسيح فى بيت لحم: "مِنكِ يَخْرُجُ رَئيسٌ يَرعى شَعْبـي إِسرائيلَ"، وهى تعنى (كما هو واضح) أن المسيح سوف يكون راعيا لبنى إسرائيل. فهل تحقق شىء من هذا؟ أبدا، فقد كفر به بنو إسرائيل واتهموا أمه فى شرفها وتآمروا على قتله، بل إنهم والنصارى يقولون إنهم قد استطاعوا فعلا أن يقتلوه. وعلى أية حال فإنه لم تُتَحْ له قَطُّ الفرصة لرعاية بنى إسرائيل لا روحيا ولا سياسيا! إنها إذن نبوءةٌ فِشِنْك كمعظم نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد! ولا ننس ما أبديته قبل قليل من استغرابى اهتمام المجوس بولادة المسيح، إذ ليسوا من بنى إسرائيل، الذين إنما أُرْسِل عليه السلام إليهم لا إلى المجوس. كذلك سمى المجوس سيدنا عيسى: "ملك اليهود"، وهى أيضا تسمية كاذبة، إذ متى كان المسيح مَلِكًا لليهود؟ لقد قال عليه السلام مرارا إن مملكته ليست من هذا العالم، فما صلته إذن بالمَلَكِيّة والملوك؟ ثم ألم يجد المجوس من الألطاف ما يتحفونه به عليه السلام إلا الذهب؟ وهل يحتاج ابن الله إلى مثل هذه الأشياء، وهو الذى فى يد أبيه كل كنوز الأرض والسماء؟ إن الكاتب الأبله يقيس أبناء الآلهة على أبناء حكام الدول المتخلفة الذين لا يشبعون من المال والذهب رغم أن ميزانية الدولة كلها فى أيديهم يغرفون منها ما يشاؤون، أو على الباباوات المغرمين غرامًا مرضيًّا باستعراض أنفسهم فى الإستبرق والسندس والذهب والياقوت وسائر الجواهر الثمينة رغم ما يزعجوننا به من كلام عن الوداعة والتواضع والزهد والرهبانية والتشبه بالمسيح فى الانصراف عن زخارف الحياة الدنيا! يا له من خيال سقيم! يا مَتَّى يا ابن الحلال، الله لا يسيئك، أولاد الآلهة هؤلاء أولاد عِزّ شَبْعَى لا ينظرون إلى ذهب أو ألماس! والعجيب، كما سوف نرى، أن المسيح يدعو إلى مخاصمة الدنيا خصومة لا هوادة فيها ولا تفاهم بأى حال مما من شأنه أن يوقف دولاب الحياة ويشجع على العدمية والموت، فكيف لم يلهم الله سبحانه وتعالى المجوس أن يقدموا لابنه شيئا يليق به وباهتماماته من أشياء الروح لا من ملذات الدنيا، وليكن نسخة مصورة من العهد القديم للأطفال مثلا؟
وتقول الفقرة الثالثة عشرة من الإصحاح: "وبَعدَما اَنْصرَفَ المَجوسُ، ظَهَرَ مَلاكُ الرَّبَّ لِيوسفَ في الحُلُمِ وقالَ لَه: "قُمْ، خُذِ الطِفْلَ وأُمَّهُ واَهربْ إلى مِصْرَ وأقِمْ فيها، حتى أقولَ لكَ متى تَعودُ، لأنَّ هيرودُسَ سيَبحَثُ عَنِ الطَّفْلِ ليَقتُلَهُ". 14فقامَ يوسفُ وأخذَ الطَّفْلَ وأُمَّهُ ليلاً ورحَلَ إلى مِصْرَ". ونقول نحن بدورنا: ولماذا اهتمام السماء بإنقاذ الطفل يسوع من القتل إذا كان قد أتى إلى العالم كما يزعم القوم ليُقْتَل تكفيرًا عن الخطيئة البشرية؟ ألم يكن الأفضل أن تتركه السماء يموت فى صغره فتنتهى مهمته سريعا بدل الانتظار إلى أن يكبر وتضيع كل الجهود التى بذلتها أمه فى تربيته وتعليمه والإنفاق عليه فى الهواء؟ وخير البر عاجله كما يقولون، وما دام مقتولاً مقتولاً فالأفضل الآن، والذى تعرف ديته اقتله وانته من أمره سريعا، فالوقت من ذهب! آه، لكن فاتنا أننا فى منطقة الشرق الأوسط حيث الوقت لا قيمة له، فهو يُعَدّ بالكوم وليس بالثوانى ولا الدقائق، فضلا عن الساعات أو الأيام، ودعنا من السنين!
أما اتخاذ القوم من عبارة "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابني" دليلا على أنه، عليه السلام، هو ابن الله حقا، فالرد عليه بسيط جدا جدا أسهل مما يتصور الإنسان، إذ الأناجيل مفعمة بعبارة "أبناء الله" و"أبوك أو أبوكم الذى فى السماوات" على قفا من يشيل، وكلها من كلام المسيح ذاته: "هنيئًا لِصانِعي السَّلامِ، لأنَّهُم أبناءَ الله يُدْعَونَ" (متى/ 5/ 9)، "أحِبّوا أَعداءَكُم، وصَلّوا لأجلِ الَّذينَ يضْطَهِدونكُم، فتكونوا أبناءَ أبيكُمُ الَّذي في السَّماواتِ" (5/ 44- 45)، "فكونوا أنتُم كاملينَ، كما أنَّ أباكُمُ السَّماويَّ كامِلٌ" (5/ 48)، "إيَّاكُمْ أنْ تعمَلوا الخَيرَ أمامَ النَّاسِ ليُشاهِدوكُم، وإلاَّ فلا أجرَ لكُم عِندَ أبيكُمُ الَّذي في السَّماواتِ" (6/ 1)، "فإذا صَلَّيتَ فاَدخُلْ غُرفَتَكَ وأغلِقْ بابَها وصَلٌ لأبيكَ الَّذي لا تَراهُ عَينٌ، وأبوكَ الَّذي يَرى في الخِفْيَةِ هوَ يُكافِئُكَ"، "لا تكونوا مِثلَهُم، لأنَّ الله أباكُم يَعرِفُ ما تَحتاجونَ إلَيهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (6/ 8)، "فصلّوا أنتُم هذِهِ الصَّلاةَ: أبانا الَّذي في السَّماواتِ، ليتَقدَّسِ اَسمُكَ" (6/ 9)، "فإنْ كُنتُم تَغفِرونَ لِلنّاسِ زَلاّتِهِم، يَغفِرْ لكُم أبوكُمُ السَّماويٌّ زلاّتِكُم. وإنْ كُنتُم لا تَغفِرونَ لِلنّاسِ زلاّتِهِم، لا يَغفِرُ لكُم أبوكُمُ السَّماويٌّ زلاّتِكُم" (6/ 14- 15)، "... حتى لا يَظهَرَ لِلنّاسِ أنَّكَ صائِمٌ، بل لأبيكَ الَّذي لا تَراهُ عَينٌ، وأبوكَ الَّذي يَرى في الخِفْيَةِ هوَ يُكافِئُكَ" (6/ 18)، "انظُروا طُيورَ السَّماءِ كيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحْصُدُ ولا تَخزُنُ، وأبوكُمُ السَّماويٌّ يَرزُقُها" (6/ 26)، "فإذا كُنتُم أنتُمُ الأشرارَ تَعرِفونَ كيفَ تُحسِنونَ العَطاءَ لأَبنائِكُم، فكَمْ يُحسِنُ أبوكُمُ السَّماويٌّ العَطاءَ للَّذينَ يَسألونَهُ؟" (7/ 11)، "وأمّا الأبرارُ، فيُشرِقونَ كالشَّمسِ في مَلكوتِ أبـيهِم" (13/ 43)، "وهكذا لا يُريدُ أبوكُمُ الَّذي في السَّماواتِ أنْ يَهلِكَ واحدٌ مِنْ هَؤلاءِ الصَّغارِ" (18/ 14)، "ولا تَدْعوا أحدًا على الأرضِ يا أبانا، لأنَّ لكُم أبًا واحدًا هوَ الآبُ السَّماويٌّ" (23/ 9)، فضلا عن أن المسيح عليه السلام كثيرا ما سمى نفسه: "ابن الإنسان" كما هو معروف، كما أكد أن أمه وإخوته الحقيقيين هم المؤمنون الذين يطيعون الله ويخلصون له سبحانه، وهو ما يدل دلالة قاطعة على أن بنوة البشر لله إنما تعنى فى مثل هذه السياقات الإيمان والطاعة المطلقة له عز وجل: "وبَينَما يَسوعُ يُكلَّمُ الجُموعَ، جاءَتْ أمٌّهُ وإخوَتُهُ ووقَفوا في خارِجِ الدّارِ يَطلُبونَ أن يُكلَّموهُ. فقالَ لَه أحَدُ الحاضِرينَ: "أُمٌّكَ وإخوتُكَ واقفونَ في خارجِ الدّارِ يُريدونَ أنْ يُكلَّموكَ".فأجابَهُ يَسوعُ: "مَنْ هيَ أُمّي؟ ومَنْ هُمْ إخْوَتي؟" وأشارَ بـيدِهِ إلى تلاميذِهِ وقالَ: "هؤُلاءِ هُمْ أُمّي وإخوَتي. لأنَّ مَنْ يعمَلُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ هوَ أخي وأُختي وأُمّي" (12/ 46- 50). ثم إن ابن الإله لا يمكن أن ينزل بنفسه إلى مرتبة النبى أبدا، لكننا نسمع عيسى بأذننا هذه التى سيأكلها الدود يقول لأهل الناصرة حين رفضوا الإيمان به: "لا نبـيَّ بِلا كرامةٍ إلاّ في وَطَنِهِ وبَيتِهِ" (13/ 57). كذلك ففى كل من العهد القديم وكلام الرسل فى العهد الجديد كثيرا ما نقابل عبارة"أبونا" مقصودا بها الله سبحانه وتعالى، ومنها قول إشعيا مثلا: "تطلَّعْ من السماء، وانظر من مسكن قدسك...، فإنك أنت أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم، وإن لم يدرنا إسرائيل. أنت يا رب أبونا" (إشعيا/ 63/ 15- 16)، "والآن يا رب انت ابونا. نحن الطين وانت جابلنا وكلنا عمل يديك" (إشعيا/ 64/ 8)، "هو يدعوني ابي انت. الهي وصخرة خلاصي" (مزامير/ 89/ 26، والمتكلم هو الله، والحديث عن داود)، "ارجعوا ايها البنون العصاة، يقول الرب... وانا قلت كيف اضعك بين البنين واعطيك ارضا شهية ميراث مجد امجاد الامم. وقلت تدعينني يا ابي ومن ورائي لا ترجعين" (إرميا/ 3/ 14، 18)، "نعمة لكم وسلام من الله ابينا" (إفسوس/ 1/ 2، وكورنثوس/ 1/ 2، وتسالونيكى/ 1/ 1)، "يثبّت قلوبكم بلا لوم في القداسة امام الله ابينا" (تسالونيكى/ 3/ 13). هذا، ولمعلوميّة القارئ نشير إلى أن هناك فرقة تنسب نفسها إلى الإسلام ظهرت فى العصر الحديث (لكن المسلمين يتبرأون منها ويرمونها بالكفر، وهى فرقة القاديانية) لها تفسير غريب لميلاد عيسى من غير أب، إذ يقولون بالحَبَل الذاتى اعتمادا على ما قاله بعض الأطباء من أنهم لا يستبعدون أن يتم الحمل فى رحم امرأة دون تلقيح من رجل (انظر تفسير الآية 47 (48 عندهم) من سورة "آل عمران" فى التفسير الكبير (5 مجلدات) الذى وضعه ميرزا بشير الدين محمود (الخليفة الثانى للمسيح الموعود عندهم غلام ميرزا أحمد نبى قاديان المزيف): Mirza Bashir-ud-Din Mahmood Ahmad (1889-1965)، وترجمه أتباعه إلى الإنجليزية بعنوان "The Holy Quran"/ م 1/ ص 398/ هـ 337). أى أنه لم يكن هناك روح قدس ولا يحزنون. ولا شك أن هذا التفسير، رغم عدم اتساقه مع ظاهر القرآن ورغم أنى لا أوافق عليه وأراه حيلة من الحيل التى يلجأ إليها القاديانيون لإنكار المعجزات كى يبدوا عصريين يحترمون كلمة العلم، هو أفضل ألف مرة من الكفر الذى يرتفع بمقام السيد المسيح عليه السلام عن مقام البشرية ويقول إنه هو الله أو ابن الله، تعالى الله عن ذلك الشرك تعاليا عظيما يليق بجلال ألوهيته!
ونأتى لما قاله مؤلف السفر من أن هيرودس قد أمر بقتل أطفال بنى إسرائيل من سن سنتين فنازلا، وهذا نص كلامه حرفيا: "فَلمَّا رَأى هيرودُسُ أنَّ المَجوسَ اَستهزَأوا بِه، غَضِبَ جدُا وأمرَ بقَتلِ.كُلٌ طِفْلٍ في بَيتَ لحمَ وجِوارِها، مِنِ اَبنِ سَنَتَينِ فَما دونَ ذلِكَ، حسَبَ الوَقتِ الَّذي تحقَّقَهُ مِنَ المَجوسِ، 17فتَمَ ما قالَ النبـيٌّ إرْميا: 18"صُراخٌ سُمِعَ في الرّامَةِ، بُكاءٌ ونَحيبٌ كثيرٌ، راحيلُ تَبكي على أولادِها ولا تُريدُ أنْ تَــتَعزّى، لأنَّهُم زالوا عَنِ الوجودِ". ولست أطمئن لهذا الكلام الذى لم يسجل التاريخ عنه شيئا ولا تكلمت عنه الأناجيل ولا السيد المسيح بعد ذلك وكأن هؤلاء الأطفال "شويّة لبّ فى قرطاس" قزقزهم هيرودس فى سهرة قدّام التلفزيون وانتهى الأمر! أما النبوءة الجاهزة التى ساقها المؤلف عقب القصة كعادته فى كل خطوة يخطوها وكأنه خالتى بَمْبَة التى لم تكن تكفّ عن الاستشهاد بالأمثال فى برنامج المرأة فى الإذاعة المصرية، فلا معنى لها هنا كما هو الحال فى كثير من المواضع، لأن راحيل هذه هى أم يوسف، فلا علاقة لها من ثم بتلك الواقعة غير القابلة للتصديق. ومن قال إنها فى القصة لم تتعزّ عن موت أولادها بل ظلت تصرخ وتنتحب وتبكى فى حرقة، وقد رأينا أن أحدا لم يبال بالأطفال المساكين أو يذرف عليهم دمعة؟ وهل الرامة هى بيت لحم؟ إن الرامة تقع إلى الشمال من أورشليم على بعد عدة كيلومترات، أما بيت لحم فشىء آخر. وأقرب شىء إلى أن يكون هو المراد من تلك النبوءة رجوع بنى إسرائيل من المنفى إلى بلادهم، وليس قتل هيرودس المزعوم لأطفال بنى إسرائيل، لأنها تفتقد التناظر الذى ينبغى أن يتوفر فى الرمز. إننى لأتعجب فى كل مرة أقرأ فيها لأمثال زيكو حين يتكلمون عن نبوءات الكتاب المقدس ويحاولون تفسيرها، وأتساءل: ترى هل تَغَطَّوْا جيدا قبل الإخلاد إلى الفراش فلم تتعرّ أردافهم وهم نائمون؟ الواقع أن النبوءة المذكورة التى رآها إرميا حسبما جاء فى العهد القديم (إرميا/ 31/ 15- 17) لا علاقة لها بحادثة قتل هيرودس أطفال بنى إسرائيل من سِنّ عامَيْن فهابطًا، إذ الكلام عن تغيب أبناء راحيل عن البلاد فى أرض العدو. وهذا نص النبوءة كما ورد فى ترجمة جمعيات الكتاب المقدس المتحدة: "صوتٌ سُمِع فى الرامة. نَوْحٌ، بكاءٌ مُرّ. راحيل تبكى على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين، هكذا قال الرب. امنعى صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملك، يقول الرب، فيرجعون من أرض العدو، ويوجد رجاء لآخرتك، يقول الرب، فيرجع الأبناء إلى تُخْمهم". وفى "دائرة المعارف الكتابية" تحت عنوان "راحيل" نقرأ أن "النبى (أى النبى إرميا) صوَّر فى عبارة شعرية عويل راحيل على أبنائها، إما لأنه سبق فرأى أن المسببِّين من يهوذا وبنيامين سيجتمعون فى الرامة بعد سقوط أورشليم وقبل اقتيادهم إلى السبى فى بابل (إرميا 40: 1)، أو لأن الرامة كانت أكمة مرتفعة فى أرض بنيامين يمكن منها رؤية الخراب الذى أصاب البلاد". وطبعا هذا كله لو أن النبى إرميا قال فعلا ذلك الكلام.
الفصل الثالث:
"بشارة يوحنا المعمدان
وفي تِلكَ الأيّامِ جاءَ يوحنّا المَعمدانُ يُبشَّر في برَّيَّةِ اليهودِيَّةِِِ 2فيقولُ: "تُوبوا، لأنَّ مَلكوتَ السَّماوات اَقتربَ!" 3ويوحَنّا هوَ الذي عَناهُ النبـيٌّ إشَعْيا بِقولِهِ: "صوتُ صارِخِ في البرّيّةِ: هَيَّئوا طريقَ الربَّ واَجعَلوا سُبُلَهُ مُستَقيمةً".
4وكانَ يوحنّا يَلبَسُ ثوبًا مِنْ وبَرِ الجِمالِ، وعلى وسَطِهِ حِزامٌ مِنْ جِلد، ويَقْتاتُ مِنَ الجَرادِ والعَسَلِ البرَّيَّ. 5وكانَ النّاسُ يَخرُجونَ إليهِ مِنْ أُورُشليمَ وجَميعِ اليَهودِيَّةِ وكُلٌ الأرجاءِ المُحيطَةِ بالأُردنِ. 6ليُعَمَّدَهُم في نَهرِ الأردُنِ، مُعتَرِفينَ بِخَطاياهُم.
7ورأى يوحَنّا أنَّ كثيرًا مِنَ الفَرَّيسيّـينَ والصَدٌّوقيّـينَ يَجيئونَ إلَيهِ ليَعتَمِدوا، فقالَ لَهُم: "يا أولادَ الأفاعي، مَنْ علَّمكُم أنْ تَهرُبوا مِنَ الغَضَبِ الآتي؟ 8أثْمِروا ثمَرًا يُبَرْهِنُ على تَوْبتِكُم، 9ولا تقولوا لأنفسِكُم: إنَّ أبانا هوَ إبراهيمُ. أقولُ لكُم: إنَّ الله قادرٌ أنْ يَجعَلَ مِنْ هذِهِ الحِجارَةِ أبناءً لإبراهيمَ. 10ها هيَ الفأسُ على أُصولِ الشَّجَرِ. فكُلُّ شجَرَةٍ لا تُعطي ثَمرًا جيَّدًا تُقطَعُ وتُرمى في النّارِ. 11أنا أُعمَّدُكُمْ بالماءِ مِنْ أجلِ التَّوبةِ، وأمّا الَّذي يَجيءُ بَعدي فهوَ أقوى مِنَّي، وما أنا أهلٌ لأنْ أحمِلَ حِذاءَهُ. هوَ يُعمَّدُكُم بالرٌّوحِ القُدُسِ والنّارِ، 12ويأخذُ مِذراتَه. بيدِهِ ويُنَقّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في مَخزَنِه ويَحرُقُ التَّبنَ بنارٍ لا تَنطَفئُ.
يوحنا يعمّد يسوع
13وجاءَ يَسوعُ مِنَ الجليلِ إلى الأُردنِ ليتَعَمَّدَ على يدِ يوحنّا. 14فمانَعَهُ يوحنّا وقالَ لَه: "أنا أحتاجُ أنْ أَتعمَّدَ على يدِكَ، فكيفَ تَجيءُ أنتَ إليَّ 15فأجابَهُ يَسوعُ: "ليكُنْ هذا الآنَ، لأنَّنا بِه نُــتَمَّمُ مَشيئةَ الله". فَوافَقَهُ يوحنّا.
16وتعمَّدَ يَسوعُ وخَرَجَ في الحالِ مِنَ الماءِ. واَنفَتَحتِ السَّماواتُ لَه، فرأى رُوحَ الله يَهبِطُ كأنَّهُ حَمامَةٌ ويَنزِلُ علَيهِ. 17وقالَ صوتٌ مِنَ السَّماءِ: "هذا هوَ اَبني الحبيبُ الَّذي بهِ رَضِيتُ".
من الغريب غير المفهوم أن يستقبل يحيى عليه السلام من أتاه من الفَرِّيسيّين والصَّدُوقيين ليتعمدوا على يديه ويعترفوا بخطاياهم، بهذه الشتائم، مع أنهم بمجيئهم إليه قد برهنوا على أنهم يشعرون بالذنب ويريدون التوبة، وإلا فهل يحق لنا أن نشق عن قلوب الناس ونقول إننا نعرف ما فى طيات ضمائرهم أفضل مما يعرفونه ثم نتهمهم بأنهم لا يصلحون للتوبة؟ أليس هذا افتئاتا منا على شأن من شؤون الله؟ ألم يكن ينبغى أن يعطيهم يحيى عليه السلام فرصة يجربهم فيها قبل أن يُسْمِعهم تلك الشتائم القارصة المهينة دون داعٍ؟ إننى لا أصدّق أبدا أن يحيى كان بهذه الخشونة مع من جاء ليتوب حتى لو كانت توبته ظاهرية لم تخرج من الأعماق! إن عبارة كاتب السفر تقول: "وفي تِلكَ الأيّامِ جاءَ يوحنّا المَعمدانُ يُبشَّر في برَّيَّةِ اليهودِيَّةِِِ". والواقع أن هذا ليس تبشيرا على الإطلاق، بل هو تنفير من التوبة وتعسير لها وتبغيض للناس فى الدين والعمل الصالح كله!
ثم إننا نسمعه يقول: "11أنا أُعمَّدُكُمْ بالماءِ مِنْ أجلِ التَّوبةِ، وأمّا الَّذي يَجيءُ بَعدي فهوَ أقوى مِنَّي، وما أنا أهلٌ لأنْ أحمِلَ حِذاءَهُ. هوَ يُعمَّدُكُم بالرٌّوحِ القُدُسِ والنّارِ، 12ويأخذُ مِذراتَه. بيدِهِ ويُنَقّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في مَخزَنِه ويَحرُقُ التَّبنَ بنارٍ لا تَنطَفئُ". وتعليقنا على هذا أن المسيح عليه السلام لم يعمد أحدا بالنار، وهذه هى الأناجيل بين أيدينا، فلْيُرِنى فيها المعترض على كلامى ما يخالفه! ولا يقل أحد إن الكلام هنا على المجاز، لأن النار إنما ذُكِرَتْ فى مقابل الماء، والماء هنا على الحقيقة، فقد كان يحيى يعمّد الناس (كما يقول الكاتب) فى نهر الأردن، كما أنه عليه السلام قد قال بنفسه إنه إذا كان يعمّدهم فيه بالماء فسوف يأتى ذلك الشخص الآخر (الذى يفسره النصارى بأنه السيد المسيح) فيعمدهم بالنار، مع أنه لا نار هناك ولا دياولو! والعجيب، وكل أمور القوم عجب، أن النصارى إنما يعمّدون أولادهم والمتنصرين من أهل الأديان الأخرى بالماء رغم ذلك لا بالنار. ثم نقول، من أجل ذلك ومن أجل غير ذلك، إن كتابهم محرَّف فيردّ سفلة المهجر بسبّ الرسول الكريم ويتطاولون عليه سَفَهًا منهم وإجرامًا وكفرًا!
كذلك يقول يحيى حسب كلام المؤلف: "وأمّا الَّذي يَجيءُ بَعدي فهوَ أقوى مِنَّي، وما أنا أهلٌ لأنْ أحمِلَ حِذاءَهُ". ومرة أخرى يرى القوم أن المقصود هو السيد المسيح، ومع هذا نراه يعمّد السيد المسيح، فكيف ذلك؟ ولقد جاء فى الترجمة التفسيرية لكتاب الحياة على لسان عيسى حين امتنع يحيى فى البداية عن تعميده: "أسمح الآن بذلك، فهكذا يليق بنا أن نُتِمّ كل بِرّ"، وهو ما يعنى أن المسيح من دون هذا التعميد سوف يكون ناقصًا بِرًّا، فكيف يكون ابن الله ناقصًا بِرًّا؟ بل كيف يكون الآتى لتكفير الخطايا البشرية من لدن آدم إلى يوم الدينونة ناقصًا بِرًّا ويحتاج من ثم للتعميد؟ على رأى المثل: "جئتك يا عبد المعين تعيننى، فوجدتك يا عبد المعين تُعَان". أما فى الترجمة التى أعتمد عليها هنا فقد جاء كلام المسيح هكذا: "ليكُنْ هذا الآنَ، لأنَّنا بِه نُــتَمَّمُ مَشيئةَ الله"، ويا له من فارق فى المعنى! ثم نقول لهم إن فى كتابكم تحريفات وتخريفات كثيرة فيسبوننا ويهدوننا بأمريكا! يا للعجب، وهل تستطيع قوة أمريكا أن تغير من حقائق الأمور؟ وهل يليق بمن يزعمون أنهم على الحق وأنهم لا يعتمدون إلا على "قوة الله" أن يستقووا بأمريكا؟ ليس أمامى إلا أن أقول أنا إذن كما كان يقول فريد شوقى: "يا قوة الله"!
وفى الفقرة الأخيرة نقرأ الآتى: "16وتعمَّدَ يَسوعُ وخَرَجَ في الحالِ مِنَ الماءِ. واَنفَتَحتِ السَّماواتُ لَه، فرأى رُوحَ الله يَهبِطُ كأنَّهُ حَمامَةٌ ويَنزِلُ علَيهِ. 17وقالَ صوتٌ مِنَ السَّماءِ: "هذا هوَ اَبني الحبيبُ الَّذي بهِ رَضِيتُ"، ثم نتساءل: كيف يا ترى انفتحت السماوات؟ هل كانت مغلقة؟ إن التصور الكامن وراء هذه العبارة يشى بالكثير، إذ من الواضح أن كاتب هذا الكلام المضحك يحسب أن السماء سقف معدنى ينفتح وينغلق كسقف جراج ألكترونى مثلا. ثم من أدرانا أن الحمامة التى رآها المسيح (لو كانت هناك حمامة فعلا وليست من بُنَيّات خيال الكاتب) هى الروح القدس؟ إن هناك أغنية مصرية جميلة من أغانى أواسط الخمسينات من القرن المنصرم تغنيها المطربة أحلام بصوتها الناحل الخجول تقول كلماتها: "يا حَمَام البَرّ سَقَّفْ * طِيرْ وهَفْهَفْ * حُومْ ورَفْرَفْ * على كِتْف الحُرّ وقَّفْ * والْقُطِ الغَلَّة"، فإذا نظرنا فى هذه الأغنية وجدنا هاهنا أيضا حماما ينزل على كتف إنسان كما هبطت الحمامة على السيد المسيح إن صحت القصة، لكننا لا نستطيع أن نقول إن الحمامة هنا هى الروح القدس، لأن الروح القدس ليس مسألة هينة يدّعيها كل من هب ودب، فما الدليل إذن على أن الحمامة الواردة فى القصة هى فعلا الروح القدس؟ لقد ذكرت القصة أن ثمة حمامة نزلت على المسيح، وهذا كل ما هنالك، فبأى حق يقال إنها الروح القدس؟ إنها لم تنطق ولم تأت من التصرفات ما يمكن أن يكون أساسا لبحث هذه المسألة، بل نزلت وحسب. وكم من الحمام يطير وينزل على كتف الحُرّ وعلى رأس العبد وفى الأجران وفوق الأغصان وعلى ضفاف الأنهار وأسلاك البرق... إلخ، فكيف نميز بين حمامة هى روح القدس وحمامة أخرى هى روح البؤس؟ إنه كله حمام، والحمام أكثر من الهم على القلب، أفكلما رأينا حمامة تهبط من الفضاء قلنا إنها الروح القدس؟ كلا وحاشا! ثم من الذى رأى هذه الحمامة وروى قصتها؟ لا يمكن أن يكون هو السيد المسيح لأنه كان دائم الحرص على ألا يعرف أحد بأية آية تتحقق له، فمن هو إذن يا ترى؟ وكيف عرف أن الحمامة هى الروح القدس؟ فإذا كان الناس هم الذين رَأَوْها فهل من الممكن أن يكونوا قد رَأَوْها ثم سكتوا رغم ذلك فلم يعلقوا على هذه الحادثة العجيبة؟ وهل كلَّ يوم ينزل الروح القدس؟ لقد كان ينبغى أن يكون هذا الأمر حديث المدينة والقرية والنَّجْع والكَفْر والدنيا كلها! وهذا إذا صدّقنا أوّلاً أن متى هو كاتب هذا الإنجيل، وثانيًا أنه أهل للتصديق، وثالثًا أن الذى حكى له القصة صادق أيضا، ورابعًا أنها لا تناقض العقل والمنطق. وأين نحن من هذا؟
ثم هذا الصوت النازل من السماء، من يا ترى سمعه غير المسيح، إذ النص قد سكت عن هذا؟ ذلك أن الناس جميعا، كما رأينا، كانوا يقولون إنه ابن يوسف النجار لأن كل الظواهر والمظاهر تقول ذلك، وهو ما شاركهم فى ترديده الكاتب عدة مرات على ما سيأتى بيانه! وتعالَوْا نتأمل فى العبارة التالية: "هذا هوَ اَبني الحبيبُ الَّذي بهِ رَضِيتُ": ما معناها يا ترى؟ هل كان الله قبل ذلك غير راض عن ابنه؟ ولماذا؟ أم هل سبب الرضا أنه أصبح أخيرا، وبعد طول انتظار، أبًا بعد أن كاد اليأس يستولى عليه من أن تحمل زوجته وتنجب له طفلا بعد كل تلك الأحقاب الطويلة؟ وهل يمكن أن يقال بعد ذلك إن عيسى (الذى هو الأقنوم الثانى، أى الابن) هو نفسه الأقنوم الأول، لكن من وجهٍ آخر، فى الوقت الذى يتحدث فيه الله (الآب، وهو الأقنوم الأول) عنه بوصفه شخصا ثانيا مختلفا تمام الاختلاف، مثلما هو نفسه الأقنوم الثالث، لكن من وجه آخر أيضا، فى الوقت الذى يعمّد هو فيه الناس بالروح القدس بما يدل على أن الروح القدس شخص ثالث مختلف تمام الاختلاف؟ والذى يغيظ أننا كلما قلنا إن دين القوم محرّف هبّوا يشتمون وينادون "ماما أمريكا" يهددوننا بها، ولا يريدون أبدا أن يفكروا معنا ولو مرة واحدة بالعقل والمنطق!
الفصل الرابع
"إبليس يجرب يسوع
وقادَ الرٌّوحُ القُدُسُ يَسوعَ إلى البرَّيَّةِ ليُجَرَّبَهُ إِبليسُ. 2فصامَ أربعينَ يومًا وأربعينَ لَيلةً حتَّى جاعَ. 3فَدنا مِنهُ المُجَرَّبُ وقالَ لَه: "إنْ كُنْتَ اَبنَ الله، فقُلْ لِهذِهِ الحِجارَةِ أنْ تَصيرَ خُبزًا". 4فأجابَهُ: "يقولُ الكِتابُ: ما بِالخبزِ وحدَهُ يحيا الإنسانُ، بل بكلٌ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِنْ فمِ الله".
5وأخذَهُ إبليسُ إلى المدينةِ المُقَدَّسَةِ، فأوْقَفَهُ على شُرفَةِ الهَيكل 6وقالَ لَه: "إنْ كُنتَ اَبنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إلى الأسفَلِ، لأنَّ الكِتابَ يقولُ: يُوصي ملائِكَتَهُ بكَ، فيَحمِلونَكَ على أيديهِم لئلاَّ تَصدِمَ رِجلُكَ بِحجرٍ".
7فأجابَهُ يَسوعُ: "يقولُ الكِتابُ أيضًا: لا تُجرَّبِ الرَّبَّ إلهَكَ".
8وأخَذَهُ إبليسُ إلى جبَلٍ عالٍ جدُا، فَأراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدٌّنيا ومجدَها 9وقالَ لَه: "أُعطِيكَ هذا كلَّهُ، إنْ سجَدْتَ لي وعَبدْتَني". 10فأجابَهُ يَسوعُ: "إِبتَعِدْ عنّي يا شَيطانُ! لأنَّ الكِتابَ يقولُ: للربَّ إلهِكَ تَسجُدُ، وإيّاهُ وحدَهُ تَعبُدُ".
11ثُمَّ تَركَهُ إبليسُ، فجاءَ بَعضُ الملائِكةِ يخدِمونَهُ.
يسوع يبشر في الجليل
12وسَمِعَ يَسوعُ باَعتِقالِ يوحنّا، فرجَعَ إلى الجليلِ. 13ثُمَّ ترَكَ النّاصِرةَ وسكَنَ في كَفْر َناحومَ على شاطِـىءِ بحرِ الجليلِ في بلاد زَبولونَ ونَفتالي، 14ليَتِمَّ ما قالَ النَّبـيٌّ إشَعْيا: 15"يا أرضَ زَبولونَ وأرضَ نَفتالي، على طريقِ البحرِ، عَبْرَ الأردنِ، يا جليلَ الأُمَمِ! 16الشَّعْبُ الجالِسُ في الظَّلامِ رأى نورًا ساطِعًا، والجالِسونَ في أرضِ المَوتِ وَظِلالِهِ أشرَقَ علَيهِمِ النٌّورُ". 17وبدأَ يَسوعُ مِنْ ذلِكَ الوقتِ يُبشَّرُ فيَقولُ: "توبوا، لأنَّ مَلكوتَ السَّماواتِ اَقتَرَبَ".
يسوع يدعو التلاميذ الأوّلين
18وكانَ يَسوعُ يَمشي على شاطئِ بحرِ الجليلِ، فرأى أخَوَينِ هُما سِمعانُ المُلقَّبُ بِبُطرُسَ وأخوهُ أندراوُسُ يُلقِيانِ الشَّبكَةَ في البحرِ، لأنَّهُما كانا صيَّادَيْنِ. 19فقالَ لَهُما: "إتبَعاني، أجعَلْكُما صيَّادَيْ بشرٍ". 20فتَركا شِباكَهُما في الحالِ وتَبِعاهُ.
21وسارَ مِنْ هُناكَ فَرأى أخوَينِ آخَرينِ، هُما يعقوبُ بنُ زَبدي وأخوهُ يوحنّا، مَعَ أبيهِما زَبدي في قارِبٍ يُصلِحانِ شِباكَهُما، فدَعاهُما إلَيهِ. 22فتَركا القارِبَ وأباهُما في الحالِ وتَبِعاهُ.
يسوع يعلّم ويبشّر ويشفي المرضى
23وكانَ يَسوعُ يَسيرُ في أنحاءِ الجليلِ، يُعلَّمُ في المجامعِ ويُعلِنُ إنجيلَ المَلكوتِ ويَشفي النّاسَ مِنْ كُلٌ مَرَضٍ وداءٍ. 24فاَنتَشرَ صيتُهُ في سوريةَ كُلَّها، فجاؤوا إلَيهِ بِجميعِ المُصابينَ بأوجاعِ وأمراضٍ متنوَّعَةٍ: مِنْ مَصروعينَ ومُقْعَدينَ والذينَ بِهِمْ شياطينُ، فشفاهُم. 25فتَبِعَتْهُ جموعٌ كبيرةٌ مِنَ الجليلِ والمُدُنِ العَشْرِ وأُورُشليمَ واليهوديَّةِ وعَبْرِ الأُردن"ِ.
والآن أى إله ذلك الذى يقوده إبليس ليجربه؟ إن الإله هو الذى يجرِّب، لكنه لا يجرَّب! وأى إله ذلك الذى يجوع ويعطش ويحتاج من ثم إلى الطعام والشراب؟ هذا ليس إلها ولا يمكن أن يكونه. هذا مخلوقٌ فانٍ ضعيفٌ محتاجٌ إلى أن يملأ معدته بالأكل والشرب حتى يمكنه الحياة، وإلا مات. وأى إله أيضا ذلك الذى يتجرأ عليه إبليس ويعرض عليه أن يسجد له؟ لقد عَيَّلَت الألوهية تماما! ثم أى إله أو أى ابن إله ذلك الذى لا يعرفه أبو العفاريت ويتصرف معه على أساس أنه ليس إلا عبدا مخلوقا يستطيع أن يخدعه ويتلاعب به ويمسكه فى قبضته أربعين يوما ويدفعه إلى الصوم والمعاناة، والمفروض أن أبا العفاريت يعرف الكُفْت ذاته؟ إن الشيطان مخلوقٌ عاصٍ: نعم، لكنه لا يمكن أن يكون جاهلا بهذا الشكل، فليس هذا عهدنا بأبى الأباليس ولا عشمنا فيه! وأى إله ذلك الذى لا يستطيع أن يرى العالم وممالكه إلا إذا أراه إياها إبليس؟ إن إبليس هو مخلوق من مخلوقات الله، فما الذى جعل له كل هذا السلطان يا ترى على خالقه، أو على الأقل: على ابن خالقه؟ ولا تقف الطامة عند هذا الحد، فقد عرض إبليس على ابن الله (أو قل: على الله نفسه، فلا فرق) أن يعطيه ملك الدنيا، وهو ما لا معنى له إلا أن المسيح لم يكن ابن الله بحق وحقيق، بل مجرد كلام وابن عمه حديث، وإلا لجاء رده على الفور: ومن أنت يا صعلوك، حتى تحشر نفسك بين الآلهة والملوك؟ ألا تعرف من أنا؟ قم انهض وأنت تكلمنى! لكننا ننصت فنجد عجبا، إذ كل ما قاله له: "ابتعد عنى يا شيطان. مكتوب أنه للرب إلهك وحده تسجد"! وواضح ما فى الرد من تخاذل! والحمد لله أن الكاتب لم يجعله يبكى ويقول له: ابعد عنى، وإلا ناديت لك ماما!
وفى هذا الفصل أيضا نقرأ أن الشيطان قد اقترح عليه أن يحول الحجارة خبزا، لكنه رفض بحجة أنه "ما بِالخبزِ وحدَهُ يحيا الإنسانُ، بل بكلٌ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِنْ فمِ الله". فكيف يرفض عيسى أن يقوم بمعجزة هنا، ولسوف نراه بعد ذلك يقوم بمعجزات طعاميّة وشَرَابِيّةً فيحوّل الماء خمرا ويحوّل الكِسَر اليابسة القليلة والسمكات المعدودة إلى أرغفة وأسماك مشوية لا تُحْصَى حتى لتَأكل منها الجموع وتفيض عن حاجتها؟ كيف نسى المسيح المبدأ الذى استند إليه فى رفض القيام بتلك المعجزة؟ كما أن الحجة التى استند إليها السيد المسيح فى رفض عمل المعجزة هى من الضعف والتهافت بحيث لا تقنع أحدا، إذ لا أحد يشاحّ فى أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكن فى نفس الوقت لا أحد يشاح أيضا فى أننا، وإن لم نعش بالخبز وحده، لا يمكننا أن نعيش بدون الخبز أيضا، وهو ما يعنى أن هناك مكانا هاما للخبز فى حياتنا، وكذلك لمثل هذه المعجزة فى منظومة الإيمان العيسوى، وهو ما سنراه بعد ذلك حين يقوم عليه السلام بمعجزات طعاميّة وشرابيّة كما قلنا. ثم ما الفرق بين هذه المعجزة ومعجزات الشفاء من البَرَص والخَرَس والعَمَى والمسّ والنزيف والشلل والحُمَّى؟ إنها أيضا يصدق عليها ما يصدق على معجزة الخبز فى أنها أيضا ليس مما يحيا بها وحدها الإنسان. فما العمل إذن؟ إنها مشكلة دون شك!
كما أن قوله عليه السلام للشيطان ردا على طلبه منه السجود له: "للربّ إلهِكَ تَسجُدُ، وإيّاهُ وحدَهُ تَعبُدُ" لا يعنى إلا شيئا واحدا لا غير، ألا وهو أن العلاقة بين عيسى والله سبحانه وتعالى هى علاقة الألوهية بالعبودية لا علاقة الأبوة بالبنوة أبدا، وإلا فلا معنى لشىء اسمه اللغة. فلنفضَّها سيرةً ولْنُلْغِ اللغة فنريح ونستريح! ونتابع فنقرأ: "أخذَهُ إبليسُ إلى المدينةِ المُقَدَّسَةِ، فأوْقَفَهُ على شُرفَةِ الهَيكل 6وقالَ لَه: "إنْ كُنتَ اَبنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إلى الأسفَلِ، لأنَّ الكِتابَ يقولُ: يُوصي ملائِكَتَهُ بكَ، فيَحمِلونَكَ على أيديهِم لئلاَّ تَصدِمَ رِجلُكَ بِحجرٍ".7فأجابَهُ يَسوعُ: "يقولُ الكِتابُ أيضًا: لا تُجرَّبِ الرَّبَّ إلهَكَ". وهنا كذلك يقر المسيح عليه السلام أن العلاقة بينه وبين الله هى علاقة العبد بإلهه، لا جدال فى ذلك!
لكن ثمة مشكلة كبيرة لا حل لها، ألا وهى قول القصة إن إبليس أخذ المسيح وأوقفه على شرفة الهيكل... إلخ، إذ هاهنا يثور فى التوّ سؤال يحتاج لجواب عاجل: أين كان الناس يا ترى، والمسيح يعتلى شرفة الهيكل ويدور بينه وبين إبليس ذلك الحوار المُسَلِّى؟ من المؤكد أنه كان سيكون منظرا مثيرا يخفف من جهامة الواقع اليومى الكئيب آنذاك حيث لم يكن هناك تلفاز ولا مذياع ولا دور خيالة ولا كاتوب ولا... ولا...، فكيف لم نسمع بأن الناس قد اجتمعوا يشاهدون هذا المنظر الفريد، منظر إبليس (وهل كلَّ يوم يرى الناس إبليس؟) وهو يحاول إغراء المسيح بالقفز فى الهواء كالرَّجُل العنكبوت؟ لا شك أنها كانت ستكون نمرة ساحرة من نمر السيرك الإبليسى تساوى أن يقطع الناس لها تذكرة بالشىء الفلانى! ثم كيف يا ترى أخذه إبليس من فوق قمة الجبل إلى هناك؟ أساقه أمامه ماشيا على قدميه أم أخذه على جناحه أم قذفه فى الهواء فانتقل فى غمضة عين من الجبل إلى شرفة الهيكل أم ماذا؟ وأين كان الناس طوال كل ذلك الوقت؟ وقبل ذلك كله ما الذى كان يجبر المسيح على طاعة الشيطان طول ذلك الوقت ويصبر على قلة أدبه معه إلى هذا الحد؟ إن القصة تريد أن تقول إنه، لعنه الله، لم تكن له على عيسى عليه السلام أية سلطة. آمَنّا وصَدَّقْنا! لكن ألا يقول المنطق إنه كان ينبغى أن يشخط فيه عيسى منذ أول لحظة شخطة عنترية تجعل رُكَبه تسيب ويتبول على نفسه، ومن ثم لا يعطيه فرصة للتساخف كما يتساخف أوغاد المهجر ويُقِلّون أدبهم على سيد الأنبياء، بل يسكعه قلمين على صُدْغه تعيد له رشده المفقود وتجعله يمشى على العجين فلا يلخبطه؟ أظن أن هذا هو ما كان ينبغى أن يكون، فما رأيكم أنتم أيها القراء الأعزاء؟
وإذا كان المسيح هو ابن الله، والملائكة فى خدمته بهذا الاعتبار، فلماذا لم يهتم بإنقاذ يحيى عليه السلام من المصير السئ الذى انتهى إليه، أو على الأقل بإعادته للحياة كرة أخرى كما فعل مع ناس آخرين؟ أيكون يحيى أرخص عنده من فلان وعلان وترتان ممن رَدَّ فيهم الروحَ بعد أن كانوا قد فارقوا الحياة؟ لكننا ننظر فنجده عليه السلام، حسبما كتب مؤلف الإنجيل، ما إن يتم القبض على يحيى حتى يتحول للجليل وكأن شيئا لم يكن. وحين وُضِع يحيى فى السجن لم يهتم المسيح به، اللهم إلا عندما جاءه تلاميذ يحيى وسألوه عن بعض الأمور وانصرفوا، فعندئذ أثنى المسيح عليه وعلى إيمانه، ثم لا شىء آخر البتة: "2وسمِعَ يوحنّا وهوَ في السَّجنِ بأَعمالِ المَسيحِ، فأرسَلَ إلَيهِ بَعضَ تلاميذِهِ 3ليقولوا لَهُ: "هلْ أنتَ هوَ الَّذي يَجيءُ، أو نَنتظرُ آخَرَ؟" 4فأجابَهُم يَسوعُ: "اَرْجِعوا وأخْبِروا يوحنّا بِما تَسمَعونَ وتَرَوْنَ: 5العميانُ يُبصرونَ، والعُرجُ يمشونَ، والبُرصُ يُطهَّرونَ، والصمٌّ يَسمَعونَ، والمَوتى يَقومونَ، والمَساكينُ يَتلقَّونَ البِشارةَ. 6وهنيئًا لمن لا يفقُدُ إيمانَهُ بـي".7فلمّا اَنصَرَفَ تلاميذُ يوحنّا، تَحدَّثَ يَسوعُ لِلجُموعِ عَنْ يوحنّا فقالَ: "ماذا خَرَجتُم إلى البرَّيَّةِ تَنظُرونَ؟ أقَصَبةً تَهُزٌّها الرَّيحُ؟ 8بلْ ماذا خَرَجتُم ترَوْنَ؟ أرَجُلاً يلبَسُ الثَّيابَ النّاعِمَةَ؟ والَّذينَ يَلبَسونَ الثَّيابَ النّاعِمَةَ هُمْ في قُصورِ المُلوكِ! 9قولوا لي: ماذا خَرَجتُم تَنظُرونَ؟ أنبـيُا؟ أقولُ لكُم: نعَم، بلْ أفضَلَ مِنْ نَبِـيٍّ. 10فهوَ الَّذي يقولُ فيهِ الكِتابُ: أنا أُرسِلُ رَسولي قُدّامَكَ، ليُهيَّـئَ الطَّريقَ أمامَكَ. 11الحقَّ أقولُ لكُم: ما ظهَرَ في النّاسِ أعظمُ مِنْ يوحنّا المَعمدانِ، ولكِنَّ أصغَرَ الَّذينَ في مَلكوتِ السَّماواتِ أعظمُ مِنهُ. 12فَمِنْ أيّامِ يوحنّا المَعمدانِ إلى اليومِ، والنَّاسُ يَبذُلونَ جَهدَهُم لِدُخولِ مَلكوتِ السَّماواتِ، والمُجاهِدونَ يَدخُلونَهُ. 13فإلى أنْ جاءَ يوحنّا كانَ هُناكَ نُبوءاتُ الأنبـياءِ وشَريعَةُ موسى. 14فإذا شِئتُم أنْ تُصَدَّقوا، فاَعلَموا أنَّ يوحنّا هوَ إيليّا المُنتَظرُ. 15مَنْ كانَ لَه أُذُنانِ، فَلْيَسمَعْ!".
وهو ما سوف يتكرر عندما يُقْتَل عليه السلام: "3وكانَ هيرودُسُ أمسَكَ يوحنّا وقَيَّدَهُ وسَجَنَهُ مِنْ أجلِ هيرودِيَّةَ اَمرأةِ أخيهِ فيلبٌّسَ، 4لأنَّ يوحنّا كانَ يقولُ لَه: "لا يَحِلُّ لَكَ أنْ تَتَزوَّجَها". 5وأرادَ أنْ يَقتُلَهُ، فخافَ مِنَ الشَّعبِ لأنَّهُم كانوا يَعدٌّونَهُ نَبـيُا. 6ولمّا أقامَ هيرودُسُ ذِكرى مَولِدِهِ، رقَصَتِ اَبنَةُ هيرودِيَّةَ في الحَفلةِ، فأعجَبَتْ هيرودُسَ، 7فأقسَمَ لها أنْ يُعطِيَها ما تَشاءُ. 8فلقَّنَتْها أمٌّها، فقالَت لِهيرودُسَ: "أعطِني هُنا على طَبَقٍ رَأسَ يوحنّا المَعمدانِ!" 9فحَزِنَ المَلِكُ، ولكنَّهُ أمَرَ بإعطائِها ما تُريدُ، مِنْ أجلِ اليَمينِ التي حَلَفَها على مسامِـعِ الحاضرينَ. 10وأرسَلَ جُنديُا، فقَطَعَ رأسَ يوحنَّا في السَّجن 11وجاءَ بِه على طبَقٍ. وسلَّمَهُ إلى الفتاةِ، فحَمَلْتهُ إلى أُمَّها. 12وجاءَ تلاميذُ يوحنّا، فحَمَلوا الجُثَّةَ ودَفَنوها، ثُمَّ ذَهَبوا وأخبَروا يَسوعَ. 13فلمّا سَمِعَ يَسوعُ، خرَجَ مِنْ هُناكَ في قارِبٍ إلى مكانٍ مُقْفِرٍ يَعتَزِلُ فيهِ. وعرَفَ النّاسُ، فتَبِعوهُ مِنَ المُدُنِ مَشيًا على الأقدامِ. 14فلمّا نزَلَ مِنَ القاربِ رأى جُموعًا كبـيرةً، فأشفَقَ علَيهِم وشفَى مَرضاهُم. 15وفي المساءِ، دَنا مِنهُ تلاميذُهُ وقالوا: "فاتَ الوقتُ، وهذا المكانُ مُقفِرٌ، فقُلْ لِلنّاسِ أنْ يَنصرِفوا إلى القُرى لِـيشتَروا لهُم طعامًا". 16فأجابَهُم يَسوعُ: "لا داعيَ لاَنصرافِهِم. أعطوهُم أنتُم ما يأكلونَ". 17فقالوا لَه: "ما عِندَنا هُنا غيرُ خَمسةِ أرغِفةٍ وسَمكتَينِ".18فقالَ يَسوعُ: "هاتوا ما عندَكُم". 19ثُمَّ أمَرَ الجُموعَ أنْ يَقعُدوا على العُشبِ، وأخَذَ الأرغِفَةَ" (متى/ 14)! أين الرحمة؟ أين عاطفة القرابة؟ إنه لم يذرف عليه دمعة واحدة وكأنه لم يكن هناك شخص اسمه يحيى تربطه به قرابةٌ وثيقةٌ أسريةٌ وروحيةٌ كما لم يكن بينه وبين أى شخص آخر: "وسَمِعَ يَسوعُ باَعتِقالِ يوحنّا، فرجَعَ إلى الجليلِ".
أولو كان المسيح ابن الله على الحقيقة أكان يمكن أن يتصرف هكذا أمام تلك المأساة الدموية التى كانت كفيلة بتحريك قلب الحجر، وكأنه عليه السلام بلا قلب؟ إن هذا لو وقع من بشر يستطيع أن يبادر لإنقاذ يحيى ثم لم يفعل لكانت سبة الدهر وفضيحة الأبد، فما بالنا بابن الله؟ أيعقل أن يهتم بتوفير الطعام لبعض الناس ولا يهتم بإنقاذ قريبه هذا الذى كان نبيا مثله والذى بشر به ومهد له الطريق وعمّده ليكمل بِرّه؟ ولنلاحظ أن المعجزات التى عملها هنا إنما هى المعجزات التى رفض عملها من قبل بالحجة التى ذكرناها ووجدنا أنها ليست بحجة على الإطلاق! إن هذا وغيره من الأسباب لدليل على أن فى الأمر خللا، ونحن نستبعد أن يكون المسيح على ذلك النحو من تبلد الإحساس وموتان القلب واللامبالاة بموت قريبه وصديقه وصاحب الفضل عليه فى المعمودية ورصيفه بل رائده فى النبوة، ونقول إنه بالأحرى العبث بالإنجيل. إن الإنجيل الذى نؤمن نحن المسلمين به والذى يغالط المبشرون الكذابون فيحاولون أن يوهموا الأغرار منا قائلين لهم إن المسلم لا يكمل إيمانه إلا بالإيمان بالأناجيل الحالية، هذا الإنجيل لا علاقة له بالأناجيل التى بين أيدينا الآن. إن الأناجيل التى بين أيدينا شىء، والإنجيل الذى نزل على عيسى عليه السلام شىء آخر. الإنجيل السماوى ضاع، وإن كنا نرجّح أن يكون قد بَقِىَ منه بعض العبارات التى تُنْسَب للمسيح فى الأناجيل الحالية، أما ما نقرؤه الآن فهو مجموعة من السِّيَر العيسوية تشبه السِّيَر النبوية لدينا، وإن لم تقم على نفس الأساس الذى تقوم عليه سِيَر الرسول عليه الصلاة والسلام من الرغبة على الأقل فى التمحيص وإعلان أسماء الرواة حتى يكون لدى من يهمه الأمر الفرصة للتحقق بنفسه من مدى مصداقية هذه الروايات؟ وكيلا يمارى القوم مراءهم المشهور فيقولوا إنه لم يكن هناك إلا هذه الأناجيل التى بين أيدينا أنبه القراء إلى قول الكاتب ذاته لا قولى أنا: "وكانَ يَسوعُ يَسيرُ في أنحاءِ الجليلِ، يُعلَّمُ في المجامعِ ويُعلِنُ إنجيلَ المَلكوتِ". فأين ذلك الإنجيل الذى كان يعلنه عيسى عليه السلام ويعلمه للناس؟ اللهم إلا إذا قيل: لقد أكلته القطة!
الفصل الخامس:
"الموعظة على الجبل
فلمّا رأى يَسوعُ الجُموعَ صَعِدَ إلى الجبَلِ وجلَسَ. فَدنا إلَيهِ تلاميذُهُ، 2فأخَذَ يُعلَّمُهُم قالَ: "3هنيئًا للمساكينِ في الرٌّوحِ، لأنَّ لهُم مَلكوتَ السَّماواتِ. 4هنيئًا للمَحزونينَ، لأنَّهُم يُعزَّونَ. 5هنيئًا للوُدَعاءِ، لأنَّهُم يَرِثونَ الأرضَ. 6هنيئًا للجِياعِ والعِطاشِ إلى الحقَّ، لأنَّهُم يُشبَعونَ. 7هنيئًا للرُحَماءِ، لأنَّهُم يُرحمونَ. 8هنيئًا لأنقياءِ القُلوبِ، لأنَّهُم يُشاهِدونَ الله. 9هنيئًا لِصانِعي السَّلامِ، لأنَّهُم أبناءَ الله يُدْعَونَ. 10هنيئًا للمُضطَهَدينَ مِنْ أجلِ الحقَّ، لأنَّ لهُم مَلكوتَ السَّماواتِ. 11هنيئًا لكُم إذا عَيَّروكُم واَضطَهَدوكُم وقالوا علَيكُمْ كَذِبًا كُلَ كَلِمةِ سوءٍ مِنْ أجلي. 12اَفرَحوا واَبتَهِجوا، لأنَّ أَجرَكُم في السَّماواتِ عظيمٌ. هكذا اَضطَهَدوا الأنبياءَ قبلَكُم.
الملح والنور.
13"أنتُم مِلحُ الأرضِ، فإذا فسَدَ المِلحُ، فَماذا يُمَلَّحُهُ؟ لا يَصلُحُ إلاَّ لأَنْ يُرمَى في الخارِجِ فيدوسَهُ النَّاسُ.
14أنتُم نورُ العالَمِ. لا تَخفَى مدينةٌ على جبَلٍ، 15ولا يُوقَدُ سِراجٌ ويوضَعُ تَحتَ المِكيالِ، ولكِنْ على مكانٍ مُرتَفِـعِ حتَّى يُضيءَ لِجميعِ الَّذينَ هُمْ في البَيتِ. 16فلْيُضِىءْ نورُكُم هكذا قُدّامَ النّاسِ ليُشاهِدوا أعمالَكُمُ الصّالِحةَ ويُمَجَّدوا أباكُمُ الذي في السَّماواتِ.
الشريعة.
17"لا تَظُنّوا أنّي جِئتُ لأُبطِلَ الشَّريعَةَ وتَعاليمَ الأنبياءِ: ما جِئتُ لأُبطِلَ، بل لأُكمَّلَ. 18الحقَّ أقولُ لكُم: إلى أنْ تَزولَ السَّماءُ والأرضُ لا يَزولُ حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ مِنَ الشَّريعةِ حتى يتِمَّ كُلُّ شيءٍ. 19فمَنْ خالفَ وَصيَّةً مِنْ أصغَرِ هذِهِ الوصايا وعلَّمَ النَّاسَ أنْ يَعمَلوا مِثلَهُ، عُدَّ صغيرًا في مَلكوتِ السَّماواتِ. وأمَّا مَنْ عَمِلَ بِها وعَلَّمَها، فهوَ يُعَدٌّ عظيمًا في مَلكوتِ السَّماواتِ. 20أقولُ لكُم: إنْ كانَت تَقواكُم لا تَفوقُ تَقْوى مُعَلَّمي الشريعةِ والفَرَّيسيَّينَ، لن تَدخُلوا مَلكوتَ السَّماواتِ.
الغضب.
21"سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ لآبائِكُم: لا تَقتُلْ، فمَنْ يَقتُلْ يَسْتَوْجِبْ حُكْمَ القاضي. 22أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ غَضِبَ على أخيهِ اَستَوجَبَ حُكمَ القاضي، ومَنْ قالَ لأخيهِ: يا جاهلُ اَستوجبَ حُكمَ المجلِسِ، ومَنْ قالَ لَه: يا أحمقُ اَستوجَبَ نارَ جَهَنَّمَ.
23وإذا كُنتَ تُقَدَّمُ قُربانَكَ إلى المَذبَحِ وتذكَّرتَ هُناكَ أنَّ لأخيكَ شيئًا عليكَ، 24فاَترُكْ قُربانَكَ عِندَ المَذبَحِ هُناكَ، واَذهَبْ أوَّلاً وصالِـحْ أخاكَ، ثُمَّ تَعالَ وقَدَّم قُربانَكَ.25وإذا خاصَمَكَ أحَدٌ، فسارِعْ إلى إرْضائِهِ ما دُمْتَ معَهُ في الطَّريقِ، لِئلاّ يُسَلَّمَك الخَصمُ إلى القاضي، والقاضي إلى الشٌّرطي، فَتُلقى في السَّجنِ. 26الحقَّ أقولُ لكَ: لن تخرُجَ مِنْ هُناكَ حتَّى تُوفيَ آخِرَ دِرهَمِ.
الزنى.
27"وسمِعتُمْ أنَّـهُ قيلَ: لا تَزنِ. 28أمَّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ نظَرَ إلى اَمرأةٍ لِيَشتَهيَها، زَنى بِها في قلبِهِ. 29فإذا جَعَلَتْكَ عَينُك اليُمنَى تَخْطَأ، فاَقلَعْها وألْقِها عَنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يُلقَى جَسدُكَ كُلٌّهُ في جَهَنَّمَ. 30وإذا جَعَلَتْكَ يدُكَ اليُمنَى تَخطأُ، فاَقطَعْها وألْقِها عنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يذهَبُ جسَدُكَ كُلٌّه إلى جَهَنَّمَ.
الطلاق.
31"وقِيلَ أيضًا: مَنْ طَلَّقَ اَمرأتَهُ، فلْيُعطِها كِتابَ طَلاقٍ. 32أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ اَمرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزَّنَى يجعلُها تَزْني، ومَنْ تَزوَّجَ مُطلَّقةً زنَى.
حلف اليمين.
33"وسَمِعْتُمْ أنَّهُ قيلَ لآبائِكُم: لا تحلِفْ، بل أَوفِ للرَّبَّ نُذورَكَ. 34أمَّا أنا فأقولُ لكُم: لا تَحلِفوا مُطلَقًا، لا بالسَّماءِ لأنَّها عرشُ الله، 35ولا بالأرضِ لأنَّها مَوطِـىءُ قدَمَيْهِ، ولا بأُورُشليمَ لأنَّها مدينةُ المَلِكِ العظيمِ. 36ولا تحلِفْ برَأْسِكَ، لأنَّكَ لا تَقدِرُ أنْ تَجعلَ شَعْرةً واحدةً مِنهُ بيضاءَ أو سوداءَ. 37فليكُنْ كلامُكُم: "نَعَمْ" أو "لا"، وما زادَ على ذلِكَ فهوَ مِنَ الشَّرَّيرِ.
الانتقام.
38"سَمِعْتُمْ أنَّهُ قِيلَ: عَينٌ بِعَينٍ وسِنٌّ بسِنٍّ. 39أمّا أنا فأقولُ لكُم: لا تُقاوِموا مَنْ يُسيءُ إلَيكُم. مَنْ لطَمَكَ على خَدَّكَ الأيْمنِ، فحَوِّلْ لَه الآخَرَ. 40ومَنْ أرادَ أنْ يُخاصِمَكَ ليأخُذَ ثَوبَكَ، فاَتْرُكْ لَه رِداءَكَ أيضًا. 41ومَنْ سَخَّرَكَ أنْ تَمشيَ معَهُ مِيلا واحدًا، فاَمشِ معَهُ مِيلَيْن. 42مَنْ طَلَبَ مِنكَ شيئًا فأَعطهِ، ومَنْ أرادَ أَنْ يَستعيرَ مِنكَ شيئًا فلا ترُدَّهُ خائِبًا.
محبة الأعداء.
43"سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ: أحِبَّ قريبَكَ وأبغِضْ عَدُوَّكَ. 44أمّا أنا فأقولُ لكُم: أحِبّوا أَعداءَكُم، وصَلّوا لأجلِ الَّذينَ يضْطَهِدونكُم، 45فتكونوا أبناءَ أبيكُمُ الَّذي في السَّماواتِ. فهوَ يُطلِـعُ شَمْسَهُ على الأشرارِ والصّالحينَ، ويُمطِرُ على الأبرارِ والظّالمينَ. 46فإنْ كُنتُم تُحِبّونَ الَّذينَ يُحبّونكُم، فأيٌّ أجرٍ لكم؟ أما يعمَلُ جُباةُ الضّرائِب هذا؟ 47وإنْ كنتُم لا تُسلَّمونَ إلاّ على إخوَتِكُم، فماذا عمِلتُم أكثرَ مِنْ غَيرِكُم؟ أما يعمَلُ الوَثَنيّونَ هذا؟ 48فكونوا أنتُم كاملينَ، كما أنَّ أباكُمُ السَّماويَّ كامِلٌ".
لا شك على الإطلاق فى حلاوة الكلام تحت العنوان الأول والثانى وعظمته، وهو جدير فعلا بأن يكون صادرا عن السيد المسيح، إن لم يكن بالفعل فبالقوة والشَّبَه. كما أرجو أن يتنبه القارئ لتكرار الإشارة فى كلام السيد المسيح عليه السلام إلى الأنبياء، بما يدل على أننا هنا بإزاء واحد منهم: نبى من أنبياء الله لا ابن من أبنائه! تعالى الله عن ذلك الشرك! لكن الوضع يختلف مع بدء الكلام عن الشريعة. لماذا؟ لأن كاتب السِّفْر (منه لله!) ينسب للسيد المسيح عليه السلام كلاما، ليجعله عقب ذلك أول ناقض له. خذ مثلا قوله: "لا تَظُنّوا أنّي جِئتُ لأُبطِلَ الشَّريعَةَ وتَعاليمَ الأنبياءِ: ما جِئتُ لأُبطِلَ، بل لأُكمَّلَ. 18الحقَّ أقولُ لكُم: إلى أنْ تَزولَ السَّماءُ والأرضُ لا يَزولُ حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ مِنَ الشَّريعةِ حتى يتِمَّ كُلُّ شيءٍ. 19فمَنْ خالفَ وَصيَّةً مِنْ أصغَرِ هذِهِ الوصايا وعلَّمَ النَّاسَ أنْ يَعمَلوا مِثلَهُ، عُدَّ صغيرًا في مَلكوتِ السَّماواتِ. وأمَّا مَنْ عَمِلَ بِها وعَلَّمَها، فهوَ يُعَدٌّ عظيمًا في مَلكوتِ السَّماواتِ". فمن يقرأ هذا الكلام سوف يتوهم أنه عليه السلام لم يغير شيئا أى شىء فى الشريعة التى جاء بها موسى، لكنه ما إن يمضى فى القراءة بضع كلمات حتى تتبين له الحقيقة المرة: "سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ لآبائِكُم: لا تَقتُلْ، فمَنْ يَقتُلْ يَسْتَوْجِبْ حُكْمَ القاضي. 22أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ غَضِبَ على أخيهِ اَستَوجَبَ حُكمَ القاضي، ومَنْ قالَ لأخيهِ: يا جاهلُ اَستوجبَ حُكمَ المجلِسِ، ومَنْ قالَ لَه: يا أحمقُ اَستوجَبَ نارَ جَهَنَّمَ... وسمِعتُمْ أنَّـهُ قيلَ: لا تَزنِ. 28أمَّ? أنا فأقولُ لكُم: مَنْ نظَرَ إلى اَمرأةٍ لِيَشتَهيَها، زَنى بِها في قلبِهِ. 29فإذا جَعَلَتْكَ عَينُك اليُمنَى تَخْطَأ، فاَقلَعْها وألْقِها عَنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يُلقَى جَسدُكَ كُلٌّهُ في جَهَنَّمَ. وقِيلَ أيضًا: مَنْ طَلَّقَ اَمرأتَهُ، فلْيُعطِها كِتابَ طَلاقٍ. 32أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ اَمرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزَّنَى يجعلُها تَزْني، ومَنْ تَزوَّجَ مُطلَّقةً زنَى. وسَمِعْتُمْ أنَّهُ قيلَ لآبائِكُم: لا تحلِفْ، بل أَوفِ للرَّبَّ نُذورَكَ. 34أمَّا أنا فأقولُ لكُم: لا تَحلِفوا مُطلَقًا، لا بالسَّماءِ لأنَّها عرشُ الله، 35ولا بالأرضِ لأنَّها مَوطِـىءُ قدَمَيْهِ، ولا بأُورُشليمَ لأنَّها مدينةُ المَلِكِ العظيمِ. 36ولا تحلِفْ برَأْسِكَ، لأنَّكَ لا تَقدِرُ أنْ تَجعلَ شَعْرةً واحدةً مِنهُ بيضاءَ أو سوداءَ. 37فليكُنْ كلامُكُم: "نَعَمْ" أو "لا"، وما زادَ على ذلِكَ فهوَ مِنَ الشَّرَّيرِ. سَمِعْتُمْ أنَّهُ قِيلَ: عَينٌ بِعَينٍ وسِنٌّ بسِنٍّ. 39أمّا أنا فأقولُ لكُم: لا تُقاوِموا مَنْ يُسيءُ إلَيكُم. مَنْ لطَمَكَ على خَدَّكَ الأيْمنِ، فحَوِّلْ لَه الآخَرَ".
والآن أليس هذا هو نقض الشريعة بقضه وقضيضه؟ أليس قد قال عليه السلام شيئا ثم عمل عكسه تماما؟ أما نحن المسلمين فنبرئ المسيح من مثل هذا السلوك، إذ لا يعقل أن يقول نبى من أنبياء الله الكرام شيئا ويكون هو أول من ينقضه! وهذا هو النسخ، الذى يأخذه أوغاد المهجر على الإسلام، لكن نسخ الإسلام هو نسخ التدرج، أما هنا فالنسخ يتخذ صورة الهدم والمحو الفجائى دون تمهيد ولا تنبيه، كما أنه يتسم بالكذب والخداع، أو بالهوائية على الأقل! ثم جاء بولس فأجهز على القليل الباقى فلم يعد للشريعة بعدها من أثر، ومع ذلك يظلون يرددون فى سماجة لا نظير لها أن الإسلام هو وحده الدين الذى يقوم على الناسخ والمنسوخ، وأنه عيب لا يليق بدين من الأديان السماوية. اللهم إلا إذا كان قصدهم أن دينهم، لكونه ليس من لدن رب العالمين، فإنه لا يعيبه أن يكون فيه ناسخ ومنسوخ، ولا أن يكون الناسخ والمنسوخ فيه قائما على الكذب والهوائية! أما إذا كان الأمر هو ذاك فليس لدىّ حينئذ أدنى اعتراض، لأن هذا هو رأيى فعلا!
كذلك لست أظن إلا أن القارئ قد لاحظ باستغرابٍ الوصايا المثالية المتشنجة التى تضمنتها تلك الموعظة والتى لا تناسب الحياة البشرية على الإطلاق، إذ إننا لا نعيش فى مجتمع من مجتمعات الملائكة رغم تطلعنا إلى الكمال والسكينة والعدل والتراحم والتسامح، بل فى مجتمع بشرى تحركه الغرائز والشهوات، وتتحكم فى تصرفات أفراده ألوان من الضعف والعجز والخوف والشك والقلق والتطلع والطمع... إلخ، وهو ما لا يناسبه بحالٍ تلك النبرة المتشنجة التى لا يمكن أحدا الوفاء بها ولا المسيح نفسه: فهو مثلا قد نهى عن شتم الآخرين ولو بكلمة "يا أحمق" وجعل عقابها عند الله كبيرا، ومع ذلك فما أكثر المرات التى كال فيها عليه السلام السباب لليهود من فريسيين وصدوقيين وكهنة، وكذلك لتلاميذه الحواريين، وأَسْمَعَ المدنَ التى لم تُصِخْ له قارص القول: "20وأخَذَ يَسوعُ يُؤَنَّبُ المُدُنَ التي أجرى فيها أكثرَ مُعجزاتِهِ وما تابَ أهلُها، 21فقالَ: "الويلُ لكِ يا كورَزينَ! الويلُ لكِ يا بـيتَ صيدا! فلو كانتِ المُعجزاتُ التي جرَتْ فيكما جرَتْ في صورَ وصيدا، لتابَ أهلُها من زمنٍ بعيدٍ ولبِسوا المسوحَ وقعَدوا على الرمادِ. 22لكنّي أقولُ لكم: سيكونُ مصيرُ صورَ وصيدا يومَ الحِسابِ أكثرَ اَحتمالاً من مصيرِكُما. 23وأنتِ يا كَفْرَ ناحومُ! أتَرتَفعينَ إلى السَّماءِ؟ لا، إلى الجَحيمِ سَتهبُطينَ. فَلو جرَى في سَدومَ ما جرَى فيكِ مِنَ المُعجِزاتِ، لبَقِـيَتْ إلى اليومِ. 24لكنّي أقولُ لكُم: سيكونُ مصيرُ سدومَ يومَ الحِسابِ أكثرَ اَحتِمالاً مِنْ مَصيرِكِ" (متى/ 11). وإن الإنسان ليتساءل: أهذا هو عيسى الذى تُضْرَب به الأمثال فى الوداعة والطيبة وحب السلام؟ فما بالنا لو عرفنا بم رد على أحدهم حين أخبره أن أمه وإخوته يريدون أنيروه بالخارج؟ وما الذى قاله فى تلك الأم وأولئك الإخوة؟ أو لو عرفنا ما الذى قاله عندما ظن الناس أنه قد أتى بدعوة السلم والسكينة فأكد لهم أنه لم يأت ليلقى سلاما على الأرض بل نارا وسيفا وأنه إنما جاء ليفرّق بين أفراد الأسرة الواحدة ويبث بينهم العداوة والبغضاء؟ لا ليس هذا هو عيسى الذى عمل القوم على تسويقه رغم أن الصورة التى ترسمها له أناجيلهم المؤلفة تختلف عن ذلك اختلافا بعيدا لا يمكن معه التوفيق بين الأصل والصورة!
الفصل السادس:
الصدقة
"إيَّاكُمْ أنْ تعمَلوا الخَيرَ أمامَ النَّاسِ ليُشاهِدوكُم، وإلاَّ فلا أجرَ لكُم عِندَ أبيكُمُ الَّذي في السَّماواتِ.
2فإذا أحسَنْتَ إلى أحدٍ، فلا تُطَبَّلْ ولا تُزمَّرْ مِثلَما يَعمَلُ المُراؤونَ في المجامعِ والشوارعِ حتى يَمدَحَهُمُ النَّاسُ. الحقَّ أقولُ لكُم: هؤلاءِ أخَذوا أجرَهُم. 3أمَّا أنتَ، فإذا أحسنتَ إلى أحدٍ فلا تَجْعَلْ شِمالَكَ تَعرِفُ ما تعمَلُ يمينُكَ، 4حتى يكونَ إحسانُكَ في الخِفْيَةِ، وأبوكَ الذي يرى في الخِفيَةِ هوَ يُكافِئُكَ.
الصلاة والصوم.
5"وإذا صَلَّيتُمْ، فلا تكونوا مِثلَ المُرائينَ، يُحِبٌّونَ الصَّلاةَ قائِمينَ في المَجامِـعِ ومَفارِقِ الطٌّرُقِ ليُشاهِدَهُمُ النَّاسُ. الحقَّ أقولُ لكُم: هؤُلاءِ أخذوا أجرَهُم. 6أمَّا أنتَ، فإذا صَلَّيتَ فاَدخُلْ غُرفَتَكَ وأغلِقْ بابَها وصَلٌ لأبيكَ الَّذي لا تَراهُ عَينٌ، وأبوكَ الَّذي يَرى في الخِفْيَةِ هوَ يُكافِئُكَ.
7ولا تُرَدَّدوا الكلامَ تَردادًا في صَلواتِكُم مِثْلَ الوَثنيّينَ، يَظُنٌّونَ أنَّ الله يَستَجيبُ لهُم لِكَثرةِ كلامِهِم. 8لا تكونوا مِثلَهُم، لأنَّ الله أباكُم يَعرِفُ ما تَحتاجونَ إلَيهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ. 9فصلّوا أنتُم هذِهِ الصَّلاةَ: أبانا الَّذي في السَّماواتِ، ليتَقدَّسِ اَسمُكَ 10ليأتِ مَلكوتُكَ لتكُنْ مشيئتُكَ في الأرضِ كما في السَّماءِ. 11أعطِنا خُبزَنا اليَوميَّ، 12واَغفِرْ لنا ذُنوبَنا كما غَفَرنا نَحنُ لِلمُذنِبينَ إلَينا، 13ولا تُدخِلْنا في التَّجرِبَةِ، لكنْ نجَّنا مِنَ الشَّرَّيرِ. 14فإنْ كُنتُم تَغفِرونَ لِلنّاسِ زَلاّتِهِم، يَغفِرْ لكُم أبوكُمُ السَّماويٌّ زلاّتِكُم. 15وإنْ كُنتُم لا تَغفِرونَ لِلنّاسِ زلاّتِهِم، لا يَغفِرُ لكُم أبوكُمُ السَّماويٌّ زلاّتِكُم.
16وإذا صُمْتمُ، فلا تكونوا عابِسينَ مِثلَ المُرائينَ، يَجعلونَ وجوهَهُم كالِحَةً ليُظهِروا لِلنّاسِ أنَّهُم صائِمونَ. الحقَ أقولُ لكُم: هؤُلاءِ أخذوا أجرَهُم. 17أمّا أنتَ، فإذا صُمتَ فاَغسِلْ وجهَكَ واَدهَنْ شَعرَكَ، 18حتَّى لا يَظهَرَ لِلنّاسِ أنَّكَ صائِمٌ، بل لأبيكَ الَّذي لا تَراهُ عَينٌ، وأبوكَ الَّذي يَرى في الخِفْيَةِ هوَ يُكافِئُكَ.
الغنى.
19"لا تَجمَعوا لكُمْ كُنوزًا على الأرضِ، حَيثُ يُفسِدُ السٌّوسُ والصَّدَأُ كُلَ شيءٍ، وينقُبُ اللٌّصوصُ ويَسرِقونَ. 20بلِ اَجمَعوا لكُم كُنوزًا في السَّماءِ، حَيثُ لا يُفْسِدُ السٌّوسُ والصَّدأُ أيَّ شيءٍ، ولا ينقُبُ اللٌّصوصُ ولا يَسرِقونَ. 21فحَيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قَلبُكَ.
نور الجسد.
22"سِراجُ الجسدِ هوَ العَينُ. فإنْ كانَت عَينُكَ سَليمَةً، كانَ جسَدُكَ كُلٌّهُ مُنيرًا. 23وإنْ كانَت عَينُكَ مَريضَةً، كانَ جسَدُكَ كُلٌّهُ مُظلِمًا. فإذا كانَ النٌّورُ الَّذي فيكَ ظَلامًا، فيا لَه مِنْ ظلامِ!
الله والمال.
24"لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدُمَ سَيَّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ أحدَهُما ويُحبَّ الآخَرَ، وإمّا أنْ يَتبعَ أحدَهُما ويَنبُذَ الآخَرَ. فأنتُم لا تَقدِرونَ أنْ تخدُموا الله والمالَ.
25لذلِكَ أقولُ لكُم: لا يَهُمَّكُم لحياتِكُم ما تأكُلونَ وما تشرَبونَ، ولا لِلجسدِ ما تَلبَسونَ. أما الحَياةُ خَيرٌ مِنَ الطَّعامِ، والجسدُ خَيرٌ مِنَ اللَّباسِ? 26أنظُروا طُيورَ السَّماءِ كيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحْصُدُ ولا تَخزُنُ، وأبوكُمُ السَّماويٌّ يَرزُقُها. أما أنتُم أفضلُ مِنها كثيرًا؟ 27ومَنْ مِنكُمْ إذا اَهتَمَّ يَقدِرُ أنْ يَزيدَ على قامَتِهِ ذِراعًا واحدةً؟
28ولِماذا يَهمٌّكُمُ اللَّباسُ؟ تأمَّلوا زَنابقَ الحَقلِ كيفَ تَنمو: لا تَغزِلُ ولا تَتعَبُ. 29أقولُ لكُم: ولا سُليمانُ في كُلٌ مَجدهِ لبِسَ مِثلَ واحدَةٍ مِنها. 30فإذا كانَ الله هكذا يُلبِسُ عُشبَ الحَقلِ، وهوَ يوجَدُ اليومَ ويُرمى غَدًا في التَّــنّورِ، فكَمْ أنتُم أولى مِنهُ بأنْ يُلبِسَكُم، يا قليلي الإيمانِ؟ 31لذلِكَ لا تَهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكُلُ؟ وماذا نشرَبُ؟ وماذا نَلبَسُ؟ 32فهذا يطلُبُه الوَثنيّونَ. وأبوكُمُ السَّماويٌّ يعرِفُ أنَّكُم تَحتاجونَ إلى هذا كُلَّهِ. 33فاَطلبوا أوَّلاً مَلكوتَ الله ومشيئَتَهُ، فيزيدَكُمُ الله هذا كُلَّه. 34لا يَهُمَّكُم أمرُ الغدِ، فالغدُ يَهتمٌّ بنفسِهِ. ولِكُلٌ يومِ مِنَ المتاعِبِ ما يكْفيهِ".
فأما الكلام عن الصدقة وأفضلية إخراجها خفيةً فكلام رائع لا يصدر إلا عن نفس نبيلة، وإن لم يمنع هذا من إخراج المال علانية إذا اقتضى المقام ذلك: كأن يريد المتصدق أن يَجُبّ الغِيبة عن نفسه حتى لا يظن الظانون أنه لا يخرج صدقة ماله، أو أن يريد تشجيع البخلاء والمترددين فيخرج الصدقة أمامهم فيقلدوه ويتشجعوا على عمل الخير... وهلم جرا. والعبرة فى كل حال بالنية والضمير، ومن هنا سمعنا المسيح عليه السلام يقول: "إيَّاكُمْ أنْ تعمَلوا الخَيرَ أمامَ النَّاسِ ليُشاهِدوكُم"، أما إذا لم تكن الرغبة فى لفت أنظار الناس فى الخاطر ولا النية فلا بأس بإظهار الصدقات، وإن كان الإخفاء أفضل بوجه عام. وما يصدق على الصدقة يصدق على الصلاة والصوم إذا كانت النية وراء تَيْنِك العبادتين هى المراءاة والسمعة، وإلا فهما عبادتان جماعيتان لا فضل لأحد على غيره فى أدائهما، اللهم إلا إذا تحولتا إلى تجارة وخداع. ولنلاحظ كيف أن المسيح، إذا كان هو قائل هذا الكلام فعلا، قد سمى الله بقوله لمن يخاطبهم: "أبوك"، "أبوكم الذى فى السماوات"، وهو ما من شأنه أن يؤكد ما قلناه فيما مرّ من أن هذا التعبير وأمثاله إنما هو تعبير رمزى أو مجازى، ولا يمكن ولا يصح أن يؤخذ على حرفيته!
وأما قوله عن الغِنَى: "19لا تَجمَعوا لكُمْ كُنوزًا على الأرضِ، حَيثُ يُفسِدُ السٌّوسُ والصَّدَأُ كُلَ شيءٍ، وينقُبُ اللٌّصوصُ ويَسرِقونَ. 20بلِ اَجمَعوا لكُم كُنوزًا في السَّماءِ، حَيثُ لا يُفْسِدُ السٌّوسُ والصَّدأُ أيَّ شيءٍ، ولا ينقُبُ اللٌّصوصُ ولا يَسرِقونَ. 21فحَيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قَلبُكَ" فبحاجة إلى تعديل، إذ ليس المال ولا الغنى سيئا فى ذاته، بل فى الحالات التى يتحول فيها إلى سُعَارٍ وجَمْعٍ للثروات لا لشىء سوى الكنز فى حد ذاته بحيث تفقد النفس إنسانيتها ونقاءها ولا تعود تشعر بالفقراء وذوى الحاجة الضعفاء ولا تعمل لهم حسابا، وإلا فالمال عصب مهم من أعصاب الحياة، ولولا هو ما استطاع الناس العيش ولا الحصول على حاجاتهم، إذ هو ترجمة لجهدهم وعملهم وكدّهم وتحويل لها إلى دراهم ودنانير. إن الحياة ومتعها هى نعمة من نعم الله سبحانه، ولا يعقل أن يدير العاقل ظهره لنعم الله، على الأقل لأن ذلك باب من أبواب الجلافة، ولا أظننى أغالى إذا قلت إنه قد يكون دليلا على قلة الإيمان. لقد خلق الله لنا أجسادا ونفوسا تتطلع وتتشهى، ولا عيب فى التطلع والتشهى فى نفسه، إنما العيب كل العيب فى الأنانية والتمركز حول الذات، وكذلك فى اللهفة والجزع والسخط إذا فات الشخصَ حظُّه من تلك المتع! ترى ما الإثم فى الطعام الطيب أو الشراب اللذيذ أو العطر الزكىّ أو الملبس الأنيق أو البيت الرحيب النظيف الجميل؟ أمن المعقول أن يكون حرص الإنسان على المأكل والمشرب الردىء والرائحة المنتنة والمسكن الضيق القبيح المنفّر والملبس الزَّرِىّ هو الدليل على صدق الإيمان والرغبة فى شكر الله؟ ترى ما يفعل الله بعذابنا إن شَكَرْنَا وآمنّا؟ ولمن خلق الله الدنيا وأطايبها ولذاتها إذا عملنا نحن على حرمان أنفسنا منها؟ المهم ألا تشغلنا هذه الدنيا عن كنوز السماء التى تبقى بعد فناء هذه اللذائذ والأطايب الدنيوية، وإلا فما الذى يعود على الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟
الواقع أنه لا تعارض بالضرورة بين الأمرين، وإلا فكنز السماء مقدم على كل كنوز الأرض فى حالة التعارض ما لم تكن هناك ضرورة قاهرة، فعندئذ فالرجاء أن يغفر الله بفضله وكرمه ذنوبنا ويَجْبُر نقصنا ويعفو عن كثير، فهو الكريم الودود اللطيف الرحيم غافر الذَّنْب وقابل التَّوْب! أما ما جاء فى هذه الموعظة من أنه "لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدُمَ سَيَّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ أحدَهُما ويُحبَّ الآخَرَ، وإمّا أنْ يَتبعَ أحدَهُما ويَنبُذَ الآخَرَ. فأنتُم لا تَقدِرونَ أنْ تخدُموا الله والمالَ" فليس على إطلاقه، إذ الواحد يستطيع أن يكسب المال ويستعمله فى إنجاز حاجاته وإشباع تطلعاته، وفى ذات الوقت يؤدى واجب الشكر لله ويعطى الفقراء حقوقهم فيه، فينال الخيرين جميعا: خير الدنيا، وخير الآخرة، فهو يعبد الله من خلال شكره سبحانه على ما أغدق عليه من مال. وصدق الله العظيم إذ يقول:"ومن الناس من يقول: ربَّنا، آتنا فى الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، وقِنَا عَذَاب النار* أولئك لهم نصيب مما كسبوا، والله سريع الحساب"، وصدق رسوله الكريم حين يعلمنا قائلا: "نِعْمَ المالُ الصالحُ للعبد الصالح"، اللهم إلا إذا كان المسيح عليه السلام قد قصد قصدًا الحَدَّ من جشع اليهود الإجرامى وعبادتهم المتوحشة للدرهم والدينار، واليورو والدولار.
على أن من الأقوال المنسوبة للسيد المسيح ما لا يمكن الموافقة عليه البتة لأنه يقود إلى العدم. ومنه قوله: "25لذلِكَ أقولُ لكُم: لا يَهُمَّكُم لحياتِكُم ما تأكُلونَ وما تشرَبونَ، ولا لِلجسدِ ما تَلبَسونَ. أما الحَياةُ خَيرٌ مِنَ الطَّعامِ، والجسدُ خَيرٌ مِنَ اللَّباسِ? 26أنظُروا طُيورَ السَّماءِ كيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحْصُدُ ولا تَخزُنُ، وأبوكُمُ السَّماويٌّ يَرزُقُها. أما أنتُم أفضلُ مِنها كثيرًا؟ 27ومَنْ مِنكُمْ إذا اَهتَمَّ يَقدِرُ أنْ يَزيدَ على قامَتِهِ ذِراعًا واحدةً؟". إن الجسد يشكل جانبا من وجودنا، ولا يمكن من ثم تجاهله وإهمال مطالبه. ترى كيف يستطيع الإنسان ألا يهتم بما يأكل أو يشرب أو يلبس؟ كما أن القياس على حياة الطيور هو قياس خاطئ تماما: فالطيور إنما تعيش بغرائزها ولا تفكر فى بناء حضارة، وليس لها ثقافة، ولا يعترى حياتها أى تطوير، أما نحن فلا نستطيع أن نعيش حياة الفطرة التى تحياها الطيور، وإلا فكيف نأكل ونشرب ونلبس ونسكن؟ إن الديدان والحَبّ مثلا متوفران فى الطبيعة بكميات تفوق حاجة الطيور، ومن ثم فلا مشكلة فى الحصول عليها، كما أنه لا مانع يمنعها من الحصول من ذلك على ما تريد، أما نحن فليس هناك وفرة فى الطبيعة فيما نحتاجه، بل لا بد من العمل والإنتاج والإبداع والتنظيم والإدارة والتخطيط... إلخ. ولو تركنا أنفسنا مثلا دون ملابس ولم نهتم بنظافتنا أو زينتنا كما تفعل الطيور لمتنا من البرد والحر، فضلا عن أن هذا لا يليق: لا أخلاقيا ولا اجتماعيا ولا صحيا، ولا جماليا أيضا، إذ على الأقل سوف تتراكم الأوساخ على أجسادنا وتطول شعورنا وأظافرنا وتنتن رائحتنا ونصبح أقرب للوحوش منا للبشر! وأذكر أنى قرأت فى شبابى الأول فى بداية سبعينات القرن الفائت رواية لبريخت فى سلسلة "روايات الهلال" اسمها "ثلاثة بنسات" تناول فيها ذلك الكاتب، ضمن ما تناول، مثلا ضربه السيد المسيح وأخذ يسخر منه ومن تداعياته المتوقعة لو أخذنا به وسرنا على ضوئه. وأذكر كذلك أنى لم تعجبنى الطريقة التى فهم بها الروائى الألمانى المثل المنسوب لعيسى عليه السلام والتهكم الذى استقبله به، إلا أن الكلمات التى نحن بصددها الآن لا تترك لنا فرصة للقول بأن هناك معنى آخر لها يمكن توجيهها نحوه، فهى دعوة صريحة لا تحتمل لَبْسًا إلى الانصراف عن الاهتمام بالدنيا والاستنان بسنة الطيور، وهو ما لا يمكن أن يكون نظرًا لاختلاف طبيعة الحياة البشرية عن حياة الطير.
نعم هناك حديث للرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم فيه: "لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا"، بَيْدَ أن ثمة فرقا كبيرا وحاسما بين الكلامين: فالرسول يتحدث عن التوكل الحق، وهذا التوكل معناه أن يبذل الإنسان كل جهده فى سبيل الحصول على ما يريد مثلما تفعل الطيور، إذ لا تبقى فى أعشاشها كتنابلة السلطان تنتظر الحَبّ أن يسقط فى مناقيرها وهى راقدة، بل تفارق كل صباح فى البُكْرة النديّة أعشاشها بحثًا عن الحبة والدودة، فتعود آخر النهار وقد امتلأت بطونها بالطعام بعد أن غادرت بيوتها فى أوله على الطَّوَى! الحديث إذن لا يقيس على الطير فى عدم اهتمامها بتدبير أمور معاشها، بل يقيس عليها فى سعيها على قدر وسعها وراء هذا المعاش. وقد صرح الرسول الأعظم بهذا المعنى فى أحاديث كثيرة متنوعة، وهذا هو الفرق الكبير والخطير بين الكلامين! وليس من المعقول أن نطلب من الإنسان أن يقوم كل يوم من النوم وهو لا يدرى ماذا يأكل فى يومه الأغبر ولا كيف يدبر أمر ملابسه وسكنه: فمرة ينام على الرصيف، وأخرى فى لوكاندة، وثالثة فى الكراكون، ورابعة فى ملجإ للعجزة أو للأيتام، وخامسة فى حقل من حقول الذرة مع اللصوص والقتلة وقُطّاع الطريق وما إلى ذلك. وهذا على مستوى الأفراد، فما بالنا بالدول؟ ومن التخطيط والاستعداد المسبَّق العمل على إقامة المدارس ومؤسسات الضمان الاجتماعى ووضع البرامج للارتقاء بالذوق والحس الجمالى... إلى آخر تلك الأهداف النبيلة التى لا يمكن الغض منها تحت أية حجة.
ومما قاله المسيح أيضا: "28ولِماذا يَهمٌّكُمُ اللَّباسُ؟ تأمَّلوا زَنابقَ الحَقلِ كيفَ تَنمو: لا تَغزِلُ ولا تَتعَبُ. 29أقولُ لكُم: ولا سُليمانُ في كُلٌ مَجدهِ لبِسَ مِثلَ واحدَةٍ مِنها. 30فإذا كانَ الله هكذا يُلبِسُ عُشبَ الحَقلِ، وهوَ يوجَدُ اليومَ ويُرمى غَدًا في التَّــنّورِ، فكَمْ أنتُم أولى مِنهُ بأنْ يُلبِسَكُم، يا قليلي الإيمانِ؟ 31لذلِكَ لا تَهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكُلُ؟ وماذا نشرَبُ؟ وماذا نَلبَسُ؟ 32فهذا يطلُبُه الوَثنيّونَ. وأبوكُمُ السَّماويٌّ يعرِفُ أنَّكُم تَحتاجونَ إلى هذا كُلَّهِ. 33فاَطلبوا أوَّلاً مَلكوتَ الله ومشيئَتَهُ، فيزيدَكُمُ الله هذا كُلَّه. 34لا يَهُمَّكُم أمرُ الغدِ، فالغدُ يَهتمٌّ بنفسِهِ. ولِكُلٌ يومِ مِنَ المتاعِبِ ما يكْفيهِ". وهنا لا يهمل المسيح، إن كان هو قائل هذا الكلام، أمور الدنيا تمام كما أهملها فى النص الذى فرغنا منه لتونا، لكنه يضعها تالية لمطالب الملكوت السماوى. ولا ريب فى أن من يؤمن بالحياة الآخرة يضع، مثل عيسى، الآخرة على الأولى، إلا أن تأكيد المسيح بأننا إذا اهتممنا بملكوت السماوات فلسوف تدبر الحياة أمورها بنفسها دون تدخل من جانبنا، هو تأكيد لا ينهض على أساس، إذ السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما قال عبقرى الإسلام عمر بن الخطاب، كما أننا قد سبق أن نبهنا إلى الدرة المحمدية الثمينة فى هذا الشأن، وهى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا". أى أنه لا بد من العمل وبذل الجهد والجرى وراء الرزق. أما صرف الوقت كله فى العبادة فهو فى الإسلام غير مُسْتَحَبّ، لا بل هو خطأ فادح وجريمة لا يستهان بها عند الله. لكنْ فى كل الأحوال ينبغى ألا يتحول الإنسان، بسبب هذا الجرى خلف المعاش، إلى آلة عديمة المشاعر والضمير لا تبالى بحق ولا باطل، ولا تأخذ فى حسبانها أن هناك أمورا شديدة الأهمية تتخطى حدود الحياة الدنيا، وحقوقا للآخرين يجب أداؤها.
الفصل السابع:
"إدانة الآخرين.
"لا تَدينوا لِئلاَّ تُدانوا. 2فكما تَدينونَ تُدانونَ، وبِما تكيلونَ يُكالُ لكُم. 3لماذا تَنظُرُ إلى القَشَّةِ في عَينِ أخيكَ، ولا تُبالي بالخَشَبَةِ في عَينِكَ؟ 4بلْ كيفَ تقولُ لأخيكَ: دَعْني أُخرجِ القَشَّةَ مِنْ عَينِكَ، وها هيَ الخَشبَةُ في عينِكَ أنتَ؟ 5يا مُرائيٌّ، أخْرجِ الخشَبَةَ مِنْ عَينِك أوَّلاً، حتى تُبصِرَ جيَّدًا فَتُخرِجَ القَشَّةَ مِنْ عَينِ أخيكَ.
6لا تُعطوا الكِلابَ ما هوَ مُقَدَّسٌ، ولا تَرموا دُرَرَكُم إلى الخنازيرِ، لِئلاَ تَدوسَها بأَرجُلِها وتلتَفِتَ إلَيكُم فتُمزَّقَكُم.
أطلبوا تجدوا.
7"إسألُوا تُعطَوا، إطلُبوا تَجِدوا، دُقّوا البابَ يُفتحْ لكُم. 8فمَن يَسألْ يَنَلْ، ومَنْ يَطلُبْ يَجِدْ، ومَنْ يَدُقَّ البابَ يُفتَحْ لَه. 9مَنْ مِنكُم إذا سألَهُ اَبنُهُ رَغيفًا أعطاهُ حَجَرًا، 10أو سَألَهُ سَمَكةً أعطاهُ حَـيَّةً؟ 11فإذا كُنتُم أنتُمُ الأشرارَ تَعرِفونَ كيفَ تُحسِنونَ العَطاءَ لأَبنائِكُم، فكَمْ يُحسِنُ أبوكُمُ السَّماويٌّ العَطاءَ للَّذينَ يَسألونَهُ؟
12عامِلوا الآخَرينَ مِثلَما تُريدونَ أنْ يُعامِلوكُم. هذِهِ هيَ خُلاصةُ الشَّريعةِ وتَعاليمِ الأنبياءِ.
الباب الضيّق.
13"أُدْخُلوا مِنَ البابِ الضيَّقِ. فما أوسَعَ البابَ وأسهلَ الطَّريقَ المؤدَّيةَ إلى الهلاكِ، وما أكثرَ الَّذينَ يسلُكونَها. 14لكِنْ ما أضيقَ البابَ وأصعبَ الطَّريقَ المؤدَّيةَ إلى الحياةِ، وما أقلَ الَّذينَ يَهتدونَ إلَيها.
الشجرة وثمرها.
15"إيَّاكُم والأنبياءَ الكَذَّابينَ، يَجيئونَكُم بثِيابِ الحُملانِ وهُم في باطِنِهِم ذِئابٌ خاطِفةٌ. 16مِنْ ثِمارِهِم تعرِفونَهُم. أيُثمِرُ الشَّوكُ عِنَبًا، أمِ العُلَّيقُ تِينًا؟ 17كُلُّ شَجرَةٍ جيَّدةٍ تحمِلُ ثَمرًا جيَّدًا، وكُلُّ شَجَرةٍ رَديئةٍ تحمِلُ ثَمرًا رَديئًا. 18فما مِنْ شَجرَةٍ جيَّدةٍ تَحمِلُ ثَمرًا رَديئًا، وما من شَجرَةٍ رَديئةٍ تَحمِلُ ثَمرًا جيَّدًا. 19كُلُّ شَجرَةٍ لا تَحمِلُ ثَمرًا جيَّدًا تُقطَعُ وتُرمَى في النَّارِ. 20فمِنْ ثِمارِهِم تَعرِفونَهُم.
القول والعمل.
21"ما كُلُّ مَنْ يقولُ لي: يا ربٌّ، يا ربٌّ! يدخُلُ مَلكوتَ السَّماواتِ، بل مَنْ يَعملُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ. 22سيَقولُ لي كثيرٌ مِنَ النّاسِ في يومِ الحِسابِ: يا ربٌّ، يا ربٌّ، أما باَسمِكَ نَطَقْنا بالنٌّبوءاتِ؟ وباَسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وباَسمِكَ عَمِلنا العجائبَ الكثيرةَ؟ 23فأقولُ لهُم: ما عَرَفتُكُم مرَّةً. اَبتَعِدوا عنَّي يا أشرارُ!
مثل البيتين.
24"فمَنْ سمِعَ كلامي هذا وعمِلَ بِه يكونُ مِثْلَ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بَيتَهُ على الصَّخْرِ. 25فنزَلَ المَطَرُ وفاضتِ السٌّيولُ وهَبَّتِ الرِياحُ على ذلِكَ البَيتِ فما سقَطَ، لأنَّ أساسَهُ على الصَّخرِ 26ومَنْ سَمِعَ كلامي هذا وما عمِلَ بِه يكونُ مِثلَ رَجلٍ غَبـيٍّ بنَى بَيتَهُ على الرَّملِ. 27فنَزَلَ المطَرُ وفاضَتِ السٌّيولُ وهَبَّتِ الرَّياحُ على ذلِكَ البَيتِ فسَقَطَ، وكانَ سُقوطُهُ عَظيمًا".
28ولمّا أتمَّ يَسوعُ هذا الكلامَ، تَعَجَّبتِ الجُموعُ مِنْ تَعليمِه، 29لأنَّهُ كانَ يُعَلَّمُهُم مِثلَ مَنْ لَه سُلطانٌ، لا مِثلَ مُعلَّمي الشَّريعةِ".
هذا كلام نبيل ونفيس فى مجمله، لكنه يحتاج لبعض توضيح: فالحياة لا تستغنى أبدا عن الدينونة، وإلا لم تستقم أمورها ولاستطال البغاة فى غَيّهم وعدوانهم ما داموا لا يجدون من يدينهم، فضلا عمن يردعهم! بيد أن المسيح، فيما أتصور (إذا كان هو قائل هذا الكلام، وهو فى الواقع أشبه بأن يكون صادرا من فم نبى)، لا يقصد هذا، بل مقصده أن يشتغل كل شخص بعيوبه قبل الانتباه لعيوب سواه. فإن كان كذلك فنَعَمْ ونعام عين! أما فى الإسلام فيقول الرسول الكريم: "كما تَدِين تُدَان"، وفرق كبير بين هذا وذاك، فكلام الرسول معناه أن علينا تحرى العدل عند محاسبة الآخرين مثلما نريد منهم مراعاته فى محاسبتنا. أى أنه لا بد من الحساب، لكن بالعدل لا بترك الحساب جملةً، وإنْ حَبَّبَ الإسلام فى العفو والتسامح لكن دون أن يوجبه أو يجعله هو الأصل، وإلا لاستحالت الحياة الاجتماعية وأصبح الأمر فوضى لا تطاق. ولنتصور مجتمعا دون شُرْطة ولا محاكم ولا قضاة، ولنتصور الرزايا التى يمكن أن تنهال على رؤوس الناس حينئذ، ولنتساءل: هل من المستطاع العيش فى مثل ذلك المجتمع؟ يا له من عذاب! ومن الآيات التى تحبب فى العفو قوله تعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" (الشورى/ 40)، "وأن تعفوا أقرب للتقوى، ولا تَنْسَوُا الفضل بينكم" (البقرة/ 237)، "وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم" (التغابن/ 14)، "خذ العفو، وأْمُرْ بالعُرْف، وأَعْرِضْ عن الجاهلين" (الأعراف/ 199)، "إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوًّا قديرا" (النساء/ 149)... إلخ. كذلك يحتاج الباب الضيق (وهو أيضا عنوان رواية لأندريه جيد كتب مقدمة ترجمتها العربية د. طه حسين) إلى شىء من التوضيح، وأغلب الظن أنه هو نفسه ما أراده الرسول حين قال: "حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات". أى أن طريق النار سهل لأن الإنسان لا يبذل فيه جهدا بل يكفى أن يتبع صوت شهواته، أما طريق الجنة فكله مجاهدات وحرمانات. لكن ليس معنى إيثار الباب الضيق أن يترك الإنسان اليسر إلى العسر، فهذه مسألة أخرى، وإلا فالمراد هو أن يختار، من طريق الجنة المحفوف بالمكاره كما رأينا، المسار الأكثر يسرا.
أما قوله عليه السلام: "إسألُوا تُعطَوا، إطلُبوا تَجِدوا، دُقّوا البابَ يُفتحْ لكُم. 8فمَن يَسألْ يَنَلْ، ومَنْ يَطلُبْ يَجِدْ، ومَنْ يَدُقَّ البابَ يُفتَحْ لَه. 9مَنْ مِنكُم إذا سألَهُ اَبنُهُ رَغيفًا أعطاهُ حَجَرًا، 10أو سَألَهُ سَمَكةً أعطاهُ حَـيَّةً؟ 11فإذا كُنتُم أنتُمُ الأشرارَ تَعرِفونَ كيفَ تُحسِنونَ العَطاءَ لأَبنائِكُم، فكَمْ يُحسِنُ أبوكُمُ السَّماويٌّ العَطاءَ للَّذينَ يَسألونَهُ؟12عامِلوا الآخَرينَ مِثلَما تُريدونَ أنْ يُعامِلوكُم. هذِهِ هيَ خُلاصةُ الشَّريعةِ وتَعاليمِ الأنبياء" فإن كثيرا من الناس سوف يخطئون فهمه، إذ يظنون أن المقصود الدعاء، على حين أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يحدد طبيعة الطلب المذكور هنا، ولا شك أن الكلام أبعد مرمى من الإشارة إلى الدعاء، وأن المقصود هو أن الإنسان إذا ما أراد الحصول على خير من خيرات الدنيا فعليه أن يبذل جهده فى سبيل الوصول إلى ما يريد ولا يكتفى بالدعاء، وإلا فلن يطول شيئا بالمرة، فالسماء لا تمطر من تلقاء نفسها ذهبا ولا فضة، وإنما تمطر ذهبا وفضة وياقوتا ولؤلؤا ومرجانا وألماسا وكل ما تشتهيه الأنفس إذا ما عمل الإنسان واجتهد كما يحدث فى كل الأمم المتقدمة، أما الأمم المتخلفة مثلنا فتظن أنه يكفى أن يرفع الواحد أكف الضراعة والنهنهة نحو السماء فيسقط الحمام فى فمه مشويا وينهضم حتى دون أن يبذل جهدا فى المضغ والبلع والهضم. ولم لا، وهو تنبل من تنابلة السلطان يظن نفسه فى تكية قد ورثها عن أبيه وأمه؟ لا بد إذن، كما قال السيد المسيح وكما كرر رسولنا الكريم، من العمل بأسناننا وأظافرنا كى ننجح ونتفوق ونستمتع بالحياة ويقلّ ألمنا فيها إلى أدنى درجة ممكنة. أما ما نراه حولنا فى كل مكان من الكسل والتنبلة حتى فى الدعاء، أو أسلوب سلق البيض إذا تخلينا عن تنبلتنا، فنتيجته هى ضيق المساكن وطفح المجارى وزحام المواصلات وقذارة الشوارع والتشويه الذى يحاصر العين أينما اتجهتْ والضجيج الذى يُصِمّ الآذان ويَفْرِى الأعصاب والشتائم المقذعة التى تنم عن قلة أدب متأصلة والإنتاج القليل الهزيل الذى لا يستطيع الصمود ولا المنافسة مع الإنتاج المستورد والجهل المطبق والوسواس القهرى عند الطلاب والطالبات الذى لا يعطى الأستاذَ فرصة للراحة أبدا من الأسئلة السخيفة التى تنهال عليه منذ أول الدراسة وقبل أن يقول أحد من الأساتذة فى أى مقرر: "يا فتاح يا عليم! يا رزاق يا كريم!" مِنْ مثل: ما الذى ستحذفه من المقرر؟ كيف سيأتى الامتحان؟ كم سؤالا إجباريا؟ وكم سؤالا اختياريا؟ ما الذى ينبغى أن نركز عليه من أبواب المقرر؟ كيف نستذكر الكتاب: نحفظه أم نفهمه؟ ودَعُونا من البراشيم وأدعية الصباح يوم الامتحان أن يكرمهم الله فيوقف لهم فى اللجنة ابن الحلال الذى يساعدهم على الغش، أو على الأقل يتركهم يغشون حتى يكرم الله أولاده ويوقف لهم بدورهم ملاحظًا نصّابًا مثله، لا بارك الله له فيما يأخذه من أجر على المراقبة الكاذبة الخاطئة! ونادرا ما يخطئ طالب فيسأل أستاذه فى شىء من العلم! والنتيجة هى هذا التخلف العقلى الذى نعانى كلنا منه رغم المليارات التى تُنْفَق عبثا على ما يسمى: "العملية التعليمية"، والذى يجعلنا نردد فى حسرة نرجو من الله ألا تجلب لنا الضغط والسكر: "أمة "اقرأ" لا تقرأ"! أما الطلاب فلا أسعد ولا أرضى عن حياتهم وأنفسهم! وليخبط أجعص أستاذ رأسه فى أصلب حائط! يا خلق هوووووووووووه: "إسألُوا تُعطَوا، إطلُبوا تَجِدوا، دُقّوا البابَ يُفتحْ لكُم. 8فمَن يَسألْ يَنَلْ، ومَنْ يَطلُبْ يَجِدْ، ومَنْ يَدُقَّ البابَ يُفتَحْ لَه".
لكن الكلمة التالية: "لا تُعطوا الكِلابَ ما هوَ مُقَدَّسٌ، ولا تَرموا دُرَرَكُم إلى الخنازيرِ، لِئلاَ تَدوسَها بأَرجُلِها وتلتَفِتَ إلَيكُم فتُمزَّقَكُم"، التى تُنْسَب للسيد المسيح، صلى الله عليه وسلم، وإن بدت سهلة التنفيذ، فإنها عند التطبيق تسبب مشكلة كبيرة، إذ كيف نميز بين الكلاب والخنازير من جهة، وبين البشر الذين يعرفون قيمة ما نلقيه أمامهم من درر ويستطيعون الاستفادة منه من جهة أخرى، قبل أن نجرب الناس جميعا؟ بل كيف يمكننا الاطمئنان إلى أن من هم كلابٌ وخنازيرُ الآن لن ينقلبوا مع الأيام ويصبحوا بشرا عاقلين راقين يمكنهم تقدير تلك الجواهر والانتفاع بها؟ ثم هل من صلاحيتنا القيام بفرز الطيبين من الخبيثين وإهمال الأخيرين والتركيز على الأولين وحدهم؟ الذى أعرفه أن دعوة الله ينبغى أن تُبْذَل للجميع دون تفرقة أو تمييز كما هو الحال مع ضياء الشمس وذرات الهواء، ثم إن لكل إنسان بعد هذا عقله وتقديره، وهو المسؤول عن مصيره وخلاصه. من هنا فإن الفقرة المذكورة تربك عقلى قليلا ولا أدرى كيف ينبغى التصرف إزاءها.
كذلك هناك الكلمة التى تتوعد بالنار والعذاب من يبدّلون بعد رحيل السيد عنهم: "21"ما كُلُّ مَنْ يقولُ لي: يا ربٌّ، يا ربٌّ! يدخُلُ مَلكوتَ السَّماواتِ، بل مَنْ يَعملُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ. 22سيَقولُ لي كثيرٌ مِنَ النّاسِ في يومِ الحِسابِ: يا ربٌّ، يا ربٌّ، أما باَسمِكَ نَطَقْنا بالنٌّبوءاتِ؟ وباَسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وباَسمِكَ عَمِلنا العجائبَ الكثيرةَ؟ 23فأقولُ لهُم: ما عَرَفتُكُم مرَّةً. اَبتَعِدوا عنَّي يا أشرارُ!". وأنا لا أستطيع إلا أن أرى فيها إشارة إلى تلاميذه، إذ هم الوحيدون الذين أعطاهم مقدرة على صنع المعجزات الشفائية، وسلطانا على الشياطين يخرجونهم به من أجساد الممسوسين. وهذا الكلام لا أقوله من لدنّى، بل الذى قاله كاتب الإنجيل: "ودَعا يَسوعُ تلاميذَهُ الاثنيَ عشَرَ وأعْطاهُم سُلطانًا يَطرُدونَ بِه الأرواحَ النَّجسَةَ ويَشْفونَ النّاسَ مِنْ كُلٌ داءٍ ومرَضٍ" (متى/ 10/ 1).
الفصل الثامن:
"شفاء الأبرص.
ولمّا نزَلَ يَسوعُ مِنَ الجبَلِ، تَبِعَتْهُ جُموعٌ كبـيرةٌ. 2ودَنا مِنهُ أبرَصُ، فسجَدَ لَه وقالَ: "يا سيَّدي، إنْ أرَدْتَ فأنْتَ قادِرٌ أنْ تُطَهَّرَني". 3فمَدَّ يَسوعُ يدَه ولَمَسهُ وقالَ: "أُريدُ، فاَطهُرْ!" فطَهُرَ مِنْ بَرَصِهِ في الحالِ. 4فقالَ لَه يَسوعُ: "إيّاكَ أن تُخبِرَ أحدًا. ولكن اَذهَبْ إلى الكاهنِ وأرِهِ نَفسَكَ. ثُمَّ قَدَّمِ القُربانَ الَّذي أمرَ بِه موسى، شَهادةً عِندَهُم".
شفاء خادم الضابط.
5ودخَلَ يَسوعُ كَفْرَناحومَ، فجاءَهُ ضابِطٌ رومانِـيٌّ وتَوَسَّلَ إلَيهِ بِقولِهِ: 6"يا سيَّدُ، خادِمي طَريحُ الفِراشِ في البَيتِ يَتوَجَّعُ كثيرًا ولا يَقدِرُ أنْ يَتحرَّكَ". 7فقالَ لَه يَسوعُ: "أنا ذاهبٌ لأشفِـيَهُ". 8فأجابَ الضّابِطُ: "أنا لا أستحِقٌّ، يا سيَّدي، أنْ تَدخُلَ تَحتَ سقفِ بَيتي. ولكِنْ يكفي أنْ تَقولَ كَلِمَةً فيُشفى خادِمي. 9فأنا مَرؤوسٌ ولي جُنودٌ تَحتَ أمري، أقولُ لِهذا: إذهَبْ! فيذهَبُ، ولِلآخَرِ: تَعالَ! فيجيءُ، ولِخادِمي: إعمَلْ هذا، فيَعْمَلُ". 10فتعجَّبَ يَسوعُ مِنْ كلامِهِ وقالَ لِلَّذينَ يَتبَعونَهُ: "الحقَّ أقولُ لكُم: ما وجَدتُ مِثلَ هذا الإيمانِ عِندَ أحَدٍ في إِسْرائيلَ. 11أقولُ لكُم: كثيرونَ مِنَ النَّاسِ سيَجيئونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِبِ ويَجلِسونَ إلى المائدةِ معَ إبراهيمَ وإسحقَ ويعقوبَ في مَلكوتِ السَّماواتِ. 12وأمّا مَنْ كانَ لَهُمُ المَلكوتُ، فيُطْرَحونَ خارِجًا في الظٌّلمَةِ، وهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ".
13وقالَ يَسوعُ للضّابِطِ: "إذهَبْ، وليَكُنْ لكَ على قَدْرِ إيمانِكَ". فشُفِـيَ الخادِمُ في تِلكَ السّاعةِ.
شفاء حماة بطرس.
14ودَخَلَ يَسوعُ إلى بَيتِ بُطرُسَ، فوَجَدَ حَماةَ بُطرُسَ طَريحَةَ الفِراشِ بالحُمَّى. 15فلَمَسَ يدَها، فتَركَتْها الحُمَّى. فقامَت وأخَذَتْ تَخدُمُه.
16وعِندَ المساءِ، جاءَهُ النَّاسُ بِكثيرٍ مِنَ الَّذينَ فيهِم شَياطينُ، فأخرَجَها بِكَلِمةٍ مِنهُ، وشفَى جميعَ المَرضى. 17فتَمَّ ما قالَ النَّبـيٌّ إشَعْيا: "أخذَ أوجاعَنا وحمَلَ أمراضَنا.
يسوع أم العالم.
18ورأى يَسوعُ جُمهورًا حَولَهُ، فأمَرَ تلاميذَهُ بالعُبورِ إلى الشّاطِـئِ المُقابِلِ. 19فدَنا مِنهُ أحَدُ مُعلَّمي الشَّريعةِ وقالَ لَه: "يا مُعلَّمُ، أتبَعُكَ أيْنَما تَذهَبُ". 20فأجابَهُ يَسوعُ: "للثَّعالِبِ أوكارٌ، ولِطُيورِ السَّماءِ أعشاشٌ، وأمّا اَبنُ الإنسانِ، فلا يَجِدُ أينَ يُسنِدُ رأسَهُ".
21وقالَ لَه واحدٌ مِنْ تلاميذِهِ: "يا سيَّدُ، دَعْني أذهَبُ أوّلاً وأدفِنُ أبـي". 22فقالَ لَه يَسوعُ: "إتبَعْني واَترُكِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهُم!"
يسوع يهدئ العاصفة.
23ورَكِبَ يَسوعُ القارِبَ، فتَبِعَهُ تلاميذُهُ. 24وهَبَّتْ عاصِفةٌ شديدةٌ في البَحرِ حتى غَمَرتِ الأمواجُ القارِبَ. وكانَ يَسوعُ نائمًا. 25فدَنا مِنهُ تلاميذُهُ وأيقَظوهُ وقالوا لَه: "نَجَّنا يا سيَّدُ، فنَحنُ نَهلِكُ!" 26فأجابَهُم يَسوعُ: "ما لكُمْ خائِفينَ، يا قليلي الإيمانِ؟" وقامَ واَنتَهرَ الرَّياحَ والبحرَ، فحَدَثَ هُدوءٌ تامٌّ. 27فتعَجَّبَ النّاسُ وقالوا: "مَنْ هذا حتى تُطيعَهُ الرَّياحُ والبحرُ؟"
طرد الشياطين وغرق الخنازير.
28ولمّا وصَلَ يَسوعُ إلى الشّاطئِ المُقابِلِ في ناحيةِ الجدريـّينَ اَستقْبَلَهُ رَجُلانِ خَرَجا مِنَ المَقابِرِ، وفيهما شياطينُ. وكانا شَرِسَيْنِ جدُا، حتى لا يَقدِرَ أحدٌ أن يمُرَّ مِنْ تِلكَ الطَّريقِ. 29فأخذا يَصيحانِ: "ما لنا ولكَ، يا اَبنَ الله؟ أجِئتَ إلى هُنا لِتُعذَّبَنا قَبلَ الأوانِ؟"
30وكانَ يَرعَى بَعيدًا مِنْ هُناكَ قطيعٌ كبـيرٌ مِنَ الخنازيرِ، 31فتوَسَّلَ الشَّياطينُ إلى يَسوعَ بقولِهِم: "إنْ طرَدْتَنا، فأرْسِلنا إلى قطيعِ الخنازيرِ". 32فقالَ لهُم: "اَذهَبوا!" فخَرجوا ودَخَلوا في الخنازيرِ، فاَندفَعَ القطيعُ كُلٌّهُ مِنَ المُنحَدَرِ إلى البحرِ وهَلَكَ في الماءِ. 33فهرَبَ الرٌّعاةُ إلى المدينةِ وأخبَروا بِما حدَثَ وبِما جرَى للرجُلَينِ اللَّذَينِ كانَ فيهـِما شياطينُ. 34فخَرَجَ أهلُ المدينةِ كُلٌّهُم إلى يَسوعَ. ولمّا رأوْهُ طلَبوا إلَيهِ أنْ يَرحَلَ عَنْ دِيارِهِم".
الملاحظ أن الجموع التى كانت تنصت عادة للسيد المسيح عليه السلام وتتبعه من مكان إلى آخر إنما كانت تبحث عن شفاء لعاهاتها من بَرَصٍ أو كَمَهٍ أو عَرَجٍ أو مسٍّ، وقلما يقابلنا بينهم من يسعى إلى خلاص روحه. وعادة ما تنتهى واقعة الآية التى تحققت على يد السيد المسيح بقوله للشخص الذى استفاد منها: "إيّاكَ أن تُخبِرَ أحدًا"، إلا أنه يقوم برغم ذلك بإخبار الناس جميعا، وإلا فمن الذى عرّفهم بما حدث وجعلهم بدورهم يخبروننا به. كما نلاحظ أيضا أنه، عليه السلام، دائم الحركة والتنقل دون سبب على الأقل ظاهر: فهو يصعد الجبل لينزل منه بعد قليل، ويركب السفينة ليعود بها بعد قليل، ويذهب لبيت فلان ليخرج منه بعد قليل، وفى كل ذلك فلا كاتب الإنجيل يذكر ولا نحن من تلقاء أنفسنا نستطيع أن نخمن السبب وراء كل هذه التحركات والتنقلات، وكأنما كان عليه الصلاة والسلام قَلِقًا لسبب لا نعرفه! هكذا يفهم القارئ مما يقرؤه فى الإنجيل، لكننا بطبيعة الحال لا نطمئن لهذا، وإن كنا لا ندرى ماذا نفعل. ومع هذا يظل القوم يُطْنِبون فى الحديث عن السيد المسيح بوصفه كائنا خارقا: إلها أو ابن إله رغم أن هذه هى كل بضاعته تقريبا، وهى إذا ما قورنت بما عند الرسول الكريم من كنوز عبقرية فى مجال العقيدة والعبادة والتعاملات المالية والاجتماعية والسياسية والمبادئ الخلقية والتوجيهات السلوكية والإرشادات العلمية والمنهجية والتحليلات الحضارية... إلخ راعنا أنها لا تمثل سوى زاوية ضيقة جدا من هذا العالم المحمدى الرحيب هى الزاوية الأخلاقية التى هى مع ذلك عند رسولنا أرحب وأعمق وأجدى، إذ إن فى وصايا المسيح مغالاة ومجاوزة للقدرة البشرية وتطرفا فى المثالية بحيث لا يستطاع تطبيقها وتحويلها إلى واقعٍ مَعِيشٍ رغم دغدغتها المشاعر واستفزازها عاطفة الزهو عند بعض الناس المغرمين بالشقشقة المحبين للفرقعة والدَّوِىّ لمجرد الفرقعة والدَّوِىّ!
إننا نحن المسلمين نُسْكِن السيد المسيح فى أعيننا وسويداء قلوبنا ولا نرضى فيه بكلمة سوء لأن تبجيله وحبه والاعتقاد فى نبوته وطهارته وسمو خلقه هو جزء لا يتجزأ من الإيمان فى ديننا لا يُقْبَل من دونه، بيد أن هذا لا يمنعنا من كشف وجه الغُلُوّ فيه صلى الله عليه وسلم، ذلك الغُلُوّ الذى حذرنا منه سيد النبيين والمرسلين فقال: "لا تُطْرُونى كما أَطْرَت النصارى ابن مريم"! ولَعَمْرِى إننى لأتألم الآن بعد مرور ألفى عام لحال أولئك المساكين من مصروعين ومجذومين ومبروصين وعُرْج وعُمْى ألمًا شديدًا، وأستطيع أن أدرك، رغم البعد الزمنى الشاسع، مدى العذاب البدنى والنفسى الرهيب الذى كان عليهم أن يصطلوه إلى أن ظهر فى أفق حياتهم سيدنا عيسى فمثَّل لهم نقطة الضوء والأمل الوحيدة فى حياتهم. رحمنا الله جميعا ورحم كل ضعيف مسكين يقاسى متاعب الحياة، وما أكثر متاعبها ومصاعبها وأثقل عبئها وأفدحه! إن اللوحة التى تعرضها علينا الأناجيل لتدعو إلى الرثاء وتوجع القلب وتُفْعِمه بالوحشة لما تمتلئ به من البشاعة والآلام! والغريب، وجميع أمور الحياة تدعو للعجب، أن قُوَى الشر لم تكن مرتاحة لما يفعله ويدعو إليه السيد المسيح وظلت تتربص به الفرص كى تتخلص منه وتقتله. وهنا نفترق عن النصارى: فنحن نقول، حسبما يخبرنا القرآن، أن الله سبحانه قد نجّاه من هذا المصير التعيس، أما هم فيقولون إنه إنما جاء خِصِّيصًا لهذه الغاية، وإنه قد صُلِب ومات على الصليب تكفيرا عن خطيئة آدم وحواء وأبنائهما الذين يستأهلون ضرب الحذاء! ترى ما ذنبه حتى لو قلنا إنه الله أو ابن الله كما يقولون، تعالى الله عن ذلك الغشم عُلُوًّا كبيرًا؟ ألم يكن الله قادرا على الغفران دون أن يتجسد سبحانه وتعالى بشرًا ويندسّ بين البشر ويتعرض لتلك الإهانات والعذابات التى تعرض لها ويجأر ويصرخ على الصليب دون جدوى، وكأنه حين جد الجِدّ وحانت ساعة التنفيذ قد نسى تماما كل ما جاء خصوصا من أجله، وأخذ يتألم كما أتألم أنا أو أى واحد فيكم أيها القراء إذا كتبت عليه الأقدار أن يتجرع تلك الكأس العلقم، لا كتب الله علينا شيئا من هذا الظلم الجِلْف الغبى والألم الغليظ المرعب الذى لا معنى له!
وفى هذا الفصل أيضا موقف للسيد المسيح يتناقض مع موقف آخر له أيضا سوف نمر به بعد قليل، إذ عندما طلب منه الضابط الرومانى أن يشفى له خادمه رحب به وامتدح قوة إيمانه وبشره وأمثاله بأنهم سيربحون ملكوت السماوات، فى الوقت الذى سوف يخسره ويُطْرَد منه بعض المنتسبين إلى إسرائيل: "5ودخَلَ يَسوعُ كَفْرَناحومَ، فجاءَهُ ضابِطٌ رومانِـيٌّ وتَوَسَّلَ إلَيهِ بِقولِهِ: 6"يا سيَّدُ، خادِمي طَريحُ الفِراشِ في البَيتِ يَتوَجَّعُ كثيرًا ولا يَقدِرُ أنْ يَتحرَّكَ". 7فقالَ لَه يَسوعُ: "أنا ذاهبٌ لأشفِـيَهُ". 8فأجابَ الضّابِطُ: "أنا لا أستحِقٌّ، يا سيَّدي، أنْ تَدخُلَ تَحتَ سقفِ بَيتي. ولكِنْ يكفي أنْ تَقولَ كَلِمَةً فيُشفى خادِمي. 9فأنا مَرؤوسٌ ولي جُنودٌ تَحتَ أمري، أقولُ لِهذا: إذهَبْ! فيذهَبُ، ولِلآخَرِ: تَعالَ! فيجيءُ، ولِخادِمي: إعمَلْ هذا، فيَعْمَلُ". 10فتعجَّبَ يَسوعُ مِنْ كلامِهِ وقالَ لِلَّذينَ يَتبَعونَهُ: "الحقَّ أقولُ لكُم: ما وجَدتُ مِثلَ هذا الإيمانِ عِندَ أحَدٍ في إِسْرائيلَ. 11أقولُ لكُم: كثيرونَ مِنَ النَّاسِ سيَجيئونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِبِ ويَجلِسونَ إلى المائدةِ معَ إبراهيمَ وإسحقَ ويعقوبَ في مَلكوتِ السَّماواتِ. 12وأمّا مَنْ كانَ لَهُمُ المَلكوتُ، فيُطْرَحونَ خارِجًا في الظٌّلمَةِ، وهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ"، وهو ما يتناقض مع ما رد به على المرأة الكنعانية التى أتته تطلب منه ذات الطلب، ولكن بالنسبة لابنتها لا لخادمها أو خادمتها، إذ أجابها فى البداية بالرفض، والرفض العنيف المؤذى للنفس أذى شديدا، إذ شبهها هى وأمثالها ممن لا ينتسبون إلى يعقوب بالكلاب: "21 وخرَجَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ وجاءَ إلى نواحي صورَ وصيدا. 22فأَقبلَتْ إلَيهِ اَمرأةٌ كَنْعانِـيّةٌ مِنْ تِلكَ البلادِ وصاحَتِ: "اَرْحَمني، يا سيَّدي، يا اَبن داودَ! اَبنتي فيها شَيطانٌ، ويُعذَّبُها كثيرًا". 23فما أجابَها يَسوعُ بكَلِمَةٍ. فَدنا تلاميذُهُ وتَوَسَّلوا إلَيهِ بقولِهِم: "اَصرِفْها عنّا، لأنَّها تَتبَعُنا بِصياحِها!" 24فأجابَهُم يَسوعُ: "ما أرسلَني الله إلاّ إلى الخِرافِ الضّالَّةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ". 25ولكنَّ المرأةَ جاءَتْ فسَجَدَتْ لَه وقالَت: "ساعِدْني، يا سيَّدي!" 26فأجابَها: "لا يَجوزُ أنْ يُؤخذَ خُبزُ البَنينَ ويُرمى إلى الكِلابِ". 27فقالَت لَه المَرأةُ: "نَعم، يا سيَّدي! حتَّى الكلابُ تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الذي يَتَساقَطُ عَنْ موائدِ أصحابِها". 28فأجابَها يَسوعُ: "ما أعظَمَ إيمانَكِ، يا اَمرأةُ! فلْيكُنْ لَكِ ما تُريدينَ". فشُفِيَت اَبنَتُها مِنْ تِلكَ السّاعةِ" (متى/ 15).
والسؤال هو: لماذا هذا التناقض الغريب المعيب يا ترى؟ وكيف نَحُلّه؟ لو أن المرأة هى التى سألته قبل الضابط لقلنا إن الرفض كان هو الموقف الأصلى الذى غيَّره من أجل خاطرها، ثم لم يعد إليه بعد ذلك. لكن المشكلة أنه لم يرفض مساعدة الضابط الرومانى الذى أتاه قبلها، وكان المظنون أن يستمر على هذا النهج، إلا أنه أخلف ظننا. ترى أيرجع ذلك إلى أنه كان ضابطا كبيرا، على حين كانت هى امرأة عادية ليست لها المكانة الاجتماعية العالية التى يتمتع بها الضباط الكبار؟ لا أقصد أن المسيح هو الذى نظر لها بهذه العين، بل الكاتب هو الذى عكس موقفه ورأيه هو فى تصرف السيد المسيح عليه السلام! ولعل هذا هو الحل الذى يخرجنا من تلك الورطة. وأيا ما يكن الأمر فلا شك أن هذا الانقلاب فى موقف عيسى بن مريم عليهما السلام يمثل حالة أخرى من حالات النسخ فى الأناجيل. ثم يعيبنا الأغبياء بأن ديننا يقوم على النسخ، مع أنه لا شىء يعاب على النسخ عندنا كما وضحنا قبلا.
وعلى كل حال فالمفروض ألا يَنْكِل الداعية (فما بالنا بالنبى والرسول؟) عن الاستجابة إلى أى نداء يأتيه مهما تكن الجهة التى أتى منها. وفى القرآن الكريم: "وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأَجِرْه حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه. ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" (التوبة/ 6)، وفى الحديث الشريف: "لأن يَهْدِىَ الله بك رجلا خير لك مما طلعتْ عليه الشمس"، أما تشبيه الراغبين فى الهداية أو المادّين يد الحاجة نحونا بالكلاب والذئاب فليس من المروءة فى شىء، ولذلك يرانى القارئ قد استبعدت أن يكون هذا موقف المسيح عليه السلام، مرجحا أن يكون بالأحرى كلاما وضعه مؤلف الإنجيل من لدنه ونسبه له عليه السلام. فانظر الفرق بين الموقفين تر الفرق الشاسع بين دين محمد ودين القوم بعد أن حرّفوه وابتعدوا به عما جاء به نبى الله عيسى بن مريم! إن الإسلام يحرص على كل شخص ولا يرمى طوبته إلا بعد أن يعطيه كل الفرص الممكنة فيُصِرّ على العناد والكفر رغم تبين الرشد له من الغى، ويتنكر لإنسانيته ويلغى عقله هابطا بنفسه بذلك من المكانة التى كرمه الله فرفعه إليها، مكانة المخلوق الذى أنعم الله عليه بنعمة العقل والتفكير والمقدرة على المقارنة والاختيار الحر!
ونتريث قليلا أمام قول المؤلف: "وعِندَ المساءِ، جاءَهُ النَّاسُ بِكثيرٍ مِنَ الَّذينَ فيهِم شَياطينُ، فأخرَجَها بِكَلِمةٍ مِنهُ، وشفَى جميعَ المَرضى. فتَمَّ ما قالَ النَّبـيٌّ إشَعْيا: "أخذَ أوجاعَنا وحمَلَ أمراضَنا" لنفكر فيما بين السطور حيث نرى عجبا من العجب. ذلك أن المؤلف يزعم أن الكلام هنا عن المسيح، الذى شفى الممسوسين. وهو بطبيعة الحال يقصد أن عيسى عليه السلام هو الله أو ابن اله الشافى، وفاته أنه فد تكررت الإشارة هنا فى "إشعيا" إلى أن الكلام عن "عبد" لله لا عن ابن لله ولا عن الله نفسه: " 13 هو ذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جدا . 14 كما اندهش منك كثيرون . كان منظره كذا مفسدا اكثر من الرجل وصورته اكثر من بني آدم . 15 هكذا ينضح امما كثيرين . من اجله يسد ملوك افواههم لانهم قد ابصروا ما لم يخبروا به وما لم يسمعوه فهموه. من صدق خبرنا1 ولمن استعلنت ذراع الرب . 2 نبت قدامه كفرخ وكعرق من ارض يابسة لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه . 3 محتقر ومخذول من الناس رجل اوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به 4 لكن احزاننا حملها واوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا . 5 وهو مجروح لاجل معاصينا مسحوق لاجل آثامنا تاديب سلامنا عليه وبحبره شفينا . 6 كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد الى طريقه والرب وضع عليه اثم جميعنا . 7 ظلم اما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق الى الذبح وكنعجة صامتة امام جازيها فلم يفتح فاه . 8 من الضغطة ومن الدينونة أخذ . وفي جيله من كان يظن انه قطع من ارض الاحياء انه ضرب من اجل ذنب شعبي . 9 وجعل مع الاشرار قبره ومع غني عند موته . على انه لم يعمل ظلما ولم يكن في فمه غش 10 اما الرب فسرّ بان يسحقه بالحزن. ان جعل نفسه ذبيحة اثم يرى نسلا تطول ايامه ومسرة الرب بيده تنجح . 11 من تعب نفسه يرى ويشبع . وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين سكب للموت نفسه وأحصي مع أثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين" (إشعيا/ 52/ 13- 15، و53/ 1- 11). فإن أصر القوم على أن يَرَوْا هنا المسيح عليه السلام فها هو ذا مؤلف سفر إشعيا يصفه على لسان المولى سبحانه بأنه عبد لله لا ابن له، فليكونوا متسقين مع أنفسهم ومع المنطق مرة وليؤمنوا بما يجب على كل عاقل أن يؤمن به، ألا وهو أن السيد المسيح، عليه السلام، إنما كان عبد الله ورسوله لا الرب يسوع! وعلى الوجه الآخر من الورقة يروعنا أنه لم يحدث مرة أن قال المسيح لأحد ممن تعامل معهم: "يا عبدى، أو يا عبادى"، بل العكس هو الصحيح، بل إنه لم يسمهم حتى "عَبِيدًا" (التى تُسْتَخْدَم عادة لعبد الإنسان لا لعبد الله، الذى يجمع عادة على "عِبَاد") بل سماهم: "أحبّاء": "لا اعود اسميكم عبيدا لان العبد لا يعلم ما يعمل سيده . لكني قد سميتكم احباء لاني أعلمتكم بكل ما سمعته من ابي" (يوحنا/ 15/ 15).
أى أن المسيح، عليه السلام، من الناحية الإيجابية والسلبية هو عبد الله كسائر عباد الله، وإنْ زاد عنهم بأنه كان رسولا نبيا. لكن قول المؤلف عن ذلك العبد: "ظُلِمَ اما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق الى الذبح وكنعجة صامتة امام جازيها فلم يفتح فاه"، وكذلك قوله: "وجعل مع الاشرار قبره ومع غني عند موته"، لا ينطبق على السيد المسيح صلى الله عليه وسلم، إذ إنه لم يكن صامتا بل كان يتكلم طوال الوقت مع تلامذته أو أعدائه أو المرضى المتعبين، وهذا الكلام هو الذى ألَّب عليه المجرمين الفَسَقَة. حتى عندما وُضِع على الصليب حَسْب روايات بعض مؤلفى الأناجيل لم يكفّ عن الكلام، بل كان يجيب على ما يوجَّه له من أسئلة وتهكمات، كما أخذ يصيح ويتألم وهو فى نزعه الأخير حسبما يزعمون. ثم إنه لم يُدْفَنْ مع أشرار، ولا مات مع أغنياء، ورواية الصَّلْب موجودة لكل من يريد، فليدلّنا القوم على خلاف ما نقول!
وفوق ذلك كيف يقال إنه قد ظُلِم، وهو ابن الله أو الله ذاته؟ هل الآلهة يمكن أن تُظْلَم؟ أوليس أبوه هو الذى أرسله بنفسه لكى يموت هذه الميتة فداء للبشرية؟ فكيف يسمَّى هذا ظلما؟ الواقع أنه إذا قلنا إنه كان هناك ظلم فليس أمامنا إلا القول بأن هذا الظلم هو مِنَ الذى اختاره وأرسله، أستغفر الله، لا مِنَ الذين أسلموه لقتلته ولا من الذين صلبوه لأن هؤلاء جميعا إنما كانوا الأدوات المنفذة للمشيئة الإلهية التى إنما عملت ما عملت رحمة بالبشرية وتكفيرا لها عن ذنوبها كما يقول القوم! كذلك فالسيد المسيح لم يكن محتقَرا، معاذ الله! وإذا كان فمِنْ قِبَل المجرمين المنافقين من بنى إسرائيل فقط، وهؤلاء لا قيمة لهم عند الله، أما الذين آمنوا به فقد أحبوه واحترموه. والأناجيل مملوءة بالكلام الطيب الذى كانوا يغدقونه عليه. وفوق ذلك فإن قول إشعيا: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها" لا ينطبق على السيد المسيح بحال لأنه لم يحدث أنْ حمل أحزان أحد ولا تحمّل أوجاعه، بل كل ما هنالك أنه أذهب عن بعض المرضى (وليس عنا كلنا نحن البشر) الأحزان والأوجاع التى كانوا يقاسونها ولم يتحمل هو نفسه شيئا منها، وإلا فهل كان فى كل مرة يشفى فيها أحدا من مرضه كان يصاب هو بدلا منه بذلك المرض؟ هذا هو معنى العبارة، وهو ما لا ينطبق على المسيح بتاتا، بيد أن القوم فى تفكيرهم وتفسيرهم لكتابهم المقدس لا يجرون على أى منهج أو منطق، بل يقولون كل ما يعنّ لهم بغض النظر عما فيه من شطط فى الخروج على كل منطق وعقل! كذلك فإن الكلام يخلو تماما مما يعتقده النصارى فى السيد المسيح من أنه قام من الأموات وصعد إلى السماء! ثم إن نهاية النص تتحدث عن نسل له تطول أيامه، وليس للمسيح أى نسل، لسبب بسيط هو أنه لم يتزوج كما يعلم جميع الناس: "اما الرب فسرّ بان يسحقه بالحزن. ان جعل نفسه ذبيحة اثم يرى نسلا تطول ايامه ومسرة الرب بيده تنجح".
ولا بد من التنبيه إلى أن كثيرا من المفسرين اليهود يؤكدون أن المقصود فى هذه النبوءة هو النبى إرميا وليس عيسى عليه السلام، أما الفريق الآخر منهم الذى يرى أن الكلام عن المسيح فإن المسيح عندهم ليس هو ابن مريم بل شخصا آخر لا يزالون فى انتظار مجيئه كما هو معروف (Matthew Henry Complete Commentary on the Whole Bible فى التعليق على الفقرات 13- 15 من الفصل رقم 52 من سفر إشعيا)، وهذا الشخص لن يكون واحدا من الأقانيم المعروفة لأنهم لا يعرفون التثليث النصرانى الذى هو، فى الواقع، نتاج الفكر المتأخر عن المسيح. وعلاوة على هذا نجد ألفرد جيوم فى "A New Commentary on Holy Scripture" (لندن/ 1929م/ 459) يؤكد أن هناك خلافا حادا حول حقيقة الشخص المومإ إليه هنا لم يهدأ أُوَارُه، وأن التفسير القديم الذى كان يرى أن المراد فى نبوءتنا هو السيد المسيح قد أخلى مكانه لحساب القول بأن المقصود هو بنو إسرائيل كلهم، وبخاصة أنه قد سبق فى سفر "إشعيا" استعمال لفظ "العبد" مرادا به يعقوب أو إسرائيل: الأمة لا الفرد، كما أنه من غير المعقول أن يكون الكلام بهذا التفصيل عن شخص لن يظهر إلا بعد 500 عام تقريبا.
هذا، ولا شك أنه من الغرابة بمكان مكين أن يكون رد المسيح عليه السلام على من استسمحه من تلاميذه الذهاب لدفن والده هو: "إتبَعْني واَترُكِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهُم!". إن هذه شدة بل قسوة فى واقع الأمر، وهى قسوة غير مبررة، إذ من يا ترى سوف يعنى بدفن والد الشخص إذا كان هو لا يهتم بذلك؟ وليتصور القارئ معى ما الذى ستكون عليه الأرض لو تركنا الموتى دون أن ندفنهم! وليس من المعقول أن يلقى كل إنسان بهذه المهمة الثقيلة على عاتق الآخرين، فى الوقت الذى يرونه يؤدى عملا آخر! كذلك فقول المسيح: "دع الموتى يدفنون موتاهم" هو قول لا معنى له فى هذا السياق، إذ إننا كلنا موتى بما فينا ذلك الابن، بل بما فينا المسيح نفسه. وعلى هذا فإن ما قاله عليه السلام هنا ليس بعذر على الإطلاق، لأنه ما دام الابن من الموتى أيضا فعليه، طبقا للمبدإ الذى أرساه المسيح، أن يذهب لدفن والده! فكما يرى القارئ فإن الطريق دائما مسدودة، ذلك أن الكلام لا منطق فيه رغم ما قد يبدو لبعض الأعين من أن له بريقًا، إذ "ليس كل ما يلمع ذهبا" كما يقول المثل الإنجليزى والفرنسى!
وفى الإسلام تشديد على طاعة الوالدين وإحسان مصاحبتهما فى الدنيا لما لهما على أبنائهما من الفضل العميم حتى لو كانا كافرين، اللهم إلا إن جاهدا أبناءهم على الشرك بالله، فعندئذ لا طاعة، لكن يبقى وجوب الاحترام والإحسان لا هوادة فيه. لا بل إن الابن الوحيد لوالديه يُعْفَى من الجهاد فى سبيل الله مراعاةً لعاطفة الأبوة والأمومة! وعلى هذا فحتى لو كان الوالد المتوفَّى فى قصة المسيح كافرا، لقد كان ينبغى أن يسمح عليه السلام لابنه بالذهاب لدفنه، بل أن يحثه على ذلك حَثًّا! وهناك حكاية عن الرسول عليه السلام أنه كان جالسا ذات مرة، فمرت عليه جنازة يهودى فقام لها، فسُئِل عن ذلك باستغراب، فكان جوابه: "أليست نفسا؟"! وكان عليه السلام يتألم إذا مات أحد من الفقراء دون أن يخبره أصحابه، إذ كان يحب ألا يفوته أداء واجب العزاء، بل لقد كان ينزل فى بعض الأحيان القبر بنفسه ليدفن الميت الفقير بيده الشريفة حنانا منه وتواضعا ونبل نفس! كما لم يمنعه نفاق ابن أُبَىّ وانحيازه لأعداء الملة والأمة فى كل المواقف وإثارته المستمرة للمشاكل داخل الجماعة المسلمة، من إعطائه عباءته ليكفَّن فيها بناء على طلبه، ولا من الوقوف للصلاة عليه حين مات رغم اعتراض عمر على ذلك لولا أن القرآن الكريم نزل حاسما فى هذا الشأن على نحو لم يترك له بابا للاجتهاد فى هذه القضية! ومن جهة أخرى فإن الإسلام لا ينهى المسلم عن البر بالكافرين والإقساط إليهم ما داموا لم يقاتلوهم فى الدين ولم يخرجوهم من ديارهم، فما بالنا بابن يريد أن يدفن أباه؟ ألا إن ذلك لغريب بل قاس شديد القسوة، ودون أى مسوّغ! قال سبحانه وتعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم. إن الله يحب المُقْسِطين" (الممتحنة/ 8). والسؤال الآن: أترى المسيح لم يقل هذا للابن المذكور، وإنما هو من تلفيق مؤلف الإنجيل، أم إن المسألة هى التطبيق العملى لما أُثِر عنه من أنه إنما جاء ليفرق بين الأب وابنه والأخ وأخيه والحماة وكنتها وتمزيق البيت الواحد، وأنه ما جاء لينشر السلام بل السيف؟ لكنه مع ذلك قد أهاب بالأبناء أن يكرموا آباءهم وأمهاتهم: "16 وأقبَلَ إليهِ شابٌ وقالَ لَه: "أيٌّها المُعَلَّمُ، ماذا أعمَلُ مِنَ الصَّلاحِ لأنالَ الحَياةَ الأبدِيَّةَ؟" فأجابَهُ يَسوعُ: "17 لِماذا تَسألُني عمّا هوَ صالِـحٌ؟ لا صالِـحَ إلاّ واحدٌ. إذا أَرَدْتَ أنْ تَدخُلَ الحياةَ فاَعمَلْ بالوصايا". 18فقالَ لَه: "أيَّ وصايا؟" فقالَ يَسوعُ: "لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بالزٌّورِ، 19أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ، أحِبَّ قريبَكَ مِثلما تُحبٌّ نَفسَكَ". الحق أنها مسألة محيرة!
وفى ضوء دعوى القوم بألوهيته عليه السلام أو بنوّته لله نحب أن ننظر فى السطور التالية: "23ورَكِبَ يَسوعُ القارِبَ، فتَبِعَهُ تلاميذُهُ. 24وهَبَّتْ عاصِفةٌ شديدةٌ في البَحرِ حتى غَمَرتِ الأمواجُ القارِبَ. وكانَ يَسوعُ نائمًا. 25فدَنا مِنهُ تلاميذُهُ وأيقَظوهُ وقالوا لَه: "نَجَّنا يا سيَّدُ، فنَحنُ نَهلِكُ!" 26فأجابَهُم يَسوعُ: "ما لكُمْ خائِفينَ، يا قليلي الإيمانِ؟" وقامَ واَنتَهرَ الرَّياحَ والبحرَ، فحَدَثَ هُدوءٌ تامٌّ. 27فتعَجَّبَ النّاسُ وقالوا: "مَنْ هذا حتى تُطيعَهُ الرَّياحُ والبحرُ؟"، إذ السؤال الختامى فيها يدل على أن تلاميذه الأقربين لم يكونوا، حتى تلك اللحظة على الأقل، يعرفون أنه هو الله أو ابن الله حسبما يزعم النصارى معاكسين تمام المعاكسة ما أتى هو وجميع الأنبياء به من دعوة التوحيد والتنزيه عن التشبيه والتجسيد. ولهذا يرانى القارئ قد توقفت أمام حكاية الحمامة التى انفتحت السماء فنزلت منها وحطت على المسيح عليه السلام وسُمِع فى ذات الوقت صوت من الأعالى يقول: أنت ابنى الحبيب، وتساءلتُ: فمن يا ترى أخبر الكاتبَ بوقوع تلك الحادثة؟ واضح أن التلاميذ، حسبما نقرأ هنا، لم يكن عندهم حتى ذلك الوقت أية فكرة عن التمر هندى! وبالمناسبة فليس كل ما تذكره الأناجيل للسيد المسيح من الآيات قد عرض له القرآن. فهل قام عليه السلام فعلا بصنع هذه المعجزات؟ أم هل هو تَزَيُّدٌ من مؤلفى الأناجيل على اعتبار أن الكلام ليس عليه جُمْرُك كما تقول العامة؟ ويزداد الأمر تلبيسا إذا عرفنا أن اثنين من المجانين كانا يدركان أنه "ابن الله"، إذ من الغريب الشاذ أن يجهل ذلك تلاميذه المقرَّبون ويعرفه المجانين فيقولوا له: "ما لنا ولكَ، يا اَبنَ الله؟ بل إن أُمّه (أُمّه التى حملته وولدته وأرضعته وتجلى لها الروح القدس ونفخ فى جيبها حتى تحمل به) كانت تقول له عن يوسف إنه أبوه! يا لطيف اللطف يا رب: "وكان ابواه يذهبان كل سنة الى اورشليم في عيد الفصح . 42 ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا الى اورشليم كعادة العيد . 43 وبعدما اكملوا الايام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في اورشليم ويوسف وامه لم يعلما . 44 واذ ظناه بين الرفقة ذهبا مسيرة يوم وكانا يطلبانه بين الاقرباء والمعارف . 45 ولما لم يجداه رجعا الى اورشليم يطلبانه . 46 وبعد ثلاثة ايام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم . 47 وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه واجوبته . 48 فلما ابصراه اندهشا . وقالت له امه يا بنيّ لماذا فعلت بنا هكذا. هوذا ابوك وانا كنا نطلبك معذبين"!
على أن موضوع المجنونَيْن لم تنته فصوله، إذ ما ذنب الخنازير حتى يرسل السيد المسيح الشياطين التى كانت تسكن جَسَدَىِ الممسوسَيْن إليها؟ وهذا على فرض أن الشياطين كائنات مادية تنتقل من جسد إلى جسد، وأن الشياطين التى تصيب الإنس هى من نفس الطينة التى جُبِلَت منها تلك الشياطين المتخصصة فى التلبس بالحيوانات. كما أنه من الغريب جدا أن يستمع المسيح لتوسل الشياطين ويريحها وينفذ ما تريد فيظلم الحيوان الأعجم المسكين العاجز الذى لا يملك من أمره شيئا، رغم أن الشياطين هى التى تمثل الشر فى العالم وأراد واحد منها أن يغويه قبل ذلك بالكفر والسجود له بدلا من السجود للواحد الأحد! ليس ذلك فحسب، فمن الواضح أن الشياطين هنا أيضا قد أبدت عن غباء غريب لا يليق بنسل إبليس، وهو الذى يُضْرَب به المثل فى المكر والدهاء والتَّحَيُّل، إذ كيف لم تعرف أنها حين تنتقل لأجساد الحلاليف سوف ينتهى بها الأمر سريعا إلى السقوط من فوق حافة الجبل إلى البحر فالغرق والهلاك من ثم فيه؟ وهذا لو صدقنا أن عملها فى الحيوانات يختلف عن عملها فى البشر، إذ عندما كانت تسكن أجساد البشر كان سهلا عليها أن تتعايش هى ومن تسكنه، أما حين انتقلت إلى أجساد الحلاليف فإنها اندفعت للتو إلى حافة الجبل وسقطت من حالق!
28ولمّا وصَلَ يَسوعُ إلى الشّاطئِ المُقابِلِ في ناحيةِ الجدريـّينَ اَستقْبَلَهُ رَجُلانِ خَرَجا مِنَ المَقابِرِ، وفيهما شياطينُ. وكانا شَرِسَيْنِ جدُا، حتى لا يَقدِرَ أحدٌ أن يمُرَّ مِنْ تِلكَ الطَّريقِ. 29فأخذا يَصيحانِ: "ما لنا ولكَ، يا اَبنَ الله؟ أجِئتَ إلى هُنا لِتُعذَّبَنا قَبلَ الأوانِ؟"
30وكانَ يَرعَى بَعيدًا مِنْ هُناكَ قطيعٌ كبـيرٌ مِنَ الخنازيرِ، 31فتوَسَّلَ الشَّياطينُ إلى يَسوعَ بقولِهِم: "إنْ طرَدْتَنا، فأرْسِلنا إلى قطيعِ الخنازيرِ". 32فقالَ لهُم: "اَذهَبوا!" فخَرجوا ودَخَلوا في الخنازيرِ، فاَندفَعَ القطيعُ كُلٌّهُ مِنَ المُنحَدَرِ إلى البحرِ وهَلَكَ في الماءِ. 33فهرَبَ الرٌّعاةُ إلى المدينةِ وأخبَروا بِما حدَثَ وبِما جرَى للرجُلَينِ اللَّذَينِ كانَ فيهـِما شياطينُ. 34فخَرَجَ أهلُ المدينةِ كُلٌّهُم إلى يَسوعَ. ولمّا رأوْهُ طلَبوا إلَيهِ أنْ يَرحَلَ عَنْ دِيارِهِم".
الفصل التاسع:
"يسوع يشفي كسيحًا
فركِبَ يَسوعُ القارِبَ وعَبَر البُحَيْرةَ راجِعًا إلى مدينتِهِ. 2فجاءَهُ بَعضُ النّاسِ بِكَسيحِ مُلقًى على سَريرٍ. فلمّا رأى يَسوعُ إيمانَهُم قالَ للكَسيحِ: "تَشَجَّعْ يا اَبني، مَغْفورَةٌ لكَ خَطاياكَ". 3فقالَ بَعضُ مُعلَّمي الشَّريعةِ في أنفُسِهِم: "هذا الرَّجُلُ يُجدَّفُ!".
4وعرَفَ يَسوعُ أفكارَهُم، فقالَ: "لماذا تَظُنٌّونَ السٌّوءَ في قُلوبِكُم؟ 5أيٌّما أسهَلُ؟ أنْ يُقالَ: مغفورَةٌ لكَ خَطاياكَ، أمْ أنْ يُقالَ: قُمْ واَمشِ؟ 6سأُريكُمْ أنَّ اَبنَ الإنسانِ لَه سُلطانٌ على الأرضِ ليَغفِرَ الخطايا". وقالَ لِلكسيح: "قُمْ واَحمِلْ سَريرَكَ واَذهَبْ إلى بـيتِكَ". 7فقامَ الرَّجُلُ وذهَبَ إلى بَيتِه. 8فلمّا شاهَدَ النَّاسُ ما جرَى، خافوا ومَجَّدوا الله الَّذي أعطى البشَرَ مِثلَ هذا السٌّلطانِ.
يسوع يدعو متى.
9وسارَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ، فرأى رَجُلاً جالِسًا في بَيتِ الجِبايةِ اَسمُهُ متَّى. فَقالَ لَه يَسوعُ: "إتْبَعني". فقامَ وتَبِعَهُ. 10وبَينَما يَسوعُ يأكُلُ في بَيتِ متَّى، جاءَ كثيرٌ من جُباةِ الضَّرائبِ والخاطِئينَ وجلَسُوا معَ يَسوعَ وتلاميذِهِ. 11ورأى بعضُ الفَرَّيسيـّينَ ذلِكَ، فقالوا لتلاميذِهِ: "لِماذا يأكُلُ مُعلَّمُكُم معَ جُباةِ الضَّرائبِ والخاطِئينَ؟" 12فسَمِعَ يَسوعُ كلامَهُم، فأجابَ: "لا يَحتاجُ الأصِحّاءُ إلى طَبـيبٍ، بل المَرضى. 13فاَذهَبوا وتَعلَّموا مَعنى هذِهِ الآيةِ: أُريدُ رَحمةً لا ذبـيحةً. وما جِئتُ لأدعُوَ الصّالحينَ، بَلِ الخاطِئينَ".
الصوم.
14وجاءَ تلاميذُ يوحنّا المَعمَدانِ إلى يَسوعَ. وقالوالَه:"لِماذا نَصومُ نَحنُ والفرَّيسيّونَ كثيرًا، وتلاميذُكَ لا يَصومونَ؟ 15فأجابَهُم يَسوعُ: "أتَنتَظِرونَ مِنْ أهلِ العَريسِ أنْ يَحزَنوا، والعَريسُ بَينَهُم؟ لكنْ يَجيءُ وقتٌ يُرفَعُ فيهِ العَريسُ مِنْ بَينِهِم فيَصومونَ. 16ما مِنْ أحَدٍ يَرقَعُ ثَوبًا عَتيقًا بِرُقعَةٍ مِنْ قماشٍ جَديدٍ، لأنَّها تَنكَمِش فَتَنْــتَزِع شَيئًا مِنَ الثَّوبِ العَتيقِ فيتَّسِعُ الخَرْقُ. 17وما مِنْ أحدٍ يَضَعُ خَمْرًا جَديدةً في أوعِيَةِ جِلْدٍ عَتيقَةٍ، لِـئلاَّ تَنشَقَّ الأوعِيَةُ فتَسيلَ الخمرُ وتَتْلَفَ الأوعِيَةُ. بل تُوضَعُ الخمرُ الجَديدةُ في أوعِيَةٍ جَديدَةٍ، فتَسلَمُ الخمرُ والأوعِيَةُ".
إحياء صبـية وشفاء اَمرأة لمست ثوب يسوع.
18وبَينَما هوَ يَتكلَّمُ، دَنا مِنهُ رَئيسٌ يَهوديٌّ وسجَدَ لَه وقالَ: "الآنَ ماتَتِ اَبنَتي. تَعالَ وضَعْ يدَكَ علَيها فتَحيا". 19فقامَ يَسوعُ وتَبِعَهُ معَ تلاميذِهِ. 20وكانَت هُناكَ اَمرأةٌ مُصابةٌ بنَزْفِ الدَّمِ مِن اَثنتَي عَشْرَةَ سنَةً، فدَنَتْ مِنْ خَلفِ يَسوعَ ولَمَستْ طَرَفَ ثوبِهِ، 21لأنَّها قالَت في نَفسِها: "يكفي أنْ ألمُسَ ثوبَهُ لأُشفى". 22فاَلتَفَت يَسوعُ فَرآها وقالَ: "ثِقي يا اَبنَتي، إيمانُكِ شَفاكِ". فشُفِـيَتِ المَرأةُ مِنْ تِلكَ السَّاعَةِ.
23ولمّا وصَلَ يَسوعُ إلى بَيتِ الرئيسِ اليهوديَّ رأى الندَّابـينَ والنّاسَ في اَضطرابٍ، 24فقالَ: "إخرُجوا! ما ماتَتِ الصَّبـيَّةُ، لكنَّها نائمةٌ!" فضَحِكوا علَيهِ. 25وبَعدَما أخْرَجَ النّاسَ، دخَلَ وأخَذَ بـيَدِ الصَّبـيةِ فقامَتْ. 26واَنتشرَ الخبَرُ في تِلكَ الأنحاءِ كُلَّها.
يسوع يشفي أعميـين.
27وسارَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ، فتَبِعَهُ أعمَيانِ يَصيحانِ: "اَرْحَمْنا، يا اَبنَ داودَ!" 28ولمّا دخَلَ البَيتَ، دَنا مِنهُ الأعمَيانِ. فقالَ لهُما يَسوعُ: "أتؤمنانِ بأنّي قادِرٌ على ذلِكَ؟" فأجابا: "نَعَم، يا سيَّدُ!" 29فلمَسَ يَسوعُ أعيُنَهُما وقالَ: "فليكُنْ لكُما على قَدْرِ إيمانِكُما". 30فاَنفَتَحَتْ أعيُنُهُما. وأنذرَهُما يَسوعُ فقالَ: "إيّاكُما أن يَعلَمَ أحدٌ!" 31ولكنَّهُما خَرَجا ونَشرا الخبَرَ في تِلكَ الأنحاءِ كُلَّها.
يسوع يشفي أخرس.
32ولمّا خرَجَ الأعميانِ، جاءَهُ بَعضُ النّاسِ بأخرسَ، فيهِ شَيطانٌ. 33فلمّا طَرَدَ يَسوعُ الشَّيطانَ، تكلَّمَ الأخرسُ. فتعَجَّبَ الجُموعُ وقالوا: "ما رأينا مِثلَ هذا في إِسرائيلَ!" 34ولكنَّ الفَرَّيسيـّينَ قالوا: "برئيسِ الشَّياطينِ يَطرُدُ الشَّياطينَ!"
يسوع يشفق على الناس.
35وطافَ يَسوعُ في جميعِ المُدُنِ والقُرى يُعلَّمُ في المجامِـعِ ويُعلِنُ بِشارةَ المَلكوتِ ويَشفي النّاسَ مِنْ كُلٌ مَرَضٍ وَداءٍ. 36ولمّا رأى الجُموعَ اَمتلأ قَلبُهُ بالشَّفَقَةِ علَيهِم، لأنَّهُم كانوا بائِسينَ مُشتَّتينَ مِثلَ غنَمِ لا راعِـيَ لها. 37فقالَ لِتَلاميذِهِ: "الحَصادُ كثيرٌ، ولكنَّ العُمّالَ قَليلونَ. 38فاَطلُبوا مِنْ رَبَّ الحَصادِ أنْ يُرسِلَ عُمّالاً إلى حَصادِهِ".
والآن إلى التعليق: والواقع أننى لا أفهم أن يتجرأ أى مخلوق، حتى لو كان نبيًّا، على تقليد نفسه شيئا من صلاحيات الله سبحانه وتعالى فيغفر ذنوب البشر. إن هذا افتئات على مقام الألوهية! ولو أنه، صلى الله عليه وسلم، ابتهل إلى ربه سبحانه وتعالى أن يغفر لمن يرى أنهم يحتاجون للغفران لكان هذا هو التصرف الأحجى، أما أن يُقْدِم هكذا على غفران الذنب بنفسه وكأنه هو الله أو وكيله على الأرض فهذا لا يصح ولا يجوز ولا يقبله العقل. سيقال إنه كان ابن الله، لكننا لا يمكن أن نوافق على هذه المجافاة التامة لعقيدة التوحيد والتنزيه. ومرة أخرى أنا لا أنكر على سيدنا عيسى شيئا، إذ من أنا حتى أفكر مجرد تفكير فى الإقدام على مثل هذا التطاول؟ وأى سماء تُظِلّنى، وأى أرضٍ تُقِلّنى إذا أنا أقللت عقلى وإيمانى وقلت ذلك؟ ولكنى أُبْرِئه من هذا التصرف الذى لا يليق بأنبياء الله الكرام ممن اصطفاهم الله وصنعهم على عينه، وأرى أنه عليه السلام لم يفعل شيئا من ذلك، بل هو مما أُضِيفَ له ظلما وزورا. ومن عجائب الأمور أن الكاتب هنا قد جعل المسيح عليه السلام يصف نفسه بــ"ابن الإنسان": "سأُريكُمْ أنَّ اَبنَ الإنسانِ لَه سُلطانٌ على الأرضِ ليَغفِرَ الخطايا"، فكانت هذه التسمية الصحيحة مفارَقةً غريبة فى هذا السياق، إذ بينما يعترف المسيح (حسبما يروى لنا متّى) بأنه واحد من البشر (لا إلهٌ ولا ابنُ إله) نراه يُقْدِم على ما هو من صلاحيات الله وحده! ومما يؤكد بشرية المسيح تعليق الحاضرين الذين رَأَوُا الكسيح يقوم ويمشى سليمًا معافًى، إذ جعلوه هم أيضا بشرا: "فلمّا شاهَدَ النَّاسُ ما جرَى، خافوا ومَجَّدوا الله الَّذي أعطى البشَرَ مِثلَ هذا السٌّلطانِ".
هذا، وليس فى المعجزات التى صنعها السيد المسيح ما يمكن أن أعلق عليه، اللهم إلا قول الكاتب: "وطافَ يَسوعُ في جميعِ المُدُنِ والقُرى يُعلَّمُ في المجامِـعِ ويُعلِنُ بِشارةَ المَلكوتِ ويَشفي النّاسَ مِنْ كُلٌ مَرَضٍ وَداءٍ. ولمّا رأى الجُموعَ اَمتلأ قَلبُهُ بالشَّفَقَةِ علَيهِم، لأنَّهُم كانوا بائِسينَ مُشتَّتينَ مِثلَ غنَمِ لا راعِـيَ لها". فالحياة فادحة العبء على الفقراء والمسحوقين، وهكذا رآها السيد المسيح عليه السلام، وهكذا يراها كل من كان لديه فى قلبه رحمة وحنان. بَيْدَ أن كثيرا من هؤلاء المسحوقين لا يبالون بمن يحاول أن يمد يده لنشلهم مما هم فيه من هوان وعذاب واستغلال، فتراهم إما آخذين صف مضطهديهم وظالميهم ضده، وإما مكتفين فى أحسن الأحوال بالانتفاع بكل ما يستطيعون الحصول عليه منه، حتى إذا ما جَدّ الِجّد واصطدم محاميهم بقُوَى الشر والبأس والغَبْن ووقع فى قبضتها وباتت حياته على شَفَا جُرُفٍ هارٍ من الخطر، وتَلَفَّتْ حوله لعله يجد أحدا ممن أفنى حياته دفاعا عن حقوقهم ومصالحهم يسانده ولو بكلمة تشجيع، إذا بهم "فَصّ ملح وذاب"، مستكثرين عليه مجرد المصمصة من شفاههم. ألم يكن هذا هو ما وقع للسيد المسيح طبقا لروايات كتاب الأناجيل التى تقول إنه قد صُلِبَ وقُتِلَ بعدما عُذِّبَ وأُهين، وإن كنا نحن المسلمين نرى أنها مكذوبة من الأساس؟
كذلك هناك التفسير المنسوب للسيد المسيح الخاص بالصوم بوصفه مجرد تعبير عن الحزن، ومن ثم فلا داعى لأن يصوم الحواريون ما دام عليه السلام موجودا معهم لم يغادر الحياة بعد، أما حين يحين الحين فيفارقهم فعندئذ، وعندئذ فقط، يكون هناك معنًى ومجالٌ للصوم، وكأن الصيام ليس إلا تعبيرا عن الحزن، وليس عبادة روحية وبدنية لها من المعانى والمغازى، وفيها من الدروس والعبر والفوائد الجسمية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، الكثير: "وجاءَ تلاميذُ يوحنّا المَعمَدانِ إلى يَسوعَ. وقالوا لَه:"لِماذا نَصومُ نَحنُ والفرَّيسيّونَ كثيرًا، وتلاميذُكَ لا يَصومونَ؟ 15فأجابَهُم يَسوعُ: "أتَنتَظِرونَ مِنْ أهلِ العَريسِ أنْ يَحزَنوا، والعَريسُ بَينَهُم؟ لكنْ يَجيءُ وقتٌ يُرفَعُ فيهِ العَريسُ مِنْ بَينِهِم فيَصومونَ. 16ما مِنْ أحَدٍ يَرقَعُ ثَوبًا عَتيقًا بِرُقعَةٍ مِنْ قماشٍ جَديدٍ، لأنَّها تَنكَمِش فَتَنْــتَزِع شَيئًا مِنَ الثَّوبِ العَتيقِ فيتَّسِعُ الخَرْقُ. 17وما مِنْ أحدٍ يَضَعُ خَمْرًا جَديدةً في أوعِيَةِ جِلْدٍ عَتيقَةٍ، لِـئلاَّ تَنشَقَّ الأوعِيَةُ فتَسيلَ الخمرُ وتَتْلَفَ الأوعِيَةُ. بل تُوضَعُ الخمرُ الجَديدةُ في أوعِيَةٍ جَديدَةٍ، فتَسلَمُ الخمرُ والأوعِيَةُ". وأغرب من ذلك أنه، عليه السلام، لم يجد ما يضربه من الأمثال فى هذا السياق إلا الخمر، الخمر أم الخبائث! أقول هذا وفى ذهنى ما قرأته للقمّص المنكوح المقروح، زيكو العجيب ذى الدبر الرحيب، من أن النصرانية تحرّم الخمر وتتشدد فى هذا التحريم أيما تشدد! عجايب! أفلم يأته ما كتب متَّى هنا ونَسَبه للسيد المسيح مما لا يمكن فى ضوئه أن تكون الخمر محرمة فى النصرانية؟ أم لم يأته أن أول آية عملها المسيح حسب مؤلفى الأناجيل هى تحويل الماء فى أحد الأعراس إلى خمر، وبتحريض من أمه عليها السلام، ليشرب المدعوُّون ويبتهجوا، وكأنه أحد متعهدى حفلات الأفراح ومورّدى أطعمتها ومشروباتها؟ وهنا لا بد من كلمة، فإن محمدا بعبقريته وبركة دينه وإخلاص أصحابه ورجولتهم، وقبل كل شىء بسببٍ من عون ربه، قد استطاع ما لم يستطعه أحد قبله ولا بعده على مدار التاريخ البشرى كله ولا حتى نبى مرسل، فنجح فى فطم أتباعه عن الخمر، إلا الشواذ النادرون منهم. هو فقط عليه السلام الذى أنجز هذا الإعجاز! أما أمم النصارى فقد أحرزت قصب السبق فى شرب الخمر، ولم يقدر أحد فيها على بلوغ واحد من المليون مما بلغه رسولنا وأتباعه فى هذا المضمار! ثم يتطاول الأوغاد الحقراء على سيد الرسل والنبيين ويسبّونه ظانين أنهم بهذا الإجلاب قادرون على أن يداروا عجزهم وفهاهتهم وانحراف دينهم! ألا إن مثواهم لَقَعْر جهنم الحمراء مع أمثالهم من كل مجرم لئيم بمشيئة الواحد الأحد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد!
الفصل العاشر:
"الرسل الاثنا عشر.
ودَعا يَسوعُ تلاميذَهُ الاثنيَ عشَرَ وأعْطاهُم سُلطانًا يَطرُدونَ بِه الأرواحَ النَّجسَةَ ويَشْفونَ النّاسَ مِنْ كُلٌ داءٍ ومرَضٍ. 2وهذِهِ أسماءُ الرٌّسُلِ الاثني عشَرَ: أوَّلُهُم سِمْعانُ المُلَقَّبُ بِبُطرُسَ وأخوهُ أندَراوُسُ، ويَعقوبُ بنُ زَبدي وأخوهُ يوحنّا، 3وفيلُبٌّسُ وبَرْتولماوُسُ، وتوما ومتَّى جابـي الضَّرائبِ، ويَعقوبُ بنُ حَلْفَى وتَدّاوسُ، 4وسِمْعانُ الوطنيٌّ الغَيورُ، ويَهوذا الإسخَرْيوطيٌّ الذي أسلَمَ يَسوعَ.
يسوع يرسل الاثني عشر.
5وأرسَلَ يَسوعُ هؤُلاءِ التلاميذَ الاثنَي عشَرَ وأوْصاهُم قالَ: "لا تَقصِدوا أرضًا وثَنِـيَّةً ولا تَدْخُلوا مدينةً سامِريَّةً، 6بَلِ اَذْهَبوا إلى الخِرافِ الضّالةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ، 7وبَشَّروا في الطَّريقِ بأنَّ مَلكوتَ السَّماواتِ اَقتَرَبَ. 8واَشفوا المَرضى، وأقيموا الموتَى، وطَهَّروا البُرْصَ، واَطرُدوا الشَّياطينَ. مجّانًا أخَذتُمْ، فمَجّانًا أعْطُوا. 9لا تَحمِلوا نُقودًا مِنْ ذَهَبٍ ولا مِنْ فِضَّةٍ ولا مِنْ نُحاسٍ في جُيوبِكُم، 10ولا كِيسًا لِلطَّريقِ ولا ثوبًا آخَرَ ولا حِذاءً ولا عصًا، لأنَّ العامِلَ يَسْتَحِقٌّ طعامَهُ. 11وأيَّةَ مدينةٍ أو قريةٍ دَخَلْتُم، فاَستَخبِروا عَنِ المُستحِقَّ فيها، وأقيموا عِندَهُ إلى أنْ تَرحَلوا. 12وإذا دَخلْتُم بَيتًا فسَلَّموا علَيهِ. 13فإنْ كانَ أهلاً للسَّلامِ، حلَ سلامُكُم بِه، وإلاَّ رجَعَ سَلامُكُم إلَيكُم. 14وإذا اَمتَنَعَ بَيتٌ أو مدينةٌ عَنْ قَبولِكُم أو سَماعِ كلامِكُم، فاَتركوا المكانَ واَنْفُضوا الغُبارَ عَنْ أقدامِكُم. 15الحقَّ أقولُ لكُم: سيكونُ مَصيرُ سَدومَ وعَمورَةَ يومَ الحِسابِ أكثرَ اَحتِمالاً مِنْ مَصيرِ تِلكَ المدينةِ.
زمن الاضطهاد.
16"ها أنا أُرسِلُكُم مِثلَ الخِرافِ بَينَ الذَّئابِ فكونوا حَذِرينَ كالحيّاتِ، وُدَعاءَ كالحَمام. 17واَنتَبِهوا، لأنَّ النَّاسَ سَيُسلَّـمـونَـكم إلى المَحاكِم، ويَجلِدونَــكُم في المجـامِــعِ، 18ويَـسـوقونَـكم إلى الحُكـامِ والمُلوكِ مِنْ أجلي، لتَشْهَدوا عِندَهُم وعِندَ سائِرِ الشٌّعوبِ. 19فلا تَهتَمّوا حِينَ يُسْلِمونَــكُم كيفَ أو بِماذا تَتكلَّمونَ، لأنَّـكُم سَتُعطَوْنَ في حينِهِ ما تَتكلَّمونَ بِه. 20فما أنتُمُ المُتكَلَّمونَ، بَلْ رُوحُ أبـيكمُ السَّماويَّ يَتكَلَّمُ فيكُم. 21سيُسلِمُ الأخُ أخاهُ إلى الموتِ، والأبُ اَبنَهُ، ويتَمَرَّدُ الأبناءُ على الآباءِ ويَقتُلونَهُم، 22ويُبْغِضُكُم جَميعُ النّاسِ مِنْ أجلِ اَسْمي. والَّذي يَثبُتُ إلى النَّهايةِ يَخلُصُ.
23وإذا اَضطَهَدوكُم في مدينةٍ، فاَهرُبوا إلى غَيرِها. الحقَّ أقولُ لكُم: لن تُنْهوا عَمَلكُم في مُدُنِ إِسرائيلَ كُلَّها حتى يَجيءَ اَبنُ الإنسانِ.
24لا تِلميذَ أعظَمُ مِنْ مُعلَّمِهِ، ولا خادِمَ أعظَمُ مِنْ سيَّدِهِ. 25يكفي التَّلميذَ أنْ يكونَ مِثلَ مُعلَّمِهِ والخادِمَ مِثلَ سيَّدِهِ. إذا كان ربٌّ البَيتِ قيلَ لَه بَعلَزَبولُ، فكَيفَ أهلُ بـيتِهِ؟
مخافة الله.
26"لا تَخافوهُم. فما مِنْ مَستورٍ إلاّ سَيَنكَشِفُ، ولا مِنْ خفِـيٍّ إلاّ سَيُظهَرُ. 27وما أقولُهُ لكُم في الظَّلامِ، قولوهُ في النٌّورِ. وما تَسمَعونَهُ هَمسًا، نادوا بِه على السٌّطوحِ. 28لا تخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجسَدَ ولا يَقدرونَ أنْ يقتُلوا النَّفسَ، بَل خافوا الَّذي يَقدِرُ أنْ يُهلِكَ الجسَدَ والنَّفسَ معًا في جَهَنَّم. 29أما يُباعُ عُصْفورانِ بدِرْهَمِ واحدٍ؟ ومعَ ذلِكَ لا يقَعُ واحدٌ منهُما إلى الأرضِ إلاّ بِعِلمِ أبـيكُمُ السَّماويَّ. 30أمّا أنتُم، فشَعرُ رُؤُوسِكُم نفسُهُ معدودٌ كُلٌّهُ. 31لا تخافوا، أنتُم أفضَلُ مِنْ عصافيرَ كثيرةٍ.
الاعتراف بالمسيح.
32"مَنِ اَعترفَ بـي أمامَ النّاسِ، أعترِفُ بِه أمامَ أبـي الَّذي في السَّماواتِ. 33ومَنْ أنْكَرَني أمامَ النّاسِ، أُنكِرُهُ أمامَ أبـي الَّذي في السَّماواتِ.
يسوع والعالم.
34"لا تَظُنّوا أنيَّ جِئتُ لأحمِلَ السَّلامَ إلى العالَمِ، ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا. 35جِئتُ لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها، والكَنَّةِ وحماتِها. 36ويكونُ أعداءَ الإنسانِ أهلُ بـيتِهِ.
37مَنْ أحبَّ أباهُ أو أمَّهُ أكثرَ ممّا يُحِبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. ومَنْ أحبَّ اَبنَهُ أو بِنتَهُ أكثرَ ممّا يُحبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. 38ومَنْ لا يَحمِلُ صليبَهُ ويَتْبعُني، فلا يَسْتحِقٌّني. 39مَنْ حَفِظَ حياتَهُ يَخسَرُها، ومَنْ خَسِرَ حياتَهُ مِنْ أجلي يَحفَظُها.
الجزاء
40"مَنْ قَبِلَكُم قَبِلَني، ومَنْ قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أرسَلَني. 41مَنْ قَبِلَ نَبـيُا لأنَّهُ نَبـيٌّ، فَجَزاءَ نَبـيٍّ يَنالُ. ومَنْ قَبِلَ رَجُلاً صالحًا لأنَّهُ رجُلٌ صالِـحٌ، فجَزاءَ رَجُلٍ صالِـحِ يَنالُ. 42ومَنْ سَقى أحدَ هؤُلاءِ الصَّغارِ ولَو كأسَ ماءٍ بارِدٍ لأنَّهُ تِلميذي، فأجرُهُ، الحقَّ أقولُ لكُم، لن يَضيعَ".
لعل القارئ لم ينس ما قلناه من أن المقصود بقول السيد المسيح: "سيَقولُ لي كثيرٌ مِنَ النّاسِ في يومِ الحِسابِ: يا ربٌّ، يا ربٌّ، أما باَسمِكَ نَطَقْنا بالنٌّبوءاتِ؟ وباَسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وباَسمِكَ عَمِلنا العجائبَ الكثيرةَ؟ فأقولُ لهُم: ما عَرَفتُكُم مرَّةً. اَبتَعِدوا عنَّي يا أشرارُ!" هم تلاميذه لأنهم هم الوحيدون الذين أعطاهم، حسبما يقول كاتب الإنجيل، سلطانا على الأرواح النجسة ومقدرة على شفاء الأمراض التى كان يشفيها. فأرجو أن يظل القارئ الكريم على ذِكْرٍ من هذه المعلومة لأننا سنحتاجها فيما يقبل من سطور. كذلك لا أحب أن تفوتنى الفرصة للفت الانتباه إلى أن السيد المسيح (الإله أو ابن الإله) قد أعطى هذا السلطان وتلك المقدرة ليهوذا الخائن أيضا. ترى أفلم يكن يعرف انه سيخونه؟ مصيبة إذن أن يجهل الإله أو ابن الإله شيئا كهذا! أم كان يعرف، ومع هذا فعل ما فعل؟ مصيبة أشد لأنه بهذا يكون قد برهن على أنه لا يحسن الاختيار! أم كان يعرف أنه سيخونه، لكنه أعطاه السلطان والمقدرة عن قصد وتعمد؟ مصيبة أشد وأشد لأن هذا معناه أنه كان يتصرف تصرفات عابثة! وعلى أية حال أليس المفروض أن يأخذ يهوذا ذاك مكافأة من المسيح أو من أبيه لأنه كان العامل الحاسم لتمام المشيئة الإلهية فى التكفير عن خطيئة البشرية؟ ذلك أنه لولا صَلْب المسيح وقَتْله ما تم التكفير ولاستحال تنفيذ مشيئة الله، ولولا خيانة يهوذا ما تم الصلب والقتل. إذن فالسيد يهوذا يستحق التكريم والتعظيم هو وكل من شارك فى هذه الجريمة (آسف، أقصد: "كل من شارك فى هذه الطاعة وذلك الإيمان") من يهود ورومان! وإلا فما الذى كان يريده الآب السماوى؟ أكان يريد من يهوذا وممن اشتركوا فى قتل المسيح حسب اعتقاد القوم أن يقفوا فى طريق مشيئته ويعملوا بكل قواهم على إحباطها وعدم تنفيذها؟ إذن لكانوا عرّضوا أنفسهم لنقمته سبحانه وتعالى لعصيانهم أمره وتعطيل وقوع رحمته بالبشر ولظل البشر حتى الآن مرتكسين فى الخطيئة التى ارتكبها أبوهم آدم وأمهم حواء فحمّلهم الله مسؤوليتها رغم أنهم لا ذنب لهم فيها، ليعود فيحمّل المسيح مسؤولية التكفير عنها رغم أنه لا ذنب له فيها، ثم يعود بعد ذلك كله فيحمّل يهوذا مسؤولية المساعدة على تنفيذ هذا التكفير الذى اختار الله ابنه الوحيد (حيلته وضناه!) لكى يقوم به رغم أن يهوذا المسكين إنما أراد الخير والمساعدة! أهذا جزاء عمل الخير؟ يا لها من لخبطة! بينى وبينكم هذه ليست تصرفات إله ولا طريقة تفكير تليق بإله! وعلى رأى المثل: "أذنك من أين يا جحا؟".
ألم يكن أسهل من هذا كله أن يغفر الله تلك الخطيئة مباشرة كما فعل فى القرآن إذ تاب على آدم وحواء بعد أن أنزلهما إلى الأرض، وانتهت المسألة عند هذا الحد منذ لا أدرى كم من السنين، وصافٍ يا لبن! حليب يا قشدة!؟ إن الحلول العبقرية هى أسهل الحلول وأبسطها عادة، لكن يبدو أن المزاج لم يكن رائقا ساعتها فكانت هذه البرجلة العقلية التى لم نعد نعرف معها رأسنا من رجلينا! الله يخرب بيتك يا يهوذا! لقد عقَّدْت القضية، إذ جئت تكحّلها فأعميتها! ما الذى أخششك فى هذه اللعبة التى لست على قدرها؟ أكان لا بد أن تنسحب من لسانك وتقول للرومان: ها هو ذا المسيح، فتعالَوْا خذوه؟ وكل هذا يا مجنون مقابل ثلاثين فضة؟ ألم تسمع بما يقوله العامة عندنا: إن سرقتَ فاسرق جملا، وإن خطبتَ فاخطب قمرا؟ بينى وبينك تستحق ما جرى لك! الناس الآن يسرقون بالملايين بل بالمليارات، وسيادتك تبيع المسيح بحاله "من أجل حفنة دولارات"، ومعذرة للفلم إياه، فهكذا حبكت القافية؟ الله يخرب بيتك مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً وعاشرةً ومائةً وألفًا... إلى ما شاء الله، يا يهوذا! إن عملاء أمريكا من صغار العيال كالمجرم القرارى "أبى هَرَّة" الذى يهاجم كل من هو مسلم بدءا من أبى بكر وعمر وأبى هريرة وانتهاء بــ"مجدى محرّم عليهم عيشتهم" (ولولا الخطة الجهنمية لشتم الرسولَ جهارا نهارا، لكنه يترك هذه المهمة لــ"أبى هَرَّة" الآخر، أبى هَرَّة المنكوح فى دبره المقروح)، ولا يُثْنِى إلا على كل كافر سافل مثله، لَيَأْخُذ الواحد منهم آلاف الدولارات فى الشهر غير فكّة البدلات من هنا ومن هاهنا لقاء ما هو أتفه من هذا كثيرا (ألم نقرأ مقالات مجدى محرم، الذى لم يجدوا عليه شيئا فقالوا: "أبو بيجاما!"؟)، وحضرتك تتمطى وتمد يدك من أجل ثلاثين فضة لتصبح فضيحتك على كل لسان وتتفوق فى "الجُرْسَة" على العزيز بدران الذى خان أدهم الشرقاوى؟ ويا ليتك انتفعت بها أو تركتها لأولادك من بعدك يسددون بها ديون مصر أو يحلون بها مشاكلها الاقتصادية كما ينوى أن يفعل "المحروس" ابن "المجروس" بمليار جنيه بس! مليار جنيه من البَلاّص الذى تركته له جدته على السطح وأخفته بين بلاليص الجبنة القديمة حتى لا يتنبه له اللصوص إلى أن يحين الوقت وتقع مصر فى الديون فينفع البَلاّص ساعتها ويتم إنقاذ المحروسة على يد المحروس، فتلهب الجماهير أكفّها من التصفيق ابتهاجا بنهاية الفلم السعيدة! إِخْصِ عليك يا يهوذا! لم يكن العشم يا صاحبى!
ثم نمضى فى القراءة: "وأرسَلَ يَسوعُ هؤُلاءِ التلاميذَ الاثنَي عشَرَ وأوْصاهُم قالَ: "لا تَقصِدوا أرضًا وثَنِـيَّةً ولا تَدْخُلوا مدينةً سامِريَّةً، 6بَلِ اَذْهَبوا إلى الخِرافِ الضّالةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ، 7وبَشَّروا في الطَّريقِ بأنَّ مَلكوتَ السَّماواتِ اَقتَرَبَ. 8واَشفوا المَرضى، وأقيموا الموتَى، وطَهَّروا البُرْصَ، واَطرُدوا الشَّياطينَ". وهذه فى الواقع هى رسالة السيد المسيح تقريبا لا تكاد تزيد عن ذلك، وأين هذا من رسالة محمد الشاملة التى لم تترك شيئا من أمور الدنيا أو الآخرة إلا وبينت وجه الحق فيه وما ينبغى وما لا ينبغى بشأنه. كما أن رسالة السيد المسيح، كما هو بَيِّنٌ من كلامه الذى لا يمكن أن يلتبس على أى قارئ، هى رسالة محلية قبلية: لبنى إسرائيل وحدهم، وأين هذا من رسالة محمد العالمية التى بُعِثَ بها للإنس والجن والأبيض والأحمر والأسود والأصفر من وقت مبعثه إلى يوم الدين. وليس فى هذا أى افتئات أو إساءة إلى عيسى بن مريم عليه السلام، بل كل نبى أو رسول والمهمة التى أُسْنِدَتْ إليه من رب العالمين، وهذا كل ما هنالك.
ولكننى لا أظن الحواريين كانت لديهم القدرة على الشفاء ولا على طرد الشياطين من الأجساد، وإلا فما وجه تميز عيسى كنبىٍّ عندنا، أو ابنٍ لله عند القوم؟ إنهم يتخذون من هذه الأمور دليلاً على ألوهيته. عظيم! إذن فالحواريون آلهة أيضا مثله ما داموا يتصفون بنفس المقدرة والسلطان. سيقال إنهم إنما استمدوها منه، فهم كانوا وسيظلون بشرا. لكن هذا الرد يصدق أيضا على حالة السيد المسيح، لأنه إنما استمد تلك القدرة وذلك السلطان من الله، وهو ما يوضحه القرآن الكريم، إذ نسمعه عليه السلام يقول: "وأُبْرِئ الأكمه والأبرص وأُحْيِى الموتى بإذن الله"! على أن هناك نقطة سبق أن مسستها، ولا بأس بتكرار القول فيها هنا، فالتكرار يعلم الشطار، كما يعلم الحمار: الحمار من جنس القُمّص المنكوح، صاحب الدبر المقروح! وهذه النقطة هى أن التلاميذ لن يهنأوا بتلك الصلاحية طويلا، إذ سرعان ما يفشلون فى طرد الشياطين وإبراء المرضى، مما يستدعى عودة الأمور إلى نصابها الأول وينهض السيد المسيح كرة أخرى بهذا المهمة بيديه المباركتين الطاهرتين اللتين لا أدرى بأى وجه حق ينتسب إلى صاحبهما الطاهر الكريم القُمّص النجس الدنىء!
ويقول المسيح لتلاميذه أيضا: "لا تَحمِلوا نُقودًا مِنْ ذَهَبٍ ولا مِنْ فِضَّةٍ ولا مِنْ نُحاسٍ في جُيوبِكُم"، ومع هذا فإن المجوس المزعومين الذين زاروه وهو رضيع فى المذود لم يجدوا ما يمكن أن يُهْدوه إياه إلا الذهب، وهو أبعد شىء عن طبيعة دعوته كما نلاحظ هنا. ثم إن هذا الذهب يثير مشكلة من نوع آخر، إذ ما الذى فعلته أمه بذلك المال بعد ذلك؟ إن الإنجيل ليسكت تماما عن هذه النقطة! كذلك لا بد أن نبين الفرق بين دعوة محمد عليه الصلاة والسلام ودعوة المسيح فى السياق الحالى: فالمسيح يقول لتلامذته إن من حقهم أن يأخذوا أجرا على دعوتهم: ضيافةً وطعامًا وشرابًا ومبيتًا عند من يقصدونهم بالدعوة: "9لا تَحمِلوا نُقودًا مِنْ ذَهَبٍ ولا مِنْ فِضَّةٍ ولا مِنْ نُحاسٍ في جُيوبِكُم، 10ولا كِيسًا لِلطَّريقِ ولا ثوبًا آخَرَ ولا حِذاءً ولا عصًا، لأنَّ العامِلَ يَسْتَحِقٌّ طعامَهُ. 11وأيَّةَ مدينةٍ أو قريةٍ دَخَلْتُم، فاَستَخبِروا عَنِ المُستحِقَّ فيها، وأقيموا عِندَهُ إلى أنْ تَرحَلوا"، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمره ربه قائلا: "قل: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى".
ولنلاحظ أيضا أنه لم يقل لهم: بَشِّروا بأنى ابن الله الذى أرسله الآب لفدائكم من رِبْقَة الخطيئة الأولى، بل قال لهم: بَشِّروا باقتراب ملكوت السماوات. ثم إنه يضيف قائلا: "الحقَّ أقولُ لكُم: لن تُنْهوا عَمَلكُم في مُدُنِ إِسرائيلَ كُلَّها حتى يَجيءَ اَبنُ الإنسانِ". والمقصود بــ"ابن الإنسان" هو المسيح ذاته، وها قد مر على ذلك الكلام ألفان من الأعوام تقريبا، ولم يأت ابن الإنسان! وحين يأتى فأرجوكم أن تخبرونى! ولنلاحظ كذلك ما قلناه قبلا من أنه يقول للتلاميذ إن الله هو أبوهم السماوى، وهى نفس التسمية التى سماه بها بالنسبة إليه: "أبى السماوى". أى أن العلاقة بينه وبين الله هى هى نفسها العلاقة بين البشر جميعا، أو على الأقل: بين الصالحين منهم وبينه سبحانه.
ولدينا ذلك قوله لهم: "لا تَظُنّوا أنيَّ جِئتُ لأحمِلَ السَّلامَ إلى العالَمِ، ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا. 35جِئتُ لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها، والكَنَّةِ وحماتِها. 36ويكونُ أعداءَ الإنسانِ أهلُ بـيتِهِ". ورغم وضوح القول فإن الأوغاد الأوباش شَتَمَة الأنبياء الكرام يظلون يكررون أن المسيح أحسن من محمد. لماذا يا أوباش؟ لأنه كان وديعا أتى بالسلام والمحبة، أما محمد فقد أتى بالسيف! فأين السلام والمحبة فى هذا الكلام؟ أم أين المحبة والسلام فى قوله عليه السلام قبل قليل: "سيُسلِمُ الأخُ أخاهُ إلى الموتِ، والأبُ اَبنَهُ، ويتَمَرَّدُ الأبناءُ على الآباءِ ويَقتُلونَهُم". إن هذه عواصف وزعازع عاتية من شأنها أن تزلزل الأسرة والمجتمع لا سكينةٌ وسلامٌ. ومع هذا فنحن لا نشتم السيد المسيح، ولا يمكن أن نفكر فى شىء من ذلك بتاتا لأنه رسول الله مثلما كان محمد رسول الله، فيجب إكرام الاثنين وتبجيلهما، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجل من أرسلهما ومن أجل الفضل الذى ندين به له، ومن ثم لهما، صلى الله عليهما وسلم، ولعن من يكفر ويغلو فيهما. كذلك فهذه طبيعة الدعوات الجديدة سواء كانت نبوة أو إصلاحا، إذ يهبّ المتضررون من جرائها من كل مجرم أنانى مستبد باطش فيقف فى وجهها ويؤلب من هم تحت سلطانه لإيذاء النبيين والمصلحين حتى لو كان أتباعه هؤلاء الذين يسلطهم عليهم هم أول المنتفعين بالدعوة الجديدة. ولو كان قُدِّر لعيسى عليه السلام أن يعيش على الأرض أطول مما عاش ولم يتوفَّه الله إليه فى سن مبكرة لكان أول من يخوض الحروب. نعم، كان سيخوضها كارها، لكنه لم يكن ليجد مندوحة رغم ذلك عن خوضها، والخِطَاب، كما يقولون، يبين من عنوانه، وعنوانه ظاهر تماما فى كلماته التالية عليه الصلاة والسلام: "لا تَظُنّوا أنيَّ جِئتُ لأحمِلَ السَّلامَ إلى العالَمِ، ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا. 35جِئتُ لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها، والكَنَّةِ وحماتِها. 36ويكونُ أعداءَ الإنسانِ أهلُ بـيتِهِ"! قد يقال: لكنه منع بطرس من استعمال السيف. والجواب أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان ينهى أتباعه فى البداية عن الرد على العدوان بمثله ويحثهم على الصبر والتحمل، إذ إن الرد فى هذه الحالة هو بمثابة انتحار مُبِير لأن المواجهة لا يصح أن تتم قبل أوانها ودون الاستعداد لها. وقد ظل الرسول الكريم ثلاث عشرة سنة فى مكة يتحمل هو وأصحابه الكرام ما لم يتعرض لمثله السيد المسيح أو أتباعه وحواريوه. ثلاث عشرة سنة لا ثلاث سنوات فقط. ثم يأتى أوباش المهجر الأمريكى فيشتمون سيد الأنبياء والمرسلين (ولا أقول: سيدهم أيضا، لأنهم لا يستحقون شرف الانحناء على قدمه الكريمة لربط حذائه)، ويقولون إنه قد أتى برسالة السيف. وماذا فى السيف الذى يدافع به الإنسان عن حقه ويزيل عن نفسه الظلم يا كلاب أمريكا؟ يقولون إن ديننا يُلْزِمنا "إدارة" الخد الأيسر لمن يضربنا على خدنا الأيمن. لكنهم يكذبون، فإن دينهم الذى يمارسونه إنما يُلْزِمهم "إدارة بوش"، وشتان بين "إدارة وإدارة"، يا لُمَامَة الحارة!
الفصل الحادى عشر:
"يسوع ويوحنا المعمدان.
ولمّا أتمَّ يَسوعُ وصاياهُ لِتلاميذِهِ الاثني عشَرَ، خرَجَ مِنْ هُناكَ ليُعلَّمَ ويُبَشَّرَ في المُدُنِ المُجاوِرَةِ.
2وسمِعَ يوحنّا وهوَ في السَّجنِ بأَعمالِ المَسيحِ، فأرسَلَ إلَيهِ بَعضَ تلاميذِهِ 3ليقولوا لَهُ: "هلْ أنتَ هوَ الَّذي يَجيءُ، أو نَنتظرُ آخَرَ؟"
4فأجابَهُم يَسوعُ: "اَرْجِعوا وأخْبِروا يوحنّا بِما تَسمَعونَ وتَرَوْنَ: 5العميانُ يُبصرونَ، والعُرجُ يمشونَ، والبُرصُ يُطهَّرونَ، والصمٌّ يَسمَعونَ، والمَوتى يَقومونَ، والمَساكينُ يَتلقَّونَ البِشارةَ. 6وهنيئًا لمن لا يفقُدُ إيمانَهُ بـي".
7فلمّا اَنصَرَفَ تلاميذُ يوحنّا، تَحدَّثَ يَسوعُ لِلجُموعِ عَنْ يوحنّا فقالَ: "ماذا خَرَجتُم إلى البرَّيَّةِ تَنظُرونَ؟ أقَصَبةً تَهُزٌّها الرَّيحُ؟ 8بلْ ماذا خَرَجتُم ترَوْنَ؟ أرَجُلاً يلبَسُ الثَّيابَ النّاعِمَةَ؟ والَّذينَ يَلبَسونَ الثَّيابَ النّاعِمَةَ هُمْ في قُصورِ المُلوكِ! 9قولوا لي: ماذا خَرَجتُم تَنظُرونَ؟ أنبـيُا؟ أقولُ لكُم: نعَم، بلْ أفضَلَ مِنْ نَبِـيٍّ. 10فهوَ الَّذي يقولُ فيهِ الكِتابُ: أنا أُرسِلُ رَسولي قُدّامَكَ، ليُهيَّـئَ الطَّريقَ أمامَكَ. 11الحقَّ أقولُ لكُم: ما ظهَرَ في النّاسِ أعظمُ مِنْ يوحنّا المَعمدانِ، ولكِنَّ أصغَرَ الَّذينَ في مَلكوتِ السَّماواتِ أعظمُ مِنهُ.
12فَمِنْ أيّامِ يوحنّا المَعمدانِ إلى اليومِ، والنَّاسُ يَبذُلونَ جَهدَهُم لِدُخولِ مَلكوتِ السَّماواتِ، والمُجاهِدونَ يَدخُلونَهُ. 13فإلى أنْ جاءَ يوحنّا كانَ هُناكَ نُبوءاتُ الأنبـياءِ وشَريعَةُ موسى. 14فإذا شِئتُم أنْ تُصَدَّقوا، فاَعلَموا أنَّ يوحنّا هوَ إيليّا المُنتَظرُ. 15مَنْ كانَ لَه أُذُنانِ، فَلْيَسمَعْ!
16بِمَنْ أُشبَّهُ أبناءَ هذا الجِيلِ? هُمْ مِثلُ أولادٍ جالِسينَ في السَّاحاتِ يَتَصايَحُونَ: 17زَمَّرْنا لكُم فما رَقَصْتُم، ونَدَبْنا لكُم فما بكَيتُم. 18جاءَ يوحنّا لا يأكُلُ ولا يَشرَبُ فقالوا: فيهِ شَيطانٌ. 19وجاءَ اَبنُ الإنسانِ يأكُلُ ويَشرَبُ فقالوا: هذا رجُلٌ أكولٌ وسِكّيرٌ وصَديقٌ لِجُباةِ الضَّرائبِ والخاطِئينَ. لكِنَّ الحِكمةَ تُبرَّرُها أعمالُها".
المدن غير التائبة.
20وأخَذَ يَسوعُ يُؤَنَّبُ المُدُنَ التي أجرى فيها أكثرَ مُعجزاتِهِ وما تابَ أهلُها، 21فقالَ: "الويلُ لكِ يا كورَزينَ! الويلُ لكِ يا بـيتَ صيدا! فلو كانتِ المُعجزاتُ التي جرَتْ فيكما جرَتْ في صورَ وصيدا، لتابَ أهلُها من زمنٍ بعيدٍ ولبِسوا المسوحَ وقعَدوا على الرمادِ. 22لكنّي أقولُ لكم: سيكونُ مصيرُ صورَ وصيدا يومَ الحِسابِ أكثرَ اَحتمالاً من مصيرِكُما. 23وأنتِ يا كَفْرَ ناحومُ! أتَرتَفعينَ إلى السَّماءِ؟ لا، إلى الجَحيمِ سَتهبُطينَ. فَلو جرَى في سَدومَ ما جرَى فيكِ مِنَ المُعجِزاتِ، لبَقِـيَتْ إلى اليومِ. 24لكنّي أقولُ لكُم: سيكونُ مصيرُ سدومَ يومَ الحِسابِ أكثرَ اَحتِمالاً مِنْ مَصيرِكِ".
يسوع يبتهج.
25وتكَلَّمَ يَسوعُ في ذلِكَ الوَقتِ فقالَ: "أحمَدُكَ يا أبـي، يا ربَّ السَّماءِ والأرضِ، لأنَّكَ أظْهرتَ للبُسطاءِ ما أخفَيْتَهُ عَنِ الحُكَماءِ والفُهَماءِ. 26نَعَمْ، يا أبـي، هذِهِ مَشيئَــتُكَ.
27أبـي أعطاني كُلَ شيءٍ. ما مِنْ أحدٍ يَعرِفُ الابنَ إلاّ الآبُ، ولا أحدٌ يَعرِفُ الآبَ إلاَّ الابنُ ومَن شاءَ الابنُ أنْ يظُهِرَهُ لهُ.
28تَعالَوا إليَّ يا جميعَ المُتعَبـينَ والرّازحينَ تَحتَ أثقالِكُم وأنا أُريحُكُم. 29إحمِلوا نِـيري وتعَلَّموا مِنّي تَجِدوا الرّاحةَ لنُفوسِكُم، فأنا وديعٌ مُتواضعُ القَلْبِ، 30ونِـيري هيَّنٌ وحِمْلي خَفيفٌ".
وأول شىء تلتقطه أعيننا فى هذا الفصل هو ما جرى بين يحيى وعيسى من رسائل: "2وسمِعَ يوحنّا وهوَ في السَّجنِ بأَعمالِ المَسيحِ، فأرسَلَ إلَيهِ بَعضَ تلاميذِهِ 3ليقولوا لَهُ: "هلْ أنتَ هوَ الَّذي يَجيءُ، أو نَنتظرُ آخَرَ؟". 4فأجابَهُم يَسوعُ: "اَرْجِعوا وأخْبِروا يوحنّا بِما تَسمَعونَ وتَرَوْنَ: 5العميانُ يُبصرونَ، والعُرجُ يمشونَ، والبُرصُ يُطهَّرونَ، والصمٌّ يَسمَعونَ، والمَوتى يَقومونَ، والمَساكينُ يَتلقَّونَ البِشارةَ". إن معنى ذلك هو أن يحيى لم يكن يعرف شيئا عن طبيعة السيد المسيح ولا أنه صاحب دعوة رغم قول كاتب الإنجيل إن دوره هو التمهيد لمجىء السيد المسيح. لكن هل نسى أنه هو نفسه قد قال لعيسى بن مريم إنه لا يستحق أن يعمّده بل أن يتعمّد هو على يديه، وأنه كان حاضرا حين نزلت الحمامة إياها، وجلجل فى أرجاء السماوات الصوت إياه قائلا: "هذا هوَ اَبني الحبيبُ الَّذي بهِ رَضِيتُ"؟: "13وجاءَ يَسوعُ مِنَ الجليلِ إلى الأُردنِ ليتَعَمَّدَ على يدِ يوحنّا. 14فمانَعَهُ يوحنّا وقالَ لَه: "أنا أحتاجُ أنْ أَتعمَّدَ على يدِكَ، فكيفَ تَجيءُ أنتَ إليَّ 15فأجابَهُ يَسوعُ: "ليكُنْ هذا الآنَ، لأنَّنا بِه نُــتَمَّمُ مَشيئةَ الله". فَوافَقَهُ يوحنّا. 16وتعمَّدَ يَسوعُ وخَرَجَ في الحالِ مِنَ الماءِ. واَنفَتَحتِ السَّماواتُ لَه، فرأى رُوحَ الله يَهبِطُ كأنَّهُ حَمامَةٌ ويَنزِلُ علَيهِ. 17وقالَ صوتٌ مِنَ السَّماءِ: "هذا هوَ اَبني الحبيبُ الَّذي بهِ رَضِيتُ". أم تراه لم يسمع لأنه كان مشغولا؟ لكن أىّ شغل ذلك الذى منعه من السمع؟ خلاصة القول أنه لا يحيى ولا التلاميذ ولا الذين كان يشفيهم المسيح من المرضى المساكين ولا الذين كانوا يشاهدون تلك الآيات ولا حتى أمه كانوا يعرفون حتى ذلك الحين على الأقل أنه ابن الله! فكيف يريدنا القوم، بعد كل هاتيك القرون، أن نؤمن بشىء لم يكن يعرفه يحيى ولا مريم ولا الحواريون ولا أبناء عصره! ليس ذلك فحسب، فها هو ذا عيسى يقول عن يحيى شهادة خطيرة تنسف كل ادعاء يدعيه المؤلهون له: "الحقَّ أقولُ لكُم: ما ظهَرَ في النّاسِ أعظمُ مِنْ يوحنّا المَعمدانِ". أليست هذه شهادة بأنه ما من أحد يفوق يحيى فى العظمة، بما فى ذلك المسيح نفسه؟ فكيف يكون المسيح إلها أو ابنا له إذن، وهو نفسه يقول إنه لا يَفْضُل يحيى فى شىء؟ يا لها من حيرة ولخبطة! إن كل خطوة نخطوها فى هذا الكتاب إنما نخطوها فوق حقل من الألغام! ثم هل كانت السلطات تمكّن يحيى من الالتقاء بأتباعه بهذه الحرية وتحميلهم الرسائل لمن يريد وتسلم الجواب عنها؟ أمر غريب فعلا!
ومما يحير أيضا قول المسيح عن يحيى إنه لم يكن يأكل أو يشرب. أتراه لم يقرأ إنجيل متى وما جاء فيه من أن يحيى كان يقتات على الجراد والعسل البرى؟ أم إن هذا لا يُعَدّ فى نظره أكلا؟ يذكرنى ذلك برجل فقير عاطل من قريتنا كان يركبه ألف شيطان ويضرب زوجته إذا لم توفر له الشاى واللحم كل يوم ومهما أتت به له من طعام، فإنه لا يرى حينئذ أنه قد أكل. لكنهم لم يقولوا لنا ما أنواع الأكل التى كان عليه السلام يعترف بها طعاما وشرابا؟ السومون فيميه والجاتوه والشاى الأخضر مثلا؟ كذلك يحيرنا قول كاتب الإنجيل، على لسان سيدنا عيسى، إنه عليه السلام كان يشرب الخمر ويسكر، مع أن زيكو "أبا هَرَّة"، حسبما ذكرتُ من قبل، يؤكد أن النصرانية تتشدد فى أمر الخمر: "18جاءَ يوحنّا لا يأكُلُ ولا يَشرَبُ فقالوا: فيهِ شَيطانٌ. 19وجاءَ اَبنُ الإنسانِ يأكُلُ ويَشرَبُ فقالوا: هذا رجُلٌ أكولٌ وسِكّيرٌ وصَديقٌ لِجُباةِ الضَّرائبِ والخاطِئينَ". فليحل لنا القُمّص المنكوح تلك المعضلة إذن، لكن عليه أن يطهّر دبره المنتن أوّلاً لأن مقاربة العلم تستلزم الطهارة، وهو على حاله تلك أنجس النجساء! ومع ذلك فإنى أعترف أن المسيح، صلى الله عليه وسلم، رغم البؤس والكرب اللذين كانا يحيطان به من كل جانب، ورغم أنه كان يأخذ مهمته على أشد ما يكون من الجد والاهتمام ورغم ما كان يغلب عليه من الحزن وضيق الصدر من نفاق اليهود، لم يفقد حِسّه الفكاهى، وإلا فهل كان يمكنه أن يقول: "16بِمَنْ أُشبَّهُ أبناءَ هذا الجِيلِ? هُمْ مِثلُ أولادٍ جالِسينَ في السَّاحاتِ يَتَصايَحُونَ: 17زَمَّرْنا لكُم فما رَقَصْتُم، ونَدَبْنا لكُم فما بكَيتُم. 19وجاءَ اَبنُ الإنسانِ يأكُلُ ويَشرَبُ فقالوا: هذا رجُلٌ أكولٌ وسِكّيرٌ وصَديقٌ لِجُباةِ الضَّرائبِ والخاطِئينَ"؟ وهذا طبعا إن كان قد قاله فعلا!
ومما يحير كذلك فى هذا الفصل قول المسيح فى جوابه على رسالة يحيى عليهما جميعا السلام: "اَرْجِعوا وأخْبِروا يوحنّا بِما تَسمَعونَ وتَرَوْنَ: العميانُ يُبصرونَ، والعُرجُ يمشونَ، والبُرصُ يُطهَّرونَ، والصمٌّ يَسمَعونَ، والمَوتى يَقومونَ، والمَساكينُ يَتلقَّونَ البِشارةَ". والآن أليس هذا يناقض ما كان يأمر به عليه السلام المرضى من التزام الصمت وعدم التلفظ بكلمة واحدة مما أجراه الله على يديه من المعجزات التى شفاهم بها؟ أترك هذه أيضا لزيكو مزازيكو يتسلى بالتفكير فيها ريثما ينتهى من يعتلونه من مهمتهم فيحصل على لونين من اللذة لا على لون واحد، وبسعر لذة واحدة لأننا فى موسم المعارض والأوكوزيونات! ومنه كذلك القول المنسوب للسيد المسيح عليه الصلاة والسلام والذى يقول فيه حسبما زعم كاتب الإنجيل: "اَعلَموا أنَّ يوحنّا هوَ إيليّا المُنتَظرُ". الله أكبر! هل نفهم من هذا أن إيليا قد دخل فم امرأة زكريا وهى نائمة لا تدرى، ومنه إلى بطنها، فتوهمت إليصابات ورجلها أن الله استجاب لدعائهما ووهبهما ولدا من صلبهما؟ والله إن هذا لو كان حدث فإنه لخازوق كبير، لكن فى أى مكان؟ فى دبر زيكو ولا شك! رزقك فى رجليك (أم فى حاجة ثانية؟) يا زيكو! أمك داعية لك!
أما القول التالى المنسوب لعيسى بن مريم: "28تَعالَوا إليَّ يا جميعَ المُتعَبـينَ والرّازحينَ تَحتَ أثقالِكُم وأنا أُريحُكُم. 29إحمِلوا نِـيري وتعَلَّموا مِنّي تَجِدوا الرّاحةَ لنُفوسِكُم، فأنا وديعٌ مُتواضعُ القَلْبِ، 30ونِـيري هيَّنٌ وحِمْلي خَفيفٌ" فما أحوج الإنسانية إليه اليوم حيث غلبت الشهوات وشغلت الناس دنياهم أكثر مما ينبغى ونسوا الأخرى فزادت الهموم والأوجاع وثقلت الحمول، ولا سعادة ولا راحة رغم كل هذا التقدم والإنجازات. لقد جاء كل الأنبياء يشرحون لنا أن الآخرة خير من الأولى، وأن التكالب على إشباع الغرائز ونسيان ما عداها لا يؤدى إلا إلى مزيد من الجوع والعطش والقلق والهم والغم والحرمان من السعادة الحقة. وها هو ذا المسيح عليه السلام يقول المعنى نفسه بطريقته وأسلوبه، فاللهم ساعدنا على أن نحسن السمع والإجابة والعمل بهذا الدعاء الجميل المريح الذى يُفْعِم القلب سكينة واطمئنانا: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد/ 28). إن الدنيا جميلة ولا شك، والله لا يريد أن يحرمنا من طيباتها، هذا صحيح، لكن الدنيا وحدها لا تجلب سعادة. لا بد، إذا أردنا للمقص أن يقص، أن نستخدم شقيه معا، وبالمثل إذا أردنا أن نسعد فلا مفر من العمل للدنيا والآخرة معا: "فمنهم من يقول: ربنا، آتنا فى الدنيا. وما له فى الآخرة من خَلاَق* ومنهم من يقول: ربنا، آتنا فى الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار* أولئك لهم نصيب مما كسبوا، والله سريع الحساب" (البقرة/ 200- 202).
الفصل الثانى عشر:
"السبت.
في تِلكَ الأيّامِ مَرَّ يَسوعُ في السَّبتِ وسْطَ الحُقولِ، فَجاعَ تلاميذُهُ. فأخَذوا يَقطُفونَ السٌّنبُلَ ويأكُلونَ. 2فلمّا رآهُمُ الفَرَّيسيّونَ قالوا لِـيَسوعَ: "أُنظُرْ! تلاميذُكَ يَعمَلونَ ما لا يَحِلُّ في السَّبتِ". 3فأجابَهُم يَسوعُ: "أما قَرأتُمْ ما عَمِلَ داودُ عِندَما جاعَ هوَ ورجالُهُ؟ 4كيفَ دخَلَ بَيتَ الله، وكيفَ أكلُوا خُبزَ القُربانِ، وأكْلُهُ لا يَحِلُّ لهُم، بلْ لِلكهَنَةِ وحدَهُم؟ 5أوَما قَرأتُمْ في شريعةِ موسى أنَّ الكهنَةَ في السَّبتِ يَنتَهِكونَ حُرمَةَ السَّبتِ في الهَيكَلِ ولا لومَ علَيهِم؟ 6أقولُ لكُم: هُنا من هوَ أعظَمُ مِنَ الهَيكَلِ. 7ولو فَهِمتُمْ مَعنى هذِهِ الآيةِ: أُريدُ رَحمَةً لا ذَبـيحَةً، لَما حَكَمتُم على مَنْ لا لَومَ علَيهِ. 8فاَبنُ الإنسانِ هوَ سيَّدُ السَّبتِ".
الشفاء في السبت.
9وذهَبَ مِنْ هُناكَ إلى مَجمَعِهِم، 10فوجَدَ رَجُلاً يدُهُ يابِسةٌ. فسألوهُ ليتَّهِموهُ: "أيحِلُّ الشَّفاءُ في السَّبتِ؟"
11فأجابَهُم يَسوعُ: "مَنْ مِنكُم لَه خَروفٌ واحدٌ ووقَعَ في حُفرَةٍ يومَ السَّبتِ، لا يُمسِكُهُ ويُخرجُهُ؟
12والإنسانُ كم هوَ أفضلُ مِنَ الخَروفِ؟ لذلِكَ يَحِلُّ عمَلُ الخَيرِ في السَّبتِ". 13وقالَ يَسوعُ لِلرَّجُلِ: "مُدَّ يدَكَ!" فمَدَّها، فَعادَتْ صَحيحةً مِثلَ اليَدِ الأُخرى. 14فخَرَجَ الفَرّيسيٌّونَ وتَشاوَروا ليقتُلوا يَسوعَ.
رجل الله المختار.
15فلمّا عَلِمَ يَسوعُ اَنصرفَ مِنْ هُناكَ. وتبِعَهُ جمهورٌ كبـيرٌ، فشفَى جميعَ مَرضاهُم 16وأمَرَهُم أنْ لا يُخبِروا أحدًا عَنهُ، 17ليتِمَّ ما قالَ النَّبـيٌّ إشعيا: 18"ها هوَ فتايَ الَّذي اَخترتُهُ، حبـيبـي الَّذي بِه رَضِيتُ. سأُفيضُ رُوحي علَيهِ، فيُعلِنُ للشٌّعوبِ إرادتي. 19لا يُخاصِمُ ولا يَصيحُ، وفي الشَّوارعِ لا يَسمَعُ أحدٌ صوتَهُ. 20قصَبَةً مَرضوضَةً لا يكسِرُ، وشُعلةً ذابِلَةً لا يُطفئْ. يُثابِرُ حتَّى تَنتَصِرَ إرادَتي، 21وعلى اَسمِهِ رَجاءُ الشٌّعوبِ".
يسوع وبعلزبول.
22وجاءَ بعضُ النّاس إلى يَسوعَ بِرَجُلٍ أعمى أخرَسَ، فيهِ شَيطانٌ. فشفَى يَسوعُ الرَّجُلَ حتى تكلَّمَ وأبصَرَ. 23فتَعَجَّبَ الجُموعُ كُلٌّهُم وتَساءلوا: "أما هذا اَبنُ داودَ؟" 24وسَمِعَ الفَرَّيسيٌّونَ كلامَهُم، فقالوا: "هوَ يَطرُدُ الشَّياطينَ بِبعلِزَبولَ رئيس الشَّياطينَ". 25وعرَفَ يَسوعُ أفكارَهُم، فقالَ لهُم: "كُلُّ مملَكَةٍ تَنقَسِمُ تَخرَبُ، وكُلُّ مدينةٍ أو عائِلةٍ تنقَسِمُ لا تثْبُتُ. 26وإنْ كانَ الشَّيطانُ يَطرُدُ الشَّيطانَ، فيكونَ اَنقَسَمَ. فكيفَ تَثبُتُ مملكَتُهُ؟ 27وإنْ كُنتُ بِبعلِزَبولَ أطرُدُ الشَّياطينَ، فبِمَنْ يَطرُدُهُ أتباعُكُم؟ لذلِكَ همُ يحكُمونَ علَيكُم. 28وأمّا إذا كُنتُ بِرُوحِ الله أطرُدُ الشَّياطينَ، فمَلكوتُ الله حَلَ بَينَكُم. 29كيفَ يقدِرُ أحَدٌ أنْ يَدخُلَ بَيتَ رَجُلٍ قويٍّ ويَسرِقَ أمتِعَتَهُ، إلاّ إذا قَيَّدَ هذا الرَّجُلَ القَويَّ أوَّلاً، ثُمَّ أخَذَ ينهَبُ بَيتَهُ؟
30مَنْ لا يكونُ مَعي فهوَ علَيَّ، ومَنْ لا يَجمعُ مَعي فهوَ يُبدَّدُ. 31لذلِكَ أقولُ لكُم: كُلُّ خَطيئةٍ وتَجْديفٍ يُغْفَرُ لِلنّاسِ، وأمَّ? التَّجديفُ على الرٌّوحِ القُدُسِ فلَنْ يُغفرَ لهُم. 32ومَنْ قالَ كلِمَةً على اَبنِ الإنسانِ يُغفَرُ لَه، وأمّا مَنْ قالَ على الرٌّوحِ القُدُسِ، فلن يُغفَرَ لَه، لا في هذِهِ الدٌّنيا ولا في الآخِرَةِ.
الشجرة وثمرها.
33"إجعَلوا الشَّجرَةَ جيَّدةً تحمِلُ ثمرًا جيَّدًا. واَجعَلوا الشَّجرَةَ رديئةً تَحمِلُ ثَمَرًا رديئًا. فالشَّجرَةُ يَدلُّ علَيها ثَمَرُها. 34يا أولادَ الأفاعي، كيفَ يُمكِنُكُم أنْ تقولوا كلامًا صالِحًا وأنتُم أشرارٌ؟ لأنَّ مِنْ فَيضِ القلبِ يَنطِقُ اللَّسانُ. 35الإنسانُ الصّالِـحُ مِنْ كنزِهِ الصّالِـحِ يُخرِجُ ما هوَ صالِـحٌ، والإنسانُ الشَّرّيرُ مِنْ كنزِهِ الشَّرَّيرِ يُخرِجُ ما هوَ شرَّيرٌ.
36أقولُ لكُم: كُلُّ كَلِمَةٍ فارِغَةٍ يقولُها النّاسُ يُحاسَبونَ علَيها يومَ الدَّينِ. 37لأنَّكَ بكلامِكَ تُبرَّرُ وبِكلامِكَ تُدانُ".
الفريسيون يطلبون آية.
38وقالَ لَه بعضُ مُعلَّمي الشَّريعَةِ والفَرّيسيـّينَ: "يا مُعلَّمُ، نُريدُ أنْ نرى مِنكَ آيَةً". 39فأجابَهُم: "جِيلٌ شرّيرٌ فاسِقٌ يَطلُبُ آيةً، ولن يكونَ لَه سِوى آيةِ النبـيَّ يونانَ. 40فكما بَقِـيَ يونانُ ثلاثَةَ أيّـامِ بِلَياليها في بَطنِ الحُوتِ، كذلِكَ يَبقى اَبنُ الإنسانِ ثلاثَةَ أيّامِ بلَياليها في جوفِ الأرضِ. 41أهلُ نينَوى سَيَقومونَ يومَ الحِسابِ معَ هذا الجِيلِ ويَحكمونَ علَيهِ، لأنَّ أهلَ نينَوى تابوا عِندَما سَمِعوا إنذارَ يونانَ، وهُنا الآنَ أَعظمُ مِنْ يونانَ. 42ومَلِكَةُ الجَنوبِ سَتَقومُ يومَ الحِسابِ معَ هذا الجِيلِ وتحكُمُ علَيهِ، لأنَّها جاءَتْ مِنْ أقاصي الأرضِ لتسمَعَ حِكمَةَ سُليمانَ، وهُنا الآنَ أعظمُ مِنْ سُليمانَ.
عودة الروح النجس.
43"إذا خرَجَ الرّوحُ النَّجِسُ مِنْ إنسانٍ، هامَ في الصَّحارى يَطلُبُ الرَّاحَةَ فلا يَجِدُها، 44فيقولُ: أرجِــعُ إلى بَيتي الَّذي خرَجتُ مِنهُ. فيَرجِــعُ ويَجدُهُ خاليًا نَظيفًا مُرتَّبًا. 45فيَذهَبُ ويَجيءُ بسبعَةِ أرواحِ أخبثَ مِنهُ، فتدخُلُ وتَسكُنُ فيهِ. فتكونُ حالُ ذلِكَ الإنسانِ في آخِرها أسْوأَ مِنْ حالِهِ في أوَّلِها. وهكذا يكونُ مَصيرُ هذا الجِيلِ الشَّرّيرِ".
أم يسوع وإخوته.
46وبَينَما يَسوعُ يُكلَّمُ الجُموعَ، جاءَتْ أمٌّهُ وإخوَتُهُ ووقَفوا في خارِجِ الدّارِ يَطلُبونَ أن يُكلَّموهُ. 47فقالَ لَه أحَدُ الحاضِرينَ: "أُمٌّكَ وإخوتُكَ واقفونَ في خارجِ الدّارِ يُريدونَ أنْ يُكلَّموكَ".
48فأجابَهُ يَسوعُ: "مَنْ هيَ أُمّي، ومَنْ هُمْ إخْوَتي؟" 49وأشارَ بـيدِهِ إلى تلاميذِهِ وقالَ: "هؤُلاءِ هُمْ أُمّي وإخوَتي. 50لأنَّ مَنْ يعمَلُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ هوَ أخي وأُختي وأُمّي".
لو أغضينا البصر عن اجتياح الجماعة للحقل وأكلهم من سنابله دون إذن من صاحبه، وهى النتيجة الحتمية للدعوة الغريبة إلى تطليق الدنيا وعدم التفكير فى أمور المعيشة وترك العمل على أساس أن هناك ربا يدبر الرزق، فلا تشغل نفسك فى شىء منه، مما يدل على أننا لا نستطيع الاستغناء عن الدنيا فى الواقع مهما فعلنا، وأننا إن طردناها من الباب عادت بكل عنفوانها من الشباك لأنها فى دمنا وفى خلايا أجسادنا، ولا مناص منها، فهى إذن تسكننا قبل أن نسكنها، أقول: لو أغضينا البصر عن اجتياح الجماعة للحقل وأكلهم من سنابله دون إذن من صاحبه، فإننا لا نملك إلا أن نهتف إعجابا بهجوم السيد المسيح على الحَرْفيين المتزمتين فى أمور الدين الذين يظنون أن الله خلق الإنسان فى خدمة النص لا أنه سبحانه وتعالى قد أنزل الأديان فى خدمة العباد وتحقيق راحة بالهم. وهذا الصنف من الناس موجودون داخل كل دين، ولدينا من يقيم الدنيا ويقعدها لإقناع الناس بأن صوت المرأة عورة، ويا ويل من تنفر شعرة واحدة فى رأسها من تحت الخمار مثلا. وفى أيام المسيح (وما زال الأمر كذلك حتى الآن) كان هناك يهود يحرصون أشد الحرص على مطابقة التعاليم الشكلية حتى لو أدى ذلك إلى ضياع جوهر النص: فالعمل مثلا يوم السبت حرام حتى لو كان إجراءَ عملية لمريض مهدد بالموت إن لم يسارع الطبيب لإجرائها. وقد سمعت بعضهم عندنا منذ سنوات ينادى بأن على الطبيب ألا تفوته الصلاة فى موعدها حتى لو كان يجرى عملية جراحية خطيرة، بل يجب أن يترك العملية فى وسطها ويهبّ للصلاة، فالصلاة أهم من كل شىء. لذلك علقت قائلا: ولهذا فإن الرجل يذهب لأمريكا إذا أراد أن يجرى عملية جراحية لأنهم هناك لا يصلون، ومن ثم لن يتركوه يفطس ويذهبوا للصلاة! لكنى لا أقصد أن الدين جوهر فقط، بل هو شكل وجوهر، بيد أن الاهتمام المغالى بالشكليات على حساب الغايات العليا للدين من شأنه أن يفرغ الدين من مضمونه ويحوله جثة هامدة بلا روح!
وفى الإسلام أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الله يحب أن تُؤْتَى رخصه كما يحب أن تُؤْتَى عزائمه، وأنه سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعا، وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها. كذلك يقول سبحانه وتعالى: "يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر" (البقرة/ 185)، ويقول جل جلاله: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم" (الحج/ 37). أوليس يشبه هذا ما رُوِىَ هنا عن السيد المسيح عليه السلام: "6أقولُ لكُم: هُنا من هوَ أعظَمُ مِنَ الهَيكَلِ. 7ولو فَهِمتُمْ مَعنى هذِهِ الآيةِ: أُريدُ رَحمَةً لا ذَبـيحَةً، لَما حَكَمتُم على مَنْ لا لَومَ علَيهِ. 8فاَبنُ الإنسانِ هوَ سيَّدُ السَّبتِ"؟ ولقد أفاض، ولا يزال يُفِيضُ، أوغاد المستشرقين وأوباش المبشرين فى الكلام مثلا عن السَّرِيّة المسلمة فى عهد الرسول التى هاجمت المشركين القتلة المجرمين فى الشهر الحرام، مع أن القرآن قد حسمها بنفس المنطق الذى حسم به المسيح مسألة السبت: "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ " (البقرة/ 194)، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" (البقرة/ 217).
أما نَهْى المسيح للمرضى الذين شفاهم عن أن يفتحوا فمهم بكلمة عما حدث فهو غريب بعد أن رأيناه يطلب بنفسه من أتباع يحيى عليه السلام إبلاغه بالمعجزات التى تمت على يديه، وهو ما يحتار الإنسان معه ولا يدرى: أيهما الصواب؟ نفتح الشباك أم نغلق الشباك؟ اُرْسُوا يا عالَم على بَرّ! ثم عندنا النبوءة الإشَعْيَاوِيّة التى يؤولها القوم كالعادة كى تنطبق على السيد المسيح ("الله" أو "ابن الله" طبقا لمزاعمهم) عبثا وبالقوة: "18ها هوَ فتايَ الَّذي اَخترتُهُ، حبـيبـي الَّذي بِه رَضِيتُ. سأُفيضُ رُوحي علَيهِ، فيُعلِنُ للشٌّعوبِ إرادتي. 19لا يُخاصِمُ ولا يَصيحُ، وفي الشَّوارعِ لا يَسمَعُ أحدٌ صوتَهُ. 20قصَبَةً مَرضوضَةً لا يكسِرُ، وشُعلةً ذابِلَةً لا يُطفئْ. يُثابِرُ حتَّى تَنتَصِرَ إرادَتي، 21وعلى اَسمِهِ رَجاءُ الشٌّعوبِ". ترى هل كان عيسى بن مريم لا يخاصم ولا يصيح؟ فمن الذى كان يدمدم باللعنات على الفريسيين والصدوقيين وعلى كورزين وبيت صيدا وكفر ناحوم؟ ومن الذى كان يتهم هذا بالمراءاة، وذاك بالكفر، ويصف هؤلاء بأنهم"أولاد الأفاعى"، وأولئك بأنهم "الجيل الشرير الفاسق"؟ ومن الذى كان ينادى تلاميذه بــ"يا قليلى الإيمان"؟ ومن الذى قال إنه لم يجئ ليلقى سلاما بل سيفا حتى يقوم الناس بل أفراد البيت الواحد على بعضهم البعض وتتمزق الروابط الأسرية؟ ومن الذى اقتحم المعبد فى أورشليم وساط الباعة هناك وقلب موائد الصيارفة وسبَّهم سبًّا شنيعًا؟ ومن الذى نهر منبّهه إلى رغبة أمه وإخوته فى رؤيته وقال مستنكرا فى خشونة عارية: من أمى؟ من إخوتى؟ إن أمى وأخوتى هم من يعملون بما يريده الله، بما يدل على أنه لا يراهم ممن يطيعون مشيئة ربه؟ ولست أريد أن أتهمه عليه السلام بشىء، بل كل ما هنالك أننى ألفت النظر إلى أن ما تقوله الأناجيل ينبغى أن يُتَلَقَّى بغاية الحذر والاحتراس، لأنها من صنع بشر ذوى أهواء يفتقرون للضبط!
ومرة أخرى نرجع لسفر "إشعيا" لنرى بأنفسنا ماذا فيه: "1 هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرّت به نفسي . وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم . 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته . 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ . الى الامان يخرج الحق . 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته 5 هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الارض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا . 6 انا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للامم 7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة 8 انا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات . 9 هو ذا الاوليات قد اتت والحديثات انا مخبر بها . قبل ان تنبت اعلمكم بها . 10 غنوا للرب اغنية جديدة تسبيحه من اقصى الارض . ايها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها . 11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار. لتترنم سكان سالع . من رؤوس الجبال ليهتفوا. 12 ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر . 13 الرب كالجبار يخرج . كرجل حروب ينهض غيرته . يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه 14 قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت . كالوالدة اصيح . انفخ وانخر معا 15 اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام 16 واسير العمي في طريق لم يعرفوها . في مسالك لم يدروها امشيهم. اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم . 17 قد ارتدوا الى الوراء . يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتنّ آلهتنا 18 ايها الصم اسمعوا . ايها العمي انظروا لتبصروا . 19 من هو اعمى الا عبدي واصم كرسولي الذي أرسله. من هو اعمى كالكامل واعمى كعبد الرب . 20 ناظر كثيرا ولا تلاحظ. مفتوح الاذنين ولا يسمع . 21 الرب قد سرّ من اجل بره . يعظّم الشريعة ويكرمها . 22 ولكنه شعب منهوب ومسلوب قد اصطيد في الحفر كله وفي بيوت الحبوس اختبأوا . صاروا نهبا ولا منقذ وسلبا وليس من يقول رد 23 من منكم يسمع هذا . يصغى ويسمع لما بعد . 24 من دفع يعقوب الى السلب واسرائيل الى الناهبين . أليس الرب الذي اخطأنا اليه ولم يشاءوا ان يسلكوا في طرقه ولم يسمعوا لشريعته . 25 فسكب عليه حمو غضبه وشدة الحرب فاوقدته من كل ناحية ولم يعرفوا حرقته ولم يضع في قلبه" (إشعيا/ 42).
ويرى القارئ بنفسه أن النص فى : "إشعيا" يقول: "عبدى"، لكن مَتَّى يقول: "فتاى"، وطبعا سوف يذهب الذهن إلى أن المقصود بكلمة "فتاى" هو أن المسيح "ابنُ الله" سبحانه وتعالى عن أن يكون له ولد. وعلى هذا فإما أن نقول إن الكلام هنا عن المسيح، لكن لا بد أن نضيف أن الله يسميه: "عبدى"، وإما أن نقول إن الكلام لا علاقة له بالمسيح، وهو ما أراه. لماذا؟ لقد رأينا أن الوصف الأول الذى وُصِف به الشخص المذكور فى "إشعيا" لا يصدق على السيد المسيح، وهذه الملاحظة تنطبق على بقية الأوصاف: فالكلام فى "إشعيا" يذكر أن له شريعة، وهذا منافٍ لحقيقة دعوة المسيح، إذ إنه عليه السلام لم يأت بأية شريعة، بل تقول الأناجيل إنه قد ألغى معظم شريعة موسى، ثم جاء بولس فألغى الباقى. كذلك يذكر النص أنه كان يحكم بالحق (أو "بالعدل" كما فى ترجمة جمعية الكتاب المقدس بلبنان)، ولم يكن المسيح يوما حاكما، بل لقد قال فى حسم إن مملكته ليست من هذا العالم. كما أنه حين أتاه اليهود بامرأة زانية لم يصدر بشأنها حكما. ومن هنا فإن قول السِّفْر المذكور إنه "لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته" لا يمكن أن يكون المقصود به عيسى عليه السلام. ثم إن الله قد تكفل بحفظ عبده هذا، بينما النصارى يقولون إن المسيح قد صُلِب وقُتِل لأن الله إنما أرسله للعالم لكى يُصْلَب ويُقْتَل. وأخيرا وليس آخرا فإن النص يتحدث عن بنى إسرائيل وكيف أن الله عاقبها على نشوفة دماغها وتصلب رقابها ويريد الآن أن يُقِيلها من عثرتها على يد الشخص الذى يتحدث عنه النص. وهو ما لا ينطبق على المسيح، فإن بنى إسرائيل لم يؤمنوا به، ولا نهضوا على يديه من كبوتهم التى عاقبهم الله عليها، بل صلبوه وقتلوه طبقا لرواية الأناجيل التى بين أيدينا. والآن ألا يرى القارئ معى أن تفسير النصارى لنبوءات العهد القديم هو من الركاكة العقلية بحيث لا تستحق أن نوليها اهتمامنا البتة؟ وهذا خازوق جديد نُهْدِيه لزيكو، وعليه أن يستعد لاستقباله فى الموضع الملائم من مؤخرته النتنة مثله!
ومرة أخرى نسمع الناس الذين شفاهم المسيح عليه السلام يقولون عنه إعجابا بما صنع من معجزات الشفاء: "أمَا هذا ابن داود؟"، ولم يقولوا: "أمَا هذا ابن الله؟". أى أن الناس لم يكونوا يعرفونه إلا على أنه بشر، وليس ابن الله! ومن؟ إنهم الذين كانوا ينبغى أن يكونوا أول مؤلهيه لو كانت المعجزات التى تمت على يديه دليلا على ألوهيته كما يقول الرقيع المسكوع زيكو الملسوع! ثم ها هو ذا يقول بنفسه: "مَنْ قالَ كلِمَةً على اَبنِ الإنسانِ يُغفَرُ لَه، وأمّا مَنْ قالَ على الرٌّوحِ القُدُسِ، فلن يُغفَرَ لَه، لا في هذِهِ الدٌّنيا ولا في الآخِرَةِ"، وهو دليل قاطع على أنه يميز بين "ابن الإنسان" (أى المسيح) والروح القدس واضعا نفسه فى مرتبة أقل كثيرا من الروح القدس بما لا يقاس، بما يعنى أنه ليس إلا بشرا كسائر البشر.
ثم إلى النص الغريب من كل الوجوه: غريب لأن المسيح يبدو لنا فيه ابنًا عاقًّا لا يستجيب لما تريده أمه رغم أنها لا تأمره بمعصية. وغريب لأننا نسمع المسيح يقول فى حق أمه وإخوته كلاما جافيا خشنا، وليست هكذا صورة المسيح التى يحرص النصارى على رسمها له صلى الله عليه وسلم رغم أن ما كتبه عنه مؤلفو الأناجيل لا يتناسب معها. وغريب لأن معنى كلامه عن أمه وإخوته هو أنهم لم يكونوا من المؤمنين بدعوته ولا من المطيعين لأوامر الله ونواهيه، أو بتعبيره: لم يكونوا يعملون بمشيئة أبيه الذى فى السماء، بخلاف تلاميذه، الذين وصفهم بأنهم أمه وإخوته الحقيقيون! وغريب كذلك لأنه أوقع الكذاب فى الفخ، إذ يشاء الله أن يُعْمِىَ أبصار كتاب الأناجيل فلا يتنبهوا لشُنْع ما لفقت أيديهم ولا يحذفوه من ثم: "46وبَينَما يَسوعُ يُكلَّمُ الجُموعَ، جاءَتْ أمٌّهُ وإخوَتُهُ ووقَفوا في خارِجِ الدّارِ يَطلُبونَ أن يُكلَّموهُ. 47فقالَ لَه أحَدُ الحاضِرينَ: "أُمٌّكَ وإخوتُكَ واقفونَ في خارجِ الدّارِ يُريدونَ أنْ يُكلَّموكَ".48فأجابَهُ يَسوعُ: "مَنْ هيَ أُمّي، ومَنْ هُمْ إخْوَتي؟" 49وأشارَ بـيدِهِ إلى تلاميذِهِ وقالَ: "هؤُلاءِ هُمْ أُمّي وإخوَتي. 50لأنَّ مَنْ يعمَلُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ هوَ أخي وأُختي وأُمّي". ثم بعد ذلك لا يستحى القوم فيسمّون السيدة مريم: أم الإله! على أية حال كان ينبغى أن يرى السيد المسيح ماذا تريد منه أمه وإخوته حتى لو لم يكونوا يؤمنون بدعوته (وهو ما لا أظنه أبدا)، فلا شك أن بِرّ الوالدين وصلة الرحم مطلوبة حتى مع أقارب الإنسان الكفار ما داموا لا يُكْرِهونه على الشرك ولا يطالبونه به. وإذا لم يُرَاعِ السيد المسيح هذا، وهو الرسول الكريم الذى اختاره الله وصنعه على عينه كبقية رسله الكرام، فمن يا ترى يراعيه غيره؟
الفصل الثالث عشر:
"مثل الزارع.
وخرَجَ يَسوعُ مِنَ الدّارِ في ذلِكَ اليومِ وجلَسَ بجانبِ البحرِ. 2فاَزدحَمَ علَيهِ جَمْعٌ كبـيرٌ، حتّى إنَّهُ صَعِدَ إلى قارِبٍ وجلَسَ فيهِ، والجَمعُ كُلٌّهُ على الشَّاطئِ، 3فكلَّمَهُم بأمثالٍ على أُمورٍ كثيرةٍ قالَ: "خرَجَ الزّارِعُ ليزرَعَ. 4وبَينَما هوَ يَزرَعُ، وقَعَ بَعضُ الحَبَّ على جانِبِ الطَّريقِ، فجاءَتِ الطٌّيورُ وأكَلَتْهُ. 5ووقَعَ بَعضُهُ على أرضٍ صَخْريَّةٍ قليلةِ التٌّرابِ، فنَبَتَ في الحالِ لأنَّ تُرابَهُ كانَ بِلا عُمقٍ. 6فلمَّا أشرَقَتِ الشَّمسُ اَحتَرَقَ وكانَ بِلا جُذورٍ فيَبِسَ. 7ووقَعَ بعضُهُ على الشَّوكِ، فطَلَعَ الشٌّوكُ وخَنقَهُ. 8ومِنهُ ما وقَعَ على أرضٍ طيَّبةٍ، فأعطى بَعضُهُ مِئةً، وبَعضُهُ سِتَّينَ، وبَعضُهُ ثلاثينَ. 9مَنْ كانَ لَه أُذنانِ، فلْيَسمَعْ!"
الغاية من الأمثال.
10فدَنا مِنهُ تلاميذُهُ وقالوا لَه: "لِماذا تُخاطِبُهُم بالأمثالِ؟" 11فأجابَهُم: "أنتُمُ أُعطيتُم أنْ تعرِفوا أسرارَ مَلكوتِ السَّماواتِ، وأمّا هُم فما أُعطُوا. 12لأنَّ مَنْ كانَ لَه شيءٌ، يُزادُ فيَفيضُ. ومَنْ لا شيءَ لَه، يُؤخَذُ مِنهُ حتى الَّذي لَه. 13وأنا أُخاطِبُهُم بالأمثالِ لأنَّهُم يَنظُرونَ فلا يُبصِرونَ، ويُصغونَ فلا يَسمَعونَ ولا يَفهَمونَ. 14ففيهِم تَتِمٌّ نُبوءةُ إشَعْيا: "مَهما سَمِعتُم لا تَفهَمونَ، ومَهما نَظَرْتُم لا تُبصِرونَ. 15لأنَّ هذا الشَّعبَ تحَجَّرَ قلبُهُ، فسَدٌّوا آذانَهُم وأغْمَضوا عُيونَهُم، لِـئلاَّ يُبصِروا بِعُيونِهِم ويَسمَعوا بآذانِهِم ويَفهَموا بِقُلوبِهِم ويَتوبوا فأَشفيَهُم". 16وأمّا أنتُمْ فهَنيئًا لكُم لأنَّ عيونَكُم تُبصِرُ وآذانَكُم تَسمَعُ. 17الحقَّ أقولُ لكُم: كثيرٌ مِنَ الأنبـياءِ والأبرارِ تَمنَّوا أنْ يَرَوْا ما أنتمُ تَرَونَ فَما رأوا، وأنْ يَسمَعوا ما أنتُم تَسمَعونَ فما سَمِعوا.
تفسير مثل الزارع.
18"فاَسمَعوا أنتُم مَغْزى مَثَلِ الزّارعِ: 19مَنْ يَسمَعُ كلامَ المَلكوتِ ولا يَفهَمُهُ، فهوَ المَزروعُ في جانبِ الطَّريقِ، فيجيءُ الشَّرّيرُ ويَنتَزِ.عُ ما هوَ مَزروعٌ في قلبِهِ. 20ومَنْ يَسمَعُ كلامَ المَلكوتِ ويتَقَبَّلُهُ في الحالِ فَرِحًا، فهوَ المَزروعُ في أرضٍ صخريَّةٍ: 21لا جُذورَ لَه في نَفسِهِ، فيكونُ إلى حينٍ. فإذا حدَثَ ضِيقٌ أوِ اَضطهادٌ مِنْ أجلِ كلامِ المَلكوتِ، اَرتدَّ عَنهُ في الحالِ. 22ومَنْ يَسمَعُ كلامَ المَلكوتِ ولا يُعطي ثَمرًا فهوَ المَزروعُ في الشَّوكِ: لَه مِنْ هُمومِ هذِهِ الدٌّنيا ومَحبَّةِ الغِنى ما يَخنُقُ الثّمرَ فيهِ. 23وأمّا مَنْ يَسمعُ كلامَ المَلكوتِ ويفهَمُهُ، فهوَ المَزروعُ في الأرضِ الطيَّبةِ، فيُثمِرُ ويُعطي بَعضُهُ مِئةً، وبعضُهُ سِتَّينَ، وبعضُهُ ثلاثينَ".
مثل الزؤان.
24وقَدَّمَ لهُم يَسوعُ مَثلاً آخرَ، قالَ: "يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ رَجُلاً زرَعَ زَرْعًا جيَّدًا في حقلِهِ. 25وبَينَما النَّاسُ نِـيامٌ، جاءَ عَدوٌّهُ وزَرعَ بَينَ القَمحِ زؤانًا ومضى. 26فلمّا طلَعَ النَّباتُ وأخرَجَ سُنبلَه، ظهَرَ الزؤانُ معَهُ. 27فجاءَ خدَمُ صاحِبِ الحَقلِ وقالوا لَه: "يا سيَّدُ أنتَ زَرَعْتَ زَرعًا جيَّدًا في حَقلِكَ، فمِنْ أينَ جاءَهُ الزؤانُ؟" 28فأجابَهُم: "عَدوٌّ فعَلَ هذا". فقالوا لَه: "أتُريدُ أنْ نَذهَبَ لِنَجمَعَ الزؤانَ؟" 29فأجابَ: "لا، لِـئلاَّ تَقلَعوا القَمحَ وأنتُم تَجمعونَ الزؤانَ. 30فاَترُكوا القَمحَ يَنمو معَ الزؤانِ إلى يومِ الحَصادِ، فأقولُ للحَصَّادينَ: اَجمَعوا الزؤانَ أوَّلاً واَحزِموهُ حِزَمًا لِـيُحرَق، وأمّا القمحُ فاَجمعوهُ إلى مَخزَني".
مثل حبة الخردل.
31وقدَّمَ لهُم مَثلاً آخرَ، قالَ: "يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ حبَّةً مِن خَردلٍ أخذَها رَجُلٌ وزَرَعَها في حَقلِهِ. 32هيَ أصغرُ الحبوبِ كُلَّها، ولكِنَّها إذا نَمَتْ كانَت أكبَرَ البُقولِ، بل صارَتْ شجَرَةً، حتَّى إنَّ طُيورَ السَّماءِ تَجيءُ وتُعشَّشُ في أغصانِها".
مثل الخميرة.
33وقالَ لهُم هذا المَثَلَ: "يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ خَميرةً أخذَتْها اَمرأةٌ ووَضَعَتْها في ثلاثةِ أكيالٍ مِنَ الدَّقيقِ حتى اَختَمرَ العَجينُ كُلٌّهُ".
يسوع والأمثال.
34هذا كلٌّهُ قالَه يَسوعُ للجُموعِ بالأمثالِ. وكانَ لا يُخاطِبُهُم إلاَّ بأمثالٍ. 35فتَمَّ ما قالَ النبـيٌّ: "بالأمثالِ أنطِقُ، فأُعلِنُ ما كانَ خفيُا مُنذُ إنشاءِ العالَمِ".
تفسير مثل الزؤان.
36وترَكَ يَسوعُ الجُموعَ ودخَلَ إلى البَيتِ، فجاءَ إليهِ تلاميذُهُ وقالوا لَه: "فَسَّرْ لنا مثَلَ زؤانِ الحَقلِ". 37فأجابَهُم: "الَّذي زَرعَ زَرْعًا جيَّدًا هوَ اَبنُ الإنسانِ، 38والحَقلُ هوَ العالَمُ، والزَّرعُ الجيَّدُ هوَ أبناءُ المَلكوتِ، والزؤانُ هوَ أبناءُ الشَّرّيرِ، 39والعدوٌّ الذي زرَعَ الزؤانَ هوَ إبليسُ، والحَصادُ هوَ نِهايةُ العالَمِ، والحصَّادونَ هُم الملائِكةُ. 40وكما يجمَعُ الزّارعُ الزؤانَ ويَحرِقُهُ في النّارِ، فكذلِكَ يكونُ في نِهايَةِ العالَمِ: 41يُرسِلُ اَبنُ الإنسانِ ملائِكتَهُ، فيَجْمعونَ مِنْ مَلكوتِهِ كُلَ المُفسِدينَ والأشرارِ 42ويَرمونَهُم في أتونِ النّارِ، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ. 43وأمّا الأبرارُ، فيُشرِقونَ كالشَّمسِ في مَلكوتِ أبـيهِم. مَنْ كانَ لَه أُذُنانِ، فلْيَسمَعْ!
مثل الكنز واللؤلؤة والشبكة.
44"ويُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ كَنزًا مدفونًا في حَقلٍ، وجَدَهُ رجُلٌ فَخبّأهُ، ومِنْ فرَحِهِ مَضى فباعَ كُلَ ما يَملِكُ واَشتَرى ذلِكَ الحَقلَ.
45ويُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ تاجِرًا كانَ يبحَثُ عَنْ لُؤلُؤ ثَمينٍ. 46فلمّا وجَدَ لُؤلُؤةً ثَمينَةً، مضى وباعَ كُلَ ما يَملِكُ واَشتَراها.
47ويُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ شبكَةً ألقاها الصَيّادونَ في البحرِ، فجَمَعتْ سَمكًا مِنْ كُلٌ نوعِ. 48فلمّا اَمتَلأتْ أخرَجَها الصَيَّادونَ إلى الشّاطئ، فوَضَعوا السَّمكَ الجيَّدَ في سِلالِهِم ورَمَوا الرّديءَ. 49وهكذا يكونُ في نِهايَةِ العالَمِ: يَجيءُ الملائِكةُ، ويَنتَقونَ الأشرارَ مِنْ بَينِ الصّالِحينَ 50ويَرمونَهُم في أتّونِ النّارِ. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ".
الجديد والقديم.
51وسألَ يَسوعُ تلاميذَهُ: "أفَهِمتُم هذا كُلَّهُ؟" فأجابوهُ: "نعم". 52فقالَ لهُم: "إذًا، كُلُّ مَنْ صارَ مِنْ مُعَلَّمي الشَّريعةِ تلميذًا في مَلكوتِ السَّماواتِ، يُشبِهُ ربَّ بَيتٍ يُخرِجُ مِنْ كنزِهِ كُلَ جديدٍ وقَديمِ".
الناصرة ترفض يسوع.
53ولمّا أتَمَّ يَسوعُ هذِهِ الأمثالَ، ذهَبَ مِنْ هُناكَ_ 54وعادَ إلى بلَدِهِ، وأخَذَ يُعلَّمُ في مَجمَعِهِم، فتَعَجَّبوا وتَساءَلوا: "مِنْ أينَ لَه هذِهِ الحِكمةُ وتِلْكَ المُعْجزاتُ؟ 55أما هوَ اَبنُ النجّارِ؟ أُمٌّهُ تُدعى مَريمَ، وإِخوتُهُ يَعقوبَ ويوسفَ وسِمْعانَ ويَهوذا؟ 56أما جميعُ أخَواتِهِ عِندَنا؟ فمِنْ أينَ لَه كُلُّ هذا؟" 57ورَفَضوهُ.
فقالَ لهُم يَسوعُ: "لا نبـيَّ بِلا كرامةٍ إلاّ في وَطَنِهِ وبَيتِهِ". 58وما صنَعَ هُناكَ كثيرًا مِنَ المُعجِزاتِ لِعَدَمِ إيمانِهِم به"ِ.
فى هذا الفصل يسوق متى عددا من الأمثال التى ضربها السيد المسيح لتوضيح ما يريد أن يبلغه للجموع، وفى القرآن والأحاديث أيضا أمثال كثيرة وضعت فيها كتب ودراسات. ومن الطبيعى أن يلجأ الأنبياء إلى هذه الوسيلة لنجاعتها فى توضيح المعنى وإبرازه وحفره فى القلب بحروف من نور، وكذلك لما فى الأمثال من متعة فنية بما تتميز به من ألوان وتصاوير حية يفتقدها الكلام المجرد البارد. وما أجمل الأمثال التى أُثِرَتْ عن المسيح وأشدّ علوقها بالنفس وأفعل تأثيرها فيها، ومنها مثل الزارع والحب الذى مر بنا: "خرَجَ الزّارِعُ ليزرَعَ. 4وبَينَما هوَ يَزرَعُ، وقَعَ بَعضُ الحَبَّ على جانِبِ الطَّريقِ، فجاءَتِ الطٌّيورُ وأكَلَتْهُ. 5ووقَعَ بَعضُهُ على أرضٍ صَخْريَّةٍ قليلةِ التٌّرابِ، فنَبَتَ في الحالِ لأنَّ تُرابَهُ كانَ بِلا عُمقٍ. 6فلمَّا أشرَقَتِ الشَّمسُ اَحتَرَقَ وكانَ بِلا جُذورٍ فيَبِسَ. 7ووقَعَ بعضُهُ على الشَّوكِ، فطَلَعَ الشٌّوكُ وخَنقَهُ. 8ومِنهُ ما وقَعَ على أرضٍ طيَّبةٍ، فأعطى بَعضُهُ مِئةً، وبَعضُهُ سِتَّينَ، وبَعضُهُ ثلاثينَ"، والذى فسره عليه السلام على النحو التالى: 19مَنْ يَسمَعُ كلامَ المَلكوتِ ولا يَفهَمُهُ، فهوَ المَزروعُ في جانبِ الطَّريقِ، فيجيءُ الشَّرّيرُ ويَنتَزِعُ ما هوَ مَزروعٌ في قلبِهِ. 20ومَنْ يَسمَعُ كلامَ المَلكوتِ ويتَقَبَّلُهُ في الحالِ فَرِحًا، فهوَ المَزروعُ في أرضٍ صخريَّةٍ: 21لا جُذورَ لَه في نَفسِهِ، فيكونُ إلى حينٍ. فإذا حدَثَ ضِيقٌ أوِ اَضطهادٌ مِنْ أجلِ كلامِ المَلكوتِ، اَرتدَّ عَنهُ في الحالِ. 22ومَنْ يَسمَعُ كلامَ المَلكوتِ ولا يُعطي ثَمرًا فهوَ المَزروعُ في الشَّوكِ: لَه مِنْ هُمومِ هذِهِ الدٌّنيا ومَحبَّةِ الغِنى ما يَخنُقُ الثّمرَ فيهِ. 23وأمّا مَنْ يَسمعُ كلامَ المَلكوتِ ويفهَمُهُ، فهوَ المَزروعُ في الأرضِ الطيَّبةِ، فيُثمِرُ ويُعطي بَعضُهُ مِئةً، وبعضُهُ سِتَّينَ، وبعضُهُ ثلاثينَ". كلام يدخل القلب لأنه من النبع السامق الكريم لا الكلام الشِّرْكِىّ الذى يزعم أنه، عليه السلام، هو الله أو ابن الله! تعالى الله عن تلك السخافات المتخلفة!
ومن أمثال القرآن المجيد قوله تعالى من سورة "البقرة": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)"، وقوله من سورة "الأعراف": "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)"، وقوله تعالى من سورة "النور": "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)"، وقوله من سورة "محمد": "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)".
اما المثل الثانى الذى يُنْسَب هنا إلى المسيح فهو يحتاج لوقفة: لقد فسره، عليه السلام، على النحو التالى: "36وترَكَ يَسوعُ الجُموعَ ودخَلَ إلى البَيتِ، فجاءَ إليهِ تلاميذُهُ وقالوا لَه: "فَسَّرْ لنا مثَلَ زؤانِ الحَقلِ". 37فأجابَهُم: "الَّذي زَرعَ زَرْعًا جيَّدًا هوَ اَبنُ الإنسانِ، 38والحَقلُ هوَ العالَمُ، والزَّرعُ الجيَّدُ هوَ أبناءُ المَلكوتِ، والزؤانُ هوَ أبناءُ الشَّرّيرِ، 39والعدوٌّ الذي زرَعَ الزؤانَ هوَ إبليسُ، والحَصادُ هوَ نِهايةُ العالَمِ، والحصَّادونَ هُم الملائِكةُ. 40وكما يجمَعُ الزّارعُ الزؤانَ ويَحرِقُهُ في النّارِ، فكذلِكَ يكونُ في نِهايَةِ العالَمِ: 41يُرسِلُ اَبنُ الإنسانِ ملائِكتَهُ، فيَجْمعونَ مِنْ مَلكوتِهِ كُلَ المُفسِدينَ والأشرارِ 42ويَرمونَهُم في أتونِ النّارِ، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ. 43وأمّا الأبرارُ، فيُشرِقونَ كالشَّمسِ في مَلكوتِ أبـيهِم. مَنْ كانَ لَه أُذُنانِ، فلْيَسمَعْ"!
لكن ألا يمكن أن نعطى المثل تفسيرا آخر إلى جانب هذا التفسير؟ ألا نستطيع أن نقول إنه لا مانع أيضا من القول بأنه من غير المستحب انشغال الإنسان أثناء عمله للخير بتخليصه تماما من أية شوائب، وإلا فإنه لن يستطيع أن ينتج شيئا لأن الطبيعة البشرية لا تصفو أبدا لأى إنسان، بل يختلط بصوابها نسبة من الخطإ والتقصير، والمهم ألا تزيد تلك النسبة عن الحد الذى لا يمكن تقليله أكثر من ذلك كى تستمر مسيرة العطاء والخير، ويوم القيامة يميز الله الزُّؤَان عن الحَبّ فيعفو عن الأول ويثيب على الثانى؟ وقد أُثِر عن رسولنا الكريم: "إن المُنْبَتّ لا أرضًا قَطَع ولا ظَهْرًا أبقى"، و"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولكن سَدِّدوا وقارِبوا"، و"إذا أمرتكم بشىء فأْتُوا منه ما استطعتم"، و"اتقوا النار ولو بشق تمرة" وغير ذلك من الكلام النبيل المستماح من النبع الكريم السامق. هذا ما عَنَّ لى، وأرجو ألا أكون مخطئا فى هذا التفسير.
ومع هذا فمن العجيب أن يقول المسيح فى تلاميذه الكلام التالى، إذا كان قد قاله فعلا، حين سألوه السبب فى اعتماد ضرب الأمثال أسلوبا لمخاطبة الجموع، إذ كان جوابه لهم: "أنتُمُ أُعطيتُم أنْ تعرِفوا أسرارَ مَلكوتِ السَّماواتِ، وأمّا هُم فما أُعطُوا. 12لأنَّ مَنْ كانَ لَه شيءٌ، يُزادُ فيَفيضُ. ومَنْ لا شيءَ لَه، يُؤخَذُ مِنهُ حتى الَّذي لَه. 13وأنا أُخاطِبُهُم بالأمثالِ لأنَّهُم يَنظُرونَ فلا يُبصِرونَ، ويُصغونَ فلا يَسمَعونَ ولا يَفهَمونَ. 14ففيهِم تَتِمٌّ نُبوءةُ إشَعْيا: "مَهما سَمِعتُم لا تَفهَمونَ، ومَهما نَظَرْتُم لا تُبصِرونَ. 15لأنَّ هذا الشَّعبَ تحَجَّرَ قلبُهُ، فسَدٌّوا آذانَهُم وأغْمَضوا عُيونَهُم، لِـئلاَّ يُبصِروا بِعُيونِهِم ويَسمَعوا بآذانِهِم ويَفهَموا بِقُلوبِهِم ويَتوبوا فأَشفيَهُم". 16وأمّا أنتُمْ فهَنيئًا لكُم لأنَّ عيونَكُم تُبصِرُ وآذانَكُم تَسمَعُ. 17الحقَّ أقولُ لكُم: كثيرٌ مِنَ الأنبـياءِ والأبرارِ تَمنَّوا أنْ يَرَوْا ما أنتمُ تَرَونَ فَما رأوا، وأنْ يَسمَعوا ما أنتُم تَسمَعونَ فما سَمِعوا"، ثم نفاجأ بعد قليل أن أولئك التلاميذ الذين يسمعون ويبصرون ويفهمون فى الوقت الذى لا يفهم فيه غيرهم، والذين يغبطهم الأنبياء على مكانتهم التى لا يصل إليها الأنبياء، أولئك التلاميذ لا يفهمون المغزى من أمثال معلمهم: "36وترَكَ يَسوعُ الجُموعَ ودخَلَ إلى البَيتِ، فجاءَ إليهِ تلاميذُهُ وقالوا لَه: "فَسَّرْ لنا مثَلَ زؤانِ الحَقلِ". 37فأجابَهُم: "الَّذي زَرعَ زَرْعًا جيَّدًا هوَ اَبنُ الإنسانِ، 38والحَقلُ هوَ العالَمُ، والزَّرعُ الجيَّدُ هوَ أبناءُ المَلكوتِ، والزؤانُ هوَ أبناءُ الشَّرّيرِ، 39والعدوٌّ الذي زرَعَ الزؤانَ هوَ إبليسُ، والحَصادُ هوَ نِهايةُ العالَمِ، والحصَّادونَ هُم الملائِكةُ. 40وكما يجمَعُ الزّارعُ الزؤانَ ويَحرِقُهُ في النّارِ، فكذلِكَ يكونُ في نِهايَةِ العالَمِ: 41يُرسِلُ اَبنُ الإنسانِ ملائِكتَهُ، فيَجْمعونَ مِنْ مَلكوتِهِ كُلَ المُفسِدينَ والأشرارِ 42ويَرمونَهُم في أتونِ النّارِ، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنانِ. 43وأمّا الأبرارُ، فيُشرِقونَ كالشَّمسِ في مَلكوتِ أبـيهِم. مَنْ كانَ لَه أُذُنانِ، فلْيَسمَعْ"! ولسوف يتكرر ذلك العجز منهم بعد قليل. أمعقول هذا؟ واضح أن ثمة خللا فى النصوص الإنجيلية رغم ما فيها من بعض اللمعات والبوارق النفيسة!
وبالنسبة لقول مؤلف الإنجيل: "34هذا كلٌّهُ قالَه يَسوعُ للجُموعِ بالأمثالِ. وكانَ لا يُخاطِبُهُم إلاَّ بأمثالٍ. 35فتَمَّ ما قالَ النبـيٌّ: "بالأمثالِ أنطِقُ، فأُعلِنُ ما كانَ خفيُا مُنذُ إنشاءِ العالَمِ"، فالإشارة فيه إلى الفقرة الثانية من المزمور 78 ونصه: "أفتَحُ فَمي بِالأَمثالِ وأبوحُ بألغازٍ مِنَ القديمِ". ولا شك أنه تصرف غريب أن يأخذ كاتب إنجيل متى هذه العبارة من كلام صاحب المزامير ويجعلها كأنها من كلام السيد المسيح. إن هذا، وايم الحق، لخلط واضطراب لا معنى له. إننا هنا أمام شخصين مختلفين هما حسبما يقولون: داود والمسيح عليهما السلام، فما معنى أخذ كلام الأول والزعم بأنه هو كلام الثانى، مع أن صاحب المزامير إنما يتكلم عن نفسه ولا يتنبأ بما سيقوله عيسى بن مريم عليه السلام. ألا إنها لــ"تماحيك" كما يقول العوام بأسلوبهم الظريف! ثم إن العبارتين ليستا شيئا واحدا كما هو واضح تمام الوضوح. وعلى أية حال فينبغى ألا يفوتنا الاسم الواحد الذى استُعْمِل للاثنين، وهو لفظ "النبى": "فتَمَّ ما قالَ النبـيٌّ (أى داود)"، "فقالَ لهُم يَسوعُ: "لا نبـيَّ بِلا كرامةٍ إلاّ في وَطَنِهِ وبَيتِهِ" (والنبى هنا هو عيسى). إذن فلا هو الرب ولا هو ابن الرب، وكيف يكون الرب وقد كان يأكل ويشرب ويبول ويتبرز؟ أم ترى هناك من ينكر هذا؟ تعالى الرب تعاليًا جليلاً عن كل هذا!
وكما رأينا قبلا أن الناس كانوا دائما ما يقولون عنه إنه ابن يوسف ومريم، فكذلك الحال هنا: "53ولمّا أتَمَّ يَسوعُ هذِهِ الأمثالَ، ذهَبَ مِنْ هُناكَ. 54وعادَ إلى بلَدِهِ، وأخَذَ يُعلَّمُ في مَجمَعِهِم، فتَعَجَّبوا وتَساءَلوا: "مِنْ أينَ لَه هذِهِ الحِكمةُ وتِلْكَ المُعْجزاتُ؟ 55أما هوَ اَبنُ النجّارِ؟ أُمٌّهُ تُدعى مَريمَ، وإِخوتُهُ يَعقوبَ ويوسفَ وسِمْعانَ ويَهوذا؟ 56أما جميعُ أخَواتِهِ عِندَنا؟ فمِنْ أينَ لَه كُلُّ هذا؟" 57ورَفَضوهُ"، وهو ما سوف يتكرر فيما بعد أيضا. أى أنه لا أحد كان يقول عنه حتى ذلك الوقت على الأقل إنه ابن الله، فضلا عن أن يقولوا إنه الله ذاته، تعالى الله عن ذلك الشرك علوا عظيما. وعلى هذا فكل ما قيل عن الحمامة واليمامة وأبى قردان وأبى فصادة والصوت الذى كان يتردد فى جنبات السماوات عندما كان يتم تعميد السيد المسيح على يد يحيى هو كلام فارغ شكلا ومضمونا، وهو يؤكد ما قاله القرآن عن العبث فى الكتاب المقدس، وإن كنا نحترم مع ذلك ما يعتقده كل إنسان، بشرط ألا يتطاول بسفاهةٍ وصياعةٍ وقلّةِ أدبٍ على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وإلا فالخوازيق موجودة لزيكو!
الفصل الرابع عشر:
"موت يوحنا المعمدان.
وفي ذلِكَ الوَقتِ سمِعَ الوالي هيرودُسُ أخبارَ يَسوعَ، 2فقالَ لحاشِيَـتِهِ: "هذا يوحنّا المَعمدانُ قامَ مِنْ بَينِ الأمواتِ، ولذلِكَ تَجري المُعْجِزاتُ على يَدِهِ".3وكانَ هيرودُسُ أمسَكَ يوحنّا وقَيَّدَهُ وسَجَنَهُ مِنْ أجلِ هيرودِيَّةَ اَمرأةِ أخيهِ فيلبٌّسَ، 4لأنَّ يوحنّا كانَ يقولُ لَه: "لا يَحِلُّ لَكَ أنْ تَتَزوَّجَها". 5وأرادَ أنْ يَقتُلَهُ، فخافَ مِنَ الشَّعبِ لأنَّهُم كانوا يَعدٌّونَهُ نَبـيُا. 6ولمّا أقامَ هيرودُسُ ذِكرى مَولِدِهِ، رقَصَتِ اَبنَةُ هيرودِيَّةَ في الحَفلةِ، فأعجَبَتْ هيرودُسَ، 7فأقسَمَ لها أنْ يُعطِيَها ما تَشاءُ. 8فلقَّنَتْها أمٌّها، فقالَت لِهيرودُسَ: "أعطِني هُنا على طَبَقٍ رَأسَ يوحنّا المَعمدانِ!" 9فحَزِنَ المَلِكُ، ولكنَّهُ أمَرَ بإعطائِها ما تُريدُ، مِنْ أجلِ اليَمينِ التي حَلَفَها على مسامِـعِ الحاضرينَ. 10وأرسَلَ جُنديُا، فقَطَعَ رأسَ يوحنَّا في السَّجن 11وجاءَ بِه على طبَقٍ. وسلَّمَهُ إلى الفتاةِ، فحَمَلْتهُ إلى أُمَّها. 12وجاءَ تلاميذُ يوحنّا، فحَمَلوا الجُثَّةَ ودَفَنوها، ثُمَّ ذَهَبوا وأخبَروا يَسوعَ.
يسوع يطعم خمسة آلاف رجل.
13فلمّا سَمِعَ يَسوعُ، خرَجَ مِنْ هُناكَ في قارِبٍ إلى مكانٍ مُقْفِرٍ يَعتَزِلُ فيهِ. وعرَفَ النّاسُ، فتَبِعوهُ مِنَ المُدُنِ مَشيًا على الأقدامِ. 14فلمّا نزَلَ مِنَ القاربِ رأى جُموعًا كبـيرةً، فأشفَقَ علَيهِم وشفَى مَرضاهُم.
15وفي المساءِ، دَنا مِنهُ تلاميذُهُ وقالوا: "فاتَ الوقتُ، وهذا المكانُ مُقفِرٌ، فقُلْ لِلنّاسِ أنْ يَنصرِفوا إلى القُرى لِـيشتَروا لهُم طعامًا". 16فأجابَهُم يَسوعُ: "لا داعيَ لاَنصرافِهِم. أعطوهُم أنتُم ما يأكلونَ". 17فقالوا لَه: "ما عِندَنا هُنا غيرُ خَمسةِ أرغِفةٍ وسَمكتَينِ".
18فقالَ يَسوعُ: "هاتوا ما عندَكُم". 19ثُمَّ أمَرَ الجُموعَ أنْ يَقعُدوا على العُشبِ، وأخَذَ الأرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمكتَينِ، ورَفَعَ عَينَيهِ نحوَ السَّماءِ وبارَكَ وكسَرَ الأرغِفَةَ وأعطَى تلامِيذَهُ، والتَّلاميذُ أعطَوا الجُموعَ. 20فأكلوا كُلٌّهُم حتَّى شَبِعوا، ثُمَّ رَفَعوا اَثنتي عَشْرةَ قُفَّةً مملوءةً مِنَ الكِسَرِ التي فَضَلَتْ. 21وكانَ الَّذينَ أكلوا نحوَ خَمسةِ آلافِ رجُلٍ، ما عدا النَّساءَ والأولادَ.
يسوع يمشي على الماء.
22وأمرَ يَسوعُ تلاميذَهُ أن يَركبوا القارِبَ في الحالِ ويَسبِقوهُ إلى الشَّاطِـئِ المُقابلِ حتى يَصرِفَ الجُموعَ. 23ولمّا صرَفَهُم صَعِدَ إلى الجبَلِ ليصَلّيَ في العُزلَةِ. وكانَ وحدَهُ هُناكَ عِندَما جاءَ المساءُ. 24وأمّا القارِبُ فاَبتَعدَ كثيرًا عَنِ الشَّاطئِ وطَغَتِ الأمواجُ علَيهِ، لأنَّ الرَّيحَ كانَت مُخالِفَةً لَه. 25وقَبلَ الفَجرِ، جاءَ يَسوعُ إلى تلاميذِهِ ماشيًا على البَحرِ. 26فلمّا رآهُ التَّلاميذُ ماشيًا على البَحرِ اَرتَعبوا وقالوا: "هذا شَبَحٌ!" وصَرَخوا مِنْ شِدَّةِ الخَوفِ. 27فقالَ لهُم يَسوعُ في الحالِ: "تَشجَّعوا. أنا هوَ، لا تخافوا!" 28فقالَ لَه بُطرُسُ: "إنْ كُنتَ أنتَ هوَ، يا سيَّدُ، فَمُرْني أنْ أجيءَ إلَيكَ على الماءِ". 29فأجابَهُ يَسوعُ: "تعالَ". فنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ القارِبِ ومشَى على الماءِ نحوَ يَسوعَ. 30ولكنَّهُ خافَ عِندَما رأى الرَّيحَ شديدةً فأخَذَ يَغرَقُ، فَصرَخ: "نَجَّني، يا سيَّدُ!" 31فمَدَّ يَسوعُ يدَهُ في الحالِ وأمسكَهُ وقالَ لَه: "يا قليلَ الإيمانِ، لِماذا شكَكْتَ؟" 32ولمّا صَعِدا إلى القارِبِ هَدأَتِ الرَّيحُ. 33فسجَدَ لَه الَّذينَ كانوا في القارِبِ وقالوا: "بالحقيقةِ أنتَ اَبنُ الله!"
يسوع يشفي من أمراض كثيرة.
34وعَبَرَ يَسوعُ وتلاميذُهُ إلى بَــرَّ جَنّيسارَتَ. 35فلمّا عرَفَ أهلُ البَلْدَةِ يَسوعَ، نَشروا الخبَرَ في تِلكَ الأنحاءِ كُلَّها. فجاؤُوهُ بالمَرضى 36وطَلَبوا إلَيهِ أنْ يَلمُسوا ولو طرَفَ ثوبِهِ. فكانَ كُلُّ مَنْ يَلمُسُه يُشفى".
والآن فإن كلام هيرودس التالى الذى قاله حين سمع بمعجزات عيسى: "هذا يوحنّا المَعمدانُ قامَ مِنْ بَينِ الأمواتِ، ولذلِكَ تَجري المُعْجِزاتُ على يَدِهِ" يثير عددا من الأسئلة: ألم يسمع هيرودس بعيسى ومعجزاته إلا الآن؟ ذلك غريب جدا. وأغرب منه أن يقال إن هيرودس لم يكن ليقتل يحيى لولا القَسَم الذى كان أقسمه لبنت أخيه الداعرة بأن يحقق لها كل ما تطلب، وكأن القَسَم يمثل له شيئا خطيرا إلى هذا الحد! وما دمنا بصدد الكلام عن القسم فقد مر بنا تشديد المسيح فى النهى عن القسم وأمره بالاقتصار على كلمتى "نعم" أو "لا" دون حَلِف. وفى الإسلام تنفير من الحَلِف إلا إذا كان هناك ما يستوجبه كما فى الخصومات والدعاوى القضائية، إلا أنه لا يُنْهَى عنه كمبدإ. أقول هذا لأن أوغاد المهجر يتطاولون على الإسلام ونبيه ويكفرونه ويكفروننا نحن المسلمين جميعا لأن ديننا لا يحرم القسم كما يظنون أن المسيح قد حرمه. وقد رددت على هذا الحمق المجرم فى كتابى "الفرقان الحق: فضيحة العصر- قرآن أمريكى ملفق" (وهو الكتاب الذى استولى أحدهم على معظم صفحاته وأضاف إليه أشياء من هنا ومن هناك وكتب عليه: "القرآن الأمريكى أضحوكة القرن العشرين" دون أن يشير لى ولو بكلمة، وإنما أفاض فى الحديث عن تعبه وسهره وتشجيع زوجته له، على أى شىء؟ على السطو طبعا! وقد تكلمتْ عن ذلك جريدة "عرب تايمز" فى بابها: "لصوص ظرفاء"). وقد بيّنْتُ فى الكتاب المذكور أن الله وملائكته، طبقا لما هو مكتوب فى الكتاب المقدس، يحلفون. أما بطرس أقرب تلاميذ المسيح إليه فقد حلف حَلِفًا كاذبًا حين أنكر عند القبض على المسيح أنه يعرفه وأقسم على ذلك أكثر من مرة. كما أن المسيح ذاته قد بين أن كل من يريد تأكيد كلامه فإنه يحلف، وأن الحلف فى هذه الحالة أمر طبيعى جدا.
ثم إن الدول النصرانية جميعا تحلِّف المتهمين والشهود فى المحاكم على الكتاب المقدس، كما أن العهد القديم يقنن القسم على أساس أنه إجراء عادى جدا فى كثير من الظروف لا غضاضة فيه على الإطلاق. فعجيب بعد ذلك كله أن ينبرى كاتب الإنجيل فيتحدث عن فعلة هيرودس الشنيعة بطريقة تبدو وكأنه يبرر جريمة ذلك النذل بحجة القسم الذى أقسمه. وأىّ قَسَمٍ ذلك الذى نبرّر به إزهاق روح بريئة ونبيلة كروح يحيى عليه السلام؟ وهل المجرمون الطغاة من أمثاله يهمهم قَسَمٌ أو خلافه؟ ثم إن ظن هيرودس بأن يحيى قام من الأموات وأخذ يعمل معجزات هو كلام لا يدخل العقل. لماذا؟ لأن يحيى لم يسبق له أن عمل معجزة! كما أن ظنه هذا يدل من ناحية أخرى على أنه كان يعرف أن يحيى نبى، فكيف أقدم على قتله إذن مهما كان مِنْ سَبْق إعطائه الداعرة الصغيرة وعدا بإنالتها كل ما تطلب؟ الواقع أننى لا أطمئن لرواية الإنجيل عن تفاصيل القصة كما عرضناها هنا. وقد بين الرسول الكريم أنه إذا أقسم المسلم على أمر ثم تبين له أن سواه أولى فلْيُكَفِّرْ عن قَسَمه ولْيَفْعَلِ الأفضل. فماذا فى هذا يا أهل الضلال والنفاق، يا من قرّع المسيح أمثالكم أعنف تقريع وشتمهم شتما قبيحا يليق بكم وبأشكالكم وقلوبكم المظلمة النجسة؟ أمن المعقول أن يُشْتَم زعيم الأنبياء تقربا لأخٍ من إخوانه صلى الله عليهم جميعا وسلم؟
ومرة أخرى نرى عيسى، حسبما كتب مؤلفو الأناجيل، يتقبل مأساة أخرى من مآسى يحيى بقلب لا أظننا نخطئ إن قلنا إنه بارد. أمن المعقول أن يكون كل رد فعله حين سمع نبأ قتله هو أن يعتزل تلاميذه للصلاة، ثم لما أقبلت عليه الجموع نسى ما كان انتواه من الاعتزال وأقبل عليهم يَشْفِى من جاؤوا ليشفيهم؟ ترى أين قوله المنسوب إليه من أنه لا يصح أن يُؤْخَذ خبز البنين ويُطْرَح للكلاب، بمعنى أن الأقربين أولى بالمعروف؟ فهذا يحيى عليه السلام، وهو قريبه وزميله فى النبوة، فضلا عن أنه هو الذى عمّده كما ذكرت الأناجيل، كان بحاجة إلى أن يهتم به عيسى عندما قُبِض عليه، إن لم يكن بمحاولة استنقاذه على الأقل بالدفاع عنه عند السلطات والتدخل بطريقة أو أخرى لإطلاق سراحه، فعلى الأقل الانشغال به وبمأساته. لكنه عليه السلام، إن صدقنا رواية الإنجيل، لم يفكر فى أن يفعل له شيئا. وكذلك الأمر عندما قُتِل، إذ تلقى الأمر دون أن يذرف دمعة أو يقول كلمة تعبر عن أنه متألم لما حدث له عليه السلام. الواقع أن هذه الأشياء تجعل الواحد منا لا يطمئن إلى رواية الأناجيل للوقائع التاريخية، إذ تصور الأمر فى كثير من الحالات على نحو لا يقنع أحدا.
وفى هذا الفصل أيضا نرى عيسى عليه السلام لا يزال مستمرا فى صنع الآيات، تلك الآيات التى اتخذها زيكو المنكوح ذو الدبر المقروح دليلا على أنه أفضل من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ودعنا من تأليهه رغم براءته، عليه السلام، ممن يُقْدِم على هذا التهور المردى فى جهنم كما يخبرنا القرآن المجيد فى أواخر سورة "المائدة". وقد سبق أن بينا أن المعجزات ليست مقصورة على عيسى بن مريم، بل كان لكثير من الأنبياء فيها نصيب، ومنهم سيدنا محمد. كما قلنا أيضا إن المعجزات لا تحسم مسألة الاعتراف بالنبى أو الرسول، والدليل على ذلك كثرة الآيات التى تحققت على يد عيسى، وكُفْر الغالبية الساحقة من اليهود به رغم ذلك. كذلك بينتُ أن المهم فى الأمر هو الإنجازات التى تمت على يد هذا النبى أو ذاك، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام يأتى بكل جدارة واستحقاق على رأس جميع الأنبياء، فقد أنهض أمته من الحضيض وجعلها سيدة العالم بفضل العقيدة السليمة والقيم الإنسانية والاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية العالية التى تجمع بين المثالية والواقعية فى منظومة فريدة لم تحدث من قبل ولا من بعد، وذلك فى مدة زمنية مستحيلة بالمقاييس البشرية، وعلى مدار قرون طوال، وهو ما لم يتحقق لأى نبى أو مصلح أو قائد سياسى أو عسكرى طوال التاريخ. ومن هنا فقد ضحكنا كثيرا من أعماق قلوبنا من سمادير الأخطل المسمَّى: "زيكو زَكْزَك، الأَشْيَب الأَمْتَك"، الذى ظن أنه يستطيع بخَطَله أن ينال من سيد الأنبياء والمرسلين، زاد الله دبره المقروح على كثرة الخوازيق مَتَكًا حتى تعود غير صالحة لشىء!
والمضحك أن التلاميذ، رغم كل الزمن الطويل الذى قَضَوْه بالقرب منه ورؤيتهم الآيات التى صنعها بيديه، لم يكونوا قد آمنوا حتى ذلك الحين أنه ابن الله، اللهم إلا عندما مشى فوق الماء! وما الذى فى المشى على الماء مما يميزه عن سواه من المعجزات بحيث يصلح وحده دونها أن يكون دليلا على أنه ابن الله؟ أهو أقوى من إعادة الموتى إلى الحياة؟ طيب، فَهُمْ أيضا، كما قال كاتب الإنجيل، كانوا يستطيعون الإتيان بالمعجزات مثله تماما، أفلم يكن ذلك دليلا على أن ما استنتجوه من ألوهيته هو استنتاج غير صحيح، إذ ما داموا يستطيعون عمل المعجزات ولا يَرَوْن أنها تنقلهم من البشرية إلى الألوهية فمعنى هذا أنها ليست دليلا على ألوهية من يعملها؟ أليس كذلك؟ وإذا كانوا قد عرفوا وقالوا إنه ابن الله، فكيف تقبلوا صلبه وقتله بهذه البساطة؟ ألم يكن ذلك كافيا كى يقفوا أمام هذه المفارقة الغريبة: مفارقة أن يعجز ابن الله عن الدفاع عن نفسه، إن لم نقل إن أباه نفسه قد عجز عن ذلك، أو على الأقل لم يبال أن ينقذ ابنه الوحيد؟ إن الأمر كله يبعث على الاستغراب، إن لم نقل:
(((((((((((جهلاء الأعاجم يخطّئون لغة القرآن))))فى عَسَّةٍ من عَسّاتى فى المشباك وقعتُ على مقال بالإنجليزية يخطِّئ لغة القرآن المجيد جرَّنى بدوره إلى موقع تبشيرى يهاجم الإسلام اسمه: "answering-islam"، فأخذت أدور فى أرجائه، وإذ بكتاب بعنوان "BEHIND THE VEIL: UNMASKING ISLAM" يتناول مؤلفه كتاب الله الكريم بالتخطئة والنقد فى كل جانب من جوانبه بما فيها لغته وأسلوبه. لغته وأسلوبه حتة واحدة؟ إى والله لغته وأسلوبه حِتَّة واحدة وليس حِتَّتَيْن! وللأسف لم يذكر الموقع اسم المؤلف، ومن ثم فوَّت علينا شرف التعرف إلى هذا العبقرى الذى سوَّلَتْ له نفسه الإقدام على تخطئة القرآن، وبالذات أنه خواجةٌ أعجمى! وهذا النقد موجود فى الفصل الثامن من الكتاب تحت عنوان: "Qur'anic Language and Grammatical Mistakes"، هكذا خَبْط لَزْق دون إِحِمْ ولا دستور! وهو نفسه المقال الذى قادنى إلى الموقع كما ذكرت آنفا. فتعالَوْا نَرَ ماذا كتب الرجل، وماذا يمكن أن نقول فى الرد عليه: يقول المؤلف إن "إخوانه المسلمين" (أرجو ألا تفوتكم هذه الرقة والإنسانية فى تسميته لنا بــ"إخوانه المسلمين"! الواقع أن الدموع تكاد تطفر من عينى تأثرا بهذا الحنان الأخوى الذى يبديه لنا ذلك الثعلب!)، يقول إن "إخوانه المسلمين" يردِّدون أن بلاغة القرآن وسموّ لغته وجمال أسلوبه هو دليل قاطع على أنه من عند الله، ذلك أن إعجازه إنما يكمن عندهم فى أسلوبه الجميل. ثم يمضى قائلا إنه لا ينكر أن أسلوب القرآن (فى بعض آياته وسوره) هو أسلوب بليغ ومعبر حقا، وهو ما لا يمكن أن يشك فيه أحد ممن يستطيعون تذوق اللسان العربى. إلا أن هذا (كما يقول) لا يعنى أبدا أن القرآن يخلو من كثير من الأخطاء الواضحة التى تخرج على أبسط قواعد النحو والصرف وأساليب التعبير الأدبى فى لغة العرب. كما أن فيه كثيرا من الألفاظ التى لا وجود لها فى أية لغة، فضلاً عن احتوائه على عدد كبير من المفردات التى لا يمكن أن يفهمها أحد، وهو ما أقرّ به الصحابة أنفسهم.
كذلك يرى المؤلف أن روعة الأسلوب فى كتاب ما لا يمكن أن تكون برهانا على عظمة ذلك الكتاب ولا على أنه من وحى السماء، إذ ليست العبرة بالأسلوب بل بالمضمون وما يشيعه فى النفس والمجتمع من سلام وحب وسكينة. ثم إن الله لا يشغل نفسه بتعليم البشر فى أنحاء العالم قواعد اللغة العربية ومبادئها، فهو سبحانه ("سبحانه" هذه من عندى أنا) ليس معلِّما للغةٍ مندثرةٍ كاللغة العربية، بل الإله الحقيقى هو قائدنا الروحى فى طريق الحب والغبطة. وعلى هذا فالمهم أن نعرف: هل يستحق المضمون القرآنى فعلاً أن ننسبه إلى الله أَوْ لا؟ وبالإضافة إلى هذا فإن بلاغة القرآن وسموّ اللغة الفصحى التى صِيغَ فيها قد خلقا مشكلة لمن يريدون أن يقرأوه ويفهموه حتى من العرب أنفسهم، فما بالنا بغير العرب؟ وحسبما يقول فإنه لا يكفى أن تعرف اللغة العربية كى تستطيع أن تفهم القرآن، بل لا بد أن تدرس الأدب العربى دراسة مستفيضة شاملة، فهناك مئات الألفاظ القرآنية التى حيَّرت الصحابة فى تحديد معانيها، علاوة على مئات أخرى لم يستطيعوا فهمها البتة.
ويشير المؤلف إلى أن فى "الإتقان فى علوم القرآن" لجلال الدين السيوطى فصلاً كاملاً يزيد على مائة صفحة بعنوان: "فيما وقع فيه بغير لغة العرب" خصَّصه كله لـلكلمات القرآنية الصعبة التى تحتاج إلى شرح، كما يؤكد قائلا إن مفردات اللغة العربية الفصحى وبعض تعبيراتها لم تعد تستعمل الآن البتة حتى من قِبَل العرب أنفسهم، فضلا عن أن العربية ذاتها هى من التنوع والتشعب حتى لقد قال الشافعى عنها إنها لا يحيط بها إلا نبى. وهو من ثم يتساءل: ما الفائدة يا ترى التى يمكن أن يجنيها العالم من كتاب الله إذا كان هذا الكتاب مصوغا بلغة صعبة حتى على العرب أنفسهم بما فيهم صحابة النبى، وبخاصة أن العلماء المسلمين يصرون على أنه لا يجوز ترجمة القرآن، بل لا يمكن معرفة وجه إعجازه عن طريق الترجمة، ولا بد من قراءته بالعربية، وكأن الله عربى، ولا يريد لأحد من غير العرب أن يقرأ القرآن؟
ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث عن وضع الخط العربى حين نزول القرآن الكريم مبينًا أنه كان يفتقر آنذاك إلى تنقيط الحروف وتشكيلها، وهو ما كان يجعل قراءة الكلام المكتوب شديد الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا: فمثلاً الكلمات التالية: "تُبْت" و"بَيْت" و"نَبْت" و"بِنْت" و"ثَبَت" كانت تُكْتَب جميعا على هيئة واحدة (يقصد أنها كانت تُكْتَب على شكل ثلاث سِنَن، السِّنَّة الأخيرة منها سِنّة طويلة، وكلها مجردة من النقط والشكل)، فكيف يستطيع القارئ أن يعرف أية كلمة من هذه الكلمات الخمس هى الكلمة المرادة؟ وبتطبيق ذلك على آيات القرآن الكريم يشير إلى أن قوله تعالى: "...أن اللهَ برىء من المشركين ورسوله" يمكن أن يُفْهمَ بمعنيين مختلفين حسب إعراب كلمة "رسوله"، لأننا إذا شكَّلنا لام "الرسول" بالضم كان المعنى أن الله ورسوله بريئان من المشركين، بخلاف ما لو ضبطناها بالكسر، إذ يكون المعنى حينئذ أن الله برىء من المشركين ومن رسوله أيضا. وهو يتساءل عن الحكمة فى أن الله لم ينزل القرآن فى لغة عربية كاملة التنقيط والتشكيل حتى لا يقع القراء فى مثل هذا الخطإ.
ثم يقول: ترى لو أن طالبا كتب لأستاذه الآن بحثا خاليا من النَّقْط والشَّكْل، أيعطيه الأستاذ عندئذ شيئا آخر غير الصفر؟ وهؤلاء الذين أضافوا للخط العربى التنقيط والتشكيل، أوقد نزل عليهم ملاكٌ أَوْحَى لهم ما ينبغى عمله؟ يقصد أنه كان من الأفضل أن يقوم النبى نفسه بهذه المهمة منذ البداية حتى يضمن ألا تقع فيها أخطاء. أم ترى الله وجبريل والرسول وخلفاءه كانوا يجهلون أن الخط العربى يفتقر لهذا وذاك؟ ألم يكونوا يعرفون أن الاختلاف فى قراءة النص بسبب عدم تنقيطه وتشكيله سوف يؤثر فى استنباط الأحكام الشرعية من هذا النص؟ إنها لمفاجأة (كما يقول) ألاّ تخطر هذه المشكلة لله وجبريل والنبى والصحابة والخلفاء جميعا، ثم يتنبه لها أولئك العلماء الذين اخترعوا النقط والشكل وأضافوهما إلى الخط العربى! وهو يسوق من كتاب "الإتقان" للسيوطى مثالا على اختلاف الحكم الشرعى تبعا للاختلاف فى ضبط الحروف من قوله تعالى فى الآية 38 من سورة "النساء"، التى تتحدث عن الأسباب الموجبة للغسل، ومنها لمس (أو ملامسة) النساء: "يا أيها الذين آمنوا، إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين. وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمَّموا صعيدًا طيبًا...". فالذين يقرأون الكلمة على أنها "لامستم"، أى بألف بعد اللام، يقولون إن الطهارة لا تجب إلا بملامسة النساء، أى بمجامعتهن. أما الذين يقرأون الكلمة بدون هذه الألف، أى "لمستم"، فيَرَوْنَ أنه يكفى أن يلمس الرجل المرأة بيده اللمس العادى حتى تجب الطهارة.
ويستمر المؤلف فيقول إن جميع العلماء المسلمين يقرون بأن فى القرآن ألفاظا لم يكن يفهمها أقرباء الرسول أو صحابته. ثم يستشهد على كلامه بالسيوطى، الذى يقول فى كتابه: "الإتقان": "هذه الصحابة، وهم العرب العرباء وأصحاب اللغة الفصحى ومن نزل القرآن عليهم وبلغتهم، توقفوا في ألفاظ لم يعرفوا معناها فلم يقولوا فيها شيئا. فأخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التميمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: "وفاكهةً وأَبًّا"، فقال: أيّ سماءٍ تُظِلّني، وأيّ أرضٍ تُقِلّني إنْ أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وأخرج عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: "وفاكهةً وأَبًّا"، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وأخرج من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال: أحدهما: أنا فطرتها. يقول: أنا ابتدأتها. وأخرج ابن جريج عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله: "وحَنَانًا من لَدُنّا"، فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يجب فيها شيئًا". وينتهى إلى القول بأنه إذا كان هؤلاء لم يفهموا بعض ألفاظ القرآن، فمن يا ترى يمكنه أن يفهم ما لم يفهموه؟ ثم يتابع قائلا بكل يقين: لا شك أنهم قد سألوا محمدا عن معانى هذه الكلمات، لكنه لم يجبهم إلى ذلك لأنه هو نفسه لم يكن يعرف معناها، وإلا لكان قد قاله لهم!
وبالإضافة إلى ذلك هناك كلمات أخرى يبلغ عدها أربع عشرة كلمة ليس لها أى معنى، وهى تلك الحروف المقطعة الموجودة فى أوائل تسع وعشرين سورة، مثل: "ألم، ألمر، ألمص، طه، ص، ق، حم...". بل إن بعض هذه الحروف قد جُعِلَت عناوين لعدد من السور، وهى: "طه" و"يس" و"ص" و"ق"، ومعنى هذا أن عددا من سور القرآن يحمل عناوين لا معنى لها! وهذه الرموز التى لا معنى لها فى أية لغة من اللغات هى سمة من سمات البلاغة العربية التى قد تتضمن كلمات لا تعنى شيئا بالمرة! وفى القرآن: ويل لمن يسأل عن المعنى! (The Qur’an says woe to anyone who asks for the meaning!). وفى الآية السابعة من سورة "آل عمران" نقرأ أن هناك كلمات فى القرآن لا يعرف معناها إلا الله، وهو ما يسمَّى بالآيات المتشابهات. والسؤال هو: إذا كان الأمر كذلك فلم جاءت هذه الكلمات فى القرآن؟ لكن ليس فى القرآن جواب عن هذا السؤال.
كذلك يوجد فى القرآن ما يسمَّى بـ"ألفاظ الأضداد"، ومعنى هذا أن لغة القرآن ليست دائما صحيحة كما يظن البعض. ومن ذلك كلمة "بَعْد"، التى وردت فى آيتين بمعنى "قبل" كما جاء فى "الإتقان" للسيوطى، وهذا نص ما قال: "قال ابن خالويه: ليس في القرآن "بَعْد" بمعنى "قَبْل" إلا حرف واحد: "ولقد كتبنا في الزَّبُور من بعد الذكر". قال مغلطاي في كتاب "الميسر": قد وجدنا حرفا آخر، وهو قوله تعالى: "والأرضَ بعد ذلك دَحَاها". قال أبو موسى في كتاب "المغيث": معناه هنا "قَبْل" لأنه تعالى خلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء، فعلى هذا خَلَق الأرض قبل السماء". وهنا يتساءل الكاتب: هل لمثل هذا العيب وجود فى أية لغة من لغات الأرض؟ وهل يتمشى هذا مع خصائص العربية وبلاغتها وطرائقها فى التعبير الفنى؟ وهل يُعْقَل أن الملاك جبريل قد أراد "قبل"، لكنه رغم ذلك قال لمحمد أن يكتبها: "بعد"؟ أليس معنى هذا أن القارئ سيجد نفسه فى حيص بيص؟ على أن المشكلة لا تقتصر على هذه الكلمة، فقد أورد السيوطى عددا آخر من الألفاظ على نفس الشاكلة خصص له ثمانى صفحات من كتابه المذكور. ومن ذلك قوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا؟" (الرعد/ 31). ترى هل "ييأس" معناها: "يعلم" مثلما هو الأمر فى هذه الآية؟ وهل "شهداء" بمعنى "شركاء" كما هو الحال فى الآية 23 من سورة "البقرة" التى تقول: "وإن كنتم فى ريب مما نزَّلْنا على عبدنا فَأْتُوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين"؟ وهل كلمة "بَخْس" تعنى "حرام" فى قوله فى الآية 20 من سورة "يوسف": "وشَرَوْه بثمنٍ بخس"؟ وهل يمكن أن يكون الفعل "يَرْجُم" معناه: "يلعن" كما فى الآية 46 من سورة "مريم": "لإِنْ لم تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّك"؟
ترى لماذا لم يقل القرآن مباشرة: "أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا؟" "بدلا من "أَفَلَمْ ييأس الذين آمنوا...؟"؟ هل "اليأس" هو "المعرفة"؟ وحين يقول القرآن: "أفلم يعلم...؟" هل يكون المقصود: "فقدان كل أمل"؟ ونفس الشىء يقال عن كلمتَىْ: "بَخْس" و"شُهَداء". أليس لكل كلمة من هذه مَعْنًى يختلف عن ذلك المعنى الذى ورد فى القرآن؟ أتكون إحدى مميزات اللغة أنها تستخدم كلمات لها معنى يختلف عن معناها الحقيقى؟
ثم يسوق إلى القارئ أمثلة أخرى أشار إليها السيوطى فى كتابه، بادئًا بكلمة "النجم" فى قوله: "والنجم والشجر يسجدان"، التى تعنى النبات الذى ليس له ساق، لا الجِرْم السماوى كما ينبغى أن يكون الكلام، إذ لا يمكن (حسبما يقول) أن يتخيل أحد أن معنى كلمة "نجم" هو هذا النوع من النبات! ولهذا كان من الطبيعى أن نجدها فى الترجمة الإنجليزية التى قام بها السعوديون بمعنى "النجم السماوى"، وهذا هو المعنى الصحيح لا المعنى الذى نص عليه السيوطى وغيره من المفسرين كالبيضاوى والجلالين والزمخشرى، فهؤلاء كلهم مخطئون، وإلا فليصلح السعوديون من ترجمتهم، مع أنها هى الصواب لا كلام هؤلاء المفسرين! ومثلها كلمة "وَسَط"، التى يقول السيوطى عنها: "ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي وتوجهت إليه اليهود (يقصد أنهم توجهوا إليه فى قِبْلَتهم) وتوجهت النصارى إلى المشرق كانت قِبْلَة الإسلام وَسَطًا بين القبلتين (قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا"، أي خِيَارًا. وظاهر اللفظ يوهم "التوسط" مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين)، صَدَقَ على لفظة "وَسَط" هاهنا أن يسمى تعالى بها لاحتمالها المعنيين. ولما كان المراد أبعدهما، وهو الخيار، صلحت أن تكون من أمثلة التورية".
ومن الأمثلة التى يسوقها أيضا قوله تعالى: "لئلا يعلم أهل الكتاب ألاّ يَقْدِرُون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله" (الحديد/ 29)، الذى يؤكد أن معناه الحرفى هو: "كيلا يعلم أهل الكتاب"، بيد أن المفسرين والمترجمين يقولون إن معناه: "فلربما يعلم أهل الكتاب"، قالبين المعنى الحرفى هكذا رأسا على عقب! ومنها أيضا ما جاء فى عدد من الآيات القرآنية من قوله: "لا أُقْسِم بكذا"، على حين أن المراد، حسبما يقول المفسرون والمترجمون، هو: "أُقْسِم بكذا"، أو "لا. إننى أُقْسِم بكذا". ومن الشواهد على ذلك:"لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة" (القيامة/ 1- 2)، "لا أقسم بهذا البلد* وأنتَ حِلٌّ بهذا البلد" (البلد/1- 2).
ولا يكتفى المؤلف بهذا، بل يضيف أن فى القرآن ألفاظا محذوفة كان ينبغى أن تُذْكَر، وعبارات غير تامة، وجُمَلاً مبنية بناءً خاطئًا. ومن ذلك حسبما جاء فى كلامه: "فإنها من تقوى القلوب" (الحج/ 32)، إذ يذكر السيوطى أن هاهنا حذفا لأكثر من كلمة، وأن المعنى: "فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب"، ومنه قوله: "فقبضتُ قبضةً من أثر الرسول" (طه/ 96)، على حين أن المراد هو "فقبضتُ قبضةً من أثر حافر فرس الرسول". ومنه كذلك قوله: "فأَرْسِلونِ:* يوسفُ أيها الصِّدِّيق، أَفْتِنا فى سَبْعِ بقراتٍ سِمَانٍ يأكلهنّ سبعٌ عِجَافٌ..." (يوسف/ 45- 46)، إذ المعنى: " فأرسِلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، ففعلوا فأتاه فقال له: يا يوسف، أَفْتِنا فى سبع بقرات..."، ففى هاتين الآيتين لم تُذْكَر إلا كلمتان اثنتان فقط فى أول الكلام وأُخْرَيَان فى آخره، أما باقى الكلام فمحذوف، وهو ما يجعله بلا معنى. ومنه أيضا قوله: "فلا تُعْجِبْكَ أموالهم ولا أولادهم. إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" (التوبة/ 85)، فقد فسرها السيوطى استنادا إلى ابن أبى حاتم عن قتادة قائلا: "هذا من تقاديم الكلام. يقول: لا تُعْجِبْكَ أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا. إنما يريد الله ليعذبهم في الآخرة" برغم أنه لا ذكر للآخرة فى الآية على الإطلاق. ومنه قوله: "أفرأيتَ من اتخذ إلهه هواه...؟" (الفرقان/ 34)، إذ يقول السيوطى إن الأصل هو: أفرأيتَ من اتخذ هواه إلهه؟ "لأن من اتخذ إلهه هواه غَيْرُ مذموم، فقدم المفعول الثاني للعناية به".
وهنا يورد الكاتب ما قاله السيوطى من أن هناك "من الآيات ما أَشْكَلَتْ مناسبتها لما قبلها. من ذلك قوله تعالى في سورة "القيامة" (13- 19): "لا تُحَرِّكْ به لسانَك لِتَعْجَل به"، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عَسِرٌ جدًّا، فإن السورة كلها في أحوال القيامة...".
كما يشير الكاتب إلى أن هناك كثيرا من التكرار الممل فى القرآن مثل قوله: "فبأى آلاء ربكما تكذِّبان؟"، الذى تكرر فى سورة "الرحمن" إحدى وثلاثين مرة رغم أن آيات السورة كلها لا تتجاوز ثمانى وسبعين آية، وكذلك قصص الأنبياء التى تكرر كل منها فى عدة سور.ثم يختم كلامه قائلا إن فى القرآن من الأخطاء النحوية ما يتراوح بين خمسة عشر وعشرين خطأً، وإن لم يقف منها إلا عند قوله تعالى: "إن هذان لَساحران"، الذى كان ينبغى، بناءً على ما يقول، أن يجىء على النحو التالى: "إنّ هذين لَساحران" (طه/ 63) بنصب كلمة "هذين" بوصفها اسم "إن" على ما يعرفه أى طالب ثانوى عنده إلمام بأساسيات القواعد العربية. أما أن تجىء فى القرآن مرفوعة فهو "خطأٌ بالثُّلُث: completely wrong" كما يقول.
هذا مجمل كلام الكاتب فى انتقاده للقرآن، والآن نبدأ النظر فيما قال: فأولا ليس صحيحا أن المسلمين يحصرون إعجاز القرآن فى الناحية البلاغية والأسلوبية وما أشبه مما يوحى به كلام الرجل، فالواقع أن هذا ليس سوى رأى من الآراء، وهو رأى قلة منهم قليلة، أما الآراء أخرى فتجعل الإعجاز متوزعا على عدة وجوه. ولو أن الكاتب الذى صدَّع أدمغتنا بالنقل عن السيوطى لإيهامنا بصدق ما يقول، قد اهتم ذات الاهتمام بالنقل عن السيوطى فى هذه النقطة لما قال هذا الذى قال، فقد أفرد السيوطى فصلا كاملا لهذا الموضوع عنوانه "في إعجاز القرآن" أورد فيه الآراء المختلفة: فمن العلماء من قال بالصرفة، أى أن الله سبحانه وتعالى قد صرف عزائم العرب عن التفكير فى مواجهة تحدى القرآن لهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سُوَرٍ منه أو حتى بآية واحدة من آياته، فلم تتحرك لهم إرادة نحو هذه الغاية. ومنهم من اعترض على هذا التفسير قائلا إن هذا يعنى أنهم لو كانوا قد عزموا على معرضة القرآن والإتيان بقرآن مثله فلربما نجحوا فى ذلك، ومن ثم لا يمكن أن يكون هذا إعجازا، إذ الإعجاز إنما هو استحالة الفعل مع الرغبة فيه وتوفر الدواعى له. ومن العلماء من تريث عند الجانب البيانى والبلاغى فعلا بما يُفْهَم منه أن هذا الوجه هو أظهر وجوه إعجازه.
لكن الاتجاه العام، كما قلنا، هو عدم قصر الإعجاز القرآنى فى وجه واحد. وليس هذا الرأى وليد اليوم، بل هو موجود منذ وقت مبكر. ولقد أورد السيوطى نفسه آراء بعض العلماء فى هذا السبيل: "وقال قوم: وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب. وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها. وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك بقول أو فعل كقوله: "إذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا"، "ويقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله". وقال القاضي أبو بكر: وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم. قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته. قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر لأنه ليس مما يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة، وله طريق تسلك. فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقًا". ولعل القارئ قد تنبه إلى أن من العلماء من لا يَعُدّ البلاغة والبيان، أو على الأقل لا يعد جزءا من هذه البلاغة والبيان، وهو البديع ومحسناته، داخلا فى الإعجاز لأنه كما قالوا يمكن تعلمه لمن رامه.
وبالمثل ينقل السيوطى عن الإمام الخطابى أن وجوه الإعجاز متعددة لا تنحصر فى جانب واحد: " وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام. فأما أن توجد مجموعةً في نوع واحد فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمَّنًا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيانه لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أَوْلَى منه ولا يُتَوَهَّم في صورة العقل أمرٌ أليق به منه مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مَثُلاَت الله بمن مضى وعاند منهم منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه وأداء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه. ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أومناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة إنه شعر لمّا رأوه منظومًا ومرة أنه سحر لمّا رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه. وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وكانوا مرة بجهلهم يقولون: أساطير الأولين اكتتبها فهي تُمْلَي عليه بكرة وأصيلا، مع علمهم أن صاحبهم أُمِّيّ، وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز. ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس، وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعال:ى لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيتَه خاشعًا متصدعًا من خشية الله. وقال: الله نزَّل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مَثَانِيَ تقشعرّ منه جلود الذين يخشَوْن ربهم. وقال ابن سراقة: اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوهًا كثيرة كلها حكمة وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءًا واحدًا من عشر معشاره، فقال قوم: هو الإيجاز مع البلاغة.وقال آخرون: هو البيان والفصاحة. وقال آخرون: هو الوصف والنظم. وقال آخرون: هو كونه خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر، مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم وألفاظه من جنس كلماتهم، وهو بذاته قبيلٌ غير قبيل كلامهم، وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم، حتى إن من اقتصر على معانيه وغيَّر حروفه أذهب رونقه، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته، فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه. وقال آخرون: هو كون قارئه لا يكلّ، وسامعه لا يمل، وإن تكررت عليه تلاوته. وقال آخرون: هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية. وقال آخرون: هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع. وقال آخرون: هو كونه جامعًا لعلوم يطول شرحها ويشقّ حصرها. وقال الزركشي في البرهان: أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده، فإنه جمع ذلك كله، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق: فمنها الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقر والجاحد. ومنها أنه لم يزل ولا يزال غضًّا طريًّا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين. ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبًا في كلام البشر. ومنها جعله آخر الكتب غَنِيًّا عن غيره، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلى بيانٍ يرجع فيه إليه كما قال تعالى: إن هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وقال الرماني: وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة والتحدي للكافة والصَّرْفة والبلاغة والإخبار عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجزة. قال: ونقض العادة هو أن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة ويفوق الموزون الذي هو أحسن الكلام".
ونضيف إلى ذلك ما يثبت كل يوم من إعجاز القرآن العلمى، سواء التاريخى أو الجغرافى أو الطبى أو الكيميائى أو الصيدلى أو الفيزيائى... مما أفاض ويُفِيض فيه العلماء المختصون، وما كان بعضه سببا فى إسلام عدد من كبار علماء الغرب أنفسهم. وهناك مواقع مشباكية خاصة بذلك الجانب الإعجازى فى القرآن المجيد. ولا يقدح فى الأمر أن بعض من يتناولون هذا الموضوع قد يغالون فى تفسير الآيات بحيث تدل على تناول القرآن لهذه النقطة أو تلك رغم أن الأمر ليس كذلك، فما من شأن من شؤون الحياة إلا وتدخله المغالاة من جانب المتحمسين فلا يكون هذا سببا عند العقلاء فى رفض الموضوع بِرُمّته.
وقد اهتم بعض الدارسين بالجانب الإحصائى فى القرآن الكريم فأدهشهم ما يسوده من توازنات عددية بين الموضوعات المتقابلة أو الموضوعات المتقاربة: فمثلا تكرَّرَ ذِكْر كل من الدنيا والآخرة 115 مرة، وذِكْر كل من الموت والحياة ومشتقاتهما 145 مرة، وذكر كل من الملائكة والشياطين 88 مرة، وذكر كل من الشدة والصبر مائة مرة واثنتين، وذكر كل من المصيبة والشكر 75 مرة، وذكر كل من إبليس والاستعاذة بالله 7 مرات، وذكر كل من الصالحات والسيئات بمشتقاتها 167 مرة. كما تكرر ذكر الجزاء 117 مرة، على حين تكرر ذكر المغفرة ضعف ذلك، وبالمثل تكرر ذكر الفجار 3 مرات، والأبرار ستا، وتكرر ذكر العسر 12 مرة، بينما تكرر اليسر 36 مرة، أى ثلاثة أضعافه. كذلك لوحظ أن كلمة "قُلْ" أَمْرًا من الله سبحانه قد تكررت 332 مرة، وهو ذاته مجموع ألفاظ "قالوا"... وهكذا. ولا ريب فى أن هذا لون آخر من ألوان الإعجاز القرآنى، وأشهر من تناوله فى دراساته المرحوم عبد الرزاق نوفل.
ومما يتميز به القرآن الكرم عن سائر الكتب: البشرى منها والإلهى، أنه هو وحده الكتاب الذى يهتم أتباعه بحفظه فى الصدور بالملايين: فى كل الأقطار وفى كل العصور، وفى أوقات القوة وفى أوقات الضعف والانهيار، ومن كل الأجناس المسلمة والفئات العمرية، يستوى فى ذلك من يعرف العربية ويفهمها ومن لا يعرف ولا يفهم. كما يتميز بأنه قد نشأ حوله وفى خدمته عدد من العلوم المسماة بالعلوم القرآنية مثل إعراب القرآن، والمكى والمدنى، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ورسم المصحف، والقراءات، والتفسير، والإعجاز، والتلاوة وأحكامها...إلخ. وبلغ من اهتمام المسلمين به أنهم حرصوا حتى على إحصاء آياته وكلماته وحروفه، وهو ما لم يقع لأى كتاب آخر دينيا كان أو دنيويا! وهذا من أسرار بركاته وإعجازه!
وهناك جانب آخر قد يصحّ ذكره هنا، ألا وهو أن الذى ينظر فى أسلوب القرآن الكريم وأسلوب الحديث النبوى الشريف نظرا نقديا متأنيا سوف يلحظ أنهما من نسيجين مختلفين تماما بحيث لا يمكن أن يقال إن محمدا هو مؤلف القرآن، فالمعروف أن هناك بصمةً أسلوبيةً لكل واحد من الكتاب أو المتحدثين تميزه عن نظرائه مهما كان المنزع الذى ينزعون عنه متشابها. وقد يمكن أن نسمى هذا إعجازا أسلوبيا، بمعنى أنه يستحيل أن يكون محمد هو صاحب هذا القرآن. وعندما أقول أنا بالذات هذا الكلام فإنى لا أقوله تهويشا، بل أقوله من واقع دراسة قمت بها منذ ستة عشر عاما، وإن تأخر نشرها حتى عام 2000م، وعنوانها: "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية"، وتقع فيما يقرب من 600 صفحة. ولن يمنعنى كونى صاحبها من القول بأنها أول دراسة من نوعها فى تاريخ الفكر الإسلامى لا غرورا ولا تنفُّجا ولا رغبة فى الظهور بل تقريرا لواقع لا يُنْكَر ورغبة فى تنبيه الأذهان إلى خطورة هذه الدراسة التى لن يمنعنى كونى صاحبها أيضا من القول بأنها مع ذلك ليست إلا بداية لدراسات مثلها تتناول ما لم أتناوله ويعرف أصحابها كيف يستعملون الحاسوب أفضل منى ويحرصون على اتباع المنهجية العلمية بطريقة أكثر صرامة. وبالمناسبة فإنى، عندما كتبتها فى سنة 1989م، لم يكن عندى جهاز، ولم أكن أستطيع أن أخط حرفا واحدا على تلك الآلة، بل كنت أستعمل عينى ويدى على نحو بدائى، لكنه والحمد لله كان رغم بدائيته مؤثرا ووصل بى إلى نتائج عجيبة، وكله بفضل الله. وفى هذه الدراسة لم أضيع وقتى فى الكلام العام، بل غُصْتُ مباشرة فى المقارنات بين كتاب الله وأحاديث رسوله من ناحية اللفظ والصيغة والتركيب والصورة البيانية وزاوية الرؤية والبناء القَصَصى والقَسَمى ...إلخ. وهى مقارنات أقرب إلى الإحصاءات منها إلى أى شىء آخر، وكنت أشفعها بذكر النتائج الدقيقة والعجيبة التى توصلتُ إليها من خلال هذه المقارنات.
كما أن هناك وجها إعجازيا آخر للقرآن الكريم، فمَنْ من الذين تنبأوا فى عصره أو بعد عصره يا ترى كان لوحيهم الذى جاؤوا به هذا التأثير الرهيب الذى كان للقرآن أو هذه النتائج الباهرة التى أثمرها القرآن، سواء على مستوى الفتوحات وتأسيس الإمبراطوريات، أو على مستوى الروح والعقيدة، أو على مستوى النفس والأخلاق، أو على مستوى التقدم الحضارى، أو على مستوى الأعداد الهائلة التى دخلت وما زالت تدخل فى دين الله أفواجا حتى فى أوقات انهيار المسلمين عسكريا واقتصاديا وعلميا كما هو حاصل الآن ورغم أن المسلمين لا يعرفون التبشير الممنهج الذى يتبعه النصارى مثلا؟ وعندنا مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسى قديما، وعندنا الباب وغلام أحمد ورشاد خليفة حديثا، فأين أتباعهم؟ وأين تأثيرهم؟ إن ديانات هؤلاء الأخيرين مثلا لأشبه ما تكون بأكشاك سجائر مما تبيع اللب والسودانى والدخان والبونبون فى الظاهر، والحشيش والأفيون والبانجو والهيروين فى باطن الأمر وحقيقته، وكان الله يحب المحسنين، ويلعن المسيئين الخائنين! ولن أتحدث عن المساعدات والمؤامرات التى كانت ولا تزال وراء أمثال هذه النبوات ومدّعيها والإمكانات الضخمة التى تسخرها القوى العالمية لهم من أجل ضرب الإسلام. ثم ها هى ذى الصليبية العالمية تحاول على مدى القرون أن تقضى على الإسلام، لكن الله غالب على أمره. لقد كان الإسلام ينهض بعد كل محنة أكثر قوة ونقاء وحيوية، ولن يُخْلِف هذا الدين العظيم وعده لنا هذه المرة أيضا رغم القنابل النووية التى تنهال على أتباعه، بل حتى لو افترضنا أن أتباعه الحاليين قد أبيدوا إبادة، إذ إنى موقن أنه سيعود، وسوف يكون انبعاثه من بلاد هؤلاء الذين يحاربونه نفسها، ولسوف يثبت المستقبل صدق هذه الكلمات. والأيام بيننا، ودعونا من الأوغاد الأنغال ممن أَلْقَوْا بيد الاستسلام لأعداء دينهم وأمتهم متصورين أن أمريكا قد ملكت العالم إلى الأبد، جاهلين فى غمرة انخلاع قلوبهم المنخوبة والمنخورة أن أمريكا ليست إلا المسيخ الدجال أو صورة من صوره قد تُعْشِى أعين المرمودين، لكنها لا تستطيع أن تؤثر ولا شَرْوَى نَقِير فى قلوب المؤمنين المعتزين بربهم ورسوله. ويكفى أن أمريكا فى الفترة الأخيرة، وبعد أن أفلستْ فى حربها التى تشنّها على دين الله، لم تجد من تجنده لمحاربة الإسلام إلا السحاقيات والزانيات اللاتى يحملن سفاحا والمتهوسات المهلوسات اللاتى يجب عرضهن على طبيب عقلى ونفسى معا رغم أنهن قد يكنّ ممن يمارسن الطب النفسى، وذلك على طريقة الأطباء النفسيين الذين يظهرون فى أفلامنا ويثيرون رثاءنا واستهزاءنا جميعا، إذ يتبين لنا أنهم أحوج إلى العلاج والرعاية من المرضى الذين يترددون عليهم.
ثم إن الكاتب قد شاء له كرمه البالغ أن يقر بأن أسلوب القرآن فى بعض آياته وسوره (لاحظ: فى بعض آياته وسوره فقط) هو أسلوب بليغ ومعبر حقا. وقد كان ينبغى أن نشكر له هذه الشهادة لولا أنه رجل أعجمى لا يفهم شيئا فى بلاغة القرآن، ومن ثم فلا يعتد به ولا بما يقول. كما أنه لم يقل ذلك حُبًّا فى القرآن ولا رغبةً فى أن يقول كلمة حق وصدق، بل ليمهد به إلى الزراية على كتاب الله، حتى إذا اعترض عليه أحد قيل له إن الرجل قد قال فى القرآن ما يرضى ضميره ولم يقصد الإساءة إليه بل تبيان وجه الحق فيه، وإلا لذمَّ أسلوبه على طول الخط. ودليلنا على هذا هو مسارعته فى الحال إلى القول بأن القرآن لا يخلو من كثير من الأخطاء الواضحة التى تخرج على أبسط قواعد النحو والصرف وأساليب التعبير الأدبى فى لغة العرب، كما أن فيه كثيرا من الألفاظ التى لا وجود لها فى أية لغة، فضلاً عن احتوائه على عدد كبير من المفردات التى لا يمكن أن يفهمها أحد، وهو ما أقرّ به الصحابة أنفسهم.
قد يقول بعضهم: وماذا فى أن يكون فى القرآن هذا الذى يدّعيه الكاتب؟ لكننا نعرف أنه إنما قال هذا للخروج منه بأن القرآن ليس وحيا سماويا بل كلاما اخترعه محمد وزعم أنه وَحْىٌ أُوحِىَ إليه من عند الله. ولسوف أفاجئه هو ومن يرافئونه على مثل هذه الدعوى فأسلك فى الرد على هذا القىء سبيلا لا يتوقعها هذا الجاهل ولا خطرت له ببال، إذ سأفترض أن محمدا هو حقا صاحب هذا القرآن، ثم أعاجله بمفاجأة لا تقلّ عن الأولى إذهالا إن لم تزد، وهى أن القرآن رغم هذا يظل فوق المؤاخذة من هذه الناحية. لماذا؟ "هذه هى المسألة" كما يقول شكسبير! فالمعروف أن أية لغة هى فى الأساس من صنع أهلها الأوائل الذين تكون ممارستهم لها حينئذ بالسليقة، أى دون أن يكونوا واعين تماما بالقواعد التى تحكمها، بل يتشرَّبها كل جيل من الجيل السابق عليه تشرُّبا. ثم تأتى مرحلة أخرى بعد ذلك تُجْمَع فيها اللغة وتُسْتَخْلَص قواعدها من كلام أهلها، فما قالوه يكون هو الصواب، وما لم يقولوه أو لا يجرى على الخطوط التى نسجوا عليها لا يكون مقبولا.
ولْنطبِّق الآن هذا الكلام على العربية فنقول: لقد كان الجاهليون يمارسونها بالسليقة، وكان كلامهم هو مقياس الصواب والخطإ. وبطبيعة الحال فإن شعراءهم وخطباءهم كانوا يمثّلون أرقى المستويات اللغوية لكونهم أفضل قومهم ثقافة وذوقا أدبيا ورهافة حس، وكان محمد على أسوإ الفروض واحدا من هؤلاء، مَثَلُه مَثَلُ امرئ القيس وطَرَفة وزُهَيْر والأعشى وقُسّ بن ساعدة وأُمَيّة بن أبى الصَّلْت وحَسّان بن ثابت وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أُخِذَتْ عنهم اللغة، ومن كلامهم قُعِّدَتْ قواعدها. فهل سمع أحد أن شخصًا قد خَطَّأ أيًّا من هؤلاء الشعراء أو الخطباء رافضًا أن يأخذ عنهم لغة العرب؟ إن هذا لم يحدث، ولن يحدث. فقرآن محمد إذن هو، على أسوإ الفروض، مثل شعر امرئ القيس مثلا أو خُطَب قُسّ بن ساعدة، أى أنه هو المعيار الذى يُحْتَكَم إليه ويُؤْخَذ منه ويُهْتَدَى به.أما إذا تطاول أحد وتطلع إلى تخطئته فتلك هى الطامّة الكبرى، وهذا ما فعله ذلك الأعجمى!
وفضلا عن ذلك ينبغى ألا يفوتنا أنه لو كان فى القرآن الكريم أى خطإ لغوى مهما تَفِه لملأ مشركو العرب الدنيا صياحا واستهزاء بمحمد. لقد افْتَرَوْا عليه الأكاذيب ولم يألوا جهدا فى اتهامه زورا وبهتانا بأنه مجنون وأنه ساحر وأنه كذاب وأنه إنما يعلمه بشر، ولكنْ رغم ذلك كله لم يجرؤ أى منهم قط أن يهمس مجرد همس بأن فى القرآن أخطاء لغوية، مع كثرة ما تحداهم أن يأتوا بقرآنٍ مثله أو بعشر سُوَرٍ منه أو حتى بسورةٍ واحدةٍ تشبه سُوَرَه، ومع كثرة ما نَشِبَ بينهم وبينه من حروبٍ كلاميةٍ ومعاركَ بالسيف والرمح والحصان. فما معنى هذا؟ إن أعداء الرسول من المبشِّرين لا يخجلون، بل يلقون بأنفسهم فى المعاطب والمهالك دون تبصر فى العواقب! ذلك أنهم إنما يحركهم الحقد والدناءة، وناسٌ هذه دوافعهم كيف ننتظر منهم أن يُعْمِلوا عقولهم أو يتقوا ربهم؟
وهناك شىء مهم جدا لا بد من توضيحه قبل أن نبدأ الرد على دعاوى الكاتب، ألا وهو أن ما يشير إليه دائما من قواعد يزعم أن القرآن قد خالفها فى هذا الاستعمال أو ذاك قائلاً إن كل طالب فى المرحلة الثانوية يعرفها ولا يمكنه أن يخطئ فيها، هذه القواعد لا تغطى كل الاستعمالات العربية الصحيحة، بل تمثل فقط بعضا من هذه الاستعمالات. ذلك أن اللغة واسعة جدا جدا، أما القواعد التى يدرسها الطلاب فى المدارس فهى جزء صغير منها. ولو رجع الباحث إلى كتب النحو القديمة لوجد محيطًا زخَّارًا متلاطم الأمواج واستعمالاتٍ متعارضةً تَعَارُضَ القبائل العربية القديمة، بل لو رجع الباحث إلى النصوص الشعرية الجاهلية بنفسه لوجد أن ما تقوله كتب النحو هذه لا يغطى بدوره كل الاستعمالات اللغوية الجائزة، وهو ما أتحقق منه كل يوم. فكم من استعمال يؤكد علماء النحو واللغة أنه استعمال خاطئ أجد له شواهد غير قليلة من الشعر العربى القديم، وذلك بفضل الحاسوب والأقراص المدمجة التى تضم الشعر العربى كله تقريبا، ويمكن الباحث أن يحصل منها على مبتغاه فى دقائقَ قليلةٍ لا أسابيعَ أو شهورٍ أو أعوامٍ كما كان يفعل اللغوى القديم، إذ كل ما يحتاجه هو النقر بالفارة على كلمة "ابحث" فيكون بين يديه كنز سليمان اللغوى متمثلا فى الشواهد الشعرية أو النثرية الراجعة إلى كل عصور الأدب العربى تقريبا.
لنأخذ مثلا "المُثَنَّى"، الذى لا يعرف الطلاب عنه إلا أنه يُعْرَب بالألف رَفْعًا، وبالياء نَصْبًا وخَفْضًا، لكن هذا ليس إلا وجها واحدا فى استعماله، إذ كانت هناك قبائل عربية تُعْرِبه بالألف فى كل الأحوال، وهو ما أشرتُ إليه إشارة ضاحكة فى مقال لى سابق حين سُقْتُ المثل الشعبى الذى يردده الشحاذون تحنينا للقلوب فيقولون: "من قدّم شيئا بيداه، التقاه" بدلا من أن يقولوا: "بيديه". ثم نأخذ مثالا آخر، وهو "إن وأخواتها"، التى لا يعرف الطلاب عنها أكثر من أنها تنصب اسمها وترفع خبرها. ولهذا أخذتنى المفاجأة والدهشة عندما وجدت فى بعض النصوص القديمة اسمها وخبرها كليهما منصوبا، وظننت أنه خطأ، إلى أن وجدت أن من العرب القدامى من كان ينصب اسمها وخبرها جميعا. وبالمثل يمكننا أن نشير إلى إعراب "الأفعال الخمسة"، التى درسنا أنها تُرْفَع بثبوت النون وتُنْصَب وتُجْزَم بحذفها، ثم صَدَف أن وجدت بشار بن برد يحذف نونها دون ناصب أو جازم، وظننت أنه قد أخطأ تحت ضغط الضرورة الشعرية، ثم اتضح لى أن معلوماتى هى القاصرة، إذ لم يدرّسوا لنا فى قسم اللغة العربية أن من العرب من كانوا يحذفون نونها فى كل الأحوال. كذلك كانت هناك قبائل لا تمنع أى اسم من التنوين على خلاف ما ندرس فى أبواب النحو من أن ثَمَّةَ ضُروبًا من أسماء الأعلام والصفات وغيرها تُمْنَع من الصَّرْف بشروط أو بغير شروط. وكنت أول ما رأيت من الكتّاب الصحفيين من يقول: "سنينٌ، سنينًا، سنينٍ" (وهو مصطفى أمين) أستغرب ذلك أشد الاستغراب ولا أتصوره، وأعزوه إلى الجهل بالقواعد النحوية، إلى أن عرفت أن هذه طريقة أخرى من طرق إعراب هذه الكلمة، إلى جانب "سنونَ، سنينَ" و"سَنَواتًٌٍ/ سَنَهاتًٌٍ". كما أذكر أنى قد ضحكت حين سمعت للمرة الأولى أن من العرب من كانوا يقولون فى حال الرفع: "عاد القوم الَّذُون سافروا" مثلا، إلى جانب "الذين" فى حالة النصب والخفض، لكنى الآن لم أعد أضحك بعد أن تبين لى أن ما كنا نعرفه لم يكن يزيد على القشور. وبينى وبينكم، وما زال الذى نعرفه حتى الآن لا يزيد على القشور، لكن أرجوكم أن تتركونا نأكل عيشًا وتكتموا هذا الكلام علىّ حتى لا يطمع فىّ طلاّبى، رغم أنى دائما ما أقول لهم هذا، لكن بطريقة ماكرة توهمهم أننى حين أقوله فمن باب التواضع ليس إلا، ومن هنا فإنهم لا يصدّقون أننى لا أعرف شيئا أكثر من القشور ويظلون على عماهم متصورين أن تحت القبة شيخا... وقد كان هذا سببا فى أننى لم أعد أسارع إلى تخطئة أى استعمال إلا بعد أن أذهب فأراجع على الأقل "الموسوعة الشعرية" التى فى حوزتى والتى تضم كل الشعر العربى قديمه وحديثه تقريبا ونحو ثلاثمائة كتاب من أمهات كتب التراث الأدبية والنقدية. فهذا المبشِّر الأعجمى على أحسن الفروض، وهو فرض مستبعد تماما، لا يزيد إذن عن ذلك الطالب الذى لم يعرف من اللغة العربية إلا الجلوس على ساحلها ومدّ رجليه فى الماء ثم يزعم بعد هذا أنه قد غاص فى أعماقها ووصل إلى قرارها وأتى منها بكنوز من الدُّرَر واللآلئ، وهو لم يكد يعرف منها شيئا. وعلى هذا ينبغى على الأقل أن نميز بين الشاعر القديم والأديب المعاصر عندما نحكم على لغتهما، إذ بينما يمكننا مطالبة أديبنا المعاصر بالتزام القواعد النحوية والصرفية التى درسناها فى المدارس واستقر عليها الوضع، فإنه من الظلم القول بأن الشاعر القديم، الذى لم تكن القواعد على عهده قد وُضِعَتْ فى قوالبها التى نعرفها وثبتت على وضعها النهائى، قد أخطأ بسبب عدم التزامه بهذه القواعد. ذلك أنه إن كان قد أهمل قواعدنا الحالية فإنه مع ذلك لم يخرج عن اللغة، إذ اللغة، كما قلت، بحرٌ زخّارٌ فيه العجب العُجَاب!
وبالنسبة لما قاله صاحبنا عن الحروف المقطَّعة نجيب بأن الرأى القائل بعجزنا عن التوصل إلى معنى هذه الحروف هو رأى بعض العلماء فحسب، بينما هناك فريق آخر يرى أن المقصود بها تنبيه المعاندين إلى أن القرآن مؤلف من هذه الحروف وأمثالها، ومع ذلك لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بسورة منه. ونحن إذا ما قرأنا الآية التى تلى هذه الأحرف فى كل سورة تقريبا فسوف نجد أن هذا تفسير جِدّ وجيه. ومن ذلك قوله تعالى فى أول "البقرة": "ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه"، وفى أول "الحِجْر": "ألر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين"، وفى أول "الشورى": "حم* عسق* كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم"...وهكذا، إذ المعنى فى الشاهد الأخير على سبيل المثال أنه من هذه الحروف وأشباهها (وهذا معنى قوله تعالى: "كذلك) يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم". وقس على ذلك السُّوَرَ الباقيةَ، وإن لم يأت التعبير فيها دائما على هذا النحو المباشر، بل تنوَّع من سورة لأخرى. أما السورتان أو الثلاث التى لا يوجد فى أولها مثل هذه الإشارة ففى الكلام فيها حذف كالحذف الذى يقابلنا فى كثير من آيات القرآن الكريم جريًا على سنة العرب وغير العرب فى لغاتهم.
وللمسلمين آراء أخرى فى تفسير هذه الحروف: منها أنها أسماء للسور التى تبتدئ بها. ومن هذا أننا، عندما كنا صغارا نحفظ القرآن فى الكتّاب،كنا نقول مثلا: لقد وصل فلان فى حفظه للقرآن إلى "الحواميم". وبعض العلماء يقولون إنها اختصار لأسماء الله، وبعضهم يقول: بل هى اختصار لصفاته تعالى، فإذا أخذنا "ألم" مثلا فإن "الألف" تشير إلى "آلاء الله"، و"اللام" إلى "لطفه"، و"الميم" إلى "مجده وملكه"... وهكذا. ومع أن الاتجاه الحديث فى التفسير بوجه عام لا يأخذ بهذا الرأى فإنه، رغم كل شىء، أَوْجَهُ كثيرا جدا من التفسير البهلوانى الذى يدّعى كاتب سفر "دانيال" فى العهد القديم أن دانيال قد فسّر به رؤيا المَلِك البابلى حين رأى فى منامه كتابة مرسومة ليس لها معنى هذا نصّها: "مَنَا مَنَا تَقِلْ وفَرْسِين"، إذ قال له: "مَنَا: أى أحصى الله مُلْكك وأنهاه. تَقِل: أى وُزِنْتَ فى الميزان فوُجِدْتَ ناقصا. فَرْس: أى قُسِّمَت مملكتك ودُفِعْتَ إلى ماداى وفارس". ترى أيمكن أن يدخل فى رُوع أحد أن يهوديًّا منفيًّا فى مملكة ذلك العاهل يمكن أن يجبهه بهذا الكلام الفظيع؟ وأدهى منه وأطمّ أن يدَّعى مؤلف السفر أن المَلِك، من إعجابه بهذا التفسير، قد ألبسه الأرجوان وطوَّق عنقه بالذهب! إن هذا لهو المستحيل بعينه، إذ لو صحت هذه الرواية، ولا أحسبها صحيحة أبدا، لما كان رد فعل الملك شيئا آخر غير تطيير رقبة ذلك اليهودى بالسيف فى التو واللحظة! لكن مؤلف السِّفْر يعرف أن قُرّاءه داقّون عصافير ومختومون على قفاهم، ولهذا يتوسع مؤلفو الكتاب المقدس فى هذه "المطاوى" غير المقدسة! على أن المسرحية لمّا تكتمل فصولا، إذ تمضى القصة فتقول إن المَلِك البابلى قد قُتِل فى تلك الليلة ذاتها وانتقل مُلْكه فعلا إلى الملك داريوس المادى (دانيال/ الإصحاح الخامس كله).
بَيْدَ أنه فى العقود الأخيرة قد اكتُشِف، عن طريق الحاسوب، مغزى إضافى لورود هذه الحروف فى أوائل السور، إذ وُجِد أن الحرف الذى يتصدر آيات السورة هو أكثر الحروف دورانا فيها، أما إذا كان هناك حرفان أو أكثر فإن تردد أولها يكون أكثر من تردد الثانى، وهذا أكثر من تردد الثالث...وهكذا. ولا تزال الأيام حبلى بالكثير من مثل هذه الاكتشافات الخاصة بالحروف والأرقام.
ثم إن الذى يقرأ كلام هذا الأعجمى المتطاول يظن أن كتابهم المقدس قد خلا من الألفاظ التى حيرت مفسريه رغم أن أسلوبهم فى التفسير يفتقر إلى الانضباط والمنهجية ويتسع لكل شىء ولأى شىء. ولن أذكر للببغاء إلا مثالا واحدا هو كلمة "سلاه"، التى وردت فى "المزامير" 63 مرة، وثلاثا فى "حبقّوق"، والتى اختلف مفسروهم فى شرحها اختلافا شديدا وما زالوا رغم أنهم، كما قلت، لا يتقيدون بمنهج فى تفسيرهم! ثم فلنفترض بعد ذلك كله أن هذه الحروف المقطعة ليس لها معنى، فأى ضير يا ترى سوف يترتب على وجودها فى أوائل السور؟ بل أية فائدة يا ترى سيحرمنا منها وجودها فى ذلك المكان؟ لقد كان القدماء يَصِفون من يثير مثل هذه المماحكات بأنه "لُكَع"! وأخيرا فحتى لو قلنا إنه قد جىء بها لمجرد التنبيه ولفت الآذان والأذهان من خلال الإدهاش بشىء جديد طازج، أفيكون هذا شيئا قليلا؟
وينفى الكاتب أن يكون جمال الأسلوب وسموه غاية لله فى أى وحى ينزله على أحد من رسله، قائلا إنه سبحانه ليس معلما للغة العربية ولا يعنيه أن ينشر هذه اللغة فى العالم، بل الذى يهمه أن يوصل المضمون الذى يريد توصيله للبشر كى يشعروا بالسكينة والبهجة. والحق أن هذا خبط على غير هدى وخلط للمفاهيم، إذ من قال إن الله سبحانه حين ينزِّل وحيا بأسلوبٍ رائعٍ على نبى من أنبيائه إنما يحوّل نفسه بهذه الطريقة إلى مدرس لتلك اللغة؟ إن هذا لتفكير مضحك عجيب! وهل نفهم من هذا أنه سبحانه عليه أن ينزِّل وحيه بأى أسلوب، والسلام؟ وما المانع من أن يكون مضمون الوحى فخمًا ساميًا، وأسلوبه فخمًا ساميًا كذلك فيجمع بذلك بين السُّمُوّيْن حتى يليق بجلال الله وجماله وكماله؟ أم ترى الكاتب العبقرى يرى فى هذا ما يقدح فى ألوهيته سبحانه؟ وهل القرآن قد تحول بسبب من إبداعه الأسلوبى إلى كتاب فى قواعد النحو والصرف، أو إلى معجم لغوى مثلا؟
ثم إن الكاتب يسم اللغة العربية بأنها لغة مندثرة، فبأية أمارة كان ذلك يا ترى؟ وأية لغة إذن تلك التى نتكلم بها ونكتب الآن؟ يقينا ليست هى اللغة الصينية أو البنغالية مثلا، أم لكاتبنا الهمام رأى آخر؟ أما إن قيل إن العربية اليوم ليست هى العربية التى كانت فى الجاهلية، فإننا لا نشاحّ فى هذا، بل نتفهمه ونتقبله ولا نجد فيه أية غرابة أو معابة، لسببٍ جِدّ بسيط، وهو أن هذه سُنّة لغوية عامة لا تفلت منها لغة من اللغات قَدُمَتْ تلك اللغة أم حَدُثّتْ. ومع هذا فإن أسلوب القرآن مازال غَضًّا إلى حدٍّ كبيرٍ بالنسبة لأسلوب الشعر الجاهلى مثلا أو حتى الإسلامى والأموى، بل والعباسى أيضا، سواء من حيث المفردات أو العبارات أو التراكيب، مع التسليم بأن هناك تراكيبَ قرآنيةً لم تعد تستخدم الآن إلا على سبيل الندرة، إلا أن ورودها فى القرآن الذى يقدسه المسلمون ويحبونه مهما بلغ بفريق منهم الجهل والأمية قد عصمها من الاندثار وجعلها مفهومةً ولو فهمًا مقاربًا رغم كل شىء! ودعنا من اللغات الأخرى التى تتسع فيها مسافة الخُلْف بين أساليب عصورها المختلفة، كالإنجليزية مثلا حيث تختلف لغة تشوسر عن لغة العصر الحالى اختلافا رهيبا فكأنهما لغتان منفصلتان. ليس ذلك فحسب، بل إن بَرَكة القرآن قد حفظت لغة يَعْرُب كل هاتيك القرون وستحفظها إلى ما شاء الله، بخلاف اللغات الأخرى بما فيها اللغات السامية أخوات لغة القرآن، فقد اختفت تلك اللغات وأصبحت من حكايا التاريخ الغابر، باستثناء اللغة العبرية التى بعثها أهلوها فى العقود الأخيرة بعد قيام دولة الصهاينة. ومع ذلك فالعبرية المبعوثة هى شىء مختلف إلى مدى بعيد عن العبرية القديمة، وهذه العبرية الجديدة مصيرها إن شاء الله إلى اختفاء مع زوال الدولة الصهيونية. أما متى؟ فقل: عسى ألا يكون بعيدا!
وإذا كانت هناك مشكلة فى فهم القرآن فهى ناتجة من أن للقرآن أدواتِه ومداخلَه التى يتعين على من يريد فهمه الفهم الدقيق والعميق أن يتوسل بها، ويأتى على رأسها ما يسمى فى "علوم القرآن" بــ"أسباب النزول"، وهى الظروف التى واكبت نزول هذا النص أو ذاك من نصوص القرآن، إذ القرآن يقوم على الإيجاز وتجنب التفاصيل والتفريعات، ويكتفى عادة بالخطوط العامة مهملاً الأسماء والتواريخ وتحديد الأماكن...إلخ، على عكس الحال مع مؤلفى العهد القديم والعهد الجديد الذين جعلوا وُكْدهم التأريخ لبنى إسرائيل وأنبيائهم، فجاء ذانك الكتابان أقرب للسيرة النبوية منهما للقرآن فى الغاية وطريقة التأليف، بل إن السيرة النبوية فى التفاصيل والتفصيصات فى غير قليل من المواضع لتبدو بالنسبة لهما وكأنها النسمة البليلة بالنسبة لحر الصيف المرهق بل المزهق. وعلى أية حال فمعروف أن من يريد دراسة نص ما وتذوقه عليه أن يلم بعدة أشياء كى يصل إلى مبتغاه من هذا الفهم والتذوق على أحسن ما يرام، أما من يريد أن يفهم أى فهم والسلام، ولو كان فهما مغلوطا أو ضبابيا، فهذا شأن آخر، ولن نتكلم فى هذه الحالة عن التذوق والاستمتاع. إن الفهم والتذوق الصحيح يقتضيان أن يكون القارئ على معرفة كافية بقواعد اللغة والبلاغة، ومقدرة على استعمال المعجم، وإلمام معقول بالخلفية التاريخية والجغرافية والاجتماعية والنفسية التى تقف خلف النص، وأن يكون صاحب ممارسة ودربة فى ميدان القراءة واستطعام الأساليب الأدبية، وإلا فلن يتحقق له الفهم والتذوق المطلوبان.
أما قوله إن فى القرآن مئات الألفاظ التى حيرت الصحابة واستعصت على أفهامهم فهو كلام سخيف وتافه وكذاب مثل صاحبه لا يؤبه له ولا يوقف عنده! إن كل ما ضربه من أمثلة على دعواه هذه لا يعدو مثالين، ولا أظن أن الصحابى المذكور فى كل حالة لم يكن يفهم دلالة اللفظ بالمعنى الذى يريد الكاتب أن يخيّله لنا، بل كل ما هنالك أنه لم يكن يحدد المعنى على وجه الدقة كما يحدث لكثير منا مع بعض النصوص، إذ تبقى هناك ألفاظ لا يتضح معناها تمام الاتضاح، ولا يمنع هذا من فهم النص رغم ذلك، إذ من قال إن كل قارئ يفهم كل نص يطالعه فهما دقيقًا عميقًا بحيث لا يكون هناك أى لفظ إلا وكان معناه مَجْلُوًّا تمام الجلاء؟ ثم إنه إذا لم يفهم قارئٌ ما كلمةً أو عبارةً أو تركيبًا فليس معنى هذا أن هذا اللفظ أو ذلك التركيب أو تلك العبارة غير قابلة للفهم بالنسبة لكل القراء كما يزعم الكاتب، وإلا فالسؤال هو: فمن إذن يا ترى شَرَحَ الكلمتين المذكورتين للصحابيين الجليلين؟ إنهم أشخاص عرب آخرون، لا أشخاص أَتَوْا من الفضاء الخارجى. ومن الواضح أن اللفظين اللذين ذكرهما الكاتب هما من الألفاظ الخاصة بقبيلة أخرى غير التى جاء منها الصحابى موضع التعليق، فمن الطبيعى ألا تكون اللفظة واضحة المعنى لمن لا ينتمى إلى تلك القبيلة. ذلك أن القرآن لم يقتصر فى بعض الحالات على لهجة قبيلة واحدة. وهذا كله إن كانت مثل هذه الروايات فعلا صحيحة. وها هو ذا ابن عباس يفسر كلمة "الأبّ" ببيت من الشعر وردت فيه يدل على أنها نبات من النباتات. وقد جاء هذا الكلام فى "الإتقان" للسيوطى، لكنك، أيها المبشر الرقيع، لم تورده لأنه يكذّبك فى أصل وجهك. وهذا هو نص السؤال الذى طرحه نافع بن الأزرق على ابن عباس وجواب ترجمان القرآن عليه كما نقله السيوطى عن "مسائل نافع بن الأزرق": "أَخْبِرْني عن قوله تعالى: وأَبًّا. قال: الأبّ: ما يعتلف منه الدواب. أمَا سمعتَ قول الشاعر:
ترى به الأبَّ واليقطين مختلطًا على الشـ*ـــــــريعة يجري تحتها الغرب؟"
أما زعم ذلك المجنون أن النبى لم يستطع هو أيضا أن يفهم معنى هذه الألفاظ فلا أدرى ماذا أقول بشأنه. ألم يحاول الكاتب الأحمق أن يسأل نفسه: فكيف يا ترى تسللت هذه الألفاظ التى لم يكن النبى يفهمها إلى القرآن، الذى يزعم المؤلف أنه مخترعه؟ إنه ما من كلمة فى القرآن إلا وهى تعنى شيئا فى سياقها وتشعّ بالإيحاءات وتنفح بأنفاس الجمال والجلال، لا تتخلف كلمة واحدة عن ذلك، وهو ما يدل على أن كل لفظة من ألفاظه كانت مقصودة معروفة المعنى مشحونة بالإيحاءات والإيماءات منذ البداية. أما ادعاء المؤلف أن الصحابة قد سألوا النبى عن عدد من الألفاظ فعجز عن شرحها لهم فهو ادعاء من شأنه أن يسوق صاحبه إلى مستشفى الأمراض العقلية، إذ ما الذى يحمل النبىَّ على أن يضمن قرآنه مثل هذه الألفاظ؟ ألا يعرف أنه سوف يُسْأَل عن معانيها، وأنه سوف يُعَرِّض نفسه لحَرَجٍ بالغٍ، بل قد تواجَه رسالته كلها عندئذ بالتكذيب إنْ هو لم يعرف كيف يشرحها لهم؟ وهذا لو قبلنا أصلا أن يُقْدِم الرسول عليه السلام على استعمال ألفاظ ليس لها دلالة فى ذهنه، بما يعنى أنه كان يستعمل ألفاظا لا وجود لها فى اللغة، إذ أَنَّى لإنسان بألفاظ لا يعرف لها معنى فيستخدمها فى كلامه؟ فإن قيل إنه كان يحفظها ويرددها دون فهم قلنا إن الشخص فى هذه الحالة يكون عنده فهمه الخاص (والخاطئ بطبيعة الحال) لهذه الكلمات، أما أن يقال إنه لم يكن يعرف لها معنى البتة فهذا لا يجوز عند أصحاب العقول، اللهم إلا إذا كان رجلا هازلا، وكانت الظروف التى يتحدث فيها ظروفا تبعث على الهزل أو على الأقل تتحمله! وأين هذا من ظروف الرسول عليه الصلاة والسلام أو من شخصيته أو شخصية أصحابه؟ وبطبيعة الحال فأنا لا أقول عن الرسول إنه هو مؤلف القرآن لأنى، والحمد لله، أعقل من هذا، بل لقد أنفقت عمرى فى البرهنة العقلية على أنه رسول من عند رب العالمين وأن القرآن الذى أتى به هو كتاب الله سبحانه، لكن طبيعة المجادلة هى التى تجعلنى أتسامح غاية التسامح مع أمثال ذلك المبشر الأحمق حتى أُبْطِل له كلّ شبهة ولا أترك له ولا ثَقْب إبرة ينفذ منه.
كذلك يقول الكاتب إن فى القرآن كثيرا جدا من الألفاظ التى لا وجود لها فى أية لغة من اللغات. وهذا كلام عجيب لا معنى فى الواقع له إلا أن المبشرين الذين يحاربون القرآن قد فقدوا عقولهم. طيب يا ابن الحلال (وابن الحلال هذه هى على سبيل التهكم لا الحقيقة! أقولها، ورزقى على الله، حتى يفهم المسكين قصدى ولا يظن أنى أمدحه، فمن الواضح أن آلة الفهم لديه معطلة أو معطوبة أو من نوع مضروب غير يابانى) أقول: طيب يا ابن الـحلال، إذا كان الصحابة قد عجزوا عن فهم هذه المئات من الألفاظ القرآنية، ومن قبلهم الرسول نفسه، فمعنى ذلك أن النص القرآنى هو نص مغلق (مغلق لا بالمعنى الحداثى المأفون الذى يريد من ورائه الحداثيون أن يفصلوا أى نص عن سياقه حتى يعيثوا فيه فسادا بالتفسيرات الشيطانية بشبهة أن مؤلفه قد مات، وخلّف بنات، وأصبحوا هم الورثة له يفعلون به ما يشاؤون وما تشاء لهم شياطينهم، مع أن الله سبحانه قال إن الذين يستحقون إرث الأرض (وقِسْ عليها كل إرثٍ صالحٍ آخَر) إنما هم "عبادى الصالحون"، بل بمعنى أن النص القرآنى الكريم غير قابل للفهم)، إذ ليس هناك، كما ترى، باب أو حتى ثغرة فى جدار يمكن أن ينفذ منها القارئ إلى فهمه، وإلا فما الذى يبقى من النص القرآنى حين يدعى هذا الرجل العجيب أنه يحتوى على مئات من الألفاظ التى لا يستطيع أحد فهمها ولا حتى الرسول نفسه الذى أتى به، سواء قلنا إنه أتى به من عند الله أو من عند نفسه؟ طيب (وإن شاء الله يَطِيب ويَنْهَرِى لقاء ما شغلنى عن عمل شىء مهم بدلا من توضيح غبائه وهَطَله والتواء عقله ونيته)، طيب إذا كان الأمر كما تقول يا ذكى (و"ذكى" هنا مستعمَلة على سبيل السخرية، فلا يَغُرَّنّك ظاهر القول!)، فكيف تم تفسير هذه الألفاظ فيما بعد وفَهِمَ الناس القرآن إذن وفسَّروه ودرسوه وترجموه: مسلمين وغير مسلمين؟ أم تراك تقول إنهم، حين فسروا هذه الألفاظ، قد أَعْطَوْها تفسيراتٍ كُلّشِنْكانيّةً؟ وهذه الكلمة الأخيرة لن تفهمها بطبيعة الحال ما دمت لا تفهم السهل المباشر!
يا أخى القارئ الكريم، هأنتذا ترى كيف يحارب المبشرون قرآن الله المجيد ويرسلون إلينا الرسائل يحرضوننا على ترك الإسلام والكفر بسيد الرسل والأنبياء قائلين إننا ينبغى أن نعود ثانية إلى ديانة أجدادنا المصريين الذين أُكْرِهوا على الإسلام إكراها بالقتل والتعذيب والاضطهاد واغتصاب النساء! يعنى: يأمروننا بالكفر بعد إذ نحن مسلمون، مرددين هذه المرة كذبة أخرى بدلا من الكذبة القديمة التى كانت تقول إن المسلمين ليسوا مصريين بل عرب محتلون، ولما انكشف سخف هذه الفِرْية (التى كان سخفها مكشوفا من البداية، لكن فهمهم البطىء مثل حاسوبى الذى أكتب عليه الآن قد استغرق وقتا طويلا ومملا حتى فهمها كما فهمها الآخرون للوهلة الأولى)، لما انكشف سخف هذه الفرية غيَّروا الأسطوانة كما نسمع وتسمعون، وشرعوا يتهمون العرب بأنهم أكرهوا أجدادنا على اعتناق الإسلام واغتصبوا نساءهم! يا سيدى، نحن راضون، وعلى رأى المثل: أنا راض، وأبوها راض، فما دخلك أنت يا قاض؟ ولا أظن أننا سنترك توحيد محمد النقى إلى غيره، فلينصرف كل منا إلى ما يعتنقه، ولا داعى للشتم ليل نهار فى رسولنا الكريم والدين القيّم الذى أتى به والقرآن المجيد الذى نزل عليه، هذا الشتم الذى يدفعنا إلى الرد مضيعين وقتنا بدلا من إنفاقه فى شىء مهم، ولولا هو ما اهتممنا بالحديث فى هذه الموضوعات، فكل إنسان حر فى معتقده وعبادته، لكن هناك للأسف أقواما لا يحبون أن يشيع السلام بين طوائف العباد.
ويشير المؤلف إلى أن فى "الإتقان" لجلال الدين السيوطى فصلاً كاملاً يزيد على مائة صفحة بعنوان: "فيما وقع فيه بغير لغة العرب" خصَّصه كله لـلكلمات القرآنية التى تحتاج إلى شرح، كما يؤكد قائلا إن مفردات اللغة العربية الفصحى وبعض تعبيراتها لم تعد تستعمل الآن بَتَّةً حتى من قِبَل العرب أنفسهم، فضلا عن أن العربية ذاتها هى من التنوع والتشعب حتى لقد قال الشافعى عنها إنها لا يحيط بها إلا نبى. ومن ثم فهو يتساءل: ما الفائدة يا ترى التى يمكن أن يجنيها العالم من كتاب الله إذا كان هذا الكتاب مصوغا بلغة صعبة حتى على العرب أنفسهم بما فيهم صحابة النبى، وبخاصة أن العلماء المسلمين يصرون على أنه لا يجوز ترجمة القرآن، بل لا يمكن معرفة وجه إعجازه عن طريق الترجمة، ولا بد من قراءته بالعربية، وكأن الله عربى، ولا يريد أحدا من غير العرب أن يقرأ القرآن؟
ويقول الكاتب المسكين (لكن ليس من المساكين الذين هم أحباب الله، فأولئك هم الأطفال البرءاء، أما هو وأمثاله فليسوا من البراءة ولا البراءة منهم فى شىء) يقول إن السيوطى قد خصص نحو مائة صفحة لشرح الكلمات الصعبة فى القرآن بما يعنى أن القرآن صعب الفهم لأنه مكتوب بلغة صعبة. وهذا الكلام من كاتبنا المسكين (المسكين بالمعنى الذى تعرفون، فلا داعى للتوضيح مرة أخرى) ينسف كل ما قاله عن وجود مئات الألفاظ فى القرآن غير قابلة للفهم، فهذا هو السيوطى رضى الله عنه، ولا رضى عن كل كذاب مداور يحاد الله ورسوله ويدعو إلى الكفر، قد استطاع شرح الكلمات التى كان هذا الكذاب يزعم قبل قليل أنها لا يمكن فهمها أبدا ولا بالطبل البلدى (أو بالأوركسترا السيمفونى، وذلك حسب موقعك من خريطة التذوق الموسيقى: فإن كنت مثل حالاتى وحالات يوسف السباعى ومن لفّ لفّنا فتوكل على الله واختر الطبل البلدى (البلدى يُؤْكَل!)، وأما إن كنت على شاكلة حسين فوزى وفؤاد زكريا وأمثالهما فسبيلك السيمفونيات). وهذه واحدة، أما الثانية فلو أن القارئ الكريم كلف نفسه ورجع إلى السيوطى وطالع تلك الكلمات فلسوف يتبين له فى الحال أن الأغلبية الساحقة منها لا تحتاج إلى أى شرح، وأن كثيرا من المتبقى بعد هذا إنما يشرحه السيوطى بمعناه المجازى الذى يظن أنه يحتاج إلى توضيح، مع أن الأمر ليس بمثل هذه الحاجة. وإليكم البيان بأول ثلاثين لفظا من الألفاظ التى أوردها السيوطى فى قائمته المذكورة وشَرَحَها:
"يَعْهَمُون: يتمادَوْن. مطهَّرة: من القذر والأذى. الخاشعين: المصدِّقين بما أنزل الله. وفي ذلكم بلاء: نعمة. فُومها: الحنطة. إلا أمانيّ: أحاديث. قلوبنا غُلْف: في غطاء. ننسخ: نبدّل. نُنْسِها: نتركها فلا نبدّلها.مثابة: يثوبون إليه ثم يرجعون. حنيفًا: حاجًّا. شطره: نحوه. فلا جناح: فلا حرج. خطوات الشيطان: عمله. أُهِلّ به لغير الله: ذُبِح للطواغيت. ابن السبيل: الضيف الذي ينزل بالمسلمين. إنْ تَرَك خيرا: مالاً. جَنَفًا: إثمًا.حدود الله: طاعة الله. لا تكون فتنة: شِرْك. فَرَضَ: حرَّم. قُلِ العفو: ما لا يتبين في أموالكم. لأَعْنَتَكم: لأَحْرَجَكم وضيَّق عليكم. ما لم تمسّوهن أو تفرضوا: المس: الجماع. والفريضة: الصَّدَاق. سكينة: رحمة. يئوده: يثقل عليه. صَفْوان: حجر. صَلْد: ليس عليه شيء. متوفّيك: مميتك". هذا، وأحب أن أضبف شيئا، ألا وهو أننا لو قرأنا هذه الكلمات فى سياقها من الآيات الكريمة ما احتجنا فى فهمها إلى أى شرح تقريبا، وهذا هو الفهم الذى يحتاجه كل إنسان، أما لو كان قصدنا التعمق فى التفسير والتحليق فى آفاق النص العليا التى لا تهم إلا المتخصصين ومن يلوذون بهم فهذا شىء آخر. وللعلم فإن المعجم القرآنى ليس كبيرا كما قد يظن بعض الناس، فمعنى وجود مئات الألفاظ فيه غير قابلة للفهم أنه لا فائدة فى القرآن الكريم ولا أمل من ورائه فى الهداية أو التعليم، فكيف يا ترى تطوّر المسلمون كل هذا التطور وكانت لهم حضارتهم وثقافتهم وعقيدتهم وتشريعاتهم التى تختلف اختلافا كبيرا عما فى أيدى الآخرين حتى من الذين يقولون إنهم يؤمنون بعيسى وموسى عليهما السلام؟ وكيف يا ترى نفسر وجود هذه الطوائف المتتالية على مدى القرون من المفسرين ومعربى القرآن ومستخلصى العقائد الإيمانية والقواعد الفقهية والنظم الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية منه؟ أكل هؤلاء مجانين أو على الأقل مضللون، وأنت وحدك الذى تفهم الفُولة وقشرتها؟ ما أصدق فمك الطاهر الشريف يا رسول الله، صلى الله عليك وسلم، حين قلت: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت!".
وإضافة إلى هذا فإن تخطئة الكاتب الكذاب للقرآن الكريم تدل على أنه، وهو الأعجمى، يفهم القرآن، على الأقل فى نظر نفسه (إلهى يَنْطَسّ فى نظره! قولوا: آمين!)، فما بالنا بالعرب، بل بالصحابة، بل بالرسول، الذى جُنَّ الرجل الباذنجان هذا وزعم أنه عليه السلام لم يكن يفهم القرآن؟ طيب لماذا؟ ألا يدل هذا يا كذاب يا قرارىّ أن القرآن قد جاءه من خارج نفسه ولم يؤلفه هو؟ أليس هذا هو مقتضى هذه الكذبة البلقاء التى كَذَبْتَها وانقلبتْ عليك شأن كل من يقف فى طريق القرآن كما انقلبتْ منذ غير بعيد على ملفقى "الفرقان الحق" حسبما بينتُ من خلال الكتاب الذى رددتُ فيه عليهم وفضحتهم وهتكت ستره وسترهم، هذا الكتاب الذى سرقه "أبو عبد الرحمن" منى حرفيا (شُفِ الوقار الذى فى اسم "أبو عبد الرحمن"، وليس شىء منه فى اسم العبد لله، مع أن هذا السارق لا يزال فى طور الشباب، وليس رجلا كبيرا مثلى! لكن ماذا نقول فى عُدّة الشغل ومستلزماته؟)، وبعد أن سرقه منى غنيمةً باردةً زعم فضيلته أنه قد واصل الأيام والليالى فى تأليفه خدمةً لكتاب الله ودفاعًا عن دينه (يا ليتها ما زَنَتْ ولا تصدَّقَتْ!)، ولم ينس توجيه الشكر لــ"أم عبد الرحمن" على ما بذلته معه من جهد وما شجعته به أثناء... أثناء ماذا؟ أثناء سطوه طبعا على كلامى وفكرى. الواقع أنها حاجة تكسف وتبعث على الاشمئزاز! لكن ما علينا من هذا الآن، وتَعَاَلْوا إلى ما كنا بصدده! ألا إن موعدنا الصبح، وليس الصبح ببعيد!
وجوابا على سؤال المبشِّر الذى يقول فيه: "ما الفائدة يا ترى التى يمكن أن يجنيها العالم من كتاب الله إذا كان هذا الكتاب مصوغا بلغة صعبة حتى على العرب أنفسهم بما فيهم صحابة النبى، وبخاصة أن العلماء المسلمين يصرون على أنه لا يجوز ترجمة القرآن، بل لا يمكن معرفة وجه إعجازه عن طريق الترجمة، ولا بد من قراءته بالعربية، وكأن الله عربى، ولا يريد أحدا من غير العرب أن يقرأ القرآن؟"، جوابا على هذا نقول إنه إذا كان هناك من علماء المسلمين من لا يجوِّز الترجمة فهناك فى الوقت نفسه من لا يجد بأسا، بل يرى الفائدة كل الفائدة، فى الترجمة، على أن يُفْهَم من الترجمة أنها ليست قرآنا بل مجرد محاولة لنقل معانيه إلى اللغات الأخرى. وهو موقف مستنير جدا، سواء فى تجويزه الترجمة أو نظرته إلى عملية الترجمة ذاتها على أنها ليست هى الأصل نفسه، بل مجرد محاولة لنقل المعانى التى يحتوى عليها هذا النص من لغة إلى أخرى لا غير. وبالمناسبة فهذا الكلام ليس خاصا بالقرآن وحده، يل يصدق على ترجمة أى نص، وبالذات النصوص الأدبية، وإن ظل للقرآن مع ذلك وضعه الخاص من حيث إعجازه وكثافة عبارته وأسلوبه الفذ الفريد وطبيعة كثير من موضوعاته التى تتجاوز نطاق الخبرة البشرية مما يتعلق بعالم الغيب وما أشبه. وعلى كل حال فالله سبحانه وتعالى لم يَنْهَ عن ترجمة كتابه، بل هو مجرد رأى لبعض العلماء يأخذ به من يأخذ، ويَدَعُه من يَدَع. وعلى كل حال مرة ثانية فهذا هى ذى الترجمات القرآنية بجميع لغات العالم تقريبا تملأ المكتبات، فلا داعى لكل هذه الضجة التى يزعج بها الكاتب آذاننا جهلاً منه وتساخفًا.
ومما انتقده المؤلف على القرآن أنه استخدم بعض الكلمات فى عكس معناها جريا على سنة العرب فيما يعرف فى لغتهم بــ"ألفاظ الأضداد"، إذ نراه يستخدم مثلا كلمة "بعد" بمعنى "قبل"، مربكا القارئ بهذه الطريقة الغريبة فى استعمال الكلمات فى عكس ما عُرِف لها من معنى. وهو هنا يستشهد بالسيوطى، الذى ينقل عن ابن خالويه أن "بعد" قد استعملت فى القرآن بمعنى "قبل" فى موضعين أحدهما قوله تعالى: "ولقد كتبنا فى الزَّبور من بعد الذِّكْر أن الأرض يرثها عِبَادِىَ الصالحون""، مع أن تفسير الآية لا يحوج إلى كل هذا التكلف الذى لجأ إليه ابن خالويه ظنا منه، فيما أتصور، أن "الذِّكْر" هنا هو القرآن الكريم، وما دام الزبور قد جاء قبل القرآن فــ"بعد" إذن فى الآية تعنى: "قبل". لكن الحقيقة تقتضى أن نقول إن الآية لا تحوج كما قلنا إلى هذا التفسير المعكوس، إذ المعنى فيها أن الله سبحانه وتعالى، بعد أن ذكَّر الناس فى الزبور بالإيمان به سبحانه وبوجوب التمسك بالهدى والصلاح، قد كتب فى الزَّبور نفسه أيضا أن الأرض يرثها عباده الصالحون. وقد رجعتُ بعد هذا إلى "تفسير التحرير والتنوير" للشيخ الطاهر بن عاشور فوجدته يقول نفس ما قلت، وإن كان قد أضاف أن هناك من يقول إن "الذكر" المراد هنا هو "التوراة"، وهى قد نزلت قبل الزبور، ومن ثم فلا تضاد ولا يحزنون. أى أن المسألة هى مجرد اجتهاد من السيوطى وابن خالويه، اجتهاد مشكور بلا ريب، وإن كنا لا نشاطرهما نتيجته. وهذا نص ما كتبه ابن عاشور: "ومعنى "مِنْ بَعْد الذِّكْر" أن ذلك الوعد ورد في الزَّبُور عقب تذكيرٍ ووعظٍ للأمة. فبعد أن أُلْقِيَتْ إليهم الأوامر وُعِدُوا بميراث الأرض. وقيل: المراد بــ"الذكر" كتاب الشريعة، وهو التوراة". كذلك فقوله تعالى فى الآية 30 من سورة "النازعات": "والأرضَ بعد ذلك دَحَاها" معناه: "فوق ذلك، فضلا عن ذلك، إلى جانب هذا"، وهو مثل قوله سبحانه "فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟" (الجاثية/ 6)، "فإن الله هو مولاه (أى مولى رسول الله) وجبريل وصالح المؤمنين. والملائكة بعد ذلك ظهير" (التحريم/ 4)، "ولا تُطِعْ كلَّ حلاّفٍ مَهِين* همّازٍ مشّاءٍ بنَمِيم* منّاعٍ للخير معتدٍ أثيم* عُتُلِّ بعد ذلك زَنِيم" (القلم/ 10- 13). وإذن فلا مشكلة هنا أيضا تستدعى كل هذا التصايح المضحك!
ونأتى إلى كلمة "ييأس"، التى يظن الرجل أنها لا تعنى فى العربية إلا شيئا واحدا، مع أن تعدد معانى اللفظ الواحد هو ظاهرة معروفة فى كل اللغات، بل هو من البدائه والمسلَّمات. لنأخذ مثلا كلمة "ضَرَب" ولننظر إلى معانيها المختلفة فى الاستعمالات التالية: "ضرب فلان فلانا على وجهه، وضرب الطبّاخ البيض فى الخلاط، وضرب موسى لقومه طريقا فى البحر، وضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وضربنا حول الأعداء نطاقا أو حصارا، وضربهم الله بالطاعون، وضربهم الزلزال، وضربت الدولةُ العُمْلَةَ الجديدة، وضربتُ عن هذا الأمر صفحا، وضرب الثور البقرة، وضرب عليهم الجزية، وضرب لهم موعدا، وضربه مَقْلَبا، وضرب الأستاذ لنا مثلا، وضربت شادية خمسة فى ستة بثلاثين يوما، وضربت هدى سلطان لحبيبها الودع"، وبالمناسبة فأنا أكرّ هذا من ذاكرتى، وإلا ففى المعجم معانٍ أخرى لهذا الفعل. فهل إذا استخدم أحدنا الفعل "ضرب" فى أى معنى غير الضرب الذى نعرفه يكون قد أخطأ كما يريد منا المبشِّر الأحمق أن نعتقد؟ ضربك الله على قلبك يا بعيد! وعلى هذا فما وجه الغرابة فى أن يكون للفعل: "ييأس" أكثر من معنى؟ لقد كان من العرب من يستخدمه فى معنى "الكف عن الأمل"، وكان هناك من يستخدمه فى معنى "العِلْم"، فأين المشكلة إذن؟ وبالمناسبة فمؤلفو العهد القديم كثيرا ما يستعملون الفعل: "عرف" بمعنى "جامَعَ"، والمسافة بين الأمرين أبعد من المسافة بين "يئس" و"عَلِم" كما يرى القارئ. وهذه بعض الأمثلة على ما نقول: "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين" (تكوين/ 4/ 1)، "وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت حنوك" (4/ 17)، "وعرف آدم امرأته أيضا فولدت ابنا ودَعَتِ اسمه شيثا" (4 /25)، "فنادَوْا لوطا وقالوا له :أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أَخْرِجْهما إلينا لنعرفهما" (19/ 5)، "وكانت الفتاة حسنة المنظر جدا، وعذراء لم يعرفها رجل" (24/ 16)، "وفيما هم يطيِّبون قلوبهم إذا برجال المدينة، رجال بني بليعال، أحاطوا
بالبيت قارعين الباب وكلموا الرجل صاحب البيت الشيخ قائلين: أخرج الرجل
الذي دخل بيتك فنعرفه*...* فلم يُرِدِ الرجالُ أن يسمعوا له. فأمسك الرجل سُرِّيَّته وأخرجها إليهم خارجا فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح. وعند طلوع الفجر
أطلقوها" (قضاة/ 19/ 22، 25)، "وشاخ الملك داود (يقصدون النبى داود، عليهم لعنات الله والملائكة والناس والجن أجمعين)، تقدم في الايام. وكانوا يدثِّرونه بالثياب فلم يدفأ* فقال له عبيده: ليفتشوا لسيدنا الملك على فتاة عذراء، فلْتقف أمام الملك، ولْتكن له حاضنة، ولْتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك* ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل، فوجدوا أبيشج الشونمية فجاءوا بها إلى الملك* وكانت الفتاة جميلة جدا فكانت حاضنة الملك. وكانت تخدمه، ولكن الملك لم يعرفها" (الملوك الأول/ 1/ 1- 4). فما رأى سخيفنا الثقيل الظل، الوخيم النفس، الكليل الذهن، البليد العقل، الغليظ الإحساس؟
ونستطيع أن نَسُوق، على تعدد المعانى لِلَّفْظ الواحد، مثالا من كل من اللغة الإنجليزية والفرنسية حتى يخرس هذا الجاهل: فعندنا فى الإنجليزية مثلا كلمة "bull" التى تعنى، كما هو معروف، "ثورا"، لكنها تعنى أيضا "مرسوما بابويا" و"مُضاربا فى البورصة" و"قَلْب الهدف (الذى نصوّب عليه)"...إلخ، أما من الفرنسية فسنأخذ الفعل"manger"، الذى يدل، إلى جانب معناه المعروف، على المعانى المختلفة التالية: "manger toute sa fortune, manger beaucoup d argent dans cette affaire, manger la consigne, manger le chemin, manger de la vache enragee, manger du cure, manger de la prison, manger de baisers"، وترجمته على الترتيب: "بدد كل ثروته، خسر كثيرا من المال فى هذه القضية، نسى المهمة المكلف بها، ينهب الأرض نهبا، عانى شظف العيش، يعادى الأكليروس (بينى وبينكم له كل الحق، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجل هذا المبشر السخيف!)، قضى وقتا طويلا فى السجن، غَطَّا(ه) بالقبلات".
والآن أحسب أن القارئ الذى كان خالى الذهن من هذه المعلومات (وهو القارئ الذى يضع هؤلاء المبشرون أعينهم عليه لأن من السهل على من كان خالى الذهن أن يسرع إلى الاقتناع بما يبدو للعين المتعجلة أنه صواب)، هذا القارئ أحسب أنه قد أصبح الآن مهيَّئًا لِكَشْف الدجل الذى كان المبشر الخبيث يريد أن يمارسه عليه وتَفَهُّم ما تقوله لنا المعاجم والأشعار من أنه لا شىء فى استعمال كلمة "يأْس" بمعنى "العِلْم"، ولا حتى بمعنى "السّلّ"، وهذا المعنى الأخير هو شىء جديد نضيفه بالمرة كى يتيقن القراء أن اللغة أوسع من أن يفتى فيها هذا الجاهل الذى لم يكتف بما أنعم الله به عليه من جهل، بل أضاف إليه الخبث والكيد الوضيع. ومن شواهد استعمال "اليأس" فى معنى "العلم" قول سُحَيْم بنُ وَثِيلٍ اليَرْبُوعِيُّ الرَّياحِيُّ:
أَقُولُ لَهُمْ بالشَّعْب إِذْ يَيْسِرُونَنِي: * * * أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابنُ فارِسِ زَهْدَمِ؟
أى "ألم تعلموا...؟"، وكذلك قول مالك بن عوف:
لقد يئس الأقوام أني أنا ابنه * * * وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
أما استعمالها فى معنى "السّلّ" فمنه قول أبى العَاصِيَةِ السُّلَمِىّ:
فَلَوْ أَنَّ داءَ اليَاسِ بِي فأَعَانَنِي * * * طَبِيبٌ بأَرْوَاجِ العَقِيقِ شَفانِيَا
وفى "أساس البلاغة" أن استعمال "اليأس" بمعنى العلم هو استعمال مجازى، وأن دلالة قولنا مثلا: "قد يَئِسْتُ أَنّكَ رَجُلُ صِدْقٍ" على معنى "العِلْم" سببه أَنَّ الطَّمَع يصاحبه القَلَقَ، ومع انْقِطَاع القلق يكون السُّكُون والطُّمَأْنِينَة كَمَا هو الحال مَعَ العِلْم، ولِذلك قِيلَ: اليَأْسُ إِحْدَى الرّاحَتَيْنِ.
أما بالنسبة لاعتراض متفيهقنا على مجىء كلمة "نجْم"، فى القرآن بمعنى "النبات الذى لا ساق به" فنسوق فى تفنيده وفضحه بعض ما جاء فى "لسان العرب" حول هذه الكلمة مع بعض التصرف: "نَجَمَ الشيءُ يَنْجُم نُجوماً: طَلَعَ وظهر. ونَجَمَ النباتُ والنابُ والقَرْنُ والكوكبُ وغيرُ ذلك: طلَعَ. قال الله تعالى: "والنَّجْمُ والشجرُ يَسْجُدان"ِ. وفي الحديث: "هذا إِبَّانُ نُجومِه"، أَي وقتُ ظهورِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. يقال: نَجَم النبتُ يَنْجُم، إذا طلع. وكلُّ ما طلع وظهر فقد نَجَم. وقد خُصَّ بالنَّجْم منه ما لا يقوم على ساقٍ، كما خُصَّ القائمُ على الساق منه بالشجر. وفي حديث حُذَيفة: "سِراجٌ من النارِ يَظْهَرُ في أَكتافِهم حتى يَنْجُم في صُدورِهم". والنَّجْمُ من النباتِ: كلُّ ما نبتَ على وجه الأَرض ونَجَمَ على غيرِ ساقٍ وتسطَّح فلم يَنْهَض، والشجرُ كلُّ ما له ساقٌ. ومعنى سُجودِهما دَوَرانُ الظلِّ معهما. قال أَبو إِسحق: جائز أَن يكون النَّجْمُ ههنا ما نبت على وجه الأَرض وما طلع من نُجومِ السماء. والنُّجومُ: ما نَجَمَ من العروق أَيامَ الربيع، ترى رؤوسها أَمثالَ المَسالِّ تَشُقُّ الأَرضَ شقًّا. ابن الأَعرابي: النَّجْمةُ: شجرةٌ، والنَّجْمةُ: الكَلِمةُ، والنَّجْمةُ: نَبْتةٌ صغيرة، وجمعها "نَجْمٌ"، فما كان له ساقٌ فهو شجر، وما لم يكن له ساقٌ فهو نَجْمٌ. وللحرث بن ظالم المُرّيّ يهجو النعمان:
أَخُصْيَيْ حِمارٍ ظَلَّ يَكْدِمُ نَجْمةً؟ * * * أَتُؤْكَلُ جاراتي، وجارُك سالمْ؟
والنَّجْمُ هنا: نَبْتٌ بعينه، واحدُه: "نَجْمةٌ"، وهو الثَّيِّلُ. وقال أَبو نصر: الثَّيِّلُ الذي ينبت على شُطُوطِ الأَنهارِ، وجمعه: "نَجْمٌ"؛ ومثلُ البيت في كون "النَّجْم" فيه هو الثَّيِّل قولُ زهير:
مُكَلَّلٌ بأُصولِ النَّجْمِ تَنسجُه * * * ريحُ خَرِيقٌ، لِضاحي مائة حُبُكُ
وجاء في التفسير أَيضاً أَن النجم: نُزول القرآن نَجْمًا بعد نَجْمٍ، وكان تَنزل منه الآيةُ والآيتان. وقال أَهل اللغة: "النجمُ" بمعنى النُّجوم، و"النُّجوم" تَجْمع الكواكب كلها".
والملاحظ أن كلمة "النجم" فى سورة "الرحمن" قد أتت بعد ذكر "الشمس والقمر" من ناحية، وقبل "الشجر" من الناحية الأخرى. وعلى هذا فلكل فريق من الفريقين وجهة نظره: فمن فسَّرها بالجِرْم السماوى فقد ألحقها بالشمس والقمر قُبَيْلَها، ومن فسَّرها بالنبات فقد ألحقها بالشجر عَقِبها. ومن ثم فلا داعى لتخطئة أى من التفسيرين اللذين أرى أن الأحجى هو الأخذ بهما معا، بمعنى أن النجم الذى فى السماء وكذلك النجم الذى فى الأرض كليهما يسجدان لله تعالى مع الشجر. وأظن بعد هذا أن الأمر قد اتضح اتضاحا تاما بما يسد المسالك على هذا المبشر الجهول الذى يريد من القرآن الكريم أن ينزل من عليائه على مقتضى جهله وعِيّه وفساد ذوقه اللغوى والبلاغى!
والآن إلى كلمة "لا" فى قوله تعالى: "فلا أُقْسِم بمواقع النجوم" وأشباهها، التى يرى الكاتب أن النص القرآنى فيها مربك، إذ يستخدمها وهو يريد الإثبات مع أنها للنفى. والعلماء يقولون إن "لا" هنا وفى قوله عز ّشأنه عن المشركين: "وما يُشْعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟"، وقوله تعالى لإبليس حين رفض السجود لآدم: "ما مَنَعك ألاّ تسجد إذ أَمَرْتُك؟"، وقوله عز من قائل على لسان موسى يعاتب هارون على أنه لم يتبعه حين عبد بنو إسرائيل العجل أثناء غيابه للقاء ربه: "مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ألاّ تَتَّبِعَنِي؟"، وقوله سبحانه: "وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ"، وقوله جلَّتْ قدرته: "يا أيها الذين آمنوا، اتَّقُوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كِفْلَيْن من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به. والله غفور رحيم* لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم"، هى للتوكيد لا للنفى، ومن ثم فلا مشكلة. وقد تحقق التوكيد من أن المعنى المضمر فى قوله تعالى مثلا: "ما منََعَك ألاّ تسجد إذ أَمَرْتُك؟" هو: "ما منعك من السجود وجعلك لا تسجد؟" أو "ما منعك من السجود وقال لك: لا تسجد...؟"، أما فى قوله عز ّشأنه: "وما يُشْعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟" فالمعنى هو: "وما يُشْعِركم (أيها المؤمنون) أنها (أى الآيات التى كان المشركون يطلبونها من النبى) إذا جاءت سوف يؤمنون فعلا كما يقولون؟ بل الواقع أنهم لايؤمنون"، فكأنه كرَّر المعنى بطريقتين مختلفتين. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون كل ذلك خطأً ثم لا يلفت نظر أحد من المشركين، وهم الذين كانوا يتربصون بالدعوة وصاحبها الدوائر، إذ ليس من المعقول أن يفلتوا مثل هذه الفرصة التى أتتهم لحدّ بيوتهم دون سعى منهم أو تعب. ومن شعرٍ منسوبٍ إلى آمنة أم الرسول نقرأ هذا البيت:
فَاللَّه ينهاكَ عن الأصنامِ * * * أن لا تُوَاليها مع الأقوامِ
ومثله قول حاتم الطائى:
أَلا أَرِقَت عَيني فَبِتُّ أُديرُها * * * حِذارَ غَدٍ أَحْجَى بِأَن لا يَضيرُها
ثم هذا البيت الذى أورده ابن منظور فى "لسان العرب":
وتَلْحَيْنَنِي في اللهو أن لا أحبّه * * * ولِلّهْوِ داعٍ دائِبٌ غير غافلِ
و هذا البيت الذى جاء فى "محيط المحيط":
وآلَيْتُ آسَى على هالِكٍ *** وأَسْأَلُ نائحةً: ما لَها؟
أى حلفت إننى لن آسى على أى شخص يموت. وكذلك هذان البيت الذى وجدته فى "إعراب القرآن" للحلبى:
أفَعَنْك لا بَرْقٌ كأن وميضَه * * * غابٌ تسنَّمه ضِرامٌ مُثْقَبُ؟
ولعلنا لا نخرج عن موضوعنا إذا أوردنا بيت جميل بن معمر الذى يقول فيه:
لا لا أبوح بحبِّ بَثْنَةَ، إنها * * * أخذتْ عَلَىَّ مواثقًا وعُهُودا
فهو فى الوقت الذى يؤكد فيه أن لن يبوح بحبه لبثينة نراه يرفع صوته فاضحًا هذه العاطفة. أى أنه يقول إنه لن يبوح، لكنه يبوح، وبَوْحُه إنما يتم عن طريق الكلام نفسه الذى يؤكد به عدم البَوْح. وعلى الناحية الأخرى نجد العرب يحذفون "لا" فى الوقت الذى يريدون فيه النفى كما هو الحال فى قوله تعالى: "قالوا: تاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُر يوسفَ حتى تكون حَرَضًا أو تكون من الهالكين" (أى "لا تفتأ")، "يبيّن الله لكم أن تَضِلّوا" (أى "لئلا تضلوا")، " إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السمواتِ والأَرضَ أَنْ تَزُولا " (أى "لئلا تزولا"). ومعروف أن الكلمة الواحدة قد يكون لها معانٍ متعددة، وأحيانا متباعدة بل متناقضة، وهذه طبيعة اللغة، والسياق هو الذى يحدد المعنى المراد. وفى الفرنسية مثلا يستخدمون فى الجُمَل الشَّكِّيّة المُثْبَتة حرف النفى مع أن لا نفى هناك كما نعرف. وأكتفى بهذا، وفيما قلناه غُنْيَة عما لم نَقُلْه، إذ يستطيع القارئ بما طالعه هنا أن يقيس عليه ما لم نتناوله من السخف الساخف الذى يمطرنا به ذلك الجهول الخبيث!
ويعترض هذا الجهول على أن فى بعض المواضع من القرآن حذفا، ولا أدرى ما وجه العيب فى هذا، إذ هناك بلاغة الصمت والحذف مثلما أن هناك بلاغة الكلام والذِّكْر. وليست هناك لغة واحدة على وجه الأرض تخلو من الحذف، والحذف الكثير، أما القول بغير هذا فهو جهل وغباء مطبق أو كَيْد رخيص يراد به الضحك على ذقون الأغرار من المسلمين الذين يكتب لهم هؤلاء المبشرون ومن يشايعهم على غاياتهم مستهدفين خَتْلهم عن دينهم وخَلْعهم منه بهذه الطرق الخبيثة لمن لا يعرفها، والساذجة لمن يعرف كيف يتعامل معها ومع أصحابها! وليس من المعقول أن يكون الأسلوب كله فى جميع الفنون والكتابات وعند جميع المؤلفين ماء واحدا لا يتغير أبدا. إن هذا مناقض للطبيعة البشرية تمام المناقضة، تلك الطبيعة التى خلقها الله بحيث تضيق بالوتيرة الواحدة إذا طالت، وتشعر من جرائها بالملل الخانق. وفضلا عن هذا فإن الحرص على أن تكون كل الجمل تامة فيه اتهام للقارئ بأنه لا يزال قاصرا لا يعرف كيف يُكْمِل الكلام. ثم إن فى الإيجاز بالحذف وغيره مندوحة لإظهار البراعة الفنية والتفاوت من ثم بين كاتب وكاتب. فكيف يريدنا هذا الرجل أن نفرّط فى كل هذا كى نرضى شهوته الأثيمة الجاهلة فى الزراية على القرآن؟
وفى معلقة امرئ القيس مثلا يقابلنا هذا البيت الذى يقول فيه عن لقائه بحبيبته:
فلما أَجَزْنا ساحةَ الحىِّ وانتحى * * * بنا بطنُ خَبْتٍ ذى حِقافٍ عَقَنْقَلِ
والذى انتهى دون أن يذكر جواب "لَمَّا"، وبهذا استطاع الشاعر أن يثير خيال السامع لينطلق فيتصور على هواه كل ما يمكن أن يكون قد وقع بينه وبين حبيبته! وفى الكتاب المقدس عند صاحبنا نقرأ مثلا: "وندم بنو إسرائيل على بنيامين إخوتهم" (قضاة/ 21/ 6)، و"بنيامين" (المبدل منه) فرد، والبدل "إخوتهم" جمع، فهل نملأ الدنيا صراخا وعويلا بأن هذا خطأ كما فعل جاهلنا حين أخذ يلطم خدوده التى سيسليها الله فى قعر الجحيم لأن القرآن قال: "فإنها من تَقْوَى القلوب" (الحج/ 32)، ولم يقل: "فإن تعظيمها (أى تعظيم شعائر الحج) من أفعال ذوي تقوى القلوب"! أرأيتم أيها القراء الكرام سخفا وتنطعا وتفيهقا كهذا السخف والتنطع والتفيهق التبشيرى الذى بلانا الله به على أيدى هذا الأحمق؟ من يا ترى ممن أنعم الله بنعمة الذوق يمكن أن يقول إننا ينبغى أن نترك الأولى ونركن للثانية؟ ألا شاهت الوجوه والعقول والأذواق جميعا! إن من السهل إدراك أن معنى عبارة الكتاب المقدس هو: "وندم بنو إسرائيل على بنى بنيامين". هكذا ببساطة ودون تساخف!
ومن الحذف أيضا فى كتاب صاحبنا المقدس: "ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ* وَنَفْسِي قَدِ ارْتَاعَتْ جِدّاً. وَأَنْتَ يَا رَبُّ فَحَتَّى مَتَى؟" (مزامير/ 6/ 2- 3)، إذ أين بقية الكلام فى "حتى متى؟"؟ ومنه أيضا النص التالى: "الرجل اللئيم، الرجل الأثيم، يسعى باعوجاج الفم* يغمز بعينيه. يقول برجله. يشير بأصابعه" (أمثال/ 6/ 12- 13)، لأن السؤال هو: ما معنى "يسعى باعوجاج الفم. يغمز بعينيه. يقول برجله. يشير بأصابعه"؟ ليس فى الكلام جواب عن هذا، ومع ذلك فإن السياق يشير إلى المحذوف، ويجد الذهن فى ذات الوقت لذة فى التوصل إلى ما غاب عن النص. أما ما يريده المبشر الجاهل فإنه قد يصلح فى الكُتّاب مع الأطفال الذين بدأوا لتوّهم عملية التعلم، فهم محتاجون إلى أن نوضح لهم كل شىء، وإلا ضلّوا.
أما قوله عز من قائل: "فلا تُعْجِبْكَ أموالهم ولا أولادهم. إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتَزْهَق أنفسهم وهم كافرون" فليس فيه تقديم وتأخير كما ظن السيوطى، وانتهزها صاحبنا فرصةً فأخذ يشنع على القرآن. لقد نزلت الآية فى ابن سَلُول رأس النفاق والضلال على عهد الرسول، وكان ذا مال وولد ورئاسة فى قومه، لكن الله سبحانه لم يكتب له الهداية فتحوَّل كل ذلك شقاء وتعاسة له، إذ كان ابنه المسلم المخلص يعاديه ويكرهه لنفاقه ومؤامراته على الرسول والمسلمين، بل لقد بلغت كراهيته له أنْ عرض على الرسول عليه السلام أن يقتله لو أراد حتى يريح المسلمين والإسلام من شره، لكن الرسول أمره ببرّه وأعلن أنه سوف يتحمله إلى آخر المدى. كذلك كان على هذا المنافق أن يدفع الزكاة وأن يشارك فى نفقات الغزو بوصفه فى ظاهر الأمر من المسلمين، رغم عدم إيمانه بشىء من ذلك ولا بأن الله مكافئه عليه. أى أن المال والولد قد صارا عذابا له فى الدنيا. ثم إنه مات كافرا بنفاقه الذى أرداه جهنم، وبئس المصير! وهكذا يرى القراء الكرام أنه ليس فى الآية أية مشكلة على الإطلاق!
وبالنسبة لقوله تعالى: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ أفأنت تكون عليه وكيلا؟" فلا أدرى فى الحقيقة أين وجه الاعتراض على التركيب فيه، إذ ليست هناك أية صعوبة فى فهمه سواء قلنا إن كلمة "إلهه" هى المفعول الأول أو هى المفعول الثانى. كما أن الرَّذْل لم يوضح لنا وجه اعتراضه سوى أن فيه تقديما وتأخيرا؟ ترى أفيه صعوبة فى الفهم؟ أبدا. ترى أفيه هلهلة أو ركاكة فى التركيب؟ ولا هذه. إذن ماذا؟ لا أدرى كما قلت، ولا أظن إلا أنه أراد أن يثير عَجَاجًا سخيفًا فارغًا مثل عقله الفاضى السخيف! وهذا لو كان فيها فعلا تقديم وتأخير، إذ من الممكن أن يكون المعنى أن ذلك الكافر قد جعل هواه إلها له، أو نزل بمفهوم الإله من عليائه التى تليق بجلاله سبحانه إلى أن جعله تابعا لهواه، خالعًا بذلك تصوراته التافهة على مفهوم الألوهية العظيم. وأخيرا أرى من المفيد أن أسوق ما فسَّر به الإمام الطبرى الجليل هذه الآية حتى يتضح ما أقول تمام الاتضاح: "الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: "أَرَأَيْت مَنِ اتَّخَذَ إِلَهه هَوَاهُ؟ أَفَأَنْت تَكُون عَلَيْهِ وَكِيلا؟" يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره: "أَرَأَيْت" يَا مُحَمَّد "مَنِ اتَّخَذَ إِلَهه" شَهْوَته الَّتِي يَهْوَاهَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَعْبُد الْحَجَر، فَإِذَا رَأَى أَحْسَن مِنْهُ رَمَى بِهِ، وَأَخَذَ الآخَر يَعْبُدهُ، فَكَانَ مَعْبُوده وَإِلَهه مَا يَتَخَيَّرهُ لِنَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "أَرَأَيْت مَنِ اتَّخَذَ إِلَهه هَوَاهُ؟ أَفَأَنْت تَكُون عَلَيْهِ وَكِيلا؟". يَقُول تَعَالَى ذِكْره: أَفَأَنْت تَكُون يَا مُحَمَّد عَلَى هَذَا حَفِيظًا فِي أَفْعَاله مَعَ عَظِيم جَهْله؟".
ونأـى إلى قوله جل شأنه: "إن هذان لَساحران"، الذى كان ينبغى بناءً على ما يقول أن يجىء على النحو التالى: "إنّ هذين لَسَاحران" (طه/ 63) بنَصْب كلمة "هذين" بوصفها اسم "إن" على ما يعرفه أى طالب ثانوى عنده إلمام بأساسيات القواعد العربية، أما أن تجىء فى القرآن مرفوعة فهو "خطأٌ بالثُّلُث: completely wrong" كما يقول. وتعليقًا على كلام المبشر الجهول نقول إنه لم يبين طريقة النطق لكلمة "إن" التى كان ينبغى فى رأيه أن يأتى اسم الإشارة بعدها منصوبا: هل هى "إنْ" بسكون النون كما جاءت فى إحدى القراءات؟ أم هل هى "إنّ" بتشديد النون كما جاءت فى قراءة أخرى؟ لأنها إن كانت بتسكين النون فلا مشكلة على الإطلاق، لأن هذه هى ما تسمَّى فى النحو بــ"إن المخفَّفة من الثقيلة"، أى التى أصبحت نونها مسكَّنة بعد أن كانت مشدَّدة، وهى فى هذه الحالة لا تنصب اسمها بالضرورة، أى أنه لا شىء يستحق أن نقف عنده فيها. لكنها إذا كانت مشددة النون كان الأمر يحتاج لشىء من التوضيح: التوضيح لا الدفاع، إذ القرآن أكبر من أن يحتاج منى أو من غيرى إلى أى دفاع، فهو الذى يفرض القاعدة، وليست القاعدة هى التى تُفْرَض عليه، لا لمجرد أنه من عند الله، فقد سبق أن قلنا إنه حتى لو كان من عند الرسول فإنه حينئذ يكون هو الأساس الذى يقاس عليه لا العكس.
أما الكلمة التى نقولها على سبيل التوضيح: التوضيح لمن ليس فى قلوبهم مرض، بل لمن يبتغون وجه الحق، فهى أن من العرب القدماء من كانوا يُعْرِبون المثنى بالألف فى كل الأحوال: رفعًا ونصبًا وخفضًا فيقولون: "ضربنى الزيدان، ورأيتُ الزيدان، ومشيتُ مع الزيدان". ومنه قو ل الشاعر:
تَزَوَّد منّا بين أُذْناه طعنةً * * * دعتْه إلى هابى التراب عقيمِ
بدلا من "بين أذنيه". ومنه أيضا البيت التالى:
أعرفُ منها الجِيدَ والعَيْنَانا * * * ومَنْخِران أَشْبَها ظَبْيانا
بدلا من "العينين" و"مَنْخِرَيْن". وقد يكون فى الآية قَطْعٌ لــ"إنّ" عن اسمها وخبرها فبقيا مرفوعين، أو كأن ضمير شأن قد توسط بينها وبينهما تقديرًا فمنعهما من التأثر بها. ومع ذلك فقد وردت "هذان" فى قراءة ثالثة منصوبةً بالياء جريا على الإعراب المشهور. أقول: "المشهور" لا الصحيح، فكلاهما (كما هو واضح من كلامى) إعرابٌ سليم. ومجيئها فى هذه القراءة الأخيرة بالياء يدلّ على أن المسألة ليست أبدا خطأ فى الإعراب كما فَهقََت اسْتُ مبشِّرنا الرقيع، عليه وعليها لعنات الخلق أجمعين، بل مسألة تنوع فى القراءات. وكلها صحيحة، لا لأننا نراها كذلك، بل لأنها هى بطبيعتها كذلك رغم أنوف المبشرين الجهلاء، وإلا فهل يتأثر قانون الجاذبية مثلا بما قد يتقوَّله عليه بعضُ الجاهلين فيتوقف عمله بناء على هذا؟ كلا، بل يبقى هذا القانون كما هو مهما كان موقف الجهلة منه أو رأيهم فيه!
كذلك يعيب صاحبنا القرآن زاعمًا أن هناك كثيرا من التكرار المملّ فى مثل قوله جلّ من قائل: "فبأى آلاء ربكما تكذِّبان؟"، الذى تكرر فى سورة "الرحمن" إحدى وثلاثين مرة رغم أن آيات السورة كلها، كما يقول، لا تتجاوز ثمانى وسبعين آية، وكذلك قصص الأنبياء التى تكرر كل منها فى عدة سور. والعجيب أن يقول مبشرنا ذلك، وهو الذى يقوم دينه على عدة أناجيل يتناول كل منها حياة المسيح عليه السلام وتلاميذه وجهاده فى تبليغ دعوته إلى قومه، مع شىء من التلوين يين كل إنجيل وآخر! كما أن العهد القديم كثيرا ما يورد القصة الواحدة أو الموضوع الواحد عدة مرات فى أكثر من موضع منه. ترى كم من المرات دمدم الله أو دمدم هذا النبى أو ذاك باللعنات على رؤوس بنى إسرائيل بنفس الكلمات تقريبا أو بكلمات مشابهة؟ وكم من المرات تحدث العهد القديم عن أسباط بنى إسرائيل بأسماء رؤسائهم وأعدادهم ومساكنهم والطرق التى سلكوها فى تنقلاتهم...إلخ؟ فالملل الذى يصيب قارئ الجزء الأخير من سفر "الخروج" وكل أسفار "الأخبار" و"العدد" و"التثنية" وأوائل "الأيام الأول" أمر لا يطاق. إنه يصل إلى حد الغثيان والدُّوار وانبهار العينين: فمن سلاسل نسبٍ وأسماء أشخاصٍ ومواقعَ تتتابع وتتداخل ويأخذ بعضها برقاب بعض مع النص فيها على تفصيلات تفصيلات التفصيلات، إلى حوادثَ يتكرر ذكرها، وعهودٍ يُعَاد صَوْغها...إلخ حتى تتركك القراءة جثة هامدة. وفى "المزامير" و"الأمثال" يظل الإنسان يطالع نفس الأفكار والمشاعر مصوغةً بنفس العبارات أو بعبارات مقاربة على مدى مائة وستين صفحة من الصفحات المزدحمة حتى ليختنق اختناقا. ثم هناك الأسفار الخاصة بأنبياء بنى إسرائيل التى تكتظ بتقريع هؤلاء الأنبياء لقومهم الصِّلاب الرقبة وشتمهم لهم ولعنهم إياهم وشماتتهم بهم وتنبُّئهم بما ينتظرهم من مستقبل أسود مما يستغرق مئات الصفحات.
أما بالنسبة للعبارات والجمل التى تتكرر بنصها، فهل نَسِىَ المبشِّر مثلا عبارة "فإن إلى الأبد رحمته"، التى تكررت ستًّا وعشرين مرة فى ستٍّ وعشرين جملة هى مجموع المزمور الخامس والثلاثين بعد المائة، كما تكررت قبل ذلك فى المزمور السابع عشر بعد المائة فى الآيات الثلاث الأولى والآية الأخيرة. ومثلها كلمة "سلاه"، التى تكررت كثيرا فى عدد من المزامير تكرارا متقاربا. ولنأخذ أيضا: "سبِّحوا الله فى قدسه. سبِّحوه فى جَلَد عزته. سبحوه لأجل جبروته. سبحوه بحسب كثرة عظمته. سبِّحوه بصوت البوق. سبحوه بالدف والرقص. سبحوه بالأوتار والمزمار. سبِّحوه بصنوف السماع. سبحوه بصُنُوج الهتاف. كل نسمة تسبِّح الرب"، وهى كل المزمور المائة والخمسين. وفى الفصلين الأول والثانى من سفر "الجامعة" تظل تتردد فى آذاننا فى إلحاح مزعج أن "الجميع باطل وكآبة الروح" حتى نُصَاب فعلا بالكآبة. أما فى بداية الفصل الثالث قتأتى عبارة "للشىء الفلانى وقت" ثلاثين مرة على النحو التالى: "لكل غرض تحت السماء وقت: للولادة وقت، وللموت وقت. للغرس وقت، ولقلع المغروس وقت... للاعتناق وقت، وللإمساك عن المعانقة وقت... للتمرين وقت، وللخياطة وقت..." وهكذا إلى آخر المرات الثلاثين. وفى الفصل الأربعين من سفر "يشوع" تتكرر عَشْرَ مراتٍ تقريبا عبارةُ "الأمر الفلانى والأمر الفلانى شأنهما كذا وكذا، ولكن الأمر العلانى فوقهما". وفى الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متى تقابلنا العبارة التالية سبع مرات منسوبة للسيد المسيح فى صفحة واحدة ليس غير: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون"، ومثلها فى نفس الإصحاح عبارة "أيها العميان"، أو "أيها الجهّال والعميان" موجَّهة إلى طائفة الفريسيين. وعلى مدى الإصحاحين الثانى والثالث جميعا من "رؤيا يوحنا" تقابلنا بعد كل عدة آيات جملة "من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس"... وهذه مجرد أمثلة معدودة! إن التكرار، كما هو معروف، أداة من أدوات البلاغة، وبخاصة فى الخُطَب وما أشبه. ولا ينبغى أن يغيب عن بالنا أن القرآن إنما كان يتم تبليغه شفويا أولا بأول ردًّا على مواقف كانت تتكرر بنفس الأحداث والكلمات تقريبا فى المرحلة المكية التى يمكن تلخيصها فى تكذيب الكفار للرسول فى كل مكان يذهب إليه وتحذيرهم الناس منه وصفيرهم واستهجانهم لما يقول واتهامهم إياه بأنه كذاب وساحر ومجنون وبأنه ينقل ما يتلوه عليهم من كتب الأولين. ومن ثم يمكننا أن نتصور الجو الذى كانت تنزل فيه آيات القرآن على الرسول عليه السلام والدواعى التى كانت تستلزم تكرار بعض العبارات والتقريعات، والتى هى مع ذلك أخف كثيرا من نظيراتها فى الكتاب المقدس. والآن ألا يرى القارئ الكريم كيف أن هؤلاء المبشرين يلجأون إلى أساليب غير شريفة فى حربهم للقرآن معتمدين على جمود وجههم وقدرتهم الفائقة على الكذب والتدجيل واللف والدوران وعلى أن المسلمين لا علم لهم بكتاب أولئك المبشرين. ثم هم بعد هذا كله لا يرعوون إذا ما فضحهم فاضح، بل يظلون يرددون انتقاداتهم الكاذبة السخيفة للقرآن، ولسان حالهم يقول: كم يا ترى مِنَ القراء مَنْ عنده الاهتمام أو الوقت الذى يمكن أن ينفقه فى التحقق من كذب ما نقول؟ ثم يمضون فى ترديد الأسطوانة المشروخة معتمدين على أن طلقة الرصاص إن لم تُصِبْ فإنها على الأقل تزعج!
ومما أورده الكاتب عن السيوطى أن "من الآيات ما أَشْكَلَتْ مناسبتها لما قبلها. من ذلك قوله تعالى في سورة "القيامة" (13- 19): "لا تُحَرِّكْ به لسانَك لِتَعْجَل به"، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عَسِرٌ جدًّا، فإن السورة كلها في أحوال القيامة...". والأمر أبسط من هذا كثيرا، ويمكن فهمه فى ضوء ما يحدث أحيانا من بعض المحاضرين أو الخطباء حين يقطعون ما هم فيه فجأة ليعلّقوا على شىء وقع أثناء الكلام أو يوجِّهوا الحديث لأحد المستمعين، ثم يعودوا مرة أخرى لما كانوا فيه، وكأن شيئا لم يكن. ويمكن تشبيهه أيضا بالأحفورة الناتجة عن بركان مثلا، إذ تفاجئ الحُمَمُ حيوانًا أو شخصًا فتجمّده إلى الأبد على وضعه الذى كان عليه عند انفجار البركان وانصباب الحُمَم بحيث يبدو شيئا خارج السياق بمعنى من المعانى وداخله بمعنى آخر. وكثير منا قد قرأ، ولا شك، عن البركان الذى باغت أهل بومباى فى التاريخ القديم ودفنهم تحت ركامه إلى الأبد مبقيًا بذلك عليهم فى ذات الوضع الذى كان كل منهم فيه ساعة حدوث الكارثة! ولقد رأيت ذات مرة، وأنا شابٌّ، صُوَر الحفل الخاص بخِطْبة أحد الزملاء، فلاحظت فى إحدى الصور شخصا فى الطرف الأيسر ينظر للزميل الموجود فى أقصى يمين الصورة نظرةً غير مريحة، على حين كان الصديق مشغولا فى تلبيس عروسه الشبكة. ولما سألت الصديق عن ذلك الشاب وعن سر نظرته الغريبة أجابنى ضاحكا: لقد كان يريد أن يخطبها لنفسه، لكنها كانت من نصيبى أنا. وطبعا لم يكن من هَمّ المصوِّر أن يصور ذلك الشاب بل الخطيبين فقط، أما من عداهما، بما فيهم هذا الشخص، فظهورهم فى الصورة أمر عارض. ومع هذا فقد ثبّتت اللقطةُ نظرة الشاب المنافس لصديقى ما بقيت الصورة. كذلك نسمع فى تسجيل بعض الحفلات الغنائية لأم كلثوم صوت كُحَّة أثناء انتقال العزف الموسيقى من مقطع غنائى إلى آخر، ولا ندرى أهى التى تَكُحّ أم أحد أعضاء الفرقة الموسيقية. المهم أن جهاز التسجيل قد التقط الكُحَّة وثبّتها تثبيتا دائما بحيث نظل نسمعها كلما استمعنا إلى الأغنية رغم أنها لم تكن فى الحسبان، ورغم أنها ليست عنصرا من عناصر الأغنية، لكن هكذا جرت الأمور. وبنفس الطريقة نرى أن الآيات التى نحن بسبيلها قد ثتبتت الموقف الذى نزلت فيه إلى أبد الآبدين، كما أنها من جهة أخرى تدل على تلقائية عجيبة من شأنها أن تُشِيع فى النص مزيدًا من الحرارة والحيوية!
ويتبقى ما قاله الرجل عن رسم القرآن الأول الذى لم يكن فيه نَقْط ولا تشكيل، إذ تساءل كيف أن الله لم يُنْزِل القرآن منقوطا مشكَّلا كى يمنع الخطأ فى نطقه؟ وهو سؤال غريب، وإلا فعلينا أن نعمِّمه فنقول: ولماذا لم يخلق الله البشر من أول الأمر جاهزين لكل مشكلة تقابلهم فيحلّونها فى التو واللحظة بدلا من المرور بكل هذه المراحل التاريخية الطويلة التى استغرقت الآلاف المؤلفة من السنين، إن لم تكن الملايين، بما فيها من عناء وتعب وتعس وشقاء يعرفه كل إنسان؟ ولماذا كانت الأمراض والشرور والكذب والزنا والخمر والكفر والقتل والقلق والملل والغدر والخيانة والضعف والعجز...؟ ولماذا كانت الرسل والأنبياء، ولم ينزل البشر من بطون أمهاتهم مهتدين؟ بل لماذا كان عليهم أن يتعلموا كل شىء تعلما بدلا من أن يُخْلَقوا كالنحل والنمل والمعز والفراش وسائر الحيوانات والحشرات والطيور عارفين بفطرتهم ما ينبغى عمله؟ بل لماذا كان موتٌ وابتلاءٌ ولم يكن خلودٌ وسعادةٌ من الأصل؟ بل لماذا ابْتُلِىَ البشر بك وبأمثالك من الضلاليين الكذابين ولم يقصف عمرك من قبل حتى يستريحوا أو أستريح أنا على الأقل من وجع الدماغ الذى أتجشمه فى الرد عليك كما يتجشم الطبيب المتاعب فى مكافحة السرطان والإيدز مثلا؟ إن سؤال الرجل لهو سؤال ساذج مغرق فى السذاجة، أو خبيث عريق فى الخباثة، وكلاهما أضرط من أخيه! ثم إننا سائلوه: أترى العرب كانوا سيفهمون الرسم القرآنى الجديد لو نزل عليهم جاهزا من السماء مختصرا الوقت والجهد والتجارب ومراحل التعليم الطويلة التى مروا بها؟ هاتوا لى شيئا مثل هذا حدث فى التاريخ ولم يحوج البشر إلى بذل الجهد وإنفاق الوقت وتجشم التعب والإرهاق ومكابدة الضيق والملل والإحباطات قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم من إتقان العلم الجديد. ما كانت العين بكت! يدك فى يدى يا أخا التبشير، وأرنى همتك! فأنا "نَفْسِى ومُنَى عَيْنِى" أن أتوصل لطريقة تمكّننى من الرد على سخفك هذا دون أن أقرأ شيئا أو أكتب حرفا أو أجلس أمام الحاسوب وأتعرض لمشاكل استعماله، بل يكفى أن أنظر إليه من بعيد (أو لا أنظر)، وفى نيتى أن يتولى هو الرد عليك فيقوم فى الحال بهذا الرد، ثم يزيد هو من عنده كرما منه وتفضلا فيحضرك أمامى لأظل أضربك على أصداغك حتى يظهر لك صاحب يعتقك من يدى. أليست رغباتنا ومطالبنا ستتحقق هكذا بمجرد خطورها ببالنا فى الجنة، التى لن تَرِيح أنت وأمثالك رائحتها ولو على بعد سبعين خريفا (خريفًا ضوئيًّا لا خريفًا عاديًّا) بمشيئة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد؟
ومن جهة أخرى فإن الطريقة التى كان العرب يكتبون بها آنذاك كانت تقوم بالمهمة المطلوبة فى تلك المرحلة التاريخية. حتى إذا لم تعد تلبى مطالبهم رأيناهم يطورونها لتتواءم مع الوضع الجديد شأن كل شىء فى الدنيا: يكون فى حينه كافيا وفوق الكافى، ثم بمرور الأيام لا يبقى كذلك. وإذا كنا نحن الآن نرى أن ذلك الرسم ينقصه الكثير فإنهم هم لم يكونوا يَرَوْنَه بنفس العين، وإلا فكيف كانت حياتهم منضبطة فى كتابة الديون والمعاهدات وتسجيل الحوادث والأسماء والحقوق وسائر المعلومات؟ إن معنى كلامك أن حياتهم كانت متوقفة تماما إلى أن اخترعوا التنقيط والضبط بالحركات والمدّ؟ فهل هذا صحيح؟ لا يقول بذاك إلا جاهل! إننا الآن مثلا لا نستطيع أن نعيش بدون السيارات والطائرات والمكيفات والثلاجات والمذياعات والمرناءات والحواسيب...إلخ، لكن أجدادنا لم يكونوا يشعرون بحاجة إلى شىء من هذا، ببساطة لأنه لم يكن لشىء من هذا وجود، ولا كانت حياتهم قد تطورت إلى الحد الذى أصبح استعمال هذه الآلات معه لازما لزوم الهواء للتنفس!
إن الخفيف الظل يتساءل: ماذا لو أن طالبا الآن كتب لأستاذه بحثا دون نقط أو حركات؟ أويعطيه الأستاذ حينئذ شيئا غير الصفر؟ ألا إنك لبكّاش من الطراز الأول أيها الرجل، وإلا فإننى أتساءل بدورى: ترى لو أن أحدنا عاش الآن فى الكهوف أو على أغصان الأشجار، وكان عليه أن يأكل اللحم نَيِّئًا ويشرب من البِرَك الآسنة، ويترك جسده دون أن يستره أصلا أو يستره على أحسن تقدير بأوراق الشجر، ويستخدم رجليه فى السفر والترحّل، ويدفع عن نفسه أخطار أعدائه من البشر والحيوانات بالظِّئْر، ويقضى الليل فى ظلام دامس أو فى ضوء القمر على الأكثر، ولا يعرف شيئا اسمه المدرسة أو الرعاية الصحية أو المذياع أو التلفاز أو الصحيفة، أكانت حياته فى ظروف العصر الحالى تنجح وتستمر؟ فهذا مِثْل هذا! إن حياة الرجل البدائى بهذا الوضع الذى وصفناه كانت ناجحة وموفقة إل حد بعيد، كما أن حياتنا بأوضاعها الحالية ناجحة وموفقة إلى حد بعيد، لكن ظروف الرجل البدائى لا تصلح الآن بتاتًا، مثلما لن تكون ظروف حياتنا الحاليّة صالحة بعد فترة من الزمن. والأمور كما نعرف نسبية، وهذه هى الحقيقة دون حذلقات تبشيرية مضللة!
ثم إن العرب لم يكونوا يكتفون بتسجيل القرآن كتابة، بل كانوا يحفظونه فى الصدور. أى أنه كان محفوظا حفظا مضاعفا، كما أنهم فى كل مرحلة من مراحل تدوينه كانوا يستعملون هاتين الطريقتين معا، ومن هنا كان ذلك الحفظ المذهل لكتاب الله الذى استمرت جماهير المسلمين حتى من غير العرب تحفظه وتتبرك بحفظه فى قلوبها على مدى القرون رغم وجود المصاحف، وهو ما لم وما لن يحدث لأى كتاب آخر. وكما قلت فالأمور نسبية، ومن هنا كان يكفى أن تقع عين الواحد منهم على الرسم الذى يراه صاحبنا ناقصا معيبا حتى ينطلق كالريح المرسلة بالخير، وهو ما يقع لنا الآن نحن الذين نحفظ القرآن أو للذين تعلموا على الأقل الرسم العثمانى المتَّبَع فى كتابة المصحف، إذ لا نجد أية مشكلة على الإطلاق فى قراءته دون خطإ رغم مخالفته فى بعض الأشياء لقواعد الإملاء المعمول بها حاليًّا وخلوّه تماما من علامات الترقيم التى نعرفها. ولا يقتصر هذا على العرب، بل يَشْرَكهم فيه المسلمون الأعاجم حتى لو لم يعرفوا من العربية شيئا آخر سوى قراءة القرآن. أما اختلاف الحكم الشرعى أحيانا بسبب هذا الرسم فهو مقصود، إذ القرآن قد نزل على ما يُعْرَف فى تاريخه بــ"السبعة الأحرف"، وهى طرقٌ سبعٌ لأدائه من باب التوسعة على العرب الذين لم يكونوا قد اعتادوا جميعهم بكل مستوياتهم الثقافية على استخدام لغة موحَّدة بعد، بل كانت تتوزعهم لهجات تختلف قليلا أو كثيرا، إلى جانب اللغة الفصحى التى لا نظن أن كل عربى كان يعرفها بنفس الدقة والتعمق اللذين كان يعرف بهما لهجة قبيلته. وقد كان الخط العربى آنذاك بقلة قيوده مما يسهِّل تأدية القرآن بهذه الأحرف السبعة جميعها رغم ما يوجهه الكاتب لهذا الخط بسبب ذلك من انتقادات
((((((((((حوارُ الغافلين والجادين المُهْمَلين مع النصارى . ( توصيف وإرشادات لمن يريد المشاركة )
صورتان :
الأولى : لمجموعة من المُنَصّرين . . . المتمرسين . . . المتفرغين . . . الحاقدين على الإسلام والمسلمين ، يجلسون مع مجموعة منتقاة من موظفي الدين الرسميين .. . عديمي الكفاءة العلمية . . . محدودي الصلاحيات فيما يسمى بالحوار بين الأديان .
والجلسة أشبه ما تكون بين محقق ومتهم ، الطرف الإسلامي في وضع اعتذاري . . . تسويغي ، يدافع عن الإسلام ضد تُهم الطرف النصراني ، ويحاول جهده أن ( يحسن ) صورة الإسلام أمام الطرف الآخر ، فمرة ينكر الجهاد ( جهاد الطلب بل والدفع أحيانا ) ، ومرة يتنكر للتعدد ــ تعدد الزوجات ـــ أو يقيده بقيود ما أنزل الله بها من سلطان ، ومرة يتكلم عن محبة ( الآخر ) ، وأن الإسلام نزع من قلوبنا بغض من حاد الله ورسوله ولو كانوا مقاتلين مُغتصبين ، ويتلجلج في نطقه ويتصبب عرقا حين يسأل عن جهاد نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـــ وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، ناهيك عما يفعله ( الإرهابيون ) اليوم .!!
والطرف الثاني في هذا المشهد هم الغافلون .
غافلون عن أن للطرف الأول ـــ النصراني ــ أهدافاً أخرى يرمي إليها , فالحوار بمثابة الاعتراف به من جهة إسلامية ( رسمية ) تعطي الكنائس شرعية لما تمثله من عقائد ودعاوى ، وهذا الأمر في غاية الخطورة ، فهم يُثَبِّتون قومهم على الكفر بهذا الاعتراف ، يقولون لهم ( مشايخ ) الإسلام يعترفون بنا ويقرون بشرعيتنا ، وهم يُدْخِلون الناس في الكفر بهذا الاعتراف ـــ الذي يأخذونه من هذه الحوارات ـــ حين يُسَوِّقونه في الأماكن التي ينشط فيها التنصير ، يُظهرون لهم أن ( مشايخ ) الإسلام لا تُخَطِئهم ــ في الجملة ـــ . وهذا صدٌّ صريح عن دين الله .
في كثير من حوارات البالتوك مع النصارى تكلم أكثر من فرد ــ من النصارى ــ مستشهدا بأقوال نفر من المسلمين على صحة ما يعتقدون . يقول : وقد اعترف بهذا فلان وفلان ممن يحملون أسماء إسلامية واشتهروا بين الناس بأنهم من علماء الدين الرسميين ، أقول هذا لتعرف خطورة الأمر .
وهم غافلون لأنهم بحوارهم بهذه الطريقة يُعدِّلون المفاهيم الإسلامية مثل الجهاد وأوضاع المرأة ، وتحديد النسل ... الخ .
وهم غافلون عن أن هذا الطرف النصراني هو هو بأم عينه الذي يمارس التنصير في بلاد العالم الإسلامي كلها ، في ذات الوقت الذي يتحاور فيه معهم .
وهم غافلون عن أن هذا الطرف النصراني المتحاور هو الذي يحرك العداء الديني للإسلام في الغرب برمته ، وهو هو الذي يساند الأقليات الكافرة في بلاد المسلمين لخلق البلبلة والتشتت حتى أصبحت الكنائس في العالم الإسلام مراكز قوى .
ولولا غفلتهم لتساءلوا لماذا الحوار فقط مع الكنائس ولم يكن مع عوام النصارى ومثقفيهم ؟
ولماذا الحوار فقط في الإسلاميات ـــ الشبهات المثارة حول الإسلام ــ دون النصرانيات ــ ضلالات النصارى وما يفترونه على ربهم ونبيهم ـــ ؟
والصورة الثانية التي في خيالي :
لأحمد ديدات وهو يحمل كتبه ويرفع لا فتة كتب عليها قول الله تعالى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" ( سبأ:24)
لقد خط أحمد ديدات خطاً جديداً وسنَّ سُنة حسنة في الحوار بين الأديان ، فتح جبهة على القوم ما كانوا يحسبون لها حساب .
وحين تَرِد صورة أحمد ديدات ومن على دربه في خاطري أردد قول الله تعالى " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " (الحشر : 2) .وقد بارك الله له في جهده ،وأتى سعيه أُكله ضعفين ، فأسلم عدد غير قليل على يده ، وصار على دربه ثلة من الشباب ، والله أسأل أن يتقبل منه ومنهم وأن يكتب أجره وأجرهم أضعافاً مضاعفة .
وأحمد ديدات ومن على دربه هم الجادون المُهْمَلون.
والعجب أنهم مُهمَلون . مع أن الكل يتكلم عن أهمية إيصال صورة واضحة للإسلام لعامة النصارى في الغرب والشرق .
والعجب أن الكل يقف عند حد التنبيه على أهمية هذا الأمر دون التحرك للتحاور مع عوام النصارى ، أو التوجه إليهم بخطاب ينقض معتقداتهم الباطلة في المسيح أو الأحبار والرهبان ، أو يحسن لهم صورة محمد صلى الله عليه وسلم .بعد أن رماه قساوستهم بالخنا والفجور وعظائم الأمور .
والعجب أن الجامعات الإسلامية تُخرج أساتذة متخصصين في ما يسمى بعلم ( مقارنة الأديان ) ولا وجود لهم في الميدان ، اللهم نفر أو نفران .
والعجب أننا نبادر بالحديث إلى المثقفين ونترك العوام ، وغالب الظن أن المثقفين لا يجهلون الإسلام ، وهم الملأ الذين يمكرون على قومهم بالتعاون مع الساسة ، ونترك عوام الناس الذين يريدون أن يعبدوا ربهم .
والعجب أننا نرفع عقيرتنا بالشكاية من التنصير ، الذي اجتاح كل بلاد المسلمين ، من المغرب العربي إلى أندونسيا مرورا بأفريقيا التي كاد يأكلها والجزيرة العربية وباقي دول المسلمين ، ثم لا نقوم بنشر ثقافة مضادة له تواجه شبهاته أو معتقداته التي يبثها في أرضنا بين شبابنا .
والعجب أن يصرح المسئولون في الكنيسة المصرية الأرثوذكسية الحاقدة الثائرة أن النشاط التنصيري في مصر بلد الأزهر والصحوة الإسلامية مُرضي للغاية . وأنهم موجودون حتى في الجزيرة العربية .!!
والعجب كل العجب من هذا البليد الذي يسمع سبَّ نبيه ـــصلى الله عليه وسلم ـــ ويرى الناس تكفر بربهم ولا يتحرك.!!
إرشادات للمشاركة
ميدان التصدي الفكري للنصرانية المحرفة ـــ أو حملات التنصير خصوصاً ـــ وكذا دعوة عوام النصارى الذين يبحثون عن الحق ، هو من الطريق الذي شقه أحمد ديدات وتبعه عليه كثيرون في كل بقاع العالم ، وهم متواجدون الآن في البالتوك بصفة أساسية ، وعلى أرض الواقع ، ولهم إصدارات مكتوبة ومسموعة ، والملاحظ أنهم ــ وكذا شيخهم أحمد ديدات رحمه الله رحمة واسعة ـــ ليسوا بطلبة علم شرعيين ، وربما كانت هذه هي الثغرة في فكر الرجل ، وهم يحتاجون لطلبة العلم الشرعي للانضمام إليهم . فهل من مجيب ؟
ومن يريد المشاركة . . . من يريد التعرف على شبهات النصارى والرد عليها ، أو إيجاد طرح إيجابي مضاد لطرح النصارى ، فعليه فقط أن يدخل للبالتوك يوما أو يومين وينصت إلى النصارى ، أو يتكلم مع المسلمين المتمرسين في غرف البالتوك وهم يُعَرِّفوه .
ـــ لا يُفهم من كلامي أبدا أنها دعوة للتوجه للمشاركة في غرف البالتوك ، وإنما هي دعوة للتصدي للتنصير بدراسة شبهاتهم ، ثم تكوين مادة علمية مضادة لهذه الشبهات وطرحها على عوام النصارى الذين يكذب عليهم الأحبار والرهبان وكذا عوام المسلمين الذين يستهدفهم التنصير .
أرجو قراءة الثلاثة أسطر الأخيرة مرة ثانية .!!
ــ شيوخنا الأفاضل الذين منَّ الله عليهم بانتشار خطبهم عن طريق الشريط معنيون بهذا الأمر أكثر من غيرهم فمنبرهم عال وجمهورهم غفير ومن كل المستويات ، والشريط طويل العمر واسع الانتشار .
ولا يحتج علينا أحد بضيق الوقت وكثرة الشواغل ، فهل هناك أعظم من الذب عن عرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـــ ؟!
ثم إنه تنزل النوازل ـــ كالسيول والإعصار والعمليات ( التفجيرية ) ـــ فينقطع لها جدول أعمال الشيوخ للتعقيب عليها ، وسب نبينا وكفر أبناءنا وإخواننا والله إحدى الكُبر التي ينقطع لها القلب لا الوقت .
والمطلوب تحديدا هو :
عرض موجز لعقيدة النصرانية وكيف فسادها ، وسرد شبهات النصارى والرد عليها.
أيها السادة !
وقد خالطنا التنصير ونزل بساحتنا فلم نجلس عن مواجهته ؟!
ونريد من الأكاديميين والمتخصصين حواراً بمستوى عال يخاطب علمائهم الدينيين و منظريهم ، ولا مانع من أن يأخذ الحوار صفة الالتفاف عليهم ، أو أي صفة أخرى كتسكينهم وفتح دوامات فكرية لهم بإثارة الشبهات وطلب الرد عليها من أجل إشغالهم ، فأولئك الملأ ،ويجوز في حقهم مالا يجوز في حق غيرهم .
ــ في افتتاح المركز الإسلامي الذي قام به الشيخ الدكتور سفر الحوالي ــ حفظه الله من كل سوء ــــ وحضره الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين ، اقترح الشيخ سفر ترجمة ( الجواب الصحيح على من بدل دين المسيح ) لشيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ ، وقد توقف العمل أو تأخر ، واقترح الشيخ ابن عثيمين في مؤتمر الافتتاح ، أن تفرد ــ من الكتاب ــ رسائل صغيرة ــ مطويات ــ في المواضيع ذات الشأن . فلم لا ننشط لهذا ؟
لم لا يوضع كشف زيف النصرانية إحدى موضوعات الدروس والخطب والمطويات ؟ لم ؟ ولو بمحاضرة أو محاضرتين من كل شيخ؟
واختم بهمسة في أذن أولي الألباب وأصحاب النظرة البعيدة أقول :
الحوار له أهمية في إضعاف معنويات الخصم ، وتجنيد طابور خامس فهناك من يُسلم في السر ــ من العوام ومن القساوسة وهذا أمر مشاهد معلوم ـــ ولا تدري علَّه ينفعنا يوما . وما أمر نعيم بن مسعود منكم ببعيد .
……………………………………..
محمد جلال القصاص
======================================================================عصمة الأنبياء شبهات وردود
الأنبياء عليهم السلام هم أشرف الخلق وأزكاهم، وأتقاهم لله وأخشاهم، ومقامهم مقام الاصطفاء والاجتباء، وواجب الخلق نحوهم التأسي والاقتداء.
فالواجب أن يُحفظ لهم هذا المقام، وأن ينزهوا عن مد الألسن إليهم بالنقد والاتهام، غير أن نفوسا قد غلبها الفسق، مدت ألسنتها إلى الأنبياء بالعيب والتهم، فلم تدع نبيا - إلا ما ندر – لم ترمه بدعوى العيب والإثم، تريد بذلك انتقاصهم، والحط من أقدارهم، بل والطعن في القرآن الكريم الذي ذكر عنهم أحوالهم، فكان الذب عن أنبياء الله عز وجل متعينا، صونا لدين الله، وحفظا لحق أنبيائه عليهم السلام.
لكن قبل الخوض في تفاصيل رد ما رمي به الأنبياء عليهم السلام، نحب أن نبين أن المقرر عند السلف أن الأنبياء عليهم السلام لا يتصور في حقهم الخطأ في مقام الوحي والتبليغ، أما في غير ذلك من صغائر الذنوب مما ليس في فعله خسة ولا دناءة، فإنه إن صدر من أحدهم شيء فإنه لا يقر عليه، بل يتبعه بالتوبة والإنابة. وبهذا يبطل ما تعلل به الطاعنون من قولهم: كيف يجوز على الأنبياء الخطأ وهم في مقام الأسوة والقدوة ؟ ونجيب على ذلك بالقول: إن الخوف من أن يحصل اللبس في مقام التأسي بالأنبياء إنما يتصور فيما لو أخطؤوا، واستمروا على الخطأ، ثم لم ينبهوا عليه، فيشتبه حينئذ على المقتدي الحال التي يجب فيها متابعة النبي من الحال الأخرى، أما إن نبهوا على التقصير فلن يحصل اشتباه، بل سيتحول المجال إلى مجال متابعة من وجه آخر، وهو المتابعة في حسن الرجوع إلى الله سبحانه بالتوبة، وبهذا يسلم للأنبياء مقام القدوة والأسوة، ويحصل لهم شرف التعبد لله عز وجل بالتوبة إليه سبحانه .
وقد تبين لنا من خلال بحثنا أن ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء – بعد استبعاد المكذوب عليهم - لا يخرج عن أن يكون سوء فهم للنص، أو أن يكون شيئا وقع منهم قبل نبوتهم، أو أمرا فعلوه وكان على خلاف الأولى، أو خطأً تابوا منه فتاب الله عليهم، فلا يحق لأي كان أن يتخذ ذلك ذريعة لانتقاصهم وثلمهم .
وقد فصلنا فيما يلي هذه الوجوه، وقررنّاها بأمثلتها حتى يتضح للقارئ الكريم أن نتاج الدراسة الجادة لشبهات الطاعنين في الإسلام لن تكون إلا في صالح الإسلام، وأن الحق لا يزيده طعن الطاعنين إلا ثباتا وظهوراً:
الوجه الأول : ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن مبناها على سوء الفهم
من ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام من أنه قد وقع في الشرك بادعائه ربوبية الكواكب، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }(الأنعام : 76-77)، والجواب على ذلك أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ما قال في مقام المناظرة والمخاصمة لقومه، إذ استعرض لهم الكواكب شمسا وقمرا ونجما، وبين لهم بالدليل العقلي انتفاء الربوبية عنها، ثم توجه إليهم مخاطبا إياهم بالنتيجة المنطقية لبطلان معبوداتهم فقال : { يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }.
فإن قيل: كيف يتأتى لإبراهيم عليه السلام مناظرة قومه في نفي ربوبية الكواكب وهم إنما يعبدون أصناماً من الحجارة ؟ قلنا إن إبراهيم عليه السلام ناظرهم في نفي ربوبية الكواكب حتى يتبين لهم انتفاء الربوبية عن آلهتهم التي يعبدونها بطريق الأولى، وذلك أنه إذا تبين انتفاء ربوبية الكواكب وهي الأكبر والأنفع للخلق، كان ذلك دليلا على انتفاء ربوبية ما دونها من أصنامهم التي يعبدونها، لعظم الفارق بين الكواكب وبين أصنامهم التي يجهدون في خدمتها دون أدنى نفع منها تجاههم .
ومن ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام أيضاً من أنه شك في قدرة الله سبحانه، حين سأله عن كيفية إحيائه الموتى، قالوا : والشك في قدرة الله كفر، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى:{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } ( البقرة : 260 ) ، وأوردوا أيضا ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى ، قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .
والجواب على ما أوردوه ببيان أن ما صدر عن إبراهيم عليه السلام لم يكن شكا في قدرة الباري سبحانه، فهو لم يسأل قائلا: هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى؟ فيكون سؤاله سؤال شك، وإنما سأل الله عز وجل عن كيفية إحيائه الموتى، والاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، لا عن شيء مشكوك في وجوده أصلا، ولو كان السؤال سؤال شك في القدرة لكانت صيغته: " هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى ؟ " وكيف يشك إبراهيم في قدرة الباري سبحانه وهو الذي حاج النمرود بها، فقال: ربي الذي يحيى ويميت، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فاستدل بعموم قدرة الباري على ربوبيته.
والسبب المحرّك لإبراهيم على طلب رؤية كيفية إحياء الموتى هو أنه عليه السلام عندما حاجَّ النمرود قائلا: إن الله يحيى ويميت، ادعى النمرود هذا الأمر لنفسه وأرى إبراهيم كيف يحيى ويميت، فأحب عليه السلام أن يرى ذلك من ربه ليزداد يقينا، وليترقى في إيمانه من درجة يقين الخبر "علم اليقين" إلى درجة يقين المشاهدة "عين اليقين"، وكما جاء في الحديث ( ليس الخبر كالمعاينة ) رواه أحمد .
قال الإمام القرطبي : "لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكاً في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به "، وقال الإمام الطبري : " .. مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عياناً ما كان عنده من علم ذلك خبراً " .
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) فمعناه أنه لو كان إبراهيم شاكاً لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أيضا لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام.
ومن أمثلة سوء فهم النص وتحميله ما لا يحتمل بغية الطعن في الأنبياء ما قاله قوم من أن لوطا عليه السلام كان قليل التوكل على الله عز وجل معتمدا على الأسباب اعتمادا كليا، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى :{ بكم قال لو أني لي قوة أو آوي إلى ركن شديد }( هود: 80)، قالوا: والذي يدل على صحة فهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاتبه على قوله ذاك، بقوله:( ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) متفق عليه.
وجواباً على ذلك نقول لهم: إن هذا سوء فهم منكم للحال التي قال فيها لوط عليه السلام ما قال، والسبب الذي حمله على ذلك القول ؟ فالأنبياء عليهم السلام كانوا يُبعثون في منعة من أقوامهم، فيُبعث النبي من أشرف قبائل قومه وأمنعهم، فتكون قبيلته - وإن لم تؤمن به - سندا له تحميه من كيد أعدائه ومكرهم، كما قال تعالى عن شعيب { ولولا رهطك لرجمناك }(هود : 91)، وكما كان بنو هاشم للنبي صلى الله عليه وسلم حماة وسندا .
وأما لوط عليه السلام فلم يبعث في قومه، وإنما بعث في مكان هجرته من أرض الشام، فكان غريبا في القوم الذين بعث فيهم، إذ لم يكن له فيهم عشيرة، لذلك عندما خاف عليه السلام أن يوقع قومه الفضيحة بأضيافه تمنى أن لو كان بين عشيرته ليمنعوه، وهذا من باب طلب الأسباب، وهو طلب مشروع كما لا يخفى، لكن لما كانت هذه الأسباب غير متوفرة، كان الأولى أن يتوجه العبد بطلب العون من الله سبحانه، فهو المعين والناصر، ومن هنا جاء عتاب النبي صلى الله عليه وسلم داعيا له بالمغفرة والرحمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ) رواه البخاري ، وقال : ( ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) رواه البخاري .
الوجه الثاني: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وقعت منهم قبل النبوة
من ذلك ما ادعوه في حق آدم عليه السلام من أنه عصى وأزله الشيطان، قالوا والذي يدل على قولنا، قوله تعالى: { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } ( طه: 121) وقوله في الآية الأخرى:{ فأزلهما الشيطان عنها }( البقرة : 36) والجواب على ما أورده هؤلاء أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، فلا يصح أن يتخذ ذريعة للطعن فيه عليه السلام، قال الإمام أبو بكر بن فورك:" كان هذا من آدم قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى : { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً، لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب".
فإن قيل كيف يقال: إن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، أوَ ليست النبوة هي الوحي من الله ؟ والله كان يكلم آدم قبل أن يخرجه من الجنة كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث، قلنا: النبوة المنفية هنا ليست هي مجرد الوحي، وإنما هي الوحي إلى شخص النبي بشرع جديد أو بتجديد شرع سبقه، وهذا ما لم تدل الأدلة على أن آدم أعطيه عندما كان في الجنة مع زوجته، فصح بذلك القول بأن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته بالمعنى الخاص.
ومع أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته إلا أنه أتبعه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه، وذلك لصفاء نفسه ومعرفته بمقام ربه، قال تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم }(البقرة:37).
ومن أمثلة ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وشنعوا به على القرآن، وكان قبل النبوة ما أوردوه في حق موسى عليه السلام من أنه ارتكب جريمة القتل، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:{ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين }( القصص: 15) قالوا: وقد ندم موسى عليه السلام على هذه الجريمة، ومنعه ندمه أن يتقدم بالشفاعة إلى رب العالمين، كما في حديث الشفاعة الطويل :( فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي ).
والجواب على ما أورده هؤلاء الطاعنون في حق نبي الله موسى عليه السلام أن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته، بدليل قوله تعالى: { قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي رب حكما وجعلني من المرسلين } ( الشعراء : 18-21) ثم لم يكن قصد موسى عليه السلام قتله، وإنما قصد دفعه عن أخيه، فقتله خطأ، وقد استغفر موسى ربه من هذه الفعلة، فغفر له سبحانه، قال تعالى : { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } ( القصص : 16 ).
الوجه الثالث: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وكانت في حقيقتها أمورا على خلاف الأولى
من ذلك ما ادعوه في حق نبي الله سليمان عليه السلام من أنه قعد يتفرج ويتمتع بالنظر لخيوله حتى خرج وقت الصلاة، ثم عندما علم بتضييع وقت الصلاة بسبب تلك الخيول قام بذبحها فكان في ذلك إهداراً للمال، وإزهاقاً لأرواح الخيل في غير وجه حق، وزيادة تأخير للصلاة، قالوا والذي يدل على ما قلنا قوله تعالى:{ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } ( ص : 30-33 ).
وجواباً على ذلك نقول: إنه ليس في الآيات - محل البحث - تصريح بأن سليمان عليه السلام قد ضيع الصلاة الواجبة، والتصريح الذي في الآيات هو أن الخيل قد شغلته عن ذكر الله، وهنا يحتمل أن يكون المراد بذكر الله الصلاة المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بها صلاة النافلة، أو الذكر، وعلى أي احتمال فليس في الآية أنه - عليه السلام - ترك الذكر متعمدا، بل ظاهرها أنه نسي ذكر ربه باشتغاله بأمر الخيل .
وكذلك ليس في الآية تصريح بأن سليمان ذبح الخيل وأزهق أرواحها ورماها عبثا، وإنما في الآية التصريح بأنه مسح سوقها وأعناقها، وقد قال بعض المفسرين أنه مسح الغبار عنها حبا فيها، ومن قال: "ذبحها" لم يقل رمى لحمها، والظن به عليه السلام إذا ذبحها أن يتصدق بلحمها، إذ في ذبحها والتصدق بلحمها ما يكون أرضى للرب سبحانه، فكأنه عليه السلام يقول لربه سبحانه: هذه التي شغلتني عن ذكرك ذبحتها لك، وتصدقت بها على عبادك.
وبهذا يتبين أن ما وقع من سليمان عليه السلام من اشتغاله بالخيل عن ذكر الله إنما هو خلاف الأولى، وليس من باب المعاصي والآثام، بل هو من ربما كان من باب النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان .
هذا بعض ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وقد أجبنا عنه بما لا نزعم أنه لا مزيد عليه، ولكننا نحسب أننا فتحنا أبوابا للحق، تضيء بنورها ظلمات الباطل فتزيلها، وينبغي للمسلم إذا عرضت له شبهة من الشبهات تجاه أنبياء الله ودينه أن يواجهها بالحجة والبرهان فيبحث في مظان كتب أهل العلم، ويسأل المختصين، عملا بقوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }(النحل: 43).
…………………………….
كتبة الاخ :ابو مريم
((((((لماذا تكرهون "محمد" و"محمد" يحب المسيح بسم الله الرحمن الرحيم
-المقدمة-
إن الحمد لله ،نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له .وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:-
إن العلاقة بين محمدr والمسيحعلاقة محبة صادقة خالصة رفيعة المستوى،فالنبي محمد rأحب أخاه المسيح وقدمه للعالم و الإنسانية بأبهى وأرقى وأكمل مشهد من خلال منهج الوحيين القرآن الكريم والسنة النبوية.ومحمدrعرف بأخيه المسيح تعريفاً كاملاً من قبل ميلاد أمه العذراء مريم بنت عمران عليها السلام إلى نهاية التاريخ وتوقف الزمن الأرضي،وقدم الكتاب المقدس الإنجيل الحق،المنزل على المسيح،بأزهى تقديم وقدم الحواريين بأجمل صورة، ودافع عن مؤمني النصارى المضطهدين دفاعا اتسم بالمحبة لهم،وبكراهية مضطهديهم الطغاة، فالمسلم الحقيقي لا يكون مسلماً حقاً إلا إذا آمن بالمسيح،وبانجيل المسيح،والنور الذي جاء به المسيح،فالمسلم يؤمن بأنبياء الله كلهم من آدم الى محمد صلى r والبالغ عددهم أكثر من ثمانية وعشرون ألف نبي،ومن كفر رسولاً واحداً أو كتاباً واحداً انسلخ عن الإسلام ،فالمسلم يؤمن بموسى وعيسى وبالتوراة و الإنجيل ،كإيمانه بمحمدr والقرآن سواءاً بسواء قال الله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } سورة البقرة الآية[28]،ومحمدr نبي متبع لآثار أخوته الأنبياء من قبله ،ومقتد بهداهم ،ومجدد ومصحح لما طرأ في عقائد الناس من انحراف ،وردهم إلى التوحيد الذي هو قطب رحى الرسالات السماوية جميعها قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }سورة النحل الآية[36]،ومحمدr نعت رسالة المسيح بأنها اشراقة سماوية على الإنسانية، ولو كان محمدr كارها للمسيح وأمه العذراء،لأخفى من القرآن الكريم المنزل عليه عن طريق روح القدس جبريل سورة مريم وآل عمران،وسورة المائدة التي تسطر كرامات المسيحبأحرف من نور وآيات أخرى كثيرة كثيرة مثل قوله تعالى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }سورة التحريم الآية[12]،و الأحاديث النبوية الصحيحة الكثيرة –ومنها كما في صحيح البخاري قال النبيr:(فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون)،وهذه وأيم الله شهادة صدق من سيد المرسلين والتي ترفع المسيح وأمه إلى أعلى عليين فأي دلالة أوضح من هذه على حب محمدr لأخيه المسيح وأمه العذراء.لذا أقول إن الشعوب النصرانية لا يعلمون بأن روح المحبة الصادقة التي يبديها المسلم دائما تجاه عيسى وأمه عيلهما الصلاة والسلام تنبع من الوحيين القرآن الكريم والسنة النبوية فهما ينبوع الايمان.واني لأضع بين يديك و بكل تواضع هذا البحث العلمي المعنون"لماذا تكرهون محمد؟ ومحمد يحب المسيح!!!" فرب كلمة يبارك الله فيها فتقرأ فيها فحوى كتاب،فلعله أن يكون مشعلا ومناراً ومقتداً،وأن يفتح الله به أعيناً عمياً،وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً،وان الأسلوب المنتهج في هذا البحث أسلوباً حوارياً دفاعياً هادئاً يحبه الغربيين،فحسب القاريء الغربي بل وحتى الشرقي،بقراءته للبحث أن تقام عليه الحجة الواضحة والبرهان الساطع على نبوة محمد r،وحسبه وكافيه قصة إسلام النجاشي وقد عرفت بطريقة غير مباشرة بمحمدr ورسالته الخالدة، بمثل قصة إسلام النجاشي وقصة هرقل،وأما ما يفعله الغربيون من رسم رسوماً يلمزون بها محمد r ما هي إلا نوع من أنواع الحروب على الإسلام، والتي يدير رحاها، قتلة الأنبياء المغضوب عليهم اليهود،تحت ظل حرية الرأي وحرية التعبير زعموا؟!، والتي لا تقف إلا بنزول المسيح بقتله للخنزير وكسره للصليب وتخليص الأرض من شر اليهود ليعم بعدها السلام العالمي على الإنسانية.فأقول لهؤلاء اللامزين إن لم تؤمنوا بمحمدr ورسالته فلا أقل من أن تحترموه لأنه يحب المسيح .هذا فان كل ما كتبته هو نصرة لحبيبنا وشفيعنا وقرة أعيننا محمدr قال تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}سورة الفتح
هذا هو جهدي في الكتاب،فان وفقت فيه فمن فضل الله وكرمه ومنه علي ،وان كانت الأخرى فمن نفسي والشيطان،واستغفر الله الذي لا اله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه منه،وأسأل الله ألا يحرمني أجر هذا الكتاب في الحياة وبعد الممات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلف:يوسف بن إبراهيم الساجر.
1. الله يصطفي آل عمران على العالمين:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }سورة آل عمران الآية[33].
2. والدة مريم عليها السلام تحمل بالعذراء وتنذر المولود القادم خالصاً لخدمة بيت المقدس:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *}سورة آل عمران الآيات[33-34].
3. مولد مريم بنت عمران عليها السلام:
وعن ولادة أم المسيح عليهما السلام قال الله تعالى في القرآن الكريم{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }سورة آل عمران الآيات [36-37].
4. زكريا يفوز بكفالة مريم العذراء عليها السلام لتربيتها لأن والدها عمران مات قبل ولادتها:
كما قال الله تعالى في القرآن الكريم{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } سورة آل عمران الآية[44].
وقال الله تعالى في القرآن الكريم{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }سورة آل عمران الآية[37].
5. البتول مريم بنت عمران عليها السلام عابدة ناسكة:
وقد شهد بهذا رب العالمين في القرآن الكريم بقوله:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } سورة آل عمران الآية [43].
6. كرامات مريم بنت عمران عليها السلام:
ومنها ما قاله المولي في كتابه العزيز:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }سورة آل عمران [36-37].
7. الله يصطفي مريم عليها السلام مرتين على نساء العالمين:
وقد جاء ذلك في القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}سورة آل عمران الآية[42].
8. محمدr يظهر خيرية مريم بنت عمران عليها السلام على نساء العالمين أجمعين:
قال الرسول r: (خير نسائها مريم بنت عمران،وخير نسائها خديجة) رواه البخاري.
قال رسول الله r: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.
9. الله يقول عن مريم عليها السلام بأنها عفيفة طاهرة عذراء:
كما في قوله جل شأنه:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }سورة التحريم الآية[12].
وقال الله تعالى في القرآن الكريم:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }سورة الأنبياء الآيات[ 91-92].
10. بشارات الملائكة لمريم عليها السلام بالمولود العظيم المسيح :
كما في قوله سبحانه وتعالى:{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }سورة آل عمران الآية[45].
11. مريم عليها السلام تحمل بالمسيح:
وقد جاء ذلك في قوله تبارك وتعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا }سورة مريم الآيات[16-17-18-19-20-21-22].
12. معجزة ميلاد المسيح:
كما سطرت بالقرآن الكريم حيث قال ربنا جل جلاله:{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا *فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } سورة مريم الآيات[23-24-25-26-27].
هذا وان القرآن لم يذكر قصة مولد محمدr لأن مولده كان مولداً طبيعياً كما يولد سائر البشر{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }سورة الكهف الآية[110]،ومن هذا تظهر الأدلة بأن القرآن ليس من عند محمدr،و إلا لأبرز مولده وميزه أكثر من مولد المسيح أوغيره،ولكنها محبة محمدr الصادقة لأخيه المسيح.
13. المسيح خلق من تراب كما خلق أبو البشر آدم عليه السلام:
فقد قال الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }سورة آل عمران الآية [59].
و[عن أبي بن كعب في قوله تعالى : {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية ، قال جمعهم له يومئذ جميعا . ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } . قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي ، فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال رب لو سويت بين عبادك ، فقال إني أحب أن أشكر ، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله :{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ } وهو قوله تعالى :{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} وقوله تعالى :{هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى } وقوله تعالى : { {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها ]ذكره ابن القيم في كتاب الروح.
والله جل في علاه له الكمال المطلق في الخلق يخلق ما يشاء كيف شاء سبحانه، فقد خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم ،وخلق حواء من ضلع آدم من أب بلا أم ، وجعل نسل بني آدم من أب وأم ، وخلق عيسى من أم بلا أب فسبحان الله الخلاق العليم.
14. الشيطان اللعين لم يقرب المسيح عند ولادته:
وذلك لكرامة المسيح عليه السلام على الله تبارك وتعالى وبين ذلك النبيr بقوله:(كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد ، غير عيسى ابن مريم ، ذهب يطعن فطعن في الحجاب .( رواه البخاري.
15. المسيح يتكلم في المهد :
و أي كرامة كمثل هذه فمنذ أن خلق الله الخلق من لدن آدم عليه السلام والى أن يرث الأرض ومن عليها لم يتكلم إلا ثلاثة في المهد أحدهم عيسى عليه السلام كما قال الرسول r:(لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة :عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج ، كان يصلي ، جاءته أمه فدعته ، فقال : أجيبها أو أصلي ، فقالت : اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعته ، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى ، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها ، فولدت غلاما ، فقالت : من جريج ، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه ، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام ، فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : الراعي ، قالوا : نبني صومعتك من ذهب ؟ قال : لا ، إلا من طين . وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل ، فمر بها رجل راكب ذو شارة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك ثديها وأقبل على الراكب ، فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديها يمصه - قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي r يمص إصبعه - ثم مر بأمة ، فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه ، فترك ثديها ، فقال : اللهم اجعلني مثلها ، فقالت : لم ذاك ؟ فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه الأمة يقولون : سرقت ، زنيت ، ولم تفعل ).رواه البخاري.
16. المسيح تكلم بالمهد ليبريء ساحة أمه الطاهرة مريم العذراء عليها السلام:
فقد قال الله تعالى:{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا*}
سورة مريم الآيات[27-28-29-30-31-32-33].
17. نزول الكتاب المقدس الإنجيل الحق على المسيح:
الكتب المقدسة التي اختص الله بها بعض رسله سبحانه فالتوراة لموسى عليه السلام والزبور لداوود عليه السلام والقرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم وأما الإنجيل فقد انزله الله على عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى:{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }سورة الحديد الآية[27].
وقال سبحانه و تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } سورة البقرة الآية[253].
18. الكتاب المقدس الإنجيل نور وهدى وموعظة:
وبين هذا المولى سبحانه بقوله:{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }سورة المائدة الآية[46].
19. الله يصف مريم بالصديقة ويقول عنها وعن المسيح عليهما السلام بأنهما آية:
كما ذكره سبحانه بقوله:{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }سورة المائدة الآية[75].
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }سورة المؤمنون الآية[50].
20. الله يؤيد المسيح بروح القدس:
وفي هذا قال الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } سورة البقرة الآية[87].
21. المسيح يحل لليهود بعض ما كان محرماً عليهم:
فقد قال الله تعالى:{ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *}سورة آل عمران الآيات[49-50].
22. حقيقة المسيح أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم عليها السلام وروح منه:
وقد بين الله سبحانه وتعالى بقوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }سورة النساء الآية[171].
وقال الله تعالى:{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ }سورة الأنعام الآية[85].
وقال سبحانه:{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }سورة النساء الآية[172].
وقال الرسول r:(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ). رواه البخاري.
وقال الرسول r: (لقد رأيتني في الحجر . وقريش تسألني عن مسراي . فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها . فكربت كربة ما كربت مثله قط . قال فرفعه الله لي أنظر إليه . ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به . وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء . فإذا موسى قائم يصلي . فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة . وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي . أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي . وإذا إبراهيم قائم يصلي . أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم . فلما فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمد ! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه . فالتفت إليه فبدأني بالسلام ). رواه مسلم.
23. الله يأخذ الميثاق على المسيح بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا:
وهذا من أعظم المواثيق التي أخذها الله على عباده النبيين كما قال سبحانه وتعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }سورة الأحزاب الآية[7].
وهذا توكيد للميثاق الأول الذي اخذه الله على خلقه كما في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ*أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }سورة الأعراف الآيات[172-173]
24. الله يأمر أبنا الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم عليهم السلام بالتوحيد وأهم أركان الدين:
قال الرسول r: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطئ بها قال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أولهن1- أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك 2-وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتف 3-وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك4- وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم5- وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي rوأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم فقال رجل يا رسول الله وإن صلى وصام قال وإن صلى وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله (صحيح الترغيب والترهيب للألباني رقم[552].
25. الإنجيل الحق المنزل على المسيح يبشر بمحمد r:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }سورة الصف الآية[6].
26. معجزات المسيح:
ومن أهم و أعظم معجزات النبي الكريم عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر الله تعالى في كتابه الكريم بقوله:{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }سورة المائدة الآية[110].
وقال سبحانه:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * }سورة المائدة الآيات[111-112-113-114-115].
27. ألقاب المسيحفي القرآن الكريم:
أولاً: المسيح:
وذلك في قوله تبارك وتعالى:{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }سورة آل عمران الآية[45].
ثانياً: آية الله:
وهو في قول الله جل جلاله:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }سورة المؤمنون الآية [50].
ثالثاً: ابن مريم:
لأنه معجزة كبرى و آية الله العظمى فانه خلقه من أم بلا أب فقد قال تعالى:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ }سورة الزخرف الآية[57].
رابعاً: عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام:
كما قال المولى سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }سورة البقرة الأية[87].
خامساً: كلمة الله:
كما قال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }سورة النساء الآية [171].
سادساً: عبد الله:
كما قال جل شأنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }سورة مريم الآية[30].
سابعاً: روح الله:
كما قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }سورة النساء الآية[171].
ثامناً:المسيح ابن مريم:
كما جاء في قوله جل جلاله:{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } سورة المائدة الآية[75].
تاسعاً: رسول الله:
كما جاء في الذكر الحكيم قوله سبحانه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }سورة النساء الآية[157].
28. المسيح كأنك تراه:
فقد ذكر النبي r يوما بين ظهري الناس المسيح الدجال ، فقال : (إن الله ليس بأعور ، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية ، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام ، فإذا رجل آدم ، كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه ، رجل الشعر ، يقطر رأسه ماء ، واضعا يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا المسيح بن مريم ، ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا ، أعور العين اليمنى ، كأشبه من رأيت بابن قطن ، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : المسيح الدجال) رواه البخاري.
أراني الليلة عند الكعبة ، فرأيت رجلا آدم ، كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال ، له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها ، فهي تقطر ماء ، متكأ على رجلين ، أو على عواتق رجلين ، يطوف بالبيت ، فسألت : من هذا ؟ فقيل : المسيح ابن مريم ، وإذا أنا برجل جعد قطط ، أعور العين اليمنى ، كأنها عنبة طافية ، فسألت : من هذا ؟ فقيل : المسيح الدجال (رواه البخاري.
وقال الرسول r: (ليلة أسري بي : رأيت موسى ، وإذا هو رجل ضرب رجل ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ، فإذا هو رجل ربعة أحمر ، كأنما خرج من ديماس ، وأنا أشبه ولد إبراهيم به ، ثم أتيت بإناءين : في أحدهما لبن وفي الآخر خمر ، فقال : اشرب أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقيل : أخذت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك (رواه البخاري.
وقال النبي r: (بينما أنا نائم أطوف بالكعبة ، فإذا رجل آدم ، سبط الشعر ، يهادى بين رجلين ، ينطف رأسه ماء ، أو يهراق رأسه ماء ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : ابن مريم ، فذهبت ألتفت ، فإذا رجل أحمر جسيم ، جعد الرأس ، أعور عينه اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية ، قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا الدجال ، وأقرب الناس به شبها ابن قطن)رواه البخاري.
وقال الرسول r: (رأيت ليلة أسري بي موسى ، رجلا آدم ، طوالا جعدا ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلا مربوعا ، مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس ، ورأيت مالكا خازن النار ، والدجال ، في آيات أراهن الله إياه : {فلا تكن في مرية من لقائه} . قال أنس وأبو بكرة ، عن النبي r: تحرس الملائكة المدينة من الدجال) رواه البخاري.
وقال الرسول r: (ليس بيني وبين عيسى نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع ، إلى الحمرة والبياض ، ينزل بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيقاتل الناس على الإسلام ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك المسيح الدجال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى ، فيصلي عليه المسلمون )صحيح الجامع للألباني رقم[5389].
أسري بالنبي r إلى بيت المقدس وجاء من ليلته يحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم فقال أناس نحن نصدق محمد r بما يقول فارتدوا كفارا وضرب الله أعناقهم مع أبي جهل قال وقال أبو جهل يخوفنا محمد بشجر الزقوم هاتوا زبدا وتمرا تزقموا قال ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس رؤيا منام وعيسى وموسى وإبراهيم صلى الله عليهم فسئل النبي r عن الدجال فقال رأيته فيلمانيا أقمر هجانا إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري كأن شعر رأسه أغصان شجرة ورأيت عيسى شابا أبيض جعد الرأس حديد البصر مبطن الخلق ورأيت موسى أسحم آدم كثير الشعر شديد الخلق ورأيت إبراهيم عليهما السلام فلا أنظر إلى إرب من آرابه إلا نظرت إليه مني كأنه صاحبكم قال وقال جبريل سلم على أبيك فسلمت عليه )
رواه ابن جرير الطبري في مسند ابن عباس.
29. اليهود يكذبون رسالة المسيح:
وهذا ما قاله سبحانه وتعالى:{وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }سورة الزخرف الآيات[63-64].
وقال جل جلاله:{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا* وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً }سورة النساء الآيات[154-155-156].
30. الله يتوعد اليهود بالعذاب الأليم حيث رموا العذراء مريم عليها السلام بالزنا:
فقد قال الله تبارك وتعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * }سورة النساء الآيات [155-161].
31. المسيح يلعن من كذب رسالته السماوية من بني اسرائيل:
فمن أنبياء بني إسرائيل داوود عليه السلام وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام لعنوا من كفر من بني اسرائيل وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ *كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } سورة المائدة الآية[78-79].
32. اليهود هموا بقتل المسيح وكادوا له:
فلا غرابة فاليهود قتلة أنبياء الله، وممن هموا بقتله وكادوا له عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام كما ذكره الله في كتابه:{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا * فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * }سورة النساء.الآيات[154-160].
33. الحواريون يناصرون المسيح ضد اليهود الملعونين:
وتبيان ذلك بقوله سبحانه:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }سورة آل عمران الآية[52].
وبين هذا سبحانه و أوضحه في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }سورة الصف الآية[14].
34. الله ينجي المسيحمن كيد اليهود له بالقتل ويرفعه إلى السماء:
وهذا فضل الله أن يدافع عن الذين آمنوا وينجي عباده المتقين ومنهم عبده ورسوله وكلمته عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام كما ذكره في قوله جل شأنه:{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }سورة آل عمران الآية[55].
35. الله يلقي شبه المسيح على أحد الحواريين:
كما قال الله تعالى:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }سورة النساء الآية[157].
(عن ابن عباس قال لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له اجلس ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب فقال اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا فقال أنت هو ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق -أ-فقالت طائفة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية-ب- وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية -ج-وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا r)ذكره ابن كثير في تفسير القرآن.
36. البشر تختلف بشأن المسيح بعد رفعه إلى السماء ويبدأون بتحريف الإنجيل:
وبيان ذلك ما قاله المولى سبحانه:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }سورة النساء الآية[171].
وقال الله تعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }سورة المائدة الآية[17].
وقال الله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } سورة المائدة الآية[72].
وقال الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }سورة التوبة الآية[30].
وقال الله سبحانه:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }سورة التوبة الآية[31].
قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي r وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية :{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قال : فقلت له : إنا لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ، قال : قلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم )أورده ابن تيمية في كتاب حقيقة الإسلام والإيمان.
37. أتباع المسيح بعد رفعه إلى السماء يضطهدون بسبب إيمانهم بالإنجيل الحق:
قال رسول الله r :(كان ملك فيمن كان قبلكم. وكان له ساحر. فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت. فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلمه. فكان في طريقه، إذا سلك، راهب. فقعد إليه وسمع كلامه. فأعجبه. فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه. فإذا أتى الساحر ضربه. فشكا ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني! أنت، اليوم، أفضل مني. قد بلغ من أمرك ما أرى. وإنك ستبتلى. فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي. فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك. فآمن بالله. فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجئ بالغلام. فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدا. إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمئشار. فوضع المئشار على مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فوضع المئشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل. فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس. ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد. وصلبه على جذع. ثم أخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله، رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه في موضع السهم. فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله! نزل بك حذرك. قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت. وأضرم النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها. فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري. فإنك على الحق) رواه مسلم.
الله يخلد ذكرهم في القرآن الكريم وينزل على نبينا محمد r سورة البروج
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ * } .سورة البروج.
38. تحقق بشارة المسيح بمولد محمدr:
قال الرسول r: (إني عند الله مكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأخبركم بأول أمري : دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت- حين وضعتني- وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام )مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني رقم[5691].
39. الراهب بحيرا يرى معالم النبوة في وجه محمدr وبين كتفيه:
عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال:(خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله r في أشياخ من قريش، لما أشرفوا على الراهب- يعني : بحيرى- هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم. قال:فنزل وهم يحلون رحالهم ، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذا سيد العالمين (وفي رواية البيهقي زيادة: هذا رسول رب العالمين؛ يبعثه الله رحمة للعالمين).فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه.ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به- وكان هو في رعية الإبل- فقال:أرسلوا إليه. فأقبل وغمامة تظله، فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة! فلما دنا القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقلتوه، فالتفت، فإذا هو سبعة نفر من الروم قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا؛ إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه؛ هل يستطيع أحد رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه عنده، قال:فقال الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب.فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت).من كتاب صحيح السيرة النبوية للألباني.
40. روح القدس الذي نزل الإنجيل على المسيح ينزل على محمدr:
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدىء به رسول الله rمن الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: (ما أنا بقارىء). قال:فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}). فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (زملوني زملوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي). فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يمتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم). قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.) رواه البخاري.
41. محمدr يخبر أنه يحب المسيح ودين المسيح:
قال الله تعالى:{قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }سورة آل عمران الآية[84].
قال الرسول r: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم . في الأولى والآخرة قالوا : كيف ؟ يا رسول الله ! قال : الأنبياء إخوة من علات . وأمهاتهم شتى . ودينهم واحد . فليس بيننا نبي) رواه مسلم
(أن النبي r تلا قول الله عز وجل في إبراهيم : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [14/إبراهيم/ الآية-36] الآية وقال عيسى : {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [5/المائدة/ الآية-118] فرفع يديه وقال "اللهم ! أمتي أمتي" وبكى . فقال الله عز وجل : يا جبريل ! اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله . فأخبره رسول الله r بما قال . وهو أعلم . فقال الله : يا جبريل ! اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) .رواه مسلم
قال الرسول r: (الأنبياء أخوة علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى بن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، إنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران كان رأسه يقطر ماء ، وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الجزى ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ).
ذكره ابن كثير في كتاب البداية والنهاية.
قال الرسول r: (من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء).رواه مسلم.
42. الله يرد على الذين حرفوا الإنجيل وزعموا أن الله أتخذ ولدا:
قال الله تعالى:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}سورة الإخلاص .
قال الله تعالى كما في الحديث القدسي:(قال الله تعالى: شتمني ابن آدم و ما ينبغي له أن يشتمني و كذبني و ما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا و أنا الله الأحد الصمد لم ألد و لم أولد و لم يكن لي كفوا أحد و أما تكذيبه إياي فقوله: ليس يعيدني كما بدأني و ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)رواه البخاري.
وقال الله تعالى:{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}سورة المائدة الآيات[72-73].
43. محمدr يأمر المسلمين بالإيمان بالمسيح والإنجيل:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }سورة البقرة الآية[136].
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }سورة النساء الآية[163].
قال الرسول r:(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ).
رواه البخاري.
44. لقاء الأحبة بين محمدr والمسيح:
قال الرسول r: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان - وذكر : يعني رجلا بين الرجلين - فأتيت بطست من ذهب ، ملئ حكمة وإيمانا ، فشق من النحر إلى مراق البطن ، ثم غسل البطن بماء زمزم ، ثم ملئ حكمة وإيمانا ، وأتيت بدابة أبيض ، دون البغل وفوق الحمار : البراق ، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا ، قيل : من هذا ؟ قال جبريل ، قيل : من معك ، قيل : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ، قال : نعم ، قيل : مرحبا ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على آدم فسلمت عليه ، فقال مرحبا بك من ابن ونبي ، فأتينا السماء الثانية ، قيل : من هذا ، قال : جبريل ، قيل : من معك ، قال محمد r، قيل : أرسل إليه ، قال : نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا : مرحبا بك من أخ ونبي ...) .رواه البخاري.
أن نبي الله rحدثهم عن ليلة أسري به : (ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح).رواه البخاري.
قال الرسولr: (أتيت بالبراق, فركبت خلف جبريل , فسار بنا, فأتيت على رجل قائم يصلي فقال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أخوك محمد-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فرحب بي ودعا لي بالبركة فقال : سل لأمتك اليسر فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أخوك عيسى , قال : ثم سرنا فسمعت صوتا وقرئ على شيبان قال : وتذمرا قال : نعم إلى ها هنا قرئ على شيبان . ثم حدثنا شيبان ببقية الحديث قال : فأتيت على رجل قال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أخوك محمد-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال : فرحب بي ودعا لي بالبركة وقال : سل لأمتك اليسر فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أخوك موسى . ثم قرئ على شيبان فقلت : على من كان صوته وتذمره فقال : على ربه عز وجل, يتذمر قال : نعم إنه يعرف ذلك منه ) حسنه الوادعي في الصحيح المسند.
45. محمدr يقول بأن المسيح أخوه في الديانة:
كما قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }سورة الشورى الآية[13].
قال رسول الله r: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء أخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ).رواه البخاري.
46. محمدr يوصي المسلمين بعدم الغلو به،كما غلت النصارى بالمسيح:
قال الرسول r: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله ).ذكره علي بن المديني في تفسير القرآن.
(عن طفيل بن سخبرة ، أخي عائشة لأمها ، أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال : من أنتم قالوا : نحن اليهود قال : إنكم أنتم القوم ، لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله ، فقالت اليهود : وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مر برهط من النصارى فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى فقال : إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله ، قالوا : وإنكم أنتم القوم ، لولا تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبح أخبر بها من أخبر ، ثم أتى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فأخبره فقال : هل أخبرت بها أحدا ؟ قال عفان : قال : نعم ، فلما صلوا خطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن طفيلا رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها قال : لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد).صححه الوادعي في الصحيح المسند.
47. النجاشي يؤمن ببشارة المسيح :
عن أم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها قالت:لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا -بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله لا نؤذى ، ولا نسمع شيئا نكرهه . فلما بلغ ذلك قريشا ، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة . وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرة ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية . ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم . ثم قدموا للنجاشي هداياه ، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم . قالت فخرجا فقدما على النجاشي فنحن عنده بخير دار ، وعند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم قالا لكل بطريق منهم : إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم . فإن قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم . فقالوا لهما : نعم . ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له : أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم ، من آبائهم ، وأعمامهم ، وعشائرهم ، لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه . قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم . فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم ، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم قال : فغضب النجاشي ثم قال : لاها الله أيم الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني نزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهم ورددتهم إلى قومهم إن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فدعاهم جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه قال : نقول والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا- صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كائن في ذلك ما هو كائن . فلما جاؤوه ، وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم . قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى :1-الله لنوحده ونعبده ، 2-ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ،3- وأمرنا بصدق الحديث 4-وأداء الأمانة ،5- وصلة الرحم ،6- وحسن الجوار ،7- والكف عن المحارم والدماء ،8- ونهانا عن الفواحش9- وقول الزور 10-وأكل مال اليتيم ، 11-وقذف المحصنة ، 12-وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ،13 وأمرنا بالصلاة 14- والزكاة 15- والصيام . قال : فعدد عليه أمور الإسلام ، فصدقناه وآمنا واتبعناه على ما جاء به . فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث . فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قالت : فقال له النجاشي : هل معك ما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم . ثم قال النجاشي : إن هذا والله ، والذي جاء به عيسى ، ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد . قالت أم سلمة : فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لأنبئنهم غدا عيبهم عندهم ، ثم أستاصل به خضراءهم . قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا ، لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد قالت : ثم غدا عليه الغد فقال له : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه ؟ قالت : فأرسل إليهم يسألهم عنه . قالت : ولم ينزل بنا مثله ، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول والله فيه ما قال الله ، وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن . فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال : ما عدا عيسى بن مريم ، ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال : وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون - من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وإني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة الجبل - ردوا عليهم هداياهما ، فلا حاجة لنا بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه . قالت : فخرجا من عنده مقبوحين ، مردودا عليهما ما جاء ا به . وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار قالت : فوالله إنا على ذلك إذ نزل به ، يعني من ينازعه في ملكه ، قالت : فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزنا عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي ، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه قالت : وسار النجاشي ، وبينهما عرض النيل قالت : فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ، ثم يأتينا بالخبر ؟ قالت : قال الزبير بن العوام : أنا قالت : وكان من أحدث القوم سنا ، قالت : فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم قالت : ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه ، والتمكين له في بلاده ، واستوثق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم –وهو بمكة (حسنه الوادعي بالصحيح المسند.
48. أوائل سورة مريم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمِْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)] سورة مريم الآيات من[1-40].
49. هرقل يقر بشارة المسيح:
قال ابو سفيان بن حرب رضي الله عنه: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ، وكانوا تجارا بالشأم ، في المدة التي كان رسول الله rماد فيها ابا سفيان وكفار قريش ، فأتوه وهم بإيلياء ، فدعاهم في مجلسه ، وحوله عظماء الروم ، ثم دعاهم ودعا بترجمانه ، فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : فقلت أنا أقربهم نسبا ، فقال : أدنوه مني ، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : قل لهم إني سائل عن هذا الرجل ، فإن كذبني فكذبوه ، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه . ثم كان أول ما سألني عنه أن قال : 1-كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : 2-فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت : لا . قال :3- فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال :4- فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم . قال :5- أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون . قال :6- فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا . قال : 7-فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال:8- فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها . قال : ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة . قال :9- فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال : 10-فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال ، ينال منا وننال منه . قال : 11-ماذا يأمركم ؟ قلت : يقول :1- اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، 2-واتركوا ما يقول آباؤكم ، 3-ويأمرنا بالصلاة 4-والصدق5- والعفاف6- والصلة . فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها . وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ، فذكرت أن لا ، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله ، لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله . وسألتك هل كان من آبائه من ملك ، فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان من آبائه من ملك ، قلت رجل يطلب ملك أبيه . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله . وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ، فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك أيزيدون أم ينقصون ، فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم . وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ، فذكرت أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . وسألتك هل يغدر ، فذكرت أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك بما يأمركم ، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف ، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه ، لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه . ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل ، فقرأه ، فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، و : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } قال أبو سفيان : فلما قال ما قال ، وفرغ من قراءة الكتاب ، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين أخرجنا : لقد أمر ابن أبي كبشة ، إنه يخافه ملك بني الأصفر . فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام .وكان ابن الناطور ، صاحب إيلياء وهرقل ، أسقفا على نصارى الشأم ، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء ، أصبح يوما خبيث النفس ، فقال بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك ، قال ابن الناطور : وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم ، فقال لهم حين سألوه : إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر ، فمن يختتن من هذه الأمة ؟ قالوا : ليس يختتن إلا اليهود ، فلا يهمنك شأنهم ، واكتب إلى مداين ملكك ، فيقتلوا من فيهم من اليهود ، فبينما هم على أمرهم ، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما استخبره هرقل قال : أذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه ، فحدثوه أنه مختتن ، وسأله عن العرب ، فقال : هم يختتنون ، فقال هرقل : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر . ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية ، وكان نظيره في العلم ، وسار هرقل إلى حمص ، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق راي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه نبي ، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع فقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان ، قال : ردوهم علي ، وقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه ، فكان ذلك آخر شأن هرقل . رواه البخاري.
50. محمدr يخبر بنزول المسيح في آخر الزمان:
اطلع النبي rعلينا ونحن نتذاكر . فقال "ما تذاكرون ؟ " قالوا : نذكر الساعة . قال "إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات" . فذكر الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ، ويأجوج ومأجوج . وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب . وآخر ذلك نار تخرج من اليمن ، تطرد الناس إلى محشرهم " . رواه مسلم.
قال الرسول r: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق ، أم بدابق . فيخرج إليهم جيش من المدينة . من خيار أهل الأرض يومئذ . فإذا تصادفوا قالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم . فيقول المسلمون : لا . والله ! لا نخلي بينكم وبين إخواننا . فيقاتلونهم . فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا . ويقتل ثلثهم ، أفضل الشهداء عند الله . ويفتتح الثلث . لا يفتنون أبدا . فيفتتحون قسطنطينية . فبينما هم يقتسمون الغنائم ، قد علقوا سيوفهم بالزيتون ، إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم . فيخرجون . وذلك باطل . فإذا جاءوا الشام خرج . فبينما هم يعدون للقتال ، يسوون الصفوف ، إذ أقيمت الصلاة . فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم . فأمهم . فإذا رآه عدو الله ، ذاب كما يذوب الملح في الماء . فلو تركه لانذاب حتى يهلك . ولكن يقتله الله بيده . فيريهم دمه في حربته)رواه مسلم.
51. محمدr يوصي المسلمين انه من أدرك المسيح فليقرأه مني السلام:
قال الرسول):rمن أدرك منكم عيسى ابن مريم فليقرئه مني السلام) صحيح الجامع للألباني.
52. المسيح ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق:
قال الرسول r: (أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء ، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه ). ذكره ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
53. تواضع المسيح بصلاته خلف المهدي:
قال الرسول r: (ينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا فيقول لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة ). ذكره ابن القيم في كتاب المنار المنيف.
قال الرسول r: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . قال ، فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم : تعال صل لنا . فيقول : لا . إن بعضكم على بعض أمراء . تكرمة الله هذه الأمة )رواه مسلم.
54. بجهاد المسيح في سبيل الله يخلص الله العالم من أكبر الفتن على وجه الأرض كالأعور الدجال واليهود ويأجوج ومأجوج:
ذكر رسول الله rالدجال ذات غداة . فخفض فيه ورفع . حتى ظنناه في طائفة النخل . فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا . فقال "ما شأنكم ؟ " قلنا : يا رسول الله ! ذكرت الدجال غداة . فخفضت فيه ورفعت . حتى ظنناه في طائفة النخل . فقال "غير الدجال أخوفني عليكم . إن يخرج ، وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم . وإن يخرج ، ولست فيكم ، فامرؤ حجيج نفسه . والله خليفتي على كل مسلم . إنه شاب قطط . عينه طافئة . كأني أشبهه بعبدالعزى بن قطن . فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف . إنه خارج خلة بين الشام والعراق . فعاث يمينا وعاث شمالا . يا عباد الله ! فاثبتوا" قلنا : يا رسول الله ! وما لبثه في الأرض ؟ قال "أربعون يوما . يوم كسنة . ويوم كشهر . ويوم كجمعة . وسائر أيامه كأيامكم" قلنا : يا رسول الله ! فذلك اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال "لا . اقدروا له قدره" قلنا : يا رسول الله ! وما إسراعه في الأرض ؟ قال "كالغيث استدبرته الريح . فيأتي على القوم فيدعوهم ، فيؤمنون به ويستجيبون له . فيأمر السماء فتمطر . والأرض فتنبت . فتروح عليهم سارحتهم ، أطول ما كانت ذرا ، وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر . ثم يأتي القوم . فيدعوهم فيردون عليه قوله . فينصرف عنهم . فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم . ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك . فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل . ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا . فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه . يضحك . فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم . فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق . بين مهرودتين . واضعا كفيه على أجنحة ملكين . إذا طأطأ رأسه قطر . وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ . فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات . ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه . فيطلبه حتى يدركه بباب لد . فيقتله . ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه . فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة . فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي ، لا يدان لأحد بقتالهم . فحرز عبادي إلى الطور . ويبعث الله يأجوج ومأجوج . وهم من كل حدب ينسلون . فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية . فيشربون ما فيها . ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه ، مرة ، ماء . ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه . حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم . فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه . فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم . فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة . ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض . فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم . فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله . فيرسل الله طيرا كأعناق البخت . فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله . ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر . فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة . ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرك ، وردي بركتك . فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة . ويستظلون بقحفها . ويبارك في الرسل . حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس . واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس . واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس . فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة . فتأخذهم تحت آباطهم . فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم . ويبقى شرار الناس ، يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة" . وفي رواية : وزاد بعد قوله " - لقد كان بهذه ، مرة ، ماء - ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر . وهو جبل بيت المقدس . فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض . هلم فلنقتل من في السماء . فيرمون بنشابهم إلى السماء . فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما" . وفي رواية ابن حجر "فإني قد أنزلت عبادا لي ، لا يدي لأحد بقتالهم" . رواه مسلم.
55. المسيح يكسر الصليب و يقتل الخنزير:
قال الرسول r: (و الله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب و ليقتلن الخنزير و ليضعن الجزية و لتتركن القلاص فلا يسعى عليها و لتذهبن الشحناء و التباغض و التحاسد و ليدعون إلى المال فلا يقبله أحد)صحيح الجامع للألباني.
56. المسيح يحب المسلمين ويمسح على وجوههم وينبئهم بدرجاتهم في الجنة:
ذكر رسول الله rالدجال ذات غداة . فخفض فيه ورفع . حتى ظنناه في طائفة النخل . فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا . فقال "ما شأنكم ؟ " قلنا : يا رسول الله ! ذكرت الدجال غداة . فخفضت فيه ورفعت . حتى ظنناه في طائفة النخل . فقال "غير الدجال أخوفني عليكم . إن يخرج ، وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم . وإن يخرج ، ولست فيكم ، فامرؤ حجيج نفسه . والله خليفتي على كل مسلم . إنه شاب قطط . عينه طافئة . كأني أشبهه بعبدالعزى بن قطن . فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف . إنه خارج خلة بين الشام والعراق . فعاث يمينا وعاث شمالا . يا عباد الله ! فاثبتوا" قلنا : يا رسول الله ! وما لبثه في الأرض ؟ قال "أربعون يوما . يوم كسنة . ويوم كشهر . ويوم كجمعة . وسائر أيامه كأيامكم" قلنا : يا رسول الله ! فذلك اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال "لا . اقدروا له قدره" قلنا : يا رسول الله ! وما إسراعه في الأرض ؟ قال "كالغيث استدبرته الريح . فيأتي على القوم فيدعوهم ، فيؤمنون به ويستجيبون له . فيأمر السماء فتمطر . والأرض فتنبت . فتروح عليهم سارحتهم ، أطول ما كانت ذرا ، وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر . ثم يأتي القوم . فيدعوهم فيردون عليه قوله . فينصرف عنهم . فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم . ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك . فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل . ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا . فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه . يضحك . فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم . فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق . بين مهرودتين . واضعا كفيه على أجنحة ملكين . إذا طأطأ رأسه قطر . وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ . فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات . ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه . فيطلبه حتى يدركه بباب لد . فيقتله . ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه . فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة . فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي ، لا يدان لأحد بقتالهم . فحرز عبادي إلى الطور . ويبعث الله يأجوج ومأجوج . وهم من كل حدب ينسلون . فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية . فيشربون ما فيها . ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه ، مرة ، ماء . ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه . حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم . فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه . فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم . فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة . ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض . فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم . فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله . فيرسل الله طيرا كأعناق البخت . فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله . ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر . فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة . ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرك ، وردي بركتك . فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة . ويستظلون بقحفها . ويبارك في الرسل . حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس . واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس . واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس . فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة . فتأخذهم تحت آباطهم . فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم . ويبقى شرار الناس ، يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة" . وفي رواية : وزاد بعد قوله " - لقد كان بهذه ، مرة ، ماء - ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر . وهو جبل بيت المقدس . فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض . هلم فلنقتل من في السماء . فيرمون بنشابهم إلى السماء . فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما" . وفي رواية ابن حجر "فإني قد أنزلت عبادا لي ، لا يدي لأحد بقتالهم) رواه مسلم.
57. نزول المسيح إلى الأرض اشراقة سماوية على الإنسانية:
قال الرسول r: (طوبى لعيش بعد المسيح ، طوبى لعيش بعد المسيح ، يؤذن للسماء في القطر ، و يؤذن للأرض في النبات ، فلو بذرت حبك على الصفا لنبت ، و لا تشاح و لا تحاسد و لا تباغض ، حتى يمر الرجل على الأسد و لا يضره ، و يطأ على الحية فلا تضره ، و لا تشاح و لا تحاسد و لا تباغض).السلسلة الصحيحة للألباني رقم[1926].
58. السلام يعم الأرض في زمن المسيح حتى بين البشر والحيوانات:
قال الرسول r: (الأنبياء أخوة علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى بن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، إنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران كان رأسه يقطر ماء ، وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الجزى ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ).
ذكره ابن كثير في كتاب البداية والنهاية.
قال الرسول r: (طوبى لعيش بعد المسيح يؤذن للسماء في القطر ، ويؤذن للأرض في النبات ، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت . وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره ، ويطأ على الحية فلا تضره . ولا تشاح ، ولا تحاسد ، ولا تباغض )صحيح الجامع للألباني رقم[3919].
59. المسيح يهل بالحج أو العمرة:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده ! ليهلن ابن مريم بفج الروحاء ، حاجا أو معتمرا ، أو ليثنينهما .)رواه مسلم.
60. المسيح يموت بعد أن يمكث سبع سنين:
قال رسول الله r : (يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين (لا أدري : أربعين يوما ، أو أربعين شهرا ، أو أربعين عاما) . فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود . فيطلبه فيهلكه . ثم يمكث الناس سبع سنين . ليس بين اثنين عداوة . ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشأم . فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته . حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه ، حتى تقبضه" . قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع . لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا . فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان . وهم في ذلك دار رزقهم ، حسن عيشهم . ثم ينفخ في الصور . فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا . قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله . قال فيصعق ، ويصعق الناس . ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل أو الظل (نعمان الشاك) فتنبت منه أجساد الناس . ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ثم يقال : يا أيها الناس ! هلم إلى ربكم . وقفوهم إنهم مسؤلون . قال ثم يقال : أخرجوا بعث النار . فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف ، تسعمائة وتسعة وتسعين . قال فذاك يوم يجعل الولدان شيبا . وذلك يوم يكشف عن ساق" . رواه مسلم.
61. المسلمون سيصلون على المسيح بعد وفاته:
قال الرسول r: (يا أيها الناس ! إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال و إن الله عز و جل لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال و أنا آخر الأنبياء و أنتم آخر الأمم و هو خارج فيكم لا محالة فإن يخرج و أنا بين أظهركم فأنا حجيج لكل مسلم و إن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه و الله خليفتي على كل مسلم و إنه يخرج من خلة بين الشام و العراق فيعيث يمينا و شمالا يا عباد الله ! أيها الناس ! فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي إنه يبدأ فيقول: أنا نبي و لا نبي بعدي ثم يثني ف يقول: أنا ربكم و لا ترون ربكم حتى تموتوا و إنه أعور و إن ربكم ليس بأعور و إنه مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب ; و إن من فتنته أن معه جنة و نارا فناره جنة و جنته نار فمن ابتلي بناره فليستغث بالله و ليقرأ فواتح الكهف ( فتكون بردا و سلاما كما كانت النار على إبراهيم ) و إن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك و أمك أتشهد أني ربك ؟ فيقول: نعم فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه و أمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك و إن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها ينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه ثم يزعم أن له ربا غيري فيبعثه الله و يقول له الخبيث: من ربك ؟ فيقول: ربي الله و أنت عدو الله أنت الدجال و الله ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم ; و إن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر و يأمر الأرض أن تنبت فتنبت ; و إن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت ; و إن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر و يأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت و أعظمه و أمده خواصر و أدره ضروعا ; و إنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه و ظهر عليه إلا مكة و المدينة لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى فيها منافق و لا منافقة إلا خرج إليه فتنفي الخبيث منها كما ينفي الكير خبث الحديد و يدعى ذلك اليوم يوم الخلاص قيل: فأين العرب يومئذ ؟ قال: هم يومئذ قليل ( وجلهم ببيت المقدس ) ; و إمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصل فإنها لك أقيمت فيصل بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب فيفتحون و وراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى و ساج فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء ; و ينطلق هاربا ( و يقول عيسى: إن لي فيك ضربة لن تسبقني ) فيدركه عند باب لد الشرقي فيقتله فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله عز و جل يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر و لا شجر و لا حائط و لا دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكما عدلا و إماما مقسطا يدق الصليب و يذبح الخنزير و يضع الجزية و يترك الصدقة فلا يسعى على شاة و لا بعير و ترفع الشحناء و التباغض و تنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في في الحية فلا تضره و تضر الوليدة الأسد فلا يضرها و يكون الذئب في الغنم كأنه كلبها و تملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء و تكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله و تضع الحرب أوزارها و تسلب قريش ملكها و تكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم يجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم و يكون الثور بكذا و كذا من المال و يكون الفرس بالدريهمات ( قالوا: يا رسول الله و ما يرخص الفرس ؟ قال: لا تركب لحرب أبدا قيل: فما يغلي الثور قال: تحرث الأرض كلها ) و إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد يأمر الله السماء السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها و يأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها و يأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة و يأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء فلا يبقى ذات ظلف التهليل و التكبير و التحميد و يجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام ) صحيح الجامع للألباني.
62. الله يوم القيامة يخبر عباد الصليب بأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولد :
أن أناسا في زمن النبي r قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال النبي r: (نعم ، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ، ضوء ليس فيها سحاب) . قالوا : لا ، قال : (وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ، ضوء ليس فيها سحاب) . قالوا : لا ، قال النبي r: (ما تضارون في رؤية الله عز وجل يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن : تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار . حتى إذا لم يبقى إلا من كان يعبد الله ، بر أو فاجر ، وغبرات أهل الكتاب ، فيدعى اليهود ، فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزيرا ابن الله ، فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تبغون ؟ فقالوا : عطشنا ربنا فاسقنا ، فيشار : ألا تردون ؟ فيحشرون إلى النار ، كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ، فيتساقطون في النار . ثم يدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فيقال لهم : ما تبغون ؟ فكذلك مثل الأول . حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله ، من بر أو فاجر ، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، فيقال : ماذا تنتظرون ، تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا : فارقنا الناس في الدنيا على أفقر ما كنا إليهم لم نصاحبهم ، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : لا نشرك بالله شيئا. مرتين أو ثلاثا .) رواه البخاري.
قال الرسول r: (يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا ، فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس ، خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شئ ، لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . قال : فيقول : لست هناكم ، قال : ويذكر خطيئته التي أصاب : أكله من الشجرة وقد نهي عنها ، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم ، ولكن ائوا إبراهيم خليل الرحمن ، قال : فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هناكم ، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن ، ولكن ائتوا موسى : عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا ، قال : فيأتون موسى فيقول : إني لست هناكم ، ويذكر خطيئته التي أصاب : قتله النفس ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله ، وروح الله وكلمته ، قال : فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، فيقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته أيضا يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود الثالثة ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت له ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، قال : فأرفع رأسي ، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وقد سمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن) . أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية : {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} . قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم r).رواه البخاري.
63. المسيح يوم القيامة يتبرأ من الشرك وأهله:
كما قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }سورة المائدة الآية[116].
عن أبي هريرة قال : يلقى عيسى حجته, فلقاه الله في قوله : { وإذ قال الله يعسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } قال أبو هريرة, عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله سلم- فلقاه الله { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } الآية كلها . صححه الوادعي في الصحيح المسند.
64. محمدr والمسيح يتبرآن من المشركين:
قال الرسول r: (تحشرون حفاة عراة غرلا ، ثم قرأ : {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} . فأول من يكسى إبراهيم ، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم : {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد . إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} . قال محمد بن يوسف : ذكر عن أبي عبد الله ، عن قبيصة قال : هم المرتدون الذين ارتدوا على عهد أبي بكر ، فقاتلهم أبي بكر رضي الله عنه . )رواه البخاري.
65. المسيح يوم القيامة يرشد المؤمنين بالذهاب إلى أخيه محمدr ليشفع لهم عند ربهم:
قال النبي محمدr :((يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ، فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول : لست هناكم ، ويذكر ذنبه فيستحي ، ائتونا نوحا ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . فيأتون فيقول : لست هناكم ، ويذكر سؤاله ربه ما ليس ليه به علم فيستحي ، فيقول : ائتوا خليل الرحمن . فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ائتوا موسى ، عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة . فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ويذكر قتل النفس بغير نفس ، فيستحي من ربه فيقول : ائتوا عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمة الله وروحه . فيقول : لست هناكم ، ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم ، عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتونني ، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي ، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله ، ثم يقال : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل يسمع ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع ، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود إليه ، فإذا رأيت ربي ، مثله ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول : ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، ووجب عليه الخلود)) رواه البخاري
66. محمدr والمسيح سيدخلون الجنة آمنين:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ) سورة المائدة الآيات[116-117-118-119-120].
67. عظمة النبي محمد rفي عيون الغربيين:
يقول المؤرخ الأوروبي "جيمس ميتشنر" في مقال تحت عنوان (الشخصية الخارقة) عن النبي (r) :"....وقد أحدث محمد بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في الجزيرة العربية، وفي الشرق كله، فقد حطم الأصنام بيده، وأقام دينا خالدا يدعو إلى الإيمان بالله وحده ".
يقول العالم الأمريكي مايكل هارث "إن محمدًا [r] كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي .. إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا يخوّله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية".
يقول الفيلسوف الفرنسي (كارديفو) :"إن محمدا كان هو النبي الملهم والمؤمن، ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العالية التي كان عليها ، إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه محمد بين أعضاء الكتلة الإسلامية كان يطبق عمليا حتى على النبي نفسه".
يقول الروائي الروسي والفيلسوف الكبير تولستوي ، فيقول في مقالة له بعنوان (من هو محمد؟): "إن محمدا هو مؤسس ورسول، كان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرا أنه أهدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد ومنعما من سفك الدماء و تقديم الضحايا البشرية ، وفتح لها طريق الرقي و المدنية ,و هو عمل عظيم لا يقدم عليه إلا شخص أوتي قوة ، ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال".
يقول الفيلسوف والكاتب الإنجليزي المعروف برناند شو:" إن أوروبا الآن ابتدأت تحس بحكمة محمد، وبدأت تعيش دينه، كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما أتهمها بها من أراجيف رجال أوروبا في العصور الوسطى"، ويضيف قائلا: "ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول :إن بوادر العصر الإسلامي الأوروبي قريبة لا محالة، وإني أعتقد أن رجلا كمحمد لو تسلم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم، لتم له النجاح في حكمه، ولقاد العالم إلى الخير، وحل مشاكله على وجه يحقق للعالم كله السلام والسعادة المنشودة"ويقول" إن أتباع محمد أوفر أدبا في كلامهم عن المسيح"
يقول وليام موير المؤرخ الإنجليزي في كتابه( حياة محمد): "لقد امتاز محمد بوضوح كلامه، ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحا أيقظ النفوس وأحيى الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد".
يقول الشاعر الألماني يوهان غوته"يسوع كان طاهر الشعور ولم يؤمن الا بالله الواحد الأحد،ومن جعل منه إلها فقد أساء إليه وهكذا فان الحق هو ما نادى به محمد"
يقول المستشرق الأسباني جان ليك في كتابه العرب"لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله يقول {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107 كان محمد رحمة حقيقية،واني أصلي عليه بلهفة وشوق"
يقول المستشرق النرويجي الدكتور اينربرج:"يعتبر الطفل في الإسلام مولوداً على الفطرة،أما المسيحيون فيحكمون على الطفل أنه يولد متحملا للخطيئة،وقبل مائة عام كانوا يغطسون أطفالهم في الماء حتى يطهروا من الخطيئة،فإذا ماتوا قبل الغسل لم يدفنوهم! وإنما يلقونهم في القمامة لأنهم متسخون بالخطيئة!".
68. قصيدة حوارية لشيخ الإسلام ابن القيم في كتابه"إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان":
1-أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه؟
2-إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فما هذا الإله؟
3-وهل أرضاه ما نالوه منه؟ فبشراهم إذا نالوا رضاه
4-وإن سخط الذي فعلوه فيه فقوتهم إذا أوهت قواه
5- وهل بقي الوجود بلا إله سميع يستجيب لمن دعاه ؟
6- وهل خلت الطباق السبع لما ثوى تحت التراب وقد علاه؟
7- وهل خلت العوالم من إله يدبرها وقد سمرت يداه؟
8- وكيف تخلت الأملاك عنه بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟
9- وكيف أطاقت الخشبات حمل الإله الحق شد على قفاه؟
10- وكيف دنا الحديد إليه حتى يخالطه ويلحقه أذاه؟
11- وكيف تمكنت أيدي عداه وطالت حيث قد صفعوا قفاه ؟
12- وهل عاد المسيح إلى حياة أم المحيي له رب سواه؟
13- ويا عجبا لقبر ضم ربا وأعجب منه بطن قد حواه
14- أقام هناك تسعا من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه
15- وشق الفرج مولودا صغيرا ضعيفا فاتحا للثدى فاه
16- ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله
17- تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه
18- أعباد الصليب لأي معنى يعظم أو يقبح من رماه؟
19- وهل تقضى العقول بغير كسر وإحراق له ولمن بغاه ؟
20- إذا ركب الإله عليه كرها وقد شدت لتسمير يداه
21- فذاك المركب الملعون حقا فدسه لا تبسه إذ تراه
22- يهان عليه رب الخلق طرا وتعبده فإنك من عداه
23- فإن عظمته من أجل أن قد حوى رب العباد وقد علاه
24- وقد فقد الصليب فإن رأينا له شكلا تذكرنا سناه
25- فهلا للقبور سجدت طرا لضم القبر ربك في حشاه
26- فيا عبد المسيح أفق فهذا بدايته وهذا منتهاه
69. الباحث عن الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه:
وقبل الختام لهذا المبحث النافع الماتع ان شاء الله ،إن كنت تبحث عن الحقيقة فاني أتحفك بقصة من أفنى عمره يبحث عن الحقيقة ،ولما جد واجتهد، وجد الحقيقة التي ليس غيرها، والله حقيقة واليك هذه القصة كاملة كما ذكرها الألباني في كتابه صحيح السيرة النبوية(ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام الفارسي رضي الله عنه وأرضاه من حديث عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي – من فيه – قال:
كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: (جَيٌّ) وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ.
وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثم قال لي: ولا تحتبس عني؛ فإنك إن احتسبت عني كنتم أهم إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ.
فرَجَعْتُ إلى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ كُلِّهِ.
فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّّ! أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ . قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ؛ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ.
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ.
قَالَ: قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ؛ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا.
قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.
قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ، قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ.
قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ عِلْمَاً؟ قَالُوا: الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ.
قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ له: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ. وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ. وأَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: ادْخُلْ.
فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا؛ فَإِذَا جَمَعُوا إليه مِنْهَا أَشْيَاءَ كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ.
قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ.
ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إليه النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا كَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا.
قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، قَالَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. قَاْلَ: فَصَلَبُوهُ ورَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ.
وجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَوَضَعُوهُ مَكَان. قَالَ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا [مِنْهُ].
قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّ شيئاً قَبْلَهُ مِثْلَهُ.
قالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شيئاً قَبْلَكَ ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبَِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَداَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ إِلَّا رَجُلًا بِـ(الْمَوْصِلِ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (الْمَوْصِلِ)، فَقُلْتُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي.
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِـ(نَصِيبِينَ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (نَصِيبِينَ) فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي. فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ ! إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِـ(عَمُّورِيَّةَ) فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فائتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (عَمُّورِيَّةَ)، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَ خير رجلٍ على هديِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَان! إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ أَصْبَحَ أحدٌ عَلَى مثل مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ. مُهَاجِره إلى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ، وَغَيَّبَ، ومَكَثْتُ بـِ(عَمُّورِيَّةَ) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ.
ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّار، فَقُلْتُ لَهُمْ: احمِلُونِي إلى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي معهم، حَتَّى إِذَا بلغوا وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي؛ فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ فِي نَفْسِي.
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ (الْمَدِينَةِ) فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إلى (الْمَدِينَةِ)، فَوَاللَّهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا، فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي لها، فَأَقَمْتُ بِهَا.
وَبُعِثَ رَسُولَُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقَامَ بـ(مكة) مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مِمََّا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إلى (الْمَدِينَةِ).
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تحتي، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يا فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ؛ إِنَّهُمْ لَمُجْتَمِعُونَ الْآنَ بِـ(قُبَاءَ) عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ (مَكَّةَ) الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الرَّعْدَةُ، حَتَّى ظَنَنْتُ ساقِطٌ عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ: ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟
قَالَ:فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ.
قَالَ: فقُلْتُ: لَا شَيْءَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ.
قالَ: وكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(قُبَاءَ)، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كلوا))، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ.
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُه فَقُلْتُ له: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ.
قالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) قَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَبرْتُه أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ؛ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدبَرْتُهُ؛ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلى الْخَاتَمِ، فَعَرَفْتُهُ فَاكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَحَوَّلْ))، فَتَحَوَّلْتُ بين يديه، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ.
ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدْرٌ) وَ(أُحُدٌ).
قَالَ سلمان: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!)).
فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ:
((أَعِينُوا أَخَاكُمْ)).
فَأَعَانُونِي في النَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ ودية، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ ودية، وَالرَّجُلُ بِعَشْرة، يعين الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ! فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُنُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ)).
قال: فَفَقَّرْتُ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، حتى إذا فرغنا، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ؛ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.
فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ المعادن، فَقَالَ:
((مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟)).
قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ:
((خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَان!)).
فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
((خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ)).
قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا - وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ.
وَعُتِقَ سلمان. فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَنْدَقَ) ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.
70. والآن أما آن الأوان لتقول(أشهد أن لا اله إلا الله ،وأن محمد رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه):
القاريء الكريم /
قال رسول الله r: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها، فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران)رواه البخاري.
قال الرسول r:(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ).
رواه البخاري.
القاريء الكريم/ أناديك نداء الرحمة والشفقة نداء الله الرب الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد، قال ربي وربك ورب عيسى المسيح ورب محمد rقال الله تعالى :
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
سورة آل عمران الآية[64].
وبالختام:
ابتهل إلى الله مولاي جل جلاله، أن يجعل هذه الكلمات خالصة لوجهه الكريم، وأرجوه وحده برها وذخرها يوم الدين (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)سورة الشعراء الآيات[88-89].
وأسأله سبحانه أن يتقبل مني هذه الكلمات ويجزل لي المثوبة وينفع بها العباد، وأسأل الله عز وجل أن يجزي خيرا كل من أعان على تعميم النفع بها، وأسأله أن يغفر لي ولوالدي في الحياة وبعد الممات،وأسأله جل في علاه باسمه الأعظم،أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ونستغفره جل وعلا ونتوب إليه ثم نستغفره ونتوب إليه ثم نستغفره ونتوب إليه إنه هو الغفور الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،والحمد لله رب العالمين.
))))
(((((((((((صورة الرسول)))))))))خلق أفضل الخلق يقول عنه ربه تبارك وتعالى ( وإنك لعلى خلق عظيم) سورة ن وتقول عنه أم المؤمنين عندما سئلت عن خلقه فقالت ( كان خلقه القرآن) وإن المسلم ليشتاق لرؤيته صلى الله عليه وسلم وكذلك لمعرفة خلقه وليستمع لتوجيهه وأقواله ليقتدي به ويقتفي أثره , ولن أطيل عليكم وسأنقل لكم هذه الأحاديث التي جمعتها من صحيح الجامع فلعلها تذكرنا بخلقه صلى الله عليه وسلم وكذلك كيف كانت هيئته وصورته التي صوره الله عليه فنشتاق إليه أكثر ونحبه أكثر بأبي هو وأمي ... فتعالوا معي واقرأوا هذه الأحاديث كان ابغض الخلق إليه الكذب كان ابيض ، كأنما صيغ من فضه ، رجل الشعر كان ابيض ، مشربا بحمره ، ضخم الهامة ، أهدب الأشفار كان ابيض ، مشربا بيض بحمره ، و كان اسود الحدقة ، أهدب الأشفار كان ابيض مليحا مقصدا كان احب الألوان إليه الخضرة كان احب الثياب إليه الحبرة كان احب الثياب إليه القميص كان احب الدين ما داوم عليه صاحبه كان احب الشراب إليه الحلو البارد كان احب الشهور إليه إن يصومه شعبان [ ثم يصله برمضان ] كان احب العرق إليه ذراع الشاه كان احب العمل إليه ما دووم عليه و إن قل كان احسن الناس خلقا كان احسن الناس ربعه ، إلى الطول ما هو ، بعيد ما بين المنكبين ، أسيل الخدين ، شديد سواد الشعر ، اكحل العينين ، أهدب الأشفار ، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ، ليس له أخمص ، إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضه كان احسن الناس ، و أجود الناس ، و أشجع الناس كان احسن الناس وجها ، و أحسنهم خلقا ، ليس بالطول البائن ، و لا بالقصير كان أخف الناس صلاه على الناس ، و أطول الناس صلاه لنفسه كان أخف الناس صلاه في تمام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، و يقول : السلام عليكم ، السلام عليكم كان إذا أتى مريضا ، أو أتي به قال : اذهب البأس رب الناس ، اشف و أنت الشافي ، لا شفاء ألا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما كان إذا أتاه الأمر يسره قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، و إذا أتاه الأمر يكرهه قال : الحمد لله على كل حال كان إذا أتاه الرجل و له اسم لا يحبه حوله كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه ، فأعطى الأهل حظين ، و أعطى العزب حظا كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل على آل فلان كان إذا أتى بباكورة الثمرة وضعها على عينيه ثم على شفتيه ، ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان كان إذا أتى بطعام سال عنه اهديه أم صدقه ؟ فان قيل : صدقه ، قال لأصحابه : كلوا و لم يأكل و إن قيل : هديه ، ضرب بيده ، فأكل معهم كان إذا اخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع ، ثم أمرهم فحسوا ، و كان يقول : انه ليرتو فؤاد الحزين ، و يسرو عن فؤاد السقيم ، كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها كان إذا اخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن كان إذا اخذ مضجعه قرا { قل يا أيها الكافرون } حتى يختمها كان إذا اخذ مضجعه من الليل قال ( بسم الله وضعت جنبي ، اللهم اغفر لي ذنبي و اخسأ شيطاني ، و فك رهاني ، و ثقل ميزاني ، و اجعلني في الندى الأعلى)) كان إذا اخذ مضجعه من الليل ، وضع يده تحت خده ثم يقول ((: باسمك اللهم أحيا ، و باسمك أموت ،)) وإذا استيقظ قال ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا و إليه النشور )) كان إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول : اللهم قني عذابك ، يوم تبعث عبادك ( ثلاث مرات ) كان إذا أراد إن يستودع الجيش قال : استودع الله دينكم ، و أمانتكم ، وخواتيم أعمالكم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفة كان إذا أراد أن ينام و هو جنب توضأ وضوءه للصلاة، و إذا أراد أن يأكل أويشرب و هو جنب غسل يديه ، ثم يأكل و يشرب كان إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه كان إذا أراد غزوه ورى بغيرها كان إذا استجد ثوبا سماه باسمه قميصا أو عمامة أو رداء ثم يقول : اللهم لك الحمد ، و أنت كسوتنيه ، أسألك من خيره ، و خير ما صنع له ، و أعوذ بك من شره ، و شر ما صنع له كان إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفه : و يأتيك بالأخبار من لم تزود كان إذا استسقى قال : اللهم اسق عبادك و بهائمك ، و انشر رحمتك ، و أحيي بلدك الميت كان إذا استفتح الصلاة قال : سبحانك اللهم و بحمدك ، و تبارك اسمك ، و تعالى جدك ، و لا اله غيرك كان إذا استن أعطى السواك الأكبر ، وإذا شرب أعطى الذي عن يمينه كان إذا اشتد البرد بكر بالصلاة ، وإذا اشتد الحر ابرد بالصلاة كان إذا اشتدت الريح قال : اللهم لقحا لا عقيما كان إذا اشتكى أحد رأسه قال : اذهب فاحتجم ، و إذا اشتكى رجله قال : اذهب فاخضبها بالحناء كان إذا اشتكى رقاه جبريل قال : بسم الله يبريك ، من داء يشفيك ، و من شر حاسد إذا حسد ، و من شر كل ذي عين كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات و مسح عنه بيده كان إذا اصبح و إذا أمسى قال : أصبحنا على فطره الإسلام ، و كلمه الإخلاص ، ودين نبينا محمد ، و مله أبينا إبراهيم ، حنيفا مسلما و ما كان من المشركين كان إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبه ، لم يزل معرضا عنه حتى يحدث توبة كان إذا اعتم سدل عمامته بين كفتيه كان إذا افطر عند قوم قال : افطر عندكم الصائمون ، و أكل طعامكم الأبرار ، و تنزلت عليكم الملائكة كان إذا افطر قال : ذهب الظمأ ، و ابتلت العروق و ثبت الأجر أن شاء الله كان إذا افطر عند قوم ، قال : افطر عندكم الصائمون ، و صلت عليكم الملائكة كان إذا اكتحل اكتحل وترا ، و إذا استجمر استجمر كان إذا أكل أو شرب قال : الحمد لله الذى أطعم و سقى ، و سوغه و جعل له مخرجا كان إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث كان إذا أكل لم تعد أصابعه بين يديه كان إذا انزل عليه الوحي كرب لذلك و تربد وجهه كان إذا انزل عليه الوحي نكس رأسه و نكس أصحابه رؤوسهم ، فإذا اقلع عنه رفع رأسه كان إذا انصرف انحرف كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ، ثم قال : اللهم أنت السلام ، و منك السلام ، تباركت ياذا الجلال و الإكرام كان إذا أوى إلى فراشه قال : الحمد لله الذى أطعمنا ، وسقانا ، و كفانا ، و آوانا فكم ممن لا كافي له ، و لا مؤوي له كان إذا بايعه الناس يلقنهم : فيما استطعت كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال : بشروا و لا تنفروا ، و يسروا و لا تعسروا كان إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل : ما بال فلان يقول ؟ ولكن يقول : ما بال أقوام يقولون كذا و كذا كان إذا تضور من الليل قال : لا اله إلا الله الواحد القهار ، رب السموات و الأرض و ما بينهما العزيز الغفار كان إذا تكلم بكلمه أعادها ثلاثا ، حتى تفهم عنه ، و إذا أتى على قوم فسلم عليهم ، سلم عليهم ثلاثا كان إذا تهجد يسلم بين كل ركعتين ..
منقول من شبكه دكتور ويزارد
((((((((طبيعة غذاء الرسول وكيفية الوقاية من الأمراض
كان النبي { حينما يستيقظ من نومه وبعد فراغه من الصلاة وذكر الله عز وجل يتناول ..كوباً من الماء مذاباً فيه ملعقة من عسل النحل ويذيبها إذابة جيدة،
لأنه ثبت علمياً أن الماء يكتسب خواص المادة المذابة فيه، بمعنى أن جزيئات الماء تترتب حسب جزيئات العسل.
وروي عن النبي { أنه قال: "عليكم بشراب العسل" وهذا إنما يدل على الفوائد العظيمة لشراب العسل أي الماء المذاب فيه العسل، فقد اكتشف الطب الحديث أن شراب العسل حينما يتناوله الإنسان ينبه الجهاز الهضمي للعمل بكفاءة عن طريق زيادة قدرة عمل الحركة الدورية للأمعاء، وبعدها يعمل العسل كمادة غذائية متكاملة بسبب احتوائه على السكريات الأحادية التي تُمت مباشرة ولا يجري عليها هضم،
وتتولد مركبات يسمونها أدونزين ثلاثي الفوسفات وهو ما يطلق عليه (وقود العضلات) وهذا ما جعل علماء التغذية يأخذون الماء ويكسبوه طاقة وهو ما يطلق عليه الآن في أوروبا اسم (العلاج بالماء) لأن الماء يكتسب صفات ما يضاف عليه من مواد ولذلك فإن الطب في أوروبا أكثر تقدماً حتى أعمارهم أطول لأنهم يتبعون في أساليب التغذية الخاصة بهم نهج الطب النبوي الذي ثبت أنه أصلح وسيلة لجسم حي وسليم،
وما زال الطب الحديث حتى الآن يبحث في أسرار الغذاء الذي كان يتناوله النبي
{ وكيف أن هذا الغذاء لم يكن جزافاً بل له أسس وقواعد علمية ما زال الطب الحديث يستكشف ويبحث في أسرارها حتى الآن، وهذا من أسرار الإعجاز الإلهي التي اصطفى بها النبي { في يومه.
إفطار الرسول
بعدما يتناول النبي { شراب العسل يتكئ قليلاً وبعد العبادة المهجورة التي كان يؤديها- { صلوات الله وتسليمه عليه- وهي التفكر في طاعة الله وبعد صلاة الضحى، يتناول النبي { سبع تمرات مغموسة في كوب لبن } كما روي عنه وحدد النبي { الجرعة بسبع تمرات } في حديثه الذي رواه أبو نعيم
وأبو داود .
أن النبي الصلاة والسلام عليه { قال: "من تصبّح بسبع تمرات لا يصيبه في هذا اليوم سم ولا سحر" }.
وقد ثبت بالدليل العلمي أن هناك إنزيماً يرتفع أداؤه في حالة التسمم، وعندما يتم تناول سبع تمرات لمدة شهر يومياً نلاحظ أن هذا الإنزيم قد بدأ في الهبوط والعودة لوضعه الطبيعي،
وهذا من الإعجاز الإلهي الذي خُصّ به النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الظواهر التي أثبتها العلم الحديث المتعلقة بسبع تمرات: ظاهرة التليباثي أو الاستجلاء البصري أو الاستجلاء السمعي أو ما يطلقون عليه (التخاطر عن بعد). (( للمهتمين بمواضيع البراسيكولوجي )
وقد بحث العلماء في جامعة الملك عبدالعزيز وجامعة القاهرة وتوصلوا لنفس النتائج، من أن العمال الذينيعملون بالمناجم وبالرصاص وبالمواد السامة، أي الأكثر عرضة للسموم، عندما يتناولون سبع تمرات يومياً يتوقف تأثير المواد السامة تماماً، وهذا ما نشره العالم اليهودي اندريا ويل (الذي أعلن إسلامه بعد ذلك)
في بحثه تحت عنوان "سبع تمرات كافية" الذي أثبت فيه أن سبع تمرات تعد علاجاً للتسمم ونصح جميع العاملين المعرضين للتسمم بتناولها يومياً،
وهذا ما يثبته حديث النبي .. الذي رواه الترمذي في سننه من أن (التمر من الجنة وفيه شفاء من السم)
والدليل ...
من القرآن يساقط عليك رطبا جنيا.. وهذا ما أيده العالم اندريا ويل في كتابه (الصحة المثلى)
واستشهد فيه بأحاديث النبي عن التمر وفوائده العظيمة للصحة وللإنسان وكيفية الوقاية من الأمراض.
غداء الرسول
بعد تناول النبي { لوجبة الإفطار التي ذكرناها سابقاً، يظل حتى يفرغ من صلاة العصر، ثم يأخذ ملء السقاية (تقريباً ملء ملعقة) من زيت الزيتون وعليها نقطتا خل مع كسرة خبز شعير، أي ما يعادل كف اليد.
وقد ذكرت بعض الآيات القرآنية بعض الفوائد لزيت الزيتون إذ يقول تعالى: شجرة مباركة زيتونة
لا شرقية ولا غربية ..
يكاد زيتها يضيء وأيضاً والتين والزيتون... وقد أثبت العلم الحديث أن هناك أنواعاً عديدة من السرطان، مثل سرطان العظم (سركوما)، استخدم زيت الزيتون لعلاجها وهي ما قال فيها الله عز وجل ... وصبغ للآكلين فكلمة صبغ للآكلين تعني، كما فسرها ابن كثير والقرطبي وكل التفاسير، أنها تصبغ الجسم أي لها صفة الصبغية،
وقد أيد الطب الحديث في اكتشافاته أن زيت الزيتون يحتوي على أحماض دهنية وحيدة التشبع يعني غير مشبعة، ولذلك يقول العالم أندريا ويل: إنه وجد بالتجربة أن زيت الزيتون يذيب الدهون وهذا من قدرة الله، دهن يذيب الدهون، فهو يعالج الدهون مع أنه دهن لأنه يحتوي في تركيبه على (أوميجا 3) بعدد كبير وأوميجا 3 تعالج الدهون.
كما ثبت علميا أن زيت الزيتون يحمي من أمراض تصلب الشرايين والزهايمر وهو مرض الخرف وضعف الذاكرة ويضيع المخ، واستطاع العالم أندريا ويل أن يثبت كيف يقوم زيت الزيتون بالتدخل في الخلية المصابة بالسرطان ويعالجها ويؤثر فيها، ووصف كلمة صبغ للآكلين التي جاءت في القرآن
على أنها الصبغيات (الكرموسومات) ووصف السرطان بأنه اتساع بين الخلايا الواحدة بعض الشيء،وثبت أن زيت الزيتون يقوم بتضييق هذا الاتساع ويحافظ على المسافات بين الخلايا. وهنا
تتجلى قدرة الله عز وجل ..
في انتقائه لغذاء نبيه محمد { فكان النبي { يغمس كسرة الخبز بالخل وزيت الزيتون ويأكل.
وقد اكتشف العلم الحديث أن الخل الناتج من هضم المواد الكربوهيدراتية في الجسم هو مركب خليّ اسمه (أسيتو أستيت) والدهون تتحول إلى أسيتو أستيت ويبقى المركب الوسطي للدهون والكربوهيدرات والبروتين
هو الخل فعند تناول الخل وحدوث أي نقص من هذه المواد يعطيك الخل تعويضاً لهذا النقص،
وتبين بالعلم الحديث أن زيت الزيتون مع الخل يقومان كمركب بإذابة الدهون عالية الكثافة التي تترسب في الشرايين مسببة تصلّبها، لذلك أطلق العلماء على الخل مع زيت الزيتون (بلدوزر الشرايين)لأنه يقوم بتنظيف الشرايين من الدهون عالية الكثافة التي قد تؤدي إلى تصلب الشرايين.
وليس مهمة الخل فحسب القيام بإذابة الدهون، بل يقوم مع الزيتون كمركب بتحويل الدهون المذابة إلى دهون بسيطة يسهل دخولها في التمثيل الغذائي ليستفيد الجسم منها، ثم بعد أن يتناول النبي { غداءه كان يتناول جزرة حمراء
من التي كانت تنبت في شبه الجزيرة العربية، وقد أثبت العلم الحديث بالدليل والتجربة أن الجزر الأحمر يوجد به (أنتوكسيدات) وهي من الأشياء التي تثبط عمل مسببات السرطان، كما أثبت الطب الحديث أن الجزر يساعد
على نمو الحامض النووي والعوامل الوراثية، وهذا من الإعجاز الإلهي، لذلك فإن الكثير من الأطباء ينصحون
بتناول الجزر كمصدر لفيتامين (أ) ومصدر لتجدد العوامل الوراثية بالحام ض النووي، كما أنه يؤخر ظهور الشيب.
عشاء النبي
كان النبي { بعد أن ينتهي من صلاة العشاء والنوافل والوتر وقبل أن يدخل في قيام الليل، كان يتناول وجبته الثالثة في اليوم وهي وجبة العشاء، وكانت تحتوي على اللبن الروب مع كسرة من خبز الشعير،
وقد أثبت العلم الحديث أن تناول كوب من اللبن الروب في العشاء يعمل على إذابة الفضلات المتبقية في المصران الغليظ، ويقوم بتحليلها إلى مركبات بسيطة يسهل الاستفادة منها ومن الفيتامينات الموجودة بها. وقد جرت بعض الدراسات العلمية، قام بها عدد من خبراء التغذية في الغرب وأيضاً الدراسات التي أجريت في جامعة القاهرة وجامعة الملك عبدالعزيز، بينت فوائد اللبن الروب عند تناوله ليلاً،
فهو يجعل الترسبات غير المرغوب فيها تتفتت ويستفيد منها الجسم،وهذا من الإعجاز في تناول النبي { لهذه الوجبة ليلاً كوجبة عشاء هامة وضرورية وسريعة الهضم، وتجعل الجهاز الهضمي يعمل بكفاءة، لذلك هناك عدد من الأطباء دائماً يصفون لمرضاهم اللبن الروب ليلاً في وجبة العشاء لأنه مريح للقولون ولا يسبب تقلصات في المعدة، وأكدت هذه المعلومات الطبية الدراسة التي أجراها الدكتور عبدالباسط سيد محمد في كتابه (الاستشفاء بطعام النبي) الذي أوضح فيه أن معظم طعام النبي له جانبان من الفائدة، جانب القيمة الغذائية التي يمد بها الجسم وأثبتها العلم الحديث، وجانب الوقاية من الأمراض،
وهذا إنما يدل على الإعجاز الإلهي في اختيار رب العالمين لطعام نبيه ومصطفاه سيد الخلق أجمعين.
وفي النهاية نقول...
انطلاقاً من قوله تعالى:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
... فلو تأملنا جيداً سنجد أن النبي { كان خير قدوة لنا في مأكله ومشربه وملبسه، كان قدوةً ومعلماً للبشرية، فقد أعجز بعلمه العلماء، وفاقت فصاحته البلغاء والأدباء، فكان إذا تحدث صدق وما ينطق عن الهوى... ولو تأملنا جيداً أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
{ عن الطعام لوجدنا أنه أخبرنا من آلاف السنين بما لم يستطع العلم الحديث اكتشافه،
منقول
((((صور من محبة الرسول لامته)))))الصورة الأولى :
جاء في صحيح البخاري في حديث الشفاعة العظمى عن أنس رضي الله عنه وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم (فيأتوني ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، فيقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته أيضا يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود الثالثة ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت له ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، قال : فأرفع رأسي ، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وقد سمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن) . أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية : {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} . قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم .
الصورة الثانية ..
جاء عند البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة العظمى أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير ، أو : كما بين مكة وبصرى).
الصورة الثالثة ..
( قرأ صلى الله عليه وسلم يوماً قول اللـه فى إبراهيم: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ ابراهيم: 36 ]
وقرأ قول اللـه فى عيسى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[ المائدة: 118 ].
فبكى صلى الله عليه وسلم فأنزل اللـه إليه جبريل عليه السلام وقال: باجبريل سل محمد ما الذى يبكيك؟ - وهو أعلم-، فنزل جبريل وقال: ما يبكيك يا رسول اللـه؟ قال أمتي.. أمتي يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل. وقال: يبكى على أمته واللـه أعلم، فقال لجبريل: انزل إلى محمد وقل له إنا سنرضيك فى أمتك ) رواه مسلم .
الصورة الرابعة
قول النبي صلى الله عليه وسلم (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها ، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة ) رواه البخاري .
الصورة الخامسة
أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} . فقال الرجل : يا رسول الله ، ألي هذا ؟ قال : لجميع أمتي كلهم ) رواه البخاري .
الصورة السادسة
قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لولا أن أشق على أمتي ، أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ) رواه البخاري .
الصورة السابعة
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قوله ( خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : (عرضت علي الأمم ، فجعل يمر النبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فرجوت أن يكون أمتي ، فقيل : هذا موسى وقومه ، ثم قيل لي : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب) . فتفرق الناس ولم يبين لهم ، فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ، ولكنا آمنا بالله ورسوله ، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (هم الذين لا يتطيرون ، ولا يسترقون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون) . فقام عكاشة بن محصن فقال : أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال : (نعم) . فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ فقال : (سبقك بها عكاشة) .
منى محمد
07-22-2006, 04:13 PM
الصورة الثامنة ..
جاء في حديث الإسراء والمعراج الطويل ..قال النبي صلى الله عليه وسلم : ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام . قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك ، حتى مررت على موسى ، فقال : ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة ، قال : فارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعني فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها ، فقال : راجع ربك ، فإن أمتك لا تطيق ، فراجعت فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، فرجعت إلى موسى ، فقال : راجع ربك ، فقلت : استحييت من ربي ، ثم انطلق بي ، حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى ، وغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك .رواه البخاري .
الصورة التاسعة ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه" . قالت فقلت : يا رسول الله ! أراك تكثر من قول "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ؟ " فقال "خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي . فإذا رأيتها أكثرت من قول : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه . فقد رأيتها . إذا جاء نصر الله والفتح . فتح مكة . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" . رواه مسلم .
الصورة العاشرة ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما تعدون الشهيد فيكم ؟ قالوا : يا رسول الله ! من قتل في سبيل الله فهو شهيد . قال : إن شهداء أمتي إذا لقليل ، قالوا : فمن هم ؟ يا رسول الله ! قال : من قتل في سبيل الله فهو شهيد . ومن مات في سبيل الله فهو شهيد . ومن مات في الطاعون فهو شهيد . ومن مات في البطن فهو شهيد . قال ابن مقسم : أشهد على أبيك ، في هذا الحديث ؛ أنه قال : والغريق شهيد . وفي رواية : قال عبيدالله بن مقسم : أشهد على أخيك أنه زاد في هذا الحديث : ومن غرق فهو شهيد . وفي رواية : زاد فيه : والغرق شهيد ) رواه مسلم .
الصورة الحادية عشرة ..
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم ، عرف ذلك في وجهه ، وأقبل وأدبر . فإذا مطرت ، سر به ، وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته . فقال : "إني خشيت أن يكون عذابا سلطا على أمتي" . ويقول ، إذا رأى المطر "رحمه" . ) رواه مسلم .
الصورة الثانية عشرة ..
عن عبدالله بن عمر ؛ قال : ( مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده . فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك . فقال حين خرج إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم . ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى ) رواه مسلم
الصورة الثالثة عشرة ..
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية . حتى إذا مر بمسجد بني معاوية ، دخل فركع فيه ركعتين . وصلينا معه . ودعا ربه طويلا . ثم انصرف إلينا . فقال صلى الله عليه وسلم "سألت ربي ثلاثا . فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة . سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها . وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها . وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" . وفي رواية : أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه . فمر بمسجد بني معاوية( . رواه مسلم .
الصورة الرابع عشرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار . قال فأتاه جبريل عليه السلام . فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم أتاه الثانية . فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف . فأيما حرف قرءوا عليه ، فقد أصابوا .رواه مسلم .؟؟؟؟؟؟؟؟؟السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ملخص لمائة خصلة انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن بقية الأنبياء السابقين عليهم السلام
عبد الله بن جار الله الجار الله
أضيفت بتاريخ : 10 - 09 - 2006 نقلا عن : كتاب تذكير المسلمين باتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم نسخة للطباعة القراء : 2653
للدكتور /خليل إبراهيم ملا خاطر
أستاذ مشارك في المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة النبوية
لخّصها إبراهيم الحدادي
ما أكرمه الله تعالى به لذاته في الدنيا
1- أخذ الله له العهد على جميع الأنبياء، صلى الله عليه وسلم.
2- كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم.
3- كان نبياً وآدم منجدل في طينته صلى الله عليه وسلم.
4- هو أول المسلمين صلى الله عليه وسلم.
5- هو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
6- هو نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
7- هو أولى بالأنبياء من أممهم صلى الله عليه وسلم.
8- هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم صلى الله عليه وسلم.
9- كونه منة يمتن الله بها على عباده.
10- كونه خيرة الخلق، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
11- طاعته ومبايعته هي عين طاعة الله ومبايعته.
12- الإيمان به مقرون بالإيمان بالله تعالى.
13- هو رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.
14- هو أمنة لأمته صلى الله عليه وسلم.
15- عموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
16- تكفّل المولى بحفظه وعصمته صلى الله عليه وسلم.
17- التكفل بحفظ دينه صلى الله عليه وسلم.
18- القسم بحياته صلى الله عليه وسلم.
19- القسم ببلده صلى الله عليه وسلم.
20- القسم له صلى الله عليه وسلم.
21- لم يناده باسمه صلى الله عليه وسلم.
22- ذكر في أول من ذكر من الأنبياء.
23- النهي عن مناداته باسمه صلى الله عليه وسلم.
24- لا يرفع صوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم.
25- تقديم الصدقة بين يدي مناجاتهم له ( ثم نسخ ذلك ).
26- جعله الله سراجاً منيراً صلى الله عليه وسلم.
27- فرض بعض شرعه في السماء صلى الله عليه وسلم.
28- تولى الإجابة عنه صلى الله عليه وسلم.
29- استمرار الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
30- الإسراء والمعراج به صلى الله عليه وسلم.
31- معجزاته صلى الله عليه وسلم.
32- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وسلم.
33- تأخير دعوته المستجابة ليوم القيامة صلى الله عليه وسلم.
34- أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
35- أعطي مفاتيح خزائن الأرض صلى الله عليه وسلم.
36- إسلام قرينه من الجن صلى الله عليه وسلم.
37- نصره بالرعب مسيرة شهر صلى الله عليه وسلم.
38- شهادة الله وملائكته له صلى الله عليه وسلم.
39- إمامته بالأنبياء في بيت المقدس صلى الله عليه وسلم.
40- قرنه خير قرون بني آدم صلى الله عليه وسلم.
41- ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة صلى الله عليه وسلم.
42- أعطي انشقاق القمر صلى الله عليه وسلم.
43- يرى من وراء ظهره صلى الله عليه وسلم.
44- رؤيته في المنام حق صلى الله عليه وسلم.
45- عرض الأنبياء مع أممهم عليه صلى الله عليه وسلم.
46- جعل خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم.
47- اطلاعه على المغيبات صلى الله عليه وسلم.
ما أكرمه الله تعالى به في الآخرة
48- وصفه بالشهادة صلى الله عليه وسلم.
49- ما أعطي من الشفاعات صلى الله عليه وسلم.
50- هو أول من يبعث صلى الله عليه وسلم.
51-هو إمام الأنبياء وخطيبهم صلى الله عليه وسلم.
52- كل الأنبياء تحت لوائه صلى الله عليه وسلم.
53- هو أول من يجوز على الصراط صلى الله عليه وسلم.
54- هو أول من يقرع باب الجنة صلى الله عليه وسلم.
55- هو أول من يدخل الجنة صلى الله عليه وسلم.
56-إعطاؤه الوسيلة والفضيلة صلى الله عليه وسلم ( الوسيلة: أعلى منزلة في الجنة ).
57-إعطاؤه المقام المحمود صلى الله عليه وسلم ( وهي الشفاعة العظمى ).
58- إعطاؤه الكوثر صلى الله عليه وسلم ( وهو نهر في الجنة ).
59- إعطاؤه لواء الحمد صلى الله عليه وسلم.
60-يكون له كرسي عن يمين العرش صلى الله عليه وسلم.
61-هو أكثر الأنبياء تبعاً صلى الله عليه وسلم.
62- هو سيد الأولين والآخرين يوم القيامة صلى الله عليه وسلم.
63- هو أول شافع ومشفع صلى الله عليه وسلم.
64- هو مبشر الناس يوم يفزع إليه الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
65- ما يوحى إليه في سجوده تحت العرش مما لم يفتح على غيره من قبل ومن بعد صلى الله عليه وسلم.
66- منبره على حوضه صلى الله عليه وسلم.
ما أكرمه الله به في أمته في الدنيا
67- جعلت خير الأمم.
68- سماهم الله تعالى المسلمين، وخصهم بالإسلام.
69- أكمل الله لها الدين، وأتم عليها النعمة.
70- ما حطه الله لها عنها من الإصر والأغلال.
71- صلاة المسيح خلف إمام المسلمين.
72- أحلّت لها الغنائم.
73- جعلت صفوفها كصفوف الملائكة.
74- التيمم والصلاة على الأرض.
75- خصّهم بيوم الجمعة.
76- خصهم بساعة الإجابة يوم الجمعة.
77- خصهم بليلة القدر.
78- هذه الأمة هي شهداء الله في الأرض.
79- مثلها في الكتب السابقة { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ }.
80- لن تهلك بجوع، ولا يسلط عليها عدو من غيرها فيستأصلها.
81- خصت بصلاة العشاء.
82- تؤمن بجميع الأنبياء.
83- حفظها من التنقص في حق ربها عز وجل.
84- لا تزال طائفة منها على الحق منصورة.
ما أكرمه الله تعالى به في أمته في الآخرة
85- هي شاهدة للأنبياء على أممهم.
86- هي أول من يجتاز الصراط.
87- هي أول من يدخل الجنة، وهي محرمة على الناس حتى تدخلها.
88- انفرادها بدخول الباب الأيمن من الجنة.
89- سيفديها بغير من الأمم.
90- تأتي غرا محجلين من آثار الوضوء.
91- هي أكثر أهل الجنة.
92- سيرضي الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها.
93- زيادة الثواب مع قلة العمل.
94- كلها تدخل الجنة إلا من أبى بمعصيته لله ورسوله للحديث الذي رواه البخاري.
95- كثرة الشفاعات في أمته.
96- تمني الكفار لو كانوا مسلمين.
97- هم الآخرون في الدنيا السابقون يوم القيامة.
98- دخول العدد الكثير منها الجنة بغير حساب.
99- لها علامة تعرف بها ربها عز وجل وهو الساق.
100- فيها سادات أهل الجنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعي
(((((((((الطب النبوي)))))))))بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاه والسلام علي اشرف المرسلين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم
سأعرض لكم - ان شلء الله - مقتطفات من كتاب الطب النبوي ل الامام شمس الدين ابي عبد الله بن قيم الجوزيه
وهذا كتاب دليل قاطع علي نبوه محمد صلي الله علي وسلم ردا علي المشككين في ذلك
بسم الله
المرض: نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان
وهما مذكوران في القرآن.
ومرض القلوب: نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي
وكلاهما في القرآن. قال تعالى في مرض الشبهة: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} [البقرة: 110]. وقال تعالى: {وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا} [المدثر: 31]. وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة، فأبى وأعرض: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} [النور: 48 :49] فهذا مرض الشبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات، فقال تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32]. فهذا مرض شهوة الزنى، والله أعلم.
فصل: وأما مرض الأبدان
فقال تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} [النور: 61]، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن، والإستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة.
فقال في آية الصوم: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184]، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلبًا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة، وما يوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة، وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظًا لصحته وقوته عما يضعفها.
وقال في آية الحج: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]، فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل، أو حكة، أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغًا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا تبيغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش. وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه.
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية: فقال تعالى في آية الوضوء: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج، فقد أرشد ـ سبحانه ـ عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده، ونحن نذكر هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي.
فأما طب القلوب، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها، وفاطرها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم، فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية، وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته، وقوته عن ذلك بمعزل، ومن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات.
فصل: وأما طب الأبدان: فإنه نوعان
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد، والتعب بأضدادها وما يزيلها.
والثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج، بحيث يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها، وهي نوعان: إما مادية، وإما كيفية، أعني إما أن يكون بانصباب مادة، أو بحدوث كيفية، والفرق بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها، فتزول موادها، ويبقى أثرها كيفية في المزاج.
وأمراض المادة أسبابها معها تمدها، وإذا كان سبب المرض معه، فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولًا، ثم في المرض ثانيًا، ثم في الدواء ثالثًا. أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته، إما في شكل، أو تجويف، أو مجرى، أو خشونة، أو ملاسة، أو عدد، أو عظم، أو وضع، فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالًا، والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الإتصال، أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية.
والأمراض المتشابهة: هي التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال، وهذا الخروج يسمى مرضًا بعد أن يضر بالفعل إضرارًا محسوسًا.
وهي على ثمانية أضرب: أربعة بسيطة، وأربعة مركبة، فالبسيطة: البارد، والحار، والرطب، واليابس، والمركبة: الحار الرطب، والحار اليابس، والبارد الرطب، والبارد اليابس، وهي إما أن تكون بانصباب مادة، أو بغير انصباب مادة، وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجًا عن الاعتدال صحة.
وللبدن ثلاثة أحوال: حال طبيعية، وحال خارجة عن الطبيعية، وحال متوسطة بين الأمرين. فالأولى: بها يكون البدن صحيحًا، والثانية: بها يكون مريضًا. والحال الثالثة: هي متوسطة بين الحالتين، فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط، وسبب خروج البدن عن طبيعته، إما من داخله، لأنه مركب من الحار والبارد، والرطب واليابس، وإما من خارج، فلأن ما يلقاه قد يكون موافقًا، وقد يكون غير موافق، والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال، وقد يكون من فساد في العضو، وقد يكون من ضعف في القوى، أو الأرواح الحاملة لها، ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته، أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه، أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله، أو اتصال ما الاعتدال في تفرقه، أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه، أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله.
فالطبيب: هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه، أو ينقص منه ما يضره زيادته، أو يزيد فيه ما يضره نقصه، فيجلب الصحة المفقودة، أو يحفظها بالشكل والشبه، ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض، ويخرجها، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية، وسترى هذا كله في هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شافيًا كافيًا بحول الله وقوته، وفضله ومعونته.؟؟؟فصل فكان من هديه - صلي الله عليه وسلم - فعل التداوي في نفسه
والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه، أو يكسر سورته، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك، وأهل البوادي قاطبة، وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون، وأكثر طب الهند بالمفردات.
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب..
قالوا: وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية، لم يحاول دفعه بالأدوية.
قالوا: ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله، أو وجد داء لا يوافقه، أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه، أو كيفيته، تشبث بالصحة، وعبث بها. وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبًا، وهم أحد فرق الطب الثلاث.
والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية، فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات، أمراضها قليلة جدًا، وطبها بالمفردات، وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة، فالأدوية المركبة أنفع لها، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة، فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة، فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية.
ونحن نقول: إن ها هنا أمرًا آخر، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول: هو قياس. ومنهم من يقول: هو تجربة. ومنهم من يقول: هو إلهامات، ومنامات، وحدس صائب. ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج، فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض، وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج، فتمر عيونها عليها. وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب.
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم، وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والإلتجاء إليه، والإنطراح والإنكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه.
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجًا عنها، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجابًا، وأكثفهم نفسًا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها، فقام حتى كأن ما به قلبة.
فهذان نوعان من الطب النبوي، نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة، ومعارفنا المتلاشية جدًا، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب.؟؟؟؟بقيه الموضوع
فصل: روى مسلم في صحيحه
من حديث أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله عز وجل).
وفي الصحيحين : عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء).
وفي مسند الإمام أحمد : من حديث زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله ! أنتداوى؟ فقال: (نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم).
وفي لفظ: (إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله).
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه: (إن الله ـ عز وجل ـ لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله) وفي المسند و السنن : عن أبي خزامة، قال: قلت: يا رسول الله ! أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: (هي من قدر الله).
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: (لكل داء دواء)، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله، ولهذا علق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفاء على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده، فعلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية،أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرًا، ومتى لم يقع المداوي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحًا لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثم مانع يمنع من تأثيره، لم يحصل البرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين في الحديث.
والثاني: أن يكون من العام المراد به الخاص، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه، وهذا يستعمل في كل لسان، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد: {تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25] أي كل شيء يقبل التدمير، ومن شأن الريح أن تدمره، ونظائره كثيرة.
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم، ومقاومة بعضها لبعض، ودفع بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، تبين له كمال قدرة الرب تعالى، وحكمته، وإتقانه ما صنعه، وتفرده بالربوبية، والوحدانية، والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه، كما أنه الغني بذاته، وكل ما سواه محتاج بذاته.
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا.
وفيها رد على من أنكر التداوي، وقال: إن كان الشفاء قد قدر، فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر، فكذلك. وأيضًا، فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يدفع ولا يرد، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وأما أفاضل الصحابة، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا، وقد أجابهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما شفى وكفى، فقال: هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله، فما خرج شيء عن قدره، بل يرد قدره بقدره، وهذا الرد من قدره، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما، وهذا كرد قدر الجوع، والعطش والحر، والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله: الدافع، والمدفوع والدفع.
ويقال لمورد هذا السؤال: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببًا من الأسباب التي تجلب بها منفعة، أو تدفع بها مضرة، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا، لم يكن بد من وقوعهما، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما، وفي ذلك خراب الدين والدنيا، وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق، معاند له، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه، كالمشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148]، و {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} [النحل: 35]، فهذا قالوه دفعًا لحجة الله عليهم بالرسل.
وجواب هذا السائل أن يقال: بقي قسم ثالث لم تذكره، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب، وإلا فلا، فإن قال: إن كان قدر لي السبب، فعلته، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله.
قيل: فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك، وولدك، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به، ونهيته عنه فخالفك؟ فإن قبلته، فلا تلم من عصاك، وأخذ مالك، وقذف عرضك، وضيع حقوقك، وإن لم تقبله، فكيف يكون مقبولًا منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي: أن إبراهيم الخليل قال: يا رب ممن الداء؟ قال: مني . قال: فممن الدواء؟ قال: مني. قال: فما بال الطبيب؟. قال: رجل أرسل الدواء على يديه.
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لكل داء دواء)، تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح، قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته.
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه. وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله، وصادف داء قلبه، أبرأه بإذن الله تعالى.؟؟؟؟بقيه الموضوع
فصل وكان علاجه - صلي الله عليه وسلم - للمرض ثلاثه انواع
أحدها: بالأدوية الطبيعية.
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركب من الأمرين.
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها، ثم نذكر الأدوية الإلهية، ثم المركبة.
وهذا إنما نشير إليه إشارة، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما بعث هاديًا، وداعيًا إلى الله، وإلى جنته، ومعرفًا بالله، ومبينًا للأمة مواقع رضاه وآمرًا لهم بها، ومواقع سخطه وناهيًا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها، وأسباب ذلك.
وأما
طب الأبدان
فجاء من تكميل شريعته، ومقصودًا لغيره، بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه، فإذا قدر على الإستغناء عنه،كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح، وحفظ صحتها، ودفع أسقامها، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول، وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًا، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة، وبالله التوفيق.
الحمد لله
وللحديث بقيه؟؟؟فصل : في هديه في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين: من حديث أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري (أن رجلًا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أخي يشتكي بطنه: وفي رواية: استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلًا، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته، فلم يغن عنه شيئًا. وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقًا مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول له: اسقه عسلًا، فقال له في الثالثة أو الرابعة: صدق الله، وكذب بطن أخيك).
وفي صحيح مسلم في لفظ له: (إن أخي عرب بطنه)، أي فسد هضمه، واعتلت معدته، والاسم العرب بفتح الراء، والذرب أيضًا.
والعسل فيه منافع عظيمة، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها، محلل للرطوبات أكلًا وطلاءً، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم، ومن كان مزاجه باردًا رطبًا، وهو مغذ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه، مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة، منق للكبد والصدر، مدر للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شرب حارًا بدهن الورد، نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون، وإن شرب وحده ممزوجًا بماء نفع من عضة الكلب الكلب، وأكل الفطر القتال، وإذا جعل فيه اللحم الطري، حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك إن جعل فيه القثاء، والخيار، والقرع، والباذنجان، ويحفظ كثيرًا من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويسمى الحافظ الأمين. وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر، قتل قمله وصئبانه، وطول الشعر، وحسنه، ونعمه، وإن اكتحل به، جلا ظلمة البصر، وإن استن به، بيض الأسنان وصقلها، وحفظ صحتها، وصحة اللثة، ويفتح أفواه العروق، ويدر الطمث، ولعقه على الريق يذهب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويسخنها تسخينًا معتدلًا، ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة، وهو أقل ضررًا لسدد الكبد والطحال من كل حلو.
وهو مع هذا كله مأمون الغائلة، قليل المضار، مضر بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخل ونحوه، فيعود حينئذ نافعًا له جدًا.
وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، فما خلق لنا شيء فى في معناه أفضل منه، ولا مثله، ولا قريبًا منه، ولم يكن معول القدماء إلا عليه، وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة، ولا يعرفونه، فإنه حديث العهد حدث قريبًا، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشربه بالماء على الريق، وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل، وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة.
وفي سنن ابن ماجه مرفوعًا من حديث أبي هريرة (من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر، لم يصبه عظيم من البلاء)، وفي أثر آخر: (عليكم بالشفائين: العسل والقرآن). فجمع بين الطب البشري والإلهي، وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي.
إذا عرف هذا، فهذا الذي وصف له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العسل، كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء، فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء، فإن العسل فيه جلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة، تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة، أفسدتها وأفسدت الغذاء، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط، والعسل جلاء، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء، لا سيما إن مزج بالماء الحار.
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يزله بالكلية، وإن جاوزه. أوهى القوى، فأحدث ضررًا آخر، فلما أمره أن يسقيه العسل، سقاه مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء، برأ، بإذن الله، واعتبار مقادير الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض مرض من أكبر قواعد الطب.
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكذب البطن، و كثرة المادة الفاسدة فيه، فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كطب الأطباء، فإن طب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة، وكمال العقل. وطب غيره، أكثره حدس وظنون، وتجارب، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور ـ إن لم يتلق هذا التلقي ـ لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها، بل لا يزيد المنافقين إلا رجسًا إلى رجسهم، ومرضًا إلى مرضهم، وأين يقع طب الأبدان منه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطبية، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطبية والقلوب الحية، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور فى الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله، والله الموفق
الحمد لله
وللحديث بقيه؟؟؟
فصل : في هديه في داء الاستسقاء وعلاجه
في الصحيحين : من حديث أنس بن مالك، قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما صحوا، عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم، واستاقوا الإبل، وحاربو الله ورسوله، فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آثارهم، فأخذوا، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا).
والدليل على أن هذا المرض كان الإستسقاء، ما رواه مسلم في صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا: إنا اجتوينا المدينة، فعظمت بطوننا، وارتهشت أعضاؤنا، وذكر تمام الحديث...
والجوى: داء من أدواء الجوف ـ والاستسقاء: مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط، وأقسامه ثلاثة: لحمي، وهو أصعبها. وزقي، وطبلي.
ولما كانت الأدوية المحتاج إليها فى علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل، وإدرار بحسب الحاجة، وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشربها، فإن في لبن اللقاح جلاءً وتليينًا، وإدرارًا وتلطيفًا، وتفتيحًا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح، والقيصوم، والبابونج، والأقحوان، والإذخر، وغير ذلك من الأدوية النافعة للإستسقاء.
وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة، أو مع مشاركة، وأكثرها عن السدد فيها، ولبن اللقاح العربية نافع من السدد، لما فيه من التفتيح، والمنافع المذكورة.
قال الرازي: لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد، وفساد المزاج، وقال الإسرائيلي: لبن اللقاح أرق الألبان، وأكثرها مائية وحدة، وأقلها غذاء، فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول، وإطلاق البطن، وتفتيح السدد، ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع، ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد، وتفتيح سددها، وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثًا، والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحته، وتقطيعه الفضول، وإطلاقه البطن، فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن، وجب أن يطلق بدواء مسهل.
قال صاحب القانون: ولا يلتفت إلى ما يقال: من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الإستسقاء. قال: واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق، وما فيه من خاصية، وأن هذا اللبن شديد المنفعة، فلو أن إنسانًا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به، وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب، فقادتهم الضرورة إلى ذلك، فعوفوا. وأنفع الأبوال: بول الجمل الأعرابي، وهو النجيب، انتهى.
وفي القصة: دليل على التداوي والتطبب، وعلى طهارة بول مأكول اللحم، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة، وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة.
وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل، فإن هؤلاء قتلوا الراعي، وسملوا عينيه، ثبت ذلك في صحيح مسلم .
وعلى قتل الجماعة، وأخذ أطرافهم بالواحد.
وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معًا، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطع أيديهم وأرجلهم حدًا لله على حرابهم، وقتلهم لقتلهم الراعي.
وعلى أن المحارب إذا أخذ المال، وقتل، قطعت يده ورجله في مقام واحد وقتل.
وعلى أن الجنايات إذا تعددت، تغلظت عقوباتها، فإن هؤلاء ارتدوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس، ومثلوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة.
وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك.
وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدًا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين فى مذهب أحمد، اختاره شيخنا، وأفتى به.
الحمد لله؟؟؟بقيه الموضوع
فصل: في هديه في العلاج بشرب العسل , والحجامه , والكي
في صحيح البخاري: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي).
قال أبو عبد الله المازري: الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية، فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها، وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد، وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله: شرطة محجم. فإذا أعيا الدواء، فآخر الطب الكي، فذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأدوية، لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدواء المشروب. وقوله: وأنا أنهى أمتي عن الكي، وفي الحديث الآخر: وما أحب أن أكتوي، إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي، انتهى كلامه.
وقال بعض الأطباء: الأمراض المزاجية: إما أن تكون بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها: إما حارة، أو باردة، أو رطبة، أو يابسة، أو ما تركب منها، وهذه الكيفيات الأربع، منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارة والبرودة، وكيفيتان منفعلتان، وهما الرطوبة واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن، وسائر المركبات كيفيتان: فاعلة ومنفعلة.
فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة، فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حارًا، عالجناه بإخراج الدم، بالفصد كان أو بالحجامة، لأن في ذلك استفراغًا للمادة، وتبريدًا للمزاج. وإن كان باردًا عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة، فالعسل أيضًا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية.
وأما الكي: فلأن كل واحد من الأمراض المادية، إما أن يكون حادًا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مزمنًا، وأفضل علاجه بعد الإستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي، لأنه لا يكون مزمنًا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو، وأفسدت مزاجه، وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها، كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء).
الحمد لله ؟؟؟فصل: وأما الحجامة
ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن المغلس، ـ وهو ضعيف ـ عن كثير بن سليم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا: يا محمد مر أمتك بالحجامة).
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث: وقال فيه: (عليك بالحجامة يا محمد).
وفي الصحيحين: من حديث طاووس، عن ابن عباس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم وأعطى الحجام أجره).
وفي الصحيحين أيضًا، عن حميد الطويل، عن أنس، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم مواليه، فخففوا عنه من ضريبته، وقال: (خير ما تداويتم به الحجامة).
وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور، قال: سمعت عكرمة يقول: كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون، فكان اثنان يغلان عليه، وعلى أهله، وواحد لحجمه، وحجم أهله. قال: وقال ابن عباس: قال نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نعم العبد الحجام يذهب بالدم، ويخف الصلب، ويجلو البصر)، وقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث عرج به، ما مر على ملإ من الملائكه إلا قالوا: (عليك بالحجامة)، وقال: (إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين)، وقال: (إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي)، وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لد فقال: (من لدني؟ فكلهم أمسكوا، فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس). قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجه.
فصل: وأما منافع الحجامة
فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد.
قلت: والتحقيق في أمرها وأمر الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمان، والمكان، والأسنان، والأمزجة، فالبلاد الحارة، والأزمنة الحارة، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد، ولمن لا يقوى على الفصد، وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وتستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، في الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ، وفي آخره يكون قد سكن. وأما في وسطه وبعيده، فيكون في نهاية التزيد.
قال صاحب القانون: ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت، ولا في آخره لأنها تكون قد نقصت، بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها لتزيد النور في جرم القمر. وقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (خير ما تداويتم به الحجامة والفصد). وفي حديث: (خير الدواء الحجامة والفصد). انتهى.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خير ما تداويتم به الحجامة) إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارة، لأن دماءهم رقيقة، وهي أميل الى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها في نواحي الجلد، ولأن مسام أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخلة، ففي الفصد لهم خطر، والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق، وخاصة العروق التي لا تفصد كثيرًا، ولفصد كل واحد منها نفع خاص، ففصد الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشوصة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك.
وفصد الأكحل: ينفع من الإمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويًا، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الودجين: ينفع من وجع الطحال، والربو، والبهر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المنكب والحلق.
والحجامة على الأخدعين، تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده، أو عنهما جميعًا. قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم في الأخدعين والكاهل.
وفي الصحيحين عنه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم ثلاثًا: واحدة على كاهله، واثنتين على الأخدعين.
وفي الصحيح: عنه، أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به.
وفي سنن ابن ماجه عن علي، نزل جبريل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجامة الأخدعين والكاهل.
وفي سنن أبي داود من حديث جابر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم في وركه من وثء كان به).
الحمد لله ؟؟؟
على نقرة القفا، وهى القمحدوة.
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثًا مرفوعًا (عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة، فإنها تشفي من خمسة أدواء)، ذكر منها الجذام.
وفي حديث آخر: (عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة، فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء).
فطائفة منهم استحسنته وقالت: إنها تنفع من جحظ العين، والنتوء العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثقل الحاجبين والجفن، وتنفع من جربه. وروي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم في جانبي قفاه، ولم يحتجم في النقرة، وممن كرهها صاحب القانون وقال: إنها تورث النسيان حقًا، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن مؤخر الدماغ موضع الحفط، والحجامة تذهبه، انتهى كلامه.
ورد عليه آخرون، وقالوا: الحديث لا يثبت، وإن ثبث فالحجامة، إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت لغير ضرورة، فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طبًا وشرعًا، فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك، واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته.
فصل: والحجامة تحت الذقن
تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم، إذا استعملت في وقتها، وتنقي الرأس والفكين، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن، وهو عرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفخذين والساقين، وانقطاع الطمث، والحكة العارضة في الإنثيين، والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ، وجربه وبثوره، ومن النقرس والبواسير، والفيل وحكة الظهر.
الحمد لله ؟؟؟فصل: في هديه في أوقات الحجامة
روى الترمذي في جامعه: من حديث ابن عباس يرفعه: (إن خير ما تحتجمون في يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين).
وفيه (عن أنس كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبعة عشر، وتسعة عشر، وفي إحدى وعشرين).
وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعًا: (من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو إحدى وعشرين، لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله).
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من احتجم لسبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، كانت شفاء من كل داء)، وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء، أن الحجامة في النصف الثاني، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره، وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره.
قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم، وأي ساعة كانت.
وقال صاحب القانون: أوقاتها في النهار: الساعة الثانية أو الثالثة، ويجب توقيها بعد الحمام إلا فيمن دمه غليط، فيجب أن يستحم، ثم يستجم ساعة، ثم يحتجم، انتهى.
وتكره عندهم الحجامة على الشبع، فإنها ربما أورثت سددًا وأمراضًا رديئة، لا سيما إذا كان الغذاء رديئًا غليظًا. وفي أثر: (الحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء، وفي سبعة عشر من الشهر شفاء).
واختيار هذه الأوقات للحجامة، فيما إذا كانت على سبيل الإحتياط والتحرز من الأذى، وحفظًا للصحة. وأما في مداواة الأمراض، فحيثما وجد الاحتياح إليها وجب استعمالها. وفي قوله: (لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله). دلالة على ذلك، يعني لئلا يتبيغ، فحذف حرف الجر مع (أن)، ثم حذفت (أن). والتبيغ: الهيج، وهو مقلوب البغي، وهو بمعناه، فإنه بغي الدم وهيجانه. وقد تقدم أن الإمام أحمد كان يحتجم أي وقت احتاج من الشهر.
فصل: وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة
فقال الخلال في جامعه: أخبرنا حرب بن إسماعيل، قال: قلت لأحمد: تكره الحجامة في شء من الأيام؟ قال: قد جاء في الأربعاء والسبت.
وفيه: عن الحسين بن حسان، أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة: أي يوم تكره؟ فقال: في يوم السبت، ويوم الأربعاء، ويقولون: يوم الجمعة.
وروى الخلال، عن أبي سلمة وأبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا: (من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت، فأصابه بياض أو برص، فلا يلومن إلا نفسه).
وقال الخلال: أخبرنا محمد بن علي بن جعفر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، قال: سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء؟ فكرهها. وقال: بلغني عن رجل أنه تنور، واحتجم يعني يوم الأربعاء، فأصابه البرص. قلت له: كأنه تهاون بالحديث؟ قال: نعم.
وفي كتاب الأفراد للدارقطني، من حديث نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: تبيغ بي الدم، فابغ لي حجامًا، ولا يكن صبيًا ولا شيخًا كببرًا، فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (الحجامة تزيد الحافظ حفظًا، والعاقل عقلًا، فاحتجموا على اسم الله تعالى، ولا تحتجموا الخميس، والجمعة، والسبت، والأحد، واحتجموا الإثنين، وما كان من جذام ولا برص، إلا نزل يوم الأربعاء). قال الدارقطني: تفرد به زياد بن يحيى، وقد رواه أيوب عن نافع، وقال فيه: (واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء).
وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي بكرة، أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء، وقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدم).
الحمد لله؟؟؟فصل: وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي
واستحباب الحجامة، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال، وجواز احتجام المحرم، وإن آل إلى قطع شيء من الشعر، فإن ذلك جائز. وفي وجوب الفدية عليه نظر، ولا يقوى الوجوب، وجواز احتجام الصائم، فإن في صحيح البخاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم وهو صائم). ولكن هل يفطر بذلك، أم لا؟ مسألة أخرى، الصواب: الفطر بالحجامة، لصحته عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير معارض، وأصح ما يعارض به حديث حجامته وهو صائم، ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور. أحدها: أن الصوم كان فرضًا. الثاني: أنه كان مقيمًا. الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة. الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم).
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع، أمكن الإستدلال بفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلًا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضًا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها، لكنه مبقى على الأصل. وقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم)، ناقل ومتأخر، فيتعين المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها.
وفيها دليل على استئجار الطبيب وغيره من غير عقد إجازة، بل يعطيه أجرة المثل، أو ما يرضيه.
وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة، وإن كان لا يطيب للحر أكل أجرته من غير تحريم عليه، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطاه أجره، ولم يمنعه من أكله، وتسميته إياه خبيثًا كتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.
وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئًا معلومًا بقدر طاقته، وأن العبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه، ولو منع من التصرف، لكان كسبه كله خراجًا ولم يكن لتقديره فائدة، بل ما زاد على خراجه، فهو تمليك من سيده له يتصرف فيه كما أراد، والله أعلم.
الحمد لله؟؟؟؟فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قطع العروق والكي
ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا وكواه عليه.
ولما رمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ورمت، فحسمه الثانية. والحسم: هو الكي.
وفي طريق آخر: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كوى سعد بن معاذ في أكحله بمشقص، ثم حسمه سعد بن معاذ أو غيره من أصحابه.
وفي لفظ آخر: أن رجلًا من الأنصار رمي في أكحله بمشقص، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به فكوي.
وقال أبو عبيد: وقد أتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل نعت له الكي، فقال: (اكووه وارضفوه). قال أبو عبيد: الرضف: الحجارة تسخن، ثم يكمد بها.
وقال الفضل بن دكين: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كواه في أكحله.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس، أنه كوي من ذات الجنب والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حي.
وفي الترمذي، عن أنس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كوى أسعد بن زرارة من الشوكة)، وقد تقدم الحديث المتفق عليه وفيه (وما أحب أن أكتوي) وفي لفظ آخر: (وأنا أنهى أمتي عن الكي).
وفي جامع الترمذي وغيره عن عمران بن حصين، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الكي قال: فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا، ولا أنجحنا. وفي لفظ: نهينا عن الكي وقال: فما أفلحن ولا أنجحن.
قال الخطابي: إنما كوى سعدًا ليرقأ الدم من جرحه، وخاف عليه أن ينزف فيهلك. والكي مستعمل في هذا الباب، كما يكوى من تقطع يده أو رجله.
وأما النهي عن الكي، فهو أن يكتوي طلبًا للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتو، هلك، فنهاهم عنه لأجل هذه النية.
وقيل: إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة، لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفًا إلى الموضع المخوف منه، والله أعلم.
وقال ابن قتيبة: الكي جنسان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه.
والثاني: كي الجرح إذا نغل، والعضو إذا قطع، ففي هذا الشفاء.
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع، ويجوز أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقرب. انتهى.
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب (أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).
فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل. وأما النهي عنه، فعلى سبيل الإختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعل خوفًا من حدوث الداء، والله أعلم.؟؟؟فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، قال: قال ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، فقال: (إن شيءت صبرت ولك الجنة، وإن شيءت دعوت الله لك أن يعافيك، فقالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها).
قلت: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة.
والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه.
وأما صرع الأرواح، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها.
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع: المرض الإلهي، وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره، فتأولوا عليهم هذه التسمية، وقالوا: إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس، فنضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ.
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها، وتأثيراتها، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده.
ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعًا: يكون القلب خرابًا من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاح له.
والثاني: من جهة المعالج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه. أو بقول: بسم الله أو بقول لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: (اخرج عدو الله أنا رسول الله).
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه، ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب، فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا.
وكان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومد بها صوته. قال: فأخذت له عصا، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب،، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك، فقالت: أنا أدعه كرامة لك، قال: قلت: لا ولكن طاعة لله ولرسوله، قالت: فأنا أخرج منه، قال: فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالًا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ، قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة.
وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين.
وبالجملة فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر، والتعاويذ، والتحصنات النبوية والايمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانًا فيؤثر فيه هذا.
ولو كشف الغطاء، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الإمتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة، وبالله المستعان.
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا، وحلول المثلات والآفات بهم، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد داء هذا الصرع، ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعًا، لم يصر مستغربًا ولا مستنكرًا، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه.
فإذا أراد الله بعبد خيرًا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينًا وشمالًا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانًا قليلة، ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرة، ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط.؟؟؟؟فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج عرق النسا
روى ابن ماجه في سننه من حديث محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء).
عرق النساء: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدته، زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ، وهذا الحديث فيه معنى لغوي، ومعنى طبي. فأما المعنى اللغوي، فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافًا لمن منع هذه التسمية، وقال: النسا هو العرق نفسه، فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين. أحدهما: أن العرق أعم من النسا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كل الدراهم أو بعضها.
الثاني: أن النسا: هو المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه. قيل: وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي: فقد تقدم أن كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نوعان: أحدهما: عام بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثاني: خاص بحسب هذه الأمور أو بضعها، وهذا من هذا القسم، فإن هذا خطاب للعرب، وأهل الحجاز، ومن جاورهم، ولا سيما أعراب البوادي، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح، والقيصوم، ونحوهما، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان، صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها، ويكسبها مزاجًا ألطف منها، ولا سيما الألية، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة، وعليه أطباء الهند.
وأما الروم واليونان، فيعتنون بالمركبة، وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء، فإن عجز فبالمفرد، فإن عجز، فبما كان أقل تركيبًا.
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة، فالأدوية البسيطة تناسبها، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة، فغالبًا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركبة، والله تعالى أعلم؟؟؟؟فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج يبس الطبع
واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه
روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بماذا كنت تستمشين؟ قالت: بالشبرم، قال: حار جار، قالت: ثم استمشيت بالسنا، فقال: لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا).
وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: سمعت عبد الله بن أم حرام، وكان قد صلى مع رسول الله ـ صلى الله وسلم ـ القبلتين يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (عليكم بالسنا والسنوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام، قيل: يا رسول الله ! وما السام؟ قال: الموت).
قوله: بماذا كنت تستمشين؟ أي: تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذي باحتباس النجو، ولهذا سمي الدواء المسهل مشيًا على وزن فعيل. وقيل: لأن المسهول يكثر المشي والإختلاف للحاجة وقد روي: بماذا تستشفين؟ فقالت: بالشبرم، وهو من جملة الأدوية اليتوعية، وهو قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وأجوده المائل إلى الحمرة، الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف، وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها، وفرط إسهالها.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حار جار ويروى: حار يار، قال أبو عبيد: وأكثر كلامهم بالياء. قلت: وفيه قولان، أحدهما: أن الحار الجار بالجيم: الشديد الإسهال، فوصفه بالحرارة، وشدة الإسهال وكذلك هو، قاله أبو حنيفة الدينوري.
والثاني ـ وهو الصواب ـ أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول، ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي، ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه، كقولهم: حسن بسن، أي: كامل الحسن، وقولهم: حسن قسن بالقاف، ومنه شيطان ليطان، وحار جار، مع أن في الجار معنى آخر، وهو الذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له، كأنه ينزعه ويسلخه. ويار: إما لغة في جار، كقولهم: صهري وصهريج، والصهاري والصهاريج، وإما إتباع مستقل.
وأما السنا، ففيه لغتان: المد والقصر، وهو نبت حجازي أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الإعتدال، حار يابس فى الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء، ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه، وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي، ومن الشقاق العارض في البدن، ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر، ومن القمل والصداع العتيق، والجرب، والبثور، والحكة، والصرع، وشرب مائه مطبوخًا أصلح من شربه مدقوقًا، ومقدار الشربة منه ثلاثة دراهم، ومن مائه خمسة دراهم، وإن طبخ معه شيء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم، كان أصلح.
قال الرازي: السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكة، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم.
وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال، أحدها: أنه العسل. والثاني: أنه رب عكة السمن يخرج خططًا سوداء على السمن، حكاهما عمرو بن بكر السكسكي. الثالث: أنه حب يشبه الكمون وليس به، قاله ابن الأعرابي.
الرابع: أنه الكمون الكرماني. الخامس: أنه الرازيانج. حكاهما أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب. السادس: أنه الشبت. السابع: أنه التمر حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ. الثامن: أنه العسل الذي يكون في زقاق السمن، حكاه عبد اللطيف البغدادي. قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب، أي: يخلط السناء مدقوقًا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردًا لما في العسل والسمن من إصلاح السنا، وإعانته له على الإسهال. والله أعلم.
وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه: (إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي) والمشي: هو الذي يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج.؟؟؟؟فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
في الصحيحين من حديث قتادة، (عن أنس بن مالك قال: رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكة كانت بهما).
وفي رواية: (ن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما، شكوا القمل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزاة لهما، فرخص لهما في قمص الحرير، ورأيته عليهما).
هذا الحديث يتعلق به أمران: أحدهما: فقهي، والآخر طبي.
فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إباحة الحرير للنساء مطلقًا، وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ومصلحة راجحة، فالحاجة إما من شدة البرد، ولا يجد غيره، أو لا يجد سترة سواه. ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحكة، وكثرة القمل كما دل عليه حديث أنس هذا الصحيح.
والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمد، وأصح قولي الشافعي، إذ الأصل عدم التخصيص، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعم بعموم سببه.
ومن منع منه، قال: أحاديث التحريم عامة، وأحاديث الرخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير، ويحتمل تعديها إلى غيرهما. وإذا احتمل الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث: فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما، أم لا؟
والصحيح: عموم الرخصة، فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح بالتخصيص، وعدم إلحاق غير من رخص له أولًا به، كقوله لأبي بردة في تضحيته بالجذعة من المعز: (تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك) وكقوله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نكاح من وهبت نفسها له: (خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50].
وتحريم الحرير: إنما كان سدًا للذريعة، ولهذا أبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع، فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سدًا لذريعة الفعل، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سدًا لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حرم ربا الفضل سدًا لذريقة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير؟؟؟فصل: وأما الأمر الطبي
: فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان، ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية، لأن مخرجه من الحيوان، وهو كثير المنافع، جليل الموقع، ومن خاصيته تقوية القلب، وتفريحه، والنفع من كثير من أمراضه، ومن غلبة المرة السوداء، والأدواء الحادثة عنها، وهو مقو للبصر إذا اكتحل به، والخام منه ـ وهو المستعمل في صناعة الطب ـ حار يابس في الدرجة الأولى. وقيل: حار رطب فيها: وقيل: معتدل. وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخنًا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه.
قال الرازي: الإبريسم أسخن من الكتان، وأبرد من القطن، يربى اللحم، وكل لباس خشن، فإنه يهزل، ويصلب البشرة وبالعكس.
قلت: والملابس ثلاثة أقسام: قسم يسخن البدن ويدفئه، وقسم يدفئه ولا يسخنه، وقسم لا يسخنه ولا يدفئه، وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه، إذ ما يسخنه فهو أولى بتدفئته، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ، و ملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتان باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه.
قال صاحب المنهاج: ولبسه لا يسخن كالقطن، بل هو معتدل، كل لباس أملس صقيل، فإنه أقل إسخانًا للبدن، وأقل عونًا في تحلل ما يتحلل منه، وأحرى أن يلبس في الصيف، وفي البلاد الحارة.
ولما كانت ثياب الحرير كذلك، وليس فيها شيء من اليبس والخشونة الكائين في غيرها، صارت نافعة من الحكة، إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة، وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها، إذ كان مزاجها مخالفًا لمزاج ما يتولد منه القمل.
وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن، فالمتخذ من الحديد والرصاص، والخشب والتراب، ونحوها، فإن قيل: فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن، فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي أباحت الطيبات، وحرمت الخبائث؟
قيل: هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب، فمنكرو الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال.
ومثبتو التعليل والحكم ـ وهم الأكثرون ـ منهم من يجيب عن هذا بأن الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه، وتتركه لله، فتثاب على ذلك لا سيما ولها عوض عنه بغيره.
ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء، كالحلية بالذهب، فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء، ومنهم من قال: حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب. ومنهم من قال: حرم لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث، وضد الشهامة والرجولة، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث، والرخاوة ما لا يخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية ورجولية، فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها، وإن لم يذهبها، ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا، فليسلم للشارع الحكيم، ولهذا كان أصح القولين: أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث.
وقد روى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب، وحرمه على ذكورها). وفي لفظ: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم).
وفي صحيح البخاري عن حذيفة قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه، وقال: (و لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة).؟؟؟؟
(((((((((معجزات حسية للنبي صلي الله علي وسلم)))))إن من أعظم دلائل النبوة ما يؤتيه الله أنبياءه من خوارق العادات التي يعجز عن فعلها سائر الناس، وتمكينهم من هذه الخوارق إنما هو بفعل الله، وهو دليل رضا الله وتأييدِه لهذا الذي يدعي النبوة والرسالة، ولا يمكن أن يؤيد الله بعونه وتوفيقه من يدعي الكذب عليه ويُضل الناسَ باسمه.
ومن هذه المعجزات التي أوتيها الأنبياء؛ حبس الله الشمس عن الغروب لنبيه يوشع بن نون، قال e : ((غزا نبي من الأنبياء .. فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنتِ مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه )). لقد خرق الله سنته في جريان الشمس إكراماً لنبي الله يوشع، واستجابة لدعائه لله.
وبمثله أيد الله موسى عليه السلام، فقد شقّ الله له البحر لما ضربه بعصاه، فصار طرقاً ممهدة يمشي بنو إسرائيل عليها في دعة وسكينة.
وبمثل هذه المعجزات أيدالله نبيه محمداً e، فرأى مشركو مكة منه الكثير من دلائل النبوة الدالة على نبوته e، لكنهم لم يؤمنوا ولم يذعنوا للحق، بل طلبوا على سبيل العناد المزيد من الآيات } وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً % أو تكون لك جنةٌ من نخيلٍ وعنبٍ فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً % أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً % أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً{ (الإسراء:90-93).
وحتى يقيم الله حجته على قريش فإنه آتى نبيه e معجزة من جنس ما طلبوه على سبيل التعجيز، إلا وهي انشقاق القمر، وهو حدث عظيم لا يقع إلا بتقدير العزيز العليم.
فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود t أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله e فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله e : ((اشهدوا)).
قال الخطابي: “انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جبلة طباع ما في هذا العالم، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر”.
قال ابن كثير بعد أن ساق روايات عدة لحادثة انشقاق القمر: “فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده مع وروده في الكتاب العزيز .. والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء، بل انفرق باثنتين، وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى، وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظن كثير من جهلتهم أن هذا شيء سحرت به أبصارهم، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحة ذلك وتيقنوه”.
وهذا الذي حكاه الله بقوله: } اقتربت الساعة وانشق القمر % وإن يروا آيةً يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر % وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمرٍ مستقر { (القمر: 1-3)، فلم يجدوا أمام هذه الآية الباهرة إلا أن يتهموا نبي الله e بالسحر.
واليوم في عصر العلم والمعرفة تتجدد هذه الآية العظيمة، فقد نشرت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في موقعها على شبكة الإنترنت صورة للقمر، وقد اخترطه خط طويل من أقصاه إلى أقصاه، ويعتقد العلماء أنه أثر لانشقاق حصل في القمر قديماً.
وصدق الله وهو يقول : } سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيدٌ { (فصلت: 53).
ومن خوارق العادات المعجزة التي آتاها الله نبيه e ما أعطاه من استجابة الجماد لأمره، والمعهود فيه خلاف ذلك، فقد أتى النبيَ e رجل من بني عامر، فقال له رسول الله e : ((ألا أريك آية؟)) قال: بلى. فنظر إلى نخلة، فقال (العامري للنبي e): ادع ذلك العذق!
قال: فدعاه، فجاء ينقز حتى قام بين يديه فقال له رسول الله e: ((ارجع)) فرجع إلى مكانه.
فقال العامري: يا آل بني عامر، ما رأيت كاليوم رجلاً أسحر.
وفي رواية لابن حبان أن العامري قال: “والله لا أكذبك بشيء تقوله أبداً”، ثم قال: “يا آل عامر ابن صعصعة، والله لا أكذبه بشيء يقوله”.
إن تحرك الشجرة من مكانها وذهابها ومجيئها لهو آية معجزة وبرهان دامغ على صدقه ونبوته e.
ويروي الإمام مسلم نحو هذه المعجزة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: سرنا مع رسول الله e حتى نزلنا واديا أفيح (واسعاً) فذهب رسول الله e يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله e، فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي.
فانطلق رسول الله e إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي علي بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوش [المربوط بالحبل] الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي علي بإذن الله)) فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لأم بينهما، يعني جمعهما فقال: ((التئما علي بإذن الله)) فالتأمتا.
ثم يمضي جابر في حديثه ويخبرنا بعود الشجرتين إلى حالهما بعد قضاء النبي e حاجته، يقول: فإذا أنا برسول الله e مقبلاً، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق”.
قال الإمام أحمد: “في الحديث آيات من دلائل نبوة النبي e منها: انقلاع الشجرتين واجتماعهما، ثم افتراقهما”.
وفي جنبات مكة ثبت الله قلب حبيبه e في مواجهة المحن بآية من هذا الجنس، فقد جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله e، وهو حزين قد خضب وجهه بالدماء، قد ضربه بعض أهل مكة، فقال: مالك؟ فقال: ((فعل بي هؤلاء، وفعلوا)) فقال جبريل: أتحب أن أريك آية؟ قال: ((نعم أرني)).
فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها: فرجعت، حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله e : ((حَسْبي)). إنه دليل آخر من دلائل نبوته e.
ومن معجزات الأنبياء ما أعطاه اللهُ داودَ عليه السلام، ذلك النبي الأواب الذي كان يسبح الله، فتجيبه الجبال الرواسي والطيور مسبحة الله تعالى معه } وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين { (الأنبياء: 79). } ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد { (سبأ: 10).
وبمثل هذه المعجزات العظيمة أيد الله نبيه محمداً e ، فسبح للهِ بين يديه الجمادُ ، وشهد له بالنبوة والرسالة.
يقول ابن مسعود t: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل. أي بين يدي النبي e.
ويقول أبو ذر t: إني شاهد عند النبي r في حَلْقَة، وفي يده حصى، فسبّحنَ في يده. وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحَهن مَنْ في الحَلْقَة، ثم دفعهنّ النبي r إلى عمر، فسبحن في يده، وسمع تسبيحهنّ مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي r إلى عثمان بن عفان، فسبّحن في يده، ثم دفعهن إلينا، فلم يسبّحن مع أحدٍ منا.
ويقارن ابن كثير بين هذه المعجزة ومعجزة نبي الله داود عليهما السلام، فيقول: “ولا شك أن صدور التسبيح من الحصى الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها؛ أعجب من صدور ذلك من الجبال؛ لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تردِّدُ صدى الأصوات العالية غالباً .. ولكن من غير تسبيح؛ فإن ذلك (أي تِردادَها بالتسبيح) من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصى في كف رسول الله r وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب”.
وصدق الشاعر وهو يقول:
لئن سبحت صم الجبال مجيبة لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصم لانت بكفه وإن الحصا في كفه ليسبح
وإن من معجزاته e العظيمة نطقُ الجمادات بين يديه، فالجمادات لا تعقل ولا تنطق، فإذا أنطقها الله بتصديقه، فهو دليل رضاهُ عن النبي في قوله بنبوة نفسه وصدقه حين قال بإرسال الله إياه.
وقد بدئ e بآية من هذا النوع قبل نبوته ، فكان الحجر يسلم عليه، يقول رسول الله e: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)).
قال النووي: “فيه معجزة لرسول الله r”.
وبعد البعثة رأى الصحابة ذلك، يقول علي t: (كنا مع رسول الله e بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله).
ولم تتوقف هذه الآيات والمعجزات عند السلام عليه e والتسبيح بين يديه وأيدي أصحابه، بل أنطقها الله بالشهادة له e بالنبوة والرسالة.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا مع النبي e في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله e : ((أين تريد؟)) قال: إلى أهلي، قال: ((هل لك في خير؟)) قال: وما هو؟ قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله)).
قال الأعرابي: ومن يشهد على ما تقول؟ فأشار النبي إلى شجرة، وقال: ((هذه السلَمَة))، فدعاها رسول الله e وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تَخُدُّ الأرض خداً حتى قامت بين يديه, فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً أنه كما قال.
ثم رجعت إلى منبَتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: إن اتبعوني أتيتُكَ بهم، وإلا رجعتُ فكنتُ معك.
ومن عظيم خوارق العادات التي أوتيها النبي r حنين الجذع الذي كان يخطب عليه في يوم الجمعة، وهي قصة مشهورة شهدها الكثير من أصحاب النبي r، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان النبي e يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً؟ قال: ((إن شئتم)). فجعلوا له منبراً.
فلما كان يوم الجمعة دُفِعَ إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي e، فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسكَّن، قال جابر: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
قال ابن حجر: “إن حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كلٌ منهما نقلاً مستفيضاً، يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث “.
قال البيهقي : “قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف , ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف”. أي لشهرتها وذيوع أمرها.
قال الشافعي: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمدًا , فقال له عمرو بن سواد: أعطى عيسى إحياء الموتى؟ قال: أعطى محمداً حنينَ الجِذعِ حتى سمع صوته , فهذا أكبر من ذلك”.
قال ابن كثير: “وإنما قال: فهذا أكبر منه؛ لأن الجذع ليس محلاً للحياة، ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحوّل عنه إلى المنبر، فأنّ وحنّ حنين العِشار [أي الناقة الحامل]، حتى نزل إليه رسول الله e ، فاحتضنه.. “؟؟؟؟((((((((((((((قال الفيلسوف والمؤرخ ( ويل ديورانت ) في كتاب قصة الحضارة:
” وإذا حكمنا على العظمة, بما كان للعظيم من أثر على الناس, قلنا بأن محمدا كان من أعظم عظماء التاريخ, فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي, في شعب ألقت به دياجير الهمجية, حرارة الجو, وجدب الصحراء, وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانيه فيه أي قائد آخر في التاريخ كله ”
قال الفيلسوف الإنجليزي ( برناردشو (
” إن العالم هو أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد, هذا النبي الذي أحل دينه في موضع الاحترام والإجلال, فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات, خالد خلود الأبد, وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخلوا في الدين على بينة, وسيجد ه ذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة ( أوربا ) وإذا أراد العالم النجاة من شروره, فعليه بهذا الدين, إنه دين السلام والعدالة والسعادة, في ضل شريعة متمدينة محكمة. لم تنس أمرا أمور الدنيا إلا رسمته, ووزنته بميزان لا يخطي أبدا… ”
وقال أيضا:
” إن محمدا يجب إن يدعى منقذ الإنسانية, إنني اعتقد لو تولى رجل مثله زعامة العالم الحديث, لنجح في حل مشاكله بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة, إن محمدا هو أكمل البشر من الغابرين والحاضرين, ولا يتصور وجود مثله في الآتيين ” .
وقال العالم الفرنسي ( مارتين (
” إن حياة مثل حياة محمد, وقوة كقوة تأمله, وتفكيره وجهاده, ووثبته على خرافات أمته, وجاهلية شعبه, وبأسه في ما لقيه من عبدت الأوثان وإيمانه بالظفر, وإعلاء كلمته, ورباطة جأشه لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية, أن كل ذلك أدلة على إنه لم يكن ليضمر لأحد أذى , أو يعيش على باطل , فهو فيلسوف وخطيب , ورسول ومشرع , وهاد للإنسان إلى العقل , وناشر للعقائد المعقولة الموافقة للذهن واللب , وهو مؤسس دين لا فرية فيه , ولا صورة فيه , ومنشئ عشرين دولة في الأرض وفاتح دولة في السماء من ناحية الروح والفؤاد , فأي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثلما أدرك ,أي أفاق بلغ أي إنسان من مراتب الكمال ما بلغ محمد ”
وقال الأديب الروسي( توليستوي(
” لا ريب أن هذا النبي من كبار الرجال المصلحين, الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة, ويكفيه فخرا أنه فتح لها طريق التقدم والرقي, وهذا عمل عظيم لا يفوز به إلا شخص أوتي قوة وحكمة وعلما. ورجل مثله جدير بالإجلال والاحترام ”
يقول الأستاذ / نيللينو المستشرق الإيطالي
” لقد أسس محمد في وقت واحد دينا ودولة ، وكانت حدودهما متطابقة طول حياته ” .
تقول موسوعة بريتانسيا في المجلد 12 أن محمد ”كان رجلا صادقا وأمينا“
يقول مايكل هارت في كتابه: ال 100: تصنيف أكثر ألأفراد تأثيرا في التاريخ :
” كان سبب اختياري أن يكون محمد على قمة قائمة المائة شخص ذو التأثير في التاريخ هو أنه كان ناجحا على كلى الصعيدين الدنيوي والديني“
يقول شندا شارما: “لقد كان محمد يمثل روح الطيبة”
مأخوذ من موقع التالي مع التعديل
؟؟؟؟؟؟((((ملخص لمائة خصلة انفرد بها صلى الله عليه وسلم
عن بقية الأنبياء السابقين عليهم السلام
للدكتور /خليل إبراهيم ملا خاطر
أستاذ مشارك في المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة النبوية
لخصها إبراهيم الحدادي
ما أكرمه الله تعالى به لذاته في الدنيا
1. أخذ الله له العهد على جميع الأنبياء ، صلى الله عليه وسلم .
2. كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم .
3. كان نبيا وآدم منجدل في طينته صلى الله عليه وسلم .
4. هو أول المسلمين صلى الله عليه وسلم .
5. هو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم .
6. هو نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .
7. هو أولى بالأنبياء من أممهم صلى الله عليه وسلم .
8. هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم صلى الله عليه وسلم .
9. كونه منة يمتن الله بها على عباده .
10. كونه خيرة الخلق ، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم .
11. طاعته ومبايعته هي عين طاعة الله ومبايعته .
12. الإيمان به مقرون بالإيمان بالله تعالى .
13. هو رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم .
14. هو أمنة لأمته صلى الله عليه وسلم .
15. عموم رسالته صلى الله عليه وسلم .
16. تكفل المولى بحفظه وعصمته صلى الله عليه وسلم .
17. التكفل بحفظ دينه صلى الله عليه وسلم .
18. القسم بحياته صلى الله عليه وسلم .
19. القسم ببلده صلى الله عليه وسلم .
20. القسم له صلى الله عليه وسلم .
21. لم يناده باسمه صلى الله عليه وسلم .
22. ذكر في أول من ذكر من الأنبياء .
23. النهي عن مناداته باسمه صلى الله عليه وسلم .
24. لا يرفع صوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم .
25. تقديم الصدقة بين يدي مناجاتهم له ( ثم نسخ ذلك ).
26. جعله الله نورا صلى الله عليه وسلم .
27. فرض بعض شرعه في السماء صلى الله عليه وسلم .
28. تولى الإجابة عنه صلى الله عليه وسلم .
29. استمرار الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
30. الإسراء والمعراج به صلى الله عليه وسلم .
31. معجزاته صلى الله عليه وسلم .
32. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وسلم .
33. تأخير دعوته المستجابة ليوم القيامة صلى الله عليه وسلم .
34. أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم .
35. أعطي مفاتيح خزائن الأرض صلى الله عليه وسلم .
36. إسلام قرينه من الجن صلى الله عليه وسلم .
37. نصره بالرعب مسيرة شهر صلى الله عليه وسلم .
38. شهادة الله وملائكته له صلى الله عليه وسلم .
39. إمامته بالأنبياء في بيت المقدس صلى الله عليه وسلم .
40. قرنه خير قرون بني آدم صلى الله عليه وسلم .
41. ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة صلى الله عليه وسلم .
42. أعطي انشقاق القمر صلى الله عليه وسلم .
43. يرى من وراء ظهره صلى الله عليه وسلم .
44. رؤيته في المنام حق صلى الله عليه وسلم .
45. عرض الأنبياء مع أممهم عليه صلى الله عليه وسلم .
46. جعل خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم .
47. اطلاعه على المغيبات صلى الله عليه وسلم .
ما أكرمه الله تعالى به في الآخرة
48- وصفه بالشهادة صلى الله عليه وسلم .
49- ما أعطي من الشفاعات صلى الله عليه وسلم .
50- هو أول من يبعث صلى الله عليه وسلم .
51-هو إمام الأنبياء وخطيبهم صلى الله عليه وسلم .
52- كل الأنبياء تحت لوائه صلى الله عليه وسلم .
53- هو أول من يجوز على الصراط صلى الله عليه وسلم .
54- هو أول من يقرع باب الجنة صلى الله عليه وسلم .
55- هو أول من يدخل الجنة صلى الله عليه وسلم .
56-إعطاؤه الوسيلة والفضيلة صلى الله عليه وسلم .( الوسيلة : اعلى منزلة في الجنة ).
57-إعطاؤه المقام المحمود صلى الله عليه وسلم .( وهي الشفاعة العظمى ).
58- إعطاؤه الكوثر صلى الله عليه وسلم .( وهو نهر في الجنة ).
59- إعطاؤه لواء الحمد صلى الله عليه وسلم .
60-يكون له كرسي عن يمين العرش صلى الله عليه وسلم .
61-هو أكثر الأنبياء تبعا صلى الله عليه وسلم .
62- هو سيد الأولين والآخرين يوم القيامة صلى الله عليه وسلم .
63- هو أول شافع ومشفع صلى الله عليه وسلم .
64- هو مبشر الناس يوم يفزع إليه الأنبياء صلى الله عليه وسلم .
65- ما يوحى إليه في سجوده تحت العرش مما لم يفتح على غيره من قبل ومن بعد صلى الله عليه وسلم .
66- منبره على حوضه صلى الله عليه وسلم .
ما أكرمه الله به في أمته في الدنيا
67- جعلت خير الأمم .
68- سماهم الله تعالى المسلمين ، وخصهم بالإسلام .
69- أكمل الله لها الدين ، وأتم عليها النعمة .
70- ما حطه الله لها عنها من الاصر والاغلال .
71- صلاة المسيح خلف إمام المسلمين .
72- أحلت لها الغنائم .
73- جعلت صفوفها كصفوف الملائكة .
74- التيمم والصلاة على الأرض .
75- خصهم بيوم الجمعة .
76- خصهم بساعة الإجابة يوم الجمعة .
77- خصهم بليلة القدر .
78- هذه الأمة هي شهداء الله في الأرض .
79- مثلها في الكتب السابقة ( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ).
80- لن تهلك بجوع ، ولا يسلط عليها عدو من غيرها فيستأصلها .
81- خصت بصلاة العشاء .
82- تؤمن بجميع الأنبياء .
83- حفظها من التنقص في حق ربها عز وجل .
84- لا تزال طائفة منها على الحق منصورة .
ما أكرمه الله تعالى به في أمته في الآخرة
85- هي شاهدة للأنبياء على أممهم .
86- هي أول من يجتاز الصراط .
87- هي أول من يدخل الجنة ،وهي محرمة على الناس حتى تدخلها .
88- انفرادها بدخول الباب الأيمن من الجنة .
89- سيفديها بغير من الأمم .
90- تأتي غرا محجلين من آثار الوضوء .
91- هي أكثر أهل الجنة .
92- سيرضي الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها .
93- زيادة الثواب مع قلة العمل .
94- كلها تدخل الجنة إلا من أبى بمعصيته لله ورسوله للحديث الذي رواه البخاري .
95- كثرة الشفاعات في أمته .
96- تمني الكفار لو كانوا مسلمين .
97- هم الآخرون في الدنيا السابقون يوم القيامة .
98- دخول العدد الكثير منها الجنة بغير حساب .
99- لها علامة تعرف بها ربها عز وجل وهو الساق .
100- فيها سادات أهل الجنة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرجع كتاب /تذكير المسلمين باتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
المؤلف /عبد الله بن جار الله؟؟؟؟؟(((((((((((((((إن لم يكن رسول فماذا يكون؟؟؟
فكيف علم الحقائق العلمية التي اكتشفها العلم الحديث الآن وذكرها في القرآن ( كتاب المسلمين ) من 1400 سنة واعترف بهذا علماء الأجنة والفلك والفيزياء والأطباء . الدليل من القرآن كالتالي ( رقم السورة ، رقم الآية )
-كيف علم مراحل تكوين الجنين وتفاصيل خلقه ( نطفة ، علقة ، مضغة ، عظام ) (سورة رقم 23 ، آية 14 ) (22،5) (76،2) (39،6).
-كيف علم أن الانسان القديم كان كبير الحجم ووصف لنا العصر الجليدي القديم .
-كيف أخبرنا بحزام الصدوع الذي يمتد في القشرة الأرضية (سورة رقم 86 ، آية 12 ) .
-كيف علم بوجود البراكين تحت البحار ( سورة رقم 52 ، آية 6 ) .
-كيف علم أنواع السحب ووصفها بدقة ( طبقية ، ركامية ، معصرات ) ( سورة رقم 78 ، آية 14 ) (43,24) (48,30)
-كيف علم باهتزازه (مندل) التي تحدث لحبيبات التربة عند نزول المطر ( 22 ،5 )
-كيف علم الجبال وانغراسها العميق في باطن الأرض وتثبيتها للقشرة الأرضية(78،7).
-كيف علم أن الحديد نزل إلى الأرض على شكل شهب ونيازك في بداية تكوين الأرض وجعل العدد الذري وعدد الكتلة لذرة الحديد لهما علاقة برقم سورة وآية الحديد التي تصف هذه الحقيقة (25,57).
-كيف اكتشف علماء ناسا حزاما من الصخور المتحولة في القمر يدل على أنه يوما ما انقسم الى نصفين وهي من معجزاتــه (1,54) .
-كيف علم خصائص النجوم والثقوب السوداء ( 86،3 )( 56،75 )(86،3)(53،1)
-كيف أخبرنا بالاتساع اللامتناهي للسماء (51،47)(21،32)(50،6)
كيف علم أن الكون تكون من الدخان (Steam) (41،11) (21،30).
اذا لا بد أنه صادق وأنه رسول من الرب وما دام صادقا فأين تذهبون ؟
اعلم أن الاسلام نسخ الأديان السابقة كما نسخ المسيح اليهودية .
(من المدهش أن هذا النوع من المعلومات موجود في القرآن) ب.هيل من علماء البحار.
(هذا النبي يدلي بتصريحات علميه ودقيقه جدا من 1400سنه ولا أجد بدا من أن أوافق عقلي و أعترف أن هذا وحى أو الهام) تي في فان سان أستاذ أمراض نساء.
-ما قولك في هذه النصوص من التوراة والإنجيل (كلامه أحسن الكلام انه محمد العظيم ) مزامير داود اصحاح 16 الفقرة الخامسة .
(نبوه في جبال فاران )(نبيا من إخوانهم )،(انه النبي الذي يقال له اقرأ فيقول ما أنا بقارئ)
-لو قرأت القرآن فستعلم أنه ليس شعرا ولا نثرا وأنه يستحيل أن يكون من كلام البشر ولو قلت أنه من كلام البشر فكيف علم هذه الحقائق وكيف ذكر كلمة ( يوم ) في القرآن 365 مره بعدد أيام السنة وكلمة (شهر) 12 مرة بعدد شهور السنة .
وذكر كلمة (رجل) 24 مرة وكذلك ( امرأة ) 24 مرة .
وكلمة ( أخ ) 4 مرات وكذلك ( أخت ) 4 مرات .
وكلمة ( الدنيا ) 115مرة وكذلك (الآخرة) 115مرة .
وكلمة ( الحياة ) ومشتقاتها 145مرة وكذلك ( الموت ) ومشتقاته 145مرة .
فكيف يمكن لبشر أن يفعل كل هذا ؟
يولد الإنسان على دين ما وهذا لا يعني أن هذا الدين هو الدين الصحيح
وإنما يعرف الدين الصحيح بالحجة و البرهان و الدليل
*** (التفسير الوحيد أن هذه الحقائق أوحيت لمحمد من الرب) كيث مور من كبار علماء الأجنه
*** (لابد ان هذه الحقائق جاءت من خالق عليم بكل شيء واصبحت مسلما) تاجاسون عالم تشريح
*** (لا اختلاف بين هذا الوحي والمعرفة الطبية) جولي سمبسون أستاذ نساء و ولادة
*** (إن هذا لا يمكن أن يكون إلا بوحي من أعلى) ألبرت كوهان جيولوجي
*** (ان هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطه في الوجود) يوشيدى كوزاى عالم فضاء يابانى
*** (نعم انه الوحي لا طريق أمام البشرية إلا أن تقر أن هذا القرآن من عند الرب) مارشال جونسون عالم أحياء
اذا كان النبى محمد صلى الله عليه و سلم كاذبا ً
فكيف علم من 1400 سنة وأخبرنا في القرآن بالحقائق العلمية التي اكتشفها العلم الحديث الآن واعترف بهذا علماء البحار والفلك والطب والجيولوجيا .
كيف علم تناقص حجم الأرض الذي يحدث من ملايين السنين ( الأنبياء ،44 )(الرعد،41) .
كيف أخبرنا بتناقص الهواء والضغط كلما صعدنا لأعلى ( الأنعام ، 125 ) .
كيف علم أن الجبهة ( الجزء الأمامي من المخ ) هي مركز اتخاذ القرار وأنها قد تكذب وقد تخطئ ( العلق ،16 ) .
كيف أخبرنا بالألوان الأساسية للصخور وقسمهم الى مجموعتين ثم اكتشفنا أن احداهما تمثل الخاصية القلوية ( القاعدية ) والأخرى تمثل الخاصية الحمضية ( فاطر ،27 ) .
قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : (( عجز الذنب منه خلق الانسان ومنه يركب الخلق يوم القيامة )) ، واكتشف علم الوراثة أن عجب الذنب به الشفرة والرمز الوراثي (DNA) للانسان .
أخبرنا الرسول أن الجنين اذا مر به 42 يوما نزل له ملك فصوره وقد يسر لك العلم الحديث أن ترى الجنين بعد 42 يوما وقبلها وستلاحظ الفرق بنفسك فكيف علم محمد بهذا ؟
بم تفسر انغراس قدم إسماعيل عليه السلام في الصخرة الصلبة التي كان يقف عليها لبناء الكعبة و هي باقية حتى يومنا هذا أمام الكعبة وتستطيع رؤيتها بنفسك ?? وبم تفسر توسط مكة للكره الأرضية و بقاء مياه زمزم حتى يومنا هذا و هو بئر لا مثيل له تأتيه المياه عبر الآلاف الأميال بالخاصية الشعرية ?? وبم تفسر علماء الجيولوجيا الذين سرقوا أجزاء من الحجر الأسود بالكعبة و لم يعلموا مادته و لا نوعه وقالوا انه فريد من نوعه .
*** ( باستطاعة تلك الأحاديث أن تسود المعرفة الطبية ) جولي سمبسون .
*** ( لا يمكن أن يكون من مصدر بشري لا بد أنه من الله ) بروفسور هيل .
*** ( إني أوافق أن هذا من الوحي ) ب.سياويدا عالم ياباني .
*** ( هذه الحقائق لا يمكن أن تكون من عقل محمد ولا من عقلية عصره ) ألبرت كوهان عالم جيولوجيا
*** ( يتضح لي أن هذه الأدلة حتما جاءت لمحمد من عند الرب وهذا يعني أن محمد لابد أنه رسول من الله وأؤمن أن القرآن كلام الله ) :كيث مور عالم أجنة .
*** ( من القرآن أستطيع أن أرى تصورا مستقبليا للبحث في الكون ) يورشيدى كوزاى عالم فضاء .
-واعلم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يؤمن بالإله الكامل الواحد الذي له مطلق الكمال في القدرة و العلم و الحكمة?????? (((((((((صفحات من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم
صالح بن ساير المطيري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
ما أجمل الكلام عن رجل عظيم ، وعن قدوة مربي ، في زمن قل فيه القدوات الحقة . من حياته نستلهم حياة الطهر والكرامة في وقت الفضائيات التي جاءت على الأخلاق والحياء فنسفتها ونشرت الرذيلة وقلة الحياء والفساد فأخرجت للناس قدوات وهمية وربطتهم بحياة اللهو والمجون . الحديث عن القدوة في زمن التخاذل والجري وراء سراب التبعية المقيتة للأعداء . الحديث عن العظمة بشتى صورها في زمن الاغترار بالأعداء والانبهار بعظمتهم وقوتهم والخوف منهم . الحديث عن رجل أحيا أمة وأعلن دولة وأقام شرعة ، أذل الله به الكفر وأهله ، ونصر به الحق وجنده ، الحديث عن رجل نصر بالرعب مسيرة شهر وجعل رزقه تحت ظل رمحه وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، حديثنا عن رجل الكلمة الصادقة والبيان الصائب والفكرة الهادفة في زمن تسارع فيه خفافيش الظلام وخونة الكلمة وتكلم الرويبضة . إن هذا الرجل الذي نتحدث عنه هو : محمد صلى الله عليه وسلم . كانت حياته صلى الله عليه وسلم حياة أمة وقيام دعوة ومنهاج حياة . وهو عليه الصلاة والسلام أمة في الطاعة والعبادة وكرم الخلق وحسن المعاملة وشرف المقام ويكفي ثناء الله عز وجل عليه : { وإنك لعلى خلق عظيم } . ونحن ـ أهل السنة والجماعة ـ ننزل المصطفى صلى الله عليه وسلم المنزلة الحقة اللائقة به فهو عبد الله ورسوله وصفيه وخليله نهى عن إطرائه والغلو فيه فامتثلنا أمره فلا نبتدع الموالد ولا نقيم الاحتفالات ، بل نحبه كما أمر ونطيعه فيما أمر ونجتنب ما نهى عنه وزجر .
إن فاتنا في هذه الدنيا رؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم وتباعدت بيننا الأيام ... فندعو الله عز وجل أن نكون فيمن قال فيهم صلى الله عليه وسلم :
" وددت أنا قد رأينا إخواننا " قالوا : ألسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : " أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد
" فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : " أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دُهم بُهم ألا يعرف خيله ؟" قالوا بلى يا رسول الله قال : " فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " رواه مسلم.
ندعو الله سبحانه أن يجعلنا ممن يتلمس أثره صلى الله عليه وسلم ويقتفي سيرته وينهل من سنته ، وأن يجمعنا معه في جنات عدن ، وأن يجزيه الجزاء الأوفى جزاء ما قدم .
حاجتنا إلى دراسة حياته صلى الله عليه وسلم :
إن البشرية التائهة في ظلمات الجهل والشهوات ، وهي تتنكب الطريق وتبحث عن مخرج من أزمتها وما هي فيه بحاجة إلى نور النبوة . وإن أمة الإسلام وهي تعيش في ظلام دامس بحاجة ماسة إلى العودة والتمعن في سيرة هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام . وثمت أمور عدة تبين بوضوح وجلاء حاجتنا إلى معرفة سيرته وأخذ المنهج منها في السير إلى الله سبحانه ومن هذه الأمور ما يلي :
1. إن الله أمرنا بالاقتداء به فقال سبحانه : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } وذلك يقتضي معرفة تلك السيرة العطرة لتحقيق الاقتداء الصحيح به .
2. إن حياته صلى الله عليه وسلم حياة المعصوم عن الخطأ والضلال فهو القدوة المطلقة وهو الصورة التطبيقية العملية لهذا الدين وجميع الطرق الموصلة إلى الله تعالى ثم إلى الجنة موصودة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم ، ويمتنع أن يعرف دين الله ويصح الإسلام بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه ومنهجه وسنته .
3. إن حياته مدرسة كاملة تخرج الأجيال تلو الأجيال ، فلقد سالم وحارب ، وأقام وسافر ، وباع واشترى ، وأخذ وأعطى وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده ولا غاب عن الناس يوماً واحداً . ولقد لاقى أصناف الأذى ، وقاسى أشد أنواع الظلم ، وكانت العاقبة والنصر والتمكين له . بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر ، وانحراف في الفطر ، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله . فاستطاع بعون الله له أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة ، فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة ، فأصبحوا أئمة الهدى ومنارات الدجى وقادة البشرية .
هل تطلبون من المختار معجزة **** يكفيه شعب من الأجداث أحياه .
من وحد العرب حتى كان واترهم**** إذا رأى ولد الموتور أخــــــــاه.
وما أصيب المسلمون اليوم إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به والأخذ بهديه واتباع سنته .
وكيف يُسامى خير من وطئ الثرى **** وفي كل باع عن عُلاه قُصور .
وكل شريف عنده متــواضـــــــــــع **** وكل عظيم القريتين حقيـــــــر.
4 ـ إن سيرته صلى الله عليه وسلم رسمت المنهج الصحيح الآمن في دعوة الناس وهداية البشر ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة . وقد فشلت جميع المناهج والطرق والاطروحات التي تنكبت هديه صلى الله عليه وسلم سواء في محيط الفرد أو المجتمعات ، إن الأمة وهي تعيش في ظلام دامس وتناقضات غريبة وتعيش هجمة صليبية حاقدة عليها في دينها وأخلاقها ومسلماتها بحاجة ماسة إلى مجدد يترسم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وينهج نهجه ، إن الأمة وهي تعيش عيشة الذل والهوان في زمن تسلط الأعداء واستحلال كثير من بلاد الإسلام تتلفت يمنة ويسرة لتبحث عن قدوة كاملة بين هذا الركام المتلاطم ، وفي هذه الفتن التي تعصف بها عصفاً فلن تجد هدياً يخرجها مما هي فيه ويحقق لها السعادة إلا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تبرز معالم الاقتداء به عليه الصلاة والسلام . إن البشرية الضائعة في متاهات الضلال لم تدرك حق محمد صلى الله عليه وسلم ولم تعلم مدى الفلاح في السير على منهاجه .????جوانب من معالم الاهتداء في حياته صلى الله عليه وسلم :
1ـ العبادة في حياته :
للنبي صلى الله عليه وسلم شأن عظيم مع العبادة ومواصلة القلب بالله عز وجل . فهو لا يدع وقتاً يمر دون ذكر الله عز وجل وحمده وشكره . و قد كانت حياته كلها عبادة لله سبحانه ، خاطبه ربه بقوله تعالى : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * } [ المزمل : 1 ـ 4 ] . فاستجاب لربه فقام حتى تفطرت قدماه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم يصلي حتى تنتفخ قدماه ، فيقال له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " .
وعن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله بالليل فقالت : (( كان ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام فإذا سمع النداء الأول (قالت ) وثب ،( ولا والله ما قالت قام ) فأفاض عليه من الماء ( ولا والله ما قالت اغتسل . وأنا أعلم ما تريد ) و إن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين )) البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم 1/510 . وكان يطيل صلاته بالليل ويناجي ربه ويدعوه ويستعين بهذا الورد الليلي في القيام بأعباء الدعوة وأمور الأمة .
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح البقرة فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى فقلت : يصلي بها في ركعة ، فمضى ، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد ، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ، ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى قريباً من قيامه )) رواه مسلم 1/536.
والإمام القدوة صلى الله عليه وسلم كان وقته عامراً بالطاعة والعبادة . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه )) رواه مسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم " )) أبو داود . وكذا عن ابن عمر في الترمذي .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " البخاري . وتقول أم سلمة رضي الله عنها عن أكثر دعاء الرسول إذا كان عندها : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " الترمذي .
ولنا بهذا الإمام أسوة حسنة : فعبادة الله من صلاة وصيام وصدقة وحج وعمرة وذكر وقراءة ... إلى آخرة يجب أن نقوم بها كما أمر الله ويجب أن نشعر أننا بحاجة ماسة إلى عبادة الله . إن الدرس الذي نستفيده من عبادة رسول الله هو :
أن العبادة هي الزاد الحقيقي الذي يحتاج إليه العبد في سيره إلى الله تعالى . والعبادة هي الطريق إلى ولاية الله للعبد الذي بموجبها يكون في حفظ الله ورعايته ويكون في أمان من أعدائه ففي الحديث : " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدى بأحب مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " وفي الحديث : " احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك ......... "
وإذا كانت العبادة بهذه المكانة في الدين ففي هذه الأزمان التي تضطرب بالفتن والمغريات والشهوات أشد حاجة إليها لتثبيت الإيمان وترسيخ الأقدام على الطريق المستقيم . روى معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العبادة في الهرج كهجرة إلي " وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله " العمل في الهرج والفتنة كالهجرة إلي "
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : (( وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه ))??????ـ طبيعة بيت النبوة :
كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم يمثل البساطة في جمالها وعلوها والزهد في قمته والاكتفاء بالقليل مع إمكان أن يحوز الدنيا بحذافيرها صلى الله عليه وسلم لو أراد ذلك . فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف عيش النبي صلى الله عليه وسلم قائلة : ( ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ) البخاري .
وكانت تقول لابن أختها عروة بن الزبير : كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقال عروة : ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله من أبياتهم فيسقيناه .
هذا إمام الأمة وقائدها ، هذا أفضل الخلق الشفيع المشفع فيهم يعيش هذه الحياة ، لم يفكر في الدنيا ولم تكن همه أبداً ، بقدر ما هي وسيلة للعطاء للدار الآخرة . فرسول الله ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع وربما أخرجه الجوع من بيته روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة " قالا الجوع يارسول الله قال : " وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوموا " فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار .... فرح بهم وقال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني ثم قدم لهم عذقاً من بسر ورطب فأكلوا ثم أخذ مديته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب " فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا ورووا فقال رسول الله لصاحبيه : " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " .
فهنا لم ينس صلى الله عليه وسلم أن يستغل الحدث فيذكر أصحابه ويربطهم بالآخرة !!! فأين نحن من هذا الأمر ونحن نتمتع برزق الله وأصناف الأطعمة والمأكولات ؟!! فهلا تذكرنا المساءلة عنها يوم القيامة لنقوم بشكرها ونحمد المولى على إنعامه ثم نستعين بها على طاعة الله وعبادته ؟! .
وصف لنا عمر رضي الله عنه فراش رسول الله وأثاثه فقال : ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدَمٍ حشوها ليف فسلمت ... ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهَبَة ثلاثة فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله ، وكان مئكئاً فقال : " أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فقلت يا رسول الله استغفر لي ) ا لبخاري.
هذا كله مع جوده وكرمه وسخائه فقد كان أكرم الناس وكان يجود بما يملك حتى كان أجود بالخير من الريح المرسلة ، ولو كان عنده خزائن الأرض لجاد بها في ليلة . يقول أبو ذر رضي الله عنه ( كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء استقبَلَنا أحد فقال : " يا أبا ذر ما أحب أن أحداً لي ذهباً يأتي علي ليلة أو ثلاث عندي منه دينار إلا أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا " وأرانا بيده ) البخاري .
يخطئ كثير من الناس عندما يعتقد أن السعادة هي جمع الأموال ، وأن السعادة هي المراكب الوثيرة أو الأثاث الفاخر في البيوت أو الأرصدة المتكدسة في المصارف ، . ليست السعادة تلك التحف الجميلة التي تمتلئ بها ردهات المنزل .
إن السعادة المنزلية الحقة : هي أن يكون البيت إسلامياً ، يقوم فيه أهله وينامون على ذكر الله ، على قراءة القرآن ، على الخير والصلاح . يتعاون فيه الزوجان على القيام بالمسوؤلية الملقاة على عاتقيهما في تربية النشء على الخير والصلاح . هذا البيت الذي لا يعرف الأغنية الماجنة ولا الفلم الرخيص ولا المجلة الهابطة . هذا البيت الذي يتكاتف جميع أفراده على الخير والصلاح ، فيه يتلى كتاب الله وفيه يحتذى الهدي النبوي ، هذا البيت الذي تعيش فيه المرأة الصالحة التي عرفت رسالتها وأدت أمانتها في تربية النشء على حفظ كتاب الله وقراءة سيرة المصطفى ، هذا البيت الذي تتربى فيه تلك الفتاة الصالحة التي أدركت سر وجودها وعرفت خطط أعدائها فردت عليهم بالواقع العملي بالتزام الحجاب الشرعي ، هذا البيت الذي ينعم بمحبة الله ورسوله ويعيش على معنى المراقبة الحقة لله سبحانه وتعالى هذا البيت الذي يسود فيه التفاهم والحب والوئام . هذه الأمور الأساسية في السعادة المنزلية وما تحصل بعد ذلك من نعيم الدنيا المسخر في الخير فلا بأس .????ـ 3الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته :
هذا القائد إمام الأمة ، الذي يحمل هم أمة الإسلام قاطبة ، وقته كله عمل ودعوة : يقود الجيوش ، يعلم الأمة ، يجاهد المنافقين ، وينافح الكافرين ، ويعلم الجاهل ، ويأمر بالمعروف وينكر المنكر ، فهل أشغلته هذه الأعمال الجسام عن أهله وبيته ؟ كلا والله فقد كان نعم الزوج ونعم الأب ونعم المخدوم أعطى كل ذي حق حقه كان يقرر حقيقة : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " .
بيت الإنسان هو محكه الحقيقي الذي يبين حسن خلقه ، وكمال أدبه ، وطيب معشره ، فهو يتصرف في بيته على سجيته دون تكلف ولا مجاملات .
وإذا تأملنا في حال رسول هذه الأمة في بيته وجدناه نموذجاً فذاً للتواضع وعدم تكليف الغير . قيل لعائشة رضي الله عنها ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ؟ قالت : ( كان بشراً من البشر : يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه ) أخرجه أحمد والترمذي . وعنها قالت : (( كان يكون في مهن أهله فإذا سمع الأذان خرج )) مسلم .
كان صلى الله عليه وسلم يسعى في إدخال السرور على زوجاته فمن حسن عشرته كان ينادي أم المؤمنين بترخيم اسمها فيقول ( يا عائش ، هذا جبريل يقرئك السلام )) متفق عليه . بل كان يعرف لخد يجة رضي الله عنها فضلها ووقوفها منه وكان يذكرها دائماً بالخير حتى أن عائشة تقول ما غرت من أزواجه غيرتي من خديجة وقد توفيت قبلي لكثرة ما يذكرها وكان يقول : " صدقتني حين كذبني الناس وواستني بنفسها ومالها ولي منها الولد " . وكان يذبح الشاة ويتعاهد صويحباتها وكان يسابق عائشة ، وكان يراعي صغر سنها فيسرب إليها صويحباتها ليلعبن معها ، وكان يراها تلعب بلعب البنات فيقرها على ذلك . لما رجع من خيبر تزوج صفية بنت حيي فكان يدير كساء حول البعير الذي تركبه يسترها به ، ثم يجلس عند البعير فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب . كان هذا المشهد مؤثراً يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم لقد كان وهو القائد المنتصر والنبي المرسل يعلم أمته أنه لا ينقص من قدره ومكانته أن يوطئ أكنافه لأهله وأن يتواضع لزوجته وأن يعينها ويساعدها . وما كان يفضل أحداً من أزواجه على الأخرى . إن هذه الشخصية العظيمة التي وسع وقتها أمور الأمة بكاملها ولم تشغلها عن أن تعيش الحياة السعيدة الحقيقة مع أسرتها . فإلى أولئك الرجال الذين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية وإن التواضع معها ضعف ومهانة إلى أولئك نسوق هذه السيرة العطرة والحياة الزكية .
كان صلى الله عليه وسلم يقول : " الدنيا كلها متاع وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة " صحيح الجامع الصغير .
بل هذا نبي الأمة عليه الصلاة والسلام وأكملها خلقاً وأعظمها منزلة يضرب صوراً رائعة في حسن العشرة ومعرفة الرغبات النفسية والعاطفية لزوجته وينزلها المنزلة التي تحبها كل أنثى لكي تكون محظية عند زوجها . قالت عائشة رضي الله عنها : (( كنت أشرب وأنا حائض ، فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ ، وأتعرق العَرق << أي آخذ ما على العظم من اللحم >> فيتناوله ويضع فاه في موضع فيَّ )) رواه مسلم
إن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم درس للدعاة إلى الله الذين تختلط عندهم الأوراق فيرون عدم إمكان الجمع بين الدعوة وبين حقوق البيت وأهله ويدّعون ضيق الأوقات . إن الوقت الذي وسع رسول الله في دعوته هو نفسه الوقت ، لكن الخلل لدينا نحن في بعثرة أوقاتنا وبعدنا عن العبادة الحقة لله التي يبارك الله بسببها في الأوقات والطاقات .
إن هذا الرجل العظيم : لم ينشغل عن أن يصرف وقتاً من حياته المباركة لبناته ـ لأن أبناءه ماتوا صغاراً ـ فقد كان نعم الأب يبش لبناته ويفرح بهن ويدخل السرور عليهن ، فقد حظين منه بالحب الزائد والشفقة العظيمة والرحمة بشتى صورها كيف لا وهو الرحمة المهداة للبشرية .
(( كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها مجلسه ، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها )) أبو داود والترمذي والنسائي .
ومن صور الترحيب والبشاشة لابنته ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : (( كن أزواج رسول الله عنده فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ، ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلما رآها رحب بها وقال: " مرحباً بابنتي " ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله )) رواه مسلم .
ومن عطفه ومحبته لبناته زيارتهن وتفقد أحوالهن وحل مشاكلهن والذهاب إليهن في بيوتهن لمعرفة حوائجهن . أتت يوماً فاطمة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادماً فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها ثم انصرفت فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة ، قال علي رضي الله عنه فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال : " مكانكما " فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري فقال : " ألا أدلكما على ما هو خير من خادم ؟ إذا أويتما إلى فراشكما ، أو أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين ، وسبحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، فهذا خير لكما من خادم " )) البخاري .
إنك لتدهش من حياة المصطفى التي وسعت كل هذه الأمور فهذا قائد الأمة أتى من مهمة من مهام الأمة بلا شك فأخبرته عائشة بقدوم فلذة كبده فلم يصبر ولم يسوف بل ذهب مباشرة إلى ابنته ولم يقر له قرار حتى عرف شأنها وأخبرها بما هو أصلح لها .
درس عظيم يستفيده الآباء وهم يتعاملون مع أبنائهم : الرحمة والشفقة والعطف والحنان هو واجب الأبوة والأمومة والقائد هو الأسوة الحسنة في هذا المجال .
والرحمة والشفقة والعطف والحنان : لا يعني الدلال الزائد . فهذه فاطمة رضي الله عنها فلذة كبد المصطفى ويحبها حباً عظيماً ويدللها لكنها ، كانت امرأة عظيمة تخدم زوجها وتقوم بأعمال منزلها حتى آلمها كثرة الشغل في يديها ، فلما طلبت من والدها خادماً ، أرشدها إلى ما هو أصلح ، لم يكن بخيلاً ــ بأبي هو وأمي ــ ولم يستكثر على ابنته خادماً لكنه يريد لها الخير وما هو أصلح . فيرشدها إلى هذا الدعاء الذي سعدت به ونفعها الله به . وكان أيضاً فائدة للأمة من بعدها هذا النبي الرحيم وهذه المشاعر الفياضة . كانت أسوة حسنة في الصبر على أقدار الله وعدم الجزع . يموت أولاده جميعاً في حياته عدا فاطمة رضي الله عنها فيصبر صبراً جميلاً يقول عند موت ابنه إبراهيم : " إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون "?????
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش في برج عاجي بعيداً عن أصحابه ومجتمعه بل كان يعيش معهم يخالطهم ويعيش معهم في آمالهم وآلامهم حتى أن من يقدم من خارج المدينة وهو لا يعرفه لا يميزه بين أصحابه . كان يعيش معهم كأنه أحدهم . فكان يبرز للناس وكان يبيع ويشتري لنفسه ومن ذلك قصة الأعرابي الذي اشترى منه صلى الله عليه وسلم فرساً وذهب إلى البيت لينقده فلوسه فطمع الأعرابي وأنكر البيع فشهد بذلك خزيمة بن ثابت رضي الله عنه والقصة مشهورة عند النسائي وغيره وكذلك . شراؤه جمل جابر رضي الله عنه .
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويلاعب أطفالهم فعن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له أبو عمير قال : أحسبه كان فطيماً قال : فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال : " أبا عمير ما فعل النغير ؟ " . وكان صحابته يرجعون إليه في كل شئ حتى في مخالفات أطفالهم فيتعامل معها صلى الله عليه وسلم بأسلوب تربوي عظيم يتناسب مع سن الصغير ومرحلة الطفولة . روى أبو داود عن أبي رافع بن عمرو الغفاري قال : كنت غلاماً أرمي نخل الأنصار فأُتي بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا غلام لِمَ ترمي النخل ؟ قال آكل ، قال : " فلا ترم النخل وكل مما يسقط في أسفلها " ثم مسح رأسه فقال : " اللهم أشبع بطنه " وفي رواية للترمذي قال : " أشبعك الله وأرواك " .
يصف الصحابة رضوان الله عليهم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جميع حياتهم حضرها وسفرها ، وتفقده لأحوالهم الخاصة والعامة فيقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ( إنا والله قد صحبْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر وكان يعود مرضانا ويتبع جنائزنا ويغزو معنا ويواسينا بالقليل والكثير ) رواه أحمد .وكان يعمل معهم في حفر الخندق ، وفي بناء المسجد وغيره .
لم ينشغل هذا القائد العظيم عن تفقد حال امرأة كانت تقم المسجد فيفتقدها فيسأل عنها فيقال أنها ماتت فيقول هلا آذنتموني فيقال ماتت بليل فيذهب إليها ويصلي عليها في قبرها . ما أعظم هذا القائد ! وما أحسن عشرته !
كان صلى الله عليه وسلم يؤاكل أصحابه فربما حضر معه الأعرابي حديث العهد بالإسلام أو الغلام أو الجارية ممن لا يعرف آداب الطعام والشراب فيأخذ بأيديهم ويعلمهم ويربيهم . روى الإمام أحمد عن حذيفة قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتي بطعام فجاء أعرابي كأنما يطرد فذهب يتناول فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، وجاءت جارية كأنها تطرد فأهوت فأخذ النبي بيدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الشيطان لما أعييتموه جاء بالأعرابي والجارية يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، بسم الله كلوا" ) .
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك " فما زالت تلك طِعمتي بعد .
وربما أردف أحد أصحابه فعلمه وأرشده وربما أردف بعض الشباب واستغل ذلك بتعليمه وتربيته .
إن أتباع الرسول من العلماء والدعاة لا بد أن يعوا هذا الدرس ويخالطوا الناس ويفتحوا أبوابهم وصدورهم للأمة ولشبابها . ويحلوا مشاكلهم ويعلِّموا جاهلهم ويربوا صغيرهم . إن بقاء جفوة بين العلماء والناس خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإن ازدياد بعد العلماء عن مخالطة الناس جدير بإيجاد حاجز عريض بين الأمة وعلمائها . العالم المؤثر هو ذلك الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ويحل مشاكلهم ويشعرهم بأنه معهم كما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
إن فتح العلماء أبوابهم للناس جدير بإذن الله في حل كثير من الاشكالات والأفكار الخاطئة ، إن من أعظم الفتن في عصر مثل هذا العصر أن يبتعد العلماء المؤثرون عن واقع أمتهم . ويصعب أن تجدهم الأمة إذا احتاجتهم . فأين هذا من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ ولمن يترك توجيه الأمة ــ إذا قصر العلماء في ذلك ؟! .????
قد رزق الله نبيه صلى الله عليه وسلم قلباً رقيقاً وحناناً دافقاً فهو صاحب القلب الحنون تكسوه الرحمة وتحركه العاطفة الإيمانية ، أما أهل القلوب القاسية فإنهم لا يعرفون الرحمة وليس للعاطفة في صدورهم مكان إنهم كالحجارة الصماء جفاف في العطاء وبخل بأرق المشاعر . قبََّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أبناء فاطمة وكان عنده رجل من الأعراب فقال تقبلون أبناءكم ؟! إن عندي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحداً فقال صلى الله عليه وسلم وما يدرني لعل الله قد نزع من قلبك الرحمة .
عن أنس رضي الله عنه عنه : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ابنه إبراهيم فقبَّله وشمه )) البخاري . وهذه الرحمة ليست لأبنائه فقط بل هي عامة لأبناء المسلمين . قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر فرأيته شمهم وذرفت عيناه فقلت يا رسول الله أبلغك عن جعفر شئ ؟ قال : " نعم قتل اليوم " فقمنا نبكي ، ورجع فقال : " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاء ما يشغلهم " الترمذي وابن ماجه.
ولما كانت عيناه صلى الله عليه وسلم تفيض لموتهم سأله سعد بن عبادة رضي الله عنه : يا رسول الله ما هذا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم : " هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " البخاري .
وعندما ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم لوفاة ابنه إبراهيم قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال: " يا ابن عوف ، إنها رحمة لمن اتبعها بأخرى " وقال : " إن العين تدمع، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " البخاري .
وقد بلغ من رأفته ورحمته أن يصعد الصبي على ظهره وهو ساجد يصلي بالناس فيطيل السجود مخافة أن يعجل الصبي عن عبد الله بن شداد عن أبيه رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في احدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي : فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك ؟ قال : " كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته " النسائي وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها .
وبلغت رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أنه يخفف الصلاة بسبب بكاء طفل مراعاة لحال أمه . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأدخل في الصلاة وإني أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم لوجد أمه ببكائه " ابن ماجه.
هذا الخلق العظيم مع الصغار يدعونا إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم و أن نسير على خطاه في وقت فقدنا فيه الإحساس بمحبة الصغار وإنزالهم منزلتهم فهم الرجال غداً وآباء المستقبل وفجر الأمة المنتظر ، تعاملنا مع الأطفال بشئ أقرب إلى التعالي والكبرياء حتى في المسجد ننهرهم ونؤخرهم ولا نعتبر أحاسيسهم ، إن الأطفال لهم أحاسيس ومشاعر ورغبات وأهواء لا بد من إشباعها لتنطبع قلوبهم بالمحبة والإجلال ، المصطفى صلى الله عليه وسلم ملك بأسلوبه الرائع قلوب الأطفال فأصبحت كلماته وتعليماته تنطبع في قلوبهم مباشرة ، إنه صلى الله عليه وسلم ملك مفاتيح قلوبهم بيده ولسانه . حتى أصبح الصبي يحبه ويجله ويقدره وهو صلى الله عليه وسلم ينزل الناشئة منزلة رفيعة . " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ... " " يا غلام سم الله "
كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يلعبون سلم عليهم ورب مازحهم ، وإذا مر بهم على بغلته أركبهم معه .
إن للأطفال مشقتهم وتعبهم وكثرة حركتهم إلا أن القدوة عليه السلام لا يغضب ولا ينهر الصغير ولا يعاتبه ، كان يأخذ بمجامع الرفق وزمام السكينة . عن عائشة رضي الله عنه قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم فأُتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله ) . إن الأطفال ليكونوا رجالاً بحاجة إلى يد حانية ترحم وتربي ولكي تكون التربية مؤثرة لا بد أن نشعر أبناءنا بالرجولة والاهتمام بهم وأن نتحمل أخطاءهم لأن هذا أقرب لتربيتهم وكسب قلوبهم . إن صغارنا يحتاجون منا أن ننزل من كبرياء شموخنا المزعوم وأن نبتعد عن الألفاظ البذيئة التي تهدم ولا تبني وإذا أدبنا يجب أن يكون ذلك التأديب مدروساً . الصغار لهم اهتماماتهم ولهم حياتهم فمن الخطأ أن نسعى إلى مصادرة ذلك أو نهمش ذلك الدور . الواجب أن ندرك أن هذا الشئ يعني الكثير للأطفال فلا بد إذً أن نلبي هذه الرغبة وأن نشبعها . فهل مازحنا صغارنا وهل سمعنا ضحكاتهم وجميل عباراتهم وبادلناهم شعوراً مماثلاً . يحسسهم بالحب والحنان والشفقة أم أشغلتنا أمور الحياة عنهم . فنبي هذه الأمة وقائدها كان يفعل ذلك . فكان يداعب الصغار ويمازحهم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدلع لسانه للحسن بن علي ، فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش له )) الصحيحة 70 وعن أنس رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة وهو يقول : " يا زُوينب ، يازوينب مراراً )) الصحيحة 2141 وعن محمود بن الربيع رضي الله عنه قال : (( عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي من دلو من بئر كانت في دارنا وأنا ابن خمس سنين )) مسلم .
نسوق هذه السيرة العطرة لعلنا نحيي بها قلوبنا ونقتفي أثرها ، فبيوتنا تُزهر بالصغار والأطفال الذين يحتاجون إلى حنان الأبوة وعاطفة الأمومة وإدخال السرور على قلوبهم الصغيرة . .. فينشأ الصغير سوي العاطفة سوي الخلق يقود أمة عند ما يصبح رجلاً ــ بإذن الله ــ صنعه الرجال والأمهات بعد توفيق الله تعالى .
ولقد عاش الخدم في بيت رسول الله عيشة السعداء فهاهو يقرر حقيقة هامة في هذا الجانب لينطلق الناس على ضوئها في التعامل مع الخدم ومن تحت أيديهم من العمالة يقول صلى الله عليه وسلم : " هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم " مسلم .
ثم نتأمل في خادم يروي عن مخدومه كلاماً عجيباً ويثني ثناء عطراً . عن أنس رضي الله عنه قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لي لشئ صنعته لِمَ صنعته ؟ ولا لشئ تركته " مسلم .
عشر سنوات كاملة ليست أياماً ولا شهوراً إنه عمر طويل فيه تقلبات النفس واضطرابها ومع هذا لم ينهره ولم يزجره بل كان يكافئه ويطيب خاطره ويلبي حاجته وحاجة أهله ويدعو لهم . قال أنس رضي الله عنه قالت أمي : يا رسول الله خادمك ادع الله له فقال : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته " البخاري
إنه ليس من الشجاعة ولا من القوة ولا من الشهامة أن يظلم الإنسان من تحت يده من خدم أو عمال أو يتسلط عليهم بيده أو لسانه أو يهينهم تحت رحمة الحاجة التي جلبتهم من بلادهم . في الحكمة : إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك . إن هناك صوراً من الظلم والإهانة يعج بها المجتمع في تعامله مع الخدم والعمال صوراً بعيدة عن العدل والإنصاف فالإمام القدوة عليه الصلاة والسلام نهجه واضح في ذلك وتعليمه بين في هذا الأمر . رسول الله مع شجاعته لم يُهن ولم يضرب إلا في حق ، ولم يتسلط على الضعفاء الذين تحت يده من زوجة وخادم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادماً ولا زوجة )) مسلم .بل كان ينادي بالرفق والأناة والحُلُم :" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " متفق عليه .
هذا الإمام القائد وسع وقته وصدره جميع الأمة ولم يكن يترفع عن أي فرد في الأمة ، يتواضع لتلك المرأة المسكينة ويمنحها من وقته الملئ بالأعمال . فعن أنس رضي الله عنه قال : (( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : ( إن لي إليك حاجة فقال : " اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك " أبو داود . وكان من تواضعه الذي بلغ الغاية أنه كان يقول : " لو دعيت إلى ذراع أو كُراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت " البخاري .
هذا هو نبي الله خير من أقلته الغبراء وأظلته الخضراء ، الذي بلغ السؤدد والمكانة العالية كان دائم الإخبات والإنابة إلى ربه شديد الانكسار بين يديه :
يروح بأرواح المحامد حُسنُها **** فيرقى بها في ساميات المفاخر .
وإن فُض في الأكوان مسكُ ختامها **** تعطر منها كلُّ نجد وغـــائر .
فأين المتكبرون المتغطرسون ؟!! من هذه السيرة العطرة . ولهؤلاء في كل عصر وحين . يبقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجزاً ورادعاً لكبرهم واستعلائهم . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " مسلم .?????
أكرم المجالس مجلس العلم والذكر فما بالك إذا توسط المجلس إمام الأمة وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام . كان من صفاء مجلسه ونقاء سريرته . أن يرد المخطئ ويصوب الجاهل وينبه الغافل ولا يقبل في مجلسه إلا الخير . وكان صلى الله عليه وسلم مستمعاً منصتاً لمحدثه إلا أنه لا يقبل غيبة ولا يرضى بنميمة ولا بهتان فهو يرد عن أعراض الآخرين ، ولا يقبل في مجلسه ما يخالف الشرع . عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال : " أين مالك بن الدخشم ؟" فقال رجل ذلك منافق لا يحب الله ولا رسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفعل ذلك . ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟! وإن الله قد حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ! " متفق عليه .
وكن صلى الله عليه وسلم يحذر من شهادة الزور واقتطاع الحقوق . عن أبي بكر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" قلنا بلى يا رسول الله : قال : " الإشراك بالله وعقوق الوالدين " وكان متكئاً فجلس فقال : " ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " البخاري .
ومع محبته صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها إلا أنه أنكر عليها الغيبة وأوضح لها عِظَم خطرها . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبُك من صفية كذا وكذا ــ تعني قصيرة ــ فقال : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لغيرته " أبو داود . وقد بشر صلى الله عليه وسلم من يذب عن أعراض إخوانه فقال صلى الله عليه وسلم : " من ذب عن عرض أخيه الغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار " أحمد
أين نحن في مجالسنا من هذا المجلس المبارك الذي يعلم فيه الجاهل ويذكّر فيه الغافل ويسكت فيه المغتاب وتحفظ فيه الحقوق . إن كثيراً من المجالس التي يجلسها الإنسان تكون عليه ترة وحسرة يوم القيامة ، وتكون عليه وبالاً . فهل وقفنا مع أنفسنا ونحن نقضي الساعات الطوال والدوريات المستمرة فحاسبناها وأوقفناها عند حدود الله ؟! . هل تذكرنا ونحن نتلذذ في مجالسنا بالكلام في الآخرين المساءلة من الله عن هذه المجالس ؟ .
أن أولئك الأقوام الذين ليس لهم هم في مجالسهم إلا الغيبة والنميمة والوقوع في الأعراض . إن أولئك آثمون متعدون لحدود الله مخالفون لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن التقاء الأقارب والأحباب والجيران والأصدقاء أمر طيب وصلة وبر واجتماع حسن لكن لا بد أن يكون لقاء مثمراً . من الطيب والمحمود أن يجتمع هؤلاء على ذكر حسن وعلى فائدة منتقاة وعلى خير وبر . إن لقاء الجيران من الطيب فيه أن يتدارسوا أمور حيهم وأبناء الحي وكيف يفاد أهل الحي ؟ وعلاج المشكلات الموجودة والسعي في تكميل الخدمات الناقصة لدى المسؤولين . بهذا يكون لقاء مثمراً وكذلك دوريات الأقارب أو الأصدقاء وكذا تجمعات نسوة الحي أو الجارات يجب أن يبتعد فيه عن ما يسخط الله ، وأن يسعى فيه لتحصيل الفوائد .
بهذه الأمور وأمثالها نستطيع أن نستثمر تجمعاتنا ودورياتنا ونضيق الخناق على مداخل الشيطان وأعوانه الذين يريدون الشر والإفساد
وفي الختام أسأل الله أن نكون متأسين بهدي نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام .
صالح بن ساير المطيري
23 نوفمبر, 2008 04:22 ص
غير معرف يقول...
((((((((((((إن لم يكن رسول فماذا يكون؟؟؟
فكيف علم الحقائق العلمية التي اكتشفها العلم الحديث الآن وذكرها في القرآن ( كتاب المسلمين ) من 1400 سنة واعترف بهذا علماء الأجنة والفلك والفيزياء والأطباء . الدليل من القرآن كالتالي ( رقم السورة ، رقم الآية )
-كيف علم مراحل تكوين الجنين وتفاصيل خلقه ( نطفة ، علقة ، مضغة ، عظام ) (سورة رقم 23 ، آية 14 ) (22،5) (76،2) (39،6).
-كيف علم أن الانسان القديم كان كبير الحجم ووصف لنا العصر الجليدي القديم .
-كيف أخبرنا بحزام الصدوع الذي يمتد في القشرة الأرضية (سورة رقم 86 ، آية 12 ) .
-كيف علم بوجود البراكين تحت البحار ( سورة رقم 52 ، آية 6 ) .
-كيف علم أنواع السحب ووصفها بدقة ( طبقية ، ركامية ، معصرات ) ( سورة رقم 78 ، آية 14 ) (43,24) (48,30)
-كيف علم باهتزازه (مندل) التي تحدث لحبيبات التربة عند نزول المطر ( 22 ،5 )
-كيف علم الجبال وانغراسها العميق في باطن الأرض وتثبيتها للقشرة الأرضية(78،7).
-كيف علم أن الحديد نزل إلى الأرض على شكل شهب ونيازك في بداية تكوين الأرض وجعل العدد الذري وعدد الكتلة لذرة الحديد لهما علاقة برقم سورة وآية الحديد التي تصف هذه الحقيقة (25,57).
-كيف اكتشف علماء ناسا حزاما من الصخور المتحولة في القمر يدل على أنه يوما ما انقسم الى نصفين وهي من معجزاتــه (1,54) .
-كيف علم خصائص النجوم والثقوب السوداء ( 86،3 )( 56،75 )(86،3)(53،1)
-كيف أخبرنا بالاتساع اللامتناهي للسماء (51،47)(21،32)(50،6)
كيف علم أن الكون تكون من الدخان (Steam) (41،11) (21،30).
اذا لا بد أنه صادق وأنه رسول من الرب وما دام صادقا فأين تذهبون ؟
اعلم أن الاسلام نسخ الأديان السابقة كما نسخ المسيح اليهودية .
(من المدهش أن هذا النوع من المعلومات موجود في القرآن) ب.هيل من علماء البحار.
(هذا النبي يدلي بتصريحات علميه ودقيقه جدا من 1400سنه ولا أجد بدا من أن أوافق عقلي و أعترف أن هذا وحى أو الهام) تي في فان سان أستاذ أمراض نساء.
-ما قولك في هذه النصوص من التوراة والإنجيل (كلامه أحسن الكلام انه محمد العظيم ) مزامير داود اصحاح 16 الفقرة الخامسة .
(نبوه في جبال فاران )(نبيا من إخوانهم )،(انه النبي الذي يقال له اقرأ فيقول ما أنا بقارئ)
-لو قرأت القرآن فستعلم أنه ليس شعرا ولا نثرا وأنه يستحيل أن يكون من كلام البشر ولو قلت أنه من كلام البشر فكيف علم هذه الحقائق وكيف ذكر كلمة ( يوم ) في القرآن 365 مره بعدد أيام السنة وكلمة (شهر) 12 مرة بعدد شهور السنة .
وذكر كلمة (رجل) 24 مرة وكذلك ( امرأة ) 24 مرة .
وكلمة ( أخ ) 4 مرات وكذلك ( أخت ) 4 مرات .
وكلمة ( الدنيا ) 115مرة وكذلك (الآخرة) 115مرة .
وكلمة ( الحياة ) ومشتقاتها 145مرة وكذلك ( الموت ) ومشتقاته 145مرة .
فكيف يمكن لبشر أن يفعل كل هذا ؟
يولد الإنسان على دين ما وهذا لا يعني أن هذا الدين هو الدين الصحيح
وإنما يعرف الدين الصحيح بالحجة و البرهان و الدليل
*** (التفسير الوحيد أن هذه الحقائق أوحيت لمحمد من الرب) كيث مور من كبار علماء الأجنه
*** (لابد ان هذه الحقائق جاءت من خالق عليم بكل شيء واصبحت مسلما) تاجاسون عالم تشريح
*** (لا اختلاف بين هذا الوحي والمعرفة الطبية) جولي سمبسون أستاذ نساء و ولادة
*** (إن هذا لا يمكن أن يكون إلا بوحي من أعلى) ألبرت كوهان جيولوجي
*** (ان هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطه في الوجود) يوشيدى كوزاى عالم فضاء يابانى
*** (نعم انه الوحي لا طريق أمام البشرية إلا أن تقر أن هذا القرآن من عند الرب) مارشال جونسون عالم أحياء
اذا كان النبى محمد صلى الله عليه و سلم كاذبا ً
فكيف علم من 1400 سنة وأخبرنا في القرآن بالحقائق العلمية التي اكتشفها العلم الحديث الآن واعترف بهذا علماء البحار والفلك والطب والجيولوجيا .
كيف علم تناقص حجم الأرض الذي يحدث من ملايين السنين ( الأنبياء ،44 )(الرعد،41) .
كيف أخبرنا بتناقص الهواء والضغط كلما صعدنا لأعلى ( الأنعام ، 125 ) .
كيف علم أن الجبهة ( الجزء الأمامي من المخ ) هي مركز اتخاذ القرار وأنها قد تكذب وقد تخطئ ( العلق ،16 ) .
كيف أخبرنا بالألوان الأساسية للصخور وقسمهم الى مجموعتين ثم اكتشفنا أن احداهما تمثل الخاصية القلوية ( القاعدية ) والأخرى تمثل الخاصية الحمضية ( فاطر ،27 ) .
قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : (( عجز الذنب منه خلق الانسان ومنه يركب الخلق يوم القيامة )) ، واكتشف علم الوراثة أن عجب الذنب به الشفرة والرمز الوراثي (DNA) للانسان .
أخبرنا الرسول أن الجنين اذا مر به 42 يوما نزل له ملك فصوره وقد يسر لك العلم الحديث أن ترى الجنين بعد 42 يوما وقبلها وستلاحظ الفرق بنفسك فكيف علم محمد بهذا ؟
بم تفسر انغراس قدم إسماعيل عليه السلام في الصخرة الصلبة التي كان يقف عليها لبناء الكعبة و هي باقية حتى يومنا هذا أمام الكعبة وتستطيع رؤيتها بنفسك ?? وبم تفسر توسط مكة للكره الأرضية و بقاء مياه زمزم حتى يومنا هذا و هو بئر لا مثيل له تأتيه المياه عبر الآلاف الأميال بالخاصية الشعرية ?? وبم تفسر علماء الجيولوجيا الذين سرقوا أجزاء من الحجر الأسود بالكعبة و لم يعلموا مادته و لا نوعه وقالوا انه فريد من نوعه .
*** ( باستطاعة تلك الأحاديث أن تسود المعرفة الطبية ) جولي سمبسون .
*** ( لا يمكن أن يكون من مصدر بشري لا بد أنه من الله ) بروفسور هيل .
*** ( إني أوافق أن هذا من عند الله؟؟؟؟بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته وسار على نهجه إلى يوم الدين
إخواني وأخواتي
اسمحولي بان اقدم نبذه قصيرة عن سيد هذه آلامه وحبيبها وهو المصطفى الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وقد اخذتها من موسوعة الثقافة والمعلومات الطبعة الاولى للمؤلف /مهدي سعيد رزق كريزم
وانصح الجميع باقتناء الموسوعه فهي جديره بالقراءة وسعرها لايتجاوز 100ريال وفيها الشي الكثير من المعلومات
الموضوع : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
1-اسمه ونسبه :
هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب , من قبيلة قريش , ينتهي نسبه إلى قبيلة عدنا ثم إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام 0
2-ولادته:
ولد صلى الله عليه وسلم في مكة بشعب بني هاشم صبيحة يوم الاثنين 12ربيع الأول من عام الفيل الموافق 20أبريل عام 571- قبل الهجرة بثلاث وخمسين سنة 0
3-هجرته:
هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة في يوم الاثنين 27 من شهر صفر عام 14 للبعثة المباركة الموافق 12 سبتمبر عام 622م ووصل إلى المدينة المنورة في يوم الاثنين 12 ربيع الأول عام 14 للبعثة الموافق 26 سبتمبر عام 622 .
وقيل وصل إلى المدينة المنورة في يوم الاثنين 8ربيع الأول عام 14 للبعثة الموافق 23 سبتمبر عام 622م ولعل هذا الاختلاف ناتج عن مدة الثلاثة أيام التي مكثها في الغار
4- وفاته :
توفى صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين 12 ربيع الأول عام 11للهجرة الموافق 8 يونية عام 632 وذلك في المدينة المنورة ودفن في حجرة عائشة رضي الله عنها ,جنوب شرق المسجد النبوي.
5 كنيته :
كنيته : أبو القاسم
6- أسماؤه وصفاته وألقابه:
محمد,احمد,الماحي,العاقب , الحاشر,الخاتم,المقتفي ,نبي الرحمة,البشير,النذير ,الأمين,الصادق,المصطفى,طه,يس,السراج,المنير,رؤوف,
رحيم ,واوصاف أخرى كثيرة
7-زوجاته:
1-خديجة بنت خويلد
2- سوده بنت زمعة
3- عائشة بنت أبى بكر الصديق
4- حفصة بنت عمر بن الخطاب
5- زينب بنت خزيمة
6- هند بنت أبي أمية(ام سلمة
7- زينب بنت جحش
8- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان
9- ميمونة بنت الحارث
10- جويرية بنت الحارث
11- صفية بنت حيي بن أخطب
12- مارية القطبية
13- ريحانة بنت زيد من بني النظير
8-أولاده:
1-القاسم
2-عبدالله
3-إبراهيم
4-زينب
5-رقية
6-أم كلثوم
7-فاطمة,وجميعهم من ام المؤمنين خديجة بنت خويلد ماعدا إبراهيم فهو من مارية القطبية
9-أخواله:
أخواله : بنو زهرة, وبنو عدي بن النجار
10-عمـــــــلــــه:
كان صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يرعى الغنم ثم عمل بالتجارة وبعد البعثة تفرغ لامر الدعوة والجهاد
11-أبوه من الرضاعة:
هو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة 000من هوازن
12- أمــــه:
هي آمنة بنت وهب من بني زهرة
13- مرضعاته:
1-أ مــــه
2- ثوبية (جارية أبي لهب )
3- حليمة السعدية
14- أخوته من الرضاعة:
عبدالله بن الحارث ,أنيسة بنت الحارث, وحذافة بنت الحارث (الشيماء
15- أخوته من النسب
ليس له اخوة من النسب بل كان وحيد أبويه
16-أعمامه وعماته:
1-الحارث بن عبد المطلب
2- أبو طالب واسمه عبدمناف
3- حمزة
4- أبو لهب واسمه عبد العزى
5- العباس
6- الزبير
7- حجلا
8- المقوم
9- ضرار
عمــــــــــاته ست :
1-صفية
2- البيضاء
3- عاتكة
4-أميمة
5-أروى
6- بره
17-أصهاره
1-العاص بن الربيع زوج زينب
2-عتبة بن أبى لهب تزوج رقية ثم طلقها
3- عتيبة بن أبى لهب تزوج ام كلثوم ثم طلقها
4- عثمان بن عفان تزوج رقية ثم ماتت فتزوج أم كلثوم
5- علي بن أبى طالب تزوج فاطمة الزهراء
18- صاحبه:
هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه واسمه عبدالله بن أبى قحافة
19- سبطاه:
هم الحسن والحسين أبناء أبنته فاطمة
20-أمين سره :
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
21- حواريه:
الزبير بن العوام رضي الله عنه
22- حبــه:
زيد بن الحارثة رضي الله عنه
23- ابن حبه:
أسامة بن زيد بن الحارث ويطلق عليه أيضا حبه وابن حبه
24 شعراؤه :
حسان بن ثابت , عبدالله بن رواحه, كعب بن مالك
25- خـــــــدمـــــــــــــــــه:
1-أنس بن مالك
2- هند وأسماء أبناء حارثة الاسلمي
3- أبو هريرة , سلمى, خضرة
4-رضوى
5- ميمونة بنت سعد
6-بركة أم أيمن
7- أنجشة
8- شقران
9- سفينة(مهران ثوبان
10- يسار النوبي
11-رباح,أسلم (أبو رافع فضالة
12-مدعم
13-رافع
14 -كركرة
26- حاضنته:
هي بركة أم ايمن
قابلته:
القابلة التي قامت على ولادته صلى الله عليه وسلم هي الشفاء والدة عبد الرحمن بن عوف
27- كافــــــــلــه:
كفله جده عبد المطلب ,وبعد وفاته عمه أبو طالب
28- عمره:
توفى صلى الله عليه وسلم وعمره 63عاما
29- ساعيه:
هو عمرو بن أمية الضمري
30- حارسه:
محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه
31- فارسه:
أبوقتادة الأنصاري رضي الله عنه
32- المؤذنون في عهده
1-بلال بن رباح
2-عبدالله بن أم كلثوم
3-أبومحذوره واسمه أوس بن معير الجمحي , اسلم بعد حنين وتوفى
عام 59هـ
33- حجاته:
حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحده وهي حجة الوداع عام 10هـ
34- عمراته :
اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمرات هن:
1-عمرة الحديبة عام 6هـ
2-عمرة القضاء عام7هـ
3-وعمرة الجعرانه عام 8هـ
4-وعمرته التي قرنها مع حجته عام 10هـ وكانت جميع تلك العمر في شهر ذي القعدة
35-أسماء سيوفه :
1-ذوالفقار
2-بتار
3-الحيف
4-رسوب
5-المخدم
6-مأثور(وهو السيف الذي ورثه عن والده )
7-العضب
8-القضيب
36-أسماء أقواسه:
1-الزوراء
2-الروحاء
3-الصفراء
4-الكتوم
5- السداد
37- أسماء دروعه :
ذات الفضول (وهي التي رهنها عند اليهود ذات الوشاح,ذات الحواشي , السعدية , فضة, البتراء ,الخرنق بكسر الخاء
38-أسماء خيوله:
1-السكب
2-المرتجز
3-اللحيف
4-اللزاز
5-الطرب
6-سبحة أو(سبخة بالخاء
7-الورد
39- أسماء نوقه وجماله ودوابه الأخرى:
كان له ناقة واحده هي القصواء وهي التي هاجر عليها من مكة إلى المدينة وكانت تسمى الجدعاء والعضباء
وكان عنده حمار يقال له عفير
واخر يسمى يعفور
البغال :
بغلة اسمها دلدل أهداها له المقوقس هي والحمار عفير
وبغلة أخرى اسمها فضة أهداها له فروة بن عمرو الجذامي ومعها الحمار يعفور وقد أهداها صلى الله عليه وسلم هذه البغله (فضة إلى أبي بكر الصديق
وكان عنده من منائح المعز سبعة هن :
1-عجوة
2-زمزم
3-سقيا
4-بركة
5-ورسة
6-أطلال
7-أطراف ومن النوق اللقائح ذات اللبن سبع لقائح.
40- رايته :
أسم رايته صلى الله عليه وسلم العقاب
41- أشباهه:
كان يشبه من الصحابة
1- الحسن بن على بن أبى طالب
2- جعفر بن أبى طالب رضي الله عنه
3- قثم بن عباس بن عبد المطلب
4- أبو سفيان بن الحارث
5- السائب بن عبيد بن عبد مناف
6- عبدالله بن جعفر بن أبي طالب
42- كتابه:
كان هناك كتاب للرسول صلى الله عليه وسلم يكتبون ما ينزل من القران الكريم أشهرهم :
1- أبو بكر الصديق
2- عمر ابن الخطاب
3- عثمان بن عفان
4- علي بن أبى طالب
5-معاذ بن جبل
6- زيد بن ثابت
7- معاوية بن أبى سفيان
8- ابي بن كعب
9- عبدالله بن مسعود
10- خالد بن الوليد
11- ثابت بن قيس
12- أبان ابن سعيد
وقد ذكر الحافظ العراقي اثنين واربعين كاتبا من كتاب الوحي 0
43- بيوته :
كان للرسول صلى الله عليه وسلم تسعة بيوت (حجرات وهن :حجرات زوجاته إضافة إلى حجرة فاطمة الزهراء ,وقيل إن هناك حجرة عاشره لاام المؤمنين ميمونة بنت الحارث ولم يرد في عبارات المتقدمين يحدد موقع هذه الحجرات ولعلها كانت في الجهة الشمالية الشرقية
44- جملة الغزوات التي كانت في عهده 29 غزوة والمشهور إن عدد غزواته 27 غزوة وذلك باعتبار صلح الحديبية ليست غزوة ,وباعتبار عدم خروجه في غزوة موتة ,فتكون الغزوات التي اشترك فيها وكان قائدها 27غزوة وجملة الغزوات 29غزوة وعدد الغزوات التي قاتل فيها بنفسه 9غزوات وعدد سراياه التي أرسلها : ستون سرية ,وعدها بعضهم 56 سرية بسبب عدم ذكرهم ليوم الرجيع وحدث بئر مؤنه وبعث أسامة بن زيد ,وهكذا
وكانت أول غزواته هي غزوة الأبواء (ودان في صفر عام 2هـ واخر غزوة غزاها غزوة ( تبوك جيش العسرةعام 9هـ
واول سرية أرسلها صلى الله عليه وسلم هي سرية حمزة بن عبد المطلب وكانت إلى ساحل البحر في رمضان عام 1 هـ0 وقد قال علماء السيرة إن الغزوة :هي الموقعة التي شهدها الرسول صلى الله وسلم سواء قاتل فيها ام لم يقاتل بنفسه 0
والسرية هي : الموقعة التي لم يشهدها الرسول صلى الله عليه وسلم ,وإنما أرسل غيره فيها 0 أقول : إن غزوة مؤته لم يشهدها الرسول بنفسه ومع ذلك سميت غزوة ,بل وهي غزوة ومعركة حقيقة كبيرة مع الروم , كما أن صلح الحديبية يعد من ضمن الغزوات رغم أنه كان صلحا واتفاقا 0
وعلى ذلك فاقول :إن الغزوة هي التي تضم جيشا بالمعنى المعروف للجيش حدث قتال ام لم يحدث هذا والله اعلم
شفاء المرضى بنفثه وريقه
ولما أرسل الله نبيه وكلمته المسيح عليه السلام، آتاه من الآيات ما يقيم به الحجة على بني إسرائيل، ومن ذلك إبراء الله الأكمه والأبرص على يديه ]وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني [ (المائدة: 110)، فكان برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً عند قومه على نبوته e.
وكذلك أيد الله خاتم أنبيائه وعظيم رسله بمثل هذا الدليل والبرهان ، حين شفى على يديه بعضاً من أصحاب النبي e.
ومن ذلك أنه ما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد t أن النبي e قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يحبُ اللهَ ورسولَه، ويحبُه اللهُ ورسولُه))، قال: فبات الناس يدوكون (أي يتحدثون) ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غَدوا على رسول الله e كلهم يرجون أن يُعطاها.
فقال عليه الصلاة والسلام: ((أين عليُ بنُ أبي طالب؟)) فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، فقال: ((فأرسلوا إليه))، فأُتي به t، فبصق رسول الله e في عينيه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. قال الشوكاني: "فيه معجزة ظاهرة للنبي e ".
وفي رواية لابن ماجه أنه e تفل في عينيه وقال: ((اللهم أذهب عنه الحر والبرد)) قال علي: فما وجدت حراً ولا برداً بعد يومِئذ ، وكان أصحابه ربما رأوه يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف.
وقبل أن يغادر النبي e أرض خيبر حقق آية أخرى تدل على نبوته ورسالته، فقد شفى الله بنفثه ساق سلمة بن الأكوع الذي أصيب في الغزوة، فقد روى البخاري في صحيحه عن يزيد بن أبي عُبيد قال: رأيت أثرَ ضربةٍ في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أُصيب سلمة، فأتيت النبي e، فنفث فيه ثلاث نَفَثات، فما اشتكيتها حتى الساعة.
إن الجموع التي رأت ساق سلمة مضرجة بدمائها، ثم رأوه لا يشتكي منها ألماً ولا وجعاً ببركة ريق النبي e ونفثه عليها، إن هذه الجموع لا يسعها أمام هذه المعجزة الباهرة إلا أن تشهد للنبي e بالنبوة والرسالة، إذ مثل هذا لا يقدر عليه بشر، إنه دليل من دلائل نبوته e.
ويرسل النبي e عبدَ الله بن عتيك ورجالاً من الأنصار لردع سلّامِ بنِ أبي الحُقَيق، وبينما هو راجع في الطريق وقع، فانكسرت ساقه، فعصبها بعمامة، يقول: فانتهيت إلى النبي e، فقال: ((ابسط رجلك))، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكِها قطّ.
لقد تكرر ذلك منه e مراراً وعلى مراى من الصحابة الكرام، ومن ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت أبي يقول: إن رسول الله e تفل في رجل عمرو بن معاذ حين قطعت رجله فبرأ. فهل كان هذا من فنون الطب أم معجزة وبرهاناً من براهين نبوته e.
ويروي الشيخان آية أخرى من آيات صدقه وبراهين نبوته، ففي الصحيحين من حديث السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى النبي e فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجِع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ، فشربتُ من وَضُوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحَجَلة.
وهذا الخبر فيه دليلان من دلائل نبوته e أولهما: شفاء السائب النبي e حين شرب من ماء وُضُوئه، والثاني رؤيته خاتم النبوة بين كتفي النبوة e.
ويروي الإمامان أحمدُ وابنُ ماجه عن أمُ جُندُب أنها رأت رسول الله e يرمي جمرة العقبة .. فأتته امرأة (خثعمية) بابن لها فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا ذاهب العقل، فادع الله له. قال لها: ((ائتيني بماء)). فأتته بماء في تَورٍ من حجارة، فتفل فيه، وغسل وجهه، ثم دعا فيه، ثم قال: ((اذهبي، فاغسليه به، واستشفي الله عز وجل)).
قالت أم جُندب: فقلت لها: هبي لي منه قليلاً لابني هذا، فأخذت منه قليلاً بأصابعي، فمسحت بها شِقَّة ابني، فكان من أبر الناس.
فسألت المرأة بعد: ما فعل ابنها؟ قالت: برئ أحسن بَرء.
قال السندي: "وفي الحديث معجزة عظيمة له e". أقول: لا، بل هما معجزتان : إحداهما شفاء ابن الخثعمية ببركة مجة النبي e في الماء الذي غسلته أمه فيه، والأخرى: هداية ابن أم جندب بمسح أمه وجهَه ببعض هذا الماء.
ويروي أحمد في المسند عن محمد بن حاطب دليلاً آخر من دلائل نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أقبلت به أمه أم جميل إلى النبي e، وقد انكفأت قدر تغلي على ذراعه، تقول أم جميل: فأتيتُ بك النبي e فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب، فتفل في فيك، ومسح على رأسك، ودعا لك، وجعل يتفل على يديك ويقول: ((أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) فقالت: فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك.
ويمضي حديث الحديبية لينقل لنا دليلاً آخر من دلائل نبوته، يمكننا تلمسه من حال الصحابة مع النبي r كما يخبرنا عنه وفدُ قريش، يقول عروة - وهو يومئذ على الكفر -: فوالله ما تنخم رسولُ الله نخَامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهَه وجِلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحـدون إليه النظر تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قومِ، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ [أي ما] رأيت مَلكاً قط يعظِّمُه أصحابُه ما يعظـم أصحاب محمد e محمداً.
فوقوع هذه الأخبار غير معتاد ولا مألوف مع أحدٍ من الناس، وحتى الملوكُ لا يُصنَعُ لهم ذلك، وقد فعله أصحاب النبي r معه، لتحققهم من بركة النبي e، ولما عاينوه من آثارها، وهذا النوع من التبرك بشخص النبي r حال حياته مشروع أجمعت الأمة على مشروعيته، وهو دليل آخر من دلائل نبوته e.
و من أعلام نبوته ودلائل رسالته e أنه لما قدم المدينة كانت كما وصفتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أوبأَ أرض الله، فقال e: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، وصحِّحْها، وبارك لنا في صاعها ومُدّها، وانقل حُّماها، فاجعلها بالجُحفة)). لقد رفع الله الوباء والحمى عن المدينة بدعوة النبي e، فهي أطهر البقاع وأصحها وأبركها بدعوة النبي e.
قال النووي: "وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة نبينا e ، فإن الجحفة من يومئذ مُجتنبة، ولا يشرب أحد من مائها إلا حُمّ". وقد صدق رحمه الله، فهي مهجورة إلى يومنا هذا.
(((((((لماذا لا نحبه؟؟؟))))هذا النبي الذي سخروا منه..
قالوا فيه ما قالوا، والناس أعداء ما جهلوا.. ألا فليعرفوه ، ولينظروا في أخلاقه، وأوصافه، فشفاء الجهل العلم [1] (http://saaid.net/Doat/khojah/37.htm#1).
أعظم رجل في التاريخ :محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
إنه محمد بن عبد الله ؛ ومحمد معناه : المحمود في كل صفاته.
أخرج البخاري في التاريخ الصغير عن أبي طالب:
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
وقد كان اسمه أحمد كما جاءت تسميته في الكتب السابقة ، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:
-{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
وتسميته محمدا وقعت في القرآن؛ سمي محمدا:
- لأن ربه حمده قبل أن يحمده الناس، وفي الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس.
- ولأنه خص بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود.
- وشرع له الحمد بعد الأكل، والشرب، والدعاء، وبعد القدوم من السفر.
وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه...
* * *
وأما عن صفاته الخَلقية:
- فهو أبيض، ليس شديد البياض أمهقا، بل مشربا بحمرة، قال أبو طالب:
وأبيضُ يستسقى الغمام بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
- ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد.
- بعيد ما بين المنكبين.
- شديد سواد الشعر، ليس بالجعد القطط؛ وهو الشعر الذي يلتف على بعضه، ولا بالسبط؛ وهو الشعر المسترسل
الناعم شديد النعومة، وإنما بين ذلك، يبلغ شحمة أذنيه، وقيل: "منكبيه".. يفرقها فرقتين من وسط الرأس،
وفي شعر رأسه ولحيته شعيرات بيض لا تبلغ العشرون.
- مليح، وجهه مثل القمر في استدارته وجماله، ومثل الشمس في إشراقه، إذا سر يستنير ويتهلل وتنفرج أساريره.
- واسع الفم، والعرب تمدح بذلك وتذم بصغر الفم، جميل العينين قال جابر: "أشكل العينين" رواه مسلم
قيل أشكل العينين: "أي طويل شق العينين"، وقيل: "حمرة في بياض العينين".
- يداه رحبتان كبيرتان واسعتان لينة الملمس كالحرير، يقول أنس: "ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين
من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم". متفق عليه
- قدماه غليظتان لينة الملمس، فكان يجمع في بدنه وأطرافه بين لين الملمس وقوة العظام.
- يداه باردتان، لهما رائحة المسك، يقول أبو جحيفة: "قام الناس فجعلوا يأخذون يديه، فيمسحون بهما وجوههم،
فأخذت بيده فوضعتهما على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك"رواه البخاري.
* وعن جابر بن سمرة: "مسح رسول الله خدي، فوجدت ليده بردا أو ريحا، كأنما أخرجها من جؤنة عطار"مسلم
* عرقه أطيب من ريح المسك، قال أنس: " كأن عرقه اللؤلؤ " مسلم.
* ويقول وائل بن حجر: " لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يمس جلدي جلده، فأتعرقه بعد في
يدي، وإنه لأطيب رائحة من المسك". الطبراني والبيقهي
- وجمعت أم سليم من عرق النبي صلى الله عليه وسلم فجعلته في طيبها.
- وعن أنس: " كان رسول الله صلى الله إذا مر في طريق من طرق المدينة، وجد منه رائحة المسك،
فيقال: مر رسول الله ". أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح
- قال أنس: " ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله" رواه مسلم
- ساقاه بيضاء، تبرقان لمعانا.
- إبطه أبيض، من تعاهده نفسه بالنظافة والتجمل.
- إذا مشى يسرع، كأنما ينحدر من أعلى، لا يستطيع أحد أن يلحق به.
* * *
أما عن صفاته الخُلقية:
- فقد كان أجود الناس، أجود بالخير من الريح المرسلة.
- ما عرض عليه أمران إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما.
- أشد حياء من العذراء في خدرها.
- ما عاب طعاما قط؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- إذا تكلم تكلم ثلاثا، بتمهل، لا يسرع ولا يسترسل، لو عد العاد حديثه لأحصاه.
- لا يحب النميمة ويقول لأصحابه:" لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
- أشجع الناس، وأحسنهم خلقا، قال أنس: "خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي:
أفا قط . ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم
- ما عاب شيئا قط.
- ما سئل شيئا فقال: "لا" . يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
- يحلم على الجاهل، ويصبر على الأذى.
- يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده، ولا ينزعها قبله.
- يقبل على من يحدثه، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- يسلم على الأطفال ويداعبهم.
- يجيب دعوة: الحر، والعبد، والأمة، والمسكين، ويعود المرضى.
- ما التقم أحد أذنه، يريد كلامه، فينحّي رأسه قبله.
- يبدأ من لقيه بالسلام.
- خير الناس لأهله يصبر عليهم، ويغض الطرف عن أخطائهم، ويعينهم في أمور البيت، يخصف نعله، ويخيط ثوبه.
- يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- يجالس الفقراء.
- يجلس حيث انتهى به المجلس.
- يكره أن يقوم له أحد، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- وقاره عجب، لا يضحك إلا تبسما، ولا يتكلم إلا عند الحاجة، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم، حسن السمت.
- إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا، بالأسواق، ولا لعانا، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
- لا يقابل أحدا بشيء يكرهه، وإنما يقول: (ما بال أقوام ).
- لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فينتقم لله.
- ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر:
* دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له..
لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت، فأخذته رعدة، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض، فقال له رسول الله:
"هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
- كان زاهدا في الدنيا:
* يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.
* يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه، فما شبع ثلاثة أيام تباعا
من خبز بر حتى فارق الدنيا .
- كان رحيما بأمته، أعطاه الله دعوة مستجابة، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة، قال:
* ( لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة،
فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري]؛ ولذا قال تعالى عنه:
( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )
* * *
من حسن تقدير الله لهذه الأمة أن جعله رسولها، فلها الفخر بهذا الشرف..
ومن المؤسف:- أن من الناس من لا يستشعر عظمته.
- ومنهم من لا يكترث بحقوقه الواجبة على الأمة، من: محبة، واتباع، وأدب.
- وقد أهمل تعليم الصغار صفاته الخُلُقية والخَلْقية؛ فأطفالنا ينشئون وهم لا يعرفون عن نبيهم إلا:
اسمه وشيئا من نسبه، وهجرته من مكة إلى المدينة. أما صفاته البدنية، وأخلاقه، ومقامه، وحقوقه،
وجوانب سيرته فلا خبر لهم بها. وهذا تقصير منا..!!
نحن نحتاج إلى أن نتعرف على كل صغيرة وكبيرة في حياته، من لدن مولده إلى وفاته.. ينبغي أن
ننظر إليه: مربيا، وقدوة، وقائدا، ورسولا، وسيدا ذا مقام رفيع، وقلب رحيم، ونفس زكية، وأدب جم،
وصبر جميل. من حقه علينا أن ندرس كل جوانب حياته، ونعلم أطفالنا وأزواجنا وأهلينا: من هو رسول الله ؟.
نحن اليوم في غاية الحاجة إلى تدارس سيرته، ولو مرة في الأسبوع :
نجلس في البيت مع الزوجة والأبناء.. نقرأ إحدى كتب السير المعتمدة مثل:
- تهذيب السيرة لابن هشام.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- الشمائل المحمدية للترمذي.
- فقه السيرة للغزالي.
- السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري.
وغيرها.. لابد أن نحرص على مثل هذه الحلقات في بيوتنا، وفي وسائل الإعلام، إن أردنا أن نتزكى ونربي أبناءنا
وأزواجنا، فهذه من أحسن وسائل التربية، وهو السلاح الذي نواجه به الغثاء الذي يتصدر وسائل الإعلام:
- فبه نحفظ أبناءنا من الانسلاخ، والانسياق وراء زخارف: الكفر، والفسق، والشهوات.
- وبه نغرس في قلوبهم محبة رسول الله، والفخر به.
- والتعلق بسنته، وتقليده في العادات والعبادات.
فمن غير المعقول أن تكون سيرة هذا الرجل العظيم، الذي ما حفظ لنا القرآن والسنة والتاريخ سيرة إنسان،
مثلما حفظ سيرته، بين أيدينا ثم نهمله وننصرف عنه!. إن ذلك لغفلة معيبة..!!.
******************
[مراجع: فتح الباري 6/554ـ 578، مسلم الفضائل، البداية والنهاية]
---------------------------------------
[1] - المقصود بهم هنا: الصحف الدنمركية. التي نالت من مقام النبي صلى الله عليه وسلم شخصه بالرسومات، تنقصا، وسخرية.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
المصدر :صيد الفوائد؟؟؟؟؟هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم
محمد شندي الراوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالَمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدِّين …
أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين طاعته والاقتداء بهديه واتِّباع سُنَّته وتوقيره ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق محبة الآباء والأبناء والأزواج والعشيرة، والتجارة والأموال، وأوعد من تخلف عن تحقيق ذلك بالعقاب، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
كان محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأدباً وأكرمهم و أتقاهم وأنقاهم معاملة . قال عنه ربه عز وجل مادحاً وواصفاً خُلقه الكريم صلى الله عليه وسلم (( وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ )) [القلم 4].
عن أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا " - متفق عليه.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
وعن عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
عن عطاء رضي الله عنه قال : قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا - رواه البخاري
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس شرفاً وألطفهم طبعاً وأعدلهم مزاجاً وأسمحهم صلة وأنداهم يداً, لأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
محمد وما أدراك من هو محمد.. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم
- محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين وهو سيد الأولين والآخرين : قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) .
- محمد صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }
وقال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (الأعراف 158)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشفاعة العظمى :
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( فيأتوني ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطى ، واشفع تشفع ) متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود :
قال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (الإسراء: 79)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا - جلوسا على الركب - ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود ) رواه البخاري .
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم : (( وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ))
- محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من تفتح له أبواب الجنة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آتى باب الجنة يوم القيامة فاستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ قال : فأقول : محمد. قال : يقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك (رواه مسلم . )
- محمد صلى الله عليه وسلم أخبره ربه بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الله تعالى : (إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر و يتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ) الآيتان 1و2من سورة الفتح.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان من أعبد الناس :
عن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب الذكر :
قال صلى الله عليه وسلم : (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم : (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره ، مثل الحي والميت) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم : (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس دعاءً ، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) رواه النسائي .
- محمد صلى الله عليه وسلم معجزته باقية خالدة ما بقيت السموات و الارض بعكس معجزات الأنبياء السابقين ، ومعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدين .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان متواضعا وكان أبعد الناس عن الكبر ، كيف لا وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم : (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان شفيقا بمن يخطئ أو من يخالف الحق وكان يُحسن إليه ويعلمه بأحسن أسلوب ، بألطف عبارة وأحسن إشارة ، من ذلك لما جاءه الفتى يستأذنه في الزنا.
فعن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ قال : إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا: مه مه فقال له: (ادنو) ، فدنا منه قريباً ، قال: (أتحبّه لأمّك؟) قال : لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال : (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداءك . قال : (ولا الناس جميعاً يحبونه لبناتهم) قال : (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس جميعاً يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله ، جعلني الله فداءك . قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه ، وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصّن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء . رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله يصبر عليهم ، ويغض الطرف عن أخطائهم قال عليه الصلاة والسلام: (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) سنن الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم
عن الأسود قال : سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : ( كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) رواه مسلم والترمذي.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يخصف نعله ، ويخيط ثوبه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم - رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يمازح أهله ويلاعبهم ويسابقهم..
عن عائشة رضي الله عنها قالت " : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن ، فقال للناس : اقدموا فتقدموا ، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك فسبقته ، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره ، فقال للناس: تقدموا فتقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقك فسبقني ، فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك " رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان عادلا يقيم شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين.
قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَو ِالْوَالِدَيْنِ وَ الأقْرَبِينَ) (النساء:135)
قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت : ( والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد , لقطعت يدها
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ غيورة.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْلٍ مبين ، يعده العاد ليس بسريع لا يُحفظ ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع ، بل هديه فيه أكمل الهديِّ ، كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يتحفظه من جلس إليه) متفق عليه
- محمد صلى الله عليه وسلم , كان يتفقّد أصحابه ويسأل عنهم ، ويواسيهم ويقدم لهم النصيحة
في الحديث كان يزور الأنصار، ويُسَلِّم على صبيانهم ، و يمسح رؤوسهم "، حديث صحيح رواه النسائي.
- محمد صلى الله عليه وسلم يسلم كان يحيى مع أصحابه حياة فطرية عادية ، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم ، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال : " نعم غير أني لا أقول إلا حقاً".
وجاءت إليه امرأة عجوز تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام على ظاهره ، فأفهمها : أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا ، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37( أخرجه الترمذي
أبو عبد الرحمن المصري
05-30-2008, 06:21 PM
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يجالس أصحابه ويماشيهم وإذا مشى مع أصحابه يمشون بين يديه وهو خلفهم ويقول دعوا ظهري للملائكة .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يماشي أصحابه فرادى وجماعة ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه وسال منها الدم فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
- محمد صلى الله عليه وسلم كان في السفر ساقه أصحابه يزجي الضعيف ويردفه ويدعو لهم .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يكرم ضيفه ويجالسهم وكان يجلس على الأرض
لما قدم عليه عدي بن حاتم دعاه إلى منزله فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها فجعلها بينه وبين عدي وجلس صلى الله عليه وسلم على الأرض .
قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يخفض طرفه
عن أبي هالة عن الحسن بن علي قال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان خافض الطرف (من الخفض ضد الرفع ) فكان إذا نظر لم ينظر إلى شيء يخفض بصره لأن هذا من شأن من يكون دائم الفكرة لاشتغال قلبه بربه)، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، وكان جل نظره الملاحظة (المراد أنه لم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشره بل بقدر الحاجة).
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله تعالى بين أن يكون ملكا نبيا أو يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان ينامُ على الفراش تارة ، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ ، وتارة على كِساء أسود قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ( دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر قال : ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال : بلى قال: هو كذلك )
- محمد صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم ؛ تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ليس بمسرع لا يحفظ ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام بل هديه فيه أكمل الهدي قالت عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلام فصل لا فضول ولا تقصير وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه وإذا كره الشيء عرف في وجهه ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان جل ضحكه التبسم بل كله التبسم فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .
وفي الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكنتَ إذا نظرتَ إليه قُلتَ أكحل العينين وليس بأكحل "، حسن رواه الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس معاملة ، وكان إذا استسلف سلفا قضى خيرا منه .
ذكر البزار أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل أربعين صاعا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال صلى الله عليه وسلم : ما جاءنا من شيء بعد فقال الرجل وأراد أن يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل إلا خيرا فأنا خير من تسلف فأعطاه أربعين فضلا وأربعين سلفة فأعطاه ثمانين.
وباعه يهودي بيعا إلى أجل فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه فقال : لم يحل الأجل فقال اليهودي : إنكم لمطل يا بني عبد المطلب فهم به أصحابه فنهاهم فلم يزده ذلك إلا حلما فقال اليهودي : كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فأردت أن أعرفها فأسلم اليهودي.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الأطفال ويداعبهم.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بكاء الصبي يسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما حتى ووضعهما بين يديه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان لطيفا رحيماً فلم يكن فاحشاً ولا متفحشا ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
عن أنس رضي الله عنه قال : "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، والله ما قال أف قط ، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" - رواه الشيخان وأبو داود و الترمذي.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم نبي التيسير على أمته وعلى الناس أجمعين.
عن عائشة رضي الله عنها قالت " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا ، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب أمته ويدعو على من آذاها : ( اللهم من وليَ من أمرِ أمتي شيئاً ، فشقَّ عليهم ، فاشقُق عليه ، و من ولي من أمر أمتي شيئاً ، فرفق بهم ، فارفق به )
- محمد صلى الله عليه وسلم عندما قيل له ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم " إني لم أبعث لعانًا ، وإنما بعثت رحمة " - رواه مسلم
- محمد صلى الله عليه وسلم كان رحيما في تعامله مع الناس حكيما في توجيههم
عن أنس رضي الله عنه قال : " بينما نحن في المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فصاح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : مَه مَه ( أي اترك) !!.قال النبي عليه الصلاة و السلام : لا تُزرموه، (لا تقطعوا بوله).
فترك الصحابة الأعرابي يقضي بَوله ، ثم دعاه الرسول صلى الله عليه و سلم وقال له:
"إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنَّما هي لِذِكر الله والصلاة و قراءة القرآن"، ثم قال لأصحابه صلى الله عليه و سلم: "إنَّما بُعِثتم مُبَشِرين ، ولم تُبعَثوا معسرين، صُبّوا عليه دلواً من الماء".
عندها قال الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ".
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : "لقد تحجَّرتَ واسعاً"، (أي ضَيَّقتَ واسعاً)، متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوتهم دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي .
الإهالة السنخة : أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أُهدي إليَّ كراعٌ لقبلتُ ولو دُعيت عليه لأجبت) رواه الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يقضي حوائج الناس :
عن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته. رواه النسائي والحاكم.
- محمد صلى الله عليه وسلم يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- محمد صلى الله عليه وسلم وقاره عجب ، لا يضحك إلا تبسما ، ولا يتكلم إلا عند الحاجة ، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم ، حسن السمت.
- محمد صلى الله عليه وسلم لا يحب النميمة ويقول لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقا ، قال أنس : "خدمت رسول الله عشر سنين ، والله ما قال لي: أف قط ولا لشيء فعلته : لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم
محمد صلى الله عليه وسلم لا يقابل أحدا بشيء يكرهه ، وإنما يقول: (ما بال أقوام )
- محمد صلى الله عليه وسلم لا يغضب ولا ينتقم لنفسه ، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى ، فينتقم لله.
* محمد صلى الله عليه وسلم دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا ، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له.. لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* محمد صلى الله عليه وسلم وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت ، فأخذته رعدة ، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض ، فقال له رسول الله : " هون عليك ، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
* محمد صلى الله عليه وسلم يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه ، فما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى فارق الدنيا .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته.
- محمد صلى الله عليه وسلم أعطاه الله دعوة مستجابة ، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة ، قال: ( لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري] ؛ ولذا قال تعالى عنه : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الشهران والثلاثة ولا يوقد في بيته نار
عن عروة رضي الله عنه قال : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقول : والله يا ابن أختي كنا لننظر إلى الهلال ثم الهـلال ثـلاثة أهلة في شهرين ما أوقـد في أبيـات رسـول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان عيشكم؟ قالت : الأسودان ـ التمر والماء ـ) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير) رواه الترمذي وابن ماجه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما عاب شيئا قط.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاما قط ؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- محمد صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام.
- محمد صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء.
- محمد صلى الله عليه وسلم يجلس حيث انتهى به المجلس.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس
- محمد صلى الله عليه وسلم أشجع الناس
- محمد صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا فقال: "لا" .
- محمد صلى الله عليه وسلم يحلم على الجاهل ، ويصبر على الأذى.
- محمد صلى الله عليه وسلم يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده ، ولا ينزعها قبله.
- محمد صلى الله عليه وسلم يقبل على من يحدثه ، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما أراد أحد أن يسره بحديث ، إلا واستمع إليه بإنصات.
- محمد صلى الله عليه وسلم يكره أن يقوم له أحد ، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- محمد صلى الله عليه وسلم إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- محمد صلى الله عليه وسلم لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان زاهدا في الدنيا.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يبغض الكذب.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحب العمل إليه ما دوم عليه وإن قل
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أخف الناس صلاة على الناس وأطول الناس صلاة لنفسه
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء أمرا أسره يخر ساجداً شكرا لله تعالى.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدا بنفسه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا الله لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان لا ينام إلا والسواك عند رأسه فإذا استيقظ بدأ بالسواك .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاثة أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى في كل وقت .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس .
- محمد صلى الله عليه وسلم يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.
- محمد صلى الله عليه وسلم على الرغم من حُسن خلقه كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي " - رواه أحمد ورواته ثقات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول " اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق " - رواه أبو داود والنسائي
وختاماً :
قال تعالى : (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً *ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً ) [سورة النساء:69-70].
وقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [سورة الأحزاب:21].
فالمؤمن الحق هو المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وآدابه صلى الله عليه وسلم والمستن بسنته وهديه .
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ وإن الله يبغض الفاحش البذيء)).
وقال صلى الله عليه وسلم : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وخياركم خياركم لأهله)).
ومن ها هنا نعلم اضطرارنا فوق كل ضرورة إلى معرفة نبينا صلى الله عليه وسلم لتقوى محبتنا له ، فإذا ما أحببناه اقتدينا بهديه وتأدبنا بآدابه وتعاليمه ، فبمتابعته يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.
أخي المسلم وبعد هذا أسالك سؤالا فأقول هل تحب نبيك صلى الله عليه وسلم ؟؟؟
هل تريد نصرته ؟؟
فلماذا لا تهتدي بهديه وتستن بسنته وتطيعه ولا تعصيه حتى تكون من أهل سنته؟؟؟
نسأل المولى عز وجل أن يرزقنا حسن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأن ينفعنا بهديه ، لنفوز بشفاعته ومحبته صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وأن يعيننا على خدمة السُنَّة النبوية المُطَهَّرة وأن يجمعنا وإياكم تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه ، وارزقنا مرافقته في الجنة ، اللهم صلى وسلم وبارك أطيب وأزكى صلاة وسلام وبركة على رسولك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه.
وصلى الله على نبينا وحبينا وقرة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه وسلمأنا أحب الرسول http://forum.amrkhaled.net/images/smilies/salla-icon.gif ..وأمي تحبه...وأبي يحبه...وأنت تحبه..
كلنا نحبه..
لكن هل حب الرسولhttp://forum.amrkhaled.net/images/smilies/salla-icon.gif مجرد كلمات تقال؟..
نزعم أننا نحبه فهل هذا صحيح؟؟
إذا كنا نحبه فما درجة هذا الحب؟...
وإذا لم نصل لمرحلة الحب بعد فكيف ندخل حبهhttp://forum.amrkhaled.net/images/smilies/salla-icon.gif إلى قلوبنا؟..
إذا كنت مهتما بهذا الموضوع فإليك هذا الاختبار الذي يمكنك عن طريقه معرفة درجة حبك للرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام..
يتكون هذا الاختبار من خمسة مراحل لكل مرحلة موضوع معين...تشمل كل مرحلة أربعة أسئلة على كل سؤال 10 نقاط تحصل عليها..مجموع النقاط الكامل:100 نقطة..
لهذا سيسهل عليك معرفة درجة حبك له عن طريق هذه النسبة..
عليك بالتزام الصدق التام في هذا الاختبار فأنت المستفيد منه..
وفي نهاية هذا الاختبار بضع نصائح وتوجيهات ستستمتع بها وتستفيد منها بإذن الله..
كما نتمنى ممن سيحصل على نقاط عالية في هذا الاختبار أن يقدم مشاركة لنتنافس معا في حبه وليكتب كل منا مظاهر حبه للرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام..
وإليكم الاختبار:
المرحلة الأولى: ((رسولي وأنا))
سؤال 1. هل تعرف تاريخ ولادته وتاريخ وفاته وأبرز التواريخ في سيرته العطرة؟ "10 نقاط"
سؤال 2. هل تستطيع أن تروي سيرته العطرة بكلماتك الخاصة في أي وقت طلُب منك ذلك؟ "10 نقاط"
سؤال 3. هل تقوم بحفظ أحاديث الرسول http://forum.amrkhaled.net/images/smilies/salla-icon.gif ؟ "10 نقاط
سؤال 4. هل تستطيع وصف ملامح وجهه وصفاته الخَلقية والخُلقية؟ "10 نقاط"
المرحلة الثانية: ((أنا والسنن))
سؤال 1. هل تحافظ على صلاة الضحى بشكل دائم ؟ "10 نقاط"
سؤال 2. هل تحافظ على صلاة أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها؟ "10 نقاط"
سؤال 3.هل تحافظ على صلاة الوتر بشكل دائم؟ "10 نقاط"
سؤال 4. هل تحافظ على صلاة الأوابين ما بين المغرب والعشاء؟ "10 نقاط"
المرحلة الثالثة: ((أنا والالتزام))
سؤال 1. هل تلتزم بالأدعية اليومية والأذكار؟ "10 نقاط"
سؤال 2.هل تلتزم بحسن الخلق وتحاول التخلق بأخلاقه؟ "10 نقاط"
سؤال 3. هل تلتزم بالصلاة عليه كل يوم ولو 100 مرة؟ "10 نقاط"
سؤال 4. هل تلتزم بقراءة أو حفظ صفحة قرآن يومية على الأقل؟ "10 نقاط"
المرحلة الرابعة: ((أنا والفرائض))
سؤال 1. هل تحافظ عل صيام يومي الإثنين والخميس بشكل دائم؟ "10 نقاط"
سؤال 2. هل تحافظ على صيام الست من شوال بشكل دائم؟ "10 نقاط"
سؤال 3. هل تحافظ على صيام ثلاثة أيام من كل شهر؟ "5 نقاط"
سؤال 4.كم تحفظ من القرآن الكريم؟
أ. أ. 1ــ 10 أجزاء؟ "نقطتان"
ب. ب. 10 ــ 20 جزء؟ "3 نقاط"
ت. ج.20 ــ 30 جزء؟ "5 نقاط"
سؤال 5. هل تقرأ القرآن بالتجويد أو تتعلمه؟ "10 نقاط"
المرحلة الخامسة: ((والآن....هل أحبه؟؟))
سؤال 1. هل تقدم محبته على محبة نفسك ووالديك؟ "10 نقاط"
سؤال 2. هل تقاوم رغباتك الشخصية في سبيل تنفيذ أوامره ؟ "10 نقاط"
سؤال 3. هل تفكر دائما فيه وتحن إلى لقاءه وزيارته؟ "10 نقاط"
سؤال 4.هل بكيت مرة شوقا إليه أو تأثرا بمواقف معينة من حياته؟ "10نقاط"
والآن احسب عدد النقاط وانظر نسبتها من 100%...
هناك بعض الأسئلة عن سنن ونوافل ربما لم تكن تلتزم بها في الماضي..لكن إذا عزمت التنفيذ بصدق فتستطيع إضافة خمسة نقاط إلى المجموع...ولا تنس أن الله تعالى مطلع على أعمالنا لذا لا مجال للخداع أو المراوغة..
أسال الله تعالى لي ولكم أن يفرحنا برؤية وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم وأن يمتعنا برفقته والخلود معه في الفردوس الأعلى..
وصلى الله على الحبيب المحبوب الصادق المصدوق الأمين المأمون سيدنا سيد الكونين والثقلين والفريقين محمد ابن عبد الله وعلى آله وصحبه أسيادنا الكرام المكرمين وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
منقول من منتدي عمرو خالد
(((((موضوع مهم؟؟؟))))السلام عليكم
الأستاذ متعلم وضع هذا الرد على علاقته بحوار الأديان بالجامع
وأردت ان أنقله للأعضاء هنا لما له من قيمة ممتازه
--------
بدأت معرفتي بالنصرانية على المستوى الاجتماعي ، منذ سن السادسة تقريبًا ، وحتى عشر سنوات بعدها .. دخلت بيوتهم .. اطلعت على أحوالهم .. شاركت في أعيادهم .. زرت كنائسهم .. وعلى سبيل المثال : أذكر أني في سن العاشرة ، دعاني صديق نصراني لحضور زواج أخته في الكنيسة . وأثناء الإجراءات ، وبعد تلاوة أحد الكهنة لمقاطع ذات صبغة دينية ، بدأ الإنشاد ، ثم فوجئت – وحدي فوجئت – برجل في ملابس الكهنوت ، في يديه "الصاجات" ! يضرب بها مميلاً رأسه بكل رضا ! .. بعد الحفل ، أفهمني صديقي – بعدما وبخني على ضحكي ساعتها – أن هذا يقابل عندنا "الإنشاد الديني" لكن تصاحبه المعازف ، وأن الكهنة عندهم يضربون على المعازف دون أدنى حرج .
وعلى مستوى القراءة ، فحتى سن الخامسة عشر ، كنت قد قرأت كتبًا كثيرة للنصارى وكثيرًا من البايبل الذي لم أستطع إكماله آنذاك للملل الذي كان يصيبني منه بسرعة ، بالإضافة إلى مئات الساعات من السماع لإذاعة تبشيرية معروفة وعشرات المراسلات معها و"الهدايا" منها .
في المقابل ، كنت قد طالعت كثيرًا من الكتابات الجدلية والردود للمسلمين . لكن القراءة شيء والعلم شيء آخر . وأرجو أن ينتبه الأحبة إلى هذا الأمر المهم : القراءة شيء والعلم شيء آخر . قد توصلك القراءة إلى العلم وقد لا توصلك .
لكن بعد الخامسة عشر ، منّ الله علينا بطلب العلم من بابه ، أعني بطريقة منهجية مرتبة .. كانت بداية "الصحوة" خطبة جمعة في مسجد الشيخ فوزي السعيد ، شرح فيها معنى لا إله إلا الله ، وأن معناها ألا محبوب لذاته إلا الله .. فكأنما كنت في سُبات وانتبهت ، وكأنما كان قلبي ميتًا فتنسم نسمة الحياة ..
وأما على مستوى جدال النصارى أو دعوتهم ، فكان منذ الصغر أيضًا ، لكن لم يأخذ طابع "الخصومة" إلا بعد سن العاشرة .. بدأ ذلك عندما أسلم أحد نصارى شارعنا القديم ، ولم يستسلم ساعتها قساوسة كنيسته بسهولة ، كما لم يستسلم في المقابل "إخوة مسجد الشيخ فوزي السعيد" .. انتبهت بعدها للنشاط التبشيري الذي كان يُمارس بكل خسة على الفقراء القاطنين في منطقة سكنية - أمامنا مباشرة - مشهورة بفقرها المدقع .. كان الشمامسة يجولون في شوارعها بكل حرية ، ويقفون أمام البيوت جهارًا يكلمون أصحابها .. شاركت في كثرة كاثرة من هذه الجدالات ، ولم أكن أملك "علمًا" ساعتها ، لكن كنت قد "قرأت" كثيرًا من كتب الردود ونقد النصرانية .
كان كثير من الفقراء يسايرهم لينال المال ، وبعضهم يوهمهم فعلاً بأنه ترك الإسلام لنفس الغرض . الجدير بالذكر أن القساوسة ما كانوا مخدوعين بهذا ، وكانوا يعرفون الواقع ، وكانوا راضين بهذه الحال لأمرين : الأول : أن هذا الوضع على تهافته يفيدهم في الناحية الدعائية أمام أبناء ملتهم . والثاني وهو الأهم : أنهم وإن خسروا الآباء لكن يأملون في اكتساب أطفالهم عن طريق تولي تعليمهم في مدارسهم ومتابعتهم .
خفت الجدالات مع النصارى – نسبيًا - في مرحلة الدراسة الثانوية . ثم عادت بقوة في بداية مرحلة الدراسة الجامعية . كان لي صديق مسلم يعمل في "سنترال" حكومي . وكان على زهد وعبادة وشيء من العلم ، لكن ليس عنده موهبة الجدل على الإطلاق . وكان له زميل عمل نصراني يبلغ أربعين سنة يدرس دراسات عليا في القانون . فلم يكن النصراني يدع صديقي يومًا دون جدال . فشكى لي زميلي الحال ، فقلت له : هذا خير ساقه الله إلينا . بعد فترة أدرك النصراني أن الحال تغيرت ، وسأل صديقي عمن يلقنه فأخبره . بعدها استعان النصراني بأحد قساوسة كنيسة العباسية متخصص في جدال المسلمين . بعدها طلب القس مقابلتي شخصيًا . وقد كان .
في السنوات الأخيرة ، انتبهت إلى فائدة الإنترنت في الدعوة ، فدخلت عالم الإنترنت ، ولم أنقطع – بفضل الله – عن دعوة النصارى في عالم الواقع .. لكن دخلت الإنترنت ..
ألزمت نفسي في البداية شهورًا طويلة بعدم الدخول في أي حوار على الإنترنت ، حتى أتعلم جيدًا قواعد الأمر في عالم الإنترنت ..
تعلمت من (برسوميات) وغيره الكثير .. ونفعني الله بكتابات الإخوة الكبار كالأخت (مسلمة) والأخ (eeww) وغيرهما ..
عالم الإنترنت مختلف تمامًا عن عالم الواقع .. في عدة أمور :
أولاً : قلة الأدب هي الصفة الغالبة على نصارى الإنترنت .. أما في عالم الواقع فمحاورك النصراني يسيل أدبًا ورِقَّة ، لا سيما الشمامسة والقساوسة .. في عالم الواقع ، غالبًا يكون هدف محاورك النصراني إثبات صحة دينه وخطأ دينك .. أما على الإنترنت ، فهدفه غالبًا التشفي والتنفيس عن غيظه وكمده الذي يحرق صدره على هذا الدين وأهله .. في عالم الواقع ، غالبًا يكون محاور النصراني مؤمنًا بعض الإيمان بدينه .. أما على الإنترنت ، فالشهرة لأقباط المهجر ، وأقباط المهجر أكثرهم علمانيون أو ملاحدة ، ثم "المتدين" منهم ترك الأرثوذكسية إلى البروتستانتية تقربًا لوطنه الجديد .. والمؤمن يحاول الالتزام ببعض الخلق والأدب ، أما بنو علمان وبائعو المذهب فالمسألة عندهم سياسة لا دين .
ثانيًا : الجهل هي الصفة الغالبة على نصارى الإنترنت .. بالطبع الجهل صفة فاشية في النصارى وقساوستهم سواء في عالم الواقع أو على الإنترنت ، لكن الإنترنت منبر الجهلاء بلا منازع .. فالإنترنت منبر مَن لا منبر له ، ويمكن لأي جاهل أن يضع المشاركات وينشئ المواقع .. وأي أحمق يمكنه أن يقول « أنا أرى .. وأعتقد .. وبلا شك » فيصير في عين نفسه عظيمًا ويتوهم أنه صار هكذا عند الناس .. وهذا غير خاص بالنصارى فقط ، وإن كان لهم أطول باع في صفة الجهل والضلال ، لكن هو أيضًا للملاحدة وغيرهم ، بل هو في المسلمين أيضًا وإن قلت النسبة .. لأن في عالم الواقع ، نشر الكتب له مشاكله المادية ، وهذه المشاكل تكون بمثابة المصفاة التي تغربل الغثاء ليصفو لك أفضل الغثاء . وبعض الشر أهون من بعض . وأما سهولة الكتابة على الإنترنت ففتحت الباب لكل جاهل وأحمق أن "يشارك" .. عندنا في مصر يقولون : « هبلة ومسكوها طبلة » ! .. وأي "أهبل" يستطيع الآن الإمساك باللاقط على البالتوك مثلاً "ليطبل" كيفما شاء !
فإذا امتلك هذا الجاهل أو الأحمق إشرافًا في منتدى ، أو في غرفة بالتوكية ، فهي المصيبة الكبرى .. فيحذف لهذا ، ويمنع ذاك ، ويطرد هؤلاء .. محاولاً أن يشفي غليله من المسلمين من ناحية ، وأن يتعالم على بني ملته من ناحية أخرى ..
وأنا أشمل بكلامي كثير من المسلمين أيضًا وأسأل الله العافية ..
أكثر قراء الإنترنت – مسلمين أو نصارى أو غيرهم - ليسوا بقراء أصلاً .. فما كانت هوايتهم القراءة قبل الإنترنت ولا بعدها .. وليسوا بأهل سماع ومحاورة أصلاً .. فما كانوا يطيقون سماعًا يطول أو يصبرون على حوار يمتد لا قبل الإنترنت ولا بعدها .. لكن وجدوا على الإنترنت فرصتهم في التعالم والظهور بمظهر "القارئ" و"المحاور" .. واضطرتهم الإنترنت للقراءة بسبب طبيعة المنتديات بها ، فيرتكبون هذه الضرورة ولكن بقدرها ! .. فيقرأ وما هو بقارئ .. يظن القراءة مجرد مس النظر للكلام (أو بعضه) ، ولا صبر عنده على فهم بضعة سطور أو التأمل فيها .. وقل مثل ذلك في مهارات الحوار المسموع ..
ثالثًا : الحوار على الإنترنت ليس ثنائيًا في الغالب .. فمحاورك النصراني في منتداك أو منتداه يكتب كلامًا يراه الذكي والغبي .. وهذه مشكلة تخص المسلم الواعي ، لأنه يعلم أن ترك الهذيان بلا تعقيب قد يغر الجهلاء والساذجين ، والتعقيب على كل هذيان سيضيع الموضوع الأصلى .. مشكلة قَلّ مَن يحسن التعامل معها .
وهي وإن كانت مشكلة للمسلم ، فهي مكسب للنصراني .. لأن النصراني لا يأمل كثيرًا في إثبات صحة دينه كما يرجو المسلم ويعزم .. النصراني كل همه أن يوضح - لبني ملته لا للمسلم - أن الإسلام به "مشاكل" .. هذا قصارى همه .. يريد أن يقول لهم : لا تتركوا النصرانية بسبب مشاكل عقيدتها أو كتابها فالإسلام أيضًا له مشاكله ، فاصبروا على مشاكلكم أفضل .. وعلى هذا يكفي النصراني تمامًا أن يخرج من الموضوع بلا إثبات لصحة دينه أو خطأ صريح للإسلام .. يكفيه تمامًا أن يكون الموضوع تغبيشًا وتشويشًا على الإسلام .. وهو يعلم أن هذه النتيجة تكفي لخداع بني قومه الذين مردوا على التقليد الأعمى .. هذا بالطبع بخلاف هدف التشفي الذي أسلفنا بيانه .
ومع الأسف كثير من المحاورين المسلمين في مجالنا لا ينتبهون لهذه المسألة ، فلا يُحكمون قبضتهم على محاورهم النصراني ، ويتركونه ليتفلت ببعثرة المسائل هنا وهناك ، ويضيع الموضوع ويضيع القارئ ويضيع الوقت ..
كذلك ، فإن النصراني يكون همه التهجم على الإسلام أكثر من إثبات صحة النصرانية ، لأن أكثرهم يائس من هذا الأخير .. أو قل إن النصراني يائس من إثبات صحة دينه بمجرد عرضه ، لكنه يأمل دومًا أن يحقق ذلك بإثبات خطأ الإسلام ..
وقد أدى هذا إلى إعراض أكثر النصارى عن الكلام حول عقيدته أو كتابه ، لأنه يعلم من المشاكل حول عقيدته وكتابه أكثر مما تعلم أنت ! .. فترى واحدهم يقول لك إذا ألزمته بكتابه : دعك من كتابي وديني وأنا من الملحدين ! .. وليس بعد هذا الخزي من خزي !
ومع الأسف ، بعض المسلمين – على البالتوك - يقلد النصارى في مثل هذا ، وإن بدرجة أخف ، وإن لم يكن بنفس اللفظ الفاجر .
والشاهد أن غياب ثنائية الإنترنت مشكلة أمام المسلم الفاهم .. ولذلك أرجو ألا يكتفي الأحبة بالحوارات العلنية على الإنترنت .. بل ينبغي أن يصطادوا كثيرين إلى الحوارات الثنائية ، حيث يستطيعون التركيز أكبر والتوضيح أكثر وعرض الإسلام بطريقة أوضح .. لا سيما والنصراني تأخذه العزة بالإثم في الحوارات العلنية ، فيخشى إن ترك مشاركة دون سب الإسلام أن يعيره إخوانه بالخنوع ، فيلجأ لقلة الأدب مضطرًا في أحيان كثيرة .
رابعًا : الخفاء .. فشخصية محاورك تكون مخفية على الإنترنت ، ومكشوفة بشكل أكبر في عالم الواقع .. وهذا قد يؤدي إلى ضياع أوقات كثيرة على الإنترنت .. فقد يطول حوارك مع خصمك النصراني ، ويشتد عجبك من شدة غبائه ، ولا تكتشف أن محاورك وقع على رأسه وهو صغير مما أدى إلى خلل في عقله يمنعه الفهم والحوار ! .. وقد يطول حوارك مع خصمك النصراني ، ويشتد عجبك من شدة عناده ، ولا تكتشف أن محاورك مأجور يؤدي واجبًا كنسيًا لم يطالبوه بالانتصار في حوار فذاك أمل بعيد ، لكن طالبوه بحوارات "فعالة" في خدمة الرب يسوع له المجد !
خامسًا : سهولة النسخ واللصق .. فالنصراني على الإنترنت عنده كم كبير من الكتب التي يستطيع أن ينسخ منها ويلصق .. فيفتح الموضوع ويبدأ بلصق ما عنده تباعًا ، وهو يوهم نفسه قبل إيهامك والقارئ أنه بذلك النسخ واللصق قد "حاور" ! .. فإذا انتهى مخزونه الإنترنتي انتهى الموضوع وحان الوقت ليقول الكلمة المعروفة : « انتهى الموضوع بالنسبة لي وأترك الحكم للقارئ » !!
وهو حتى لا يكلف نفسه أن ينسخ ويلصق من كتب خارج الإنترنت .. هذا عبث وضياع للأوقات ينزه نفسه عنه !
بالطبع قد يكون سؤال المسلم المطروح لا وجود لإجابة عليه مباشرة في "مخزون" الأفندي النصراني .. لا مشكلة .. سيحاول تطويع الموضوع للمخزون لا العكس ! .. إما بأن يجر المسلم إلى مسائل موجود إجابتها المباشرة في "المخزون" .. أو بنظام "التعامي" فيترك المسلم يكتب ويلصق له أقرب ما في "المخزون" ، مع الادعاء الدائم أثناء ذلك وبعده ، أنه رد على كل ما أثاره المسلم ، ووضع كل الأدلة التي تقنع أي عاقل ، وفعل كل شيء ، لكن المسلم معاند لا أكثر ! ..
بالنسبة للكتب ، فأعظم كتابين لطالب العلم المجتهد – والله أعلم – : كتاب "الجواب الصحيح" وكتاب "إظهار الحق" .
لكن ينبغي ألا ننظر للكتابين على أنهما يقدمان "معلومات" ، وإنما هما يقدمان "منهجًا" في هذا المجال ..
وهذا الأمر واضح جدًا مع كتاب "الجواب الصحيح" .. فابن تيمية يصرح باللفظ الصريح أن "طريقة" الرد تكون هكذا .. ويعلمك ما أفاض الله عليه من علمه ..
و"إظهار الحق" وإن كان لا يصرح بمثل هذا اللفظ ، لكن منهجه واضح جدًا ..
وبالرغم من وجود كتابات كثيرة جيدة تلت "إظهار الحق" إلا أن في "إظهار الحق" مزايا لا يستطيع جمعها أكثر المحدثين ..
على سبيل المثال : مسألة التوثيق .. كثير من كتابات المسلمين على الإنترنت ينقصها التوثيق المفيد للقارئ ..
ثم إن الشيخ "رحمت الله" ما كان ينقل عن مراجع وسيطة في الاحتجاج ، وإن فعل يكون المرجع الوسيط حجة على المخالف .. انظر الآن إلى رسالات الماجستير والدكتوراة في مجالنا .. أكثرها – إلا ما رحم ربك – لا يعرف إلا المراجع الوسيطة التي ليست بحجة على المخالف .. فتجدهم يوثقون عقائد النصارى من كتب الشيخ أبي زهرة وغيره من المسلمين ..
والشيخ "رحمت الله" ما كان يحتج على النصارى بقول غيرهم ، بل ما كان يحتج على طائفة منهم بقول الأخرى .. مع الأسف فإن أكثر الأكاديميين مولعون بالاحتجاج على النصارى بقول أي مايكل وأي جورج لمجرد أن اسمه مايكل أو جورج ، غير منتبهين أن من يحتجون بقوله ملحد لا نصراني .. وحتى لو كان نصرانيًا فالحجة تشترط أن يكون من علمائهم على الأقل .
وكثير من الأكاديميين يحتجون على النصارى بقول أستاذ اللاهوت فلان بالكلية العلانية .. ولا ينتبهون أن الغرب عج بزخم هائل من كليات لاهوتية لا يعترف بها جمهور النصارى .. بل أكثر هؤلاء الأساتذة ملاحدة أصلاً أو يفهمون النصرانية بطريقتهم الخاصة ..
وهذه إشارة عابرة إلى ميزة واحدة في كتاب "إظهار الحق" .. واللبيب بالإشارة يفهم .
أعتذر بشدة عن الإطالة .. وأرجو الله أن ينفع بنا وبكم .
توحيد
ثالثًا : الحوار على الإنترنت ليس ثنائيًا في الغالب .. فمحاورك النصراني في منتداك أو منتداه يكتب كلامًا يراه الذكي والغبي .. وهذه مشكلة تخص المسلم الواعي ، لأنه يعلم أن ترك الهذيان بلا تعقيب قد يغر الجهلاء والساذجين ، والتعقيب على كل هذيان سيضيع الموضوع الأصلى .. مشكلة قَلّ مَن يحسن التعامل معها .
وهي وإن كانت مشكلة للمسلم ، فهي مكسب للنصراني .. لأن النصراني لا يأمل كثيرًا في إثبات صحة دينه كما يرجو المسلم ويعزم .. النصراني كل همه أن يوضح - لبني ملته لا للمسلم - أن الإسلام به "مشاكل" .. هذا قصارى همه .. يريد أن يقول لهم : لا تتركوا النصرانية بسبب مشاكل عقيدتها أو كتابها فالإسلام أيضًا له مشاكله ، فاصبروا على مشاكلكم أفضل .. وعلى هذا يكفي النصراني تمامًا أن يخرج من الموضوع بلا إثبات لصحة دينه أو خطأ صريح للإسلام .. يكفيه تمامًا أن يكون الموضوع تغبيشًا وتشويشًا على الإسلام .. وهو يعلم أن هذه النتيجة تكفي لخداع بني قومه الذين مردوا على التقليد الأعمى .. هذا بالطبع بخلاف هدف التشفي الذي أسلفنا بيانه
:x029::x029::x029::x029::x029::x029:
الحقيقة المقال كله اكثر من رائع .. ويحلل الأمور بامتياز ... ولكن هذه الفقرة بالذات .. جاءت على الجرح
باحث سلفى
ولا تكتشف أن محاورك وقع على رأسه وهو صغير مما أدى إلى خلل في عقله يمنعه الفهم والحوار !
ما معنى هذه هل معناها التعميد
الشرقاوى
-
ما معنى هذه هل معناها التعميد
المعنى اخي الكريم أنك ستكتشف بعد وقت طويل وجهد كبير أن غباؤه وتعنته الظاهر بسبب أنه مغسول المخ ومأجور الجيب ولهذا فهدفهم ليس الحوار???????====
???????((((((((طفلة مسيحية في ثالثة ابتدائي تسأل البابا شنودة :
إزاي بابا يسوع يرسل ملاك للسيدة العذراء علشان تولده وهو موجود فوق في السماء ؟?????????=????????????ورد بسفر حزقيال بالإصحاح رقم 23 بعنوان الأختان الزانيتان كلام على لسان الرب يتحدث فيه إلى فتاتين داعرتين اسمهما أهولة وأهوليبية كرمز لبلدتي السامرة وأورشليم , ويتحدث الرب في هذا الإصحاح لتلك الفتاتين بكلام في منتهى الفحش والبذاءة لا يمكن أن يصدر حتى من عربيد .. وليس من إله !!!
حيث ورد بسفر حزقيال ( 23 : 1-4 ) باللغة الإنجليزية لطبعة New International Version ما يلي:
" The word of the Lord came to me : Son of man : there were two women , daughters of the same mother . they became prostitutes in Egypt , engaging in prostitution from their youth . In that land their breasts were fondled and their virgin bosoms caressed " .
والترجمة العربية لها كما يلي :
" وقال لي الرب : يا ابن البشر , كانت امرأتان , ابنتا أم واحدة . وزنتا في صباهما في مصر . هناك دغدغوا ثدييهما وداعبوا نهود بكارتهما ".
وأرجو من الأخوة القراء ملاحظة جملة .. " دغدغوا ثدييهما وداعبوا نهود بكارتهما .. وترجمتها الإنجليزية:
" Their breasts were fondled and their virgin bosoms caressed ".
خامسا:
ورد بسفر حزقيال ( 23 : 8 ) باللغة الإنجليزية بطبعة New International Version ما يلي:
" She did not give up the prostitution she began in Egypt , when during her youth men slept with her , caressed her virgin bosom and poured out their lust upon her ".
والترجمة العربية لها كما يلي:
" وما أقلعت عن فواحش اتخذتها في مصر , حيث ضاجعوها في صباها , وداعبوا نهود بكارتها وأفرغوا شهوتهم عليها "
وأرجو من كل الأخوة القراء ملاحظة جملة .. " داعبوا نهود بكارتها وأفرغوا شهوتهم عليها " .. وترجمتها الإنجليزية:
" caressed her virgin bosom and poured out their lust upon her " .
سادسا:
ورد بسفر حزقيال ( 23 : 19-20 ) بطبعة New International Version ما يلي:
" Yet she became more and more promiscuous as she recalled the days of her youth ,when she was a prostitute in Egypt . There she lusted after her lovers , whose genitals was like that of donkeys and whose emission like that of horses ".
والترجمة العربية لها كما يلي:
" وأصبحت اكثر وأكثر فحشا وهيجانا , لتتذكر أيام صباها عندما كانت عاهرة في مصر , ودفع بها الشبق إلى عشاقها الذين أعضاء ذكورتهم شبيهة بأعضاء الذكورة لدى الحمير والتي تقذف منيا كمني الخيل " …. يا للبذاءة !!!
والغريب حقا أن الترجمة العربية للجملة الأخيرة والتي تقول : " ودفع بها الشبق إلى عشاقها الذين أعضاء ذكورتهم شبيهة بأعضاء الذكورة لدى الحمير والتي تقذف منيا كمني الخيل " .. لم تكن ترجمة عربية صحيحة وأمينة في طبعة فان دايكن , حيث جاءت الترجمة كالتالي:
" وعشقت معشوقيهم الذين لحمهم كلحم الحمير ومنيهم كمني الخيل " !!!!!!!!
حيث أن المغالطة واضحة , فترجمة كلمة whose genitals تعني أعضاء ذكورتهم ولا تعني لحمهم , كما جاء بالترجمة العربية لطبعة فان دايكن , والسؤال هو لماذا ؟؟
لماذا تعمد المترجم استبدال كلمة أعضاء ذكورتهم بكلمة لحمهم ؟؟
ليس ذلك فحسب .. بل أن الكتاب المقدس كان قد ترجم إلى اللغة العربية العامية المصرية في عام 1940 حيث استبدلت كلمة ( لأن ) بكلمة ( علشان ) وكلمة ( مثل ) بكلمة ( زي ) …. وهكذا
ولكن برغم أن هذا المترجم كان قد قام بترجمة كل الكتاب المقدس من اللغة العربية الفصحى إلى اللغة العامية المصرية بمنتهى الدقة والأمانة .. إلا أنه عزف عن ترجمة هذا الإصحاح الفاحش بالذات للعامية المصرية وتركه على حاله بالعربية الفصحى , والسؤال هو لماذا ؟؟
لماذا عزف المترجم المصري عن ترجمة هذا السفر بالذات للعامية المصرية مثلما ترجم باقي الكتاب المقدس للعامية المصرية ؟؟
والإجابة على هذا السؤال ببساطة تتجلى إذا حاولنا ترجمة النص العربي الفصيح إلى العامية المصرية , وإذا أخذنا على سبيل المثال ماورد بسفر حزقيال ( 23 : 1-4 ) والذي يذكر بالعربية الفصحى:
" وقال لي الرب : يا ابن البشر , كانت امرأتان , ابنتا أم واحدة . وزنتا في صباهما في مصر . هناك دغدغوا ثدييهما وداعبوا نهود بكارتهما ".
سنجد أن الترجمة العامية المصرية لها كما يلي:
" وقاللي الرب : يابن البشر , كان في اتنين ستات , بنتين لأم واحدة . وهم صغيرين زنوا في مصر , وهناك (-----) لهم في (------) و(-----)ا لهم في (------)" .... كلام بذيء لا يمكنني ترجمته إلى العامية المصرية
وإذا قمنا بترجمة النص العربي الفصيح الذي جاء بسفر حزقيال ( 23 : 19-20 ) والذي يقول:
" وأصبحت اكثر وأكثر فحشا وهيجانا , لتتذكر أيام صباها عندما كانت عاهرة في مصر , ودفع بها الشبق إلى عشاقها الذين أعضاء ذكورتهم شبيهة بأعضاء الذكورة لدى الحمير والتي تقذف منيا كمني الخيل "
سنجد أن الترجمة للعامية المصرية كما يلي:
" وبقيتي (----) أكتر واكتر , وافتكرتي أيام طفولتك أما كنتي (-----) في مصر , و(------) خلاكي تجري على عشاقك اللي (------) زي (-----) الحمير ومنيهم زي مني الخيل ".
هل أبدو بذيئا ؟؟
هل يراني الأخوة القراء بذيئا ؟؟
ولكن .. هذا ليس بكلامي أنا .. هذا الكلام جاء في الكتاب المقدس كما يدعون على الله تعالى ( سبحان الله عما يصفون )
إن كلمة (عاهرة) معناها الحرفي في العامية المصرية كلمة بمعنى (الخرقة البالية) , ولكنها تستخدم عند المصريين أيضا كدلالة على المرأة العاهرة .. فلماذا لم يكن المترجم أمينا في ترجمته للعامية المصرية ؟؟
وقبل أن يصرخ أحد النصارى ويقول أنه ليس من حقي أن أترجم الكتاب المقدس إلى العامية المصرية ويجب أن أقرأه بالعربية الفصحى , أقول للجميع أنكم أنتم الذين ترجمتم الكتاب المقدس إلى كل لغات العالم وليست العامية المصرية فحسب .. كما أنكم أطلقتم على كل ترجمة للكتاب المقدس اسم الكتاب المقدس.
إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يصح التعبد به أو تلاوته إلا باللغة العربية التي أنزل بها.
وقد أجمع علماء المسلمين على أن أي ترجمة للقرآن ليست بقرآن .
فالقرآن لابد وأن يقرأ بالعربية التي أنزل بها مصداقا لقول الله عز وجل في سورة يوسف .. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {2}.. صدق الله العظيم.
وتعليقا عما ورد بنصوص الكتاب المقدس في رابعا وخامسا وسادسا
2- هل أفلس الله ( سبحانه وتعالى عما يصفون ) أيها النصارى كي لا يجد إلا هذه الأمثلة الفاحشة والكلام البذيء ؟؟
2- ألم تقرؤوا في القرآن الكريم العفيف كيف يضرب الله الأمثال في القرآن الكريم ؟؟
3- ألم تقرؤوا قول الله تعالى في سورة الرعد في قوله تعالى:
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ {17}.. صدق الله العظيم
ألم تقرؤوا قول الله تعالى في سورة إبراهيم في قوله تعالى :
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ{26}
أرأيتم كيف يضرب الله الأمثال ؟؟
3- ألم يجد الله (سبحانه وتعالى عما يصفون) شيئا أكثر عفة من أذكار الحمير التي ذكرها في سفر حزقيال ( 23 : 20 ) ؟؟
هل تعلموا أيها النصارى أن الحمار قد ضرب به المثل في القرآن , ولكن مع الفارق الرهيب في المعني واللفظ
ألم تقرؤوا قول الله تعالى في سورة لقمان :
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19}.. صدق الله العظيم
ومن منا لا يعرف صوت الحمار ؟؟
إن أي طفل يستطيع أن يقلد صوت الحمار
إن الله ضرب مثلا بشيء معروف للناس ولا يخدش حياءهم , للتوضيح ولتنفيرهم من رفع الصوت , وهذا هو الغرض من ضرب الأمثال.
إن صوت الحمار - المذكور في القرآن الكريم - قد يكون مزعجا .. ولكنه لا يجرح الشعور ويخدش الحياء ويؤذي الشعور مثل ذكر الحمار المذكور في الكتاب المقدس.
ولكن ما الغرض من ذكر أذكار الحمير ؟؟ .. وهل منظر وشكل أذكار الحمير معروف لدى الناس مثل صوت الحمير ؟
هل يفترض الله عز وجل أن كل البشر قد رأوا أذكار الحمير ؟؟
أم هل هي دعوة من كتابكم المقدس لكم ولنسائكم ولفتياتكم للنظر إلى ذكر الحمار ؟؟
وإذا كنتم قد رأيتم ذكر الحمار وتفحصتموه .. فهل رأيتم مني الخيل ؟؟
هل رأي أحد من الأخوة القراء من قبل أذكار الحمير أو مني الخيل ؟؟
أم هل هي دعوة من الله عز وجل للتمعن والتدبر في أذكار الحمير ومني الخيل ؟؟
وما رأي الأخوة القراء ؟؟
وفي النهاية لا يسعني إلا أن أوجه رسالة اعتذار إلى كل الأخوة القراء عموما والأخوات القارئات خصوصا على ما ذكرت في هذه الرسالة من كلام يخدش الحياء العام .. ولكني أعود وأؤكد , أن هذا الكلام ليس كلامي أنا , ولكنه كلام الكتاب (المقدس) !!???????????(((((((((( (((قصة عمو شفيق)))))=========قصة العم شفيق!
العم شفيق كان رجل طيب جدا جدا جدا و متسامح
و كان عنده اولاد كتير بيحبهم اوى
و بيصرف عليهم جامد و يديهم كل اللى يطلبوه
الظاهر بقى انه دلعهم جامد اوى
لدرجة انهم خانوه و عصوه و سبوه و تمردوا عليه
إلا كبيرهم ماعملش زيهم
كان مؤدب و بار بأبوه
و لذلك كان احب واحد لأبوه
لكن المعاصى كترت
ففكر العم شفيق ازاى يسامح اولاده السيئيين؟
هو بيحبهم و مش عايز يشيل فى نفسه حاجة منهم
فجمعهم مرة و قال لهم
انا بحبكم جدا و قررت أنى أسامحكم على كل حاجة عملتوها
فقررت انى أضحى بابنى البكر الحبيب
و "أطلع" فيه كل غيظى
و اذبحه عشان انا بحبكم اوى
و مش عايز احاسبكم على معاصيكم
و اخترت الوحيد فيكم اللى ما عصانيش عشان أذبحه
بدل ما أطلع غيظى فيكم كلكم
و فعلا!
جاب ابنه حبيبه و قرر يذبحه
الابن الكبير قعد يصرخ و يمسك فى هدومه
ارجوك ارجوك ما تذبحنيش
لكن العم شفيق اللى كان اسم على مسمى
لم يشفق على ابنه حبيبه الوحيد
لأنه شفيق و بيحب اولاده العصاة جدا جدا
و نفسه يسامحهم
فكان لازم يضحى بحبيبه!
و بالرغم من كل استغاثات ابنه الكبير
ذبحه!
و قال لاولاده العصاة
يلا يلا هيصوا فى المعاصى
مش ممكن ابدا هزعل منكم
ما انا خلاص طلعت غيظى فى ابنى البكر
هسامحكم مهما عملتم
بس بشرط!
لازم لازم لازم
تصدقوا انى ذبحت ابنى الكبير عشان اقدر اسامحكم
و اللى مش هيصدق
هاعقبه عقاب صعب اوى
هاولع فيه!
لكن لو صدقتم
انى عشان انا شفيق
و بحبكم جدا جدا جدا
ذبحت ابنى عشان اقدر اسامحكم
هكافئكم مكافآت محصلتش
كل اللى نفسكم فيه هاجيبوه لكم
و هاحبكم اكتر و اكتر
و بكده عشان اولاده فى طغيان المعاصى
و هما واثقين ان ابوهم بيحبهم جدا جدا جدا
لأنه فعلا اسم على مسمى
فعلا العم شفيق شفيق جداااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا!
القصة دى بتفكركم بحاجة؟!؟؟؟؟؟؟؟((((((مش عارفة ليه القصة دى بتفكرنى بقصة قائد الجيش "حبيب"اللى كان برده اسم على مسمى!
كل أفراد الجيش بيحبوه جدا جدا جدا
و ليل نهار يقولوا شعارات تعبيرهم عن حبهم له و حبه لهم
عشان كده كانوا بيسمعوا أوامره حرف بحرف لما كان يأمرهم بقوانين الحب
قوانين الحب دى هو الوحيد اللى وضعها فى الجيش
حب من نوع خاص جدا
الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك
فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي
وَاقْتُلُوا. لاَ تَتَرََّأفْ عُيُونُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا
لان من ليس علينا فهو معنا.
فالآن اقتلوا كل ذكر من الاطفال.وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها
.تحطم أطفالهم والحوامل تشقّ
نجسوا البيت واملأوا الدور قتلى
سيف سيف مسلول للذبح مصقول للغاية للبريق
واحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار
لأن قائدنا حبيب نار آكلة
لا سلام
بل حب! ولكن حب من نوع خاااااااااااااااص جدا
وكما يقول المثل فمن الحب ما قتل؟؟؟؟؟=========((((((لأ و كمان بتفكرنى بقصة المدرس "أمين" فعلا فعلا كان اسم على مسمى
كان مدرس شاطر أوى أوى و بيشرح حلو جدا للتلاميذ
عشان يبقوا شاطرين و ينجحوا فى الامتحان الكبير
فكانوا بيحبوه و بيسمعوا كلامه
و كاتبلهم كتاب فى الشرح كله
بس حذرهم انه ما يعرفش معاد الامتحان
و مش هو اللى هيحط الأسئلة
لكن كان فى مدرس تانى حقود عليه
عشان ماكانش شاطر زيه
و كان نفسه ان تلاميذ "أمين" يسقطوا
فعمل خطة!
قال لهم المدرس بتاعكم عامل لكم مفاجأة
انه هو اللى هيمتحن بدلكم
عشان بيحبكم اوى اوى اوى
و مش عايزكم تتعبوا
هو اللى هيمتحن بدلكم! فعلى ايه وجع القلب...اوعوا تذاكروا
فالتلاميذ اتقسموا نصين
الشاطرين قالوا مش ممكن يكون الكلام ده صح
أمال كان ليه تعب نفسه و شرح كل حاجة جامد اوى
و كمان كاتب لنا كتاب و قال مهم جدا تذاكروه
و كان دايما يقول انه مش عارف أصلا امتى الامتحان
يبقى ازاى هو اللى هيمتحن بدلنا!
و النص التانى كانوا التلاميذ الخايبين
ما صدقوا!!!
لقوا شماعة يعلقوا عليها حجتهم أنهم خايبين
و يقولوا لأ أصله كان بيحبنا اوى اوى أوى
فعشان كده مش عايزنا نوجع قلبنا بالمذاكرة
و ليه نخاف من المتحان
احنا اهل سلام مش اهل خوف و شقا زيكم!
احنا واثقين فى حبه لينا!
على فكرة!
الإمتحان لسه ماجاش
بس على العموم...
فى الإمتحان...يكرم المرء أو يهان!؟؟؟؟؟=========????????????((((((((( متى نرى رئساً قبطياً لمصر ؟ عندما نرى رئيساً مسلماً لإسبانيا أو إيطاليا أو أمريكا
بقلم / محمود القاعود
منذ إعلان فوز مرشح الحزب الديمقراطى بالولايات المتحدة ، صاحب البشرة السمراء باراك أوباما بمنصب الرئيس يوم 4/11/2008م ؛ منذ ذلك الحين ونصارى مصر وأذنابهم يتطوحون فى حلقة ذكر شيطانية متواصلة ، يطالبون بما أسموه رئيس قبطى لمصر !! على غرار الرئيس المسلم ! – يقصدون أوباما – الذى فاز فى أمريكا بمنصب الرئاسة !! .
والحق أقول : إن عقلية هؤلاء النصارى وأذنابهم تدل دلالة قاطعة على اختلال تكوينهم النفسى ، واضطراب شخصياتهم المريضة الحاقدة ..
أولاً : لونه أحمر أو أخضر أو أصفر أو رمادى أو أزرق أو فوشيا أو روز لا يعنينا هذا من قريب أو بعيد .. فما ذنب الإنسان فى اللون الذى اختاره الله له ؟! إن من يعيدون الحديث كثيراً عن لون أوباما هم العنصريون ودعاة التفرقة على أساس الألوان .. والغريب أن نصارى مصر وأذنابهم وحدهم فقط هم الذين يتحدث عن لون أوباما .. بينما ينظرون إليه فى الولايات المتحدة على أنه شاب مكافح تغلب على صعاب الحياة بعمله وجهده لم يؤثر فيه رحيل أب أو أم ..
ثانياً : ما هو دين أوباما ؟؟ يدين أوباما بالنصرانية البروتستانتينية وهى ديانة الأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكى .. إذاً فأوباما ليس من الأقليات فى شئ
ثالثاً : والده مسلم ! .. وماذا فى هذا ؟؟ أوباما نفسه بماذا يدين ؟؟ بالبروتستانتينية .. وعليه فلا حرج فى ذلك إن كان والده مسلم أو يهودى ..
لنفرض مثلاً أن شنودة الثالث اعتنق الإسلام ، وقام بترشيح نفسه فى انتخابات الرئاسة المصرية وهو مسلم .. فإن رأينا شنودة الثالث رئيساً لمصر فما الغرابة فى ذلك ؟؟ مسلم يحكم شعبا مسلما ... لن نقول لقد كان والده نصرانى أو أن شنودة كان بابا للنصارى أو أنه من أصل يونانى .. لكن ما هو دينه وقت الترشيح للانتخابات ؟؟
رابعاً : موضوع أن أوباما من أصل إفريقى .. المسألة ليست أصل إفريقى أو كورى أو ماليزى .. المسألة التى ينظرون إليها هى دين أوباما .. وإلا لو كان مسلماً لما صار رئيس حى فى شيكاغو .. فالدين عندهم أهم من أى شئ ، وهى النظرية التى وضعها الإسلام العظيم .. ولكن للأسف الشديد الغرب هو الذى ينفذها .
خامساً : يطالب نصارى مصر وهم القلة الضئيلة ( لا يتجاوزون 4 مليون على أكثر التقديرات ، بعيداً عن كذب شنودة وقوله أنهم 12 مليون أو هلوسات نصارى المهجر وقولهم أنهم 16 و 17 و 20 مليون ! ) أن يكون رئيس مصر قبطى ! وأن فى ذلك مواطنة وعدالة .. ورغم تفاهة هذا الطرح العقيم الذى لا يقوم على أى أساس علمى ، ولكننا سنرد :
ما كان لأقلية دينية فى يوم من الأيام أن تطالب بالتحكم فى شئون الدولة والأغلبية الساحقة ، فهذا هو عين السخف .. لكن أن تطالب هذه الأقلية بالحقوق المشروعة فهذا هو المفروض الذى لا خلاف عليه .
المسلمون فى فرنسا ( 7 مليون مسلم فرنسى ) لا يستطيعون الحصول على أبسط حقوقهم فى العبادات وممارسة شعائرهم ، بل ووصل الإجرام هناك بالحكومة الفرنسية أن أصدرت قراراً بحظر ارتداء الحجاب على الفتيات والنساء .. أى أنهم لا يستطيعون الحصول على أبسط حقوقهم .. فهل لهؤلاء أن يتحدثوا عن منصب الرئاسة !؟
إن حديث نصارى مصر عن رئيس نصرانى لمصر ، يُعبر عن حالة الرفاهية التى وصل إليها هؤلاء الكذبة ، الذين من شدة رفاهيتهم وتمتعهم بكافة الحقوق التى لا يحصل عليها المسلمون أنفسهم ، راحوا يطالبون برئيس نصرانى لمصر .
ولكنى رغم ذلك أجدنى أوافق نصارى مصر فى دعوتهم لترشيح رئيس نصرانى لمصر .. لكن بشرط واحد .. أن نرى رئيساً مسلماً لإسبانيا أو إيطاليا أو أمريكا أو فرنسا أو الصين .. وأن يكون مسلماً عقيدة وثقافة وواقعاً .. لا أن يكون يسب الرسول والإسلام والصحابة ويتمنى زوال الإسلام ويشيد بالنصرانية مثل العديد من مسلمى بطاقات الهوية المحسوبين على الإسلام ..
إن تم ذلك فلنصارى مصر ما يريدون !?????=====(((((((((((((((مشاكل البشرية عند الخروف والرعية؟؟؟؟؟؟؟هل سمعتم عن آكلى لحوم الآلهة؟
يقول يوحنا فى الإنجيل المنسوب إليه: (11أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.) يوحنا 10: 11
بينما يقول الكتاب فى رؤية يوحنا: (14هَؤُلاَءِ سَيُحَارِبُونَ الْخَرُوفَ، وَالْخَرُوفُ يَغْلِبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمِنُونَ».) رؤيا يوحنا 17: 14
ويأكد فى رؤياه الموحى بها: (6وَرَأَيْتُ فَإِذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إِلَى كُلِّ الأَرْضِ.) رؤيا يوحنا 5: 6
فإذا كان الإله خروف ، ورعيته خراف ، فلابد من وجود علامة محددة للتمييز بينهم ، حتى لا يذبح جزار الخروف الإله ويترك الخروف البشر ، أو يعبد إنسان الخروف البشر دون الخروف الإله ويسجد له بالباطل!
غريب هذا الدين الذى يأكل لحم إلهه ثم يعبده. فمرة يأكلوا لحمه ودمه المتمثلين فى الخبز والخمر، ومرة يأكلوا لحمه دون خمر متمثلاً فى لحم الخراف! فلماذا لم تحرم النصرانية أكل لحم الخراف؟ أم إن لحم الخروف الإله أطعم وألذَ؟
وعند وجود الخبز المقدس والخمر والخروف الإله ، فبأيها نبدأ فى الأكل؟ وأيها يتحول إلى جسد الإله ودمه؟ وماذا لو جُرِحَ الإله الخروف ، واحتاج لنقل دم ، فأى فصيلة دم يحتاجها هذا الإله؟
وبعد الهضم: هل يوجد تواليت مُحدَّد لإخراج هذا الإله فى صورة الفضلات المعتادة فى هذا المكان؟ وهل يجوز طرد الإله بالسيفون ليجرى مع باقى الآلهة الأخرى التى أنزلها مؤمنون آخرون ، أسعدهم الحظ بأكل إلههم ويختلط مع بقايا فضلات الطعام وروث الإنسان؟
الغريب أن هذا الإله الخروف له زوجة ، فهذه النعجة زوجته لابد أن تكون أيضاً من المُمَيَّزات حتى لايظن إنسان الظنون بجهل فى كل نعجة ، ويدعى أنه طالما سمحت النعجة الإلهة للخروف الإله (بكذا) ، إذن فالزنا مباح ، طالما أن الناتج خراف ، فلا يبالون.
لا تظن أن معنى أن الإله خروف، أنَّ هذا سيِّىء للبشرية. بالعكس ، فهنا تتجلى رحمته على الأخص بالرعاة. نعم. فالإله لابد أن يكون هو الأقوى والأجدر فى كل شىء ، فيمكن لراعى الغنم الذى يملك الخروف الإله أن يُعرِّش خروفه على النعجة لتنجب. ومثل هذا متعارف عليه عند الزراع والرعاة. لكن كله بثمنه ، فثمن النطَّة حوالى عشرة جنيهات.
هى كانت زمان خمسة جنيهات، لكن مع ارتفاع الدولار، أصبحت نطَّة الإله بعشرة جنيهات. لك أن تتخيل إله ينط كل نصف ساعة نطَّة على مدار اليوم كله ، أى 48 نطَّة بمقدار 480 جنيهاً لليوم. ولا يستطيع أن يتوقف ، لأنه هيبقى شكله وحش جداً وسط باقى الخراف اخوانه. وهذا سيدفع باقى الخراف الأخرى للمنافسة ، فيزداد عدد الخراف فى السوق ، وسوف يقل ثمنه. أليست هذه رحمة من الإله الخروف بمالكه؟ أليست هذه رحمة من الإله بآكلى لحمه من البشر الغلابة؟
وربما كان هذا هو السبب الذى أدى بهم إلى أكل لحوم البشر أثناء الحروب الصليبية. اقرأ معى ما كتبه مؤرخيهم عن جرائم تقشعر منها أبدان البشر: (يقول المؤرخ الراهب روبرت: “كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وأسطح المنازل ليرووا غليلهم فى التقتيل ، وذلك كاللبؤات التى خطفت صغارها وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فياللعجب ويا للغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوم، وكان قومنا يقبضون على كل شىء يجدونه ، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية ، فيا للشره وحب الذهب .. .. وكانت الدماء تسيل كالأنهار فى طرق المدينة المغطاة بالجثث .. .. ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية ديناً ، ثم أحضر (بوهيموند) جميع الذين اعتقلهم فى برج القصر ، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم وبسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاكية لكى يباعوا فيها”)
(وفى كتاب من تأليف المطران برتولومي دي لاس كازاس. ترجمة سميرة عزمي الزين. من منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية يقول : ولد ( برتولومي دي لاس كازاس ) عام 1474 م في قشتالة الأسبانية , من أسرة اشتهرت بالتجارة البحرية. وكان والده قد رافق كولومبوس في رحلته الثانية إلى العالم الجديد عام 1493 م أي في السنة التالية لسقوط غرناطة وسقوط الأقنعة عن وجوه الملوك الأسبان والكنيسة الغربية. كذلك فقد عاد أبوه مع كولومبوس بصحبة عبد هندي فتعرف برتولومي على هذا العبد القادم من بلاد الهند الجديدة. بذلك بدأت قصته مع بلاد الهند وأهلها وهو ما يزال صبيا في قشتاله يشاهد ما يرتكبه الأسبان من فضائع بالمسلمين وما يريقونه من دمهم وإنسانيتهم في العالم الجديد.
كانوا يسمون المجازر عقابا وتأديبا لبسط الهيبة وترويع الناس ، كانت سياسة الاجتياح المسيحي: أول ما يفعلونه عندما يدخلون قرية أو مدينة هو ارتكاب مجزرة مخيفة فيها .. .. مجزرة ترتجف منها أوصال هذه النعاج المرهفة).
وإنه كثيرا ما كان يصف لك القاتل والمبشر في مشهد واحد فلا تعرف مِمَّا تحزن: أمن مشهد القاتل وهو يذبح ضحيته أو يحرقها أو يطعمها للكلاب , أم من مشهد المبشر الذي تراه خائفا من أن تلفظ الضحية أنفاسها قبل أن يتكرم عليها بالعماد ، فيركض إليها لاهثا يجرجر أذيال جبته وغلاظته وثقل دمه لينصرها بعد أن نضج جسدها بالنار أو اغتسلت بدمها , أو التهمت الكلاب نصف أحشائها.
إن العقل الجسور والخيال الجموح ليعجزان عن الفهم والإحاطة ، فإبادة عشرات الملايين من البشر في فترة لا تتجاوز الخمسين سنة هول لم تأت به كوارث الطبيعة. ثم إن كوارث الطبيعة تقتل بطريقة واحدة. أما المسيحيون الأسبان فكانوا يتفننون ويبتدعون ويتسلون بعذاب البشر وقتلهم. كانوا يجرون الرضيع من بين يدي أمه ويلوحون به في الهواء, ثم يخبطون رأسه بالصخر أو بجذوع الشجر , أو يقذفون به إلى أبعد ما يستطيعون. وإذا جاعت كلابهم قطعوا لها أطراف أول طفل هندي يلقونه , ورموه إلى أشداقها ثم أتبعوها بباقي الجسد. وكانوا يقتلون الطفل ويشوونه من أجل أن يأكلوا لحم كفيه وقدميه قائلين : إن أشهى لحم هو لحم الإنسان.)
ولأن الكتاب يقول إنه إله غير قادر على كل شىء: (30أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً.) يوحنا 5: 30 ، فلابد له أن يأخذ فياجرا ، ومن هنا تزداد رحمته بتجار وصُنَّاع الفياجرا ، والأطباء البيطريين ، الذين سيولِّدون النعاج. ومن هنا سيجتهد التلاميذ للحصول على أعلى الدرجات للإلتحاق بكلية الطب البيطرى ، وسينتشر البحث العلمى فى مجال الخراف ، وتتقدم البلد علمياً وتزدهر بالتالى أيضاً إقتصادياً.
وبالطبع ستشمل رحمته الزراع ، فسيكثر البرسيم فى الأرض ، وهذا سينعكس بصورة إيجابية جداً على كل الحيوانات التى تشترك معه فى هذا الطعام. وستتحول الحدائق إلى أراضى خضراء ، وهذا سينقى الجو من ثانى أكسيد الكربون ، وتتحسن صحة المواطنين. وبهذا يتضح لك أن هذا الإله الخروف صديق للبيئة.
لكن ماذا ستفعل شركات الأدوية التى تستفيد من تدهْور صحة المواطنين؟ لا تقلق! فالرب الخروف عامل حسابه كويس على كل شىء! فهو لن يترك كل الناس تزرع برسيم ، لأنهم يحتاجون للمزروعات الأخرى ، لذلك قرَّرَ الرب الخروف أن يتحوَّل إلى حيوان مفترس ، ليُقلِّل عدد الخراف التى فى العالم ، وبالطبع الفزع والأمراض والأوجاع التى ستصيب الإنسان بسبب تحوَّل قطيع الخراف إلى حيوانات مفترسة ، سيجعلنا نلجأ للأطباء البشريين والصيدليات. (4«وَأَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَإِلَهاً سُِوَايَ لَسْتَ تَعْرِفُ وَلاَ مُخَلِّصَ غَيْرِي. 5أَنَا عَرَفْتُكَ فِي الْبَرِّيَّةِ فِي أَرْضِ الْعَطَشِ. 6لَمَّا رَعُوا شَبِعُوا. شَبِعُوا وَارْتَفَعَتْ قُلُوبُهُمْ لِذَلِكَ نَسُونِي. 7«فَأَكُونُ لَهُمْ كَأَسَدٍ. أَرْصُدُ عَلَى الطَّرِيقِ كَنَمِرٍ. 8أَصْدِمُهُمْ كَدُبَّةٍ مُثْكِلٍ وَأَشُقُّ شَغَافَ قَلْبِهِمْ وَآكُلُهُمْ هُنَاكَ كَلَبْوَةٍ. يُمَزِّقُهُمْ وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ.) هوشع 13: 4-8
وهذا عمل إنسانى كبير يُخلِّص الدولة من البطالة ، لأن كثير جداً من الناس سوف تفضل الجلوس فى المنزل عن الخروج للصيدلية ، وبالتالى سيطلب كل منزل الأدوية بالتليفون. وفى هذه الحالة لابد من وجود 10 موظفين فى كل صيدلية على الأقل لتوصيل الطلبات للمنازل.
ولكن سترتفع أجرة الطبيب الزائر للمنزل. وهنا أقول لك: إن هذا الإله الرحيم بلغت نسبة ذكائه إلى درجة ، لايمكنك تخيلها: أولاً لن ترتفع أجرة الطبيب الزائر للمريض فى البيت، لأنه يوجد حوالى 33% من الأطباء الخريجين بدون عمل ، وهذا رحمة من الخروف.
أضف إلى ذلك أن ربنا ابتلى مصر بوزير للتربية والتعليم ، أفسد النشىء والمدرسين والمدارس والمناهج ، وكل ما ينتمى إلى التعليم أو حتى التربية ، فأصبحت الإمتحانات فى غاية التفاهة ، ويعتمد عدد كبير من التلاميذ على النجاح بالغش ، بل إن هناك من ينجح دون أن يكتب شىء فى ورقة الإجابة: لكن عليه أن يفتَّح مخه مع مدير المدرسة ، والمسؤول عن الكنترول.
وحتى لو زاد أجر الطبيب ، فهو رحمة بالمدرسين الخصوصيين ، حتى تتركهم الصحافة ، وتتجه قبلة الحكومة إلى محاربتهم بدلاً من المدرسين. وهنا سوف يعمل المعلمون بصفاء ذهنى أكبر ، مما سيؤدى إلى تحسُّن العملية التعليمية ، ويؤدى الوزير دوره فى محاربة الدروس الخصوصية.
وهنا سيستقيل 99.99% من المدرسين ، مما سيتيح للدولة أن تخصخص المدارس ، وتبيعها بمليارات الجنيهات ، ثم يأتى مستثمر كبير مثل رامى لكَّح ويسرقها ويغادر البلد.
وهذا أيضاً فيه خير على الصحفيين ، الذين سيجدون فى مثل هذه الموضوعات مادة صحفية ممتعة ، تشغل الناس أكثر عن عبادة الرب الخروف ، والإهتمام بمصالحهم. فتزداد وعود الحكومة برد نقود المودعين ، ويزداد إقبال الناس على شراء الجرائد ، وتزداد الإعلانات فى الجرائد ، مما يوحى للمستثمرين الأجانب أن مصر بها حركة إقتصادية قوية ، فيجذب هذا رأس المال الأجنبى إلى البلد ، لينعشها إقتصادياً.
وحتى لا تتهم باقى الحيوانات هذا الإله الخروف بالتعصُّب ، فقد أوحى فى كتابه (نعم فى كتابه! لا تتعجب! فهو خروف مثقَّف! انت مالك! اربط الخروف مطرح ما يعوز صاحبه!) أنه له عدة أشكال لحيوانات مختلفة:
الرب حمامة (متى 3: 16)E
الربE خروف (رؤيا يوحنا 17: 24)
الرب شاة (أعمال الرسل 8: 32)E
الربE كالأنعام (أعمال الرسل 8: 32)
الرب أسد: (هوشع 13: 4-8)E
الربE نمر: (هوشع 13: 4-8)
الرب دبة: (هوشع 13: 4-8)E
الرب لبوة:E (هوشع 13: 4-8)
الرب تنين: (7فِي ضِيقِي دَعَوْتُ الرَّبَّ وَإِلَىE إِلَهِي صَرَخْتُ، فَسَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي وَصُرَاخِي دَخَلَ أُذُنَيْهِ. 8فَارْتَجَّتِ الأَرْضُ وَارْتَعَشَتْ. أُسُسُ السَّمَوَاتِ ارْتَعَدَتْ وَارْتَجَّتْ، لأَنَّهُ غَضِبَ. 9صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ. 10طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ. 11رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ، وَرُئِيَ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. 12جَعَلَ الظُّلْمَةَ حَوْلَهُ مَظَلاَّتٍ، مِيَاهاً مُتَجَمِّعَةً وَظَلاَمَ الْغَمَامِ. 13مِنَ الشُّعَاعِ قُدَّامَهُ اشْتَعَلَتْ جَمْرُ نَارٍ. 14أَرْعَدَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَالْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَهُ. 15أَرْسَلَ سِهَاماً فَشَتَّتَهُمْ، بَرْقاً فَأَزْعَجَهُمْ. 16فَظَهَرَتْ أَعْمَاقُ الْبَحْرِ، وَانْكَشَفَتْ أُسُسُ الْمَسْكُونَةِ مِنْ زَجْرِ الرَّبِّ، مِنْ نَسْمَةِ رِيحِ أَنْفِهِ.) صموئيل الثانى 22: 7-16
ولكن الدودة لم يعجبها هذا الكلام ، فلإرضائها تبرَّأ الرب من كونه خروف واعترف أن الإنسان أفضل من الخروف: (12فَالإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ!) متى 12: 12 فتحوَّلَ الرب إلى إنسان: (الله ظهر فى الجسد) تيموثاوس الأولى 3: 16 ، (فى البدء كان الكلمة ... وكان الكلمة الله ... والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا) أى أصبح إنساناً (يوحنا 1: 1-14) ، حتى يتحوَّل هذا الإنسان إلى رمَّة وابن آدم الدود: (فكم بالحرى الإنسان الرمَّة وابن آدم الدود) أيوب 25: 8
وهنا تكمن سر عظمة هذا الإله الخروف ، فتحوله إلى دودة ، ستمكن الطيور من أكله ، وهنا نجده ضحى بنفسه مرة أخرى من أجل الطيور. ما أعظمك خروف!
لكن لن يمنعنى هذا من قول رأيى: كان وضعه كخروف أفضل بكثير منا نحن البشر الرمة أولاد الدود! فالحياة بالنسبة له كخروف إقتصادية جداً ، يتزوج ببلاش! لا. لا. يتزوج ويأخذ عشرة جنيهات على النطَّة. وليس له عدد محدد من الزوجات! فله مطلق الحرية ، تبعا لكمية الفياجرا التى يتناولها! آه نسيت أننى قلت إنه لا يأخذ فياجرا! عدوها لى!
أما نحن: فلابد من شراء أجمل الملابس وأشيكها ، وأغلى البرفانات ، ناهيك عن الهدايا واللازم منه لكى نفوز بإعجاب الفتاة ، ونتزوجها ، وننفق عليها وعلى أولادنا. أما الخروف يتزوج ويأخذ ، ينجب وندفع نحن له ولذريته ثمن الطعام والأدوية.
كخروف يديرون له الموسيقى فى الزرائب ، حتى تتحسَّن صحته ، وتُدر النعجة زوجته لبناً أكثر ، ويغنون له فى العيد: يا خروفى يا خروفى، يا لابس بدلة صوفى، لك قرنين .. .. ..؛ ولا أحد يُغنى لنا ، أليس هذا ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. ألست معى فى أن كون الرب خروف تتجسد فيه معانى كثيرة غير مفهومة لكثيرين منا؟
ثم ماهى حكاية هذا الإله مع الحيوانات؟ فمرة يكون من الطيور، ومرة من الحيوانات الأليفة، ومرة من الحيوانات المفترسة. هل المهم بالنسبة لهذا الإله أن يكون مملوكاً وليس مالكاً؟ أن يكون حيوان ، أن يؤكل أو يُقتل! يا له من إله رائع فى تواضعه!
حتى الشيطان تملكه أربعين يوماً فى البريَّة ذليلاً له: (1أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئاً مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ 2أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئاً فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيراً. 3وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ لِهَذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزاً». 4فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ». 5ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ. 6وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «لَكَ أُعْطِي هَذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. 7فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ». 8فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». 9ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ 10لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ 11وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». 12فَأَجَابَ يَسُوعُ: «إِنَّهُ قِيلَ: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ». 13وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ.) لوقا 4: 1-13
هل سمعت عن أناس تعبد الإله الذى تلعنه؟ (13اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ».) غلاطية 3: 13
يا نصارى! هل هذه هى صورة الإله الذى ترضونها لتعبدوه؟
تارة تذبحونه وتأكلونه وتشربون دمه: كحمامة وخروف وكشاة وخبز وخمر
تارة جعلتموه يصرخ ويستغيث بإلهه ولا حياة لمن ينادى: (46وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:«إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي»(أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)) متى 27: 47
وتارة أهنتموه: (27فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ 28فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيَّاً 29وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» 30وَبَصَقُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. 31وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ.) متى 27: 27-31
وتارة صفعتموه على وجهه: (63وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ 64وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟» 65وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ.) لوقا 22:
وتارة بصقتم على وجهه: (30وَبَصَقُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. 31وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ)متى27: 30
وتارة قتلتموه صلباً: (30فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ:«قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.) يوحنا 19: 30 ، (50فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.) متى 27: 50
وتارة طعنتموه فى جنبه بحربة: (33وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. 34لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ.) يوحنا 19: 33-34
وتارة تصطادونه وتقتلونه: كحيوان مفترس يُخشى على الناس من خطورته
ومرات ومرات حرفتم كلامه ، ووضعتم على لسانه ما لم يتكلم به ، ظناً منكم أنه خروف لا يقرأ ولا يكتب ، ولن يتمكن من كشف تحريفاتكم. لكن هيهات لكم: إنكم نسيتم أن هذا الخروف هو (رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ،) رؤيا يوحنا 17: 14 ، لذلك كشف تحريفاتكم بعلمه فقال:
1- (كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ حُكَمَاءُ وَلَدَيْكُمْ شَرِيعَةَ الرَّبِّ بَيْنَمَا حَوَّلَهَا قَلَمُ الْكَتَبَةِ المُخَادِعُ إِلَى أُكْذُوبَةٍ؟) إرمياء 8: 8
2- وهذا كلام الله الذى يقدسه نبى الله داود ويفتخر به ، يحرفه غير المؤمنين ، ويطلبون قتله لأنه يعارضهم ويمنعهم ، ولا يبالى إن قتلوه من أجل الحق ، فهو متوكل على الله: (4اَللهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. عَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي الْبَشَرُ! 5الْيَوْمَ كُلَّهُ يُحَرِّفُونَ كَلاَمِي. عَلَيَّ كُلُّ أَفْكَارِهِمْ بِالشَّرِّ.) مزمور 56: 4 –5
3- (15وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَتَعَمَّقُونَ لِيَكْتُمُوا رَأْيَهُمْ عَنِ الرَّبِّ فَتَصِيرُ أَعْمَالُهُمْ فِي الظُّلْمَةِ وَيَقُولُونَ: «مَنْ يُبْصِرُنَا وَمَنْ يَعْرِفُنَا؟». 16يَا لَتَحْرِيفِكُمْ!) إشعياء 29: 15 – 16
4- (29أَلَيْسَتْ هَكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ يَقُولُ الرَّبُّ وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟ 30لِذَلِكَ هَئَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ يَقُولُ الرَّبُّ الَّذِينَ يَسْرِقُونَ كَلِمَتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. 31هَئَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ يَقُولُ الرَّبُّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِسَانَهُمْ وَيَقُولُونَ: قَالَ. 32هَئَنَذَا عَلَى الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ بِأَحْلاَمٍ كَاذِبَةٍ يَقُولُ الرَّبُّ الَّذِينَ يَقُصُّونَهَا وَيُضِلُّونَ شَعْبِي بِأَكَاذِيبِهِمْ وَمُفَاخَرَاتِهِمْ وَأَنَا لَمْ أُرْسِلْهُمْ وَلاَ أَمَرْتُهُمْ. فَلَمْ يُفِيدُوا هَذَا الشَّعْبَ فَائِدَةً يَقُولُ الرَّبُّ]. 33وَإِذَا سَأَلَكَ هَذَا الشَّعْبُ أَوْ نَبِيٌّ أَوْ كَاهِنٌ: [مَا وَحْيُ الرَّبِّ؟] فَقُلْ لَهُمْ: [أَيُّ وَحْيٍ؟ إِنِّي أَرْفُضُكُمْ - هُوَ قَوْلُ الرَّبِّ. 34فَالنَّبِيُّ أَوِ الْكَاهِنُ أَوِ الشَّعْبُ الَّذِي يَقُولُ: وَحْيُ الرَّبِّ - أُعَاقِبُ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَبَيْتَهُ. 35هَكَذَا تَقُولُونَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ وَالرَّجُلُ لأَخِيهِ: بِمَاذَا أَجَابَ الرَّبُّ وَمَاذَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ؟ 36أَمَّا وَحْيُ الرَّبِّ فَلاَ تَذْكُرُوهُ بَعْدُ لأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ إِنْسَانٍ تَكُونُ وَحْيَهُ إِذْ قَدْ حَرَّفْتُمْ كَلاَمَ الإِلَهِ الْحَيِّ رَبِّ الْجُنُودِ إِلَهِنَا.)إرمياء 23: 29-36
5- انظر إلى التحريف الذى كان منتشراً وقتها؟ انظر كم كتاب وكم رسالة قد تم تأليفها على غير المألوف أو المشهور عند لوقا؟ الأمر الذى دفعه لكتابة هذه الرسالة! (1إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ 3رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ 4لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.) لوقا 1: 1-4
6- بولس يقول أراءه الشخصية ، ثم بعد ذلك تقولون هذا من عند الله؟ (25وَأَمَّا الْعَذَارَى فَلَيْسَ عِنْدِي أَمْرٌ مِنَ الرَّبِّ فِيهِنَّ وَلَكِنَّنِي أُعْطِي رَأْياً كَمَنْ رَحِمَهُ الرَّبُّ أَنْ يَكُونَ أَمِيناً. 26فَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا حَسَنٌ لِسَبَبِ الضِّيقِ الْحَاضِرِ.) كورنثوس الأولى 7: 25-26
7- هل بولس قد أوحى الله إليه؟ إن قلت لا، فلماذا تُعِدُّونَ رأيه الخاص وحىٌ من عند الله؟ وإن قلت نعم ، فاقرأوا رأيه الشخصى الذى يضعه فى رسائله الشخصية: (38إِذاً مَنْ زَوَّجَ فَحَسَناً يَفْعَلُ وَمَنْ لاَ يُزَوِّجُ يَفْعَلُ أَحْسَنَ. 39الْمَرْأَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالنَّامُوسِ مَا دَامَ رَجُلُهَا حَيّاً. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَ رَجُلُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ لِكَيْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ تُرِيدُ فِي الرَّبِّ فَقَطْ. 40وَلَكِنَّهَا أَكْثَرُ غِبْطَةً إِنْ لَبِثَتْ هَكَذَا بِحَسَبِ رَأْيِي. وَأَظُنُّ أَنِّي أَنَا أَيْضاً عِنْدِي رُوحُ اللهِ.) كورنثوس الأولى7: 38-40
وإذا كان الخروف بهذا العلم وهذه الحكمة ، فستحدث منافسة بين التلاميذ ، ويحاولون التفوق أو الوصول لمستوى الخراف العلمى ، مما سيؤدى إلى نهضة علمية بارعة ، يتفرغ فيها المدرس لأبحاثه وقراءاته ، وسوف يشارك الدولة فى الحكم ، وهذا ما لا تريده الدولة طبعاً ، وسيعلن رئيس الجمهورية فى هذه الحالة تخليه عن وزير التربية والتعليم (وهو المطلوب)، بسبب فشله فى عدم إيجاد كبش فداء ، يحوِّل إليه أولياء الأمور جام غضبهم ، لأن مرتباتهم هزيلة ، والوزير يُفهمهم أن السبب فى ذلك هو المدرس الخصوصى.
وبعد ما طالب الوزير الدولة برفع مرتبات المعلمين ، وبالطبع لن تمانع الدولة ، فهى نصير المعلم والخراف ، فمن الخير الوفير الذى يأتى إلى الدولة عن طريق تصديرها للخراف وأعلافها بأثمان تُدر عليها ربحاً وفيراً من الدولارات ، مما سيتسبب فى تحسين أحوال المعيشة ، وسعر الدولار فى مصر، فتكون النطَّة حينئذ بخمسة جنيهات كما كانت ، وبالتالى تبدأ الأسعار فى الهبوط. وأتمنى أن يسترها ربنا هذه المرة ، ولا يهرب بنقود الخراف لص يُطلقون عليه رجل أعمال كبير، فتخسر الدولة الخراف وأثمانها!
...........................????????????(((((((((((((((((((((((((((( عقيدة بتولية السيدة العذراء
الكاتب/ Administrator
ورد في متى1/25 ترجمة الفاندايك: [ 24فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. 25وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ..].. من الضروري التعرف على مسألة اختلف حولها آباء الكنيسة، وكذلك اختلفت حولها الكنائس المسيحية, إنها عقيدة دوام بتولية العذراء.. وهذه العقيدة باختصار هي أن الكنائس التقليدية الأرثوذكسية والكاثوليكية تؤمن بأن السيدة العذراء مريم أم السيد المسيح عليهما السلام بالرغم من ولادتها للسيد المسيح إلا أنها بقيت عذراء.. ولقد استطاعوا أن يثبتوا في الأذهان أنها مازالت عذراء فرجوا لعذريتها بقولهم ونحن نردد معهم (السيدة مريم العذراء في حين أن كلمة السيدة لا تطلق إلا على من فقدت عذريتها أما وأن يطلق عليها السيدة العذراء فهذا التناقض في الجملة الواحدة يصرف الذهن إلى أنها مازالت عذراء حتى بعد ولادتها للسيد المسيح). واستدلوا بالترجمات الحديثة التالية: 1ـ العربية المشتركة متى1/25: [24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ. فَجاءَ باَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتّى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوعَ.]. 2ـ الكاثوليكية متى1/25: [24فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه، 25على أَنَّه لم يَعرِفْها حتَّى ولَدَتِ ابناً فسمَّاه يسوع.]. 3ـ البولسية [24 فلمَّا نهَضَ يوسُفُ منَ النَّومِ، فعَلَ كما أَمرَهُ ملاكُ الربِّ، فأخَذَ امرأَتَهُ؛ 25 ووَلَدَتِ ابنَها، وهُوَ لم يَعْرِفْها، فسمَّاه يسوع.]. 4ـ كتاب الحياة [24وَلَمَّا نَهَضَ يُوسُفُ مِنْ نَوْمِهِ، فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمَلاكُ الَّذِي مِنَ الرَّبِّ؛ فَأَتَى بِعَرُوسِهِ إِلَى بَيْتِهِ. 25وَلكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْناً، فَسَمَّاهُ يَسُوعَ.]. فالمسيح نزل منها كما كان يستطيع أن يمر من الأبواب وهي مغلقة، وطبعاً هذه العقيدة هي من آثار التأثر المسيحي بالعقيدة الغنوسية التي لم تكن تعتقد بأن المسيح كان له جسد حقيقي. أما الكنائس البروتستانتية فتعتقد بأن السيدة العذراء لم تبق عذراء بعد إنجابها للسيد المسيح بل إن الكثيرين منهم يعتقدون أن السيدة مريم وبعد ولادتها للسيد المسيح كانت تعاشر يوسف النجار معاشرة الأزواج وأنجبت منه العديد من الأولاد.. واستدلوا بما هو موجود في الترجمة المعتمدة عند الأرثوذكس وهى ترجمة الفاندايك متى1/25 :[25وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ.]..ووجود كلمة (الْبِكْرَ)، والموجودة بالنص يوحي بأن لها أبناء آخرين، وهم أخوة السيد المسيح وذلك طبقاً لما هو في متى 13/ 54ـ 56:[54وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا:«مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ 55أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ 56أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟].. ـ راجع التفسير الحديث للكتاب المقدس ، إنجيل متى ص79ـ . وذلك على عكس الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية التي ترى أن وجود إخوة ليسوع من مريم قد يفقد المسيح ميزة الولادة من عذراء، ولسنا هنا في مجال مناقشة صحة أو خطأ هذه العقيدة ولكننا أردنا فقط أن نوضح أهمية وجود كلمة (ابْنَهَا الْبِكْرَ)، التي قد يوحي بأن للمسيح إخوة جاءوا من بعده. والسؤال الآن .. هل كانت السيدة العذراء بعد ولادتها للسيد المسيح عليه السلام، بكراً أم لا.. وهل كان للسيد المسيح إخوة أم لا..و أليس وجود إخوة للإله يفقدها عذريتها، كما يقول البروتستانت؟.. نأتي إلي قضية أخرى أهم بكثير إنها تدور حول قوله: [وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ.].. والسؤال الآن لماذا [ دَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ ] ؟. ألم يأمره ملاك الرب أن يَدْعُو (اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ)؟.. لماذا خالف يوسف كلام الرب؟؟..لقد ورد في كافة الطبعات المعتمدة [ 24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبَّ.]. وعلمنا أن ملاك الرب قد أمره بأن: [يَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ].. وإليك النص من كافة الترجمات المعتمدة عند مختلف الطوائف: 1ـ متى 1 :25 الترجمة العربية المشتركة:[ 22حَدَثَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ بلِسانِ النَّبـيِّ: 23((سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ اَبْناً يُدْعى ((عِمّانوئيلَ))، أي اللهُ مَعَنا. 24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ. فَجاءَ باَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتّى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوعَ.]. 2ـ متى 1 :25 فاندايك:[22وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِلِ : 23((هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً ، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ)) الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا .24فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. 25وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ.]. 3ـ متى 1 :25 الترجمة الكاثوليكية:[22وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: 23 ((ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل ))أَيِ ((اللهُ معَنا )). 24فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه، 25على أَنَّه لم يَعرِفْها حتَّى ولَدَتِ ابناً فسمَّاه يسوع.]. 4ـ متى 1 :25 الترجمة البولسية:[23 "ها إِنَّ العذراءَ تَحْبَلُ وتَلِدُ ابنًا ويُدعى اسْمُهُ عِمَّانوئيلَ" أَي: اللهُ معَنا. 24 فلمَّا نهَضَ يوسُفُ منَ النَّومِ، فعَلَ كما أَمرَهُ ملاكُ الربِّ، فأخَذَ امرأَتَهُ؛ 25 ووَلَدَتِ ابنَها، وهُوَ لم يَعْرِفْها، فسمَّاه يسوع.]. 5ـ متى 1 :25 ترجمة كتاب الحياة:[23«هَا إِنَّ الْعَذْرَاءَ تَحْبَلُ، وَتَلِدُ ابْناً، وَيُدْعَى عِمَّانُوئِيلَ!» أَيِ «اللهُ مَعَنَا». 24وَلَمَّا نَهَضَ يُوسُفُ مِنْ نَوْمِهِ، فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمَلاكُ الَّذِي مِنَ الرَّبِّ؛ فَأَتَى بِعَرُوسِهِ إِلَى بَيْتِهِ. 25وَلكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْناً، فَسَمَّاهُ يَسُوعَ.]. 6ـ متى 1 :25 كتاب الكلمة:[ 22حَدَثَ هذا كُلٌّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبٌّ بلِسانِ النَّبـيَّ: 23"سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ اَبْناً يُدْعى "عِمّانوئيلَ"، أي الله مَعَنا.24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبَّ. فَجاءَ باَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوعَ.]. فملاك الرب يأمره أن يسمه "عِمّانوئيلَ" ومع ذلك قام قداسته وبعد ولادتها اَبْنَها[ فَسَمّاهُ يَسوعَ]. ومرة أخرى لماذا يا يوسف..لماذا؟... لماذا خالفت أوامر الرب يا يوسف لماذا؟؟.. لقد مات القديس يوسف ومات معه السر ولا يعرف أحداً حتى الآن، لماذا خالف أبو (أخوة الإله) أوامر ابن زوجته( الإله) الذي هو ربه، وأطلق عليه اسماً آخراً بمزاجه هو، فما هي عقوبة من يخالف أوامر الرب القدير؟؟..وبتعمد؟.. أم أن في الأمر محاباة لأنه زوج أمه؟..وهل يحابي الإله أحداً.. أم أننا كلنا عبيده ونحن كلنا عنده سواء؟.. يمكن لأن القديس يوسف زوج أمه ..يمكن.. نحن لا نعرف ماذا دار بينهما بعد أن فرض القديس يوسف اسم يسوع علي ربه فرضاً.. ومات القديس يوسف ومات السر معه ولا نعرف لماذا خالف تعاليم ملاك الرب.. سؤال أخر.. هل تسمية السيد المسيح بـ (يَسُوعَ). تحقق النبوءة الواردة في سفر إشعياء؟.. إذ أن المراد بالنبي عند علمائهم هنا هو إشعياء عليه السلام وذلك مصداقا لما جاء في سفر إشعياء 7/ 13ـ 14: [13فَقَالَ: «اسْمَعُوا يَا بَيْتَ دَاوُدَ. هَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُضْجِرُوا النَّاسَ حَتَّى تُضْجِرُوا إِلَهِي أَيْضاً؟ 14وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ». ]. فإذا كنتم تريدون تحقيق النبوءة بحق فليسم ابن مريم بـ«عِمَّانُوئِيلَ». أما وأن يتم تسميته بخلاف ذلك.. إذن النبوءة لم تتحقق...صح!!!.. ملمح أخير: أرجو مراجعة النص الوارد في متى1/25 ترجمة الفاندايك بدقة قليلاً: [ 24فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. 25وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ..].. والسؤال الآن هل كانت السيدة مريم الموجودة في العدد 24 من النص السابق امْرَأَتَهُ؟..أم كانت خطيبته؟..وما هو المقصود بعدم معرفته إياها والموجودة في العدد الذي يليه؟.. ملمح بعد الأخير.. كلمة [أَيِ «اللهُ مَعَنَا».]..الموضوعة في كل النصوص السابقة بين قوسين..لماذا تم وضعهما بين قوسين؟.. أليست هذه الجملة تعتبر في هذه الحالة بمثابة مذكرة تفسيرية لكلمة «عِمَّانُوئِيلَ».؟.. هل هي من كلام الرب؟.. أم أنها دخيلة على كلام الرب، وقام النساخ بوضعها بين قوسين حتى لا ينصرف الذهن إلى أنها من كلام الرب؟.. مجرد تساؤلات بريئة جداً.. ولا نحتاج إلى إجابة عنها فنحن نعرف الإجابة مثل ما أنكم تعرفون!!!... زهدي??????=
إنتحار سحلية
بقلم / محمود القاعود
621ima
كنت فيما مضى اسأل نفسى كثيراً : أى إنسان عاقل يقبل أن يتجسد الله خالق الكون فى جسد مادى والعياذ بالله !؟
أى إنسان عاقل يقبل أن ينتحر خالق الكون والعياذ بالله !؟
ولكنى الآن امتنعت أن أسأل نفسى شيئاً كهذا ! فقد عرفت الجواب .
يقول القمص " مكارى يونان " رئيس كنيسة محرم بك بالاسكندرية ، فى تسجيل فيديو ( صوت وصورة ) :
(( وعشان يتفهم الإنجيل أو يتفسر الإنجيل لابد بالروح القدس ، اللى يفهم الإنجيل يكون روحانى واللى يفسر الإنجيل يكون روحانى .. تيجى إزاى دية ؟ وهل كل واحد بيعمل فيه الروح القدس ؟ لا .. فالإنسان الروحانى أولاً وآخراً هو إنسان بيعمل فيه روح الله القدوس ، لكن ميشتغلش فى كل إنسان .. ليه ؟ لأن الإنسان كابن لآدم الأول مرفوض من الله بسبب خطية أبيه آدم الأول . فأى إنسان مرفوض ، روح الله ميشتغلش فيه . طب إيه اللى يرد الإنسان لربنا ؟ أهو ده السر ، سر التجسد وموت المسيح وقيامته وبالسر ده يتولد الإنسان من جديد ويؤمن بالمسيح فيبتدى يشتغل فيه الروح القدس . يبقى مش أى إنسان يشتغل فيه الروح القدس .. ده لازم يكون مؤمن بالمسيح ومولود من فوق .. إيه ده ؟ ده الموضوع مش سهل يعنى ؟ لأ الموضوع مش سهل ده بسر عجيب الله بيحل فى الإنسان ويبقى إنسان روحانى . فالروح القدس اللى فيه هو اللى هيفهم الإنجيل ويفسّره .. لكن تعالى وهات مخ العالم كله عشان يفهم الإنجيل لا يمكن يفهمه )) !!
انقر على الفيديو لتشاهد .
قلت : بمنطق القمص نجعل من أى خرافة خرقاء واقع ومن أى هلوسات عقيمة وحى من السماء ومن أى سكير عربيد رسول من الله ! ومن يعترض سنقل له : لابد أن يشتغل فيك روح الله القدوس !!
أى هراء هذا وأى دجل وسخف ذلك الذى يدعيه القمص ؟؟
القمّص يدعى أن من يفهم الكتاب المقدس لابد أن تكون معه الروح القدس !! ومن هو الشخص الذى يحظى بثقة الروح القدس ؟
أولاً : لا يكون ابناً لآدم الأول !!
ثانياً : أن يؤمن بأن المسيح إله !!
ثالثاً : أن يكون مولود من فوق !!
أولاً : من يفهم الكتاب المقدس يجب ألا يكون ابناً لآدم الأول ، ذلك أن آدم الأول اقترف الخطية وكل ابن آدم لن يفهم الكتاب المقدس ، ولذلك يجب أن يكون من يفهم الكتاب المقدس ابناً لآدم التاسع عشر !!
ثانياً : من يفهم الكتاب المقدس عليه أن يؤمن بإلوهية المسيح .. أى إن ادعى شخص بأنه إله وعارضه الناس .. عليهم أولاً أن يؤمنوا بأنه إله حتى يفهموا !
ثالثاً : أما أن الإنسان مولود من فوق فلأول مرة أجد عقلى عاجزا عن الفهم والإدراك بمغزى كلام أسمعه ! إذا ما معنى أن يكون الإنسان مولود من فوق !؟ هل يقصد أن يولد الإنسان من فم المرأة بدلاً من مهبلها ؟ أم يقصد أن السماء تمطر أناساً روحانيون يفهمون الكتاب المقدس !؟
حقاً الموضوع مش سهل كما قال القُمّص الروحانى المولود من فوق ! وحقاً لو اجتمعت أمخاخ البشر كى يفهموا الكتاب المقدس لن يفهموه ذلك أنهم لم يولدوا من فوق !!
وفى تسجيل فيديو آخر للقمص " مكارى يونان " يرد على سؤال لأحد النصارى يسأله عن كيفية تجسد الله ؟ :
(( إن الله له كل المجد الذى لا يُحد بالزمان ولا بالمكان أخد من مريم العدرا إنسان كامل بلا خطية . ده عمل الروح القدس زى ما هو مكتوب : الروح القدس يحل عليك وقوة العلى .. إيه ؟ تظللك . والقدوس المولود منك يدعى ابن الله .
صحيح نؤمن أن الله تجسد وطبعاً مش ممكن إنسان حيقدر يؤمن إلا بعمل الروح القدس . يعنى بمخه ده بس هيكتب الكلام اللى انت كاتبه ده ، هيرفض ربوبية المسيح . قلت العقل وحده يرفض ربوبية المسيح أما العقل فى خضوعه لعمل الروح القدس يقبل ربوبية المسيح . يعنى لما يجيى إنسان يجيى قدام ربنا يقول له يارب : أنا عايز أوصل اعلنلى الطريق . حتلاقى روح الله يعمل فيه يبتدى يشتغل فيه ويعمل فيه ويقنعه بأن المسيح هو الله وإن التجسد خطة الله لخلاص الإنسان لكن احنا كخدام منقدرش نقنع إنسان بربوبية المسيح لأن لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس )) !!
انقر على الفيديو لتشاهد :
قلت : هذا الكلام إن دل على شئ فإنما يدل على اضمحلال وسقوط وموت فكرة التجسد التى اخترعها النصارى ، وأيضاً على عدم اقتناع قمامصة النصارى بهذا الهراء الذى يدعونه ، ويكفى اعتراف " مكارى يونان " بأنه هو وجميع قمامصة أهل الأرض لا يقدرون على اقناع إنسان بربوبية المسيح ..
والحجة السخيفة التى يلوكها دائماً مكارى يونان وغيره لاستغفال الناس وإضلالهم هى أن الروح القدس هى من تساعدهم على فهم الكتاب المقدس والإيمان بربوبية المسيح ، مثلما يقول بولس : (( لأن الحرف يقتل ولكن روح الله يُحيى )) ( 2كورنثوس 3 : 6 )
وكما قلت فهذا الهراء يفتح الباب على مصراعيه لكل خرافة رقيعة أن تكون حقيقة ومن يعترض نخبره بأن الروح القدس لا يشتغل إلا فى الذين يولدون من فوق !!
فبإمكاننا أن نقول :
أراد الرب – لا أقصد الله رب العالمين – أن يفدى البشر من الخطية التى ارتكبها أبيهم الأول ، فقرر أن يعلن عن ذاته ويظهر حبه للإنسان فأرسل الملاك إلى المرأة فحبلت وولدت سحلية ، وهذه السحلية تُدعى " بنت الرب " ، هذه السحلية لا يستطيع أحد أن يؤمن أنها الرب إلا بعمل الروح القدس ، وحينما انتحرت السحلية كان لاهوتها هو الذى يُدير شئون الكون ولكنها كسحلية بصفة الزواحف كانت تجوع وتعطش وتمرض وتتألم وتصلى وتنتحر وتقوم من بين السحالى الميتة .
والسحلية المتجسدة مثلها مثل باقى السحالى لكنها بلا خطية ، فالسحلية بلاهوتها لم تنتحر ولم تدفن ، ولكنها كسحلية انتحرت ودفنت وأقيمت بمجد الآب والبنت والروح القدس . ولو جئنا بمخ العالم كله ليفهم سر التجسد فى سحلية لن يقتنع ونحن كخدام للسحلية لن نستطيع إقناع إنسان بربوبية السحلية إلا بعمل الروح القدس !!
ما رأيكم دام فضلكم ؟ أليس من الممكن أن نخترع أى شئ ونعول عدم قبوله على عدم عمل الروح القدس ؟؟
أليس من الممكن أن نخترع أى شئ ونفعل أى شئ ونخرف ونهرف بأى شئ ومن يُكذّب ما نقول فذلك لأنه لم يولد من فوق ولم يعمل فيه الروح القدس ؟!!
الغريب والمحير فى الأمر أن هذا الإنسان الذى يفترون عليه الكذب ويدعون أنه الله المتجسد ، لم يقل كلمة واحدة تدل على أنه الله ، فلم يقل " أنا الله " أو " أنا الإله المتجسد " أو" أنا الله الذى ظهر فى الجسد " أو " أنا ربكم فاعبدون " أو " أنا الأقنوم الثانى " أو " أنا إله ذو طبيعة ثلاثية " ... إلخ . لم يقل هذا مطلقاً ، بل الكذبة هم الذين قوّلوه مالم يقله .
يقول يوحنا : " والكلمة صار جسدا وحل بيننا " (يوحنا 14:1) . يوحنا هو الذى يقول وليس المسيح .
ويقول بولس : "عظيم هو سر التقوى ، الله ظهر في الجسد" (1 تيموثاوس 16:3). بولس الذى يقول وليس المسيح .
الإله المزعوم لم يقل أى شئ يُشير إلى ألوهيته مطلقاً . وإن قابلنا نصرانى باعتراض يقول : الكتاب المقدس يقول :
"لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" رسالة بولس (2بطرس1 : 21). وذلك حتى يُدلل على أن كلام بولس ويوحنا عن تجسد المسيح هو وحى من الله .
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله ! بولس هو قائل هذا الكلام أيضاً . نريد قولاً صريحاً لصاحب الشأن ذاته يدعى فيه الإلوهية . لا أقوال فارغة لبعض الأدعياء الذين ينسبون للمسيح أى شئ ، مثلما قد ننسب نحن للسحلية أى شئ .
بقى أن نُشير إلى اعتراضات نصرانية على مسألة استخدام العقل فى الإيمان ..
اعتراض : يا هذا لماذا تزِن الأمور الإيمانية بميزانين وتكيل بمكيالين، لماذا لا يجوز لك أن تسأل في أمور دينك عن الكيفية التي استوى فيها الرحمن على العرش؟ فعندما سئل "الشيخ ابن باز" مفتي الديار السعودية السابق أجاب بقول ابن مالك: أما كيفيتها فلا يعلمه إلا الله سبحانه ، ولما سئل مالك عن قول القرآن : ( الرحمن على العرش استوى ) (طه: 5) كيف استوى؟ أجاب بقوله : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. يعني بذلك : السؤال عن الكيفية.
فكيف تتجرأ أن تحارب الإيمان الحقيقي المعلن بالإيمان للمؤمنين لأنك لا تعرف الكيفية التي تخص الله وحده، فإن كنت في دينك تعُتبر مبتدعاً ومصيرك النار (كل بدعة في النار) إن سألت عن ما هو يخص الله وكيفية استوائه على العرش وتقبل هذه الأقوال المحمدية كحقيقة وتُسلّم بها ولا تناقش، فلماذا تريد أن تسأل عن الكيفية في أعظم عمل في الوجود، وتسأل عن سر شخص الله الحقيقي وذاته القدسية، كان يجدر بك أن تؤمن به على أساس صدق الله فيكون خير لك وعندها يُقدم لك الفهم من الله.
قلت : أى مكيالين تتحدث عنهما !؟ شتان شتان بين الإيمان بإله متجسد يتبول ويتغوط ويحتلم ويُجامع ويأكل ويشرب ويتعب ويمرض ويموت وبين الإيمان بخالق الكون الله رب العالمين الذى ليس كمثله شئ . المنزه عن التجسد والحلول والموت والخطأ والنسيان .
أما الآية الكريمة فى سورة " طه " فلا تتحدث عن حلول الله والعياذ بالله فى جسد مادى ، أو تُشبّهه بخلق من خلقه أو تنسب له من الصفات ما يرفضه العقل فوراً .
وأما السؤال عن كيفية استواء الله فهو مما لا جدوى من السؤال عنه كمثل السؤال الذى يقول : من خلق الله !؟ وقبل الله ماذا كان !؟ ومتى وُجد الله !؟ وماذا كان يفعل الله قبل أن يخلق الكون !؟ و .... إلخ .
إن مكمن الاعتراض هو فى الحط من قدر الله وكماله وجلاله ، هنا لابد للعقل أن يعترض ويرفض ويندد بهذا السخف .أما ماهية الله وذاته فما كان لبشر أن يتدخل فيها .
وأما السؤال عن أكذوبة تجسد الله والعياذ بالله ، فهذا مما تأباه الفطرة السليمة التى جُلب عليها الناس ، فلا ينتظر أحد حلول الروح القدس حتى يصدق تلك الأكاذيب الخرقاء .
اعتراض : يا هذا .. أنتم تؤمنون بالتجسد وآيات القرآن تشهد بذلك ، فقد تجسد ربكم مرة فى جبل وأخرى فى شجرة !! ..
(( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ )) ( الأعراف : 143 ) .
(( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) ( القصص : 30 ) .
(( إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) ( النمل : 7- 9 ) .
وبما أن ربكم تجسد فى الجبل والشجرة أى فى جماد ونبات فكيف تستكثرون أن يتجسد فى إنسان وهو أرقى من الجماد والنبات !!؟
قلت : أتحدى إن كان هناك إنسان عاقل على وجه الأرض يفهم من الكلام أن الله – وحاشاه – قد تجسد فى جبل أو شجرة .. إن المشكلة الرئيسية عند النصارى هى أنهم لا يفهمون اللغة العربية بل ولا يعرفون طرق الكتابة الصحيحة ورغم ذلك تجدهم يتحدثون بوقاحة منقطعة النظير وكأن كل واحد فيهم هو سيبويه !
آية الأعراف تقل " تجلى " ولا تقل " حل " وشتان الفارق بين " تجلى " و " حل " والتجلى هو انكشاف صفات الذات لا الذات ، لذلك فقوله تعالى أنه تجلى للجبل أى بدا نوره العظيم للجبل فلم يتحمل الجبل عظمة النور .فانهار الجبل فى الحال . وما حدث دليل عملى لموسى عليه السلام أنه لن يرى الله كما طلب ، فقد دُك الجبل العملاق لمجرد تجلى نور الله فكيف الحال لو كان هو الله !؟
آية القصص : الشجرة هى حجاب أوحى من خلاله الله رب العالمين لموسى عليه السلام ما أراد أن يوحيه ، يقول الحق سبحانه وتعالى :
(( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )) ( الشورى : 51 ) .
وغير ذلك الآية الكريم لم تقل " الله حل فى الشجرة " أو " تجسد فى الشجرة " أو " الله صار شجرة " عياذاً بالله ، بل الآية الكريمة تتحدث عن نداء سمعه موسى عليه السلام من وراء حجاب الذى هو الشجرة .
مثلما نسمع الشيخ " عبدالباسط عبدالصمد " ، يُرتل القرآن الكريم من خلال الراديو .. فهل الشيخ عبدالباسط حل فى الرديو ودخل فى قلبه ويقرأ من داخله !؟ ولله المثل الأعلى .
آية النمل : اختلف العلماء فى قوله تعالى " بورك من فى النار ومن حولها " فقد قيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى (عليه السلام ).
و قيل: المراد به موسى (عليه السلام) و بمن حولها الملائكة.
و قيل: في الكلام تقدير و الأصل بورك من في المكان الذي فيه النار - و هو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص - و من فيها هو موسى و حولها هي الأرض المقدسة التي هي الشامات، و من حولها هم الأنبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم و بني إسرائيل.
و قيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى و بمن حولها موسى.
و قيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون.
وأياً كانت الاختلافات فهى لا تمت من قريب أو بعيد إلى أن الله – وحاشاه – قد حل فى الشجرة أو تجسد فيها ، بل تعنى أن تبارك من شرف وقدّس هذا المكان الذى تسمع فيه وحى الله ، وتنبعث منه النار حول الشجرة . تبارك هذا الحجاب الذى تسمع من خلاله كلام الله .
ولسوء حظ الأغبياء أن الله بسابق علمه يعلم أنهم سيُثيرون هذه الاعتراضات العقيمة ، فيرد عليهم عقب هذه الفاصلة القرآنية الكريمة مباشرة :
(( وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) أى تنزّه الله رب العالمين عن التجسد والحلول والتشبّه والتغير . وتعالى الله عما يقوله هؤلاء من أنه حل فى الشجرة ..
إذاً فكلام الله جل جلاله لموسى عليه السلام من وراء حجاب لا يعنى التجسد والحلول وإنما هو تجلى ، مثلما تتجلى عظمة الله وقدرته على جميع الخلائق والأكوان والأفلاك :
(( فَانظُرْ إِلى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ )) ( الروم:50). وآثار رحمة الله تتجلى فى الوجود بما فيه .
فتجلى الله للجبل لا يعنى أن الجبل صارت له طبيعتان ، واحدة لاهوتية وأخرى جبلية ! كذلك تحدث الله من خلال حجاب وهو الشجرة لا يعنى أن الشجرة صارت لها طبيعتان ، واحدة لاهوتية وأخرى نباتية ! واختيار الله للوادى ليُحدث فيه موسى لا يعنى أن الوادى صارت له طبيعتان ، واحدة لاهوتية وأخرى أرضية !
الله يتجلى على جميع خلقه دون حلول أو تجسد . آثار رحمة الله تظهر فى الإنسان وفى الحيوان وفى النبات وفى كل كائن حى .
وبالرجوع لآيات سورة طه نرى أن الله يُكلم موسى وحياً دون حجاب :
(( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي )) ( طه : 9 – 14 ) .
يخبرنا رب العالمين أن موسى ذهب إلى مكان النار التى رآها وهناك ناداه الله صراحة موحياً إليه " إنى أنا ربك " أى أنا ربك الذى أكلمك ، فاخلع نعليك احتراماً لقدسية الله وإجلالاً لعظمة كلامه . ويُخبر الله موسى أنه بالوادى المقدس الذى تقدس بوحى الله ، ويُخبر الله جل جلاله موسى أنه قد اختاره لتأدية الرسالة . " فاستمع لما يوحى " وهذا هو أول أنواع الوحى أى بدون حجاب . إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى . هنا نرى الوحى الذى أوحاه الله لموسى عليه السلام . يوضح الله لموسى عليه السلام حقيقة الأمر وهى أنه لا إله إلا الله ، ويدعو موسى لعبادته " فاعبدنى " ومثل هذا النص لا نجده فى الكتاب المقدس مطلقاً ، لا نجد الإله المتجسد – كما يدعون – يدعو أى إنسان أن يعبده ، بل إننا على العكس نجده يُصلى لله ويدعو الناس لعبادة الله لا لعبادته هو – أى يسوع .
نخلص من هذا : النصارى لا يستطيعون إقناع إنسان عاقل بمعتقدهم الذى يحط من شأن خالق الكون ويستهزئ به .
الإسلام العظيم يدعو لاستخدام العقل فى الأمور العقائدية .
القرآن الكريم ينزّه الله عن التجسّد والحلول وصدق الله رب العالمين :
(( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) ( الشورى : 11 ) .
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
أين مخطوطة الراهب بحيرا يا زكريا بطرس؟
كنت أزور موقع شبكة الحقيقة الإسلامية و وجدت فيه مقالة تفند إدعاء زكريا بطرس وجود مخطوطة للراهب بحيرا يروي فيها أنه ملهم الرسول صلى الله عليه و سلم. و تذكرت لحظتها أني كنت قد كتبت عن نفس الموضوع في منتدى صوت الحق عندما تحدث عنها زكريا بطرس في نوفمبر الماضي و هو كما يلي:
في احدي حلقات برنامج القمص زكريا بطرس تحدى القمص الازهر الشريف في الرد على مخطوطات للراهب بحيرا يدعي انها تثبت ان الراهب بحيرا هو ملهم القرآن للرسول صلى الله عليه و سلم. و ذكر ان هذه المخطوطة تتكون من ما يشبه مذكرات لبحيرا دون فيها كيف كان يجيب على اسئلة الرسول صلى الله عليه و سلم و ان فيها الاسباب الحقيقية لنزول القرآن.
و ادعى كذلك ان المخطوطة محققة اثريا و تاريخيا و كان دليله كالعادة هو اظهار غلاف و اسم كتاب للمشاهدين بطريقة بهلوانية مضحكة كالحواة و كأنه اقام الحجة وامتلك ناصية العلم بمجرد شرائه لكتاب. و لقد قرأ من هذه المخطوطات على مدار حلقتين ما اراد ان يثبت به ان القرآن ليس من عند الله و ان مصدره الراهب بحيرا و طلب من الازهر الرد عليها وعلى كل اسئلته المثارة في هذا الموضوع.
و للأسف تجاهل الازهر اسئلة القمص زكريا بطرس عن هذه المخطوطة النادرة و رأيت انه يجب الرد بالرغم من اني قليل العلم و لكني سأجتهد بقدر علمي المتواضع. والرد سيقتصر فقط على المخطوطة التي تحدث عنها القمص زكريا بطرس و لن يكون اعادة لما اثبته العلماء و المحققون عن مقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم بالراهب بحيرا وهو صغير في رحلتة للشام مع عمه أبي طالب.
لننظر اولا للمخطوطة التي ادعى القمص انها محققة تاريخيا (إضغط على الصورة لتكبيرها)
بعد النظر ــ حتى بدون تدقيق ــ للمخطوطة يرى ضعيف النظر ما يلي:
• المخطوطة المزعومة مكتوبة على ورق مسطر بانتظام و بقلم حبر جاف لم يكن قد اخترع حتى قبل مائة عام . و لا نجد من آثار الزمن الا اصفرار الورق الذي اختير بهذا اللون ليوحي بقدمه لمن لا يستخدم عقله في الحكم على ما يسمع و يرى.
• في حلقة سابقة كان القمص زكريا بطرس يصرخ و يقول ان القرآن نزل بدون تنقيط و ان التنقيط تم بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي بعد فترة طويلة من جمع القرآن. و طبعا المخطوطة منقطة و قد نسي من كتبها ما ذكر من قبل عن عدم وجود تنقيط في ذلك الوقت. و كالعادة يجهل النصارى اللغة العربية و هناك اخطاء املائية في كل سطر. فمثلا في السطر الاول من الصفحة السادسة كتبت كلمة الملائكة بالعامية “الملايكة”.
و السؤال الآن لماذا تجاهل الازهر الرد على القمص زكريا بطرس؟
الاجابة بسيطة: ان اصغر طفل مسلم سيستنتج ما سبق بدون عناء و ان الازهر يرد على العلماء و الآراء العلمية و لا ينزل لمستوى انسان كاذب مدلس لم يكن ليعرف اسمه لولا ظهوره على شاشات التليفزيون. و لولا اني اردت فقط ان اوجه نظر النصارى لكذب من يسوقهم الى نار جهنم بكذبه و تدليسه لما كتبت اصلا. فكيف تقبل يا نصراني ان يسوقك كاذب الى الضلال و يستخف بعقلك و تصدقه بعد كل ما ثبت من تدليسه في مواضع مختلفة؟
و اخيرا لي رجاء للقمص زكريا بطرس و هو ان يكون الخط اجمل في المخطوطة ــ المحققة ــ القادمة. و ان كنت اتوقع ان يقوم القمص بسحب المخطوطة المزعومة من موقعه بعد اكتشاف زيفها.
و إمتلأت مواقع و منتديات النصارى بخبر المخطوطة لدرجة أن أحد المواقع هدد بعقد مؤتمر عالمي لنشر المخطوطة:
و إعتبر موقع آخر أن الوثيقة تهز أركان الإسلام و أنها بداية العد التنازلي لنهايته:
و مرت الأيام و الشهور و نحن في إنتظار هذا المؤتمر العالمي الذي وعدونا به و لكن كعادتهم لم يوفوا بعهدهم. و كما توقعت من شهور، قام زكريا بطرس بسحب المخطوطة المزعومة من موقعه بعد أن أصبحث مثارا لسخرية كل من يراها. و لكني ما زلت محتفظا بنسخة كاملة منها أقوم بتصفحها كلما شعرت برغبة في الضحك. و كلما قرأتها أتذكر زلة لسان وقع فيها زكريا بطرس عندما كان يتكلم عنها فلنشاهدها سويا:
و ما زلنا نتساءل عن الرجل الذي ألف و كتب المخطوطة و نطالب زكريا بطرس أن يعقد المؤتمر الصحفي الذي وعدونا به و نطالب اصدقائنا النصارى الذين على صلة به أن يذكروه بها. فنحن كمسلمين في شوق منذ شهور لمعرفة المزيد عن تلك المخطوطة.
و لكن كيف ألف زكريا بطرس هذه الأكذوبة؟
التاريخ يقول أن النصارى وجدوا أن الإسلام ينتشر بقوة في قرونه الأولى و لذلك أرادوا محاربته بشتى السبل. و كعادة النصارى عبر التاريخ، فإن الكذب هو الأسلوب المفضل عندهم للدفاع عن دينهم. و لذلك بدأوا في تأليف قصص تحاول إثبات أن الإسلام هرطقة نصرانية و بدأت هذه الأكاذيب في القرن التاسع و زادت حدتها في أثناء الحروب الصليبية لتشجيع الجنود الصليبيين على محاربة الإسلام بإعتباره هرطقة.
و عندما فتح النصارى كتب التاريخ الإسلامي، لم يجدوا ذكر لأشخاص لهم علاقة بالنصرانية إلا ورقة بن نوفل و الراهب بحيرا. و إكتشفوا أن ورقة بن نوفل مات في بداية البعثة و أن الراهب بحيرا قابله الرسول صلى الله عليه و سلم مرة واحدة و هو في الثانية عشرة في الشام. و لذلك قاموا بتأليف قصص خرافية بدون أي سند تاريخي بعضها يناقض البعض الآخر. فمرة يدعون أن ورقة بن نوفل هو ملهم القرآن للرسول صلى الله عليه و سلم و لم يذكروا لنا كيف فعل ذلك و هو ميت أو كيف كتب الآيات قبل أن تحدث أسباب نزولها! و في قصة أخرى أن الراهب بحيرا أعطى القرآن للرسول صلى الله عليه و سلم عندما قابله في طفولته و لم يذكروا لنا أيضا كيف تنبأ بالآيات قبل أن تحدث أسباب نزولها! و قد حاول البعض إيجاد حل لهذه المعضلة بأن ادعوا أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يستشير الراهب بحيرا الذي كان يلهمه. و لم يفسروا لنا كيف كان الرسول صلى الله عليه و سلم و هو في مكة أو المدينة يستشير الراهب بحيرا و هو في الشام ( مع علمنا أن تغطية شبكة المحمول كانت ضعيفة في الجزيرة العربية و الإنترنت لم يكن متوفرا في صومعة الراهب بحيرا لبعدها عن أقرب شركة لخدمات الإنترنت و كان كبيرا في السن لا يستطيع الذهاب لمقهى إنترنت ).
و هناك كتب لمستشرقين في عصرنا تروي الأساطير المختلفة التي ألفها النصارى حول الراهب بحيرا مثل كتاب “A Christian Bahira Legend” أو “خرافة بحيرا النصرانية” للمؤلف ريتشارد جوثيل Richard Gottheil و هو يروي بعض تلك الخرافات النصرانية عن بحيرا. و إلتقط زكريا بطرس هذا الكتاب و ترجم ما فيه مدعيا أنها السيرة الذاتية لبحيرا و ليس خرافات كما ذكر المؤلف الأصلي. و المدهش أن يستشهد زكريا بطرس بهذا الكتاب و الذي عنوانه يؤكد محتواه بأنها خرافات و ليست حقائق و لكن زكريا بطرس يعتمد على جهل النصارى و أنهم لا يبحثون وراءه فإستهزأ بهم و للأسف أطاعوه. و طبعا أضاف زكريا بطرس إضافات من مخيلته كعادته و زعم أن الراهب بحيرا إنتقل للعيش في مكة ( لكنه لم يذكر لنا كيف كان مختبئا عن الناس طوال 23 عاما للبعثة و الأهم هو عنوان خيمته حتى نتأكد ). و كانت النتيجة النهائية لتدليس و كذب زكريا بطرس هي المخطوطة التى رأيناها و التي لا يوجد مرجع واحد من الذين ذكرهم القمص يدعي أنها موجودة بل على العكس كلها تثبت أنها خرافات ألفها النصارى. و التحدي ما زال مفتوحا بأن يأتي أي نصراني بدليل واحد على هذه الوثيقة أو حتى يثبت أن المواقع التي ذكرها القمص تحوي ما ذكره من أكاذيب.
بصراحة الموضوع لا يتعلق بزكريا بطرس الذي إنتهت صلاحيته عمليا بعد أن إكتشف الجميع ـ مسلمون و نصارى ـ أنه كاذب حاقد على الإسلام و أصبحت وظيفته الآن هي قمص تخصص نقد إذاعي و تليفزيوني لأنه تفرغ للتعليق على خبر من هنا أو هناك أو حلقة من برنامج في قناة فضائية لهالة سرحان أو سهير جودة أو عمرو أديب بعد أن أفلس و تم الرد على كل أكاذيبه. و لكن الموضوع يتعلق ببعض النصارى الذين رضوا أن يساقوا كالخراف من رجل كهذا و كأن هناك إتفاق مسبق بينهم على أن يكذب عليهم و هم يصدقوا كذبه. هذه النوعية من البشر إختاروا الكفر بإرادتهم و يستحقون عذاب جهنم لأنهم رأوا الحق و إتبعوا الباطل و سوف يندمون في يوم لن ينفع فيه الندم. و يصور القرآن الكريم حالهم يوم القيامة في سورة البقرة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
(((((((((((اذا رأيت كبير القوم يطبل فلا تلومن صغاره على الرقص))))))السلام على من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته
سأنقل ما هو موجود في الكتاب المحرف وما يعتقده النصارى بغير زياده
فأن كان هناك اتهام فليكن المتهِم صادقا ويتهم هذا الكتاب وليبقى بعيدا عن شعارات الوحده والتوحد .
فما اردنا الا تبيان الحق الذي يخفيه الكافرون الحاقدون على الأسلام باسم وحدة الأديان وحريه التعبير فلنا ايضا حرية التعبير لكن لم نكذب ولن مثل مافعل المبشرون واعوانهم من هم مسلمون ظاهرا … فلهم دينهم ولنا ديننا ونحن لا نكره احد لأن الله فقط امر بهذا … ولكن ننشر الحق ونبطل الباطل بأذن الله وندعوا الى دين السلام ولو كره الكافرون ولتكتب اقلام فكم كتبت اقلام عنا فما زادتهم اقلامهم الا حقدا وحسدا كلما رأوا ديننا يعلو واقلامهم تكسر ويكفي ان كل قلم كتب عن الأسلام عاجز على ان يظهر في ساحة حوار حره بعيده عن الدكتاتوريه وفرض الحكومات وهاهي الشبكه العالميه بفضل الله تفتح لنا هذا الباب بالنسبة لنا نحن اما عن علمائنا ومشائخنا فهم في الساحات الكبرى وينتظرون … فهل من مناظر لهم ؟
والحمد لله.
……………
اذكركم بالمثل الذي يقول:-
(اذا رأيت كبير القوم يطبل فلا تلومن صغاره على الرقص)
…..
صفات رب النصارى وكفرهم بالله.
يصفونه بالجهل
Cor:1:25: 25 لان جهالة الله احكم من الناس.وضعف الله اقوى من الناس
فأي شئ يجهله ربكم
***
الرب يستريح بعد عمل طويل
التكوين
2: 2 و فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل
قال تعالى
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [قـ : 38])
***
ربهم يسئ الأمانه
1Kgs: 17: 20 : 20 وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أايضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت بإماتتك ابنها. (SVD)
***
مخادع
Jb :9: 9: صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب.
بل شبهوه بالحيوانات
Hos: 13 :8 : 8 اصدمهم كدبة مثكل واشق شغاف قلبهم وآكلهم هناك كلبوة يمزقهم وحش البرية
مع انه قال
Is: 40 :25: فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس.
Is : 40: 18 :. فبمن تشبهون الله وأي شبه تعادلون به.
ولكنهم زادو في تشبيهه حتى اصبح خروفا.
Rv :17 :14. هؤلاء سيحاربون الخروف والخروف يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون.
بل له اذيال
Is:6:1: 1. في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل
الا لعنة الله على الظالمين يصفون الله بهذه الصفات … ما تأثير هذه الصفات على ضعاف العقول ماذا يفكرون ماهذا الدين … (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)
***
يأمر بالكذب والسرقه
Ex :11 :1 : 1. ثم قال الرب لموسى ضربة واحدة ايضا اجلب على فرعون وعلى مصر.بعد ذلك يطلقكم من هنا.وعندما يطلقكم يطردكم طردا من هنا بالتمام. (SVD)
Ex:11:2: 2 تكلم في مسامع الشعب ان يطلب كل رجل من صاحبه وكل امرأة من صاحبتها امتعة فضة وأمتعة ذهب. (SVD)
Ex :3: 21 : 21 وأعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين.فيكون حينما تمضون انكم لا تمضون فارغين. (SVD)
Ex: 3: 22 : 22 بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها امتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا وتضعونها على بنيكم وبناتكم.فتسلبون المصريين (SVD)
يعري النساء
3: 16 و قال الرب من اجل ان بنات صهيون يتشامخن و يمشين ممدودات الاعناق و غامزات بعيونهن و خاطرات في مشيهن و يخشخشن بارجلهن.
3: 17 يصلع السيد هامة بنات صهيون و يعري الرب عورتهن.
***
الشيطان أصدق من ربهم
Gn: 3: 3: 3 وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا. (SVD)
Gn: 3: 4 : 4 فقالت الحيّة للمرأة لن تموتا. (SVD)
Gn: 3 :5 : 5 بل الله عالم انه يوم تأكلان منه تنفتح اعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. (SVD)
وهذا ماحدث
3: 7 فانفتحت اعينهما و علما انهما عريانان فخاطا اوراق تين و صنعا لانفسهما مازر
***
رب ينتقم بالزنا
Sm :12 : 11:
هكذا قال الرب هاأنذا اقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك امام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس.
2Sm :12 :11 : 12 لأنك انت فعلت بالسرّ وأنا افعل هذا الأمر قدام جميع اسرائيل وقدام الشمس. (SVD)
والله اخوتي اكتفي بهذا ولا انقل الأكفر خوفا من قسوة قلبي وقلبكم وغضب الله وسخطه
فكلما كتبت شيئا زاد قلبي ظيقا ولكن فقط للتبيان وفضح اولئك الذين يدعون الحق والمحبه وكشف ما يستره المنفرون المبشرون الداعين لجهنم .
قال تعالى في القرأن ولكم يا نصارى ان تختاروا…بين الله وبين ربكم الخروف
(اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة : 255])
(نقلت من كتاب البيان لما في عقيدة النصارى من التحريف والبهتان)
يتبع المسيح الذي عبدوه من دون الله ومانسبوه اليه بأذن الله…
الفيتوري
06-14-2006, 08:13 PM
المسيح عليه السلام (يسوع اسمه عندهم) وما نسبوه اليه
(تنبيه :- ان المسيح عليه السلام برئ من كل التهم والصفات التي في الكتاب المحرف … ونحن نستغرب يعبده النصارى ثم يصفوه بأبشع الأوصاف)
***
يسوع
شتام..!!:-
Lk:13:32: فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب ها انا اخرج شياطين واشفي اليوم وغدا وفي اليوم الثالث اكمل.
Mt:16:23: 23 فالتفت وقال لبطرس اذهب عني يا شيطان.انت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس(SVD)
Mt:7:6: 6 لا تعطوا القدس للكلاب.ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير.لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم (SVD)
Mt:15:26: 26 فأجاب وقال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. (SVD)
***
يسوع عاق لوالديه
Jn:2:4: 4 قال لها يسوع ما لي ولك يا امرأة.لم تأت ساعتي بعد.
قال تعالى في القرأن الكريم
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان : 14])
***
يسوع كذاب
Jn:7:8:
8 اصعدوا انتم الى هذا العيد.انا لست اصعد بعد الى هذا العيد لان وقتي لم يكمل بعد. (SVD)
Jn:7:10:
10 ولما كان اخوته قد صعدوا حينئذ صعد هو ايضا الى العيد لا ظاهرا بل كأنه في الخفاء. (SVD)
***
يسوع يخلف الوعد:-
” متى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى . فإني الحق أقول لكم : لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان ” ( متى 10/23 ).
وفي سفر الرؤيا يقول:” ها أنا آتي سريعاً ” ( الرؤيا 3/11 ).
” وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين : قل لنا متى يكون هذا ؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر ؟ ” .
فأجابهم المسيح بذكر علامات كثيرة، ومنها ” حينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ، ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير … الحق أقول لكم : لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله ، السماء والأرض تزولان ، ولكن كلامي لا يزول ” ( متى 24/3 - 3 ) .
لكن هذا لم يحدث ولم يعد يسوع ومات الجيل كله.
***
يسوع يشجع على الزنا لأنه من نسل زنا
نسب يسوع في انجيل متى .. يقول إنجيل متى اَلأَصْحَاحُ الأَوَّلُ:
1كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ. 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3 وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ . وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. 10وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ. 17فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً.
لاحظ الآتي :
ثامار زانية مع والد زوجها النبي يهوذا ابن النبي يعقوب “وكان يجب أن يقتلا حسب شريعة الرب” وولدت ثامار فارص وزارح من الزنا وهما من أجداد المسيح ابن مريم ….. اقرأ تفاصيل الزنا في سفر التكوين 38:13
سفر تكوين 38: 24 و لما كان نحو ثلاثة اشهر اخبر يهوذا و قيل له قد زنت ثامار كنتك و ها هي حبلى ايضا من الزنى فقال يهوذا اخرجوها فتحرق. “لم تحرق .. لأنه هو الذي زنى بها!!”
راحاب زانية .. سفر يشوع الإصحاح 12
راعوث زانية .. سفر راعوث
زوجة أوريا الحثي زانية مع داود النبي وانجبت منه النبي سليمان .. صموئيل الثاني 11 : 1
ايضا الياقيم جد المسيح وهذا هو الياقيم من الكتاب المقدس “وملك ملك مصر الياقيم اخاه على يهوذا واورشليم وغيّر اسمه الى يهوياقيم ” قال الله عنه في سفر إرمياء 36 :30-32 “لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا . لا يكون له جالس على كرسي داود وتكون جثته مطروحة للحر نهارا وللبرد ليلا وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم” .
فكيف يأتي من نسل زنا ؟؟!!
ليتخذ ضعاف العقول هذا ذريعه لفعل الفواحش.
***
يسوع يسرق..
متى الأصحاح 21
21: 1 و لما قربوا من اورشليم و جاءوا الى بيت فاجي عند جبل الزيتون حينئذ ارسل يسوع تلميذين
21: 2 قائلا لهما اذهبا الى القرية التي امامكما فللوقت تجدان اتانا مربوطة و جحشا معها فحلاهما و اتياني بهما
21: 3 و ان قال لكما احد شيئا فقولا الرب محتاج اليهما فللوقت يرسلهما.
***
يسوع يشجع على الحقد والكره
(( إِنْ جَاءَ إِلَيَّ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبْغِضْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذاً لِي ))
[ ترجمة الفانديك
***
يسوع ليس رجل سلام :-
(جِئْتُ لأُلْقِيَ عَلَى الأَرْضِ نَاراً، فَلَكَمْ أَوَدُّ أَنْ تَكُونَ قَدِ اشْتَعَلَتْ؟)) ( لوقا 12 : 49
***
يسوع يُكره الناس على الأيمان
Lk:19:27:
27 اما اعدائي اولئك الذين لم يريدوا ان املك عليهم فأتوا بهم الى هنا واذبحوهم قدامي (SVD)
***
ينسبون ليسوع الشذوذ الجنسي
Jn:13:23: 23 وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه!!!. (SVD)
***
يسوع لم يطبق الشريعه
بُا لتَّثْنِيَة 22: 22 . وَإِذَا ضَبَطْتُمْ رَجُلاً مُضْطَجِعاً مَعَ امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ تَقْتُلُونَهُمَا كِلَيْهِمَا، فَتَنْزِعُونَ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكُمْ.
والكتاب يلعن من لم يطبق الشريعه..!!
كِتَابُ التَّثْنِيَة 26ِ : 26 "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يُطِيعُ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا. فَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين"
.
وعندما اتوا له بزانيه ليطبق الشريعه عليها(حد الله) قال "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !! (والله يقول) مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يُطِيعُ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا.
هنيئا لفاعلي الأثم..الحياه الأبديه مع يسوع النصارى الذي بلا خطيئه.
***
يسوع ملعون (عبدوه ثم يلعنون المسيح لعنهم الله )
Gal:3:13:13 المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبة. (SVD)
***
ملاحظه
ان المسيح عليه السلام برئ منهم والمسلمين يبرئونه مما ينسبه اليه الذين عبدوه من دون الله ويدعون حبه
(إله محبه ...!! لقد عرفت لماذا الأن يحبونه بهذه الصفات ... ويكرهونه صفاته في الأسلام)
***
يسوع يتهم الله بالخيانه ولا يعرف الرضا بقضاء الله
يقول له في
انجيل لوقا 15 : 34
"" إلهي إلهي لما تركتني "
تعليق الدكتور حبيب:-
يتبين من هذا ان اللاهوت وعد الناسوت بشئ ولم يوفي به وهذا ما نقرأه بقوله لماذا تركتني ............. فكيف اذا يكلم ربه بهذه الطريقة هل هو عدم رضا بحكم الله وهذا كفر من الناسوت...........أم إخلاف وعد من اللاهوت وهذه خيانه.
***
يسوع شرير لأنه فديه
Prv:21:18: 18. الشرير فدية الصدّيق ومكان المستقيمين الغادر (SVD)
(هذا وبأختصار صفات يسوع )
الذي عبدوه مع الله سبحانه ... ؟؟!! وعجبا...ولن اعلق.
يتبع..الأنبياء..باذن الله...
الفيتوري
06-14-2006, 08:15 PM
ثمار الأنبياء:-
ماذا يقول الكتاب عن الأنبياء الفجار الزناه
Jer : 23 : 10 : 10 لان الارض امتلأت من الفاسقين.لأنه من اجل اللعن ناحت الارض جفت مراعي البرية وصار سعيهم للشر وجبروتهم للباطل. (SVD)
Jer : 23: 14 : 14 وفي انبياء اورشليم رأيت ما يقشعر منه.يفسقون ويسلكون بالكذب ويشددون ايادي فاعلي الشر حتى لا يرجعوا الواحد عن شره.صاروا لي كلهم كسدوم وسكانها كعمورة.
ويسوع يسب الأنبياء الذين قبله ويقول:-
(( أنا باب الخراف وجميع الذين جاؤوا قبلي "يقصد الأنبياء كلهم" سارقون ولصوص ! )).
نبدأ :-
هذه رسالة الدكتور حبيب عبد الملك حفظه الله لقس كنيسة الزيتون حول موضوع انبياء الكتاب المحرف
(اننا كلنا مسلمون ونصارى نؤمن أن الله تعالى أرسل الرسل للناس ليرشدوهم إلى عبادة الله وحده ...... والتوبة إليه سبحانه ............ بفعل الخير الذي يرضى عنه .... والبعد عن الشر الذي لايرضى عنه ....... أي أن الله يريد أن يطهر عباده من الرجس ويداويهم من أمراضهم .... ومن أمراضهم هنا ....... عبادة الأصنام ..........و الكفر بالله .... والاشراك به ....... والزنا ...... والدياثة .......... والسرقة ......... والخيانة ........... وقطع صلة الرحم ......... والظلم ....... والكذب ..... وإيذاء الوالدين ............ وسوء الخلق ........... والانتحار .......... والقتل...... إلا اننا نجد في الكتاب المقدس أن الله حينما اختار انبيائه فانه قد اختارهم ليكفروا بالله ..... ويشركوا به ...... ويزنوا بالقريبة والبعيدة ........ ويقتلوا بلا عفو .......... والدياثة ديدنهم ....... وعبادة الأصنام مذهبهم ............ والسرقة منهجهم .......... والخيانة أملهم ......... وقطع صلة الرحم والظلم والكذب وإيذاء الوالدين وسوء الخلق والانتحار وسيلتهم ...... وكل ذلك أثناء فترة نبوتهم!!!!!!. لعلك لاتصدقني .......... بل لعل كل من يسمع بهذا الكلام ...... يقول عني انني أهذي أو أنني مصاب بلوث عقلي ............ لا ....... لا .....والله ......... هذا ما يقوله الكتاب المقدس عن أنبياء الله)
وصدقت اخي الكريم وهذا اثبات لكل باحث عن حق وقد نقلنا القليل
***
نبدأ:-
الأنبياء
حمقى والحمير تردهم عن حماقتهم
2 Pt : 2: 16: ولكنه حصل على توبيخ تعديه اذ منع حماقة النبي حمار اعجم ناطقا بصوت انسان.
***
أدم كان سببا في دخول كل من اتى بعده الى النار ظلما منه ومن رب النصارى الذي لم يغفر لهم أو أخر المغفره
5: 14 لكن قد ملك الموت من ادم الى موسى و ذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي ادم الذي هو مثال الاتي (روميه)
***
نوح حلت عليه الروح القدس ... وما نسبوه اليه
Gn :9 :21 : 21 وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. (SVD)
***
لوط حلت عليه الروح القدس ... وما نسبوه اليه ولأبنتيه.
Gn :19 :30 : 30. وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه.لأنه خاف ان يسكن في صوغر.فسكن في المغارة هو وابنتاه.
Gn : 19: 31:
31 وقالت البكر للصغيرة ابونا قد شاخ وليس في الارض رجل ليدخل علينا كعادة كل الارض. (SVD)
Gn: 19: 32:
32 هلم نسقي ابانا خمرا ونضطجع معه.فنحيي من ابينا نسلا. (SVD)
Gn :19 :33:
33 فسقتا اباهما خمرا في تلك الليلة.ودخلت البكر واضطجعت مع ابيها.ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. (SVD)
Gn :19: 34:
34 وحدث في الغد ان البكر قالت للصغيرة اني قد اضطجعت البارحة مع ابي.نسقيه خمرا الليلة ايضا فادخلي اضطجعي معه.فنحيي من ابينا نسلا. (SVD)
Gn :19 :35:
35 فسقتا اباهما خمرا في تلك الليلة ايضا.وقامت الصغيرة واضطجعت معه.ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. (SVD)
Gn : 19: 36:
36 فحبلت ابنتا لوط من ابيهما. (SVD)
Gn : 19 : 37:
37 فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب.وهو ابو الموآبيين الى اليوم. (SVD)
Gn: 19: 38:
38 والصغيرة ايضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمي.وهو ابو بني عمون الى اليوم (SVD)
***
ايوب حلت عليه الروح القدس وما نسبوه اليه
...يسب ربه ويتهمه بالظلم
سفر أيوب 10 : 16
(( وَإِنْ شَمَخْتُ بِرَأْسِي تَقْتَنِصُنِي كَالأَسَدِ، ثُمَّ تَعُودُ فَتَصُولُ عَلَيَّ. تُجَدِّدُ شُهُودَكَ ضِدِّي، وَتُضْرِمُ غَضَبَكَ عَلَيَّ، وَتُؤَلِّبُ جُيُوشاً : تَتَنَاوَبُ ضِدِّي. لِمَاذَا أَخْرَجْتَنِي مِنَ الرَّحِمِ؟ أَلَمْ يَكُنْ خَيْراً لَوْ أَسْلَمْتُ الرُّوحَ وَلَمْ تَرَنِي عَيْنٌ ؟ فَأَكُونُ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ فَأُنْقَلُ مِنَ الرَّحِمِ إِلَى الْقَبْرِ. أَلَيْسَتْ أَيَّامِي قَلِيلَةً؟ كُفَّ عَنِّي لَعَلِّي أَتَمَتَّعُ بِبَعْضِ الْبَهْجَةِ ))
****
هوشع حلت عليه الروح القدس ... وما نسبوه اليه
Hos :1 :2 : 2. اول ما كلّم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لان الارض قد زنت زنى تاركة الرب. (SVD)
وقبلها قال
Jer: 23: 10: بالكذب ويشددون ايادي فاعلي الشر
اليس هذا تشديد من ربهم نفسه.
***
سليمان بعد ان حلت عليه الروح القدس ... وما نسبوه له
1Kgs: 11 :9 : 9. فغضب الرب على سليمان لان قلبه مال عن الرب اله اسرائيل الذي تراءى له مرتين (SVD)
1Kgs: 11 :10 : 10 وأوصاه في هذا الامر ان لا يتبع آلهة اخرى.فلم يحفظ ما أوصى به الرب. (SVD)
نبي لم يحفظ الوصايا فكيف نثق فيه بعد هذا.
1Kgs :11 : 11 : 11 فقال الرب لسليمان من اجل ان ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي اوصيتك بها فاني امزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك. (SVD)
1Kgs :11 : 4 : 4 وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب الهه كقلب داود ابيه.
(كداود..!!!. لنقرأ اذن كيف كان قلب ابيه ومن اين اتى بسليمان)
Sm:12: 24:
24 وعزّى داود بثشبع امرأته ودخل اليها واضطجع معها فولدت ابنا فدعا اسمه سليمان والرب احبه (SVD)
انجب ابنا بالزنى ثم اصبح ملكا نبيا ؟؟؟!!! ومن ثمارهم تعرفونهم.
***
اشعياء حلت عليه الروح القدس ... واعجوبته الخارقه؟! وما نسبوه اليه
Is: 20: 3: 3 فقال الرب كما مشى عبدي اشعياء معرّى وحافيا ثلاث سنين آية وأعجوبة على مصر وعلى كوش (SVD)
يمشي عريانا وحافيا سبحان الله !!..معجزات دوت كم.
***
النبي اسرائيل .. وحلت عليه الروح القدس وما نسبوه اليه
Gn:35:22: 22 وحدث اذ كان اسرائيل ساكنا في تلك الارض ان رأوبين ذهب واضطجع مع بلهة سرّية ابيه.وسمع اسرائيل وكان بنو يعقوب اثني عشر. (SVD)
***
ايها الأخوه الكرام نكتفي الى هذا الحد قبل ان تحل الروح القدس
وللعلم هناك الكثير لم يذكر .
وصدق اخي ايوب عندما قال
(أقول ألا لعنة الله على الظالمين الذين يبدلون في كتاب الله ويحرفون فيه ويفترون على رسل الله وأنبيائه ووصفهم بما لا يجوز ولم يحدث منهم , وإن الله لمنتقم منهم على ما يقولون في أنبيائه ورسله , إنهم يتهمون الله عز وجل بأنه يختار أنبياء زناة وقتله وأن الله سبحانه لم يستطع أن يحسن إختيار رسله وأنبيائه .... لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم )
يتبع..التلاميذ....
الفيتوري
06-14-2006, 08:31 PM
التلاميذ..
قليلي الأيمان
«مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟» ) متى 8: 26
(16وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ». 17فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ الْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ هَهُنَا!» 18فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. 19ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» 20فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. 21وَأَمَّا هَذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ».) متى 17: 16-21
***
التلاميذ لا يفهمون
(15فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: «فَسِّرْ لَنَا هَذَا الْمَثَلَ». 16فَقَالَ يَسُوعُ: «هَلْ أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟) متى 15: 15-16
***
بطرس احد التلاميذ شيطان
(23فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».) متى 16: 23
بل يحلف كذبا وينكر معلمه خوفا (فقارنوا بين التلاميذ في الكتاب المحرف وبين القرأن)
(69أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِساً خَارِجاً فِي الدَّارِ فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ». 70فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ!» 71ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهَذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 72فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» 73وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: «حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!» 74فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» .. …) متى 26: 69-74
بعد ان قال له
(35قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» هَكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ.) متى 26: 35 ، (حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا.) متى 26: 56
فهؤلاء هم من كانوا مع يسوع (تركوه وهربوا) واهله وخاصته وقال يسوع عنهم
1Cor:6:19: 19 ام لستم تعلمون ان جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم. (SVD)
وقال ايضا
Jn:17:11:
11. ولست انا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي اليك.ايها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين اعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن. (SVD)
***
التلاميذ تركوا معلمهم وقت الشده ووقت الحاجه (فأين هذه الأفعال من افعال صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم)
(50فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. 51وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِساً إِزَاراً عَلَى عُرْيِهِ فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ 52فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً.) مرقس 14: 50-52
الأناجيل تصفهم بالتخاذل وعدم الإكتراث ، فقد ناموا وتركوا إلههم (؟) يبكى ، يصلى ، يتضرع إلى إلهه أن ينقذه ، طالباً منهم أن يقفوا بجواره ليشجعوه وليهونوا عليه الأحداث العصيبة القادمة ، راجياً إياهم أن يصلوا هم أيضاً ، لأكى ينقذهم الله من الفتنة القادمة ، لكن هيهات هيهات:
(32وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «اجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». 33ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. 34فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! امْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». 35ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». 37ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 38اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 39وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. 40ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. 41ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! ) مرقس 14: 32-41
بل نام بطرس نفسه الذى انتقاه يسوع مع يعقوب ويوحنا عندما ذهب للصلاة: (37ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟) مرقس 14: 37
***
يهوذا الخائن احد التلاميذ الذي سلم المسيح للصلب وتزكية المسيح له
الم يكن يعلم انه خائن اي اله هذا.
الحق أقول لكم : إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر " ( متى 19/28 ).
فلقد قال الأثني عشر اي يهوذا منهم ولم يقل ان هناك اثني عشر سيجلسون بل اكد على التلاميذ كما هو واضحثم يقول عنه
بعد ان تنبأ بمن سيسلمه
" ويل لذلك الرجل .. خيراً لذلك الرجل لو لم يولد " ( متى 26/24 )
***
هؤلاء هم تلاميذ يسوع حسب كتابهم المحرف
قارنوا بينهم وبين رجال الله الحقيقين كيف نصروا رسل الله عليهم الصلاة والسلام في القران
(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران : 146])
[هؤلاء هم حواريي عيس الحقيقيون]
َ(إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة : 111])
َ(لَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران : 52])
بل يضرب بهم المثل :-
َ(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف : 14])
كذب كل نصراني يقول اننا اتبعنا المسيح عليه السلام
بل كذب منكم وان انتم الا تظنون.
(نقلت من الأخ ابوبكر ورتبت بطريقه اخرى)
يتبع باذن الله … بولس..ومجده ..
الفيتوري
06-20-2006, 07:39 PM
هل تعلم ان بولس كان سارق
Acts:8:3: 3 وأما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالا ونساء ويسلمهم الى السجن (SVD)
***
هل تعلم ان بولس كان يسجن النصارى قبل ان يتغير فجأه
Acts:8:3: 3 وأما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالا ونساء ويسلمهم الى السجن (SVD)
يذكر سفر الأعمال أيضا تنصر بولس المفاجئ و انقلابه دون مقدمات تقدمت لهذا الإنتقال و لا تمهيدات مهدت له بعد أن رأى المسيح
التلاميذ كانوا يخافون منه فمن يصدق ان اول عدو للنصرانيه يبقى مبشرا في لحظه ضروري من تمهيدات حتى … الا يوحي هذا بمكرفشاول (بولس يعترف انه ماكر فلما لا قد يكون هذا ايضا مكر) وخصوصا انه كان عدوا كبير لهم
***
فلقد كان يضطهد المسيح
.. Acts:9:4: 4 فسقط على الارض وسمع صوتا قائلا له شاول شاول لماذا تضطهدني. (SVD)
***
بولس يعلم الرده بشهادة التلاميذ
” وفي الغد دخل بولس معنا إلى يعقوب وحضر جميع المشايخ . . . . فلما سمعوا كانوا يمجدون الرب ، وقالوا له أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا وهم جميعاً غيورون للناموس وقد أخبروا عنك أنك تعلم جميع اليهود الذين بين الأمم الإرتداد عن موسى قائلاً أن لا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد ” أعمال الرسل 21عدد 18 - 21 .
***
بولس كذاب بشهادة الواقع ايضا
Rom:3:7: 7 فانه ان كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان انا بعد كخاطئ. (SVD)
وواقعه يثبت ذلك
(بحث للدكتور منقذ السقار)
عند دراسة قصة رؤية المسيح و قد وردت في ثلاث مواضع بالعهد الجديد : أولاها في أعمال الرسل (9/3-22) ،10. والثانية من كلام بولس في خطبته أمام الشعب (انظر أعمال 22/6-11) ،11. والثالثة أيضاً من رواية بولس أمام الملك أغريباس (انظر أعمال 26/12-18)،12. كما أشار بولس للقصة في مواضع متعددة في رسائله. و بدراسة القصة في مواضعها الثلاث يتبين تناقضها ؛ فقد جاء في الرواية الأولى : (7وَأَمَّا الرِّجَالُ الْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً.) ،13. بينما جاء في الرواية الثانية : (9وَالَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا النُّورَ وَارْتَعَبُوا وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الَّذِي كَلَّمَنِي.) ،14. فهل سمعت القافلة صوت الذي كلمه أم لم يسمعوه ؟!. و يرد القس : منيس عبد النور فيقول : ( الحديث في أعمال 9 عن مجرد السمع ،15. أي وصول الصوت إلى الأذن. أما في أعمال 22 فالحديث عن فهم معنى ما سمعوه. لقد سمعوا،16. ولكنهم لم يفهموا،17. وهذا ما جرى عندما رأى شاول الطرسوسي النور السماوي .. ) ،18. و طبعا واضح الإجتهاد الشخصي في رد القس و تفسيره لمعنى السمع الوارد في عدة مواضع إذ لا دليل على ما يقول لأنه بالعودة إلى النص لا نجد فارقا في المعنى بين الجمل ،19. أكثر من ذلك بالرجوع إلى النسخة الإنجليزية للكتاب المقدس نجدها تستخدم نفس الكلمة المرادفة لكلمة السمع ( Hear ) و لا تستخدم كلمة أخرى تدل على معنى الفهم ( see or understand ) فمن أين أتى القس بهذا التفسير ؟..
. أيضا جاء في الرواية الأولى والثانية أن المسيح طلب منه أن يذهب إلى دمشق حيث سيخبَر هناك بالتعليمات : ( 6فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: «يَا رَبُّ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟»فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «قُم وَادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ» ) ،21. و أيضا : ( فَقُلْتُ: مَاذَا أَفْعَلُ يَا رَبُّ؟ فَقَالَ لِي الرَّبُّ: قُمْ وَاذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ وَهُنَاكَ يُقَالُ لَكَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَتَّبَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ.) ،
. بينما يذكر بولس في الرواية الثالثة - و قد كانت ضمن حديثه الى الملك أغريباس - أن المسيح أخبره بتعليماته بنفسه ،. فقد قال له: ( 16وَلَكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهَذَا ظَهَرْتُ لَكَ لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ 17مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ 18لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ الْمُقَدَّسِينَ.) فهل حدث فعلا أن بلغه المسيح بالرسالة عقب افاقته .. أم في دمشق .. أم أنها كانت حيلة منه أمام الملك أغريباس ؟!.. و يرد أيضا القس : منيس عبد النور فيقول : ( أما في أصحاح 26 فالأمر أن بولس كان يحدِّث الملك أغريباس،. ليبرئ نفسه من اتهامات اليهود، ويدعو الملك للإيمان،. فأوجز في ما قال، ولم يورد تفصيلات. لهذا أغفل ذكر أن مرافقيه سمعوا صوت من كلَّمه،28. ولكنهم لم يفهموا ما سمعوه . ) و نقول هنا : و إذا أغفل بولس فهل أغفل الروح القدس الذي يؤمن النصارى أنه يوحي لبولس أو لوقا أو كاتب السفر أن يورد الحقائق كاملة دون زيادة أو نقصان ؟!… و على قياس تفسير القس لرواية بولس : فماذا أيضا أغفل الروح القدس ذكره في الكتاب ؟!..
. و من الأمور التي وقف عليها المحققون في شخصية بولس لجوئه للكذب في سبيل الوصول لغايته. فقد حدث أن أراد اليهود محاكمته و عندما مثل أمام المحكمة و وجدها تنقسم الى فريسيين و صدوقيين قال لهم أنه فريسي ليوقع بينهم الفتنة و ينجو هو ،. و لنقرأ النص : ( 6وَلَمَّا عَلِمَ بُولُسُ أَنَّ قِسْماً مِنْهُمْ صَدُّوقِيُّونَ وَالآخَرَ فَرِّيسِيُّونَ صَرَخَ فِي الْمَجْمَعِ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَا فَرِّيسِيٌّ ابْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ». 7وَلَمَّا قَالَ هَذَا حَدَثَتْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ وَانْشَقَّتِ الْجَمَاعَةُ ) . إذ أن الفريسـيين يؤمنون بالبعث بعد الموت في حين لا يؤمن الصدوقيون بذلك . و في موضع أخر عندما قبض عليه الرومان قال لهم أنه مواطنا رومانيا و أكد ذلك ثانيةً حين سئل للتأكيد فوجدوا أنفسهم في حرج إذ كانوا يقيدونه و يسوقونه الى الجلْد و لنقرأ أيضا النص : ( 25فَلَمَّا مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ الْوَاقِفِ: «أَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْلِدُوا إِنْسَاناً رُومَانِيّاً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ؟» 26فَإِذْ سَمِعَ قَائِدُ الْمِئَةِ ذَهَبَ إِلَى الأَمِيرِ وَأَخْبَرَهُ قَائِلاً: «انْظُرْ مَاذَا أَنْتَ مُزْمِعٌ أَنْ تَفْعَلَ! لأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ رُومَانِيٌّ». 27فَجَاءَ الأَمِيرُ وَقَالَ لَهُ: «قُلْ لِي. أَأَنْتَ رُومَانِيٌّ؟» فَقَالَ: «نَعَمْ». 28فَأَجَابَ الأَمِيرُ: «أَمَّا أَنَا فَبِمَبْلَغٍ كَبِيرٍ اقْتَنَيْتُ هَذِهِ الرَّعَوِيَّةَ». فَقَالَ بُولُسُ: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ وُلِدْتُ فِيهَا». 29وَلِلْوَقْتِ تَنَحَّى عَنْهُ الَّذِينَ كَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَفْحَصُوهُ. وَاخْتَشَى الأَمِيرُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ وَلأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَهُ. ) و طبعا واضح التقوّل و التناقض بين هذه و بين مقولته السابقة . و يبدو أن الرومان لم يبحثوا في مقولته هذه بصورة رسمية لدى تعداد المواطنين الرومان الذين يعيشون في اليهودية فلا يذكر السفر شيئا عن ذلك. و لو حدث ذلك لكان مالا يُنتظر ! و قد ذهب البعض إلى أن بولس كان يهوديا حاصلا على الجنسية الرومانية و لكن ذلك لا دليل عليه إذ لم يكن من سكان روما و لم ينخرط في سلك الجندية كما فعل بعض الشوام و الإغريق فحصلوا على الجنسية الرومانية و تدرجوا في المناصب حتى صاروا أعضاء لمجلس الشيوخ الروماني بل و أباطرة أيضا. كذلك لم تكن طرسوس أبدا جزء من البلاد الرومانية الأصلية حتى يحصل أحد سكانها على الجنسية الرومانية أبا عن جد ؛ فبولس لم يذكر ذلك في السفر منذ البداية في تعريفه لنفسه و لكن اكتفى بأن يعرّف الناس أنه يهودي طرسوسي فقط . و ما كان ليخفي هويته الرومانية عن النـاس و يظهرها فقط خوفا من الجلد إلا لو كانت ضرب من الكـذب أراد أن يفلت به من العقوبة .. و هذا شيء معهود من بولس كما سنرى !!
***
تابع (بحث الدكتور)
بولس يشجع على النفاق
. و يرى أيضا أن التلون بكل لون هو شيء مسموح به و من صفات المبشر الناجح. و على نهجه سار كل المبشرين بعد ذلك فنقرأ في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس : (20فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ 21وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ - مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ - لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. 22صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً.) .
***
بولس يسب الله ويتهمه بالضعف والجهل صراحة (تعالى الله)
” لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس” (كورنثوس(1)1/25)
***
بولس ماكر
2Cor:12:16:
16 فيلكن.انا لم اثقل عليكم لكن اذ كنت محتالا اخذتكم بمكر. (SVD)
***
يتهم الله بالظلم
5: 14 لكن قد ملك الموت من ادم الى موسى و ذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي ادم الذي هو مثال الاتي(روميه)
فما ذنب البشر في ان يحملوا خطايا ابائهم الم يقل كتابك يا بولس
Ez:18:20: 20 النفس التي تخطئ هي تموت.الابن لا يحمل من اثم الاب والأب لا يحمل من اثم الابن.بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون. (SVD)
وللعلم ان من اخترع قصة الصلب والفداء كان بولس
اما المسيح لم يؤكد هذا ابدا بل كان دائما خائفا من هذا الموضوع بل كان يتهم الله بتركه واخلاف الوعد
انجيل لوقا 15 : 34
“” إلهي إلهي لما تركتني ”
فمن اين لبولس هذه الخرافه ؟؟؟..
***
يتبع باذن الله …
الفيتوري
06-21-2006, 03:56 PM
بولس ليس رسول المسيح والدليل تناقضه مع المسيح عليه السلام
بولس يلعن المسيح
Gal:3:13:13 المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبة. (SVD)
بولس يقول (7فَمَاذَا نَقُولُ؟ هَلِ النَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ حَاشَا! بَلْ لَمْ أَعْرِفِ الْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِالنَّامُوسِ.
والمسيح يقول متى : (17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.)
بولس يقول : فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ الشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ النَّامُوسُ «لاَ تَشْتَهِ».
وكأن جسده خلق بدون شهوه (فعلا صدق في حياته مرة واحده عندما قال عن نفسه غبي وكذاب)
والمسيح يقول متى : (17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.
بولس يكذب ويقول
8وَلَكِنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ النَّامُوسِ الْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ.
والمسيح يقول متى : (17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.
بولس يقول :أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشاً قَبْلاً. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ فَمُتُّ أَنَا )
والمسيح يقول متى : (17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.
بولس يقول (10لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ !!!!(ياترى عل يقصد التثنيه؟)، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ». 11وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا»(كذاب)
والمسيح يقول متى : (17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.
اي رسول هذا الذي يناقض راسله.
الكذاب يقول :16إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.)
والمسيح يقول متى : (17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.
يا نصارى ماهي ادلة صدق بولس من يشهد له من هو ما اصله ؟؟؟ اسئله كثيره لو اجبتم عليها مع ما قرأت وماسبق لعرفتم ان بولس ليس رسول ابدا
بل كما قال عن نفسه (والأعتراف سيد الأدله:-
بولس لا يوحى له
1Cor:7:25: 25. وأما العذارى فليس عندي امر من الرب فيهنّ ولكنني اعطي رأيا كمن رحمه الرب ان يكون امينا. (SVD)
2Cor:11:17:17 الذي اتكلم به لست اتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه. (SVD)
***
غبي ومختل
2Cor:11:1:1. ليتكم تحتملون غباوتي قليلا.بل انتم محتملي. (SVD)
***
وكفي انه يناقض دائما نفسه
Rom:3:7: 7 فانه ان كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان انا بعد كخاطئ. (SVD)
ثم يقول1: 25 الذين استبدلوا حق الله بالكذب و اتقوا و عبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك الى الابد امين)
***
ثم يتهم الله بعدم الشفقه على ابنه عذبه الله
فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا! 32اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟) رومية8: 31-32)
هذا هو بولس الحقيقي (وبأختصار)
وكما يقولون الأعتراف سيد الأدله
والله اكبر والعزة للأسلام والمسلمين وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله وعلى رسله الطيبين الأطهار وعلى اله وصحبه اجمعين.
وأخر دعوانا
الحمد لله رب العالمين.
(وجزا الله خيرا مؤلف كتاب البيان لما في عقيدة النصارى من التحريف والبهتان أمين)
يتبع … الحجه القويه في نفي عن يسوع الألوهيه.
الفيتوري
06-21-2006, 04:00 PM
عندما تحاور اي نصراني عن بعض صفات يسوع مثل الضعف فيقول هذا بالنسبه لناسوته
فبأمكانك ان تفحمة بهذا الرد
ان يسوع نفى عن نفسه علم الساعه فما دخل العلم بالناسوت
Mk:13:32: 32 وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن الا الآب. (SVD)
و تفحمه بهذا الرد ايضا:-
هات دليل واضح يقول فيه يسوع انه لا هوت وناسوت
فلن تجد الا الأدله لا تعني ذلك ابدا
وبأمكانك الرد عليها بأتيان نصوص اخرى تبطل تفسيره هذا مثلا بهذه الطريقه
مثلا ان اتى بدليل قول يسوع انا والأب واحد فأحضر له هذا الدليل دعاء المسيح للتلاميذ
Jn:17:23: 23 انا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين الى واحد وليعلم العالم انك ارسلتني وأحببتهم كما احببتني (SVD)
فالتلاميذ واحد مع المسيح والأب فهل هم ايضا واحد اي انهم اله ام وحده في الهدف فسيتسلم او يغير ويبدأ في تفسيرات اجتهاديه
وحاول ان لا تخرج من موضوع حتى ينتهي تماما لأنهم بارعون في تشتيت المواضيع حتى تمل .
***
دليل أخر
فأن كان هو الكلمه … اذا اي تعليم يخرج من الله هو منه
فلماذا قال اذا
Jn:7:16: 16 اجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي ارسلني. (SVD)
Jn:7:17: 17 ان شاء احد ان يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله ام اتكلم انا من نفسي. (SVD)
انه يقول انه لا يتكلم من نفسه
فكيف يكون كلمة الله المتجسده اذا ..؟؟؟
للنظر الى النص بزاويه اخرى أسهل نحذف اسم او صفة يسوع ونضع مكانها كلمة الله
Jn:7:16: 16 اجابهم كلمة الله وقال تعليمي ليس لي بل للذي ارسلني. (SVD)
Jn:7:17: 17 ان شاء احد ان يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله ام اتكلم انا كلمة الله من نفسي. (SVD)
الله اكبر وهل بعد هذا دليل.
***
حجه اقوى أخرى
قال يسوع
Jn: 17 :3 : 3 وهذه هي الحياة الابدية ان يعرفوك انت الاله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي ارسلته. (SVD)
فكيف يقول وحدك هل يقصد مثلا الله بدون كلمه لا يعقل هذا
وايضا قوله ارسلته ولقد قال في يوحنا
الحق الحق اقول لكم انه ليس عبد اعظم من سيده و لا رسول اعظم من مرسله
الله اكبرنفي تام وكامل .
…
والى النصارى هذه الصاعقه
بعد اثبات بطلان انه ليس كلمة الله
نأتي الى اثبات اعظم ينفي اتحاده بالله في الجوهر كما نص قانون ايمانهم
ويجب ان نعلم قبل ان نقرأ ان النصارى يقولون ان القيامه ستكون بالروح لا بالجسد
اقرأوا النص احبتي المسلمين وزملائنا النصارى لتتأكدوا انه فعلا عقيدتكم يا نصارى اكبر عقيده متناقضه ولا يؤمن بها إلا متبع الهوا
كورنثوس
15
مكتب مكسيموس يعلن عودته إلى مصر «قبل أعياد الكريسماس».. ويتوعد الكنيسة الأرثوذكسية بـ «الراعى الصالح» url
مرسل بواسطة: islamegy
,
أعلن المكتب الإعلامى لكنيسة مكسيموس عن قرب عودة ماكس ميشيل - الملقب بالأنبا مكسيموس - إلى مصر، موضحاً أن عودته مرتبطة بتوقيت انتهائه من مهمة وصول البث التليفزيونى لقناته الفضائية التى يبثها من أمريكا، إلى القاهرة والشرق الأوسط.
وصرح مصدر مسؤول فى المكتب بأن إرسال القناة - المعروفة باسم «الراعى الصالح» - سيصل إلى مصر والشرق الأوسط قبل أعياد الكريسماس على شبكة الإنترنت، وسيكون بثاً مباشراً عبر الأقمار الصناعية، نافياً ما تردد عن هروب مكسيموس بعد سحب بطاقة الرقم القومى الخاصة به.
وقال: «إن البطاقة الخاصة بمكسيموس لاتزال فى حوزته، كما أنه ليس مدوناً بها أنه بطريرك»، مشدداً على أن رد مكسيموس على هجوم قيادات الكنيسة الأرثوذكسية سيكون عبر «قناته الفضائية».
وأضاف المصدر: «إن البرامج الإصلاحية التى تم بثها مؤخراً على قناة الراعى الصالح، نجحت فى بث الرعب فى قلوب مسؤولى الكنيسة المصرية من جديد، خاصة بعدما علموا أن القناة تعهدت بمضاعفة عدد البرامج الإصلاحية رداً على هجومهم غير المبرر»، مؤكداً أن هذه البرامج ستتناول «بواطن الأمور» والقضايا الجوهرية بـ «غير تحفظ».
وأشار المصدر إلى أن خوض الكنيسة فى سيرة المطران ملكى صادق - الذى أعلن عن اعتناقه البوذية - يعد تصرفاً «غير أخلاقى»، موضحاً أن صادق استقال من المجمع قبل عامين، وأنه غير موجود لكى يدافع عن نفسه ويرد على الاتهامات التى نسبت إليه.
من ناحية أخرى، أكد المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للمسيحيين الأرثوذكس بمصر والشرق الأوسط، رداً على البيان الصادر من الكنيسة القبطية، أن المجمع هيئة مسيحية منشأة فى الولايات المتحدة الأمريكية، طبقاً للقانون الأمريكى بولايتى نيفادا وكاليفورنيا، وأنه تم تبادل التعارف والشراكة مع المجلس العالمى للكنائس الكاثوليكية القديمة فى البرازيل والمكسيك وأمريكا اللاتينية.
ونفى المجمع ما تردد حول تحول ملكى صادق أسقف مجمع القديس أثناسيوس إلى البوذية، واصفاً إياه بأنه أمر مثير للسخرية، خاصة أن المجمع لايزال يقدم خدماته على أرض الولايات المتحدة ومصر.
وشدد المجمع على أنه ليس جزءاً من الكنيسة القبطية وانشق عنها، مما يبطل حق الكنيسة القبطية فى التعرض للمجمع المقدس أو رؤسائه بالهجوم والتشهير به وإصدار أحكام ظالمة عليهم، مشيراً إلى أن مجلس كنائس الشرق الأوسط ليس وصياً علينا، ليعترف بقانونية الكنائس، وإنما ذلك حق مقصور على الدولة التى ينبغى أن يحترم سيادتها.
المصدر: المصري اليوم?????للعلم "ماكسيموس"رجل دين مسيحي محترم ومتعلم وعاقل وهو البولدوزر الذي سيزيح البساط من تحت "شنودة" والمسألة مسألة وقت فاتباعه يزيدون بسبب افكاره السهلة التي تبتعد عن جهل وتعصب شنودة
((((((((((أناجيل الفاتيكان !! ـ د. زينب عبد العزيز url
مرسل بواسطة: islamegy
Mon, 17 November 2008 23:45:06 -0600
د. زينب عبد العزيز : بتاريخ 17 - 11 - 2008
أدهشنى ما أثاره بعض إخواننا المسيحيين من تعليقات تستنكر ما نشرته فى مقال سابق حول الأناجيل، ولن أتناول هنا إلا خمسة نماذج فقط ، التى تُعد باللألاف، وكلها متعلقة مباشرة بيسوع عليه السلام. ويسوع المسيح يُعد أهم شخصية فى المسيحية بكل إنقساماتها وفرقها التى تعدت الثلاثمائة سبع وأربعين الأعضاء بمجلس الكنائس العالمى. ويقولون إن كل ما هو مكتوب عن يسوع فى هذه الأناجيل صحيح تماماً و"منزل من عند الله".
وكل ما أرجوه من إخواننا المسيحيين هو ان يفتحوا أناجيلهم ليراجعوا فيها الآيات الواردة منها هنا أو فى أى مقال آخر كتبته. علما بأننى أستعين بطبعة 1966 ، لا لقلة ما لدىّ من نسخ متفاوتة التواريخ ، بدأً من تسة 1671 ، ولكن لأنها النسخة التى لم تطلها التعديلات الجديدة بعد مجمع الفاتيكان الثانى المنتهى عام 1965، مع الأخذ فى الإعتبار بأن جميعها تختلف فعلا من طبعة لأخرى. وهذه الآيات من المفترض أنها كافية لإقناع أى قارىء.. وابدأ بمن هو مفترض جد يسوع :
1 - والد يوسف :
يقول إنجيل متّى : "ويعقوب وَلَد يوسف رجل مريم التى وُلد منها يسوع الذى يُدعى المسيح " (1 : 16). ويقول إنجيل لوقا : "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يُظن إبن يوسف إبن هالى" (3 : 23)، فأيهما والد يوسف: يعقوب أم هالى؟ فمن المحال ان يكون له أبّوان بيولوجيان ، والحديث هنا عن إنسان، بشر عادى، وليس عن إنسان تم تأليهه ويطلقون عليه "ربنا يسوع المسيح" !.
2 –شجرة نسب يسوع :
توجد شجرة نسب يسوع ابن مريم فى إنجيل متّى (1 : 6-16) ، كما توجد فى إنجيل لوقا (3 : 23-31). إنجيل متّى يبدأ من سيدنا إبراهيم نزولا إلى يسوع، ولوقا يبدأ من يسوع صعودا إلى آدم، والإسم الوحيد المشترك بين هاتين القائمتين ، من داود ليسوع، هو يوسف.. فكيف يستقيم كل ذلك التفاوت ؟! وكيف يمكن أن يكون ليسوع شجرة عائلة مثبوتة بالإسماء ، وإن إختلفت، والكنيسة تؤكد أنه أتى من الروح القدس وأنه إبن الله ؟. بغض الطرف هنا عن ان الروح القدس – كما تؤكد الكنيسة أيضا، هو جزء من الثالوث الذى لا يتجزأ فالثلاثة واحد وهو ما يُفهم منه ان يسوع قد أنجب نفسه، لكى لا نكرر أقوال بعض العلماء فى الغرب من ان ذلك يمثل حالة زنا إذا ما أخذنا والعياذ بالله بأن مريم "ام الله" كما يقولون ، حملت من الروح القدس أى من إبنها !.
3 –مولد يسوع :
تورد الأناجيل مرة ان يسوع وُلد أيام هيرودس (متّى 2 : 1)، ومرة أيام كيرينيوس (لوقا 2 : 2) .. والثابت تاريخيا أن هيرودس مات سنة 4 قبل الميلاد ، بينما كيرينيوس قد تم تعيينه والياً على منطقة سوريّة فى عام ستة ميلادية ! أى ان الفرق الزمنى بين التاريخين قدره على الأقل عشر سنوات لتحديد تاريخ ميلاد يسوع، فهل هذا معقول ؟ بل والثابت تاريخيا أيضا أنه لم تحدث أية مجزرة للأطفال أيام هيرودس ! وما يكشف عن إختلاف آخر أن إنجيل مرقس يقول أنه وُلد فى الناصرة ، بالجليل ، بينما يقول كل من متّى ولوقا انه وُلد فى بيت لحم بمنطقة اليهودية : فأيّهم أصدق ، وجميعهم رسل وقديسين ؟!. وهنا لا بد من الإشارة إلى قول العالم الفرنسى إميل بويخ (E. Puech) مدير المعهد القومى للأبحاث العلمية (CNRS) فى فرنسا مؤكدا : "يجب علينا أن نعترف بأمانة أننا لا نمتلك حتى الآن أى نص من شهود عيان عن يسوع"، وذلك لأن كل ما كتب عنه كتب بأثر رجعى وبعد أجيال وقرون...
4 –معرفة يسوع إبن من ؟! :
يقول إنجيل لوق أنه عندما تخلّف الصبى يسوع فى المعبد وهو فى الثانية عشر " وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم فى عيد الفصح" (2 : 41) ضل عنهما الطفل يسوع، وبعد ثلاثة أيام من البحث وجدا الصبى فى الهيكل جالسا وسط المعلمين فلما أبصراه إندهشا : " وقالت له أمه يابنىّ لماذا فعلت بنا هكذا. هو ذا أبوك وأنا كنّا نطلبك معذّبين" (2 : 48) .ويزداد الأمر خلطاً حينما يجيبها الطفل يسوع قائلا : " لماذا كنتما تطلبانى ألم تعلما أنه ينبغى أن أكون فى ما لأبى. فلم يفهما الكلام الذى قاله لهما" (2 : 39-50) أى ان مريم وزوجها والد الطفل يسوع ( كما تقول هى فالمفترض أنها أدرى ممن أنجبت إبنها) وأيضا كما يقول إنجيل لوقا ، المهم ان الإثنين لا يعرفان أى شىء عن رسالة يسوع ، وهو ما يخالف ما ورد بنفس الإصحاح فى الآية 19 حينما راح ملاك الرب يخبر الرعاه بمجىء الرب يسوع المخلّص ، ثم ذهب الرعاة يخبروا بالكلام الذى قيل لهم عن هذا الصبى : "وأما مريم فكانت تحفظ هذا الكلام متفكرة به فى قلبها".. فكيف تعرف مريم هذا الكلام عن ظهر قلب وحينما يحدثها ذلك الرب، الذى هو إبنها، لا تفقه منه شيئا ؟؟. بل والأكثر من ذلك ان كل ما ورد بإنجيل لوقا حول واقعة المعبد يخالف تماما مع قصة نزوح العائلة المقدسة إلى مصر ..
وعملية تفنيد حضور العائلة المقدسة الى مصر تناولها فى الغرب العديد من المؤرخين والباحثين ولن أشير هنا سوى الى ميشيل كوكيه ( M. Coquet ) القس السابق وكتابه "إزالة الخدع عن حياة يسوع" الصادر عام 2003 ، وتقول الفقرة :
"أقر المؤرخون ولله الحمد ان هروب العائلة المقدسة الى مصر، كما يصفها لنا إنجيل متّى لا مصداقية لها. فعبور الصحراء الشديدة الحر نهاراً والشديدة البرودة ليلا، مسافة خمسمائة كيلومترا، فى منطقة مليئة باللصوص وبالحيوانات المفترسة، على ركوبة لا يمكنها ان تحمل على ظهرها المياة والأكل اللازم لمثل هذه الرحلة، تبدو عملية مستحيلة التنفيذ بالنسبة لزوجين وطفل رضيع. والأكثر من ذلك، إذا سار يوسف على قدميه بواقع خمسة عشر كيلومتراً فى اليوم، فسيأخذ منه ذلك حوالى شهرا فى ظروف شديدة القسوة. فالطريق الذى سار فيه بدأ من بيت لحم الى الخليل. ومن غزة كان على العائلة المقدسة ان تتبع قرب الشاطىء الى القنطرة والإسماعيلية واخيرا القاهرة. وفى واقع الأمر، ليس لدينا أى دليل على هذه الرحلة، حتى وإن قامت الكنيسة القبطية بنشر خط السير هذا (بمساعدة وزارة السياحة المصرية !) (الأقواس وعلامة التعجب من الكاتب) ، إعتمادا على بردية من القرن الخامس مكتوب عليها خط السير الذى سلكته العائلة المقدسة، بل ويحددون ان الإقامة إمتدت لمدة ثلاث سنوات وأحد عشر شهراً, والقرن الخامس بكل سوء حظ هو القرن الذى إنتهوا فيه من إستكمال إختلاق قصة يسوع . وبعد قرن من الحفائر الأثرية فى الأرض المقدسة لم يتم العثور على أى دليل لهذا الهروب" (صفحة 266) .. واللهم لا تعليق !
5 –إنجيل يسوع
يقول القديس بولس، الذى افرَدَت له مؤسسة الفاتيكان عاما بأسره ، من 28/6/2008 الى 29/6/2009 للإحتفال به، نظراً لأهميته اللاهوتية وفى الدعوة وسط الأمم ، يقول هذا الرسول القديس إلى أهل رومية : " ... حتى انى من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح" (15 : 19) ، وفى نفس الرسالة فى الآية 29 يقول " ... وأنا أعلم انى اذا جئت اليكم سأجى فى ملء بركة إنجيل المسيح" ، وفى الرسالة الثانية الى أهل كورنثوس يقول : "... إنجيل مجد المسيح الذى هو صورة الله" (4 : 4)، وفى نفس الرسالة يقول : "فإنه إن كان الآتى يكرز بيسوع آخر لم نكرز به أو كنتم تأخذون روحا آخر لم تأخذوه أو إنجيلا آخر لم تقبلوه فحسنا كنتم تحتملون" (11: 4) ، وإلى أهل غلاطية يقول : " إنى أتعجب أنكم تتنقلون هكذا سريعا عن الذى دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر. ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون ان يحوّلوا إنجيل المسيح " (1: 3-6) ..
و ما نخرج به من هذه الآيات الصادرة عن أهم الحواريين فى نظر الكنيسة، وبوضوح لا لبس فيه، ان السيد المسيح كان له إنجيلا يكرز به ، وهو ما لا أثر له فى التراث الكنسى الحالى بكله وإن كان يتفق تماما مع ما يثبته القرآن الكريم من أن الله عز وجل قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بن مريم ..
ومن ناحية أخرى، من المفترض ان رسائل بولس هذه صيغت سنة 54 ميلادية كما يقول المختصون الكنسيون .. وهنا يمكن الجهر بكل ثقة للمؤسسة الكنسية بكامل هيئاتها وبناءً على أقوال بولس الرسول : ان السيد المسيح كان له إنجيلا يبشر به فأين هو ؟! فرسائل بولس وأعمال الرسل هى أول نصوص كتبت فى المسيحية وتؤرخونها بعام 54، وكل ما يقال فى الوثائق الكنسية ان صياغة الأناجيل تمت من سنة 70 الى 95 . فإذا اضفنا أعمار الحواريين الى هذه التواريخ لأدركنا انهم كانوا فى حوالى المائة سنة سناً أو أكثرً، وهو ما لا يتمشّى مع نسبة متوسط الأعمار من الفين سنة مضت – بغض الطرف عن مخالفة هذه المعلومة للواقع ، إذ ان صياغة الأناجيل إمتدت حتى أواخر القرن الرابع بإعتراف القديس جيروم نفسه، فهو الذى كوّن هذه الأناجيل الأربعه وعدّل وبدّل فيها كما قال فى المقدمة التى تتصدر ترجمته.. فكيف يتحدث بولس ويحذّر الأتباع من الإلتفات إلى أى إنجيل آخر سوى إنجيل يسوع الذى كان يبشّر به ؟!.
وأغض الطرف هنا أيضا عن إن هذا القول من بولس يتضمن إتهاما لباقى الحواريين، فلم يكن آنذاك اى فرد آخر يقوم بالتبشير سوى الحواريين الذين يتهمهم بولس صراحة بأنهم كذبة ..فهل يحتاج الأمر بعد ذلك إلى مزيد من الأدلة؟
المصدر: المصريون?????????(((((((((عد نشر الصور المسيئة للرسول صلي الله عليه وسلم url
مرسل بواسطة: islamegy
Thu, 13 November 2008 11:30:09 -0600
الإسكندرية ـ من عصام علي رفعت:
15 ألف مواطن سويدي اعتنقوا الدين الإسلامي تتراوح أعمارهم بين20 إلي40 عاما بعد أزمة الرسوم المسيئة للرسول محمد صلي الله عليه وسلم. هذه الأرقام أعلنها وفد شباب السويد المسلم في مؤتمر صحفي عقد بالمعهد السويدي بالاسكندرية. وتنظم زيارة الشباب لمصر مؤسسة ابن رشد للدراسات الإسلامية, وعددهم12 شابا وفتاة. وتقوم المؤسسة حاليا بتنفيذ4 مشروعات, الأول تعليم الشباب كيف يعيش في المجتمع السويدي, ومشروع تعليم الأئمة اللغة السويدية لأن الأجيال الجديدة من المسلمين لا يجيدون اللغة العربية, والمشروع الثالث الاهتمام بقضايا البيئة والحفاظ عليها ومشروع أخير عن حوار الأديان, ويهدف تحويل النظرة إلي الإسلام في المجتمع السويدي من اعتباره مشكلة وإلي اعتباره دينا من الأديان. لأن المشاكل معظمها سببها سوء فهم الإسلام. وأكد عثمان الطوالة, رئيس وفد الشباب, وعبدالقادر حبيب, أن الشباب الزائر لمصر يعود بانطباع ممتاز عن حرية المواطن وحق المواطنة في مصر, وأن الشعب المصري متدين بطبيعته وتمتزج فيه كل الطوائف بلا عنصرية, وأكدا أن مصر يمكن أن تلعب دورا بارزا في استقرار الشعوب والمجتمعات الأوروبية.
المصدر: صحيفة الاهرام؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟))))((((((((((الجميع مسؤولون عن اختفاء وفاء قسطنطين url
مرسل بواسطة: islamegy
Wed, 12 November 2008 23:27:35 -0600
جمال سلطان : بتاريخ 12 - 11 - 2008
قضية المواطنة "المختطفة" وفاء قسطنطين محك حقيقي أمام المنظمات الحقوقية المصرية والدولية ، اليسارية والقبطية والإسلامية وغيرها ، لا يمكن أن يقبل الرأي العام تجاهل حالتها أو الصمت تجاه قضيتها ، لا يمكن أن تكون هناك اتهامات علنية وملفات لدى النيابة العامة وجدل إعلامي واسع النطاق حول اختطاف مواطنة مسلمة أو مسيحية ، أيا كان وضعها ، والقول بقتلها في مكان احتجازها المجهول داخل حدود الوطن ، دون أن يتحرك الضمير الإنساني لدى هذه المنظمات من أجل المطالبة بالحرية لها أو الكشف عن مصيرها ، أو منحها حق التواصل مع المجتمع والحركة والتعبير عن رأيها ، لا يمكن الحديث عن حق التعبير الضائع ونحن "نبيع" قضية المواطنة وفاء ، ولا يمكن للمنظمات القبطية الحقوقية تحديدا أن تتحدث عن اضطهاد أو اختطاف الفتيات والسيدات الأقباط وتطالب بالكشف عن مصيرهن دون أن يكون لها نداؤها القوي والواضح والصريح الذي يطالب بالكشف عن مصير وفاء قسطنطين ، وإلا كان كل كلامهم مجرد سلوك طائفي محض لا صلة له بحقوق الإنسان ، ولا يمكن لأي منظمة حقوقية مصرية تتحدث عن اختطاف مناضلين أو معارضين أو احتجاز آخرين دون أن تطالب بانهاء اختطاف المواطنة وفاء قسطنطين والكشف عن مصيرها وإلا كان نشاطها الحقوقي المزعوم مجرد "تحليل" للدولارات الواردة من الخارج دون إيمان حقيقي بقضية "الإنسان" في بلادنا ، كذلك لا يغفر للأصوات العاقلة والمعتدلة من الأقباط وأنا واثق أنها تمثل الأغلبية الصامتة والخائفة من التطورات المتشددة الخطيرة التي تحدث الآن ، لا يمكن أن يغفر لها صمتها تجاه هذه القضية ، لأن هذا الصمت سوف يغذي مشاعر القلق وفقدان الثقة لدى الطرف الآخر من شركاء الوطن ، وستعطي ـ بوضوح ـ مصداقية كاملة لأي اتهامات تطلق الآن ضد الكنيسة الأرثوذكسية وعموم الأقباط بممارسة تمرد طائفي ضد الوطن ، إن ما حدث في مقدمات مشكلة وفاء قسطنطين من تظاهرات لعدة آلاف من الشباب القبطي المتشدد يغذي حماسهم بعض رجال الدين مطالبين بالكشف عن مصير وفاء وإطلاق صراحها ، بدعوى أنها مختطفة من قبل جهات إسلامية ، يمكن أن يحدث الآن معكوسا ، بتظاهرات إسلامية حاشدة أيضا تتقدم بنفس المطالب ، إطلاق سراحها والكشف عن مصيرها ، وهو قطعا ما لا نتمنى حدوثه ، لكن الفرصة متاحة الآن أمام أكثر من جهة لكي تبدي مصداقية حقيقية أمام الوطن وناسه ، سواء كانت الكنيسة وقياداتها المطالبة الآن بإزالة اللبس حول تلك الواقعة الخطيرة ، وتبرئة ساحتها عمليا من اختطاف وقتل مواطنة مصرية ، أو كان من جهة المنظمات الحقوقية المصرية التي تحاصرنا يوميا بالبيانات والتصريحات ـ باسم المجتمع المدني ـ دفاعا عن الحريات العامة وحرية الاعتقاد وحرية التنقل وحرية التعبير وسيادة القانون ، أو المنظمات القبطية التي لا ينقطع صراخها عن حرية الاعتقاد والمواطنة ووقف ما يسمونه "اختطاف" المواطنات القبطيات ، أو بما في ذلك الدولة ذاتها ومؤسساتها الأمنية والقانونية المنوط بها حماية المواطنين وأمنهم وأمانهم وضمان سيادة القانون ، وبدون أن تقوم هذه الجهات بمسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والوطنية تجاه هذه المشكلة ، فإن هذا الملف ـ بكل تأكيد ـ سوف يستمر تصاعده وتأججه بما يفتح أبواب المستقبل على الخطر المجهول .
gamal@almesryoon.com
المصدر: المصريون؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟))))((((((بعد تزايد الشكاوى التى تتهمه بمخالفات مالية وأخلاقية: هل تحاكم الكنيسة الأرثوذكسية الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة؟ url
مرسل بواسطة: islamegy
Tue, 4 November 2008 02:16:39 -0600
كتب جمال جرجس المزاحم
شكاوى عديدة تقدم بها أقباط شبرا الخيمة الأيام الماضية ضد الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة أحد أهم المسئولين بالكنيسة الأرثوذكسية، الملقب بوزير إعلام الكنيسة المصرية الأرثوذكسية، الاتهامات إذا ثبتت تهدد وجوده بالمطرانية، فالشكاوى فى حقه تطالب بمحاكمته بعد توجيه 10 اتهامات إليه، منها أنه يقوم بسيامات للكهنة الجدد مقابل أخذ 5 آلاف جنيه وهو مقابل لترشيمهم بالكهنوت, واتهامه بسيامة كهنة جدد متهربين من الخدمة العسكرية وسيامته كهنة تابعين للطائفة الكاثوليكية، وهم ممنوعون من السيامة إلا بموافقة الكنيسة، طبقاً لشروط الالتحاق بالكهنوت وتعميدهم طبقاً للكنيسة الأرثوذكسية، كما أن هناك اتهامات بأن لديه حسابات خاصة مستقلة به بثلاثة بنوك فى الولايات المتحدة الأمريكية يسافر إليها لمتابعتها كل عدة شهور، وهناك اتهام بقيامه بصرف 80 ألف جنيه من صندوق المطرانية لتوزيعها على القساوسة فى عيد أطلق عليه "عيد الكاهن" العيد الذى لا يوجد فى تاريخ الكنيسة، واتهامه بأن لديه علاقات نسائية كثيرة وهو الأمر الخطير فى الاتهامات، وحملت الشكاوى الكثير من التفاصيل مثل قيامه بسيامة القس موسى خيرى مقابل 6 آلاف جنيه مقابل التحاقه بالكهنوت، وسيامة القس غبريال وجيه المتهرب من الخدمة العسكرية، رغم أن أداء الخدمة العسكرية أحد الشروط المطلوبة فى دخول سلك الكهنوت, وسيامة قس كاثوليكى يدعى إسحاق حافظ، كما اتهمته إحدى الشكاوى بأنه يرسل أقباط شبرا الخيمة إلى أمن الدولة كنوع من التهديد والتأديب، وتقول البيانات التى تتهمه فى إحدى الشكاوى والبيان رقم 4 فى السطر رقم 14 بأنه على علاقة غير شرعية مع سكرتيرته الخاصة (ل) وفتاة أخرى اسمها (م) وفتاة أخرى تدعى (م)، أما المفاجأة التى تهدد الأنبا مرقص هى "سى. دى" مصورة للأنبا مرقص من أحد شباب الكنيسة.
الاتهامات للأنبا مرقص وصلت إلى المقر البابوى بالكاتدرائية الكبرى بالعباسية أثناء تواجد البابا فى أمريكا ولم يسمع البابا عنها شيئا، تم إرسالها عبر خطابات من مسيحيى شبرا الخيمة، علما بأن مطرانية شبرا الخيمة، أكبر المطرانيات بالجمهورية ويصل عدد الأقباط التابعين لها إلى 600 ألف قبطى، مما يكسب الشكاوى ثقلا إضافياً، ويزيد من شائعات محاكمته بتجريده وشلحه من منصب "أسقف شبرا الخيمة" فى حالة ثبوت التهم الموجهة إليه، وهو حكم إذا تم تنفيذه سيعتبر الأول فى تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية.
الأمر الغريب أن قداسة البابا شنودة هو "أب اعتراف" الأنبا مرقص، أى الذى يعترف له الأنبا مرقص بأى أخطاء يرتكبها فى حياته، طبقا لقواعد الأسرار المقدسة السبعة فى طقوس الكنيسة الأرثوذكسية.
موقف الأنبا مرقص
اليوم السابع حصل على عدد من الشكاوى التى وصلت للمقر البابوى، عبارة عن بيانات وشكاوى من أقباط مطرانية شبرا الخيمة من خلال جماعة تسمى "جماعة التطهير" تطالب بتطهير الأنبا مرقص من أسقفية شبرا الخيمة، هذه البيانات والخطابات وصلت إلى بعض الجهات الأمنية وإلى المقر البابوى المسئول عن تلقى الفاكسات وشكاوى الأقباط، وعلى الفور انتقلنا لمقر المطرانية والتقينا الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة حتى يشرح لنا حقيقة الاتهامات الموجهة إليه.
انفعل الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة فى رده على الاتهامات الموجهة إليه وقال: أنا لا أعرف شيئاً عن محاكمتى لأن المحاكمة تتم على أسس، فالمحاكمة تتم بعد ثبوت اتهامات بمستندات ونشكر الله أن هذه الاتهامات التى تبثها جماعة مثل جماعة التطهير اتهامات لا أساس له من الواقع فقبل أية محاكمة يتم عمل مناقشة مع الأسقف، وهذا لم يحدث مع قداسة البابا شنودة، أما اتهامى بأننى أتقاضى مبالغ مالية لترسيم كهنة جدد فلا صحة له من الحقيقة وهى أكذوبة لأنى رجل ناجح جداً فى عملى، وأوضح أنه لم يصرف لكل كاهن ألف جنية بمناسبة عيد الكاهن لأنها أكذوبة، وتساءل: كيف أصرف أموال الكنيسة فى مثل هذه الأمور؟ مضيفا: "تعالوا شوفوا لجنة صندوق المطرانية" كما نفى سيامته قساً كاثوليكياً وقساً آخر هارباً من الخدمة العسكرية، وأشار إلى وجود لجنة مكونة من 8 كهنة هى المسئولة عن ترشيح الكهنة الجدد، أما عن حساباته بأمريكا فقال: من حق الأسقف أن يمتلك أموالا فهو حق من الحقوق، ولكن من لدية ما يثبت أننى أمتلك أموالا وحسابات بالخارج عليه أن يعلنها للجميع.
وقال الأنبا مرقص: لو توفى الأسقف تعود كل الأموال للكنيسة مرة أخرى، وردا على اتهامه بأمور أخلاقية، بحسب ما جاء ببعض الشكاوى المقدمة إلى الكنيسة، انفعل الأنبا مرقص بشدة قائلاً: أنا معرفش حاجة عن هذه الأمور ويجب عدم ذكر أسماء أحد لأن هؤلاء لهم حرمة وبيوت، وعن السى. دى المصورة له قال: فيها إيه الـ "سى .دى"؟ أنا لا أعرف حاجة عنها.
المصدر: اليوم السابع؟؟؟؟؟؟(((((ليته ما تكلم url
مرسل بواسطة: islamegy
Tue, 4 November 2008 01:14:43 -0600
فهمي هويدي
الذين يقدرون البابا شنودة ويعتزون ببعض مواقفه الوطنية، تصيبهم بعض تصريحاته بالحيرة، فتلجم ألسنتهم وتكاد تجمد مشاعرهم الدافئة نحوه، وبعض ما قاله يوم الإثنين الماضي 27/10 علي شاشة التليفزيون المصري «في برنامج اتكلم الذي تقدمه الإعلامية لميس الحديدي» يعد نموذجاً لتلك التصريحات، إذ حين سئل عن رأيه في محاضرة الأنبا توماس ـ أسقف القوصية وعضو المجمع المقدس ـ التي ألقاها في معهد هيودسون بالولايات المتحدة «المرتبط بالمحافظين الجدد وإسرائيل»، فإنه تحدث باقتضاب مثيراً ثلاث نقاط، هي: أن المحاضرة تاريخية، وتتحدث عن تاريخ المسيحيين في مصر منذ عهد الفراعنة وأنه لم يقرأها جيداً «كلمة كلمة» وأن كاتبا من بلدة الأسقف يحرض المسلمين عليه بسببها.
لم أصدق ما سمعته من البابا شنودة لأول وهلة: فكذبت أذني واتصلت ببعض من أعرف هاتفيا للتأكد من حقيقة ما قاله، فتلقيت ردوداً شاركتني الحيرة والدهشة، وأكدت أن الكلام صدر فعلاً عن البابا، ولأن كثيرين ربما نسوا تفاصيل المحاضرة التي ألقاها الأنباء توماس في شهر يوليو الماضي، أجدني مضطراً إلي تلخيصها لتبيان خطورة الأفكار والآراء التي تضمنتها، ليس فقط علي نسيج الجماعة الوطنية المصرية، ولكن أيضاً علي تاريخ الكنيسة الأرثوذوكسية الوطني والمشرف، وكنت قد أشرت إلي مضمون تلك المحاضرة في هذه الزاوية «يوم 22 يوليو» في تعليق كان عنوانه: «طعنة للجماعة الوطنية»، تساءلت في ختامه عن موقف عقلاء المثقفين الأقباط منها، وعبرت عن دهشتي إزاء سكوتهم عما جاء فيها.
لقد اعتبر الأنبا توماس أن أكبر معضلتين تواجهان المجتمع المسيحي في مصر هما التعريب والأسلمة، وقال إن القبطي يشعر بالإهانة إذا قيل له إنه عربي، كما أن الأقباط يشعرون بالخيانة من جانب إخوانهم في الوطن «يقصد المسلمين» بعدما أهانوا ثقافتهم وسرقوا فنونهم وزوروا تاريخ مصر، وأن الأقباط يترقبون اليوم الذي تعود فيه البلد إلي جذورها القبطية. مما قاله الأنبا توماس أيضاً أن الأقباط يتعرضون للاعتداء والاضطهاد في مصر، وأن من حقهم الدفاع عن أنفسهم، الأمر الذي يسوغ لهم طلب التدخل الأمريكي لحمايتهم.. إلخ!!
هذا الكلام الخطير الذي ينسف أسس التعايش حين ينقل عن أسقف القوصية، فإن أول ما يتوقعه المواطن العادي أن يتم التحقق من صدوره عن الرجل، من خلال الرجوع إلي نص المحاضرة وتسجيلاتها، وإذا ثبتت صحة الكلام المنقول فلا أقل من أن يساءل الرجل ـ كنسياً علي الأقل ـ ويطالب بإيضاح موقفه، ومن واجب الكنيسة أن تحدد موقفها بدورها مما ثبت صدوره عن عضو مجمعها المقدس، إساءة منه للبلد بأسره وللكنيسة بوجه أخص، وحين لا يحدث شيء من ذلك، فلابد أن يصاب المرء بالدهشة، أما حين يصف البابا هذا الكلام بأنه «تاريخ» فإن ذلك لا يحيرنا فقط، وإنما يصدمنا أيضاً، وتتضاعف الدهشة حين نسمع من البابا أنه لم يقرأ محاضرة الأنبا توماس كلمة كلمة، في حين أنه كان يتابع أثناء مرضه في أمريكا تفصيلات ما جري ببني سويف بين العرب ورهبان دير أبوفانا، كما أننا لابد أن نستغرب من أنه من بين حوالي مائة تعليق نشرتها الصحف المصرية خلال الصيف علي محاضرة الأنبا توماس، فإنه غمز في واحد واختصه بالذكر، حين قال إن كاتباً من بلدة الأسقف يحرض المسلمين عليه، ولأن بلدة الأسقف هي القوصية، فإن الكاتب القبطي المعروف الوحيد فيها هو جمال أسعد، وقد كان أحد المائة الذين انتقدوا الأسقف، من منطلق وطني وعروبي صرف، وكان كلامه دفاعاً عن وحدة الجماعة الوطنية وتعزيزاً للتعايش بين المسلمين والأقباط، وليس تحريض المسلمين علي القمص، في حين تبدو إشارة البابا وكأنها تحريض للأقباط علي الرجل المعروف بنزاهة مواقفه الوطنية، ناهيك عن أن الغضب والاستفزاز من كلام الأنبا توماس لا يحتاج إلي تحريض من أحد.
إن مقام البابا واحترامنا له يمنعاننا من الذهاب إلي أبعد في التعبير عن الاستياء مما صدر عنه في برنامج «اتكلم» ـ ليته ما تكلم!
المصدر: جريدة الدستور
((((((((((الجانب النفسي للحجاب ـ إيمان القدوسي url
مرسل بواسطة: islamegy
Fri, 22 August 2008 15:26:20 -0500
إيمان القدوسي : بتاريخ 22 - 8 - 2008
لكل فعل إنساني ظاهر وباطن ، يبدو الظاهر في السلوك الخارجي أما الباطن فهو الجانب النفسي ، بالنسبة للحجاب فإن الجانب الظاهر فيه شديد البساطة والوضوح ، ملابس فضفاضة وغطاء للرأس والالتزام به لاشك أمر محمود وقرار سهل ، أما الجانب النفسي فيحتاج مجاهدة وتربية ويعطي بعدا إيمانيا وعمقا إنسانيا للحجاب .
حكمة الحجاب هو أن تخرج المرأة للحياة كإنسانة وليس كأنثي ، وبالتالي فإن الإصرارعلي ارتداء الملابس ذات الألوان اللافتة اللامعة الضيقة واستخدام أدوات الزينة ووسائلها المتعددة هو فعل يتنافي تماما مع الغرض من ارتداء الحجاب ، ويدل علي تناقض داخلي يحتاج حلا .
إذا تجاوزنا الشكل فإن سلوك المحجبة ربما أكثر أهمية في الدلالة علي اطمئنان قلبها وفهمها لدورها كمسلمة ، كثيرا ما تلفت أنظارنا فتاة محجبة تقف في وسط زميلاتها وتكون هي الأعلي صوتا والأكثر صخبا ومزاحا وحركة ، هل تريد أن تقول أنها رغم حجابها إلا أنها فتاة عصرية متفتحة ؟ أم تريد أن تنفي عن نفسها تهمة الانغلاق والتزمت ؟ أم تتصور أنها فعلت ما عليها وهي حرة بعد ذلك في سلوكها ؟
أعتقد أن الفتاة التي يتسم سلوكها بالطيش والنزق مع تمسكها بالهدي الظاهر للحجاب هي في الحقيقة تريد أن تمسك بالعصا من منتصفها ، فهي محجبة مع المحجبات ومهرجة مع المهرجات ، تسعي لنيل حب الزميلات ورضا الناس عنها ، وتظن أن من يضحك في وجهها قد اكتسبته وليا حميما ، وهي للأسف تعطي انطباعا سيئا جدا عن نفسها وتخسر الطرفين إذ لا يمكن أن يعتبرها أحدهما نموذجا .
قد تكون الرغبة في لفت أنظار الشباب والخوف المرضي من العنوسة هي السبب في خفة بعض الفتيات والمبالغة في المرح والتساهل مع الغير ، للأسف ستخسر هنا أيضا ، لأن سلوكها يدل علي فقدان الثقة بالنفس ويدل علي عدم تمتعها بشخصية قوية مستقلة ، والاهم أنه سلوك لا يبعث علي الاحترام .
فتاتي العزيزة لا تنشغلي إلا بأمرين الأول هو الإجابة علي السؤال الأرقي في الحياة ( لماذا أحيا ؟) لا نحيا لنتزوج أو نتجمل أو نعجب الآخرين ، ولكن لنرضي ربنا ونتبع أمره ونهيه ونتوكل عليه تماما ، وبالتالي سنلتزم بالهدي الظاهر والباطن للحجاب ونمارس الحياة كإماء لله سبحانه وتعالي لا نبغي إلا رضاه .
أما الأمر الثاني الذي يجب أن يشغلك فهو ( كيف يمكنك الارتقاء بنفسك وتنمية شخصيتك ومحاولة العثور علي أجوبة لأسئلة الحياة )
حين تفعلين سيستقر اليقين بداخلك وتمتلأ نفسك ثراء وخصوبة وتزداد شخصيتك قوة وجاذبية واحتراما ، ووقتها سيحبك الناس ويلتفون حولك وسيتمناك الشباب الصالح زوجة وشريكة للحياة وأما للأبناء ، لأنك جديرة بالثقة وناجحة وباعثة علي الاطمئنان ، وسوف ينعكس جمال نفسك وسكينة روحك علي صفحة وجهك فلا تحتاجين مساحيق الزينة ولا وسائل التجميل الخارجي .
الحجاب في معناه الحقيقي ، امرأة مسلمة راقية السلوك مطمئنة النفس تعرف هدفها وطريقها وتسعي جاهدة في الحياة لكل ما فيه خير ونفع لنفسها وبيتها ومجتمعها وهي تزين ذلك كله بحجابها وسترها لأنوثتها التي تحتفظ بها لزوجها فقط ، إنها منظومة من العفاف والعطاء والتقوي ولوحة متكاملة لأفضل صور ة ممكنة للمرأة والحجاب هو إطار الصورة الذي يبرزها ويحافظ عليها .
المصدر: المصريون??????????===(((((((الظاهر والمخفي في حملة الإساءة إلى الإسلام url
مرسل بواسطة: islamegy
Thu, 21 August 2008 22:45:04 -0500
الطيب بوعزة
من الملاحظ في السنوات الثلاث الأخيرة كثرة الاستفزازات والحملات التي تتقصد إثارة الشعور الإسلامي باستهداف رموزه المقدسة، وعلى رأسها المصحف الشريف وشخصية نبينا الكريم. وإذا استرجعنا صيرورة هذه الأحداث سيتبين أنه كلما خفتت حملة إلا انطلقت أخرى.
الأمر الذي يؤكد أن استهداف الإسلام ليس مجرد فعل اعتباطي إنما هو عمل يندرج ضمن مخطط لإقامة علاقة صراعية بين الغرب والعالم الإسلامي.
وتلتقي هذه الخطة مع رؤى إستراتيجية تكاثر تداولها منذ تسعينيات القرن الماضي، أي مباشرة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، حيث بدأ التمكين الفعلي للإسلاموفوبيا بالتنظير لما سمي بالخطر الأخضر، الذي يجب على الغرب أن يعمل على مواجهته، بعد زوال الخطر الأحمر!!
وعندما عدت إلى دراسة متمعنة لحملة الإساءة إلى الإسلام اتضح لي أنها تتحرك بدوافع سياسية لا علاقة لها بالنقد المعرفي ولا بحرية التعبير، إنما هي مجرد أعمال سوقية استفزازية تتوسل كل الأدوات الممكنة، وأولها تزييف الحقائق واختلاق الأكاذيب!
وأريد في هذا المقال أن أقف لدراسة مثالين للتدليل على ما سبق:
أقباط ضد الإسلام
بتجوال غير مقصود عبر بعض صفحات الإنترنت، وبانتقال من رابط إلى غيره صادفت موقعا قبطيا، متخصصا ليس في التبشير بدينه كما هو ديدن كل صاحب عقيدة، بل يتخصص فقط في التهجم على الإسلام!
ومن أسخف ما قرأته في هذا الموقع المتهافت مقالة ترتكز على مسرحية فولتير "محمد" لتتهجم بها على شخصية نبي الإسلام الخاتم.
وتتبعت بعض الروابط فانتهيت إلى موقع إلحادي وجدته هو كذلك يستثمر نفس المسرحية بذات الفهم المغلوط لنقد الإسلام؛ الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول سر هذا الاتفاق في الموضوع والطرح والرؤية بين مواقع مسيحية وأخرى تزعم أنها بلا دين!!
ثم إنه تجاوز، بل تجوز كبير، أن أسمي ما قرأت في هذه المواقع نقدا، إذ يكفي الباحث أن يطلع على هذه المقالات الرديئة في أسلوبها، والفارغة في مضمونها، والهابطة في قيمها، ليدرك أن القائمين على هذه المواقع والكاتبين فيها مجموعة من الجماجم لا تفرق بين النقد والنباح، فتحسب الثاني عديل الأول وشبيهه! وهكذا تجدها تسطر عشرات الصفحات كلها سب مقذع للإسلام ورموزه!
والذي يكتب مستثمرا مسرحية فولتير على هذا النحو الخاطئ هو واحد من اثنين: إما جاهل لا يدرك دلالة المسرحية، والأساس القصدي المحرك لها؛ أو أنه يدرك ذلك جيدا، لكن أعماه التعصب، وافتقار الأمانة العلمية، فاستثمر فقرات ونصوص المسرحية في عكس مقصود مؤلفها، مع الحرص على عدم الإشارة ولو بكلمة إلى اعتذار فولتير لاحقا عما قاله في حق ديانة محمد عليه الصلاة والسلام.
ولو كان للقائمين على هذا الموقع قليل من الإدراك لا أقول للإسلام، فهذا يبدو أنه لا سبيل لهم إلى تحصيله؛ لأنهم معاقون ذهنيا بفعل التعصب، إنما أقصد لو أنهم كان لديهم قليل من الإدراك لحقل بحثي استشراقي يسمى الإسلامولوجيا، لتنبهوا إلى أمر صادم لشعورهم، وهو أن علماء الإسلامولوجيا الغربيين لم يعيروا، عند دراستهم لموقف فولتير من الإسلام، كثير اهتمام ولا قليله لمسرحيته؛ لأنهم أدركوا أنها مجرد نص هجائي مفرغ من القيمة المعرفية.
ويمكن أن نستدل على قولنا هذا بأكثر من شاهد، إنما لضيق المقام نشير إلى موقف جورج هنري بوسكي الذي يقول في مقاله "فولتير والإسلام" المنشور بمجلة "ستاديا إسلاميكا": "إن مسرحية "محمد".. لا مكان لها إلا في التاريخ الأدبي لأوروبا.. وإذا أردنا لها مكانا أيضا فينبغي أن تُدرج في تاريخ بروباغاندا الفلاسفة. وكل هذا لا يهم الإسلامولوجي".
وأضاف: "لقد استغل فولتير الإسلام.. مبررا للتهجم على الأديان، والمسيحية بشكل عام، والكاثوليكية بشكل خاص". كما يقول خوان غويتيسلو في مقالته الموسومة بنفس العنوان (فولتير والإسلام)، المنشورة بيومية ألبايس الإسبانية في الرابع من أيار/مايو 2006 معلقا على المسرحية: "إذا نحن قرأنا النص بعناية سنكتشف أن الهجوم على محمد يغطي هجوما آخر موجها إلى مسيح النصارى وإلى الأنبياء التوراتيين."
بل إن معاصري فولتير أنفسهم أدركوا أن القصد الكامن في المسرحية لم يكن نقد رسول الإسلام، بل نقد الدين المسيحي؛ ودليلنا على ذلك أن الحركة المسيحية الجانسينية هاجمت بشدة المسرحية بعد عرضها في لاكوميدي فرنسيز سنة 1742م؛ لأنها أدركت الغرض الحقيقي لفولتير.
ويكفي هذا فضحا لحقيقة هذه المواقع القبطية التي لا تعرف لأمانة الكلمة معنى، ولا لمنهجية البحث العلمي مدلولا، فتأخذ نصا أجمع المتخصصون على اعتباره هجوما على المسيحية، لتقلبه على رأسه قصد بيعه للسذج بوصفه هجوما على الإسلام!!!
أما المثال الثاني، فنستحضره للكشف عن زيف شعار حرية الفكر والتعبير الفني. وهو الشعار الذي تم رفعه عند الدفاع عن الرسوم الدانماركية. حيث كشف لي بحثي في هذه الحملة معطيات تؤكد أن استهداف الإسلام واستفزاز مشاعر المسلمين صادر عن إرادة سياسية وأجندة تشتغل حتى ضد مصلحة الغرب ذاته!
ما وراء الرسوم الدانماركية
بدأت الحكاية في سبتمبر/أيلول 2005 عندما نشرت الصحافة الدانماركية خبرا يبدو عاديا في الظاهر، وهو أن مؤلفا لقصص الأطفال ذكر أنه عجز عن إيجاد رسام يمده ببعض الرسومات لشخصية النبي محمد ليدرجها ضمن كتاب خطه عن الإسلام؛ والسبب حسب زعمه هو أن الرسامين يخافون من رسم هذه الشخصية المقدسة لدى المسلمين؟
مباشرة بعد هذا الخبر قام رئيس تحرير جيلاند بوست، التي هي إحدى أكبر الجرائد الدانماركية، بالإعلان عن مسابقة في رسم شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد أيام تم نشر اثني عشر رسما كاريكاتوريا لمجموعة من الرسامين، مما أثار ردود فعل على مستوى العالم الإسلامي، فكانت الأحداث المعلومة التي لا تزال بواعثها وتمظهراتها تتفاعل بين حين وآخر.
وإذا نظرنا إلى الرؤية الغربية ورد فعلها تجاه هذا الاحتجاج الإسلامي، سنلاحظ أن المتداول في كثير من المقالات والتصريحات الصحفية هو أن صياغة هذه الرسوم ونشرها ليس فعلا يستوجب الاعتذار عنه، أو منع وقوعه وتكراره؛ لأن ذلك جزء من حرية التعبير. بل إن من مظاهر هذه الحرية في الغرب هو أن المقدس الديني المسيحي نفسه ليس له أي حصانة ضد النقد أو حتى الترسيم الكاريكاتوري. فكيف يطالب المسلمون بأن يغير الغرب قيمه وقوانينه؟
هذا هو ذلك السطح الظاهر من القضية. ونريد هنا أن نلفت الانتباه إلى باطنها. ذلك الباطن المخفي الذي لا يراد له أن يكشف أو يبرز. وسأعتمد على بعض المعطيات التي استحضرها الباحث الفرنسي تيري ميسان للتأكيد على حقيقة هذه الحملات المسيئة.
أولا: إن الصحيفة الدانماركية التي قادت هذه العملية منذ ابتدائها معروف عنها أنها جريدة يمينية متعصبة. بل لوحظ عليها أنها قبل افتعالها لأزمة الرسوم هذه بثلاث سنوات قادت حملة شرسة ضد المهاجرين.
وقد دامت هذه الحملة المكثفة والمركزة ثلاث سنوات كاملة، وأسهمت الجريدة إعلاميا في دعم أندري فوغ غاسموسان الذي صار لاحقا رئيسا للوزراء. وهو الشخص الذي يقول عنه تيري ميسان بأنه "بطل حركة الإسلاموفوبيا" في الدانمارك.
ثانيا: إن صحيفة جيلاند بوست مشكوك في مصداقيتها التحريرية فيما يخص نظرتها إلى الإسلام والمهاجرين المسلمين.
ودليلي على هذا ليس فقط طبيعة الحملة التي قادتها ضد نبينا عليه الصلاة والسلام، بل لو رجعنا قبل ذلك بسنوات، سنجد أنه في عام 2002 أصدر المجلس الاستشاري الدانماركي للصحافة تقريرا يشير إلى أن هذه الجريدة خرقت ميثاق شرف المهنة، عندما ذكرت في مقال لها، دون أي داع، الأصول الإثنية الإسلامية لبعض المتهمين في إحدى الجرائم.
وفي سنة 2004 نشرت "إنار" (ENAR)، أي فدرالية الجمعيات الأوروبية المناهضة للعنصرية، تقريرا عن واقع الإعلام في الدانمارك، خصت فيه هذه الصحيفة بالذات بذكرها بوصفها تسوق خطابا يمينيا متشددا.
ويشير تيري ميسان إلى أن هذه الملاحظة التي سجلتها "إنار" دفعت إلى توسيع البحث في نوعية الخطاب الإعلامي لهذه الجريدة. وكانت نتيجة تحليل خطاب هذه الصحيفة خلال مدة ثلاثة أشهر فقط دالة على خطر هذا النوع من الخطاب الذي يفتعل تفجير الصراع بين الإثنيات والثقافات.
لقد كانت النتيجة أن 53% من المقالات العامة لجريدة جيلاند بوست، و71% من المختصرات، و73% من الزوايا، و79% من كلمات العدد، و81% من مراسلات القراء المنشورة فيها كلها تتناول موضوع المهاجرين بالحرص على تقديمهم بصورة سلبية!!!
لسنا إذن أمام جريدة عادية، بل أمام صحيفة متخصصة في إشاعة خطاب كراهية الآخر، مع الحرص على تخصيص الآخر الإسلامي بالنقد والتشويه.
وهذا كله قبل أحداث الرسوم بسنوات، الأمر الذي يؤكد أن نشر هذه الخربشات المسماة فنا لم يكن بهدف الدفاع عن حرية التعبير الفني، بل جزءا من سياسة تشويه مقصود لقيم الثقافة الإسلامية، يندرج ضمن مخطط يحكم التوجه الإعلامي لهذه الصحيفة الدانماركية.
ثالثا: لا بد من الوقوف أيضا عند شخصية مسؤول الملحق الثقافي لصحيفة جيلاند بوست، والذي حرر إعلان مسابقة الرسوم الهابطة، أقصد الصحفي فليمنغ روس. حيث إذا بحثنا قليلا سنجد أن الوسم الذي يوصف به هذا الشخص في الوسط الصحفي الدانماركي ذاته هو أنه "صهيوني".
بل يحرص تيري ميسان على وصفه بكونه "يهوديا صهيونيا". كما أن فليمنغ روس يشتهر في الدانمارك بكونه المسوق الإعلامي لأطروحات منظر الإسلاموفوبيا دانيال ببيس، بل يقدم نفسه كصديق شخصي له!
رابعا: في مقال نشره بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2004 يستحضر روس حواراته مع بيبس. وما يهم في هذا المقال هو هذه الفقرة الدالة على أن فكرة افتعال جريمة الرسوم ربما كانت تختمر في ذهنه. إذ يقول: "إن بيبس مندهش من عدم الدق بقوة على ناقوس الخطر في أوروبا ضد التحدي الذي يمثله الإسلام"!!
ولدينا هنا سؤال: هل يكون هذا القول تعبيرا عن اعتمال الفكرة بداخل روس، أي افتعال شيء ما لدق ناقوس الخطر؟!
إن صيرورة الأحداث اللاحقة تؤكد ذلك.
خامسا: ثمة معطى آخر ينبغي استحضاره لفهم الدافع المحرك لهذه الحملة المسيئة للإسلام، وهي أن مديرة تحرير صحيفة جيلاند بوست هي ميرت إلدروب التي هي زوج أندري إلدروب مدير شركة الهيدرو كاربور الدانماركية، والذي يشارك بمنصبه هذا مع رئيس الوزراء في الاجتماعات السنوية لمجموعة بلدربرغ، تلك المجموعة التي تعد ناديا مغلقا، وإحدى المؤسسات التابعة سياسيا وإستراتيجيا لحلف شمال الأطلسي.
ماذا يعني هذا؟ وما علاقته بموضوعنا؟
لفهم العلاقة ينبغي أن نضيف إلى ما سبق المعلومة التالية:
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 كان من بين الخطوات التي اعتمدها الحلف هو تمويل الدراسات حول ما أسماه بـ"العدو الداخلي" أي كيان المهاجرين ذوي الأصول الإسلامية!
سادسا: إذا تتبعنا صيرورة الأحداث سنجد أن "فرانس سوار" كانت أول جريدة فرنسية تعلن عن إعادة نشر الرسوم الدانماركية.
وهنا ينبغي أن نطرح السؤال التالي: لماذا تكون هذه الجريدة الفرنسية أول صحيفة تعيد نشر هذه الرسوم؟ هل الأمر مجرد صدفة؟ هل هو نابع من اقتناع الصحيفة أكثر من غيرها بقيمة حرية الفعل الفني؟!
حرصت فرانس سوار على تغليف فعلها هذا بخطاب يستثمر بعناية مجموعة مفاهيم وشعارات جذابة مثل الدفاع عن حق التعبير، وحق الفنان في إطلاق قدراته الإبداعية، ورفض كل أشكال السلط على حرية التفكير النقدي في المقدس.
ولن نناقش هنا مدى مصداقية هذه الشعارات، وليس المقام يسمح بأن أحلل مفهوم الإبداع الفني، وتمييز دلالة النقد المعرفي للمقدس الديني عن سب المقدس الذي لا يفعل سوى الاعتداء على مشاعر معتنقيه.
كما لن نخاطب الجريدة باستفهام يلفت انتباهها إلى ما يلي: هل لديها الجرأة لكي تناقش مثلا عدد اليهود الذين ماتوا في المحرقة اليهودية؟ وهل بإمكانها أن تنشر مقالا لا يشكك في اضطهاد اليهود، بل فقط يقلل من الرقم المتداول عن عدد المضطهدين؟
لن نقول هذا ولا ذاك، إنما التزاما بمنهج بحثنا عن الخفي خلف هذه الحملة المسيئة للإسلام أريد أن أبرز معطى آخر وهو:
لقد كانت جريدة فرانس سوار قبيْل إعادة نشرها الرسوم الدانماركية تعيش أزمة مادية خانقة. وكانت في معرض البيع قبل ذلك. وآلت الأمور من بعد إلى شرائها من قبل مستثمر تم الحرص وقتئذ على عدم الإعلان عن اسمه! ولم يعرف إلا بعد شهور من إعادة نشر فرانس سوار للرسوم. وكما يقال: إذا عرف السبب بطل العجب!
فالمستثمر الذي اشترى الصحيفة لم يكن سوى تاجر السلاح أركادي غايداماك رئيس نادي "بيتار" الصهيوني، وهو الذي تقدم لانتخابات بلدية القدس تحت يافطة حزب الليكود!!
إذن ليست القضية حرية إبداع ولا حفزا للتفكير، بل هي حملة منظمة تستهدف الإساءة للإسلام، ومصالح الغرب ذاته بإدخاله في صراع وصدام مع العالم الإسلامي خدمة لأجندة يمين متطرف متصهين.
_____________
كاتب مغربي
?????(((((إرهاب .. ابتزاز .. صفقات ! ـ د. حلمي محمد القاعود url
مرسل بواسطة: islamegy
Tue, 19 August 2008 15:18:02 -0500
د. حلمي محمد القاعود : بتاريخ 19 - 8 - 2008
أصدر كاتب رواية اسمها " عزازيل " تتناول فترة من التاريخ المصري القديم ، وتتحدث عن الانشطار بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية . الرواية لم تعجب الطائفيين في الكنيسة المصرية وخارج البلاد ، وجرى التهديد بأن محامى الأنبا يدرسون الرواية تمهيداً لرفع دعوى أو دعاوى ضد المؤلف الذي حاول – كما يقول أحد الأساقفة أو القمامصة –أن يوحي بأن الرواية قصة حقيقية كتبت في لفائف جلدية مكتوبة باللغة السريانية أو الآرامية ، وهى لغة المسيح عليه السلام . وأشار المذكور أن أهداف الرواية تتلخص في الانتصار لمن سمتهم الكنيسة بالهراطقة ، والهجوم الشديد على الكنيسة ورمزها القديس مرقص الرسول ، والإيحاء بأن الله لم يخلق الإنسان ، بل إن الإنسان هو الذي خلق الله ، وإن فكرة الإله من خيال الإنسان !
لم أقرأ الرواية ، ولا أعرف صاحبها ، وإن كنت قد سمعت عنه وقرأت له بعض ما كتب ، وعرفت أنه يتولى منصباً رفيعاً في مكتبة الإسكندرية التي تمثل مركزاً متقدماً للتغريب والأمركة ، مع أنه مسئول فيما يُقال عن المخطوطات أو التراث ، ولكنه يستضيف لندوات المكتبة ونشاطاتها ، أعلام الفكر المادي المعادى للإسلام أو المشككة فيه ، باستثناءات قليلة أو استثناء محدود بمعنى أدق ؛ فضلاً عن مجموعات الصحفيين وكتاب السلطة الذين يكرهون الإسلام لحساب النظام .
الرجل إذاً ليس من المدافعين عن الإسلام أو المحسوبين على التيار الإسلامي ، ولكن القوم في يمارسون إرهاباً بشعاً ضد من يقترب من التاريخ المصري القديم ، وخاصة المرحلة النصرانية ، بوصفهم أوصياء على مصر كلها : تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً ، وأصحاب بلد ؛ كما يعلن المتمردون الطائفيون . وقد سبق قيام بعض محامى الكنيسة بترويع الكتاب والمفكرين والدعاة ، الذين يتناولون النصرانية وفقاً للمفهوم القرآني - الرافض لألوهية المسيح أو بنوته لله ، والنافي لصلبه أو قتله ، ومناقشة الأناجيل الموجودة الآن - وقد شهروا بالشيخ الشعراوى والدكتور مصطفى الشكعة والدكتور عمر عبدالكافى والدكتور زغلول النجار والدكتور محمد عمارة والدكتور مصطفى محمود .. وقاموا بسبّ الكتاب الإسلاميين وقذفهم في بذاءة غير مسبوقة ، لا يقرها المسيح عليه السلام ولا تعاليمه ، على مواقعهم الإليكترونية وصحفهم الورقية ، داخل مصر وخارجها ..
المفارقة أن بعض الشيوعيين والمرتزقة من المنتمين إلى الإسلام اسما ، أصدروا في مصر روايات وكتابات تزور التاريخ والجغرافيا ، وتمنح المتمردين الطائفيين القدماء والمحدثين بطولة لا يستحقونها ، وشرفاً لا يليق بهم ، ونشرت بعض أعمالهم في مؤسسات رسمية يُموّلها دافع الضرائب المسلم ، ولم يحتج أحد من المسلمين البائسين أو يغضب أو يُهدد برفع دعاوى على الكتاب المنافقين أو الجهات التي شجعتهم على ذلك .
ويذكر القراء ما جرى قبل سنوات ، حين نشر شيوعي نصيري من سوريا رواية " وليمة لأعشاب البحر " على نفقة الدولة ، يسبّ فيها الذات الإلهية ويسخر من الإسلام ، ويهين المسلمين . يومها انطلقت الأبواق المأجورة وطبول الخدم ، لتتكلم عن حرية الإبداع وحق التعبير ، وتصف الإسلام والمسلمين بالظلامية والتخلف والرجعية والجمود .. إلى آخر القاموس البذيء الذي يحفظون مفرداته عن ظهر قلب .
اليوم ، يُرهب المتمردون الطائفيون مؤلف رواية " عزازيل " ، دون أن تتحرك هذه الطبول وتلك الأبواق ، أو تنطق بكلمة واحدة عن حرية الإبداع وحق التعبير ، ولكنها للأسف ما زالت تتطوح في حلقة الدراويش حيث يلعنون الأزهر صباح مساء ، ويتهمونه بمصادرة كتاب هنا أو هناك ، ألفه دعي جهول ، يسعى إلى الشهرة ومغازلة جهات خارجية على حساب دينه وقيمه ووطنه ، من أجل ثمن بخس .. والناس جميعاً يعلمون أن الأزهر لا يملك حق مصادرة أي كتاب وفقاً للقانون ، الذي يجعل الأمر بيد القضاء !
إرهاب مؤلف " عزازيل " – أيا كان فكره – ليس نهاية المطاف مع التمرد الطائفي الذي يُعبّر عن نفسه في كل مناسبة ممكنة لإذلال الدولة الرخوة وابتزازها ، وإرغامها على التسليم بالإتاوات التي يفرضها علناً وعلى رءوس الأشهاد ..
مطرانية القوصية تصف ما قاله توماس عن الاحتلال العربي والخجل من الهوية العربية واضطهاد الإسلام للأقباط بأنه حقائق تاريخية ( البديل 8/8/2008م ) ، وقد رأينا أن الكنيسة تعاملت مع الدولة المصرية بوصفها دولة موازية ، فقد فرض التمرد أجندته الخاصة في أحداث " أبو فانا " وهى الأجندة التي تجاهلت بل عتمت على دم القتيل المسلم " خليل إبراهيم مفتاح " ، لصالح الرهبان المحاربين الذين حملوا السلاح ، وقاتلوا العرب واضعي اليد في قصر هور ، وضج العالم بخدوش الرهبان ، دون أن يذكر شيئاً عن القتيل المسلم البائس ، ولم يعد يذكره إلا أمه العجوز " روايح عبد السلام فرج " التي تنتظر حكم القضاء العادل الذي ينصفها ، وينصف فلذة كبدها ، الذي أعدمه المتمردون الطائفيون مرتين ؛ مرة بتصفية دمه ، وأخرى بالتجاهل والتعتيم ، وشاركهم نفرٌ من الكتاب العملاء ، الذين راحوا يدخلوننا في متاهة " التأقبط " و " التأسلم " ومصطلحات أخرى بائسة بعيدا عن الدم المطلول!
والمفارقة أن التمرد الطائفي مارس الابتزاز في البداية حين أعلن رفض الصلح بين العرب والرهبان ، وهدّد بالتصعيد عالمياً – وهو ما تحقق بالفعل في مظاهرات الخارج التي شوشت على رحلات الرئيس للعواصم الغربية وسببت حرجا للنظام بأسره – وحين تأكد التمرد الطائفي أن محافظ المنيا الذي كانت الحمية قد أخذته لتنفيذ القانون وإظهار هيبة الدولة واسترداد ممتلكاتها ، ومعاقبة المعتدين أمام المحكمة ، قد تراجع ، ووقع تحت تأثير أكبر من أجل التضحية بأرض الدولة لصالح الكنيسة ، فقد جاءت الأنباء من واشنطن بأن رئيس الكنيسة يدرس عروضاً للصلح ، ويصرّ على معاقبة من تصدوا للرهبان المحاربين ، دون أن يذكر كلمة عن دم القتيل المسلم !
الابتزاز الجيد يؤدى إلى صفقات جيدة بكل تأكيد ، وما دامت السلطة رخوة إلى الحد الذي يدفعها إلى التفريط في ستمائة فدان حول دير أبو فانا من أجل وقف مظاهرات المرتزقة بالخارج ، فإن التفريط في العقيدة والشريعة من أسهل الأمور ، المهم ألا تتحرك المظاهرات ، ويتوقف التصعيد في الكونجرس ، والميديا الغربية . لقد كان أقصى طموح الرهبان المحاربين في دير أبو فانا هو الحصول على ستين ومائة فدان ، ولكن لجنة الصلح منحتهم ستمائة فدان وهو ما شجعهم على التمادي في غيهم وإعلان أنهم لا يريدون ترك عشرين فدانا منها للعرب المهزومين [ ترى لو أن رئيس جامعة الأزهر وضع يده على عشرة أفدنة في صحراء مدينة نصر ليوسع المنشآت التعليمية والسكنية للطلاب ، هل كان رئيس الحي يتركه يفعل ؟]..
وما بين التهديد بوقف المفاوضات حول الأرض المجاورة للدير ، ونفى طرف أصيل في الموضوع وهو سكان قصر هور ، والخلاف على الشرط الجزائي والتلويح بكشف المستور ورفع دعاوى قضائية دولية ، واتهام الجهازين الأمني والإداري بالتخاذل والتسبب في الأزمة ؛ يكسب التمرد الطائفي أرضاً جديدة على المستويين الحقيقي والمجازى ..
فقد زادت رقعة الأرض الممنوحة لدير أبو فانا أربعة أضعاف ، وتحققت مطالب غير معلنة ( إعداد مشروع قانون دور العبادة الموحد الذي يقيد المساجد ويطلق الكنائس ، وإغلاق ملف القتيل المسلم ، واعتماد الكنائس المخالفة التي كانت غرفاً وتوسعت وارتفعت مناراتها دون إذن قانوني ، فضلاً عن التسامح بلا حدود مع الدعايات التي يطلقها الأساقفة المتمردون ضد الإسلام والعرب ، وأشياء أخرى !!) .
لقد نجح التمرد الطائفي في خططه بالابتزاز والصفقات ، واستطاع أن يرغم الأغلبية المسلمة المقموعة من خلال النظام الرخو ، على التفريط في هيبتها وعقيدتها ، ومستقبلها أيضاً .
هوامش:
1 – الشكر والامتنان لا يكفيان للمشاعر النبيلة والعواطف المغدقة والدعوات الصالحة ؛ التي طوقتني في غرفة العمليات .. أسأل الله أن يبارك في الأحباب وأن يمتعهم بالصحة والعافية .
2 – بعد أن انجلت غمرات غرفة العلميات قيل لى إن الحاج حسن عاشور قد سافر إلى دار الخلود! سقطت دمعة حارة تلخص عمرا عشته مع مدير تحرير " الاعتصام " – رد الله غربتها . أما التفاصيل فلها موضع آخر بإذنه تعالى . رحمه الله .
3 - حين تكون شيوعيا أو علمانيا أو فنانا متحررا(!) ، فتأكد أنك عند الوفاة بعد عمر طويل – إن شاء الله - سيظهر اسمك في الفضائيات وستملأ برامجها ، ولا تتوقف الصحف عن ذكرك ..
رحم الله شكري ومن قبله ومن بعده عبد العظيم المطعني وعبد الوهاب المسيري وحسن أيوب وحسن عاشور وأمثالهم !
drhelmyalqaud@yahoo.com
المصدر: المصريون??????))(((((((في المسألة القبطية ـ د. زينب عبد العزيز url
مرسل بواسطة: islamegy
Mon, 18 August 2008 15:05:26 -0500
د. زينب عبد العزيز : بتاريخ 18 - 8 - 2008
حينما تصل المغالطات الإستفزازية إلى حافة إشتعال الفتن ، فلا بد من وقفة توضع فيها النقاط على الحروف ، للحد من إندفاع بعض المتطرفين من المسيحيين فى مصر ، فى الداخل والخارج، الذين باتوا يناشدون التدخل الأمريكى صراحة لمساندة فرياتهم وتقسيم البلاد ـ وفقا لما يدور من محاولات فى العديد من البلدان الإسلامية ، وتحقيقا لذلك التخريب الذى لا يكف عن الإطلالة برأسه من وقت لآخرلتقسيم مصر ـ الأمر الذى يضع ولاءهم للوطن محل نظر ..
ولا يسع المجال هنا للرد على كل ما تضمنه خطاب الأنبا توماس فى معهد هادسون يوم 18 يوليو 2008 ، ولا لكل ما ورد بمقال السيد مجدى خليل ، مدير منتدى الشرق الأوسط للحريات، من فريات دفاعا عما ورد بالمحاضرة . لكننى سأتناول الرد فى عجالة على أربعة محاور أساسية هى : مصر الفرعونية ؛ " الغزو " العربى الإسلامى ؛ موقف تلك "الفئة" العميلة على مر التاريخ ؛ و"الأصولية الإسلامية" ، التى اندلعت منذ السبعينات من القرن العشرين كما يقولان ..
1 - مصر الفرعونية :
* إسم مصر Egypt مشتق من كلمة " كمت " المصرية القديمة وتعنى "الأرض السوداء" ثم تحولت إلى "جمت " و"جبت" والى "إيجبتوس" فى العصر اليونانى ثم إلى "إيجيبت" مع سقوط اللازمة اليونانية. و كلمة الأرض السوداء هى نسبة الى دورة فيضان النيل وطميه الذى كانت تعتمد عليه الزراعه آنذاك.
* كلمة " قبط " التى انتسب إليها الأقباط مأخوذة من كلمة Coptos وهو الإسم اليونانى لمدينة "قفط " قرب الأقصر ، والتى تمركز فيها الأقباط هربا من إضطهاد الرومان لقربها من شاطئ البحر الأحمر حيث يمكنهم الهرب إذا ما زاد القمع.. وهى كلمة لا تزال تكتب على كافة الخرائط الخاصة بتلك الفترة . ويشير هيرودوت إلى أن أغلب سكانها كانوا من الأقباط ، وذلك فى الوقت الذى كانت فيه المسيحية تحارب بضراوة والمسيحيون يمثلون أقلية ضئيلة ، وهو ما يفسر سر إرتباطهم باسم هذه المدينة التى تمركزوا فيها للحماية .. لذلك لا يجوز ابداً إطلاق كلمة "قبطى" على كل المصريين : فالمصرى نسبة الى الوطن ، ومسلم او مسيحيى نسبة للدين.
* مصر الفرعونية كانت تتبع الديانة الوثنية وظلت بعض المعابد تعمل حتى القرن السادس الميلادى. واللغة المصرية القديمة هى الهيروغليفية ، التى استمرت حتى عصر الإضمحلال الثالث ، أى عند غزو الإسكندر الأكبر. واللغات السائدة فى مصر الفرعونية كانت : الهيروغليفية، كلغة رسمية للدولة؛ والهيراطيقية ، أيام العصر الهيللينى والكهنة هم الذين كانوا يستخدمونها ؛ والديموطيقية ، أى اللغة الشعبية أو العامية التى ما زالت توجد بعض مفرداتها فى العامية الحالية ، و قد بدأ استخدامها بعد الدولة الحديثة (1580-1085 ق م) .. واللغة القبطية بدأ ظهورها فى القرن الميلادى الثالث عندما استقرت المسيحية فى مصر نسبياً، فتم استخدام الأحرف اليونانية ، لغة الحاكم المستعمِر ، إضافة إلى بضعة أحرف صوتية مصرية قديمة لم تكن موجودة باليونانية فأُخذت من الصوتيات الهيروغليفية.
* عبارة التراث القبطى والفن القبطى ، كلها بدع ومسميات حديثة تم إختلاقها فى منتصف القرن العشرين ، والأب بول بورﭼيه P. Bourget)) هو أول من كتب فى الفن القبطى إعتمادا على بورتريهات الفيوم ، وهى الصور التى كانت ترسم على توابيت الموتى بدلا من التوابيت المنحوتة الغالية.. وهذه المجموعة من البورتريهات كانت تُعد فى عُرف علماء الآثار عبارة عن رسومات عصر الإضمحلال ـ أى الفن المتخلف المستوى بالنسبة لما كان عليه الفن المصرى القديم، حتى وإن كان منها بعض الوجوه المعبّرة .. وتوالت الكتابات التمجيدية المفتعلة بعد ذلك لترسيخ فكرة "الفن القبطى" و"التراث القبطى" ، فى حين أن الحقبة التى ظهرت فيها المسيحية فى مصر تدخل ضمن عصر الإضمحلال كمرحلة إنتقالية، من كثرة ما بها من قلاقل ..
* المسيحية ظلت تحارَب وتتعرض للإضطهاد بحيث فى عام 361 م قام الأمبراطور جوليان بإعادة الديانات الوثنية و حجّم الوجود المسيحى فى السلطة الحاكمة وأمم أموالهم من كثرة مؤامراتهم للإستيلاء على الحكم ، فقام القساوسة بترتيب إغتياله بيد حارسه وألصقوا به عبارة "المرتد".. وفى عام 313 كان الإمبراطور قسطنطين قد سمح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم مثل باقى العقائد الوثنية السائدة بموجب مرسوم ميلانو ، لضم أطراف الإمبراطورية شريطة أن يدخل المسيحيون الجيش ، ووافق الكنسيون، الذين خرجوا بذلك عن تعاليم يسوع الذى كان يحرّم القتل ، وما أكثر خروجهم عن تعاليمه .. وفى عام 391 أعلن الإمبراطور تيودوز المسيحية ديانة رسمية وحيدة للدولة. وهذا يؤكد أن الوضع لم يستتب للمسيحية إلا فى أواخر القرن الرابع الميلادى . ومنذ ذلك التاريخ بدأت عملية اقتلاع العقائد الأخرى بكل آثارها ..
* أما فى مصر فقد قاد الإمبراطور دسيوس فيما بين 249-251 حملة ضد المسيحيين ، وحضر ديوكليسيان إلى مصر على رأس حملة لضرب المسيحيين بإعتبارهم "رأس الحية لهذا الدين".. وإتخذ المسيحيون معركة يوم 29/8/284 بداية للتقويم القبطى باسم "تقويم الشهداء" وربطوه بالشهور المصرية القديمة ـ أى أن المسيحية بدأت تستقر نسبيا فى مصر فى أواخر القرن الثالث، وكل المرحلة السابقة كانت تعانى من إضطهاد الرومان المتواصل. أى ان المسيحية لم تكن تغطى العالم قبل مجئ الإسلام كما يزعم مروجو الأباطيل ..
* وفى عام 323 قام القديس باخوم بتأسيس أول دير فى الصعيد ، وفى عام 527 قام الإمبراطور جوستينيان بإنشاء دير سانت كاترين فى سيناء، وهو ما يثبت أن المسيحية لا " تمتد إلى أكثر من الفى عام" فى مصر كما زعم أحد مستشارى الأقباط ـ وتكفى الإشارة إلى ان السيد المسيح صُلب ،كما يقولون ، حوالى سنة 30 أو 33 م وأول إستخدام لكلمة "مسيحى" فى التاريخ يرجع إلى سنة 49 م.
وخلاصة القول إن مصر لم تكن قبطية فى أى عهد من العهود ، واللغة القبطية لم تكن لغة الدولة فى أى عصر من العصور ، وإنما كانت اللغة الكنسية فيما بعد ، عندما تم الإعتراف بالمسيحية كديانة رسمية وحيدة فى الإمبراطورية الرومانية عام 391 م. وعند الفتح الإسلامى تسلم عمرو بن العاص البلد من الحاكم الرومانى بينما فر الأسقف هاربا يحتمى فى الصحراء ، وقد أرسل له عمرو بن العاص الأمان وأعاده إلى مكانه فى الكنيسة.. وما ساعد على انتشار الإسلام بتلك الصورة التى لا تزال تبهر الباحثين فى الغرب ، أن الفئة المسيحية فى مصر كان أغلبها يتبع مذهب الأريوسية ، نسبة إلى الأسقف أريوس السكندرى، الرافض لتأليه المسيح عليه السلام. وهو ما يتمشى مع فكرة الإله الواحد السائدة دوما فى الديانة المصرية القديمة ، سواء أكان رع أو أمون أو أتون ، وذلك بخلاف الثالوث التالى له فى القيمة والمكانة : إيزيس وأوزيريس وحوريس المأخوذة عنه فكرة الثالوث فى المسيحية لسهولة ترسيخها فى الأذهان ..
المصدر: المصريون?????(((((ماذا يريد بعض أقباط المهجر..؟ ـ جمال أسعد url
مرسل بواسطة: islamegy
Wed, 16 July 2008 00:26:47 -0500
جمال أسعد : بتاريخ 15 - 7 - 2008
أقباط المهجر تعبير غير دقيق يطلق على مجموعة من المصريين المسيحيين الذين هاجروا من مصر إلى أوروبا وكندا وأمريكا بهدف إيجاد مورد رزق والحصول على حياه أكثر رفاهية من تلك التي كانوا يعيشونها في مصر.
وعدم دقة التعبير في أنهم ليسوا كل المهاجرين المسيحيين فهم قلة قليلة منهم، مع وضع كلمة أقباط هنا كتعبير عن المسيحيين من المصريين دون المسلمين المهاجرين منهم وقد بدأت حركة هؤلاء بداية حثيثة منذ سبعينيات القرن الماضي.
ولكن قد تم استغلال تلك المجموعات منهم في توجه بعينه لتحقيق أجندة بذاتها خاصة بعد تشريع ما يسمى بقانون الحماية الدينية عام 1998 من الكونجرس الأمريكي بهدف استغلال بعض مشاكل الأقليات للضغط على حكومات العالم الثالث تحديدا خاصة بعد اعتياد الخارجية الأمريكية على تصوير ما يسمى بتقرير الحالة الدينية الذي يصدر كل نصف عام ويتم استغلاله كنوع من أنواع المحاسبة والمحاكمة والضغط حتى ولو كان ضغطا معنويا وكانت تلك المنفعة المتبادلة بين هؤلاء المهجرين حيث يتم الاعتماد على حركتهم وتقاريرهم حول ما يسمى باضطهاد الأقباط في تحرير تلك التقارير للخارجية الأمريكية ولتصوير ذلك الاضطهاد المزعوم عالميا كأداة للضغط على الحكومة والنظام المصري. وفي الجانب الآخر يستفيد هؤلاء القلة في الإطار النقدي من خلال تمويل نشاطاتهم ودكاكينهم، وأيضا بذلك الدور المعنوي الذاتي الذي يشعرون من خلاله بأنهم يقومون بأدوار زعامية الشيء الذي جعلهم يتعاركون ويتنافسون في إطار هذا الدور وتلك الزعامة لدرجة أنهم يتهمون بعضهم البعض بتهم أكثر من مالية وأمنية، وذلك دليل على عدم الإيمان الصحيح بما يسمى بمشاكل الأقباط.
ولكن الإشكالية الكبيرة هنا هو استغلال ذلك الدور الذي يقوم به هؤلاء للتكريس والمساهمة في ذلك المخطط الأمريكي الذي يسعى ويعمل على إعادة تقسيم المنطقة على أساس طائفي ..
مثل ما يحدث في العراق ولبنان والسودان.
وما هو مستهدف لمصر تنفيذا لذلك المخطط الصهيوني المعلن في سبعينات القرن الماضي ومع ذلك فلا أحد ينكر أن هناك مشاكل للأقباط يجب العمل على حلها فورا، ولكن هل وصلت تلك المشاكل إلى حالة الاضطهاد المنظم الذي يدعونه هؤلاء المتأمركون؟.
وهل يمكن أن تحل تلك المشاكل من خلال ذلك الأسلوب الفج الذي يحاولون فيه الإستقواء بالخارج ضد الوطن بما يثير ويستفز المصريين المسلمين الذين يتصورون أن أقباط مصر أصبحوا يستقوون عليهم بأمريكا مثلا، في الوقت الذي لا ولن تحل فيه مشاكل الأقباط بعيدا عن المصريين المسلمين. فالدستور والقانون لا يفرق بين أحد ولكن الإشكالية الحقيقية هو ذلك المناخ بين المسلمين والمسيحيين المتراكم عبر قرون التاريخ الذي أثر سلبا في الضمير الجمعي المصري. الشئ الذي جعل أن الحل لن يكون بغير هذا الجمع، أما حالة الاستغلال هذه من قبل هؤلاء لتضخيم الأمور والادعاء بالاضطهاد وخلط كل الأوراق وتصوير كل حدث بين مسلم ومسيحي أنه حدث طائفي فهذا توصيف غير صحيح بل يبعدنا عن الحل الصحيح والأهم أن هذا الأسلوب يراكم ويكرس المناخ الطائفي الذي يهدفون هم من ورائهم إلى تكريسه حتى يمكن أن يطالبوا بالحق في الوظائف وعضوية المجالس التشريعية للمسيحيين الشئ الذي يسعى إلى نظام يدخل مصر.
فهل هذا هو المطلوب؟ وهل تلك الدعوات بالحصة والمحاصصة والتي يطالب بها البعض في الداخل والخارج هي الهدف والمسعى؟ وهل في هذا يكون الحل؟ وهل في أرجاء أوروبا وأمريكا بهدف تثبيت فكرة اضطهاد الأقباط في مصر لتسهيل وتمرير التدخلات الأجنبية. مثل ما حدث في الماضي الاستعماري البريطاني. ومثل تلك الأكاذيب التي تم احتلال العراق من خلالها. فهل مشكلة أبو فانا طائفية؟ وهل عندما يستولي الرهبان على أرض الدولة بغير القانون مثل غيرهم من العربان نقف تعظيم سلام للرهبان ونقول استولوا براحتكم لأنكم رهبان ولا يحب تطبيق القانون؟ أو نحول القضية إلى فتن طائفية واضطهاد للأقباط. أليس هذا اسقواء بالخارج يعيد أجواء استعمارية؟ ألا يوجد رد فعل لكل تلك الممارسات وستكون وبالا على الأقباط وعلى مصر الوطن؟ ولماذا لا ينسحب الأقباط من الكنيسة ويعودون للوطن كمواطنين مصريين لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات. ومن حقهم المطالبة بكل حقوقهم في إطار الوطن الذي هو ملك لكل المصريين، لماذا لا يتم تطبيق القانون خاصة في حالة المشاكل الطائفية دون أي توازنات سياسية؟ فيجب معاقبة المخطأ أيًا كان دوره وموقعه الديني؟ لماذا لا ينزل إلى الشارع كل القوى السياسية والحزبية ومنظمات العمل الأهلي للبدء في الأنشطة المشتركة التي تجمع المسلمين والمسيحيين في إطار العمل الاجتماعي والثقافي بعيدًا عن الدين والسياسية حتى تزول الحواجز وتنتهي الحسابات وتستبدل بعلاقات إنسانية تكسر كل الحواجز النفسية حتى يتعرف ويقترب كل على الآخر. فهل يصلح مع هذا الحمل تلك المظاهرات التي يقوم بها هؤلاء المتأمركون الذين يؤدون دورا مرسوما وينفذون أجندة ويساهمون في تحقيق أهداف ليست في صالح أحد؟ وهنا وبدون مواربة حتى نضع أقدامنا على الطريق الصحيح، وحتى لا تختلط الأدوار وتتوه المواقف. أقول ما هو التفسير الذي يجب أن نسمعه من قداسة البابا شنودة حول تلك المظاهرات الخارجية والتي تتدعي اضطهاد الأقباط والتي تطالب بالتدخل الأجنبي بل المطالبة بتدويل مشكلة الأقباط. لا أقول للبابا الرأي في تلك المظاهرات ولكن أطلب الرأي في مشاركة أساقفة ورجال دين تابعين للكنيسة وللبابا في تلك المظاهرات وهذا هو الأهم فهل هؤلاء خارجون على طاعة قداستك؟ أم أن هذا توزيع أدوار؟ وهذا لا شك هو الخطر كل الخطر على الكنيسة والأقباط وعلى مصر كلها. فتاريخ الكنيسة الوطني جزء من تاريخ هذا الوطن وليس من حق أحد تلويثه.
المصدر: المصريون?????((((((مظاهرات أقباط المهجر url
مرسل بواسطة: islamegy
Sun, 13 July 2008 04:40:43 -0500
محمود سلطان : بتاريخ 12 - 7 - 2008
ربما لا تكون لسلسلة المظاهرات التي نظمها أقباط المهجر في عدد من العواصم الغربية ضد مصر، قيمة أو وزن، لأنها تأتي في ظروف دولية وإقليمية ليست في صالحهم، والدليل على ذلك أنه لا يكاد يشعر بتنظيمها إلا عدد لا يذكر من الصحف المصرية وليست الصحف الدولية.
ومع ذلك فإن لها بعض الدلالات المهمة، والتي ربما انتبهت إليها عدد من الكنائس غير الأرثوذكسية في مصر، وشرعت في غسل يدها منها والتبرؤ من عارها، حين علقتها في رقبة الكنيسة القبطية التي يرأسها البابا شنودة.
من الثابت أن أقباط المهجر، تابعون للكنيسة القبطية، ومن الثابت أيضا، أن الأخيرة استطاعت أن تتبوأ ـ في العقود الثلاثة الأخيرة ـ موقع مناط الولاء والبراء لأي قبطي، سواء أكان داخل مصر أو خارجها، وأيا كانت مكانته أو منزلته العلمية والاجتماعية، ولا يحتفظ أحد منهم بعلاقات نقد عقلانية مع الكنيسة إلا قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة، وجلهم نالهم حظ من قرارات الشلح والحرمان الكنسي، على النحو الذي جرى توظيفه كآليات ردع أو كنماذج لـ"مآلات مشابهة" لكل من استن بسنتهم واتبع سبيلهم في "مشاغبة " الكنيسة سواء أكان على حق أم على باطل.. ما أحال الكنيسة القبطية في حياة القبطي، إلى مرجعية مركزية تفرض وصايتها على كل تفاصيل حياته بالكامل، ولا يستطيع أن يتخذ قرارا كبيرا، مثل الإضراب أو الاعتصام أو المشاركة في المظاهرات أوفي الانتخابات النقابية أو البرلمانية، إلا بعد الحصول على "إذن" من الكنيسة، ويكون مطمئنا ـ على أقل تقدير ـ من أن قراره لن يثير حنقها وغصبها عليه.
هذه من المسلمات التي تحولت من "عرف" أو "تقليد" إلى ما يشبه "العقد الديني" على السمع والطاعة، وبالتالي فإن مظاهرات أقباط المهجر، المتتابعة في الخارج والتي تستهدف الاستقواء بالغرب على مصر، تضع العشرات من علامات الاستفهام، بشأن موقف الكنيسة القبطية منها، وما إذا كانت نظمت من وراء ظهرها، أو أنها باتت من الضعف والتهرؤ ما جعلها غير قادرة على إعادة الاعتبار لمكانتها في نفوس أقباط الخارج، خاصة وأن الكهنة الأرثوذكس ـ نواب البابا شنودة ـ شاركوا في التحضير والدعوة لهذه المظاهرات، بل وتصدروا المشهد أمام الكاميرات، فيما يمكن تفسيره إما إنه "تحد" لكنيسة الداخل والاستخفاف بها والخروج على طاعتها، وإما إنه "رسالة" تفيد مباركة المرجعية الدينية القبطية داخل مصر، لمظاهرات الاستقواء العلنية في شوارع وأزقة "الأسياد" في الغرب؟!
وأعتقد أن هذا هو الذي حمل قادة الكنائس الإنجيلية والكاثوليكية على أن تبرق رسائل "غسل اليد" من "عار" أقباط المهجر، وتقول صراحة أن الكنيسة القبطية قادرة على وقف هذه المظاهرات وطالبوا البابا شنودة أن "يعلن صراحة رفضه لها ويطالب القائمين عليها بالامتناع عن إثارة الرأي العام الغربي ضد مصر، لما يسببه ذلك من مشاكل للمسيحيين في الداخل"!
وأنقل ما قاله د. القس إكرام لمعي، رئيس لجنة الإعلام والنشر بالكنيسة الإنجيلية، للمصري اليوم يوم أمس السبت 12 يوليو 2008.. قال: "مشاركة الكهنة الأرثوذكس في الخارج في هذه المظاهرات، تعطي انطباع استقواء الكنيسة بالغرب".. وأضاف: "البابا شنودة يستطيع منع هذه المظاهرات"
وقال الأنبا بطرس فهيم، نائب بطريرك الكاثوليك "إن أقباط المهجر تابعون للكنيسة القبطية فقط".. مؤكدا على أنه:" لابد أن تقوم الكنيسة القبطية بإفهام أتباعها في الخارج عواقب ما يقومون به".
وهذه شهادة "مهمة" تحمل إدانة واضحة للأطراف التي شاركت في تأجيج هذا "الهوس الطائفي" إما بالتحضير أو بالصمت وبالتواطؤ
sultan@almesryoon.com
المصدر: المصريون
(((((((((العلمانية ليست حلا url
مرسل بواسطة: islamegy
Sun, 13 July 2008 04:31:35 -0500
محمود سلطان : بتاريخ 11 - 7 - 2008
يبدو أن المواقف الأخيرة للكنيسة المصرية، قد أحرجت بعض النخب العلمانية، وحملتها على أن تدعو إلى إعادة الاعتبار للعلمانية، باعتبارها الحل لتداعيات وخطورة المعاني التي أفرزتها صدام الكنيسة مع الدولة، سيما أزمتي "زواج المطلقين" و دير"أبو فانا".
الباحث في معهد "كارينجي للسلام" د. عمرو حمزاوي قال صراحة في المصري اليوم يوم أمس الجمعة 11 يوليو 2008 " معددا "مناقب" العلمانية: " والمعني الثالث للعلمانية هو خضوع الهيئات الدينية، كغيرها من الهيئات الحكومية وغير الحكومية في المجتمع الحديث، لرقابة السلطات العامة، خاصة السلطة القضائية، بهدف المنع المسبق لأي تجاوزات قد تحدث داخلها أو الكشف اللاحق عنها ومعاقبة مرتكبيها. فالعلمانية تستند إلي نظرة واقعية للهيئات الدينية، لا تري بها مجرد كيانات طاهرة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، ولا تضفي قداسة علي رجال الدين.. ومن ثم تعاملهم كغيرهم من المواطنين المسئولين عن أفعالهم أمام القانون"
من الواضح أن حمزاوي، كان يتكلم تحت تأثير "الدهشة" من نزعة الكنيسة المصرية، نحو التعاطي بندية وتحد لسلطة الدولة وهيبتها، معتقدا أن الحل هو في إعادة "غسيل" العلمانية مما علق بها من أدران أحالتها ـ في الوعي الشعبي ـ إلى مصطلح "سيء السمعة".
وبغض النظر عن "المغالطات" التي حملت "الثقافة الشعبية" مسئولية الإساءة إلى العلمانية، لأنها تعتبرها إحدى المرادفات لمعاداة الدين أو فصله عن المجتمع، فإن وضع العلمانية كشرط لوجود الدولة، هو نوع من "التكفير السياسي" الذي يُسقط الشرعية عن كل التجارب السياسية التي عرفتها الإنسانية حتى قبل ظهور الدولة العلمانية الحديثة في أوروبا ! فضلا عن أن غياب العلمانية ليس مبررا، لتنازل الدولة عن حقوقها القانونية والدستورية في فرض سلطانها على كافة المؤسسات التابعة لها من جهة، ولا يبرر لأي مؤسسة أن تتحدى سلطة الدولة، أو أن تضع نفسها موضع المؤسسة الموازية لها.
كما أن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها العقائد السياسية التي ترى أن العلمانية تكفل "حياد الدولة" إزاء التعدد الديني والثقافي، هو اعتقاد فاسد، وكذبة كبيرة، تؤكدها الدولة النموذج " فرنسا" التي تدرجها التصنيفات السياسية، باعتبارها التجربة الأكثر امتثالا لـ"العلمانية النصية" في أكثر صورها تطرفا وفظاظة، إذ لم تلتزم الحياد أمام الحرية الدينية "الحجاب" ، ولا أمام حرية الرأي : مصادرة كتاب "الحلال والحرام" لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، ومحاكمة جارودي على كتاب له أثار غضب الصهاينة.
مشكلة الكنيسة مع الدولة، أساسها ضعف المهارات والخبرات السياسية، لدى النخبة القبطية، التي ارتبطت ـ في العقود الثلاثة الأخيرة ـ بالكنيسة وليس بالجماعة الوطنية المصرية، ما أحالها إلى "نخبة طائفية" معزولة عن المحاضن المعروفة للتربية السياسية والوطنية، ومع صعود الاهتمام الأمريكي بالملف الطائفي في مصر، ظهرت تلك النخبة في صورة مرتبكة، لا تعرف ماذا تريد على وجه الدقة.. فهي مع العلمانية إذا كانت ضد "الأسلمة"، وضد العلمانية إذا جاءت بما لا تشتهي الكنيسة.. وتستنجد بـ"الخط الهمايوني" لمعارضة كنيسة ماكسيموس أو الكنيسة المعمدانية، وضده، إذا حال دون التمدد الخرساني غير المرخص للكنائس التابعة للبابا شنودة في الشارع المصري!
الحل ليس في العلمانية.. لأن الأخيرة موجودة فعلا والدولة هي التي غابت.. وإذا حضرت الدولة ذهبت الطائفية، حال طبق القانون على الجميع دون "طبطبة" أو "تدليل" أو تدليع".
sultan@almesryoon.com
المصدر: المصريون
((((((الأسقف بيشوي واسترجاع عصر الشهداء ـ بقلم: جمال أسعد url
مرسل بواسطة: islamegy
Tue, 3 June 2008 15:05:06 -0500
بقلم: جمال أسعد : بتاريخ 3 - 6 - 2008
النظام الطائفي.. نظام بغيض ذلك لأن النظم الطائفية بالرغم من وجود دستور يحدد الشكل والنسبة بين الطوائف، إلا أن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتحرك لكل طائفة يجعل الدستور والقانون مجرد شكل نظري لا علاقة له بالواقع والسياسة، ولذا يتجدد الصراع الطائفي كل فترة حتى يتم تقنين المتغير على كل طائفة لكي تحصل على مكاسب تمثل قوتها على أرض الواقع.
فالنظام الطائفي إذن نظام هش متغير غير ثابت لا أمن له ولا أمان. والنموذج اللبناني بجوارنا وماثل أمام ناظرينا، إذ أن هناك بعض الطائفيين الذين لا يرون غير ذواتهم، والذين لا يعنيهم سوي مصالحهم الضيقة والبعض منهم يسعى لتحقيق مخططات ومصالح لدول وقوي استعمارية تمسح عقولهم بحجة الدفاع عنهم وحل مشاكلهم ناهيك عن تلك الشرذمة التي تعمل وفق أي أجندة بالمقابل المادي وكله مكسب وتقليب عيش وإذا كانت مشاكل الأقباط هي التكأة التي يستغلها هؤلاء في الداخل والخارج، فإن أحدا لا ينكر أن هناك مشاكل لابد من حلها في إطار الجماعة الوطنية.
ولكن خطورة الموقف المتصاعد الآن هو ذلك الاتجاه الواضح في بعض أقباط المهجر وبمساعدة وفي إطار أجندة أمريكية تعمل وفق خطة إعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية ترويجا للنموذج اللبناني. إضافة لهؤلاء المنغلقين من أقباط الداخل حول فكرة الطرح الطائفي والحل الطائفي متأثرين بثلة أقباط المهجر ودورهم الطائفي والذي يتم ترويجه من خلال جريدة يتم توزيعها عن طريق الكنائس وداخلها مما يعطي لتلك الأفكار مصداقية كاذبة بين الأقباط. أما الفصيل الأهم والأخطر هم هؤلاء من بعض رجال الدين داخل الكنيسة والذين تربطهم علاقة ما ليس بالضرورة أن تكون معلنه مع ذلك المخطط سواء بشكل مباشر أو عن طريق علاقات متعددة مع منظمات أهلية عالمية وعلى رأس تلك المنظمات "بيت الحرية الأمريكي" وخطورة الفصيل الأخير في أنه يستغل ضعف النظام السياسي وتحلل الدولة والحالة التي وصل إليها تطبيق القوانين إضافة إلى مغازلة الأسرة الحاكمة للخارج خاصة أمريكا بورقة الديمقراطية وضغوط الأقليات. يتم استغلال تلك الحالة لفرض وجهات نظر وأحيانا كسر ولي ذراع النظام مستغلين بعض الأحداث الطائفية. وذلك بهدف تكريس فكرة تمثيل الكنيسة للأقباط وأن الكنيسة هي بديل للدولة .. وأن البابا هو القائد السياسي وليس الديني للاقباط. ذلك الواقع الذي جعل كثيرا من هؤلاء يدلون بأحاديث وتصريحات تتناقض مع دورهم الديني والكنسي بل تدخل في صميم العمل السياسي الذي لا يحولهم قانونيا ودستوريا, وكنسيا ومسيحيا، ولكن ماذا نفعل والخضوع والخنوع هما شعار المرحلة لكل ما يمت لأمريكا بصلة!. الشئ الذي يفرز خطابا دينيا متعاليا ينضح تعاليا وتجبرا على الآخر مما يراكم مشاعر واستفزازات طائفية لا يعلم غير الله ما سيحدث عندما تخرج تلك التراكمات في أي شكل من الأشكال.
وهنا كان هذا النموذج من الأحاديث الصحفية للأنبا بيشوي في المصري اليوم يوم السبت 24/5/2008 وهذا الرجل يتخيل أنه الرجل القوي داخل الكنيسة، وذلك من خلال استغلاله ثقة البابا التي استغلها أسوء استغلال في محاكم رجال الدين حتي أصبح من أهم الشخصيات المكروهين داخل الكنيسة بل خارجها أيضا لتصريحاته التي يكفر فيها الجميع وهو في حالة نرجسية ذاتية تحتاج إلي علاج فوري فماذا قال: "البابا قال لا طلاق إلا لعلة الزنا" ."الطامة الكبرى هي إلغاء المجالس الملية ولابد من رجوعها". "ولو الدولة فاكره أن البابا هو العقبة الوحيدة اللي في طريقهم فهذا غير صحيح. فهناك80 أسقف يمثلون ألغاما من الصمود والتصدي" مهددا بعودة عصور الاستشهاد المسيحي. "لو أنصفنا القضاء وأثبت أنا ما حدث في قنا خطأ وأن المحافظ هدم الدير دون وجه حق سيكون من رشحه قد خدع الرئيس ووقتها نطالب بإقالة المحافظ المسيحي دون انتظار حركة محافظين جدد.
وقد طالب بتعيين 40 قبطيا في مجلس الشعب تماشيا مع نسبتهم. كما أصر على ترشيح جمال مبارك رئيسا وقال: "اللي موش عاجبه هو حر ولكني سأكون سعيدا إذا تجاوب الأقباط مع رأيي". وأعلن عن برنامج لربط الابارشيات لعمل تعداد للمسيحيين في مصر. وهنا نقول أين تفعيل النص الدستوري الذي لا يجيز خلط الدين بالسياسة، وهل هناك خلط أسوء وأخطر من هذا.
ونقول للمارشال الأسقف بيشوي هل عندما يقول البابا لا طلاق لابد أن يخضع الجميع وأن يطيع الكل؟ هل أصبح كلام البابا بديلا لكلام الإنجيل؟ أما عودة مقاضاة الأقباط أمام المجلس الملي فهذه عودة للوراء يا أسقف. فهل تريد أن تعيد الفصل بين المصريين مثل ما كان يحدث أثناء الاحتلال؟ وهل معني حكم المسيحيين بشريعتهم هو أن يحكم القاضي بنصوص الإنجيل التي تقر بها حكما عليكم. أم أن القانون المطابق للنص هو الذي يحكم به القاضي وليس أنت وأمثالك من رجال الاستبداد الكنسي. أما حكاية الألغام هذه فهل يمكن أن نطلق عليك الآن الأنبا لغم، وأن نطلق على المجمع المقدس مجمع الألغام؟ ما هذا الانفلات. ومن يوافق على تلك النيران وذلك الاستعلاء وهذا التهديد الذي تجاوز كل الحدود. وما هي حكاية عصر الشهداء الذي صدعتم رؤوسنا به. الشهداء كانوا دفاعا عن دينهم والشهادة واستعادتها لن تكون دفاعا عن منافع الأشخاص يستغلون مواقفهم لفرض مزيد من الاستبداد الديني ومن الذي سيقوم بعملية قتل الشهداء، ولأي الأسباب، وما هي الحكمة من التلويح بنا الآن؟.
أما حكاية المحافظ المسيحي اللواء مجدي أيوب فالغريب أن البابا عند تعيين المحافظ أبدي عدم ارتياح، وبيشوي أيضا يسير في نفس الاتجاه. ولكن الأنبا "لغم" أفصح وأوضح أن المشكلة في الاختيار ومن الواضح أن القيادة لم تستشر الكنيسة في تعيين مجدي أيوب. لذا فهم يختلقون ويدّعون ويرهبون .. يا سبحان الله .. والسور الذي هدم هو سور حديثة باسم سائق أسقف قنا. والقرار من مديرية الزراعة. فما علاقة مجدي أيوب بهذا وما هي قدراتك الدستورية أن تطلب عزل محافظ قبل الحركة لمجرد هدم سور مخالف على أرض زراعية لسائق أحد الألغام المقدسة؟ هذه شهادة لمجدي أيوب المواطن المصري فقط. أما المطالبة بحصة 40 عضو بمجلس الشعب فهذا جهل سياسي وفعل طائفي لا تعلم مداه ولا تدرك نتائجه، أم تريد أن تكون الكنيسة وصية على هؤلاء مثل ما تريدون فرض وصايتكم على مجدي أيوب. مصر ليست لبنان ولن تكون، وإلزم حدودك.
أما أن يكون رأيك في جمال مبارك هاديا للأقباط فهذا تدخل في السياسة واستغلال للدين يجب محاكمتك عليه إلا إذا كنت تريد مغازلة النظام حتى تثبت أنك المخلص الأمين حتي تحفظ طموحاتك في أن تكون بطريرك. فهذا لن يكون إن شاء الله لأنك صاحب أكبر مشاكل، وأنك الشخصية الأولي المرفوضة جماهيريا فكيف تكون بطريركا. لأنه لا يصلح "اللغم" أن يكون بطريركا إلا إذا تم تعديل اللائحة بذلك، أما الحديث عن عمل تعداد للأقباط فهذا تأكيد على الإصرار بقيام الكنيسة بدور ليس دورها، وهذا تمهيد لتكريس مناخ طائفي. لن يكون في صالح أحد والكنيسة والأقباط أول المتضررين. كفي تعاليا، وليلزم الجميع مواقعهم الروحية حتي تستعيد الكنيسة دورها الروحي بعدما فقدته. حيث أن الكنيسة لا دور لها غير الدور الروحي يا نيافة الأسقف اللغم.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟(((((((((( الكنيسة الكاثوليكية تعلن عن إنشاء جامعة مسيحية -مخطط تنصيرى جديد url
مرسل بواسطة: راصد التنصير فى بلاد المسلمين
Sun, 1 June 2008 13:50:30 -0500
الكنيسة الكاثوليكية تعلن عن إنشاء جامعة مسيحية
كتب عمرو بيومي 21/5/2008
أعلنت الكنيسة الكاثوليكية عن عزمها افتتاح جامعة مسيحية علي أن يبدأ بها في سبتمبر 2009. وكشف الدكتور شاكر اسطفانوس، رئيس رابطة أساتذة الجامعات بالكنيسة الكاثوليكية، خلال الاجتماع السنوي للأنبا أنطونيوس عزيز بطريرك الكاثوليك بمصر بالرابطات الكنسية عن تشكيل مكتب مؤقت في 6 مايو الماضي،
يركز علي تجميع أساتذة الجامعات من الرعية الكاثوليكية، وتفعيل دورهم من أجل مشروع إنشاء الجامعة المسيحية، وأكد المهندس نبيل بري، رئيس لجنة رجال الأعمال بالكنيسة أن رجال الأعمال قرروا أنهم في حالة احتياجهم لموظفين سيقومون بإبلاغ الكنيسة ليتكون الأولوية لأبنائها .
وأعلن عن تبني اللجنة فكرة تمويل المشاريع ذاتيا تحت شعار «كيف نبني بيتنا بأنفسنا»، وتم فتح حساب بنكي بمليون جنيه هو قيمة أول تبرع للمشروع قدمه البطريرك، بعد أن أقرت اللجنة أن يكون التبرع شهريا وليس دفعة واحدة وكل حسب مقدرته، وذلك لعمل ناد ومستشفي ودار مسنين للطائفة .
من جانبه، أوضح رفيق جريش، المتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية، أن فكرة إنشاء جامعة مسيحية طرحت أول مرة منذ عشر سنوات، ولكن تم إهمالها بسبب التمويل ومكان الإقامة ولكنها الآن أعيدت للدراسة،
وأشار إلي أننا نهدف إلي أن تكون جامعة بها كليات مدنية بجانب الكليات الدينية ولكن حتي الآن لم يقرروا ما إذا كانت ستقتصر علي الطلبة المسيحيين فقط مثل اقتصار الأزهر علي المسلمين أم ستفتح أبوابها للجميع. وذكر ستيم عرض الأمر علي الدكتور هاني هلال، وزير التعليم العالي، للحصول علي ترخيص بإنشاء الجامعة .
المصدر جريدة المصرى اليوم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟((((((استياء قبطي إسلامي من العصيان الكنسي وإهدار سيادة الدولة url
مرسل بواسطة: islamegy
Sat, 21 June 2008 16:50:18 -0500
كتب مجدي رشيد (المصريون): : بتاريخ 21 - 6 - 2008
قال عدد من المفكرين والناشطين الأقباط والمسلمين، إن أحداث دير أبو فانا بملوى بمحافظة المنيا، وغيرها من الحوادث المشابهة تكشف عن ضعف وتفكك الدولة، مطالبين بتفعيل مواد القانون في النزاع حول قطعة الأرض المحيطة بالدير الواقع، معتبرين عدم اعتراف الكنيسة باللجنة التي شكلها المحافظ لتحديد ملكية الأرض هو إهدار للقانون وسيادة الدولة.
جاء هذا تعقيبا على موقف البابا شنودة الثالث، بطريرك الأقباط الأرثوذكس بإصدار تعليمات لرهبان الدير، بحظر التعامل مع اللواء أحمد ضياء الدين محافظ المنيا، بعدما قرر عقد جلسة عرفية بين الأعراب ورهبان الدير، بغرض تسوية النزاع بينهما، والاتفاق بعدم تكرار الاشتباكات التي أسفرت عن سقوط قتيل مسلم وإصابة عدد آخر بينهم بعض الرهبان.
غير أن كمال زاخر منسق "جبهة العلمانيين الأقباط"، طالب بتدخل رئيس الجمهورية شخصيا لاحتواء الأزمة، التي تنحي الكنيسة باللائمة على المسلمين في اندلاعها، وذلك بعد شروعها في بناء سور حول الدير، وهو ما أثار اعتراض الأعراب، الذين تصدوا بالقوة لمحاولة التوسيع، وضم المزيد من الأراضي إلى الدير.
وكان البابا شنودة، الموجود حاليا بالولايات المتحدة أصدر قرارا بوقف التعامل مع محافظ المنيا، في خطوة بررها إيهاب رمزي محامي أسقف ملوي، بتراجع اللواء أحمد ضياء الدين عن تعهده بعدم دعوة الإعراب لحضور الجلسة، ووصفه الدير وأسقف ملوي الأنبا "ديمتريوس" بأنهما "معتديان علي أملاك الدولة"، وتهديده لهما بأنهما سيقعان تحت طائلة القانون.
وندد جمال أسعد عبد الملاك الكاتب والمفكر برفض البابا شنودة لقرارات محافظ المنيا واللجنة شبه القانونية التي قام بتشكيلها لتحديد أملاك الدولة وأملاك الدير، فيما اعتبره نوعا من إهدار القانون، يأتي في إطار مساعي الكنيسة الأرثوذكسية لبسط سيطرتها على الدولة وكأنها دولة داخل دولة، على حد قوله.
وقال إن اللجنة التي شكلها المحافظ هي لجنة تضم مسئولين مختصين لتحديد ملكية الدولة وملكية الدير، ومن ثم يعد عدم التعامل معها أو مع المحافظ استخفاف بصلاحيات وسلطات الدولة، لأن هذه اللجنة من المفترض أن تعمل وفق القانون التي تسير عليه الدولة، فكيف تكون الكنيسة ضد القانون وهي التي تطالب بتطبيقه كل يوم؟، بحسب تساؤله.
واعتبر أسعد ما حدث بدير أبو فانا، تكرارا لسيناريو دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، وذلك حينما استولى الدير على مائتين فدان، زيادة على المساحة المحددة في قرار التخصيص الذي أصدرته الدولة.
وتابع: عندما ذهبت الجهات والسلطات التنفيذية من أجل إزالة التعديات تصدى لها رهبان الدير، وللأسف رضخت الدولة لهم، وسمحت لهم بوضع اليد على الأرض، هو ما يعد إهدارا لهيبة الدولة، مؤكدا أن ما تشهده مصر حاليا يعد إهدارا للقانون.
أما كمال زاخر منسق جبهة العلمانيين، فطالب بتدخل الرئيس مبارك لحل الأزمة، لأن الأمر يتجاوز النزاع على ملكية أرض؛ فالموضوع أكبر من ذلك بكثير، ولابد من تدخل رئاسي الأزمة، قبل أن تتفاقم الأجواء الطائفية التي تعيشها مصر حاليا وحتى لا تتحول إلى لبنان ثانية، بحسب قوله.
وقال زاخر إن الأمر بحاجة إلى رؤية سياسية، لأنه يتعلق بأمن الدولة، كما أنه يتجاوز رؤية محافظ أو وزير أو أعراب أو البابا شنودة نفسه؛ فالرئيس مبارك وحدة القادر على التصدي لهذه الأزمة لحماية الدم المصري سواء كان مسلما أو مسيحيا.
من جانبه، أكد الناشط الحقوقي عادل وليم أن أراضي الدولة أصبحت مستباحة من الجميع ولابد من احترام ملكيات الدولة، وعلى الحكومة أن تستخدم كافة صلاحياتها لحماية أملاكها من التعدي سواء من المسلمين أو الأقباط، لأن ترك الأمر هكذا من شأنه أن يخلق مشاكل وأزمات بصفة مستمرة
وطالب بتفعيل سيادة الدولة وحماية أراضيها من تعديات الأهالي، وقال إنه لابد وأن تتحرك الحكومة لتسجيل ملكياتها من الأراضي والعقارات وتوثيقها بالشهر العقاري لمنع التعديات عليها وعدم التساهل مع المعتدين إذا ثبت وقوع تعدٍ عليها.
أما ضياء رشوان مدير وحدة النظم السياسية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ "الأهرام"، فيؤكد أن هناك طريقتين لحل الأزمة، الأولى: الطريقة القانونية عبر الاحتكام لمؤسسات الدولة القانونية والقضائية، أو عبر الأساليب الاجتماعية القانونية، ومنها المجالس العرفية المعارف بها قانونيا، والتي رفضها الأقباط.
وطالب رشوان بتطبيق مبادئ القانون في مثل هذه النزاعات، وأن يطبق القانون على المسلمين والأقباط على حد سواء، وتساءل مستنكرا: هل من صلاحية وسلطات الكنيسة الأرثوذوكسية الأم في القاهرة التدخل في نزاع بمنطقة معينة بين مجموعة أفراد ورهبان دير أبو فانا؟.
المصدر: المصريون؟؟؟؟(((((مطالب الأغلبية المسلمة المضطهدة ـ ممدوح اسماعيل url
مرسل بواسطة: islamegy
Tue, 24 June 2008 01:25:34 -0500
ممدوح اسماعيل : بتاريخ 23 - 6 - 2008
نظراً لإرتفاع أصوات صاخبة بالباطل تطالب زوراً بما تدعيه حقوقها المغتصبة زوراً فقد فكرت بكتابة مشابهة لذلك الأسلوب فى مطالب الأغلبية المسلمة الصامتة المضطهدة فى بلدها حيث رأيت كل الحاقدين على الإسلام يتمسحون زورا ًبالمواطنة لتضييع حقوق المسلمين فى بلدهم بالباطل
و من منطلق التفعيل الحقيقى لحق المواطنة المقرر دستورياً كمادة أولى فى الدستور وعلى غرار مايحدث فى مصر من تلك الأصوات الشاذة أعرض للجميع المطالب المفترض أنها خيالية للأغلبية المسلمة الصامتة
وهى كالآتى 1- طلب تشكيل مجلس إسلامى يتكون من شيوخ وعلماء وسياسيين وأصحاب الأموال من المسلمين ينتخب رئيسه ويكون منفصلاً تماماًعن الحكومة والدولة له ميزانية وسلطة مستقلة يكون له حق الملكية و الإشراف التام على المساجد من كل ناحية وتعيين وعزل الخطباء وتنظيم الدعوة فى المساجد وجمع الأموال من كل جهة فى العالم بدون أى رقابة من الدولة ولاتدخل
ولرئيس المجلس سلطة مطلقة وقدسية مصانة مهما فعل ولاتثريب عليه فى الإتصال بمن يريد فى العالم وتحريض من يشاء للحصول على حقوق المنتسبين للمجلس
2--إعادة توزيع الوظائف فى الدولة خاصة فى وزارة الصحة والمالية وماشابها بنسبة توزيع السكان بمعنى نسبة عدد المسلمين إلى غيرهم وكذلك توزيع الشركات الخاصة والمحلات كمحلات الذهب والأموال فى البنوك فى جميع أنحاء الجمهورية كماسبق بنسبة المسلمين فى عدد سكان مصر
3- إعادة توزيع الأراضى الصحراوية فى مصر فى الصحراء الشرقية والغربية وسيناء ووادى النطرون وغيرها وأيضاً العقارات بنسبة عدد السكان المسلمين الى غيرهم بحيث يحصل كل مسلم على حقه فى الأرض بنسبة عدد المسلمين فى الدولة
4-عدم قيام الدولة بالقبض أو الإعتقال لأى مسلم وخاصة الشيوخ والعلماء والعاملين فى المساجد التابعة للمجلس الإسلامى الذى له وحده حق السلطة المطلقة فيما يراه من قرار بشأنهم مهما فعلواوعدم مراقبة الدولة لأى نشاط فى المساجد أو التدخل فى نوعية النشاط أو الخطاب ولايحق للدولة تفتيش المساجد مطلقاً
5-تخصيص المناسبات الآتية كأجازة رسمية بالدولة أولا كطلب الطرق الصوفية مولد الحسين رضى الله عنه والسيدة زينب والمرسى ابو العباس والبدوى والقناوى ثانيا كطلب الجماعات الاسلامية مولد الإمام الشهيد حسن البنا والأستاذ سيد قطب والشيخ كشك والشيخ الشعراوى وكطلب عموم الأغلبية الصامتة تخصيص كل من يوم عاشوراء وطلعة رجب والنصف من شعبان والثلاثة أيام البيض منتصف كل شهر عربى كاجازة رسمية
6- المساواة فى عدد المعتقلين والمسجونين فى كل أنحاء مصر بنسبة عدد السكان المسلمين الى غيرهم ومراجعة الملفات بهذا الشان لتصحيح النسبة
7-التوسع فى بناء المساجد فى كل انحاء مصر بما يتوازى مع نسبة عدد السكان المسلمين بحيث يحصل كل مسلم على حقه فى مساحة من المسجد متوازية مع مايحصل عليه غيره من غير المسلمين بنسبة عدد السكان
هذه بعض المطالب المفترضة جدلاً وهى ظاهرها العدل وباطنها فيه ظلم على غرار مايحدث فى مصر من فرض مطالب تتمحك بالمواطنة ثم الإبتزاز بالاستعانة بالخارج وتكوين دولة داخل الدولة ومع عدم اقتناعى بهذه المطالب المفترضة إنطلاقا من بدعة بعضها ومخالفتها لتعاليم الاسلام الذى يأمر بالعدل والإحسان وحسن الجوار وحسن المعايشة مع أهل الكتاب طالما أنهم لايحاربون الإسلام إلا أن مايحدث على أرض الواقع يدفع الى فرض مثل هذه المطالب وعرضها على الجميع فى مصر والعالم كله عملاً بما يدّعونه من مساواة ومواطنة والا هل المساواة حرام لنا حلال لغيرنا
ويبقى أن مادفعنى إلى كتابة هذا المقال أيضا ماقرأته على موقع العربية نت يوم الجمعة 20يونيو عن عزم مايسمى أقباط المهجرفى الغرب تنظيم مظاهرات ضد الحكومة المصرية بزعم الإضطهاد ؟؟؟!!!!
ولايخفى أن مادفعهم إلى ذلك هو الإغترار بالولايات المتحدة الأمريكية وضغوطها على الحكومة المصرية والموقف السلبى الضعيف للحكومة فى تطبيق القانون على بعض متطرفى الأقباط ومساندة اليسار ومن يصطادون فى الماء العكر من بعض صحف الرأسماليين الجدد الذين لادين لهم إلا مصالحهم الأمريكية
وأخيرًا إن مايحدث فى مصر نوع من الإنتهازية المتطرفة جدًا حيث يحصل التيار المتطرف فى الكنيسة على مايريده من الدولة وما لا يحصل عليه يخرج على الدولة فيه ويمارس الضغط وتهديد الدولة التى يعيش فيها ويتنعم بخيراتها
والأغلبية التى تمثل أكثر من سبعين مليون صامتة بعدل الاسلام .صامتة بسماحة الاسلام . صامتة بقهر النظام .
و عودة لما قدمنا ماذا تقول الأقلية المتطرفة ومن ساندها من أصحاب الأهواء والمصالح المختلفة فى ماقدمناه من مطالب لتلك الأغلبية المسلمة الصامتة إنه يجعل لاوجود تماماً للدولة ولا للقانون الوضعى ولاللعدل وهذا عين ماتفعلونه
وهو مايهدد الأمن والسلام الذى أمر أنبياء الله عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام بالمحافظة عليهما
ممدوح اسماعيل محام وكاتب elsharia5@hotmail.com
المصدر: المصريون؟؟؟؟
(((((((( يـُوتـا
ابن العبيطة!
بقلم د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
منذ فترة قصيرة ظهر كتاب عنوانه: "تَيْس عزازيل فى مكة" خَطَّهُ بحافِرِه تيسٌ من التيوس ينتمى خطأً إلى جنس الإنسان يُدْعَى: "يوتا ابن العبيطة"، افترى فيه على النبى الكريم الافتراءات السافلة الكاذبة وتناول عِِرْض أمه الشريفة بالسفالة والبهتان تصورا من هذا السفيه الواطى أنها من نفس النوعية التى منها أمه، وقال إنه ألف هذا الكتاب ردا على اضطهادات المسلمين للنصارى وتطاول علمائهم على دينهم. وفى مقدمة الكتاب نراه يهديه إلى الدكتور زيدان والدكتور زغلول النجار على النحو التالى: "اهدي هذه الرواية الي الدكتور يوسف زيدان مؤلف رواية عزازيل واهداء خاص الي زغلول النجار". وهذه بعض الملاحظات التى عَنَّتْ لنا وَسْطَ ما نشعر به من إرهاق الصيام فى هذه الأيام المفترجة:
* وأول ملاحظة هى أن رواية "عزازيل" التى ألفها الدكتور زيدان قد فضحت الكنيسة وبينت أن شعارات المحبة والوداعة والمسكنة هى شعارات كاذبة لا تصمد أمام حقائق الواقع المرعبة من تقتيل وسحل وسلخ وإحراق للمخالفين وإفناء لهم كما فعلوا مع الفيلسوفة الإغريقية السكندرية هيباتيا واليهود فى القرن الخامس الميلادى بتحريض من كيرلس أسقف الكنيسة الأرثوذكسية، وكما فعلوا مع المسلمين واليهود بالأندلس حين تمت لهم السيطرة هناك فى أواخر القرن الخامس عشر، وكما فعلوا فى بيت المقدس أثناء الحملات الصليبية، وكما فعلوا مع الهنود الحمر فى الأمريكتين، وبالذات فى أمريكا الشمالية، كما بينت الرواية أن عقيدة النصرانية فى المسيح تبعث على الاضطراب والحيرة وتدفع بمن يُعْمِلون عقولهم إلى ترك النصرانية جملة، وأن الرهبنة نظام غير إنسانى يضاد الفطرة البشرية وينتهى بممارسيه إلى مقارفة الفواحش والارتكاس فيها. وما أخبار العلاقات المحرمة بين الرهبان والراهبات وأولاد الزنا الناتجين عن تلك العلاقة بخافية عن النصارى، إلا أن أحدا لا يتحدث عنها رغم المصائب المتلتلة التى تترتب عليها، فضلا عن الفضائح التى يأتيها القساوسة مع النساء والغلمان فى قلب الكنيسة ذاتها كما هو معروف لجميعهم، ومع ذلك يسكتون فلا يفتحون الموضوع خوفا من تنفير شعب الكنيسة منها كما يُفْهِهم القساوسة والأساقفة.
كذلك فإن كتابات الدكتور زغلول النجار فى الأهرام وأحاديثه فى التليفزيون تبرجل عقولهم لأنها تبرهن كل يوم لكل من عنده عقل أو ألقى السمع وهو شهيد على صلابة العقيدة الإسلامية عن طريق بحوث العلم الحديث وكشوفه، وكان من جراء ذلك أن أسلمت وفاء قسطنطين زوجة كاهن أبو المطامير، وهو ما طير النوم من أعينهم نظرا لمركز زوجها الدينى. كما أنه هو الذى أثار الشبهات حول مقتل تلك السيدة بيد الكنيسة ودعا إلى التحقيق فى ذلك، ففقد القوم صوابهم تماما
* تطاوُل يوتا ابن العبيطة على الرسول سَبَبُه أن دين النبى العظيم هو الدين الوحيد الذى قصم ظهر النصرانية وأخذ منها أحسن البلاد التى كانت تعنو لها فأخرجها من ظلام التثليث والتصليب والتجسيد إلى نور التوحيد والتنزيه والتجريد، ولم يستعمل فى ذلك إكراها ولا ترويعا كما تصنع الكنيسة، ولم يلجأ إلى التعذيب والإبادة على طريقة النصارى فى كثير من البلدان، ولم يعرف طوال تاريخه محاكم التفتيش. وهذا الأمر يؤرق الكنيسة ويملأ قلوب رجالها بالغل والحقد والصديد العفن المنتن، إلا أن قوة المسلمين لم تكن تترك لهم فرصة للسباب والبذاءة، أما الآن فإن القوم يظنون أن ساعة الإسلام قد حانت. لكن عندما يفيقون من أحلامهم السفيهة مثلهم وتروح السكرة وتجىء الفكرة فعندئذ يصبح لكل حادثة حديث. ولسوف يعضون بنان الندم ويقولون: "حَقّنا برقبتنا"، ولكن بعد فوات الأوان. وإنا لمنتظرون ومتربصون يا ابن العبيطة، ولسوف ترى ونرى!
* التطاول والتباذؤ فى حق سيد الأنبياء والمرسلين ليس وليد اليوم، بل ابتدأ على أيدى النصارى مبكرا جدا بمزاعمهم الكاذبة حول بحيرا وسُكْر الرسول وانطراحه على كوم زبالة وأكل الخنازير جثته وعبادة المسلمين ثلاثة أصنام... مع أن المسلمين لم ينالوا من المسيح ولا من أمه أو حوارييه منالا، إن لم يكن بدافع الأدب والتهذيب فلأنهم مأمورون بالإيمان بجميع الرسل والنبيين واحترامهم وتبجيلهم وعدم المساس بهم، وإلا خرجوا عن مقتضى ذلك الإيمان، والمسيح واحد من هؤلاء الرسل والنبيين.
* زعم يوتا ابن العبيطة أنه إنما الف حدوتته الركيكة ركاكة عقل أبيه وأمه ردا على رواية يوسف زيدان، وكل إناء بما فيه ينضح. لكن زيدان لم يجرّح عرض أحد من رجال دينهم أو يسبّه، فضلا عن أنه لم يتطرق إلى سيدنا عيسى من قريب أو من بعيد، ولم يفعل شيئا سوى رصده للاختلافات التى نشأت بين الأساقفة الأولين والانشقاقات الكنسية التى ترتبت على هذا. فأين هذا مما تورط فيه يوتا ابن العبيطة من شتم النبى والكذب عليه واتهامه هو وأمه وزوجاته وصحابته أبشع الاتهامات؟
* يزعم ابن العبيطة أن قلة أدبهم إنما هى رد على إيذاء علماء المسلمين لهم كالشعراوى وزيدان والنجار، مع أن أيا من هؤلاء لم يلجأ يوما إلى الشتائم أو البذاءات، وكل ما فعلوه هو إبداء رأيهم فى النصرانية بمنتهى الهدوء. وحتى حينما أصاب القومَ السعارُ وصاروا يكذبون ويفترون على الإسلام والمسلمين المفتريات ويسبّون من لا يستحقون أن يقبّلوا حذاءه وأنشأوا لذلك قناة فضائية تبث سفاهتها على الملايين لم يبادلهم هؤلاء العلماء سَبًّا بسبٍّ. ومع هذا يكذب العبيط ابن العبيطة وأشباهه من العبطاء أولاد العبيطات فيدّعون أنهم إنما يقابلون بقلة الأدب والبذاءة ما يصنعه علماء المسلمين معهم. والواقع أن قلة الأدب والتمرد ديدنهم طوال تاريخهم معنا، فهم لا يسكنون ويسكتون ويتظاهرون بالوداعة إلا حين يكون المسلمون أقوياء أعزاء. فإن شاموا منهم ضعفا انقلبوا عليهم وأطلقوا ألسنتهم فى أعراضهم وفى حق نبيهم وفى الله ذاته سبحانه وتعالى، ولجأوا فى كل ذلك إلى الأكاذيب والعبث بالقرآن، مدللين بهذا على صدق ما رماهم به الكتاب المبين من تحريفهم لوحى السماء. وما "الفرقان الحق" و"القرآن الشعبى" ببعيد. وهو ما يثبّت المسلمين على دينهم ويؤكد لهم أن القرآن لم يقل فى القوم إلا حقًّا وأن إنكار أولئك السفهاء لهذا الاتهام إنما هو إنكار كل قاتلٍ زنيمٍ لجريمته أمام القاضى.
* قلة الأدب التى يمارسها يوتا ابن العبيطة تُضَادُّ نصوص الأناجيل التى تأمر أتباعها بالخضوع لحكامهم وتأدية الجزية لهم فى صمت ودون شغب وتدعوهم إلى أن يقابلوا اللطم على الخد الأيمن بإدارة الخد الأيسر لتلقى لطمة أخرى دون أن ينبس الواحد منهم ببنت شفة، فضلا عما لا يكفّون عن إزعاج الآخرين به من أن دينهم ليس له مثال، إذ هو دين المحبة والسلام ومقابلة الأذى والعدوان بالصفح والغفران. وهذا إن كان هناك من يؤذيهم، أمّا والمسلمون لا يمكن أن يمسّوا المسيح ولا أمه ولا حوارييه بكلمة مسيئة واحدة ولم يقع من أى منهم شىء من هذا، فمن الواضح أن هذا العبيط ابن العبيطة قد خرج على النصوص الإنجيلية التى يشهرونها فى وجوهنا صباحا ومساء. لكن هناك جانبا آخر لا يشيرون إليه عادة، وهذا الجانب يتمثل فى طول لسان يسوع على اليهود الذين كان يصب عليهم اللعنات صبا، وعلى السامريين الذى شبههم بالكلاب، وعلى أتباعه أنفسهم بما فيهم الحواريون، الذين رماهم بقلة الإيمان وبالنفاق وقال عن كبيرهم إنه شيطان، وعلى أمه ذاتها وإخوته. فهم إذن تلاميذ أوفياء لهذا الميراث الذى يعملون على التعتيم عليه ولا يحبون الحديث فيه.
* يوتا ابن العبيطة يفترى الكذب على التاريخ فيروح يتخيل ما لم يحدث قط، أما زيدان فقد التزم بالتاريخ كما قرأه هنا وهناك. فهل هناك كتاب واحد أو رواية واحدة اعتمد عليها ذلك التيس ابن التيس على ما قاله فى حق النبى الكريم وأمه الشريفة العفيفة وزوجاته الطاهرات النبيلات؟ هذا هو الفرق بين كاتب مسلم لا يعرف سوى الصدق منهجا له عند الكتابة عن النصرانية، وكاتب نصرانى لا يجد أمامه عند الحديث عن الإسلام إلا الكذب والاختراع. ولكن ما الغرابة فى هذا، والقوم قد مَرَدُوا على التحريف والتزييف واختراع الأقاويل ونسبتها إلى الله والزعم بأنها وحى السماء؟
* تدّعى الحدوتة التى كتبها بحوافره يوتا ابن العبيطة أن بحيرا كان يوالى النبى بالوحى ليل نهار، مع أن بحيرا لم يلقه صلى الله عليه وسلم إلا مرة فى صباه وشهد له بالنبوة، بغض النظر عن صحة الرواية التى ذكرت هذا أو لا، وكان ذلك على مرأى ومسمع من القرشيين الذين كانوا معه فى القافلة، ثم لم يلتقيا بعد هذا قط. لكنه الكذب المفضوح الذى ليس عند القوم سواه بسبب إفلاسهم وانهتاك أمرهم وحيرتهم وضلالهم وطمس التعصب المقيت لعقولهم الزنخة.
* يقول يوتا ابن العبيطة إنه تعمَّدَ أن يخطئ فى اللغة العربية التى كتب بها حدوتته لكراهيته لتلك اللغة. وهذا حمق منه، وإلا فهل هناك عاقل يتفاخر بالخطإ؟ لقد تعلمنا مثلا لغة الإنجليز، الذين كانوا يحتلون بلادنا وسلموا فلسطين غنيمة باردة لليهود، وكانوا ولا يزالون يعضدونهم ضدنا ويمدونهم بالسلاح ويصوتون دائما لصالحهم فى المحافل الدولية، ولا يكفّون عن إذلال المسلمين والعمل على إضعافهم، لكن ذلك كله لم يدفعنا إلى توخى الخطإ عند الكتابة أو الحديث بتلك اللغة، بل كنا نحاول بلوغ أعلى المستويات فيها، لأن الجودة فى أى مجال لا تعاب، فإن عابها عائب فهو أحمق سفيه كيوتا ابن العبيطة. والواقع أن ابن العبيطة لم يتعمد الخطأ فى لغة القرآن، الذى يؤرقه ويطير النوم من عيونه، بل هو بطبيعته غبى بليد لم يُؤْتَ القدرة على الإتقان، فكان كالثعلب الذى نط كى ينال عنقود العنب المتدلى من شجرته، لكنه لما لم يستطع الحصول على العنقود عاد يقول: إن العنب لم ينضج بعد وإنه لا يزال حِصْرِمًا! فابحث لك إذن عن عذر آخر يا ابن العبيطة! وعلى أية حال فاللغة العربية لغة شريفة راقية لا يمكن عبيطا ابن عبيطة مثلك أن يتقنها!
* وتبدأ رواية "تيس عزازيل فى مكة" بطقس وثنى، وهو إحضار الكاهن اليهودى كبشا من الكباش لتحميله أوزار بنى إسرائيل، مما لا يمكن أن تقول به شريعة ربانية. وقد أتى الإسلام بما يقضى على كل تلك الوثنيات معلنا أن الذنوب إنما يتحملها صاحبها وحده، ولا يمكن أن يحاسَب عنها أى شخص آخر، فضلا عن أن تتحمل مسؤوليتها الحيوانات المسكينة، وأن من السهل جدا تخلص صاحب الذنب من ذنبه إذا ما ندم عليه واستغفر ربه. ولنلاحظ أن النصارى يقولون إن المسيح إنما نزل من علياء الألوهية ومات على الصليب فداءً للبشر من الخطيئة الأولى التى ارتكبها آدم، بخلاف الإسلام، الذى يقرر أن الله سبحانه وتعالى قد غفر لآدم ذنبه وتاب عليه بعدما تنبه إلى زلته واستعفى الله فعفا عنه بواسع كرمه وفضله، ومن ثم لم تكن هناك حاجة إلى كل هذه اللفة الطويلة المعقدة المزعجة والمخزية التى لا تليق بمقام الألوهية المتعالى. ولنلاحظ أيضا كيف أن المسيح يسمى فى بعض نصوص العهد الجديد بــ"الخروف". فمن الواضح إذن أن إلههم هذا هو امتداد لتيوس بنى إسرائيل التى كانوا يحمّلونها ذنوبهم كما جاء فى الإصحاح السادس عشر من سفر "اللاويين". والعجيب أننا إذا أرنا التحقير من قيمة إنسان قلنا عنه إنه تيس أو خروف، أما القوم فإنهم يجعلون من الله، الله ذاته لا إنسان حقير، خروفا. هنيئا مريئا لهم، ومبارك عليهم إلههم الخروف!
* يدّعى يوتا ابن العبيطة أن التيس الذى كان فى يد الكاهن اليهودى قد أفلت منه وظل يجرى حتى وصل إلى زمزم فرآه قُصَىّ بن كلاب وذبحه ليأكله هو وبعض القرشيين فجرى دمه مدرارا حتى اختلط بماء زمزم، و"سرعان ما خرج صوت الشيطان من رأس التيس يتوعدهم بالقصاص والاذي اذا لم يبنوا في هذا المكان مقام تدفن بها الرأس ويوضع معها الحجر الذي ذبح عليه التيس ويدفن معهما 72 طفلة من بنات العرب تكفيرأ عن ذبح التيس عزازيل ومن شدة رعب مصعب واصحابه أن بدءوا فورآ في بناء هذه المكان الذي اطلق عليه عليه كعبة نسبة لجده كعب ابن لؤي بن غالب واجتمعت كل قبائل مكة واتموا بناء الكعبة ونقلوا الحجر الابيض الذي تحول الي الحجر الاسود بسبب دماء التيس عزازيل التي حملت معها كل خطايا وذنوب وسيئات بني اسرائيل".
وبطبيعة الحال لم يقع شىء من هذا قط، كما أن الكعبة كانت موجودة قبل ذلك بدهور، فكيف يزعم ابن العبيطة ما يزعم حول تشييد قصى للكعبة بناء على أمر الشيطان؟ أما ما قاله يوسف زيدان فى روايته فمستقًى من كتب التاريخ الموثقة، ولم يقع أنْ نسب إلى أية شخصية تاريخية نصرانية شيئا لم تفعله. وإذا كان هيبا قد زنى وشك فى دينه فإن هيبا ليس شخصية تاريخية حتى يقال إن هذا لم يحدث فى التاريخ، فضلا عن أن ما نسبه إلى هيبا لم يعترض عليه عبد المسيح بسيط فى حلقة من حلقات "العاشرة مساءً"، بل قال إن الرهبان بشر ويمكن أن يقعوا فى الخطيئة. كما أن حوادث الزمان تبرهن أنهم كثيرا ما يقعون فيها، وما الفضائح التى تنفجر فى الغرب وتفضح سلوك القساوسة والرهبان وشذوذهم مع الغلمان بخافية على أحد. وكان الباباوات أنفسهم أسوأ مثال فى هذا المضمار حتى لقد كان بعضهم يعاشر أخته، وبعضهم يصحب معه فى جولاته التى يبارك فيها أتباعه فى أرجاء القارة الأوربية عشيقته لا يبالى. ومعروف مقدار الأموال الرهيب الذى تحت يد الباباوات فى كل مكان، ينفقون منها على أغراضهم الشريرة، وكذلك الترف والذهب الذى ينغمسون فيه، مما يتناقض وما يعلنونه من تقشف الديانة النصرانية وزهدها فى هذه الدنيا. وبالمناسبة فالكتاب المقدس يفيض بأمثال تلك الفواحش التى ألصقها القوم بأنبيائهم ولم يكادوا يتركون أحدا منهم إلا لوثوه، فمن الطبيعى أن يسير الرهبان والقساوسة على سنة هؤلاء الأنبياء. وقد أدت هذه الأمور كلها فى النهاية إلى كفر الغرب بالنصرانية وتناديهم أيام الثورة الفرنسية قائلين: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"
* يقول يوتا ابن العبيطة: "وبعد اتمام بناء الكعبة ودفن رأس التيس عزازيل خرج صوت الشيطان منها ايضآ يطلب من قبائل العرب عبادة الله الواحد الصمد الذي لاشريك له الاله القمر فاجتمعت قبائل العرب واحتفلوا في ليلة البدر بالاله اكبر اله القمر ورقصوا عرايا وطافوا حول الكعبة وكانوا يمارسون الجنس والمجن والفجور والفاحشه داخلها ارضاءآ لاله القمر وكانت نساء العرب يجلسن عرايا علي الحجر الاسود وكانت المرأة التي يأتيها الحيض تجلس علي هذا الحجر حتي تتبارك منه وتنجب اولادآ وانتشرت في كل جزيرة العرب عبادة اله القمر واصبح العرب يحجون كل سنة الي هذه الكعبة واصبح الحجر الاسود له قدسية لدي كل قبائل العرب لم يفطن العرب أن التيس عزازيل مات بمجرد ذبحه وأن الصوت الذي يخرج من رأس التيس ما هو الاصوت الشيطان الذي يعد العدة لاضلال هؤلاء العرب الي الابد عن طريق هذا المكان الذي بنيت فيه هذه الكعبة فلقد نقل كل الخطايا وكل الذنوب وكل سيئات البشر وجعلها في مكة عن طريق التيس عزازيل واصبح الاله القمر الله اكبرهو الصوت الذي يتكلم به الشيطان مع قبائل العرب فأصبحوا عباده المخلصين ومنهم من سمي ابنه بأسم عبد الله واصبحت الكعبة هي مخزن الخطايا ومكمن اسرار الشيطان واصبحت الكعبة هي المركز الرئيسي والمقر الدائم لابليس وسكن في داخل الصنم اكبر اله القمر وكانت قبائل العرب تجتمع كلما اكتمل القمر واصبح بدرآ وكانوا يقدمون قربانا لاله القمر بوأد البنات وكل شهر كانت بنت من بنات العرب تدفع حياتها ثمنآ لارضاء اله القمر اكبر وسط حفلات الرقص والمجون والخمر والجنس وكان الرجال والنساء يضاجعون بعضهم ويرقصون عرايا كما ولدتهم امهاتهم وكانت هذه اهم مناسك الحج وعبادة الاله الواحد الاحد الصمد اله القمر في الكعبة وكانت تعقد صفقات الزواج بين القبائل في مكة داخل الكعبة وكانت هناك سوق النخاسة حيت راجت تجارة الرقيق الابيض وبيع الجواري من الحريم وتبادل الزوجات حتي اصبحت الكعبة كانها بيت دعاره كبير واصبحت اهم مراكز التجارة في مكة واصبحت سببآ للحروب بين قبائل العرب ووجدت قبائل قريش في الكعبة مغنمآ عظيمآ واصبحت الكعبة اقدس مكان لدي القبائل".
والآن إذا كان هذا هو حال الكعبة والعرب كما يقول العبيط ابن العبيطة بغض النظر عن صحة ما قال أو لا، فما الرأى يا ترى فيمن طهر الكعبة والعرب من هذا كله وأخذ بأيديهم إلى سبيل الكرامة والعفة والصحو العقلى والوحدة والإيمان بالله الواحد الأحد ونهاهم عن عبادة الشمس والقمر والأصنام والأوثان ووأد البنات وشرب الخمر والزنا... إلخ؟ ألا ينبغى أن نقف لذلك الرجل العظيم و"نضرب له تعظيم سلام" يا عبيط يا ابن العبيطة، ويا عابد الخروف وآكل فطائر الخراء تنفيذا لأوامر دينك؟ الحق أنه ما من واحد منكم كتب يحارب الإسلام إلا وكسه الله وطمس على بصره وبصيرته فوقع فيما يدينه ويفضحه؟
* ويرمى يوتا ابن العبيطة السيدة آمنة بنت وهب بالبهتان مع بحيرا الراهب (سمك، لبن، تمر هندى)، زاعما أنه طلب منها أن تتزوج عبد الله بن عبد المطلب ثم تسمّه، وأنها قد سمته فى المدينة، مع أنها عند موته فى طريق عودته مع قافلة قريش من الشام كانت هى فى مكة. ولماذا يطلب بحيرا منها أصلا أن تتزوج من عبد الله ثم تسمّه؟ أوكان بحيرا معتوها كيوتا ابن العبيطة فهو لا يدرى ماذا يقول ولا ماذا يصنع؟ وهذا لو كان لبحيرا صلة بأية سيدة فى مكة، فضلا عن أن تكون تلك السيدة هى آمنة بنت وهب. إن هذا كله إنما يدل على مدى التخلف العقلى الذى يتمتع به يوتا ابن العبيطة فلا يجد شيئا فى التاريخ يمكن أن يسىء إلى آمنة بنت وهب لأن آمنة كانت أشرف العرب، فيذهب يقيسها على أمه، التى كانت فيما يبدو، وكان هو أيضا، ضحية لاعتداء أحد القساوسة عليه فى ظلمات الكنيسة.
ولينظر القارئ الآن فيما تقوله الأناجيل عن مريم عليها السلام رغم أننا لا نصدق شيئا من هذا، إلا أننا نرد على التيس بن التيس بما يؤمن به لا بما نخترعه من عند أنفسنا. فهذه الأناجيل تقول عن يسوع إنه ابن يوسف النجار، وتؤكد هذا على لسان مريم نفسها التى لا يعرف أحد غيرها حقيقة ذلك الأمر، وليس على لسان أى شخص آخر. كما ينسبونه من جهة أخرى إلى يوسف النجار عن طريق سلسلة النسب التى لا تظهر فيها مريم على الإطلاق، والتى يمثل يوسف النجار فيها همزة الوصل بين يسوع وداود، ومن هنا يقال إنه ابن داود. كذلك فبدلا من أن ينصرف هذا التيس فيدفع عن يسوع ما رُمِىَ به فى الغرب من أنه كان عشيقا لمريم المجدلية وعلى علاقة شاذة بأحد تلامذته، يذهب هذا التيس ابن التيس إلى هذا الكلام المعتوه. لقد درس يوسف زيدان التاريخ وكتب روايته بأسلوب جميل، أما أنت يا عبيط يا ابن العبيطة فتكتب حدوتة من حواديت المصاطب بأسلوب كأساليب تلاميذ محو الأمية. وهذا هو الفرق بين المنتسبين إلى الإسلام والمنتسبين إلى النصرانية. إنه الفرق بين الجمال والقبح، وبين العقل والخرافة، وكذلك بين الاستقامة والصدق من جانب والكذب والتحريف من جانب آخر. هل هى عادتكم أم ستشترونها؟
* الدكتور يوسف زيدان، رغم أنه ليس من أصحاب الاتجاهات الدينية، لم يفعل شيئا غير الرجوع إلى كتب التاريخ، أما يوتا ابن العبيطة فيكذب كذبا فاجرا تعوّد عليه ورضعه مع لبان أمه العبيطة، إذ هو تقليد من تقاليد دينه، ألا وهو تقليد التحريف والتزييف والعبث بكتب السماء حتى تتناسب مع وثنيتهم وعبادة الخرفان والتيوس وأكل فطائر الخراء. يقول يوتا ابن العبيطة عن سيده وسيد أبيه وأمه: "وكان يعقد الجلسات يحدثهم عن الدين الجديد القديم فهو جديد بالنسبة للعرب الوثنيين لكنه قديم لانه مأخوذ من الهرطقة النسطورية والابيونية ومأخوذ عن الديانة اليهودية ومأخوذ عن بعض الاساطير قبل الاسلام ومأخوذ عن الشيطان الذي كان يعتقد انه جبريل وهكذا اصبح الاسلام دينآ محيرآ للعقول تجد فيه الشئ ونقيضه تجد فيه التوحيد والشرك وتجد فيه العنف والارهاب وتجد فيه السلام تجد فيه مدح ايمان اليهود والنصاري وتجد فيه تكفير اليهود والنصاري بالاجمال تجد الشئ وتجد ناسخه لذلك لم يستطيع العقل اوالفكر أن يكون هو المؤثر في اعتناق هذا الدين وايضآ الايمان ليس له مكانة انما الامر يعتمد علي نطق عبارتين ( الشهادتين ) دون اي فهم للدين ودون ايمان وبذلك يصبح الانسان فردآ جديدآ ينضم للدين الجديد الذي الغي العقل تمامآ ومنع الناس أن يفكروا اويسألوا عن امور هي ضد العقل السليم وضد المنطق وقيل لمن يريد أن يسأل اويفكر لاتسالوا عن اشياء قد تسيئكم وبالتالي اغلاق الموضوع لكي لايتبين الانسان ماهو الخطأ وما هو الصواب واستخدم محمد بذكاءه الجنس في اجتذاب الناس الي ديانته واستخدم الغنائم لتشجيع القتلة واللصوص والمجرمين الي الانضام للاسلام حيث تناسبهم الغزوات وهي شغلهم الشاغل وبذلك اشتدت شوكة الاسلام بعدما بدأ ضعيفأ في مكة حتي أن محمدآ هرب الي الحبشة وهناك اخبر النجاشي ملك الحبشة انه مسيحي وهارب من بطش المشركين وعباد الاوثان في قريش وانه يطلب الحماية من النجاشي كملك للمسيحيين فأسبغ النجاشي ملك الحبشة عطفه وحمايته علي محمد واصحابه الذي كأن طوال فترة بقاءه في الحبشة يذهب الي الكنائس هو واصحابه وقد ساعده ما تعلمه من ورقة بن نوفل ومن بحيرة الراهب في اقناع النجاشي انه يؤمن بالمسيحية ولكن بعد قيام احد القساوسة في الحبشة بمناقشة محمد في ايمانه المسيحي تأكد هذا القس أن محمد يتبع الهرطقة النسطورية والابيونية وهو يعتبر مسيحي هرطوقي فما كان من النجاشي الا ان قام بطرد محمد واصحابه من الحبشة خوفآ من قيامه بنشر هرطقته في الحبشة".
إن ابن العبيطة يزعم أن الرسول قد هاجر إلى الحبشة مع أصحابه حيث أعلن هناك أنه نصرانى. فانظر، أيها القارئ، وتأمل هذا الكذب الجلف الذى ليس فيه ذرة واحدة من فن الحبك والتأليف! هل هناك من قال، ولو فى بلاد الواق واق، إن الرسول قد هاجر مع أصحابه إلى الحبشة؟ ليس ذلك فحسب، بل زاد العبيط ابن العبيطة جرعة الكذب والبذاءة فوصفه صلى الله عليه وسلم بأنه "شخص جبان يهرب الي الحبشة". إن سيد النبيين والمرسلين ليس مثل بطرس الجبان حسبما تصفونه فى كتبكم التى ألفتموها وزعمتم أن الروح القدس قد أوحى بها لمن زيفوها، إذ أنكر المسيحَ بعد القبض عليه وأقسم مؤكدا أنه لم يسبق له أن عرفه رغم أن يسوع قال له إنه سوف ينكره ثلاث مرات فأكد أنه لا يمكن أن يفعل ذلك، ثم فعلها وكذب وحلف على هذا الكذب، وإن كنا لا نؤمن بما تقولونه فى أناجيلكم عن حوارييه عليه السلام. أما أصحاب محمد (ودَعْكَ من محمد ذاته) فقد أعلنوها صريحة واضحة لا لَبْسَ فيها، وقالوا للنجاشى ولمن حوله من البطاركة إنهم مسلمون وإن دينهم يقول فى المسيح إنه عبد الله ورسوله، فما كان منه إلا أن جاوبهم بأنه لا يجد أى فرق بين ما يعتقده فى المسيح وما يعتقدونه هم فى شىء. وهل كان محمد ليهاب النجاشى، وهو الذى أرسل إليه وإلى كل الملوك والأمراء من حوله يدعوهم فيها إلى الدخول فى دينه: فقبل منهم من قبل، ورفض منهم من رفض، وكان منهم من لم تسعفه ظروفه على إعلان إسلامه، ولكن انتهى الأمر إلى أن دخلت جميع البلاد التى كانوا يحكمونها فى الدين الجديد؟ وهذا هو ما يجنن ابن العبيطة ويدفعه إلى قلة الأدب وافتراء الأكاذيب بتأثير ما ورثه عن أسلافه وتربى فى ظله من البهتان والافتراء.
ولقد أسلم النجاشى، رحمه الله، إلا أن ابن العبيطة يقلب حقائق التاريخ كما فعلها أسلافه الأوساخ طوال تاريخهم، فزعم أن النجاشى طرد الرسول وصحبه من الحبشة خشية أن ينشروا نصرانيتهم المنحرفة فى بلاده ويفتنوا شعبه، مع أن حقائق التاريخ تقول إن أصحاب رسول الله عاشوا ما عاشوا عند ذلك الملك معززين مكرمين إلى أن قرروا من تلقاء أنفسهم بعد زوال الخطر وقيام دولة المدينة أن يعودوا إلى ذويهم، وأنهم جميعا كانوا مسلمين موحدين لا صلة لهم بالنصرانية على الإطلاق. وكيف تكون هناك صلة بينهم وبين النصرانية، والقرآن لا يدع فرصة تمر إلا ويخطّئ النصرانية والنصارى تخطئة شاملة؟ إلا أن ابن العبيطة، بعقليته التَّيْسِيّة، يتوهم أنه سوف يكون أوفق حظا ممن اخترعوا كتابَىِ "الفرقان الحق" و"القرآن الشعبى"، اللذين مزقهما علماء المسلمين تمزيقا وألقَوْا بقاياهما فى بلاليع المجارى الوسخة مثل ملفقيهما، جاهلا أن مصير كتابه الوسخ مثله، وكذلك مصيره هو أيضا، سيكون مصير ذَيْنِك الكتابين: المجارى! وإلا فهل عاد أحد يسمع بهذين الكتابين الآن؟ أما ما يزعمه من أن القرآن يمدح أهل الكتاب مرة ويذمهم أخرى فلا وجود لشىء من ذلك إلا فى كلام ابن العبيطة الكذاب. ذلك أنه لم يحدث قط أن أثنى القرآن على أحد من أهل الكتاب المعاصرين للرسول الكريم بوصفهم أهل كتاب، بل كان الثناء عليهم لقبولهم دعوة الحق واعتناقهم الإسلام: كورقة بن نوفل ونجاشى الحبشة وعبد الله بن سلام، والرهبان والقساوسة الذين أتَوْا إلى المدينة فاستمعوا إليه صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن ففاضت منهم الدموع وأعلنوا إيمانهم بالله وانحيازهم إلى جانب الحق وأصبحوا مسلمين حسبما تنص على ذلك آيات سورة "المائدة"، التى يزعم ابن العبيطة أنها تتحدث عن النصارى. بعيدة عن شاربك يا ابن العبيطة! شاربك الذى فى استك المنتنة!
* يقول ابن العبيطة: "وعندما كان محمد يقع في مأذق اوسؤال او مشكلة متعلقة بالدين الجديد كان يقنع اتباعه بأنه منتظر الوحي للاجابة عن السؤال وقد يطول الانتظار شهورآ طويلة ذلك ان محمدآ كان يلجآ لورقة بن نوفل ليلقنه الاجابة والتي كان يظن اتباعه انها من عند الله وكان محمدآ يغيب فترات طويلة يمكث فيها مع ورقة بن نوفل وايضآ مع بحيرة الراهب يتعلم منهم مايقول لاتباعه انه الوحي ولم يتخلي ورقة بن نوفل عن محمد لحظة واحدة الي ان مات فكيف يتخلي عنه وهو قريب له نسب من ناحية جده قصي بن كعب وايضآ زوجآ لبنت عمه خديجة وناشرآ للبدعة النسطورية والابيونية التي كان يتبعها ورقة بن نوفل".
ومعنى هذا الذى يقوله ابن العبيطة أنه ينبغى ألا يحتوى المصحف إلا بضع سور قصيرة لا تزيد كثيرا عن أصابع اليد الواحدة، وهى السور التى نزلت فى بداية الدعوة أيام كان ورقة حيًّا، ما دام الوحى قد مات بموته! فانظروا إلى الأكاذيب الساذجة! ولقد خيب الله ظن ابن العبيطة فآمن ورقة بالوحى الجديد. أى أن المسطول ابن المسطول الذى لا يعرف كيف يَحْبِك كذبة مثلما لم يعرف أسلافه الأوساخ مثله أن يحبكوا ما افْتَرَوْه وادَّعَوْا أنه وحى سماوى فقالوا إن موسى مثلا قد وضعته أخته على شاطئ النهر حيث وجدته ابنة فرعون فأخذته واتخذته ابنا لها، لنراها عقب ذلك تقول إنها قد انتشلته من الماء ولم تجده على الشط، كما جعلوا ملكا من ملوك بنى إسرائيل أكبر من أبيه بعامين، وسلِّم لى على الملوخية، وقالوا كذلك إن عيسى هو ابن يوسف، وفى ذات الوقت هو ابن الله، ثم عادوا فأَعْطَوْنا نسبًا آخر للمسيح لا علاقة له بهذا على الإطلاق، أقول إن هذا المسطول ابن المسطول يتصور أن الناس مساطيل مثله هو وأبيه، ومن ثم سوف يتصورون أن القرآن لا يزيد فعلا على بضع سور قصيرة.
ثم لماذا لم يدَّع ورقة بن نوفل أو بحيرا الراهب النبوة ما دام ادعاؤها سهلا إلى هذه الدرجة بدلا من هذا اللف والدوران مثل اللف والدروان فى حدوتة المسيح الذى نزل من السماء ودخل بطن مريم مريم ثم خرج من فرجها ليفتدى البشر، بدلا مما يقوله الإسلام من أن الغفران الإلهى لا يحتاج فى الحصول عليه إلى كل هذا الرحلة الطويلة المرهقة والبهدلة المهينة للإله؟ لكن ما العجب، وهو إلهٌ خروفٌ؟ إذ متى كانت الخرفان تعقل أو تفكر، فضلا عن أن تفكر تفكيرا سليما مستقيما؟ جاتك داهية فى العبيطة أمك أيها العبيط! أتتصور أنك ستصيب الإسلام والمسلمين فى مقتل، وبهذا الأسلوب السقيم الركيك المتداعى تداعى عقلك التافه وركاكته وسقمه؟ فأين أنت من "الفرقان الحق"، الذى اجتمع له دهاقنة المخابرات المركزية والشاباك وجندوا له أكبر العقول عندهم وأصحاب أحسن الأساليب، ومع هذا لم يأخذ غلوة واحدة فى أيدى علماء الإسلام وانتهى أمره إلى أكوام المزابل؟ وهنا يستخف ابن العبيطة دمه المنتن كدم البق فيشبّه حياة الرسول بفلم "وكالة البلح"، ونادية الجندى معلمة الوكالة بالسيدة خديجة، وصبى المعلمة محمود ياسين بالنبى ذاته. وما دام ابن العبيطة يحب السينما ويحفظ أسماء نجومها على هذا النحو ويغرم بأفلام المعلمين والمعلمات ويشبّه محمود ياسين بسيد الأنبياء وفاضحهم فى كل مكان ومخزيهم على مدى الدهور والأزمان وكاشف عورة دينهم ومسخِّف عقولهم وكاسرهم وكاسب مئات ملايين البشر منهم إلى عقيدة التوحيد وجاعلهم "مُسْخَة" أمام من يساوى ومن لا يساوى، أود أن أقول له إن المرحوم فريد شوقى يسلّم عليك ويقول لك: أمّك فى العُشّ أم طارت؟ وبالمناسبة فالرسول الأعظم لم يكن يُدْعَى: معلِّما، بل الذى كان يُدْعََى: معلِّمًا هو يسوع يا عبيط يا ابن العبيطة. فانظر على من تنطبق وكالة البلح إذن؟ لكن قل لى أولا: أمك فى العش أم طارت؟
* ومن الأقاويل المعتوهة لابن العبيطة قوله: "كان محمد يبادل زوجاته لارضاء بعض رجاله اصحاب التأثير الي أن قام محمد قبل موته بمنع هذه العادة". يا يوتا يا ابن العبيطة: أمك فى العش أم طارت؟
* ويقول ابن العبيطة: "والكارثة أن الجيل المعاصر من المصريين لا يتعاطف مع الأجداد بقدر ما يتعاطف مع جلاديهم من الأعراب، ولا يحترم الحضارة القبطية أو الفرعونية بقدر ما يرى كل شئ من منظار اسلامي أسود، يمسح كل أنواع الحضارة ويبقي على ثقافة أجنحة الذباب واحكام نكاح الصبايا ووطء الغلمان، والحور العين". ونقول نحن بدورنا لابن العبيطة: إننا نحمد الله أن هدانا من ضلال الوثنية ومن لُوثة التثليث، فمُتْ بغيظك يا عبيط يا ابن العبيطة. أوتريدنا أن نعود إلى الفرعونية بوثنيتها المتخلفة أو إلى الصليب بتجسيده الله وشبحه على الخشبة واستحقاقه اللعنة حسبما يقول كتابكم ذاته، وفوق ذلك الإيمان بإلهٍ بَوّالٍ خَرّاء يبصق أعداؤه على وجهه ويضربونه بالرمح فى جنبه ويكسرون عظامه فيتألم ويصرخ من شدة العذاب ويقول: أجرنى يا إلهى، فلا يلتفت إلى صراخه أحد، ثم يموت ملعونا على الصليب مع اللصوص، ولا يجد أحدا من تلاميذه يسأل عن صحته سوى أمه ومريم الأخرى وأبيه يوسف النجار، الذى لا ندرى كيف يكون أبا له إلا فى الحرام يا عبيط يا ابن العبيطة؟ أرأيت يا عبيط يا ابن العبيطة كيف يعمى الله بصيرتكم فتشوهوا معنى الألوهية وتسيئوا إلى المسيح وأمه فيأتى الإسلام ليصحح تلك المفاهيم ويضع الألوهية فى إطارها السليم ويعيد للمسيح وأمه اعتبارهما أمام الناس جميعا؟
أما أن الإسلام يعادى الحضارة فلسوف أكتفى، فى الرد على ذلك، بالإشارة إلى ما يعرفه الجميع بما فيهم العبيط ابن العبيطة من أن الإسلام يدعو إلى العلم ويفضل العلماء على غير العلماء، ويجعل للنظافة والنظام والجمال مكانة لا تعدلها مكانة، ويمجد العمل والإنتاج والإبداع والاجتهاد تمجيدا، على عكس ما نقرأ فى كتبكم من أن النظافة شىء لا معنى له وأن الأفضل عدم الاشتغال بها، وأن الإيمان شىء لا علاقة له بالعقل أو التفكير، بل على الإنسان أن يؤمن وكفى. وليس فى الأناجيل دعوة إلى العلم ولا كلام عنه من قريب أو بعيد. ونفس الشىء يقال فى النظافة والأناقة والنظام والجمال والعمل والإبداع والاجتهاد. ومن هذا كله يتبين كيف أن ابن العبيطة يكذب ويكذب ويكذب ولا يخجل من الكذب، وإن لم يكن فى هذا شىء مستغرب لأنه ورث الكذب وراثة، فهو يجرى فى دمه ويتنفسه تنفسا.
يا ابن العبيطة، لقد كادت الحضارة الإسلامية فى وقتها أن تكون هى الحضارة المزدهرة الوحيدة فى العالم، واستمر الأمر على هذا الوضع ما استمر المسلمون فى التمسك بدينهم. وقد أنتجب هذه الحضارة فى ميادين العلم والفكر والأدب وحدها الآلاف المؤلفة من العلماء والكتاب والأدباء والشعراء المشاهير، ودعنا من غير المشاهير، سواء فى الطبيعة أو الكيمياء أو الطب أو الصيدلة أو الفلك أو الشعر أو النقد أو البلاغة أو الأدب المقارن أو الرحلة أو السِّيَر والتراجم أو مقارنة الأديان أو السياسة أو الاقتصاد أو التشريع أو علم الكلام أو التفسير أو الحديث أو التاريخ أو الجغرافيا أو اللغة أو الاجتماع أو الرياضيات أو البحرية، أو فى تأصيل المنهج العلمى حتى استوى على ساقه... إلخ. ولو رجع القراء إلى ما كتبه الأوربيون فى هذا الموضوع رغم أن كثيرين منهم يتحاملون ولا يقولون كل الحقيقة وقارنوه بما كتبه ابن العبيطة لعرف أن ما كتبه ذلك العبيط هو كذب فى كذب فى كذب فى كذب. ثم لما تراخى تمسك المسلمين بدينهم بدأوا يتقهقرون، بخلاف ما كان عليه الأمر فى الأمم النصرانية، إذ كانت أيام تمسكها بدينها متخلفة أشد التخلف، ثم لما نبذت النصرانية ابتدأت أحوالها تستقيم. وكان على من يريد من تلك الأمم أن يستخدم عقله أن يخوض أولا جحيم محاكم التفتيش بأهواله التى لا يمكن تصورها قبل أن يستطيع التفكير مجرد التفكير، لأن دنيكم يحرم عليكم التفكير ويأمركم أن تعيشوا كقطعان البقر. وكان ذلك بمساعدة ما أخذته تلك الأمم واستعارته واستوعبته من حضارة الإسلام فى كل ميادين الحياة. والكتب التى تُرْجِمَتْ عن تلك الحضارة لا تُعَدّ ولا تحصى، وكانت قراءة تلك الكتب ومعرفة ما فيها مبعث فخار للأوربى فى ذلك الوقت، إلى أن قويت شوكة تلك الدول وأصبحت قادرة على الإضافة إلى ما أخذته عن حضارة الإسلام الميمونة المباركة يا ابن العبيطة! لكنكم قوم كاذبون تظنون أنكم تستطيعون حجب نور الشمس فى رائعة النهار، وهيهات يا عبيط يا ابن العبيطة. وقد سبقك إلى هذا الكذب المفضوح وزير خارجية فرنسا فى أخريات القرن التاسع عشر فكتب فى ذلك كتابا فرد عليه محمد عبده وأفحمه وألجمه وأخزاه وأرداه. ويمكن القراء أن يعودوا إلى كتابه: "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية".
* أما ما يصدّع به العبيط ابن العبيطة أدمغتنا عن الفتح الإسلامى وإنكاره، ككل لئيم خسيس، اليد الإسلامية الكريمة التى امتدت للنصارى المصريين فى محنتهم وانتشلتهم من المعاناة وأراحتهم من ألوان العذاب، وتطاوله على سيده وسيد أهله جميعا عمرو بن العاص، فليسمع ابن العبيطة الآتى: نحن المصريين المسلمين نعتز بديننا وبأن الحظ السعيد قد قيّض لنا رجلا كعمرو بن العاص، الذى فتح مصر، فتعرّف أسلافنا إلى دين التوحيد وأحبوه وهشوا له ودخلوه بالملايين عن سعادة واقتناع رغبةً منهم فى رضا الله وإحراز الجنة بدلا من ارتكاسات الوثنية والتثليث. والآن ما دخلكم أنتم فى هذا؟ لقد أنكرتم ما فعله عمرو لكم حين أنقذكم من جور الرومان وبطشهم وأعاد الأسقف بنيامين من مخبئه فى الصحراء إلى حيث يستطيع العيش فى أمان وكرامة، وأخذتم تشتمونه وتقولون فيه الكذب كعادة كل لئيم لا يحفظ الجميل كلما رأى فى الأفق قوة قادمة يظن أن باستطاعته الاستعانة بها ضد من أحسنوا إليه وأنقذوه من الهوان والعذاب والاضطهاد، والآن تريدون أن تتدخلوا فى ديننا، وما أنتم إلا أقلية، وتظنون أنكم سوف تنجحون فى رد الأغلبية الساحقة الماحقة إلى الكفر مرة أخرى. بالمناسبة: أمك فى العش أم طارت؟ لكن هل قال لكم أحد إن المسلمين المصريين ضائقون بدينهم؟ هل نصّبكم الله أوصياء عليهم؟ وهل هم قاصرون لا يستطيعون التصرف فى أمورهم؟ ألا يرى القراء مدى سماجة ابن العبيطة ومن يرافئه على هذا؟ قل يا عبيط ما تشاء من الكذب والتضليل عن إكراه العرب للمصريين على اعتناق الإسلام، فلى سؤال واحد أسألكم إياه: يا ترى من الذين أُجْبِرَ أجدادهم على ذلك؟ نحن أم أنتم؟ نحن طبعا، إذ أنتم لا تزالون على دينكم وتثليثكم وتصليبكم وتجسيدكم لله، أما نحن فقد أعزنا الله وكتب لنا الخروج من هذا كله. فما دخلكم أنتم فى ذلك؟ ستقولون: ولكن هذا إنما تم عنوة وقسرا. ولن أضيع وقتى فى الدخول فى مناقشات بيزنطية، وبخاصة أننا الآن فى الصيام ومرهقون، بل أكتفى بالقول بأنه حتى لو كانت مزاعمكم عن الإجبار والقسر صحيحة، وهى بكل يقين عارية عن الصحة جملة وتفصيلا، فإننا نشكر الله أنْ أخرجَنا من ضلال الكفر وهدانا إلى التوحيد واعتناق الإسلام، فماذا أنتم قائلون؟
ألم تسمع، يا ابن العبيطة، بالمثل البلدى القائل: واحد شايل ذقنه، والتانى زعلان ليه؟ هل طلبنا منكم أن تساعدونا على الارتداد إلى الكفر، والعياذ بالله؟ وهذا طبعا إن كان هناك عاقل أو حتى مجنون يفكر فى ترك الهدى والعودة إلى الضلال! إننا، معشر المسلمين، أصحاب الأغلبية الساحقة الماحقة فى البلاد، ومع هذا لم نفكر قط فى يوم من الأيام فى فرض الإسلام عليكم، على حين أنكم، وأنتم أقلية لا تزيدون على أكثر تقدير حسب إحصائيات الأوربيين أنفسهم عن نحو 6% قبل أن تكثر هجرتكم وتتقلص مواليدكم فتقل نسبتكم بدورها عن ذلك، تريدون أن تعيدونا نصارى مثلكم. ورغم ذلك كله لا تكفون عن الزعم بأن الإسلام دين دموى وأننا نحن المسلمين إرهابيون نفرض ديننا على الآخرين بالسيف. أليست هذه مفارقة مضحكة؟ أليس هذا دليلا على مدى تأصل الكذب والتضليل فى نفوس القوم وأن أمثال يوتا ابن العبيطة مرضى نفسيون لا يُرْجَى لهم شفاء؟ إن الأمم النصرانية هى التى تحتل بلاد المسلمين وتستنزف ثرواتهم وتتآمر عليهم وتصنع كل ما فى استطاعتها لمنع المسلمين من امتلاك أسباب القوة ومحاصرتهم والتنكيل بهم والتطاول على نبيهم ودينهم منذ عدة قرون، ومع هذا يجد ابن العبيطة فى نفسه الجرأة كى يتهم المسلمين المظلومين المسحوقين على أيدى الأمم الغربية النصرانية بأنهم قتلةٌ إرهابيون!
* اسمع يا عبيط يا ابن العبيطة: إنكم تظلون خانعين وادعين ما دمتم تَرَوْنَ أنفسكم ضعفاء، وتذهبون حينئذ ترددون كلامكم الممجوج عن المحبة والسلام والتسامح، حتى إذا ظهر للإسلام عدو وظننتم أنه يمكنكم الاستعانة به لضربه فى مقتل فسرعان ما تنقلب الحملان الخانعة الضارعة الوادعة ضباعا وذؤبانا شَرِسَةً نـَهِسَة، وتشرعون فى التهديد والسب والتطاول والتباذؤ غير مبقين للسلام مكانا ولا مفكرين فى الغد حين ينكسر هذا العدو وينصرف عنكم ويترككم وحدكم. حدث هذا، على سبيل المثال لا الحصر، أثناء الحملات الصليبية والحملة الفرنسية والاحتلال البريطانى، ثم هذه الأيام أيضا استقواءً بأمريكا وإسرائيل. لقد بات كثير من المسلمين يتساءلون، وهذه أول مرة يثور فيها ذلك التساؤل لدى المسلمين: ترى هل أخطأنا نحن أهل التوحيد حين تركنا النصارى على دينهم ولم نعمل على إفنائهم كما صنع نصارى الأندلس بالمسلمين هناك بعدما كُتِب لهم النصر عليهم حتى صارت تلك البلاد كلها مثلِّثة لا تُسْمَع فيها كلمة التوحيد لعدة قرون؟
إن النصارى متى ما ملكوا فى أيديهم أسباب القوة والسيطرة فسرعان ما يطبقون ما هو منسوب للمسيح فى الأناجيل من أنه لم يأت بالسلام بل بالسيف والخصومات والعداوات، فضلا عما فى العهد القديم من الأوامر المنسوبة لله سبحانه بإبادة بنى إسرائيل للأمم الأخرى رجالا ونساء وأطفالا وحيوانات دون الإبقاء على أية نسمة حية لا لشىء سوى أنهم "آخَرون" متى أمكنتهم الفرصة. والعهد القديم، كما نعرف، جزء لا يتجزأ من الكتاب المقدس الذى يؤمن به النصارى. أما فى القرآن الكريم والسنة المطهرة فلا وجود لشىء من هذا على أى وضع من الأوضاع. لقد ترك المسلمون الفاتحون نصارى الأندلس مثلا كعادتهم فى التخلية بين أصحاب كل دين ودينهم دون التدخل فى شؤونهم أو التضييق عليهم وإكراههم على ما لا يريدون، فكانت النتيجة وبالا عليهم حين انقلبت الموازين. أفلا يحق للمسلمين أن يطرحوا هذا السؤال إذن؟ لقد كانوا يحفّظوننا فى المدرسة قوله سبحانه وتعالى: "لا إكراه فى الدين. قد تبَيَّن الرُّشْد من الغَىّ"، "ولو شاء ربك لآمن مَنْ فى الأرض كلُّهم جميعا. أفأنتَ تُكْْرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟"، "ولا يزالون (أى البشر) مختلفين* إلا مَنْ رحِم ربُّكَ. ولذلك خلقهم"، "وقاتلوا فى سبيل الله الذيين يقاتلونكم ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين"، "وإن جَنَحُوا للسَّلْم فاجْنَحْ لها وتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين"، "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألْقَوْا إليكم السَّلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طِيب نفسه فأنا خصيمه يوم القيامة"، "لا تتمنَّوْا لقاء العدو. ولكن إذا لقِيتموهم فاثبتوا"، إلى جانب صحيفة المدينة التى تعطى كلا من المسلمين واليهود نفس الحقوق، وتكلفهم نفس المسؤوليات بالعدل والقسطاس. ثم فوجئت بزميلى النصرانى فى السكن المفروش فى لحظة سهو منه غاب فيها عقله ولم يأخذ حذره، وكان ذلك بُعَيْد تولى شنودة رئاسة الكنيسة الأرثوذكسية بقليل، يقول لى على حين بغتة، ونحن واقفان فى الشارع بين الظهر والعصر، إن النصارى هم وحدهم أصحاب البلد، وإن المسلمين الموجودين فى مصر ليسوا مصريين حقيقيين، بل عربا جاؤوا من الجزيرة العربية واستقروا فيها. ووالله ثم والله لقد كنا نحن الشبان المسلمين فى الشقة المفروشة نعامله أحسن معاملة، ولم نكن نضع فى ذهننا وقتها أننا مسلمون وأنه نصرانى.
إذن ففى الوقت الذى علَّمونا فيه فى المدرسة أن رسول الله (الذى يسبونه فى جلافة وإجرام وانحطاط ما بعده انحطاط) سيخاصمنا يوم القيامة إذا ظلمْنا أحدا من أهل الذمة، كانوا هم يعلمون أولادهم فى الكنيسة أنهم هم وحدهم أصحاب البلد وأننا نحن الأربعة والتسعين فى المائة (على الأقل) من السكان أجانب غرباء عن البلاد ينبغى أن يعودوا من حيث أَتَوْا. هل رأى أحد لوحة عبثية مثل تلك اللوحة البائسة؟ ثم إنهم بعد هذا كله يزعمون أننا نضطهدهم ونؤذيهم، مثلما يكذبون فيدّعون أن المسلمين فى أرض المحروسة ليسوا مصريين بل عربا، وكأن البضعة عشر ألفا من العرب الذى أتوا إلى مصر قد تكاثروا حتى أصبحوا الآن نحو سبعين مليونا، على حين تقلصت الملايين التى كانت تسكن مصر فى ذلك الوقت إلى أن أضحت بضعة ملايين فقط لا غير. أليس هذا أمرا مضحكا؟ لكن علامَ يدلّ؟ إنه يدل على الكذب الفاجر السافل! ثم يزعمون مع ذلك أنهم أصحاب سلام وتسامح، وأن المسلمين قتلة إرهابيون. وهل يُنْصَر دين الله الحق بمثل هذه الكذب الإجرامى؟
هل نقض الأقباط العهد؟
بقلم: د. رفيق حبيب
تشهد مصر حالة من الصراع السياسي، والذي عبر عن نفسه كثيرا في صراع حول الهوية. وهذه الخلفية ضرورية لفهم موقف الأقباط، أو لمتابعة مواقف الأقباط المتنوعة، والبحث عن موقفها من الأسس التي قامت عليها الجماعة المصرية، وهنا نسأل هل يريد الأقباط أو فريق منهم تغيير الأسس التي قامت عليها الجماعة المصرية تاريخيا؟ والحقيقة أن هناك العديد من المواقف القبطية التي نراها ترفض علاقة العهد التي قامت بين المسلمين والمسيحيين في مصر، تلك العلاقة التي أسست للجماعة المصرية الواحدة، التي تتميز مكوناتها وتتضامن في آن واحد. وأول هذه المواقف هي تلك الخاصة بالانتماء العربي والإسلامي، فهناك رؤية قبطية تريد تأسيس الجماعة المصرية بوصفها جماعة متميزة عن محيطها ولا ترتبط به، وبالتالي يصبح الانتماء المصري نافيا لأي انتماء عربي أو إسلامي. وهذه الفكرة تعني رفض انتماء المسلم المصري لأمته الإسلامية. وهذا المعنى يحرم المسلم من جزء أساسي في عقيدته، وهو الأخوة الإسلامية وأهمية بل ضرورة تحقيق وحدة الأمة الإسلامية. وبهذا تكون هذه الفكرة تفرض شرطا يؤثر على تميز فئة ويفرض عليها ما يخالف ما تؤمن به، رغم أنها تمثل الأغلبية. وبهذا تكون فكرة إخراج مصر من الانتماء العربي والإسلامي، فكرة تهدم عقد العهد بين المسلم وغير المسلم، لأن هذا العقد حفظ لكل منهما التزامه بعقيدته، كما أن عقد العهد بينهما، قام على أساس الحفاظ على التوجهات العامة للأغلبية، بأن تكون توجها عاما للجميع، بمعنى أن العهد قام على أساس أنه بين المسلم والمسيحي في مصر، وهو في ذات الوقت عهد أمة المسلمين جميعا مع المسيحيين وغيرهم في البلاد العربية والإسلامية جميعا. ولهذا تصبح فكرة تأسيس الجماعة المصرية على أسس تفك رابطها بالأمة العربية والإسلامية، خروجا من العهد.
ومن جانب آخر، نجد بعض الرؤى لدى الأقباط تقوم على فكرة تأسيس المساواة بين المسلم والمسيحي في مصر من خلال التدخل الخارجي، ومن خلال القواعد الدولية والمواثيق الدولية. وهنا نواجه مشكلة الاستعانة بطرف خارجي لحسم قضية داخلية بين طرفي العهد الداخلي المؤسس للجماعة المصرية. وهذا التوجه يحمل مشكلتين، الأولى تتعلق بالاستعانة بطرف خارجي، خاصة وأن هذا الطرف على عداء مع الأمة الإسلامية، نقصد الإدارة الأمريكية خاصة. المشكلة الثانية، أن هذا التدخل الخارجي يقوم على فرض معايير دخيلة على الجماعة المصرية، وهي غير المعايير التي قامت عليها الجماعة المصرية. وبهذا يكون طلب التدخل الخارجي منهيا لعقد العهد بين المسلم والمسيحي، لأن هذا العقد لا يسمح باستدعاء طرف خارجي، كما أن عقد العهد ينتهي تلقائيا في حالة التعاون من أي طرف مع طرف آخر تراه الأمة بأنه عدو. يضاف لهذا أن الاتجاه القبطي المنادي بالتدخل الخارجي، غالبا ما يقوم بهذا من داخل منظومة فكرية علمانية، أي أنه لا يطلب التدخل الخارجي فقط، بل يطلب علمنة النظام السياسي والمجال العام أيضا. وبعض التوجهات القبطية كغيرها من التوجهات لدى بعض النخب من المسلمين تنادي بالعلمنة، أي تطبيق العلمانية في مصر، حتى وإن لم تطالب بالتدخل الخارجي. ونرى هنا أن فكرة تطبيق العلمانية في مصر تعني محاولة تغيير الرؤية السياسية الحاكمة للجماعة المصرية، ومطالبة هذه الجماعة بتأسيس كيانها ووجودها التاريخي والاجتماعي والسياسي على أسس جديدة. وهذه الدعوة في تصورنا، هي دعوة للجماعة المصرية لتبني مرجعية جديدة عليها، وبالتالي الخروج من مرجعيتها السابقة، أي المرجعية العربية الإسلامية. وتوصيف ذلك، أن هناك دعوة علمانية تخرج عن الأسس التي قامت عليها الجماعة المصرية، وتطلب منها أن تتأسس على أسس جديدة. ومن يطالب بهذه الدعوة، سواء كان مسيحيا أو مسلما، فقد خرج من عقد العهد التاريخي القائم على المرجعية الدينية أساسا، ويدعو لمرجعية جديدة. وهنا يكون المحك الحقيقي لهذه الدعوة مرتبطا بالجماهير، فإذا أيدته فتكون بذلك قد رأت أن تؤسس مستقبلها على أسس جديدة، أما إذا رفضت فهي صاحبة الاختيار ومصدر السلطات. ولكن المشكلة تكمن في محاولة البعض جعل كل الأقباط مع هذه الدعوة، وهنا يكون كل الأقباط خارج دائرة العهد، وكلهم يطالب الجماعة المسلمة بقواعد أخرى لتأسيس الجماعة المصرية. وتكمن المشكلة هنا في حالة رفض الجماعة المسلمة لهذه الرؤية، وهو رفض مؤكد، حيث تصبح الجماعة القبطية كلها خارج رابط العهد، وتدعو لرابط آخر، ترفضه الجماعة المسلمة.
قضية أخرى نراها تمثل واحدة من القضايا الشائكة، عندما تظهر اتجاهات بين بعض الأقباط ترفض بالجملة أي تطبيق للشريعة الإسلامية. وهذا الموقف يعني رفض الأقباط للأحكام الإسلامية في المجتمع المصري، وهو مجتمع مسلم، حيث أن أغلبيته مسلمة. وهذا الموقف ينقض عقد العهد تماما، ويعيدنا لفكرة بحث بعض الأقباط عن هوية جديدة تقوم على المصرية العلمانية. وهنا تتمثل المشكلة في أن الشريعة الإسلامية هي مرجعية الجماعة المسلمة، وهي أيضا مرجعية الجماعة المصرية عبر العديد من القرون، ومعنى ذلك أن أحد مكونات الجماعة المصرية يرفض إعطاء حق مكون آخر في تحديد مرجعيته رغم أنه يمثل الأغلبية. والمشكلة هنا أن عقد العهد القائم بين المسلم وغير المسلم، تأسس على الحفاظ على عقيدة كل طرف والتزامه بهذه العقيدة، وتأسيس المجال العام على أحكام عقيدة الأغلبية، والحفاظ للفئات الأقل عددا على التزامها بعقيدتها وشريعتها إذا خالفت شريعة الأغلبية. وبهذا يكون العهد قائم على المرجعية الدينية أساسا، وهو عهد نابع من الالتزام الديني. وبهذا يكون الاتجاه القبطي الرافض لتطبيق الشريعة الإسلامية، هو اتجاه يحرم الأغلبية من تطبيق مرجعيتها، رغم تعارض ذلك مع أسس الديمقراطية السياسية القائمة على الأغلبية. ولهذا نرى أن هذا الاتجاه يمثل توجها نحو العلمنة، ويصبح دعوة من حق الجماعة المصرية أن تقبلها أو ترفضها. ولكن نؤكد مرة أخرى أن من الخطورة أن تكون تلك الدعوة ممثلة لكل الأقباط، لأن معنى رفضها من الجماعة المسلمة، هو انتهاء عقد العهد بين المسلم والمسيحي في مصر، وتفكك الجماعة المصرية.
لهذا يصبح من الضروري أن يراجع كل طرف مواقفه، ومن المهم أن لا يوضع الأقباط جميعا في سلة واحدة، سواء من أصحاب الدعاوى التي تخرج على عقد العهد التاريخي بين المسلم والمسيحي، أو من الأقباط أنفسهم. لأن رهان الأقباط على مستقبل خارج أسس عقد العهد الذي تشكلت عليه الجماعة المصرية، يمثل مخاطرة في حق تاريخهم كجزء أصيل من الجماعة المصرية، ومخاطرة في حق مستقبلهم، ومستقبل الجماعة المصرية.
"عزازيل" للدكتور يوسف زيدان
الرواية التى أثارت الزوابع
تخاريف صائم، وشخابيط ناقد
د. إبراهيم عوض
فى لقاء تلفازى فى برنامج "العاشرة مساءً" خاص بمناقشة رواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان قدمته قناة دريم" منذ عدة أسابيع يفاجأ المشاهدون فى بداية الحلقة بالدكتور محمد الجوادى يتحدث "من منازلهم" متناولا الرواية بالنقد مؤكدا أن صاحبها قد خانه التوفيق، فهى فى نظره رواية دون المستوى، وتسىء إلى الكنيسة الأرثوذكسية. وكنت أشعر شعورا قويا، وأنا أتابع كلماته وتعبيرات وجهه وتلوينات صوته وحركات رقبته ونظرات عينيه، أنه لا يتحدث بما انتهت إليه دراسته للرواية، بل يقول ما يتصور أنه يرضى بعض الأطراف، وهو ما دفع المؤلف، بعد كلمتين عن لطف الجوادى وحلاوة شخصيته وما إلى هذا، إلى أن يمطره بأشد مما قاله هو فى الرواية، إذ كان رأيه أن الجوادى ليس ناقدا ولا أديبا، بل مجرد طبيب، وعليه ما دام الأمر كذلك أن يلتفت إلى عمله فى الطب وأن يترك الأدب للأدباء والنقاد، وبخاصة أنه، كما قال، لم يقرأ الرواية أصلا.
وقد كان الدكتور زيدان، والحق يقال، رابط الجأش حاضر البديهة، فلم يؤخذ بكلام الجوادى المباغت، أو بالأحرى: بكلامه الذى بدا لى مباغتا، إذ هو صديق للمؤلف حسبما فهمنا منه، فلم يكن من المتوقع أن يهاجم الصديق صديقه على مرأى ومسمع من ملايين المشاهدين بهذه الطريقة، وفى وقت تحتاج الرواية إلى من يدافع عنها، على الأقل: بإبراز أنها لا تسىء إلى النصارى الذين قيل إن كنيستهم تنوى مقاضاة المؤلف وجَرْجَرته فى المحاكم شأنها مع كل مسلم يبدى رأيًا لا يرضيها حتى لقد علق بعض الساخرين بأن الأمر بهذه الطريقة سوف ينتهى بوضع كل الكتاب المسلمين فى السجن إلى أن يتم إعدامهم على بكرة أبيهم كى تستريح الكنيسة فلا يفكر أحد فى أن يقول مما يعتقده فى ضميره كلمة ولا حرفا واحدا، ليتلوها تطهير مصر من المسلمين جميعا باعتبارهم أجانب غرباء جاء أجدادهم من الجزيرة العربية واحتلوها وأكرهوا النصارى المصريين على اعتناق الإسلام كما نسمع هذه الأيام فى كل مكان، فينبغى من ثم إخراجهم من أرض الكنانة وإعادتهم من حيث جاؤوا والقضاء على كل ما يمت بأية صلة لهم وللغتهم وللدين الذين جلبوه وفرضوه على أهل مصر. ومن هنا ندرك معنى قولى آنفا إن المؤلف كان رابط الجأش. وكان هذا شأنه أيضا فى الحلقتين التلفازيتين اللتين شاهدتهما فى قناتين مصريتين أخريين، وهو ما أعجبنى منه بغض النظر عن العوامل المسؤولة عن ذلك، وهل رباطة الجأش نابعة منه هو ذاته أو راجعة إلى اطمئنانه إلى مساندة بعض الجهات القادرة على تعضيده وعدم تركه وحيدا فى هذه المواجهة. كما أعجبنى أن ممثل الكنيسة فى هذا اللقاء، وهو القمص عبد المسيح بسيط، كان هو أيضا هادئا ضابطا لنفسه فلم يكن متشنجا أو غاضبا أو مقعقعا بالتهديد، وإن كان قد اختلف مع المؤلف فى بعض المضامين التى تتعلق بتاريخ الكنيسة وتطورات العقيدة النصرانية، مع حرصه فى ذات الوقت على أن يبدأ كلامه بالإشادة بالجانب الإبداعى فى الرواية إشادة بالغة، وهو ما شاركه فيه الضيفان الآخران: د. يحيى الجمل ود. وسيم السيسى، مما ارتاح له المؤلف بطبيعة الحال ارتياحا عظيما ولقى منه الرضا والابتهاج، ناسيا أن يعلق على كلامهما بما علق به على كلام الجوادى من أنه كلام لشخصين غير أديبين وغير ناقدين.
وهى قفشة أخذتها من قبل على الأستاذ رجاء النقاش، الذى كان قد كتب مدافعا عن نجيب محفوظ وروايته: "أولاد حارتنا" ضد التقرير الذى كتبه ضدها فى آخر الخمسينات الشيخ أحمد الشرباصى والشيخ محمد الغزالى، إذ قال إن قراءتهما للرواية إنما هى قراءة دينية لا تصلح لتناول الأعمال الأدبية لأنهما ليسا أديبين ولا ناقدين، وفى ذات الوقت قَبِلَ شهادة د. أحمد كمال أبو المجد ود. محمد سليم العوا فى حق الرواية رغم أنهما أيضا ليسا أديبين ولا ناقدين، ورغم أن الغزالى كان شاعرا، فضلا عن أنه صاحب أسلوب أدبى لا يجارَى فى حلاوته وحرارته، وأن الشرباصى كان متخصصا فى الأدب العربى ونقده وليس شيخا من شيوخ الدين كما أراد النقاش الإيحاء، على خلاف الدكتورين الفاضلين اللذين لا نعرف لهما مشاركة فى الأدب ولا يتسم أداؤهما الكتابى بشىء من خصائص الأساليب الأدبية رغم احترامنا لهما كرجلى قانون وكاتبين فى الشؤون العامة، وهى الصفة التى يشاركهما فيها د. الجمل، أما الدكتور السيسى فطبيب متخصص فى المسالك البولية، فلا علاقة له بهذا المعنى بالأدب ولا النقد هو أيضا. وبالمناسبة فقد أفلتت منه فى الحلقة كلمة تساوى مليارات الجنيهات، إذ كان الدكتور زيدان يشرح كيف أنه ما من شخصية أو فكرة على طول التاريخ لم تتعرض للانتقاد، ثم ساق دليلا على ما يقول أنه قد انتقد عمرو بن العاص ذاته، وهو (حسبما قال) "جَدّه"، فما كان من الدكتور السيسى إلا أن رد على البديهة ودون تفكير قائلا: إنه ليس جَدّك، فأنت مصرى. وقيمة هذه الكلمة العارضة تكمن فى أننا، مسلمى مصر الذين نشكل نحو خمسة وتسعين فى المائة من سكان المحروسة، كثيرا ما نسمع من رفقاء الوطن النصارى أننا عرب محتلون، وينبغى أن نعود من حيث أتينا، أى إلى الجزيرة العربية ونترك مصر لهم أو ندخل فى النصرانية إن استحببنا البقاء معهم فى بلاد اللبن والعسل بدلا من بلاد الشظف والقشف، ناسين أن الجزيرة العربية لم تعد بلاد جدب وفقر، بل بلاد بترول وألماس وياقوت وذهب ومرجان... أحمدك يا رب! وسلِّمْ لى من فضلك على مرزوق العُتَقى! وبطبيعة الحال لم يكن زيدان يريد المعنى المباشر لكلمة "جَدِّى"، بل يقصد المعنى الثقافى والدينى والحضارى، إذ نحن نَدِين لعمرو بن العاص دَيْنًا كبيرا، إذ لولا هو لكان لخريطة مصر التاريخية والثقافية والروحية شأن مختلف تمام الاختلاف. وهذا ما أراده الدكتور زيدان، وهو محق فى هذا كل الحق رغم أهمية الكلمة التى خرجت من فم السيسى تدوى كطلقة الرصاص. يسلم فُمّك يا دكتور: يا دكتور سيسى، ويا دكتور زيدان كليكما!
إلا أننا نعود فنقول إن موقف د. زيدان بوجه عام هو موقف أملته الطبيعة البشرية التى تعمل ما فى وسعها لإحراز النصر على الخصوم بكل وسيلة متاحة، وبخاصة أنه لم يكن لديه فى البث التلفازى المباشر على الهواء وقت للمراجعة والتأنى. ذلك أن كلام الشخص فى حلقة تلفازية غير كلامه حين يكتب فتكون أمامه فرصة للتحقق من صحة ما يقول ودقته وما إلى هذا، أما فى اللقاءات التلفازية، وبالذات المذاع منها على الهواء، فإن نصف مخ المتكلم يكون غائبا فى العادة، اللهم إلا من رحم الله فيكون ثلث مخه فقط ضائعا، "وليس الثلث بقليل" كما قال رسولنا الأعظم عليه الصلاة والسلام، علاوة على قلة الوقت المتاح ومقاطعة مقدم البرنامج له بغية إعطاء الأطراف كلها نصيبا متساويا من هذا الوقت القليل، وشعوره بأن خصمه يصوب إليه نظرات التربص وينتظر الفرصة كى ينقض على ما يتفوه به ليفنّده، ودعنا من إحساسه بأن هناك ملايين تشاهد البرنامج وقد أرهفت الآذان وأحدّت الأبصار وركّزت الأعصاب فى كل كلمة يلفظها، وكأن كلا منهم قد تحول إلى "الرقيب العتيد" الذى يحدثنا عنه القرآن، هذا الإحساس الذى يضغط هو أيضا على أعصابه ضغطا شديدا.
وإلى القارئ ما سبق أن قلته فى هذا الموضوع ضمن دراستى التى نشرتها منذ عدة أسابيع بعنوان: "قضية خاسرة ودفاع متهافت: رجاء النقاش يترافع عن أولاد حارتنا" بمناسبة صدور كتاب النقاش عن "دار الهلال" فى هذا الموضوع: "ونحن نقول للأستاذ النقاش، وإن كان انتقل إلى ذمة الله، إلا أنه حاضر معنا بكتاباته وآرائه ومواقفه، وبخاصة فى كتابه هذا الذى يدور عليه حديثنا الآن: إنك قد استفتيت بشأن "أولاد حارتنا" الدكتور محمد سليم العوا والدكتور أحمد كمال أبو المجد وطرت بما قالاه حتى لامست النجوم التى نراها فوق رؤوسنا، بل حتى تجاوزتها إلى نجوم المجرّة التى فوقها مما لا نراه الآن، وقد نراه فى مقبل الأيام إن كتب الله لنا عمرا طويلا ندرك به عصر المناظير الفلكية العملاقة التى سوف يتم اختراعها فى تلك الأثناء لترينا نجوم المجرات الأخرى، مع أنهما ليسا ناقدين بالمعنى الذى تريد، فكيف كان منك ذلك؟ إنهما أقرب إلى أن يكونا عَالِمَىْ دينٍ، وليسا ناقدين أدبيين. فلماذا قَبِلْتَ منهما ما قالاه عن الرواية المحفوظية وأثنيت عليه وطنطنت به، ورفضت أن يكون لأمثالهما ممن ليسوا بنقاد، أى ممن لم يدرسوا النقد مثلى ومثلك فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب أو أى قسم آخر يناظره، رأى يَرَوْنَه فى تلك الرواية؟ وهل كل النقاد الذين يملأون الساحة النقدية هذه الأيام وقبل هذه الأيام بزمن طويل هم من المتخصصين فى النقد الأدبى؟ بطبيعة الحال لا، فلم إذن تخص من تسميهم: "علماء دين" ممن لا يَحْسُن رأيهم فى رواية نجيب محفوظ بالحرمان، وكأننا فى محكمة من محاكم التفتيش؟
ألا يكفى أن يكون لدى الشخص اطلاع جيد على الأعمال الأدبية ومعرفة بالطريقة التى ينبغى التعامل معها من خلالها؟ وهل يفعل الدارسون فى أقسام اللغة العربية والأدب العربى شيئا آخر غير هذا؟ صحيح أن الدراسة المنظمة قمينة أن تكون أفضل، إلا أن ثم كثيرا من النقاد استطاعوا تكوين شخصياتهم النقدية بالقراءة الحرة والعكوف على الكتب والدراسات التى من شأنها إعانتهم على أداء هذه المهمة. وهل كان سليمان البستانى مثلا أو إبراهيم اليازجى أو جبران خليل جبران أو أمين الريحانى أو روحى الخالدى أو شكيب أرسلان أو الرافعى أو العقاد أو الزيات أو محمد لطفى جمعة أو محمد عبد الغنى حسن أو مصطفى عبد اللطيف السحرتى أو جورج طرابيشى أو لطفى الخولى أو محمد دكروب أو محمود أمين العالم أو حتى نجيب محفوظ ذاته من خريجى أقسام اللغة العربية الذين درسوا النقد الأدبى دراسة منظمة، ودعنا من الفُسُول من أصحاب الدبلومات الضِّحَال الثقافة والذوق الذين لا يستطيع الواحد منهم أن يكتب أو يقرأ جملة واحدة سليمة، فضلا عن أن يفهم النص الذى أمامه فهما صحيحا، وهم الذين يتصدرون مجالس الأدب والنقد هذه الأيام ويمدد الواحد منهم رجليه فى وجوهنا وكأنه جالس على المصطبة الملاصقة لبيتهم فى القرية ثم يفتى فى كل شىء وفى أى شىء، وهو يجهل كل شىء جهلا فاحشا يبعث على القىء، بل هو أجهل من الجهل ذاته إن كان هناك جهل يتجاوز ما نعرفه من جهل، وكل بضاعته كَمْ مصطلحًا من مصطلحات الخردة النقدية الغربية يرددها دون وعى ودون ذوق ودون عقل متصورا أنه قد جاء بالذئب من ذيله؟ الجواب هو "كلا" بالثلث. فلماذا لا تنكر على أى من هؤلاء قيامهم بمهمة الناقد الأدبى وحديثهم عن رواية محفوظ التى نحن بسبيلها؟ أقول لك السبب؟ إنه رفضك أن يكون هناك رأى فى رواية "أولاد حارتنا" يخالف ما ترتئيه. هذا هو السر، ولا سر سواه!".
وهو نفسه ما نقوله تعقيبا على نصيحة يوسف زيدان لمحمد الجوادى، وإن كنا نتفهم الدوافع التى حدت به إلى الرد عليه بهذه الشاكلة، فقد شعرتُ، وبعض الشعور إثم، وإن كان بعضه الآخر حقا كل الحق، أن الجوادى يريد توصيل رسالة ما إلى جهة ما لا أن يقول رأيه فى الرواية، التى جزم الدكتور زيدان بأن صديقه لم يقرأها. وأنا أميل إلى تصديق زيدان لأكثر من سبب: فلو كان الجوادى قرأ الرواية لاتصل بمقدمة البرنامج عقب سماعه هذا الكلام ونقض ما قاله زيدان. بل لو كان قرأ الرواية لكان اتصل قبل ذلك بصاحبها وناقشه فيها، وبخاصة أنهما صديقان كما فهمنا من كلام الدكتور زيدان. وفوق هذا فهو لم يخصّ بالحديث شيئا معينا فى الرواية، بل كان حريصا على أن يكون هذا الحديث عاما لا يمكن الإمساك بشىء منه ومناقشته. ومن هنا شعر يوسف زيدان، فيما أظن، أن عليه رد التحية بأحسن (!) منها، فنفى عنه بكلمة واحدة القدرة على فهم الأعمال الإبداعية وتذوقها، ومن ثم العجز عن نقد الإبداعات الأدبية. ونقرة بنقرة، بل بثلاث نقرات، والبادئ أظلم. وهذا عكس ما قاله يحيى الجمل، ود. صلاح فضل، الذى اتصل هاتفيا بالبرنامج على ما هو متبع فى مثل تلك الحلقات بترتيب مسبق، إذ وصفا الرواية بأنها تتسم بالعذوبة والرقة والشاعرية.
ومما له صلة بفنية الرواية ما أثير من حديث عن صحة ما قاله مؤلفها فى بدايتها من أنها عبارة عن مذكراتٍ مخطوطةٍ كتبها راهب مصرى من أتباع نسطور فى أحد الديارات بمنطقة حلب ثم دفنها هناك حيث ظلت خافية عن الأنظار أكثر من ستة عشر قرنا، إلى أن قيض الله لها فى الفترة الأخيرة من اكتشفها بالمصادفة كما يقع فى مثل تلك الظروف، وقام الكاتب بترجمتها من السريانية التى كُتِبَتْ بها إلى اللسان العربى. ولم يكتف د. زيدان بهذا، بل زاد فأضاف إلى الرواية عِدّةً غير قليلة من الهوامش يُفْهَم من كل منها على نحو أو على آخر أنه ليس إلا مترجما لتلك المذكرات التى خلفها وراءه الراهب هيبا. وقد لاحظت أن كثيرا ممن قرأت ما كتبوه عن الرواية قد تكلموا عنها بوصفها مخطوطا سريانيا ترجمه الدكتور زيدان إلى العربية. وقد تباهى الدكتور زيدان فى الحلقة المشار إليها قائلا إن كل من قرأها جازت عليه الحيلة الفنية التى احتالها وظن فعلا أنها مخطوط سريانى، وأن كل دوره ينحصر فى الترجمة. وممن ذكرهم فى هذا السياق د. أحمد عتمان، الذى قال عنه إنه، بعد أن ألقى كلمته عن الرواية وأخذ راحته فى تحليلها فى إحدى الندوات، مال على أذنه وسأله هامسا: الرواية بطبيعة الحال مخطوط سريانى؟ أليس كذلك؟ وهو ما يدل، فى نظر زيدان، على استيلاء الرواية على أذهان من قرأوها بحيث إنهم استغرقوا فيها ولم يكتشفوا أنه هو مؤلفها وأن الراهب هيبا المصرى ليس إلا خَلْقًا من صنع خياله دون أن يكون له أى وجود تاريخى. ومن الطريف رغم هذا أن يعكس عبد المسيح بسيط المسألة مائة وثمانين درجة فيقول، فى حلقة "العاشرة مساء"، إن كل النقاد قد خطّأوا الكاتب لأنه أوحى للقراء أن الرواية حقيقية وأنها فعلا مذكرات تركها الراهب هيبا وراءه. أما الأنبا بيشوى فيقول إن زيدان "يتخذ من أحد المخطوطات السريانية سندا لروايته، مع مزجها بخياله الروائى". أى أن هناك فى رأيه مخطوطا سريانيا فعلا، وكل ما فى الأمر أن المؤلف قد مزجه بشىء من الخيال (انظر ما كتبه رامى النجار فى جريدة "المصريون" بتاريخ 19/ 9/ 2008م تحت عنوان "بيان منسوب للأنبا بيشوي ينتقد فيه رواية "عزازيل" ويتهم مؤلفها بمحاولة تدمير الأرثوذوكسية وبيان آخر ينفي عزله من المجمع المقدس").
ومماله صلة بتلك المذكرات التى قال الكاتب إن البطل هيبا قد تركها وراءه موحيا بهذه الطريقة أنها مذكرات حقيقية وأن دوره هو ينحصر فى نقلها من السريانية إلى العربية أن شماسا من الدقهلية يُدْعَى: هانى اتصل بحلقة "العاشرة مساء" على الهواء مطالبا المؤلف أن يوضح للمشاهدين أين وجد هذه المخطوطة. أما الأستاذ جمال أسعد فكان واعيا بأن المسألة لا تعدو أن تكون حيلة فنية، إذ كتب فى مقال نشره فى 2/ 9/ 2008م بجريدة "المصريون" عنوانه: "الإبداع الفني والرقابة الدينية" قائلا إن رواية "عزازيل" "هي عمل أدبي أوهم فيه المؤلف القارئ بأن أحداثه استقاها من خلال مخطوطات سريانية". بل إنه زاد فدافع عن حق المؤلف فى كتابة ما يشاء على النحو الذى يشاء، مؤكدا أن "هذا الإيهام جائز حتى أن العمل يدخل تحت بند الإبداع الأدبي ولا علاقة له بالعقيدة الدينية".
فأما فيما يخصنى فقد أقبلت، والحق يقال، على الرواية بوصفها مخطوطا سريانيا ترجمه يوسف زيدان، وإن كنت استغربت أن يعرف الدكتور يوسف اللسان السريانى، وهو المتخصص فى الفلسفة، لكنى رددت على نفسى بأن ذلك ربما يكون راجعا إلى اهتمامه بالمخطوطات، التى من بينها مخطوطات سريانية كثيرة تهم دارس النصرانية فى تلك العصور، ومن ثم قد يكون تعلَّمها ببادرة ذاتية لا من خلال التخصص. إلا أننى ما إن مضيت قليلا فى القراءة حتى تيقظ عفريت الشك فى صدرى، إذ إن بناء الرواية بناء عصرى تماما، كما أن لفتات الذهن والاهتمامات العقلية والوجدانية التى تحرِّك الكاتب هى لفتات واهتمامات عصرية أيضا. وكان من بين ما حاك فى قلبى ولم أتقبله بسهولة أن يُقْدِم راهب فى تلك العصور فيكشف ستر الله الذى ستره به ويتحدث عن ممارسته للفاحشة مع الخادمة التى رآها على شاطئ الإسكندرية أول ما وصل إليها من بلده إخميم وعام فى بحرها وكاد أن يغرق لولا لطف الله به، فكانت أول إنسان يتعرف إليه. وفضلا عن ذلك فالرواية فى هذه النقطة تقوم على المصادفات الساذجة التى يستبعد الذهن أن تحدث فى الواقع على هذا النحو السلس الذى وقعت به فى الرواية. صحيح أن القَصَص القديم كان يقوم فى كثير من الأحيان على هذا اللون من المصادفات، بيد أننا هنا لسنا بإزاء قصة خيالية نسجتها يد أحد المؤلفين القدماء، بل تلقاءَ حكايةٍ المفروضُ أنها قد حدثت فعلا. أضف إلى هذا أن الكنيسة المصرية أبدت غضبها وقيل إنها بسبيلها إلى رفع دعوى قضائية ضد الدكتور زيدان لإهانته العقيدة النصرانية. فلو كانت الرواية مترجمة لما كان هناك مجال للكنيسة كى تغضب وتفكر فى مقاضاة الدكتور، إذ هو مجرد ناقل لنص موجود فعلا لا منشئ له. وهذا إن كان هناك أى أذى فى الكتاب للكنيسة أو لأتباعها. وكنت، كلما مضيت فى القراءة، تيقّن لدىّ أننى أمام رواية ألفها د. زيدان لا مخطوط سريانى اقتصر دوره على ترجمته... إلى أن استمعت إليه، فى تسجيل للحلقة المذكورة فى موقعه المشباكى، يقول إنه فى الواقع مؤلف الرواية لا مترجمها، فلم يكن لإقراره هذا أى تأثير لدىّ، إذ كنت قد وصلت إلى ذلك منذ وقت مبكر من مطالعتى لــ"عزازيل".
وهناك فى أدبنا الحديث من أراد أن يحتال على قرائه قبل د. زيدان ذات الحيلة التى احتال هو بها على قرائه، فقد كتب الفيلسوف الجزائرى مالك بن نبى، فى مقدمة سيرته الذاتية التى أصدرها فى جزأين بعنوان "مذكرات شاهد القرن"، أنها مخطوط وجده بجواره بعد أن فرغ من صلاة العصر منفردا فى ركن ناء بمسجد قسنطينة، الذى كان المستعمرون الفرنسيون قد حولوه إلى كاتدرائية طوال قرن كامل، وذلك عقب الاستقلال عن فرنسا بثلاثة أعوام. وكان قد شعر، وهو مندمج فى صلاته، بشخص يتسلل فى خفة وسكون إلى جانبه حيث ترك لفافة من الأوراق عن يمينه وانصرف من فوره، فاضطر هو فيما بعد إلى فتحها، ليكتشف أنها مخطوطٌ جِدُّ هامًّ ألفاه جديرا بالنشر فنشره. وفى الآداب الأجنبية يمكن أن نشير إلى رواية "دون كيشوت"، التى ألفها فى السجن الكاتب الإسبانى سرفانتس وادعى أنها فى الأصل مخطوط خلّفه مسلم إسبانى (موريسكى)، وانحصرت مهمته هو فى نشره للقراء. وقد أشار د. صلاح فضل إشارة سريعة إلى شىء من هذا فى مداخلته على الهواء فى الحلقة المومإ إليها، كما أشار أيضا إلى قيام رواية "وردة" لألبرتو إيكو على مثل هذه الحيلة.
وفى مادة "Don Quixote" من النسخة الإنجليزية من الموسوعة المشباكية الحرة: "الويكيبيديا: Wikipedia" نقرأ أن "Cervantes created a fictional origin for the story based upon a manuscript by the Invented historian, Cide Hamete Benengeli". وهو ما نجد شيئا من التفصيل له فى النسخة الفرنسية من ذات الموسوعة حيث نجد ما يلى: "Cervantès déclare que les premiers chapitres sont tirés des «Archives de La Manche» et le reste traduit depuis l’arabe de l’auteur morisque Cid Hamet Ben Engeli, l’enchanteur qui tire les ficelles de don Quichotte tout au long du roman".
وفى "أولاد حارتنا" نرى نجيب محفوظ يتبع خطة قريبة من هذه، إذ يقول على لسان الرواى: "هذه حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا، وهو الأصدق. لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذى عاصرته، ولكنى سجلتها جميعا كما يرويها الرواة، وما أكثرهم! جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات. يرويها كلٌّ كما يسمعها فى قهوةِ حيِّه أو كما نُقِلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لى فيما كتبتُ إلا هذه المصادر... شهدتُ العهد الأخير من حياة حارتنا وعاصرت الأحداث التى دفع بها إلى الوجود "عرفة" ابن حارتنا البارّ. وإلى أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل فى تسجيل حكايات حارتنا على يده، إذ قال لى يوما: "إنك من القلة التى تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ إنها تُرْوَى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجَّل بأمانة فى وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها. وسوف أمدّك بما لا تعلم من الأخبار والأسرار". ونشطتُ إلى تنفيذ الفكرة اقتناعًا بوجاهتها من ناحية، وحبًّا فيمن اقترحها من ناحية أخرى. وكنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة فى حارتنا على رغم ما جره ذلك علىَّ من تحقير وسخرية. وكانت مهمتى أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى كثرة المتظلمين الذين يقصدوننى فإن عملى لم يستطع أن يرفعنى عن المستوى العام للمتسولين فى حارتنا، إلى ما أطلعنى عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيّق صدرى وأشجن قلبى. ولكن مهلاً، فإننى لا أكتب عن نفسى ولا عن متاعبى، وما أهون متاعبى إذا قيست بمتاعب حارتنا، حارتنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة: كيف وُجِدَتْ؟ وماذا كان من أمرها؟ ومن هم أولاد حارتنا؟". ولعل الفرق الوحيد بين الحيلتين أن محفوظ لم يقل بصريح العبارة إنه مجرد ناشر لما كتبه ذلك الرواى، الذى من الواضح أن كاتبنا قد عمل بكل قواه على إيهام القراء أنه شخص آخر غيره. أى أننا، فى ظاهر الأمر، أمام مخطوط كتبه شخص ما غير نجيب محفوظ، ثم وصل هذا المخطوط إلى يده فأداه إلينا كما وقع له، كما أن البيئة والناس اللذين ينتمى إليهما يختلفان عن البيئة والناس اللذين ينتمى إليهما كاتبنا الكبير، وإن لم يعبر هو عن هذه النقطة الأخيرة تعبيرا واضحا مباشرا كما فعل الدكتور زيدان فى مقدمة روايته.
وككل عمل أدبى سوف نتناول رواية "عزازيل" من الناحتين: الفنية والمضمونية، رغم وعينا بأن هذا التقسيم لا وجود له فى واقع الأمر، وإلا لصار العمل الأدبى من ناحيةٍ مجموعةً من الأفكار العادية جدا يستطيع أن يقولها كثير من الناس دون أن يكون لها أى وقع على النفس، ولوجدنا أنفسنا من الناحية الأخرى أمام شكل مجرد لا يمكن الإمساك به ولا الإحساس بتميزه. ولنا هنا فى الإنسان أسوة، فما إن تفارق الروح الجسد حسبما نعتقد نحن المؤمنين بالله وبالآخرة حتى يئيض الجسد بعد قليلٍ جثة منتنة سرعان ما يعيث فيها الدود فتستحيل رمادا وينتهى أمرها بالنسبة للدنيا ومن فيها بعد أن كانت كائنا حيا يملأ الدنيا صخبا وضجيجا ويمتلئ بالآمال والآلام والأفكار والمخاوف والمطامح ويدفع من حوله إلى الانشغال به واتخاذ المواقف المختلفة نحوه ونحو ما يرمز إليه ويمثله... إلخ. أما الروح فأين هى حتى يمكن التعامل معها، فضلا عن الشعور بها؟ إنها هناك عند ربها لا ندرى من أمرها شيئا. ومع هذا كله مما يعرفه النقاد ويرددونه كثيرا إلى درجة الإملال فإننا نشعر برغبةٍ مُلِحّةٍ فى التذكير بهذه الفكرة التى تبين أننا حين نتعامل مع النصوص الأدبية فلا بد أن نتعامل معها باعتبارها شكلا ومضمونا، وإلا صعب علينا، بل ربما عجزنا فى الحقيقة، عن أن نقول فيها شيئا. وكلنا رجاء ألا تضيق صدور القراء بهذه التذكِرة.
ولقد سبق أنْ وَصَفَ ضيوفُ الحقلة المذكورة روايةَ زيدان بأنها بالغة العذوبة والرقة. وهى بالفعل كذلك إلى حد بعيد. وسببه أن الراوى راهب غير تقليدى، فهو لا يؤدى الفروض ويقوم بواجبات الرهبنة كما ينبغى أن يؤديها كل راهب سواء اقتنع بما يصنع أولا، وسواء كان لهذا الذى يصنع وقع فى قلبه أو لا. كما أن هذا الراهب، واسمه: "هيبا"، لم يكن يعطى دائما ظهره للحياة متجسدة فى المرأة بوجه خاص، بل كان يقدر حلاوتها ويتشهاها، وإذا ما أتيح له أن يتذوقها لم يتردد فى أن يمد يده ويقطف ثمارها ويملأ بها فمه دون تردد، ويظل طول الوقت يصف هذه الحلاوة ويصف إحساسه بها، ناسيا أثناء ذلك أن هذه الثمرة ثمرة حرام، وأن السبيل القويم أمامه هو هجران الرهبنة والإقرار بأن لنداء الحياة قوة وجاذبية لا تقاوَم مثلما أَفْهَمَ الإسلامُ أتباعَه وحرّم من ثم الرهبنة ولم يكلفهم من الأمر عنتا لا تستطيعه الفطرة ولا يصلح لها بل يفسدها إفسادا شنيعا، وهو ما صنعه هيبا فى آخر المطاف. ومن العجيب أن المؤلف لم يضع هيبا فى هذا الموقف إلا مع امرأتين اثنتين ليس غير على مدى عشرات السنين مع أن النساء موجودات حوله طوال الوقت، وصراخ الغريرة فى الجسد والنفس لا يعرف الصمت، وبخاصة فى جسد هيبا ونفسه كما أرتنا الرواية. ونضيف إلى كل ما مر أن الرواية مكتوبة بضمير المتكلم، وهذه الطريقة تقرّب البطل من نقوس القراء وتضفى على ما يكتبه شاعرية، أو مزيدا من الشاعرية إذا كان الموضوع بطبيعته شاعريا. وهيبا من جهة أخرى إنسان متفتح العين والأذن لكل ما هو جميل فى الطبيعة أيضا، فهو دائما ما يصف السحاب والحقول والشروق والغروب والجبال والسهول وما إلى ذلك. ثم لا ننس أن هذا جميعه قد صاغه يراع زيدان، وهو شاعر كما ربما لا يعلم كثير من القراء، وفوق هذا فهو متمكن من الصياغة اللغوية إلى حد كبير كما هو بين جلىّ.
ولعل هذا العامل الأخير هو السبب فى أن كثيرا من ألفاظ الرواية مشكولٌ على غير عادة قصاصى عصرنا، الذين يتسم نتاج كثير منهم بالضعف الشائن فى اللغة ونحوها وصرفها، وبالتالى فإن تشكيل الألفاظ فى كتاباتهم أمر غير وارد بالمرة، وإلا كانت فضيحة، اللهم إلا إذا أوعزوا لبعض المتضلعين من اللغة وقواعدها وآدابها أن يُعْمِلوا قلم الإصلاح والتهذيب فيما يكتبون، وهو أمر لا يخطر لهم ببال لضحولة ثقافتهم اللغوية بل لضحولة ثقافتهم عموما، وإن ظن القراء الطيبون أن تحت قبابهم شيوخا مطمطمين، أما غير الطيبين من القراء، وهم فئة النقاد المطلعين على حقائق الأمور فيقولون: لا شيخ تحت القبة ولا يحزنون، لأننا قد دفنّا هذا الذى تحت القبة معا، فنحن نعرف أصله وفصله. وبالمناسبة فقد فوجئت بمقدمة البرنامج الأستاذة منى الشاذلى، وهى تقرأ فقرة من كتاب "عزازيل" لتثبت أنه يخلو من الإساءة إلى أحد، أنها قد قرأت الفقرة قراءة سليمة غاية السلامة، وهو أمر لم نتعوده من مقدمى أو مقدمات مثل هذه البرامج. وحتى لو كانت قد ضبطت مسبقًا الفقرةَ التى كانت تنوى أن تقرأها على الجمهور أو استرشدت بمن قرأتْها عليه وصححها لها فإن ذلك يُحْسَب لها بكل تأكيد، إذ يدل على حرصها على الظهور فى برنامجها فى أحسن صورة، كما يدل على احترامها للغة بلدها وحضارتها مما لا يفقه معناه كثير من المثقفين أو ممن يقال عنهم إنهم مثقفون رغم أن الثقافة لا تصح لمن يهملون شأن لغتهم، إذ الثقافة تشمل اللغة، بل تأتى اللغة على رأس مكوناتها كما يدرك العالمون. ولقد كنت، وأنا لا أزال بالجامعة، أضيق صدرا بقصص يوسف إدريس مثلا، التى بدأتُ التعرف إليها فى ذلك الوقت ورأيت كثيرا من النقاد يهللون لها أيما تهليل رغم امتلائها بالأخطاء التى من هذا النوع، وكأن تلك الأخطاء من الهوان وقلة القيمة بحيث لا تقدم ولا تؤخر. وكنت أقول: يجب على الكاتب، حتى لو كان ضعيفا فى اللغة كضعف يوسف إدريس بل فقره المعيب، أن يتقن لغته قبل أن يمتشق حسامها. أما إذا ما ابتلاه الله بالكسل واللامبالاة بهذا الضعف فعلى الأقل ينبغى أن يعهد بها إلى أحد المصححين يجيل فيها قلمه وينفى عنها ما فيها من وضر لا يليق. لكن على من تلقى مزاميرك يا داود؟ ولهذا السبب يرانى القارئ فى كتابى: "فصول من النقد القصصى" قد ألهبت ظهر إدريس وتهكمت على كثرة أخطائه اللغوية تهكما شديدا. ومع هذا يقتضينا الحق أن نقول إننى قد لاحظت فى المرحلة الأخيرة من كتاباته قبل وفاته اختفاء تلك الأخطاء البشعة واستقامة لغته كثيرا. ولعل لانضمامه إلى كُتّاب جريدة "الأهرام" دخلا فى ذلك، ففى "الأهرام"، كما فى الصحف المحترمة، مصححون لغويون ينظرون فى كل ما يُتْشَر فيها ولا يتركونه يخرج إلى القراء بعُجَره وبُجَره، أو كما نقول فى مصر بالعامية، وهو فى ذات الوقت مقبول فصحويا: "بِعَبَلِه"، وإن اكتسح التبلد السائد فى بلادنا فى جميع مناحى الحياة هذا الميدان أيضا فصرنا نقابل أخطاء كثيرة حتى فى كبريات الصحف.
وما حادثة الدويقة إلا مظهر من مظاهر هذا التبلد وتلك اللامبالاة.
ولا شك أن أمثال تلك الكارثة سوف تتكرر كثيرا كثيرا كثيرا كثيرا كما تكررت من قبل رغم تأكيدات المسؤولين الكذابين بأنها لن تتكرر بعد ذلك أبدا، ويأبى الله فى كل مرة يصرحون فيها بذلك إلا أن يخزيهم فتقع دائما كارثة أشنع عقب تلك التصريحات مباشرة. ولكنْ لا المسؤولون الكذابون يستحون فيكفون عن تصريحاتهم النارية العنترية، ولا الكوارث تستحى فتكفّ عن ترويعنا وإفعام قلوبنا بالرعب والحزن واليأس من صلاح الحال. والمضحك فى الأمر كله أن الناس تدعو الله دائما بالستر. ولأنى أحب الوضوح والصراحة أرانى لا أسكت، بل أنبرى فى الحال قائلا: لا أظنه تعالى سوف يستر علينا أبدا لأننا لا نستحق الستر: لا الحكومات ولا الشعوب. كما أن الله سبحانه لن يلغى سنن كونه من أجل كسلنا وإخلادنا فى كل أمورنا إلى "البَكَش والفهلوة وطريقة سلق البيض وشغل الثلاث ورقات"، فنحن ليس على رأسنا ريشة، بل نحن بعض خلقه يجرى علينا ما يجرى على غيرنا. ومن هنا أجدنى بوجه عام متشائما منذ زمن بعيد إلى حد بعيد، ولا أنتظر فى العادة خيرا من تلك الأحوال لمعرفتى بعيوب مجتمعاتنا القاتلة وحساسيتى لأوضاعنا المقلوبة فى كل ميادين الحياة ووعيى الحاد بأننا نعيش فى هذه المرحلة الحضارية خارج التاريخ والجغرافيا وخارج كل ما هو صحيح مستقيم! وما ظَنُّك بأممٍ ليس لها من عمل تقريبا فى الحياة إلا أن تأكل وتشرب وتتناسل، شأنها فى ذلك شأن الأبقار والطيور والأسماك والديدان والحشرات لا شأن البشر، وإلا فلم نحن متخلفون فى ميدان السياسة والاقتصاد والحرب والعلم والإبداع كل هذا التخلف؟ ولم نحن أذلاء وتافهون كل هذه المذلة والتفاهة حتى فى مجال الرياضة واللعب؟ وليست بعيدةً عنا فضيحةُ أوليمبياد بكين، وهذا مجرد مثال واحد فقط لا غير، وإلا فالفضائح والكوارث لا تكاد تنتهى!
كنت منذ بضعة أعوام فى أحد المؤتمرات النقدية ببلد عربى، وبعدما انتهيت من إلقاء ملخص بحثى الخاص بشعر المستشار حسن نجم رحمه الله عن قضية فلسطين، وهو البحث المتاح فى صيغته الكاملة فى موقعى وفى منتداى بموقع "واتا" وغيرهما من المواقع والمنتديات والذى أحمل فيه على الشعوب العربية حملة شعواء وأعلّق برقبتها قبل الحكومات مسؤولية ما هى فيه من تخلف ومذلة، قامت زميلة لا أدرى من أى بلد عربى قائلة فى استنكار: إلى متى سنظل نمارس جلد الذات بهذه الطريقة؟ فقلت لها: الواقع أننا قد تجاوزنا مرحلة الجلد، الذى ثبت فشله فى إيقاظ شعوبنا النائمة فى الـ... (ولا داعى لإكمال الجملة)، وأصبحت الشعوب بحاجة إلى إِرْزَبَّةٍ ينهال بها المصلحون على يوافيخها: فإما أيقظوها من بلادتها وخمولها، وإما حطموا هذه اليوافيخ العفنة تحطيما! والواقع أننى، مهما أَجَلْتُ النظر حولى، لا أستطيع أن أجد لتلك الشعوب نظيرا فى رضاها بالبؤس الذى هى فيه ولا بالخنوع الذى تمارسه باقتدار باهر وعبقرية فريدة، وأمام من؟ أمام حكام لا يساوى العشرة منهم فى سوق السياسة والإدارة والدهاء مليما صدئا! والمصيبة بل الكارثة أن هذا كله إنما يحدث فى القرن الحادى والعشرين وليس فى العصور القديمة ولا فى العصور الوسطى، أى بعد أن تنورت الشعوب وعرفت حقوقها وسحلت حكامها المستبدين التافهين من كل شاذ النفس والفكر لئيم الطبع مجرم السلوك لم يحسن أبوه وأمه ولا حتى الأيام والليالى ذاتها تربيته، ونصَّبت بدلا منهم من يعرف أنه إنما أتى إلى كرسى الحكم كى يخدمها لا ليبنى السجون فوق الأرض وتحت الأرض وفى الفضاء الخارجى وعلى سطح القمر والمريخ حتى يغيّب فيها زهرة شبابها ويقمع أية بادرة تحرُّك لدى القلة التى شذت عن أمتها ففكرت فى التغيير، على حين نرى سائر الشعب مشغولا بمتابعة أخبار الراقصات العاميات الجاهلات ومشاهدة مباريات الكرة المتخلفة ككل شىء تمسه أيدينا! ولا ننس أن من يساعدون الحكام فى فتكهم بشعوبهم إنما هم أبناء تلك الشعوب. بل إن الحاكم ذاته هو بعض نتاج تلك البيئة. أليس ابنا من أبناء تلك الشعوب؟ أم تُرَاه وارد الخارج؟
حين انتهيت من الفقرة السابقة بدأتْ بغتة "دون إحم ولا دستور" أغنية شريفة فاضل: "أمانة يا بكرة"، التى كان مذيع محطة الأغانى فى المذياع الموجود أمامى على المكتب قد أعلن عنها قبل نحو ساعة، وإن لم يحدد وقتها بالضبط، فقمت فى الحال وأطفأت النور وبقيت فى الظلام أغسل عن نفسى أوضارها وأقذاءها إلى أن انتهت الأغنية سريعا مثل أى شىء بهيج فى الحياة. ثم قلت فى نفسى وقد قمت لأشعل الضوء مرة أخرى كى أستأنف الكتابة: نعم، أمانة يا بكرة، أمانة يا غد العرب والمسلمين، لا تأت أبدا، لأنى موقن أنك لن تحمل إلينا الفرحة. ثم سرعان ما تذكرت أننى لست فى مناحة، بل فى نقد أدبى استطردتُ وابتعدتُ عنه طويلا وآن أن أعود عن طريق هذه الأغنية البديعة التى لا أدرى لِمَ لَمْ تستمر المطربة على النهج الراقى المصقول الذى كانت تتبعه فى أدائها وفضلت عليه اللُّوثة التى تسمى: "الغناء الشعبى". أجل، آن أن أعود إلى ما كنت فيه من نقد وأدب، فسرعان ما عدتُ أدراجى، والعَوْد أحمد، إلى الدكتور زيدان وروايته التى وصفها، كما سبق القول، ضيوف حلقة "العاشرة مساء" بأن فيها رقة وعذوبة (وشاعرية أيضا. لن يضر!)، وهو ما حاولت آنفا أن أعلله. غير أن هذا لا يعنى أبدا أن الرواية تَعْرَى من العيوب فى هذا المجال رغم تأكيد د. يحيى الجمل أنها من الناحية اللغوية أيضا عمل ليس له نظير. بل لقد قد أثنى القمص بسيط فى ندوتين تلفازيتين عليها من هذه الناحية أيضا، ولم ير فيها عيبا رغم أنه أشد المعارضين لها، وكتب يفند ما جاء فيها.
ونبدأ باللغة، وقد قلت إن أسلوب الكاتب محكم إلى حد بعيد، مرافئا بذلك ضيوف الحلقة المذكورة على أن فى الرواية شاعرية واضحة فى كثير من المواضع. إلا أن ثم ملاحظات عليها من ناحية اللغة والأسلوب رغم هذا. وأنا، حين أفتح هذا الباب، لا أفتحه تعالما، فالمسألة لا تستأهل، وبخاصة فى مثل سنى، كما أننى دائم القول بأن اللغة أوسع من أن يحيط بها إنسان كائنةً ما كانت عبقريته فيها واطّلاعه عليها وتضلعه منها وفراغه لها. كذلك فأنا ممن لا يسدّون بابا أبدا فى وجه أى استعمال ما دام له وجه من الصواب. ودائما ما أنبه الذين يحفظون بعض المقولات الشائعة عن خطإ ذلك اللفظ أو هذا الاستعمال مثلا ويعملون على تطبيقها بحرفيتها دون فهم ومراجعة، إلى أن من السهل القول بصحة لفظة أو عبارة، لكن الصعوبة فى تخطئتهما. ذلك أنه يكفى أن تجد عددا معقولا من الشواهد حتى يصح الاستناد إليها فى قبولهما، أما إذا أردتَ التخطئة فلا بد من تفلية اللغة كلها من "طقطق" إلى "سلام عليكم" كى تتأكد من عدم وجود الكلمة أو الاستعمال الذى تريد تخطئته بتاتا. وأَنَّى لإنسان ذلك؟ بل لو افترضنا أن شخصا ما قد حفظ المعاجم كلها على سبيل المثال وأنه فوق ذلك لا يمكن أن ينسى منها شيئا، وهو المستحيل بعينه، فيبقى أن اللغة لا تستوعبها المعاجم أبدا، إذ ما أكثر ما فات المعجميين من أمور. هذا بالنسبة إلى الصحة المعجمية، أما القواعد النحوية فإننى أرى وجوب احترامها وعدم إحياء اللهجات القبلية القديمة، اللهم إلا إذا كان هناك سبب قوى يدعو إلى ذلك، ويكون هذا على سبيل الاستثناء العارض.
من هنا لا أجدنى أخطِّئ من يكررون مثلا "بين" مع اسمين ظاهرين، ولا أشترط أن يكون أحد الطرفين اللذين تربط بينهما على الأقل ضميرا. ذلك أن ثم سياقات لا بد من تكريرها حتى مع الاسمين الظاهرين، وهذا كاف لنسف تشدد المتشددين فى هذا السبيل. وذلك من الناحية النظرية وحدها، فإذا ما علمنا أننى قد عكفت خمس ليال منذ نحو خمس عشرة سنة فى مدينة الطائف على كتاب "معجم البلدان" أستقرئ شواهده الشعرية حتى خرجت وفى كفىّ أكثر من عشرين شاهدا من عصور الاحتجاج على صحة ذلك التكرير تبين لنا أن من خطأوا تكرار "بين" مع الاسمين الظاهرين غير مصيبين. وبالمثل وجدت بضعة عشر شاهدا على مجىء جواب "كلما" فعلا مضارعا لا ماضيا كما يشترط المشترطون. بل لقد وجدت فى بعض تلك الشواهد أن فعلها ذاته قد أتى مضارعا. وهذا وذاك مما ينكره ويرفضه أولئك المتنوِّقون، أو إذا أحببت فقل: "المتنيِّقون"، فهناك من يقول إن "تنوَّق" بالواو خطأ، وهناك من يخطِّئ هذا المخطِّئ مؤكدا أنه استعمال صحيح، أما العبد لله فيجيز الاثنين. وإذا كان هناك من يخطّئ مجىء "واو" العطف" بعد "بل" بحجة أنه لا يصح تتالى حرفَىْ عطف، فإنى لا أرى فى هذا من بأس، إذ أُقَدِّر معطوفا قبل "الواو": وحده أو مع عامله، وذلك كما لو قال قائل: "لـَمْ آكل التفاح وحده، بل والكمثرى أيضا"، فإن تقديره هو : "بل (أكلت) التفاح والكمثرى أيضا". وبذلك تنحل المشكلة ببساطة. ومما يخطئونه أيضا، ولا أرى فيه ما يشين، مجىء "لا" بعد "قد"، وكذلك استعمال "يعتبر" بمعنى "يَعُدّ"، وإنْ قَلَّ لجوئى إلى هذين الاستعمالين. وقد صوب الأستاذ محمد العدنانى فى معجمه الاستعمال الأول استنادا إلى شاهد شعرى وعبارة وردت فى بعض كتب النحو القديمة على ما أذكر. وأضفت أنا بعض الشواهد الشعرية الأخرى. أما الثانى فقد وجدت العقاد على جلالة قدره يستعملها. أفلا يكفى هذا؟ ثم إن من الممكن لمح معنى "يَعُدّ" فى الفعل المغضوب عليه دون أية حساسيات لا داعى لها. وعلى هذه الشاكلة لا أرى خطأ فى قولنا: "العشرينات" و"الأربعينات" والتسعينات" دون "ياء نسب" بالضرورة، بل أرى أنها هى الأصل. وكذلك لا أرى أدنى خطإ فى استعمال كلمة "أثناء" الظرفية دون أن يسبقها الحرف: "فى"، إذ إن الظروف تتضمن دائما معنى "فى"، بالإضافة إلى أن القرآن استخدم "آناء" دون هذا الحرف، ولا فرق بين هذا وذاك، كما وجدت العرب القدماء قد استعملوا مفرده: "ثِنْى" عاريا عن هذا الحرف الجار، فما الـخَطْب إذن؟ وفى كلامى فى الندوات والمحاضرات ومناقشات الرسائل العلمية كثيرا ما أستخدم كلمة "فقرة" بفتح القاف ثم أعقبها بكسرها قائلا إننى أرى أن كلتيهما صحيحة. وليس هذا موضع بسط حجتى فيما أوردته هنا من مسائل، فكل ما أريده هو تحريك الأذهان ونفى إرادة التعالم عن الملاحظات التى أحب أن أوردها حتى يتنبه إليها القراء ويفكروا معنا فيها، ولعل أحدا منهم يهتدى إلى وجه من وجوه الصواب فيها أو فى بعضها فأتراجع عما قلته بشأنها رغم حرصى ألا أبتعد عما تقرر واستقر وأضحى قواعد راسخة. ومن المضحك أن كثيرا من الأساتذة الذين يناقشون الطلاب فى رسائل الماجستير والدكتورية يقعون أثناء المناقشة ذاتها فيما يؤاخذون عليه الطالب المسكين ويكررونه مرات دون أن يتنبهوا إلى هذه المفارقة الطريفة.
والآن مع الملاحظات اللغوية والأسلوبية التى ألفيتها فى الرواية. فمن هذه الملاحظات قول المؤلف على لسان هيبا: "أُلْهِمْتُ بأبيات أخرى (بدلا من "أُلهمت أبياتا أخرى"/ ص291). ذلك أن الفعل: "ألهم" هو من الأفعال المتعدية إلى مفعولين، ومن ثم لا حاجة به إلى أن نستخدم حرف جر مع مفعوله الثانى. ولقد وقعت يوما فى خطإ مشابه سببه أننى كتبت ما كتبته وأنا مرهق مريض، فضلا عن أننى لم أكن قد نمت كفايتى فى تلك الليلة العصيبة، وكان ذلك فى آخر مراجعة لى فى الكتاب الذى وقع الخطأ فيه فلم يتسن لى تصحيح ذلك الخطإ إلا بعد صدور الكتاب، إذ نبهت إليه وفضحت نفسى فى مقال لى مشهور بعنوان "أخطائى". أما الخطأ الذى وقعت فيه فهو تعديتى الفعل: "آتى" إلى مفعوله بحرف جر، إذ قلت: "يُؤْتِى بثمرةٍ طيبة" أو شيئا قريبا من هذا، وكان المفروض أن أقول: "يَأْتِى بثمرةٍ طيبة" أو "يُؤْتِى ثمرةً طيبة"، أما الجمع بين "آتى" والباء فهو خطأ. والقارئ النبيه لن يقوم فى رُوعه أننى كنت مريضا مرهقا فى غير حالتى الطبيعية حين كتبت ما كتبت، وبالتالى فلن يعذرنى، وله الحق كل الحق، فهو لا يشمّ على ظهر يده.
وفى موضع آخر يكتب المؤلف "العتّة" (ص398) بدلا من "العُثّ"، وهى فى الأناجيل بالمناسبة: "غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا الْعُثُّ" (رسالة يعقوب/ 5/ 2)، فلا عذر له إذن، فهو يتناول فى روايته الديانة النصرانية وتفسيرات كنائسها المختلفة لتلك الأناجيل، فضلا عن أنه شاعر ينبغى أن تكون معرفته باللغة أدق من هذا. وليس من المقبول أن يجهل واحد كالدكتور يوسف زيدان مثل تلك الصيغة الفصحوية. وعلى كل حال فالمفروض أن يجعل الكاتب مجموعة من المعاجم المختلفة بجواره وطوع يمينه، حتى إذا شك فى كلمة أو بدا له أن من الممكن أن يخطئ فيها أو ما إلى ذلك فتح تلك المعاجم واستشارها فأشارت عليه، وما خاب من استشار كما قال مولانا رسول لله صلى الله عليه وسلم. وكثيرا ما ألفيت المعاجم تقول شيئا آخر غير ما كنت أظنه هو الصواب. ولا يعيبنى أبدا أن أتكئ عليها، فأنا لست كاملا، وعلىّ أن أكتمل بها. ولا يصدق هذا علىّ أنا وحدى، بل على الجميع. بل ربما كان العبد المسكين أفضل من كثيرين غيره لاهتمامه الشديد باللغة منذ وقت مبكر وتخصصه فيها وحرصه على معرفة دقائقها وغرائبها والحديث بالفصحى فى المناسبات العلمية المختلفة: سواء فى المذياع أو المرناء أو المحاضرات أو الندوات أو المناقشات العلمية، حتى إننى لأجد نفسى فيها حينئذ ولا أجدها أبدا فى العامية، التى لا يسلس لسانى بها ساعتها البتة. وهنا أود أن أقول إننى كنت أوثر لو تكلم الدكتور زيدان ومناقشوه فى الحلقة المشار إليها بالفصحى حتى لو وقعوا فى أخطاء الإعراب، كما هو الحال فى قناة الجزيرة مثلا حيث يحرص الجميع على استعمال الفصحى مهما كان الأمر، ورغم وقوع مذيعيها أحيانا فى الخطإ حين يرتجلون. والزمن كفيل بسدّ هذه الثُّغْرة، كما أن الفصحى تضمن أن يفهم عنهم جميع المشاهدين أيا كان بلدهم، بخلاف العامية التى لن يفهمها (فهما كاملا على الأقل) فى تلك الحالة إلا أهل بلد المتحدث فقط.
ومما لاحظته على لغة الكاتب رغم ما تتمتع به من رقة وعذوبة فى غير قليل من المواضع أننى ألفيته يخطئ أحيانا فى إعراب اسم "إن" المتأخر فيرفعه بدلا من نصبه. وهى ملاحظة تصدق على كثير ممن يكتبون ولهم أسماء مشهورة. ولا بد أن أعترف أن هذه الملاحظة بالذات تشكل لى ما يمكن أن يلحق بما يسمى: "العقد النفسية"، إذ ما زلت أذكر تلك اللحظة التى قال لى أستاذ الفقه فيها بمعهد طنطا الدينى، وأنا طالب بالإعدادية قبل أن أترك الأزهر فى العام التالى إلى مدرسة الأحمدية الثانوية بنفس المدينة، وكان ساعتها يقرأ مجلة الحائط التى كنت علقتها خارج فصلى والتى كنت كتبت فيها مقالا أخطأت فيه ذلك الخطأ، إنه سوف يخبر الأستاذ صديق عوض أستاذ النحو بأنى أخطئ فى إعراب اسم "إن" المتأخر عن خبره. ولقد شعرت وقتها بالخجل الشديد، وأضحيت من يومها متنبها تنبها استثنائيا لهذه النقطة.
ومن الملاحظات اللغوية التى تكررت فى الرواية للأسف التركيب التالى الذى يجرى فيه الكلام على الأسلوب العامى: "صارت بيوت الشارع متباعدة عن بعضها" (ص78)، بدلا من "متباعدة بعضها عن بعض"، إذ المعنى هو أن بيوت الشارع "كلها" قد تباعدت عن "بعضها"، وهو مستحيل، إذ كيف يتباعد الكل عن البعض، وذلك البعض متضمن فى كله بما يعنى أن هذا البعض سوف يتباعد عن نفسه؟ ولقد حاولت أن أجد لهذا الأسلوب بابا من القبول فلم يستطع ضميرى تسويغه ولو بحجة قياسه على قوله تعالى: "لا نفرق بين أحد من رسله"، والمقصود: "لا نفرق بين أحد من رسله وغيره"، أو قوله عز شأنه: "مذبذبين بين ذلك" بمعنى "بين ذلك وهذا"، إذ من الواضح أن الأمرين مختلفان، علاوة على أننى لم أجد فى نص عربى قديم مثل هذا التركيب الذى انتشر فى كتابات المحدثين انتشار النار فى الهشيم، وأرجو ألا تسألونى ما هو الهشيم.
كذلك أعيذ شاعرنا وروائينا أن يقع فيما يقع فيه أولئك المسمَّوْن: كتابا، وما هم عندى بكتاب ولا قراء، من عدم الالتفات إلى بعض صور الممنوع من الصرف كما فى قوله: "وتدغدغ فىّ حواسًّا منسية" (ص80) عوضا عن "حواسَّ". وأغلب الظن أنه لم يتنبه إلى أنها كــ"مساجد" وغيرها مما جاء على صيغة "مفاعل" أحد صيغ منتهى الجموع، وذلك لما أصابها من تضعيفٍ أخفى شبهها بــ"مساجد" وغيرها من الكلمات التى لم تأت مضعَّفة. ولا أظن مثل هذا الخطإ قد تكرر فى الرواية. أقول هذا وأنا أعرف أن كثيرا من شعراء العربية القدامى، حتى الفطاحل منهم بما فيهم شعراء جاهليون، كانوا كثيرا ما ينونون الممنوع من التنوين، وبالذات من هذه الصيغة، وأن من عرب الجاهلية من كانوا لا يمنعون من التنوين شيئا من الأسماء بتاتا. ذلك أن الشعراء، كما يعلم هو قبل غيره، يجوز لهم أحيانا من التصرف فى اللغة ما لا يجوز لسواهم. إلا أننا لن نقف طويلا عند تلك القبائل المنونة على الدوام رغبةً منا فى توحيد القواعد النحوية والصرفية بقدر الإمكان، ولا أظنه إلا حريصا على هذا العنصر المهم من عناصر الوحدة العربية الكبرى التى كان عرب الجاهلية يفتقرون إليها، إذ كانوا قبائل متشرذمة متطاحنة إلى أن أتاهم رسول الله فوحدهم وخلق منهم دولة سرعان ما استحالت إمبراطورية فى زمن إعجازى. صحيح أن عرب قبل المبعث كانوا، إذا ما شعروا أو خطبوا أو تمثلوا الأمثال، ينحون نحو تلك اللغة الموحَِّدة التى اصطنعوها لتلك المناسبات والتى تعلو فوق القبلية الضيقة، إلا أن هذا لم يمح اللهجات الصغيرة، فنرجو بقدر الإمكان ألا نعيد إحياء تلك اللهجات.
ومما تكرر كذلك فى الرواية قول المؤلف على لسان راهبنا العفريت المحب للدنيا والمخلد للأرض والمتبع هواه والعاقد مع إبليس اللعين الظريف رغم ذلك صفقة شيطانية ظريفة تتلخص فى أنه لا مانع من نزول الإنسان بين الحين والحين على حكم غرائزه، وبخاصة الجنسية منها، دون أن يحبّكها ويعمل فيها عفيفا شريفا: "وعلى رغم كذا إلا أنه..."، وهو تركيب بُحَّتْ أصوات أهل اللغة، الذين أعترف وأقر أننى لست منهم، بأنه تركيب غير صحيح، ولهم كل الحق، فإن عبارة "على رغم كذا" تحتاج إلى ما يتعلق بها، وهو ما لا وجود له، كما أن الجملة تخلو من مستنى منه نستطيع أن نستثنى منه ما بعد إلا. أقول هذا وأنا واعٍ بأن للعادة فعلها القاهر، وما منا إلا وله مثل تلك الاستعمالات، غير أن مداومة الاطلاع على كتب اللغة ومعاجم التخطئة والتصويب وقرارات المجامع اللغوية وما إلى هذا كفيلة بتنبيه الناسى.
وقد وجدت المؤلف فى موضعين على الأقل يجمع فى نفى المضارع الذى يُتَوَقَّع أو يُرْجَى أن يقع فيما بعد، وإن لم يقع حتى الآن، "لـمّا" و"بَعْد": "لمّا تصل بعد إلى أذنها" (ص95)، و"لما أقرأ الرسالة بعد" (ص256). وهذا غريب، وإن كان غير قليل فى كتابات المحدثين. ذلك أن علينا فى مثل تلك الحالة أن نقول: "لم أقرأ ذلك بعد" أو "لما أقرأ ذلك". أما الجمع بين "لما" و"بعد" فهو استعمال لا تعرفه العرب، بل يناقض ما استعملوا له "لما"، التى تقوم مقام "لم" و "بعد" معا، فلا معنى للجمع بينها وبين "بعد" إذن". وهذا يشبه بالضبط ما وجدته على قلة فى بعض الكتابات المعاصرة من الجمع بين "سوف" و"لن" فى مثل قولنا: "سوف لن أفعل هذا".
ومما ينبغى التنبيه إليه كذلك فى لغة الرواية كلمة "بيضاويّة" (ص102، 148، 249، 394)، والصواب "بيضيّة"، وهى ما يشبه شكلها شكل البيضة. أما "بيضاوية" فهى النسبة إلى "بيضاء" لا "بيضة"، اللهم إلا إذا قيل: "خطأ مشهور خير من صواب مهجور"، فعندئذ سأسكت وأغلق فمى لا اقتناعا بل بسبب إرهاق الصيام. ومنها قوله: "كانت درجاته عشرة" بدلا من "عَشْرًا" بحذف التاء، وقوله: "لا أريد أن أعرف إلا أنت" (ص114)، وصوابها: "لا أريد أن أعرف إلا إياك" لأن الضمير هنا منصوب على المفعولية، فلا يمكن أن نستخدم ضمير رفع، بل ضمير نصب. وبالمناسبة فقد سألنى منذ قريب بعض قرائى عن تنوع حكم المستثنى وحيرتهم أمامه، فقل له: يمكنك، وأنت مرتاح البال والضمير، أن تنصب المستثنى فى كل الأحوال، إلا إذا كان الاستثناء مفرغا وكان المستثنى فى حالة رفع أو خفض. أما فى مثالنا الحالى فنجد أن المستثنى فى حالة نصب، وهو الحكم العام للمستثنى كما قلت (ومثلها " "لا أريد إلا أنت (إياك)"/ ص359).
ومن ذلك كذلك قوله: "لم يطل صمت هيباتيا... إلا ثوانٍ (ثوانىَ) معدودات" (ص146)، و"سوف أُعِدُّ (أَعُدُّ) ما سمعته منك مزاحا ثقيلا" (ص154)، و"ين الرهبان والقسوس والشمامسة... وأبناءُ (وأبناءِ) التائبين" (ص156)، و"عَمَت (عَمِيَت) العقول" (ص164)، و"شَيِّقا (ص189، وصوابه: "شائقا/ مُشَوِّقا"، أما "شَيِّقا" فمعناها: "مشتاق" كما فى قول شوقى رحمه الله عن عروس النيل مخاطبا النهر العظيم فى قصيدة "النيل" التى تتغنى بها أم كلثوم: "وأتتكَ شَيِّقةً حواها شَيِّقُ"، أى أتتك مشتاقة هى وما يحملها من محفة أو هودج لترمى بنفسها فى مائك)"، و"جلسنا ساعاتٍ طوالٍ (طوالا. ويبدو أنه سها فظن أن الكسرتين تحت "ساعات" كسرتا جَرٍّ، فَجَرَّ أيضا كلمة "طوالٍ" بدورها على اعتبار أن النعت يتبع المنعوت فى الإعراب، فى حين أن الكسرتين المذكورتين هما فى الواقع علامة نصب لأن كلمة "ساعات" مجموعة بالألف والتاء. هذا ما أظنه، والله أعلى وأعلم)" (ص194)، و"الشوك الوخّاذ (وخّاز. أما الفعل "وَخَذَ" (بالذال)، الذى يُعَدّ "وخّاذ" أفعل تفضيل منه، فهو لغةٌ فى "أخذ")" (ص212)، و"صِخْتُ (أَصَخْتُ) سمعى لنصائحه" (ص244)، و"فى شوق لرؤياك (لرؤيتك، لأن "الرؤيا" تختص عادة بالمنام، أما "الرؤية" فلليقظة)" (ص253)، و"آتون (أى فرن) الإسكندرية (والصواب: "أَتُّون: بالتشديد، والجمع: أتاتين، ويمكن تخفيفها أيضا: "أَتُون")" (ص275)، و"امتنانى (الصواب: "شُكْرِى"، لأن الامتنان هو الإنعام أو التذكير بذلك الإنعام، وهو هنا يقصد شعور الشخص بجميل المنعم، فهو الشكر إذن)" (ص276. ومنها "ممتن" (شاكر)/ ص303، و"امتنانها" (شكرها)/ ص306، و"يتلهُّون (يتلهَّوْن)" (ص283)، و"رأيت مرتا وعمتها واقفتين... ينظران (تنظران)" (ص307)، و"كان واحدًا (واحدٌ) من رهبان الدير يجلس معى حين جاءت" (ص319)، و"لا بد أن تُقَاد ناره ثلاثة أيام (توقَد)" (ص322)، و"كان ما أنوى زراعته من أعشاب لن يحتاج مياها كثيرة (وهى ركاكة، وكان يمكن أن يكتبها هكذا مثلا: "ولم يكن ما أنوى زراعته ليحتاج...)" (ص329).
ولدينا كذلك العبارة التالية التى وردت فى حديث مرتا جارة الدير الحلبية إلى هيبا وهى تحكى له ما وقع لها مع زوجها السابق: "دَبَّ إصبعه فىّ" (ص339). ومعنى"دَبَّ" فى سياقنا الحالىّ هو "غَرَز"، إشارة إلى افتضاض زوجها بكارتها. والكاتب هنا يستخدم التعبير العامى الذى لا يعرفه إلا المصريون، أو بعض المصريين فقط، ومن ثم قد يكون من الصعب على غيرهم أن يفهموه. كذلك قد جرى العرف على أن تُكْتَب الروايات التاريخية باللسان الفصيح، فما بالنا بالروايات التاريخية المترجمة؟ المترجمة شكلا لا حقيقة كما نعرف. وفضلا عن هذا وذاك فإن الفعل: "دَبَّ" هو فعل لازم لا متعدٍّ على النحو الذى استعمله الكاتب، إلى جانب أنه لا يدل فى الفصحى على المعنى الذى قصده الكاتب من قريب أو من بعيد، إذ يدل فيها على الحركة الهينة أو الخفية وما أشبه. كما أن الجو الذى يغلف هذا التعبير لا يناسب جو الرواية الجاد الراقى، إذ التعبير تعبير بلدى قد يليق بجو الهزل أو بكلام الشوارعية ومن يشبههم. أما إذا كان لا بد من استخدام مثل ذلك التعبير العامى بعد ذلك كله فلعله كان من الأفضل لو أن المؤلف وضعه بين علامتى تنصيص إشارةً إلى أنه استعمال غير عادى على الأقل.
ومن هذه الملاحظات اللغوية أيضا: "مزقوه إِرَبا (وصحتها: "مزقوه إِرْبًا إِرْبًا"، أى شِلْوًا شِلْوًا. أما "إِرَبًا" فقائمة على الظن بأنها جمع "إرْبة" بمعنى "شلو"، وهو خطأ أبلق، إذ "الإِرْبة" هى "المطمع" وما إلى هذا، ولا علاقة لها بالأشلاء)" (ص353)، و"لا خَلاَق لهنّ (أى للنساء. والصحيح "لا أخلاق لهن"، أما "الـخَلاَق" فهو "النصيب". وفى القرآن الكريم مثلا عمن يدعو الله أن يرزقه الدنيا ولا يبالى بالآخرة: " وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ"، أى ليس له نصيب من رحمة الله/ ص381) ، و"مُغْمِضًا عيناى (عينىّ، وإن كان هناك لهجة قبلية قديمة تعرب المثنى بالألف فى كل الأحوال. إلا أن ذلك تاريخ قديم مضى وانقضى)" (ص386).
وثم شىء آخر هو أننى لست أوافق المؤلف على إهدار هذه الرقة والعذوبة الأسلوبية على وصف المواقف الجنسية التى من شأنها إثارة الشهوات والإغراء بمواقعتها حتى لو لم يرم الكاتب إلى ذلك كما سوف يدعى كثير من أصحاب الأقلام. وكعادتى فى الصراحة لن أتوانى عن التصريح بأن للجنس لذته وبهجته، وإلا فلِمَ يظل الواحد منا حيران مؤرقا لا يستقر له قرار حتى يتزوج أو يعثر على من تعيش معه فى الحرام يقارفان المتعة الجنسية دون مبالاة بدين أو خلق كريم. نعم للجنس لذته وبهجته. أليس يقول القرآن: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (آل عمران/ 14)"؟ على أن هذا الأمر لا يحتاج فى معرفة مدى خطورته إلى أن نكون على علم بتلك الآية، فهو شىء مغروس بل مغروز فى الفطرة بحيث يجرى من ابن آدم (الذى هو أنت وأنا وهو وهى) مجرى الدم فى العروق، ومن ثم كان لوصف المواقف الجنسية لذته وبهجته بالتبعية، ومن هنا خطورته كما سبق القول. سيقول بعض المؤلفين: وماذا فى ذلك؟ والجواب هو أن وصف مثل تلك المواقف يشعل الشهوات ويقترب بالقراء من حافة الحرام فى كثير من الأحيان. سيقولون: إن للإبداع قوانينه التى لا تخضع للخلق والدين. وجوابنا هو أن هذا كلام فارغ، إذ لا يعقل أن يبنى المجتمع شيئا فيأتى مؤلف فيهدمه بحجة أنه مبدع. إن الإبداع الفنى والأدبى ليس هو إلهنا، بل إلهنا هو الله سبحانه، الذى حذر من مقارفة الحرام وتوعد عليه، وأمر بألا نحوم حول الحِمَى حتى لا نقع فيه، فحُسِمت المسألة. وأنا دائما ما أردد أن المؤلفين الذين يجادلون عن عملهم من هذا المنطلق هم فى العادة ممن لا يؤمنون بقيم الإسلام، وإلا لالتزموها أو على الأقلك لشعروا بالخجل إن نبههم منبِّهٌ إلى خروجهم عليها وعملوا على ألا ينتهكوها مرة أخرى، وإلا كانوا مصابين بانفصام فى شخصياتهم، فهم يؤمنون بشىء، ويتصرفون بعكس ما يوجبه ذلك الإيمان، ويزيدون على هذا بالمجادلة فيما لا يصح الجدال فيه. سيقولون: إن فى التراث مؤلفات جنسية تثير الشهوات. وجوابى: هذا صحيح. ولكن من قال إن التراث طاهر كله؟
وبالنسبة إلى ما فى الرواية من مشاهد جنسية فالمقصود المشاهد التى تسبق وقوع هيبا فى الزنا مع أوكتافيا الخادمة السكندرية ومرتا المطلقة الحلبية، إذ يرى القارئ كيف أفرغ الكاتب كل ما فى وسعه فى إضفاء هالة براقة على ذلك الصنيع بحيث إن أعتى الأعفّاء يجد نفسه مخدرا إزاء هذا الوصف الذى يحوله الكاتب إلى شىء مرفرف لا عيب له. لا نكران، كما قلت، لحلاوة الجنس ووصفه، ولكن تداعيات ذلك الوصف وثماره شديدة الخطورة كما قلت أيضا. سيقولون: لكن المشباك (النت) يكسر كل الحدود وينتهك كل المحاذير والمحاظير، فلا فائدة من الكلام فى هذا الموضوع لأننا مهما تكلمنا وحذّرْنا ومنعْنا فلن يجدى ذلك بشىء. وجوابى هو أننا لو اتبعنا هذا المبدأ فلن نعمل خيرا أبدا ولن نتجنب شرا أبدا، بل علينا أن نصنع ما فى وسعنا ولا نَأْلُو، أما ما يفعله الآخرون فهم يبوؤون بإثمه ويتحملون نتائجه أمام ربهم. سيقال: وهل ما زلت تؤمن بالله؟ وجوابى: تعجبنى هذه الصراحة التى كان من شأنها، لو روعيت منذ البداية، أن تريحنا من عناء الكلام السابق وما استلزمه من لف ودروان يبرع فيه صنف من الناس لا يصرح بما فى قلبه بسهولة. بلى أنا ما زلت مؤمنا بالله. سيقال: لكننا لا نشاركك هذا الإيمان. وجوابى هو أنكم أحرار فيما تؤمنون به أو لا تؤمنون، أما أنا فإيمانى يقتضينى أن أقف هذا الموقف الذى وقفت، وأقول هذا القول الذى قلت. والقراء يقررون مع أى من الجانبين يقفون. ولا أحسب إلا أن هذا غاية العقل والعدل والإنصاف. وهناك روايات وأشعار وأفلام كثيرة جدا جدا جدا جدا تخلو من هذه التوابل المثيرة للعاب، ومع ذلك فقد بلغت غاية الروعة والإبداع، مثلما أن هناك روايات وأشعارا وأفلاما تفيض بالإثارة الجنسية، وهى مع ذلك قد تَدَهْدَتْ إلى الدرك الأخير من الانحطاط الفنى وليس لها مستقبل فى دنيا الإبداع، بل سرعان ما ينساها الجمهور، فكأنها ألقيت فى الزُّبالة. والكاتب المبدع الحقيقى يمكنه فى هذا الميدان أن يقول دون أن يقول. وله فى الرمز والإيحاء وما يسمونه: "المعادل الموضوعى" مندوحة، وأى مندوحة!
وما كتبه المؤلف فى هذا الصدد يدخل بكل جدارة فى باب ما أسميه: "الكتابة الاستمنائية"، وإن لم يوغل إيغال صنع الله إبراهيم، الذى صككتُ هذا المصطلح وأنا أكتب عن روايته: "العمامة والقبعة". بيد أنه، والحق يقال، قد حرص على توشية المشهد بالجو الشاعرى كما فعل حيدر حيدر فى "وليمة لأعشاب البحر" رغم أن ما كتبه حيدر يخلو من هذه الاستمنائية المقيتة، وإن كانت روايته قد أثارت الضجيج والعجيج وقامت ضدها التظاهرات الملتهبة وسُحِبت من الأسواق وعوقب من كانوا وراء طبعها ونشرها فى "هيئة الكتاب" الحكومية، وذلك بسبب تهجمها السفيه على الله والرسول والإسلام، وهى معاقبة يقول المعارضون إنها شكلية، فإن أحد الذين عوقبوا سرعان ما عُيِّن رئيسا لأخطر المؤسسات الثقافية فى البلاد، وكأنهم يكافئونه على دوره فى نشر الرواية.
وقد تكررت الإشارة فى الرواية إلى أن فُحْش أوكتافيا، الخادمة التى قابلت هيبا بطل الرواية أول إنسان فى الإسكندرية على شاطئ البحر ومارس معها الزنا عقب هذا فى مغارة هناك، يرجع إلى أنها وثنية. ولكن هل عصمت البطلَ من الاستجابة إلى ذلك الفحش أخلاقُه النصرانية؟ ثم لقد كانت المرأة الجاهلية تحافظ على طهارتها وعرضها وشرفها رغم كل ارتكاسات الوثنية. ولست أقول هذا كى أنتقد الكاتب، بل رغبة فى تمحيص الأمر، فقد درجنا على ترديد هذه المقولة وكأنها حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، حتى إن كاتبا كبيرا كالعقاد قد اتكأ عليها فى روايته: "سارة" وصفا لبطلته وتعليلا لعدم التفاتها إلى أى من المناهى الدينية التى تتعلق بالجنس أو مبالاتها بحلال أو حرام. وهذا نص ما قاله العقاد فى بطلته تحديدا: "عاشت بعد ذلك تنظر إلى خطايا الأديان نظرة المرأة الوثنية التى نشأت قبل أن ينشأ الأنبياء، فهى ليست كالمتدينة التى خامرها الشك فى دينها، ولكنها كالمرأة التى لم تتدين قط ولا قِبَل لها بالتدين"، "هى وثنية فى مقاييس الأخلاق كما هى وثنية فى التدين. لا تؤمن بالعصمة الإنسانية فى أحد ولا فى صفة، وشديدة الإيمان بضعف الإنسان مع أضعف المغريات" (العقاد/ سارة/ العدد 108 من سلسلة "اقرأ"/ ط2/ 1964م/ 84، 92). ولا تعليق لى على هذا سوى أن أقول: ترى هل دَرَجَ على البشر زمان لم يكن قد ظهر أنبياء بعد؟ ذلك أننى أفهم من القرآن أن أبا البشر كان نبيا، بما يعنى أن النبوة قد واكبت موكب الحياة الإنسانية منذ لحظتها الأولى. ومن هنا فإنى أفهم كلام العقاد عن الأنبياء على نحو مجازى لا ينبغى قياسه بالمسطرة والفرجار كما يقولون.
وثم سؤال يثور فى نفسى كثيرا، وهو: هل "عزازيل" هو العنوان المناسب للرواية؟ ذلك أن دور إبليس فيها غير بارز، إذ لا نكاد نحس به إلا عندما يظهر للبطل وهو يكتب مذكراته، وذلك قليل. اللهم إلا إذا كان يقصد أن كل ما يفعله البشر، حتى لو ارتدى أطهر الثياب، هو من وحى عزازيل رغم أننا لا نتنبه إلى ذلك بل ندعى عادةً خلافه. لكن ذلك بدوره غير بارز هو أيضا. ومع هذا فلا مشاحة فى العناوين. ولقد كان لذلك العنوان دوىٌّ مُضِجٌّ حتى لقد عرفت جماهير القراء المسلمين، بسبب هذا الضجيج، أن المقصود بــ"عزازيل" هو الشيطان. وقد تكون هذه أول مرة يعرف فيها المسلم العادى ذلك، إذ إن هذه التسمية لا وجود لها فى ديننا ولا فى تراثنا، بل لا وجود لها فى العهد الجديد نفسه. إنما يجدها القارئ فى سفر "اللاويين" من العهد القديم وفى تراث اليهود. وهذه نقطة أخرى تلفت الانتباه لأن الرواية تدور حول النصرانية وعقائدها وأساقفتها فى القرن الرابع الميلادى، ولا علاقة بينها وبين اليهود، اللهم إلا حين تعرضت لذكرهم فى الإسكندرية حيث كانوا يخضعون لعَنَتٍ كبيرٍ من جانب النصارى فى ذلك الحين.
ونورد أولا ما قاله الإصحاح السادس عشر من سفر "اللاويين" فى هذا الشأن، وهو ما أورد الأحمقُ السفيه المتخفى تحت قناع "الأب يوتا" بعضا منه فى تقديمه لروايته التافهة: "تيس عزازيل فى مكة": "1وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى بَعْدَ مَوْتِ ابْنَيْ هَارُونَ عِنْدَمَا اقْتَرَبَا أَمَامَ الرَّبِّ وَمَاتَا. 2وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «كَلِّمْ هَارُونَ أَخَاكَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى الْقُدْسِ دَاخِلَ الْحِجَابِ أَمَامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى التَّابُوتِ لِئَلاَّ يَمُوتَ، لأَنِّي فِي السَّحَابِ أَتَرَاءَى عَلَى الْغِطَاءِ. 3بِهذَا يَدْخُلُ هَارُونُ إِلَى الْقُدْسِ: بِثَوْرِ ابْنِ بَقَرٍ لِذَبِيحَةِ خَطِيَّةٍ، وَكَبْشٍ لِمُحْرَقَةٍ. 4يَلْبَسُ قَمِيصَ كَتَّانٍ مُقَدَّسًا، وَتَكُونُ سَرَاوِيلُ كَتَّانٍ عَلَى جَسَدِهِ، وَيَتَنَطَّقُ بِمِنْطَقَةِ كَتَّانٍ، وَيَتَعَمَّمُ بِعِمَامَةِ كَتَّانٍ. إِنَّهَا ثِيَابٌ مُقَدَّسَةٌ. فَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ وَيَلْبَسُهَا. 5وَمِنْ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَأْخُذُ تَيْسَيْنِ مِنَ الْمَعْزِ لِذَبِيحَةِ خَطِيَّةٍ، وَكَبْشًا وَاحِدًا لِمُحْرَقَةٍ. 6وَيُقَرِّبُ هَارُونُ ثَوْرَ الْخَطِيَّةِ الَّذِي لَهُ، وَيُكَفِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ بَيْتِهِ. 7وَيَأْخُذُ التَّيْسَيْنِ وَيُوقِفُهُمَا أَمَامَ الرَّبِّ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 8وَيُلْقِي هَارُونُ عَلَى التَّيْسَيْنِ قُرْعَتَيْنِ: قُرْعَةً لِلرَّبِّ وَقُرْعَةً لِعَزَازِيلَ. 9وَيُقَرِّبُ هَارُونُ التَّيْسَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِلرَّبِّ وَيَعْمَلُهُ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ. 10وَأَمَّا التَّيْسُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِعَزَازِيلَ فَيُوقَفُ حَيًّا أَمَامَ الرَّبِّ، لِيُكَفِّرَ عَنْهُ لِيُرْسِلَهُ إِلَى عَزَازِيلَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ.
11«وَيُقَدِّمُ هَارُونُ ثَوْرَ الْخَطِيَّةِ الَّذِي لَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ بَيْتِهِ، وَيَذْبَحُ ثَوْرَ الْخَطِيَّةِ الَّذِي لَهُ، 12وَيَأْخُذُ مِلْءَ الْمَجْمَرَةِ جَمْرَ نَارٍ عَنِ الْمَذْبَحِ مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ، وَمِلْءَ رَاحَتَيْهِ بَخُورًا عَطِرًا دَقِيقًا، وَيَدْخُلُ بِهِمَا إِلَى دَاخِلِ الْحِجَاب 13وَيَجْعَلُ الْبَخُورَ عَلَى النَّارِ أَمَامَ الرَّبِّ، فَتُغَشِّي سَحَابَةُ الْبَخُورِ الْغِطَاءَ الَّذِي عَلَى الشَّهَادَةِ فَلاَ يَمُوتُ. 14ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ دَمِ الثَّوْرِ وَيَنْضِحُ بِإِصْبَعِهِ عَلَى وَجْهِ الْغِطَاءِ إِلَى الشَّرْقِ. وَقُدَّامَ الْغِطَاءِ يَنْضِحُ سَبْعَ مَرَّاتٍ مِنَ الدَّمِ بِإِصْبَعِهِ.
15«ثُمَّ يَذْبَحُ تَيْسَ الْخَطِيَّةِ الَّذِي لِلشَّعْبِ، وَيَدْخُلُ بِدَمِهِ إِلَى دَاخِلِ الْحِجَابِ. وَيَفْعَلُ بِدَمِهِ كَمَا فَعَلَ بِدَمِ الثَّوْرِ: يَنْضِحُهُ عَلَى الْغِطَاءِ وَقُدَّامَ الْغِطَاءِ، 16فَيُكَفِّرُ عَنِ الْقُدْسِ مِنْ نَجَاسَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ سَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ. وَهكَذَا يَفْعَلُ لِخَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ الْقَائِمَةِ بَيْنَهُمْ فِي وَسَطِ نَجَاسَاتِهِمْ. 17وَلاَ يَكُنْ إِنْسَانٌ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ مِنْ دُخُولِهِ لِلتَّكْفِيرِ فِي الْقُدْسِ إِلَى خُرُوجِهِ، فَيُكَفِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ بَيْتِهِ وَعَنْ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ. 18ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي أَمَامَ الرَّبِّ وَيُكَفِّرُ عَنْهُ. يَأْخُذُ مِنْ دَمِ الثَّوْرِ وَمِنْ دَمِ التَّيْسِ وَيَجْعَلُ عَلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ مُسْتَدِيرًا. 19وَيَنْضِحُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّمِ بِإِصْبَعِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَيُطَهِّرُهُ وَيُقَدِّسُهُ مِنْ نَجَاسَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 20«وَمَتَى فَرَغَ مِنَ التَّكْفِيرِ عَنِ الْقُدْسِ وَعَنْ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَعَنِ الْمَذْبَحِ، يُقَدِّمُ التَّيْسَ الْحَيَّ. 21وَيَضَعُ هَارُونُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ الْحَيِّ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكُلِّ سَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ، وَيَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ، وَيُرْسِلُهُ بِيَدِ مَنْ يُلاَقِيهِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 22لِيَحْمِلَ التَّيْسُ عَلَيْهِ كُلَّ ذُنُوبِهِمْ إِلَى أَرْضٍ مُقْفِرَةٍ، فَيُطْلِقُ التَّيْسَ فِي الْبَرِّيَّةِ. 23ثُمَّ يَدْخُلُ هَارُونُ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَيَخْلَعُ ثِيَابَ الْكَتَّانِ الَّتِي لَبِسَهَا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ وَيَضَعُهَا هُنَاكَ. 24وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ فِي مَكَانٍ مُقَدَّسٍ، ثُمَّ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَخْرُجُ وَيَعْمَلُ مُحْرَقَتَهُ وَمُحْرَقَةَ الشَّعْبِ، وَيُكَفِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الشَّعْبِ. 25وَشَحْمُ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ يُوقِدُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ. 26وَالَّذِي أَطْلَقَ التَّيْسَ إِلَى عَزَازِيلَ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَدْخُلُ إِلَى الْمَحَلَّةِ. 27وَثَوْرُ الْخَطِيَّةِ وَتَيْسُ الْخَطِيَّةِ اللَّذَانِ أُتِيَ بِدَمِهِمَا لِلتَّكْفِيرِ فِي الْقُدْسِ يُخْرِجُهُمَا إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ، وَيُحْرِقُونَ بِالنَّارِ جِلْدَيْهِمَا وَلَحْمَهُمَا وَفَرْثَهُمَا. 28وَالَّذِي يُحْرِقُهُمَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَدْخُلُ إِلَى الْمَحَلَّةِ.
29«وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً، أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ، وَكُلَّ عَمَل لاَ تَعْمَلُونَ: الْوَطَنِيُّ وَالْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ. 30لأَنَّهُ فِي هذَا الْيَوْمِ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ لِتَطْهِيرِكُمْ. مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ تَطْهُرُونَ. 31سَبْتُ عُطْلَةٍ هُوَ لَكُمْ، وَتُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً. 32وَيُكَفِّرُ الْكَاهِنُ الَّذِي يَمْسَحُهُ، وَالَّذِي يَمْلأُ يَدَهُ لِلْكَهَانَةِ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ. يَلْبَسُ ثِيَابَ الْكَتَّانِ، الثِّيَابَ الْمُقَدَّسَةَ، 33وَيُكَفِّرُ عَنْ مَقْدِسِ الْقُدْسِ. وَعَنْ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَالْمَذْبَحِ يُكَفِّرُ. وَعَنِ الْكَهَنَةِ وَكُلِّ شَعْبِ الْجَمَاعَةِ يُكَفِّرُ. 34وَتَكُونُ هذِهِ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً لِلتَّكْفِيرِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاهُمْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ». فَفَعَلَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى".
ثم إلى القارئ ثانيا ما كتبته "دائرة المعارف المشباكية الحرة" (الويكبيديا: Wikipedia) فى مادتها المسماة: "Azazel" عن ذلك الموضوع، وخلاصته أنه يوجد فى الروايات اليهودية شيطان أو روح شرير يبعث له اليهود بكبش فداء فى يوم الغفران يحمل عنهم آثامهم حيث يختارون لذلك الأمر كبشين يخصصون أحدهما للرب، والآخر لعزازيل، فيطلقون الأخير فى البرية ويقذفون به من فوق جبل كى يموت آخذا معه سيئات الشعب:
"In Jewish legends, a demon or evil spirit to whom, in the ancient rite of Yom Kippur (Day of Atonement), a scapegoat was sent bearing the sins of the Jewish people. Two male goats were chosen for the ritual, one designated by lots “for the Lord,” the other “for Azazel” (Leviticus 16:8). The ritual was carried out by the high priest in the Second Temple and is described in the Mishna. After the high priest symbolically transferred all the sins of the Jewish people to the scapegoat, the goat destined “for Azazel” was driven into the wilderness and cast over a precipice to its death. Azazel was the personification of uncleanness and in later rabbinic writings was sometimes described as a fallen angel."
ويذكر كاتب مادة "Azazel" فى "دائرة المعارف اليهودية: Encyclopedia Judica" أن هذه التسمية تعانى من الاضطراب والغموض بحيث يصعب معرفة المعنى الدقيق لها، وإن ذكر فى ذات الوقت أن اللفظ اسم لموضع "القوة" الذى يرسَل إليه بأحد الكبشين على ما مرت الإيماءة إليه: "Name of the place or the “power”… to which one of the goats in the Temple service of the Day of Atonement was sent. There is a great deal of confusion regarding the exact meaning of the word".
وفى ذات المادة بــ"jewish Encyclopedia" نقرأ أن كلمة "عزازيل" إما أن تكون مشتقة من "Az" و"El"، فيكون معناها "الجبل الوعر" دلالة على الجبل أو الحرف الذى يُلْقَى من فوقه الكبش ليموت، وإما أن تكون مشتقة من "Uza" و"Azael" إشارةً إلى الملاكين الساقطين المظنون أن ثم إشارة إليهما فى سفر "التكوين" من العهد القديم. وهو ما فصلته "دائرة المعارف اليهودية: Encyclopedia Judica" فى السطور التالية التى تبين لنا أن الأمر ليس بالبساطة التى عرضتها وسائل الإعلام فى تغطيتها للرواية المثيرة للجدل:
"The exact meaning of Azazel was a point of dispute already in the times of the talmudic sages: some held that it is the name of the place to which the goat was sent, while others believed that it was the name of some “power.” According to the first opinion, the word Azazel is a parallel to “a land which is cut off” (Lev. 16:22), meaning (according to the rabbinic interpretation) an area of rocks and cliffs, i.e., inaccessible. The word Azazel is also interpreted as meaning strong and hard as though it were written עזז אל, namely, hardest of the mountains (Yoma 63b; cf. Sifra Aḥarei Mot 2:8; Targum Jonathan to Lev. 16:10). It does appear, however, that this is an attempt to reconcile the meaning of the word Azazel with the actual usage in the time of the Second Temple, namely to bring the goat to a cliff and to push it over. The interpretation does not quite fit the written form of the word עזאזל. The second opinion, which sees Azazel as a supernatural power, also treats the word as though it were written עַזָזֵאל. This opinion is based on Leviticus (16:8): “One lot for the Lord and the other lot for Azazel,” i.e., just as the first goat is set aside for the Lord so the second is set aside for Azazel, Azazel being a parallel to the Lord (cf. P Re ch. 46, p. 111a). God gets a burnt offering while Azazel gets a sin offering. This view is reinforced by the widespread belief that the wilderness was the habitat of demons (see Lev. 13:21; 34:14; esp. Lev. 17:7). The demonic identification would indicate that the original purpose of the ritual was to get rid it to its original source."
وقد أدلت الرواية هى أيضا بدلوها فى هذا المضمار فكتب هيبا: "فى أصل عزازيل، آراءٌ وأقاويل. بعضها مذكورٌ فى الكتب القديمة، وبعضها منقولٌ عن ديانات الشرق. لاتؤمن كل الديانات بوجوده، ولم يعرفه المصريون القدماء، العرفاء. ويُقال إن مولده فى وَهْمِ الناس، كان فى زمن سومر القديمة، أو كان أيام الفرس الذين يعبدون النور والظلام، معا، ومنهم عرفه البابليون. ثم كان ذكره الأشهر، فى التوراة التى كتبها الأحبار بعد عودة اليهود من السبى البابلى. أما فى ديانة المسيح، فالمذاهب كلها تؤكِّده، ولاتقبل الشك فيه. فهو دوما فى مقام عدو الله، وعدو المسيح، ولا يُعرف مقامه من الروح القدس! روى عنه القدماءُ، أنه خلق الطاووس، فقد ورد فى نقشٍ قديم، إنهم عَيرَّوا عزازيل بأنه لايفعل إلا القبائح، ولا يدعو إلا إليها، فأراد أن يثبت لهم قدرته على فعل الجمال، فخلق هذا الطائر. قلتُ ذلك يوما لعزازيل، فابتسم وهَزَّ كتفه اليمنى متعجِّبا. سمعتُ صوت عصافير تملأ الأفق، وكان باب الصومعة مفتوحا، وعزازيل يجلس صامتا عند الباب. أحببتُ أن أسمع منه صوتى، فسألته أىُّ أسمائه أحبُّ إليه؟ فقال: كلها عندى سواء، إبليس، الشيطان، أهريمان، عزازيل، بعلزبوب، بعلزبول. قلتُ له إن بعلزبول تعنى فى العبرية: سيد الزبالة، وبعلزبوب تعنى: سيد الذباب، فكيف لايكترث بالفروق التى بين أسمائه، ويراها كلها سواء؟ قال: كلها سواسية، فالفروق فى الألفاظ ، لا فى المعنى الواحد" (ص374- 375).
هذا، وتشبه قصة هيبا، فى بحثه عما يريح ضميره وفى تنقله بين الدول، قصة سلمان الفارسى، فضلا عن أن كليهما يروى قصته بضمير المتكلم. ولم يكن يبقى إلا أن يعلن هيبا إسلامه مثلما صنع سلمان، لولا أنه لم يعاصر الإسلام للأسف. والرواية قائمة على الرحلة، وتحديدا: الرحلة الدينية، وهى رحلة يبغى هيبا من ورائها البحث عن الحق بغض النظر عما إذا كان الذى انتهى إليه هو الحق أو لا. ومعروف أن الرحلات ضروب مختلفات: فهناك الرحلة السياسية، وهناك الرحلة الترفيهية، وهناك الرحلة العلاجية، وهناك الرحلة العلمية، وهناك الرحلة الاقتصادية، وهناك الرحلة الدينية... إلخ. ومن هذه الأخيرة رحلة النبى إلى الطائف حين شعر أن مكة قد ازدادت تصلبا وعنادا وقسوة ولم يعد سهلا أن تمد الإسلام بالمزيد من المؤمنين، وكذلك رحلتا عبد الغنى النابلسى الدمشقى فى القرن الثانى عشر الهجرى، وهما الرحلتان اللتان خلّف عنهما كتابيه: "الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية" و"الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز"، مع الفارق الرهيب بين الراحِلَيْن والرحلتين. وليست رواية "عزازيل" أول رواية تقوم: كلها أو جزء منها على الرحلة، فلدينا فى أدبنا مثلا رواية "جلال حامد" لمحمود أحمد السيد (العراقى)، و"جولة حول حانات البحر المتوسط" لعلى الدوعاجى (التونسى)، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، وهناك "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى، و"الحى اللاتينى" لسهيل إدريس (اللبنانى)، و"جسر الشيطان" لعبد الحميد جودة السحار، و"رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ، و"حب فى كوبنهاجن" لمحمد جلال، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح (السودانى). ومما أذكر أنى قرأته، وأنا فى أوكسفورد قبل نحو ثلاثين عاما، رواية دينية تستخدم فى عنوانها كلمة "رحلة: Progress"، ألا وهى الرواية التى ألفها الكاتب البريطانى الشهير جون بانيان (John Bunyan) عام 1678م وهو فى السجن بعنوان "رحلة الحاج: The Progress of the Pilgrim "، وقد ترجمت إلى العربية فيما أعرف. ومما يحضرنى الآن من هذا اللون أيضا روايتان إنجليزيتان أُخْرَيَان تقومان على الرحلة وتحملان أيضا فى عنوانيهما كلمة "رحلة"، وهما من إبداع كاتب واحد هو الروائى البريطانى إدوارد مورجان فورستر (E. M. Forster)، وعنواناهما: "The Longest Journey"، و"رحلة إلى الهند: A Passage to India". وهذه الأخيرة قد تُرْجِمَتْ أيضا إلى العربية، كما حولها البريطانيون إلى فلم سينمائى.
وتقوم الرحلة فى روايتنا على المصادفات وعدم التخطيط بحيث لا نقتنع بأن خطها الذى اتخذته مسألة حتمية، إذ كان البطل يغير مسار رحلته من الإسكندرية إلى القدس إلى حلب القريبة من أنطاكية حسب الظروف المفاجئة التى لم تكن فى الحسبان، وإن كان واضحا أن المؤلف قد قصد الخط الذى اتخذته الرحلة قصدا كى يتناول النصرانية ومذاهبها المختلفة فى عواصمها الشرقية الشهيرة: الإسكندرية والقدس وأنطاكية.
أما اسم البطل: "هيبا" فمأخوذ من اسم الفيلسوفة الإغريقية "هيباتيا"، التى كان مفتونا بها، من بعيد، فتنة لا حدود لها: بعلمها وجمالها ومكانتها ودمائة طبعها وتواضعها وما تحظى به لدى الجميع من تبجيل واحترام، لم يمنعه من ذلك فقره وهوانه ورثاثة ملابسه وقتئذ. وقد اتخذ هذا الاسم لَدُنْ تعمّده بنفسه فى بحيرة شرقى الإسكندرية عقب فراره من تلك المدينة ومن الكنيسة التى كان يقيم بها هناك إثر مقتل هيباتيا البربرى نفورا من المذهبية الضيقة بعد الذى عاينه من وحشية تصرف الجموع التابعة للمذهب الأرثوذكسى، مما جعله يشق رداء الكهنوت ويلقيه عنه ويكتفى بملابسه العادية ثم يتجه إلى الله بدعاء حار نابع من أعماق قلبه، وإن بدت عليه سيماء الفكر الفلسفى مع ذلك (ص177).
وبالنسبة إلى تصوير شخصية البطل الذهنية والوجدانية فالملاحظ أنه يُرْجِع كل شىء يراه أو يقع له أو منه إلى مشيئة الله وترتيبه. لا أقصد أن هذا خطأ، فأنا من المؤمنين بهذا وموقن به تمام الإيمان والإيقان، بل أقصد أنه واع بذلك طول الوقت حتى حين يشكّ أو يكره شيئا فى النصرانية، التى كان راهبا فيها يوما. فهل هو من المجبّرة الذين لا يرون أن للإنسان مشيئة فيما يقع منه أو له، وأن كل شىء إنما يتم على نحو لا يقبل تغييرا أو تعديلا مهما بدا للناس أن الأمر ليس كذلك؟ أما أنا فأومن بأن للبشر مشيئة، لكنها مشيئة متضمنَّة فى المشيئة الإلهية ومتولدة منها. ذلك أن المشيئة الإلهية تتجلى فى القوانين التى يجرى عليها الكون: ما ظهر من تلك القوانين وما خفى، وفى داخل هذه الشبكة الشديدة التعقيد من هذه القوانين تقف المشيئة البشرية: تخضع لها فى جانب، وتحاول أن تجد لها مسارا بينها مستعينة بها فى جانب آخر، فهناك إذن تفاعل بين الإرادة البشرية وبقية القوانين الكونية، وكل ذلك هو مجلى الإرادة الربانية. وهذه المشيئة البشرية محدودة جدا، وتكاد ألا تكون شيئا إزاء المشيئة الكبرى الشاملة، إلا أنها رغم محدوديتها قادرة على صنع المبهرات، وكل إنجازات البشر العجيبة فى جميع ميادين الحياة على مدار التاريخ إنما هى ثمرة تلك المشيئة الصغيرة. ومن هذا الإحساس الطاغى لدى البطل بالمشيئة الإلهية فإنه يرى الله فى كل شىء حتى فى أشكال السحاب وفى الحوادث العَرَضِيّة التى لا يتوقف الشخص عادة أمامها، فضلا عن أن يرى فيها معنى غير عادى. كذلك كثيرا ما يتفلسف راهبنا ويتكلم عن الدنيا على أنها دار أحزان وأن هذه طبيعتها التى لا يمكن أن تفارقها. وهذا الشعور كان يلازمه دائما حتى عندما كان شابا صغير السن. وقد يكون شعوره الحاد بالحزن راجعا إلى المقتل الشنيع لأبيه الوثنى على يد النصارى فى طرف مصر الجنوبى وتزوُّج أمه من أحد قَتَلته بما يدل على أنها تآمرت معهم، فضلا عن غربته فى البلاد وفقره وجوعه وحرمانه من أوكتافيا الخادمة الوثنية الإسكندرية التى أفاض فى وصف جمالها وفتنتها وغزوها لقلبه غزوا لا تصلح معه أية مقاومة، إن كان هناك موضع للمقاومة أصلا، والتى أنفق معها أياما وليالى فى قصر سيدها الغائب فى رحلة تجارية له خارج الديار يمارسان المتعة دون حسيب أو رقيب، وكذلك إلى مشاهدته هيباتيا الفيلسوفة الإغريقية السكندرية الأنيقة الفخيمة الشامخة الباهرة الجمال وهى تُقْتَل على يد الغوغاء ورجال الدين النصارى وتُسْحَل ويُكْشَط لحم جسدها من عَظْمه على حجارة الطريق الحادة ثم يمزَّق هذا الجسد وتُشْعَل فيه النار على الشاطئ، كل ذلك بتحريض من كيرلس أسقف الإسكندرية، ورؤيته أيضا مقتل أوكتافيا على يد أولئك الغوغاء والرهبان حين أرادت الدفاع عن هيباتيا واستنقاذها من أيديهم، مضافا إلى هذا كله إحساسه الحاد بما كان من عجزه البائس عن صنع شىء يدفع به عن أيتهما ما وقع لها من العذاب الشنيع.
كذلك يميز هيبا أنه لم يكن فى أعماقه مستعدا استعدادا حقيقيا للتدين بالنصرانية على الوضع الذى عرفها عليه، فهو يستعمل عقله فى كل شىء ولا يتلقى الأمور تلقى الرضا والسكون، بل يعرضها على عقله، ذلك العقل الذى لا يستطيع التوافق مع الإيمان حسبما تقول الكنيسة من أنه شىء لا صلة بينه وبين العقل، بل بالعكس من ذلك يحسن إلغاء العقل تماما. وقد ظل هيبا طول حياته يقلب فى ذهنه أمور الدين والكنيسة والرهبنة والانشقاقات المذهبية ويترك نفسه لتيارات الشك والحيرة ويحاور إبليس فى كل حين، وبالذات فى المنعطفات الهامة والحاسمة من حياته حتى انتهى أمره معه إلى أنْ عقد معه اتفاقا يخصص له بمقتضاه من نفسه نصيبا، وللدين ونواهيه نصيبا آخر بحيث لا يجور أحد النصيبين على عديله. ليس هذا فقط، بل كان هيبا من ذلك الصنف من البشر الذى يحب الدنيا ويتذوقها ويهش لما فيها من جمال ويستجيب لفتنة المرأة بكل كيانه ولا يرى فيها شهوة جسدية تُشْبَع وينتهى الأمر، بل يجد فيها إلى جانب ذلك إشراقات وجدانية وتجليات جمالية، ويريد أن يكرع الدنيا كرعا لولا ما يحجزه عن ذلك من نظام الترهب الذى كان يخضع له فى الظاهر، فيما كانت نفسه تمور بتيارات شهوية وجدانية جمالية لا يطلع عليها الآخرون ولا تجد سانحة يمكنها إرواء ظمئها إلا اهتبلتها ورشفت من رحيق المرأة التى يضعها القدر فى طريقه دون تفكير فى دين أو مجتمع ما دامت تفعل ذلك فى السر من غير أن يطلع عليها أحد. ومن هنا كان لا بد أن ينتهى إلى نبذ الرهبنة والخروج من شرنقتها الخانقة إلى الحياة الرحبة. كان هيبا إذن يتسم بسمتين لا تتسقان مع ذلك النظام الذى يراه الإسلام نظاما مضادا للفطرة التى فطر الله عباده عليها والتى لا يمكن أن تستمر فى الخضوع له أمدا طويلا دون أن تقع فى الإثم وترتكب الفواحش خضوعا لناموس الحياة ما دام الشخص لا يشبع ذلك النزوع فى الحلال.
على أن ما أستغربه هو أن هيبا، وهو من يهمنا وحده من بين الرهبان الذين فى الرواية جميعا، لم يقارف الفاحشة إلا مع امرأتين اثنتين فقط، ولمدة جد محدودة فى كل مرة. فهل يعقل أن يبلغ مثلُه السنَّ التى بلغها ثم يقدر على كظم غرائزه ومشاعره كل تلك السنين الطويلة تجاه نصفه الآخر، النصف الفاتن الساحر الباهر الذى "يبرجل" عقول الرجال ويُسِيل لعابهم ويطير النوم من جفونهم ويحول حياتهم إما إلى جنة وإما إلى نار ويلهب العقول ويطلق الخيال ويخلق الأدب والشعر خلقا، دون أن يروى عطشه إلى المرأة إلا تينك المرتين العابرتين المتباعدتين: الأولى فى الإسكندرية فى شبابه الأول، والثانية بالقرب من حلب فى آخر الرواية حين أضحى كهلا؟ ألا إن هذا لغريب! ولا ينبغى أن يقال إنه لم يكن يرى النساء إلا فى فترات جد متباعدة، إذ حتى لو كان ذلك صحيحا، وهو غير صحيح، لأن المرأة كانت حوله فى كل مكان، فإن الشهوة إنما تجرى فى دمائنا ما دامت شيئا مركوزا فى أصل الخلقة. ولو لم يجد الرجل المرأة لتحول إلى وسائل أخرى محرمةٍ أو شاذةٍ أو على الأقل: غير اعتيادية ولا ترضى النفس الرضا الصحيح. وهذه الشهوة لا تعترف برهبنة ولا غير رهبنة لأنها عابرة للأنظمة والأديان والقوميات والقارات والثقافات والطبقات والأجناس البشرية، بل الأجناس الحيوانية أيضا على اختلاف أنواعها. وهل الرهبان أكظم لشهواتهم من أنبياء العهد القديم وأهليهم، ومنهم من تعددت زوجاته تعددا كبيرا، ومنهم من ارتكب الفاحشة، ومنهم من سقته ابنتاه خمرا ونامتا معه الواحدة تلو الأخرى، ومنهم من مورس نكاح المحارم فى بيته... إلخ؟
وليوسف إدريس قصة ذات دلالة هامة فى سياقنا هذا بطلها رجل سجين قيل له إن البناء الملاصق للسجن الذى هو فيه هو سجن للنساء، فكان يضع أذنه على الجدار ويتنصت متوهما أنه يسمع على الناحية الأخرى من الجدار مَنْ تناجيه، وإن لم تكن المناجاة واضحة تماما، مما حدا به إلى أن يحضر علبة صفيح فارغة أخذ يضعها على الجدار لتكبير الأصوات القادمة من سجن النساء، وكانت عبارت غزل وحب وهيام من امرأة ظلت تشغل وتشعل خياله فيحاول تصور ملامحها، وانشغلت حياته تماما بسب ذلك... إلى أن تبين له عن طريق المصادفة أنه لا وجود لأى بناء ملاصق لسجنهم، بل أرض فضاء.
وأحسب أن المعنى واضح لا يحتاج إلى مزيد شرح، فالسجين فى كل ما كان يصنع إنما كان يصغى إلى ذلك الصوت الملحاح الصادر من عمق أعماق نفسه، ألا وهو صوت الغريزة الجنسية، الذى لو لم يجد المرأة لخلقها بخياله خلقا. إنها سنة الحياة القاهرة التى لا يمكن الإنسان أن يتجاهلها، وإلا فرمته فرما أو حولت حياته إلى شقاء لا يحتمل، اللهم إلا إذا كان هذا الجانب فى كيان الشخص خامدا أو خاملا أو ميتا، وهو وضع لا يقاس عليه. أما القول بأن الإنسان يستطيع قهر تلك الغريزة وإماتتها عن طريق الرياضات العنيفة وممارسة ألوان الزهد والجوع والعطش والسهر وما إلى ذلك فلا أدرى كيف يكون، إذ المرأة فى الحقيقة إنما تكمن بداخلنا وتسكن منا العقول وتحتل القلوب قبل أن تكون كيانا قائما بذاته مستقلا عنا يعيش خارجنا.
لكن هناك أمرا حيرنى ولا يزال يحيرنى فى مسألة العلاقة الجنسية بين هييا وكل من الخادمة الإسكندرانية والفتاة الحلبية، وهى أنه كان يمارس الجنس معهما دون أن يخشى افتضاح ثمرة تلك الممارسة متمثلة فى الحمْل، وهى ثمرة متوقعة جدا فى مثل تلك الحالة، بل دون أن يتخذ هو والمرأة التى يواقعها شيئا من الاحتياطات التى تمنع ذلك الحمل، بل حتى دون أن يُثَار بينهما هذا الموضوع أصلا، وكأنه لا وجود له. ولا أظن المجتمع المصرى فى حينه كان لا يبالى بهذا الأمر، ولا أظن أوكتافيا الوثنية كانت لا تبالى به أيضا. صحيح أن الوثنيين لا يعرفون الحلال والحرام كما نعرفهما نحن المتدينين، لكن لهم رغم ذلك حواجزهم وموانعهم الأخلاقية، وإن كانت مرجعيتها اجتماعية لا دينية، وإلا كانت الأمور فوضى لا ضابط لها ولا رابط، وهو ما لا يتحمله أى مجتمع يحرص على تماسكه ويحاول تجنب الانهيار، حتى لو تم ذلك دون وعى كامل بأبعاد الأمر. ولنفترض أن أوكتافيا، بسبب من وثنيتها (رغم عدم اقتناعى بذلك كما سبق القول)، لم تكن تبالى بتلك المسألة لا هى ولا سيدها ولا المحيط الوثنى الذى كانت تعيش وتتحرك فيه، فما القول فى الفتاة الحلبية التى كانت تسكن هى وخالتها بجوار مسكن هيبا فى الدير هناك، وهى فتاة نصرانية لا وثنية؟ ولنفترض أننا غضضنا الطرف عن هذا وذاك، فكيف فات هيبا، وهو الراهب الذى لو انفضح ما كان يأتيه مع تلك الفتاة لكانت قاصمة الظهر بالنسبة له، كيف فاته أن يتخذ شيئا من الاحتياطات التى من شأنها منع الحمل عن عشيقته، وبخاصة أنه قد درس الطب، وكان طبيبا بارعا لم يحدث أنْ عجز عن مداواة أى مريض، فكان أسهل شىء عليه أن يحاول تلافى ذلك الأمر مسبقا حتى لا يحدث؟ هذا ما لا أفهمه!
وفى الصفحة السابعة والثمانين يكتب هيبا واصفا شعوره تجاه نَهْدَىْ أوكتافيا حين رآها لأول مرة على شاطئ البحر فالتجآ إلى مغارة هناك حيث أكلا وشربا مما كانت تُحْضِر مثلَه معها إلى الشاطئ على مدار العامين السابقين من طعام ونبيذ، وهو ما لا يقنعنى أبدا، ولكن علينا أن نفوّتها للمؤلف، وإلا فلن ننتهى، فالمهم الآن هو تصوير هيبا لمشاعره نحو نَهْدَىْ أوكتافيا، وكأن هذه أول مرة يتنبه فيها إلى أن للنساء نهودا، وأن نهودهن مثيرة. ترى هل من الممكن أنه لم يشعر بأية شهوة تجاه صدر المرأة قبل أن يرى أوكتافيا ويتنبه فى المغارة إلى بروز نهديها فيعى لأول مرة أن الثديين خُلِقا، على حد تعبيره، لشىء آخر إلى جانب الرضاعة؟ إذن فهو ليس بشرا. الواقع أن هذا أمر غير معقول.
ثم لقد انتصب ذَكَرُه لمجرد رؤيتها تمشى بدلال أمامه. أفلم ير امرأة قبل ذلك وينتصب ذكره إلا هذه المرة؟ ولنفترض أنه لم ير امرأة من قبل، وهو ما لا يمكن أن يكون، فيبقى أن هذا أيضا أمر غير معقول. ذلك أن المرأة تعيش فى دمنا قبل أن تعيش معنا وحولنا. إن المرأة هنا هى الغريزة والشهوة، وهما يجريان فينا مجرى الدم فى العروق حتى لو كان الواحد منا يعيش فى قمقم، وأين يجرى هاربٌ من دمه كما يقول إبراهيم ناجى؟ وكان هيبا قد قال فى أول الفصل ما معناه أنه كان قبل ذلك يكتفى بتخيل الأشياء والاستمتاع بها ذهنيا. وعلى هذا فلا بد أنه كان يتخيل نهود النساء ويتلذذ بذلك ولم ينتظر حتى رأى نهدى أوكتافيا فى المغارة (الله يخرب بيت المغارة وسنينها. لقد غلبت مغارة على بابا والأربعين حراميا)، مع أن هذا غير صحيح، إذ لا يعقل أنه لم ير امرأة قبل ذلك ولا أن النساء اللاتى رآهن لم يكن لهن نهود. وإذن فماذا كان لهن؟ أم هل هناك نساء فى أى مكان فى الدنيا قد حُرِمْن كلهن من النهود؟ وهل يُسَمَّيْن فى تلك الحالة: نساء؟ يا عيب الشُّوم!
وفى هذا السياق أيضا يؤكد راهبنا العفريت أنه لم يكن يعرف معنى القبلة قبل أن تقبّله أوكتافيا ويدخل دنيا، وإن كانت دنيا حراما، ولكن تلك قضية أخرى، ومع هذا ينسى بعد قليل ما قاله فى هذا الموضوع فيكتب (ص102) أنه كانت يثيره منظر سفاد العصافير (ونكاح الدواب أيضا بالمرة!). وأنا لا أذكر، رغم ولوعى بالعصافير وغرامى بصيدها فى طفولتى وصباى، أننى رأيت عصفورين يتسافدان. ومعنى هذا أننا أمام شخص "مقطّع السمكة وذيلها" حتى إنه ليلاحظ سفاد العصافير الذى قلما يلتفت له أحد، ثم يزعم رغم هذا أنه لم يكن يعرف معنى القبلة! بالذِّمّة أهذا كلام؟ يا رجل، قل كلاما غيره. أتريد أن أصدقك، وأنا أراك تمارس الفاحشة دون أن تبدى أى قدر من التردد أو المقاومة أو التحرج كلما واتتك الفرصة ناسيا أن الزنا حرام، وبالذات فى حالتك أنت أيها الراهب المحيِّر؟ ومع من؟ مع امرأة وثنية! ثم تقول لى إنك لم تعرف "معنى" القبلة من قبل؟ وحتى لو لم يقع لك أنْ قبّلت امرأة قبلا، وهذا أمر أستبعده كثيرا، فإن هذا شىء، وقولك إنك لم تكن تعرف "معنى" القبلة شىء آخر. ذلك أن "طعم" القبلة أمر يختلف عن "معناها". وهل فى الدنيا كلها من شرقها إلى غربها، ومن غربها إلى شرقها، من لا يعرف مثل ذلك المعنى؟ إنه معنى عالمى يا أخا الرهبان!
كذلك هل من المعقول أن يفكر شاب عنده 23 عاما أثناء ممارسة الجنس مع امرأة لأول مرة فى حياته فى الأمر الذى طرد الله آدم بسببه من الجنة وهل هو عصيان آدم له أو لأنه حين عرف سر أنوثة حواء أدرك رجولته واختلافه عن الله مع أنه خلقه على صورته؟ ألا ترى أنه تنطع منك، يا أيها الراهب الفلاتى، أن تفكر فى أمر كهذا فى وقت كهذا فى وضع كهذا؟ ثم يا دكتور زيدان، أوهذا هو الفرق بين الإنسان والله؟ طيب، فإذا كانت الرجولة من نصيب آدم، فماذا كان نصيب الله سبحانه، أستغفره جل وعلا؟ أرجو ألا تقول إن هذه فكرة هيبا لا فكرتك أنت، فهيبا إنما هو من صنع يديك وعقلك ووجدانك وخيالك. وهذا هو النص:
"كان لكلمة الطب وَقْعٌ سحرىٌّ عليها! رفعتْ حاجبيها، وأشرق وجهها ببسمةٍ بدتْ معها أسنانها الناصعة، وقد زادها نورُ القمر بياضاً وألقاً. مالت بوجهها، بل بجسمها كله، ناحيتى. حتى أعادتنى إلى استلقائى الأول، بارتماءتها المتوهِّجة بالاشتياق. كنتُ أظن قبلها أن الرجل إذا خلا بالمرأة، فإنه يعتليها. لكن الذى جرى لحظتها، هو أنها اعتلتنى. لن أستطيع تدوين بقية ما جرى بيننا فى ليلتنا الأولى هذه، ليلتنا. كانت حافلة بالشهوات المحرَّمة التى أهبطت آدم من الجنة. تُرى، هل طرد اللهُ آدم من الجنة لأنه عصى الأمر. أم لأنه حين عرف سِرَّ أنوثة حواء، أدرك رجولته واختلافه عن الله، مع أنه خلقه على صورته!" (ص97).
ويتعلق بهذا ما كتبه هيبا فى مذكراته وصفا لأوكتافيا، الخادمة الإسكندرانية الجميلة المثقفة التى تذكرنى بــ"هنادى" خادمة المهندس الأمية فى "دعاء الكروان"، تلك التى استطاعت تعلم القراءة والكتابة وأصبحت من مدمنات القراءة الجادة، وصارت تتحدث الفصحى بطلاقة عجيبة حتى إنها لتروى لنا قصتها بأسلوب طه حسين ذاته، كما تعلمت الفرنسية "فوق البيعة" وأتقنتها من مجرد استماعها لحصص الدرس الخصوصى لابنة الأسرة التى كانت تعمل لديهم، مما استفزنى وجعلنى أقول ما معناه أن رواية طه حسين "تعلمنا الفرنسية فى ثلاثة أيام بدون معلم". وسبب تهكمى أن الظروف لم تكن كافية لكى تصل خادمة جاهلة فقيرة بائسة وهاربة من أسرتها التى كانت تبحث عنها ويريد خالها أن يقتلها لهروبها وعيشها مع مهندسٍ عَزَبٍ شاب فى شقة واحدة، خادمة آتية من قلب الصعيد وتعمل لدى أسرة مصرية فى وقت لا أظن الخادمات كان لهن فيه أى اعتبار، إلى هذا المستوى الراقى الذى نعجز نحن الأساتذة فى المدارس والجامعات فى الوصول بطلابنا وطالباتنا إليه بعد كل تلك الأعوام التى يقضيها هؤلاء الطلاب فى العملية التعليمية ومع ما نبذله وتبذله الدولة فى هذا السبيل، وهو ما لم تحظ هنادى بشىء منه: لا فى الوقت ولا فى الإمكانات. ثم لا يكتفى طه حسين بذلك، بل تنتهى روايته بتزوج المهندس من الخادمة رغم ما وصفها به فى أول الكتاب من دمامة وقبح شديدين، وإن كان قد نسى فى نهايته فقال على لسانها إن عيون الناس كانت ترمقها بإعجاب فى المشرب الذى ذهبت تتناول الشاى فيه عصرا كأية سيدة من سيدات المجتمع الراقى، ثم زاد الطين بلةً فأوقع فى غرامها المهندس ابن الأكابر الذى كانت تشتغل عنده والذى كان قد أغوى أختها من قبل وتسبب فى قتل خالها لها حفاظا على العرض والشرف، وكان أن اتخذها زوجة. وهو ما استفزنى مرة أخرى فقلت إن طه حسين هو على كل شىء قدير، مما أزعج بعض الطلاب الضيّقى العَطَن ظنا منهم أننى أشبهه بالله سبحانه، أستغفر الله، وفاتهم لضيق عطنهم أننى، بهذا الأسلوب، لا أمجده بل أسخر من طريقته فى القصّ! ويمكن القراء أن يقرأوا الفصل الذى خصصته لنقد "دعاء الكروان" كاملا فى كتابى: "فصول من النقد القصصى".
لقد كان من الممكن أن تلم أوكتافيا ببعض الألفاظ والأفكار التى يرددها سيدها ومتبنيها التاجر المثقف الذى يحرص على اقتناء الكتب وعلى الخلوّ فى مكتبته يقرؤها ويعلق بما يعنّ له على هوامش صفحاتها تعليقات تدل على ثقافة عميقة، لكن دون أن تتعمق فى شىء من ذلك. أى أن تكون معرفتها بتلك الألفاظ والأفكار "من شواشيها" كما نقول فى العامية. أما أن تبلغ ثقافتها المدى الذى يجعلها من المتشيعين لهيباتيا والمولهين بعقلها وفكرها وفلسفتها حتى لتخرج وتتحدى الجماهير الغوغائية التى كانت تسحل تلك الفيلسوفة على أرض الشارع حيث كُشِط جلدها ولحمها عن عظامها كما تقول الرواية التى أوردها هيبا فى مذكراته (وإن كانت هناك رواية أخرى تقول إن أولئك الوحوش قد كشطوا الجلد بأطراف المحار الذى وجدوه على الشاطئ، وثالثة تقول: بل تم الكشط بما استخدموه من حجارة حادة الأطراف) وتحاول الدفاع عنها وحمايتها من القتل فكان أن قُتِلَتْ هى أيضا. الحق أن الرواية هنا قد "زادتها حبيتن". لكن هذا لا يمنعنى من القول بأننى استمتعت، رغم ما يسود الأمر كله من لاواقعية كلاواقعية "دعاء الكروان"، بوصف المؤلف على لسان هيبا تلك الخادمة فى ملابسها البالغة الأناقة وجمالها الناضج الفتان وتصرفاتها الأرستقراطية وصرة الطعام الفخمة التى كانت تحملها معها عند الشاطئ حين التقت بهيبا لأول مرة ووقع كلاهما فى غرام الآخر من النظرة الأولى ومارسا الجنس هناك ببساطة متناهية يُحْسَدان عليها (على الأقل: من جانبى أنا لأننى من الذين يخافون ويمشون جنب الحائط، وأخاف أن آتى بحركة "كذا أو كذا" حتى لا أضيع فى شربة ماء، إن لم يكن خشية لله، وليست خشيتى لله بالشىء القليل، فخوفا من التبعات الاجتماعية والفضيحة والجُرْسَة وشماتة من يساوى ومن لا يساوى)، وكأنهما قد رتبا الأمر كله ترتيبا من "طَقْ طَقْ لسلامٌ عليكم"، وإن لم تَسْلَمْ أفكارها رغم ذلك كله من نزعة عامية تمثلت فى تصديقها للعرافة التى تنبأت لها قبل عامين بأنها سوف تلقى حبيبها قادما من البحر بعد نقطتين. قل: يومين! قل: أسبوعين! قل: شهرين! قل: عامين! لكن من فضلك لا تقل: قرنين، لأنها واسعة شوية! فكانت تخرج كل يوم على مدار العامين إلى الشاطئ (يا قوة الله! عامين كاملين؟) تترقب ورود حبيب القلب، ومعها صرة الطعام وزجاجة النبيذ المعتق (الذى لم أذقه ولا ذقت أى شراب فى حياتى نفورا طبيعيا من الخمر حتى لو لم يحرمها الله)... إلى أن لقيتْ هيبا وهو يكاد يغرق أثناء سباحته هناك فوقع فى خاطرها للتو واللحظة أن هذا هو حبيب القلب الذى ذكرته لها الكاهنة، وهوما يذكرنا بالمعالجات الساذجة التى تقوم عليها بعض الأفلام المصرية القديمة، فكان ما كان مما لست أتحرج من ذكره، بل لقد ذكرته، وأفاض فيه الكاتب إفاضة جعلتنى أخاف على نفسى من الفتنة وأنا الشيخ الكبير (كدت أقول مثل محمد رشدى فى أغنية "عَدَوِيّة": وأنا الشاب الفقير!)، فما بالنا بالشاب، وبالذات الشاب الفقير الذى لا أمل عنده فى الزواج قريبا أو بعيدا، وبالذات بالذات فى ظل الاحتكار الجلف البشع حاليا للحديد المصرى وارتفاع أسعاره إلى أرقام فلكية تحطّم العقول والقلوب والجيوب تحطيما وتجعل شراء شقة حلما مستحيلا، اللهم إلا فى المشمش... أو فى الجنة، التى لن يدخلها بطبيعة الحال كل محتكر لئيم، وبخاصة إذا لم يكن معروفا من أين حصل هذا المحتكر على أمواله؟ أى أن هيبا نجا من الغرق فى بحر الإسكندرية فغرق فى بحر أوكتافيا. نعم لقد نجا من البحر المالح ليغرق فى بحر العسل! عسل أسود ومطين بستين نيلة، لكنه فى نهاية المطاف عسل، ياناس يا عسل!
وعلى ذكر "عدوية" محمد رشدى فقد كانت شخصية حقيقية تشتغل خادمة لدى الموسيقار عبد العظيم عبد الحق، وكان الأبنودى يراها كلما كان فى زيارة للموسيقار الكبير، إذ كانت تحضر لهما ما يحتاجه الضيف ومضيفه، وكان عبد الحق لا يكف عن ندائها كى تلبى هذا الطلب أو ذاك: روحى يا عدوية! تعالى ياعدوية! أنت يا بنت يا عدوية! إلى أن لَفَتَ جَرْس الاسم وغرابته أذن الأبنودى وانتباهه فنظم فيها أغنيته المشهورة. وحينئذ عرضها على الأستاذ عبد الحق فرفض قائلا إنه لا يليق به أن يلحن أغنية تتغنى باسم خادمته، فأعطاها الشاعر لبليغ حمدى ونجحت الأغنية وكسّرت الدنيا، فكان عبد الحق كلما فتح الإذاعة سمع الأغنية وفيها اسم "عدوية"، وكلما مشى فى الشارع سمع الناس تردد الأغنية وفيها اسم "عدوية"، فكان يضحك قائلا وهو يكاد يشد شعره: منك لله يا أبنودى!
ويرتبط بموضوع أوكتافيا وممارسة هيبا الفاحشة معها فى المغارة قول راهبنا، الذى لا أستطيع أن أفهمه فى كل حالاته ولا أستطيع متابعته فى بدواته العجيبة، إن تسجيله الكتابىّ لما وقع من فاحشة بينه وبين أوكتافيا قد دنّس روحه، ليعود بعد أسطر قليلة فيقول إن الاعتراف، أى الكتابة فى هذا الموضوع، يطهرنا من كل الخطايا (ص108). حيرتنا معك يا عمّ هيبا! يدنّس أم يطهّر؟ أو بالبلدى الفصيح: نفتح الشباك أم نغلق الشباك؟ ومثل ذلك فى التناقض ما نلاحظه من أن فكره وعقيدته مضطربان ويتناقضان من لحظة إلى لحظة، ففيما كان يقول إن الله معاقبه لا محالة على ارتكابه الفاحشة مع أوكتافيا، إذا به عقب ذلك يقول إن الله سوف يغفر للجميع مؤمنين ووثنيين لأنه رحيم (ص104- 105). مرة أخرى: حيرتنا يا عم هيبا! يغفر أو لا يغفر؟ اُرْسُ لك على بَرّ، الله لا يسوؤك! ومن التناقضات المضحكة فى تصرفاته وكلامه أيضا قوله إنه ألقى جلبابه على جسمه العارى خجلا من نظرات أوكتافيا. والحق أنه لا معنى لهذا الخجل بعدما قضى الليل وأول النهار يجامعها ويطّلع منها وتطّلع منه على كل شىء وتحمّمه وتدلكه بالليفة، وهو ما تكرر كثيرا طوال كل يوم، إلى أن عرفت أنه نصرانى لا وثنى مثلها فطردته من جنة الشياطين هذه بلا عودة. بالله عليكم، أيها القراء، أو تصدقون ذلك العفريت حين يقول إنه كان خجلان من عريه أمام الخادمة فتغطى؟:
"نسيتُ ذاتى ساعتها، وغاظنى أنها غالبا ما تبدأ الأمر، فدعتنى نفسى إلى البدء تلك المرة، حتى أشعرها بقوتى! كنتُ صغيرا، ومندفعا. أدرتها من كتفيها حتى وَلَّت وجهها نحو الجدار، ثم أزحتها بضغطَّةٍ من كفىَّ على جانبىْ ظهرها، فانزاحتْ مستسلمةً لى. نفختُ شعلة القنديل فانطفأت، ولفَّنا الظلامُ. كان صدرها إلى الجدار الرطب، وصدرى إلى ظهرها الدافئ. تحسَّستُ فى الظلام جسمها، فوجدتها مستسلمةً تماماً وقد أسندتْ يديها إلى الحائط، ومالت برأسها قليلاً إلى الإمام. رفعتُ عنى جلبابى، وأنزلتُ السروال، ورفعتُ عنها ثوبها، ولم يكن تحته شيئ لأُنزله. صرنا عاريين تماما. علا صوتها، وهى تئنُّ طالبةً منى شَقَّها لنصفين. يا إلهى. لايصح هذا الذى أتذكره وأذكره بعد مرور هذه السنين الطوال" (ص125- 126).
ولا أدرى لماذا "نصفين" فقط مع أن الأغنية تقول: "قطّعنى حتت وارمينى فى الزيت"، أى حتتا كثيرة لا حتتين فقط. وما ضَرَّها أو ضَرَّه لو طلبت منه أن يقطّعها أكثر من ذلك، وليس شرطا أن يرميها فى الزيت، لأن ما تكون فيه ساعتها أشد لهيبا من الزيت والزفت المغلى ذاته؟ هل الكلام فى مثل تلك الظروف عليه جمرك أو يأخذه أحد على محمل الجِدّ؟
كذلك هل يعقل أن نصرانيا مثل هيبا، الذى كان راهبا لا نصرانيا عاديا ويبدو فى غير قليل من الأحيان متحرجا جدا فيما يخص أمور عقيدته، يمكن أن يقول فى حديثه عن أوكتافيا: "على طرف سريرها جلستْ وهى تمد ذراعيها نحوى مثل ربة مانحة، ربة حنون وطيبة ومرحة" (ص128)؟ الواقع أن هذا كلام لا يقوله إلا الوثنيون المؤمنون بتعدد الأرباب. لكن لا ينبغى أن نحاسبه على كلامه فى تلك الظروف التى تطير أبراج العقول جميعا لا بُرْجًا واحدا كما يقال، أو بُرْجَيْن كما تقول صباح فى إحدى أغانيها! وإذا كان المثل الشعبى يقول: "بلدك من أين جحا؟ - بلدى التى فيها امرأتى"، فيمكننا بدورنا أن نقول فى سياقنا هذا: "ما هى عقيدتك يا هيبا؟ ليرد علينا قائلا: فأما عقيدتى مطلقا فهى النصرانية، وأما فى السرير فهى العقيدة التى عليها حبيبتى. على كل حال فإن هذا التناقض فى تصرفات وكلام هيبا ينال من عنصر رسم الشخصية فى الرواية، وقد كنا نود لو برئ رسم الشخصيات فيها من هذه الملاحظة، وبالذات رسم شخصيتها الأولى.
ثم تعرف أوكتافيا، كما قلنا، أن هيبا نصرانى فتطرده فى الحال من فردوسها الشيطانى غاضبة غضبا بركانيا مزلزلا، وتكون تلك هى الفاصلة الأبدية. لكن هل من المقنع أن أوكتافيا، بعدما ذاقت عُسَيْلته وذاق عُسَيْلتها أياما وليالى فى المغارة (ولا مغارة على بابا!) وفى قصر سيدها، لا تعرف ولا يعرف هو تحرجا ولا ترددا ولا تخلّج ضمير، بل عاشا فى بُلَهْيِنَةٍ لا تتاح عادة للبشر فى هذه الأرض المزعجة التى لا تترك لذة من اللذات إلا بترتْها أو كدرتها أو شابتها بالتوتر والخوف من المجهول، وكانت تنتظره منذ عامين بالطعام والنبيذ كل يوم عند الشاطئ، هل من المقنع أن تفعل أوكتافيا هذا مع حبيب القلب وحبيب غير القلب ثم لا تتراجع فى موقفها منه ودون أى تلجلج أو تندم أو تفكير فيما كان بينهما، وهو ليس أبدا بالشىء القليل، وكأن قلبها قُدَّ من حديد؟ لقد كل كل ما يهمها هو الشهوة وإشباعها، والشهوة لغة عالمية عند الزناة والفلاتية، وكان البطل يعطيها ذلك بغزارة وثرارة وصفاء ونقاء إن كان لنا أن نصدق ما تقوله الرواية فى هذا الصدد، فماذا تريد تلك "الجاحدة" أكثر من ذلك؟ ثم إنها خادمة فى نهاية المطاف، ولا موقف عقيدىٌّ لها صُلْبٌ كما يريد المؤلف أن يوهمنا. ولا ننس أنها كانت تنظر إليه (إلى هيبا طبعا لا إلى المؤلف) بوصفه عطيةً من الآلهة حسبما ذكرتْ له. كذلك فالمسائل العاطفية والجنسية لا تُحْسَم بهذه السهولة، بل لا بد أن يقوم بشأنها صراع فى نفس الشخص طويل قبل أن تستقر الأمور على وضعها الأخير (انظر ص132- 133). ولعل القارئ يتساءل: وإلى أين ذهب هيبا فى تلك المدينة التى لم يكن يعرف فيها أحدا ولا كان له من المال ما يمكنه أن يكترى به مسكنا مثلا؟ فهل هناك سوى المغارة والجوع والعطش؟ تستأهل يا هيبا يا من استحللت قصر الرجل الطيب الغائب فعِثْتَ فيه زنا ودعارة وأكلا وشربا وقراءة كتب من مكتبة الرجل دون حساب ولا عتاب. يعنى: أكل ومرعى وقلة صنعة! لكن الله سرعان ما اقتص منك فطردتك المجنونة بنت المجنونة شر طردة لترجع إلى الشارع حيث البرد والجوع والتشرد والعويل واصطكاك الأسنان! تستأهل. هل قال لك أحدٌ: ازْنِ!
لقد كان أمامك الزواج، وهو الطريق الشرعى لنيل ما تريده من المرأة وما تريده منك المرأة، لكنك تنكرت له وترهبت، ولم تسلم الجـََرّة فى أية مرة. ولقد قالت لك مرتا البنت الحلبية الحلوة: تزوجنى، فأجبتها، خيبة الله عليك، بأنك راهب، ولا يمكن الراهب أن يتزوج. فما كان منها، نوَّر الله عليها وعلى بديهتها الحاضرة وفصاحتها المفحمة، إلا أنْ صفعتْك بقولها: وهل الرهبنة تجيز لك ما كنا نفعله الآن؟ تقصد الفاحشة التى كانا يمارسانها فى بيتها بجوار الدير. وهذا ما حذر منه نبينا العبقرى وأنكره مؤكدا أنه لا رهبانية فى الإسلام. ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يعرف أن الرجال لا يستغنون تحت أى ظرف عن النصف الحلو، كما أن النصف الحلو لا يمكن أن يستغنى عن النصف الخنشورى، وأن من يحاول ذلك فهو كناطحِ صخرةٍ يوما ليوهنها، فلم يضرها فى شىء، ولم يَنُبْه إلا إدماء قرنه وعودته فاشلا يجرجر أذيال الفشل. وفى رأيى أن الرجل، أى رجل، إما أن يتزوج أو يزنى أو يظل طول حياته يجاهد غرائزه، ومن ذا الذى يستطيع ذلك؟ إنه، إن نجح فى مجاهدة تلك الغرائز، ولا أظنه ينجح أبدا، فلسوف يبقى سائر عمره يعانى من مشاكل نفسية رهيبة تربك شخصيته وأوضاعه كلها، اللهم إلا أن تكون غريزة الجنس لديه ميتة أو يكون تركيبه الذكورى غير طبيعى. وكم نسبة الرجال من هذا الصنف؟ لهذا ولغير هذا كان نبى الإسلام، صلى الله عليه وسلم، حاسما حين نهى عن الرهبانية وحَضَّ كل مستطيع على الزواج دون إبطاء، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وِجَاءٌ إلى أن ييسر الله الأمور. وإنى لأتصور أنْ لو أدرك هيبا عصر النبى لكان من أوائل المسلمين، ولكنا ذكرنا اسمه الآن مع بلال الحبشى وصُهَيْب الرومى وسلمان الفارسى فقلنا: "سيدنا هيبا المصرى رضى الله عنه". لكنه لم يفز بها، وسبقه بها أكثر من عكاشة!
كذلك فالاعتراف طقس لا يعرفه الإسلام، وهو طقس لا معنى له سوى فضح الإنسان لنفسه ولمن شاركه الإثم وإعطاء الكاهن الفرصة لاستغلال المعترف، وبخاصة إذا كان طفلا أو امرأة كما هو معروف فى كل مكان. ثم إن الغافر هو الله لا الكاهن. كما أن هذه الفلسفة من شأنها أن تجرئ الشخص على التمادى فى ارتكاب الخطايا ما دام الاعتراف جاهزا، والغفران حاضرا. أما الإسلام فيأمر الشخص بالاستتار بالبلايا وعدم هتك الستر الذى ستره الله به، وأن يعود عن المعصية ويضع أمله فى الغفران فى الله. كما أن الإسلام لا يعتبر ما يسمى: الخطيئة الأصلية ولا يضعها فى الحساب لأن آدم قد نال ما استحقه وانتهى الأمر، ونحن (ذريته) شىء آخر.
أما لماذا غضبت الكنيسة من هذه الرواية، فالأسباب متعددة: ذلك أن الرواية قد فضحت نظام الرهبنة متمثلا فى هيبا، الذى كان يشك فى عقيدته ويمارس الخطيئة دون تردد أو تلجلج كلما أتيحت له فرصة ممارستها. ثم هو لا يكتفى بها، بل يأخذ فى وصف ما وقع وصفا من شأنه إضرام نار الشهوة فى العروق، وبخاصة أنه يضفى على الفاحشة غلالة رومانسية عذبة تسهّل لهذا الوصف التغلغل إلى النفوس والقيام بتأثيره فى خفاء ويسر يصعّبان مقاومته. كذلك فهيبا، الذى لا شك أنه يعبر عن أفكار المؤلف، وإن كان ذلك بطريقة فنية، لا يدع أية فرصة إلا وعرض شكوكه فى النصرانية وفى الكنيسة ورجالها، وبالذات كنيسة الإسكندرية رغم أنه مصرى، وكان يُتَوَقَّع أو يُرْجَى منه على أقل تقدير أن يؤازرها ويعمل على التغطية على عيوبها، لكنه أخلف الرجاء والظن وكشف كثيرا من عوراتها وصور رجالها تصويرا لا يسر عدوا ولا حبيبا. فمثلا نراه يحمّل كيرلس أسقف الإسكندرية فى عصره ورهبان كنيستها مقتل الفيلسوفة الإغريقية الجميلة هيباتيا، ذلك المقتل المتوحش الذى يدل على أن مرتكبيه لا يمكن أن ينتموا إلى جنس الإنسان، وإن تقنعوا بقناع الدين والغيرة عليه. وقد أدان نسطور مقتل هيباتيا واتهم كيرلس برشوة القضاة حتى انتهى البحث إلى لاشىء ولم تتم إدانة أحد (ص188). وجدير بالذكر أن نقول إن القمص بسيط، فى حلقة "العاشرة مساءً"، قد أثنى على هيباتيا وعلمها ومكانتها وذكر أن بعض رجال الدين النصارى قد تتلمذوا على يديها، إلا أنه أنكر مع هذا أن يكون لكيرلس أى دخل على الإطلاق فى مقتلها، مضيفا أن الذى ألصق هذه التهمة بكيرلس مؤرخ وثنى صدّقه الكتاب اللاحقون.
ولقد كان من الممكن إلى حد ما أن نجد بعض العذر لمن قتلها لو أنها كانت تعذب النصارى مثلا. أما وهيباتيا لم تسئ إلى النصارى بشىء فلا أظن من الممكن أن يكون لقاتليها عذر أى عذر. بل حتى لو شاركتت هيباتيا فى محاربة النصرانية والنصارى فإن الطريقة الرهيبة البشعة التى قُتِلَتْ بها لا مسوغ لها أبدا. ولندع هيبا، أو بالحرى: المؤلف، يرسم لنا ذلك المشهد الفظيع الذى لا أظن كاتبا آخر قد ساواه فى رسمه. أقول هذا وقد قرأت وصف مقتلها فى عدد من الكتب ودوائر المعارف باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية، فأنا حين أقول ذلك لا أقوله من فراغ. وسبب ذلك أن المؤلف، أو هيبا: لا فرق، قد وصف المشهد بأسلوب أدبى تفنن فيه وفى توبلته بكثير من التفاصيل المثيرة التى تبرز جريمة المتوحشين البرابرة إبرازا. لقد أراد إدانة التعصب الكنسى وحشد لذك كل قواه التعبيرية والوجدانية، فكان هذا النجاح الفريد. ولنقرأ، ولكن ليس قبل تحذير القراء الذين لا يستطيعون الصمود أمام مشاهد القتل العنيف من الاستمرار معنا فى الصفحات التالية:
"فى الأعوام الرتيبة التى قضيتها بالإسكندرية، كنتُ أحضر دروس الطب واللاهوت بانتظام. واشتهرتُ بين أهل الكنيسة بكثرة الصلاة وقلة الكلام، فحسن اعتقادهم فى صلاحى وورعى. ومع كَرِّ الأيام والشهور، نسيتُ ما كان من أمر أيامى الأولى بالمدينة، ولم أعد أسمع أخباراً عن هيباتيا، ولا عن غيرها. حتى جاءت تلك الأيامُ العصيبة من شهور سنة خمس عشرة وأربعمائة للميلاد المجيد، إذ سَرَتْ أولاً بين رجال الكنيسة، همهماتٌ عن احتدام الخلاف بين البابا كِيرُلُّس وحاكم الإسكندرية أورستوس. ثم شاعت أخبارٌ كثيرةٌ عن اعتراض جماعة من شعب الكنيسة، المؤمنين، طريقَ الحاكم أوريستوس، ورجمهم له بالحجارة. مع أنه فى الأصل رجلٌ مسيحىٌّ، ومعروفٌ أن عماده أيام شبابه، كان فى أنطاكية على يد يوحنا فم الذهب. ومع أن يسوع المسيح فى بدء بشارته، نهى اليهود عن رجم العاهرة، فى الواقعة المشهورة التى قال فيها: مَنْ كان منكم بلا خطية، فليرجمها بحجر .
غير أن هذا الخلاف الثائر بين الأسقف والحاكم، لم يكن أيامها يعنينى فى شئ! ومن ثم، انشغلت عنه بهمومى اليومية وصلواتى ودروسى المملَّة، فلم أحرص على التقاط الهمهمات أو تتبُّع الأخبار. حتى بدأ اسم هيباتيا يجرى على الألسنة فى أكثر الجلسات. كنتُ أظن أننى نسيتها تماماً، ثم وجدتنى كلما سمعت اسمها، أضطربُ ويخفق قلبى لذكرها.
تاقت نفسى لمعرفة ما يدور وراء أسوار الكنيسة، فتتبعتُ الحكايات ومحدثات الأمور. بدأتُ بسؤال القَسّ يوأنَّس الذى نهرنى، وأمرنى بعدم الانشغال بغير ما جئت من أجله. بعد أيام عاودتُ سؤاله بلطفٍ، فنصحنى بالابتعاد عن الموضوع، والاهتمام بما أنا موجودٌ فى الكنيسة من أجله. سألتُ غيره، فلم أهتد منهم إلى خبرٍ يطمئن له قلبى. غير أننى تأكَّدت من همهمات الخدم الذين يتردَّدون بين المدينة والكنيسة، أن كراهية البابا لهيباتيا كانت قد بلغت المدى. كانوا يقولون إن الحاكم أوريستوس طرد رجلا مسيحيا من مجلسه، فغضب البابا. ويقولون إن الحاكم يعارض ما يريده البابا من طرد اليهود بعيدا عن الإسكندرية، بعدما طردهم الأسقف ثيوفيلوس إلى رَبْع اليهود الكائن بالجهة الشرقية، وراء الأسوار. ويقولون إن الحاكم كان يُفترض فيه أن يصير نصيرا لأهل ديانتنا، إلا أن الشيطانة هيباتيا تدعوه إلى غير ذلك. ويقولون إنها تشتغل بالسحر، وتصنعُ الآلات الفلكية لأهل التنجيم والمشعوذين. قالوا أشياء كثيرة، لم يطمئن إليها قلبى .
مرت الأيام مترعةً بالتوتر، حتى كان يوم الأحد المشؤوم. المشؤوم بكل ما فى الكلمة من معنى عميق. ففى صبيحة ذاك اليوم، خرج البابا كِيرُلُّس إلى مقصورته ليلقى على الجموع عظته الأسبوعية، وكان على هيئته الحزنُ. لم ينظر إلى مستمعيه فرحاً بشعبه كعادته ، وإنما أطرق لحظةً طويلة، ثم أسند صولجانه الذهبى إلى جدار المقصورة، ورفع يديه إلى السماء حتى انسدلت أكمامه الواسعة وبدت ذراعاه النحيلتان. انشرعت أصابعه فى الهواء، فكأنها أطراف المذراة. وبصوت جهيرٍ هادر،ٍ راح يقرأ الصلاة المذكورة فى إنجيل متى: أبانا الذى فى السماوات، ليتقدَّس اسمُك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئك فى السماء، وكذلك فى الأرض.
أخذ الأسقفُ يعيد الصلاة، حتى أخذ الناسَ النشيجُ وهم يردِّدون الدعاء وراءه. ثم صار صوته نارياً متأججاً وهو يقول لهم: يا أبناء الله، يا أحباء يسوع الحى، إن مدينتكم هذه، هى مدينةُ الرَّبِّ العظمى. فيها استقر مُرقس الرسول، وعلى أرضها عاش الآباء، وسالت دماءُ الشهداء، وقامت دعائم الديانة. ولقد طهَّرناها من اليهود، المطرودين. أعاننا الرَّبُّ على طردهم، وتطهير مدينته منهم. ولكن أذيال الوثنيين الأنجاس، مازالت تثير غبار الفتن فى ديارنا. إنهم يعيثون حولنا فسادا وهرطقة، يخوضون فى أسرار كنيستنا مستهزئين، ويسخرون مما لايعرفون، ويلعبون فى مواطن الجد ليشوهوا إيمانكم القويم. يريدون إعادة بيت الأوثان الكبير الذى انهدم على رؤوسهم قبل سنين، ويودون تعمير مدرستهم المهجورة التى كانت تبثُّ الضلال فى العقول، ويفكِّرون فى إعادة اليهود من الرَّبْع الذى سكنوه إلى داخل أسوار مدينتكم . لكن الرَّبَّ ، ياجند الرَّبِّ ، لن يرضى بذلك أبداً. ولسوف يُحبط مساعيهم الدنيئة، وسوف يبدِّدُ أحلامهم المريضة، وسوف يرفع قَدْر هذه المدينة العظمى، بأيديكم أنتم. مادمتم بحقٍّ، جنودَ الرب. مادمتم بحقٍّ، جنود الحق. لقد صدق ربنا يسوع المسيح، حين نطق بلسانٍ من نورٍ،ِ فقال: الحقُّ يطهِّركم! فتطهَّروا يا أبناء الرب، وطهِّروا أرضكم من دنس أهل الأوثان. اقطعوا ألسنة الناطقين بالشَّرِّ. ألقوهم مع معاصيهم فى البحر، واغسلوا الآثام الجسيمة. اتَّبعوا كلمات المخلِّص، كلمات الحق، كلمات الرَّبِّ. واعلموا أن ربنا المسيح يسوع، كان يحدثنا نحن أبناءه فى كل زمان، لما قال : ماجئتُ لأُلقى فى الأرض سلاما، بل سيفا!
اهتزت الجموعُ مهتاجةً، حتى كاد اهتياجُها يبلغ الغاية. وراح كِيرُلُّس يكرِّر بهديره الحماسىِّ الآسر، قول يسوع المسيح: ماجئتُ لأُلقى فى الأرض سلاما، بل سيفا! فيزداد هياجُ الجموع، ويقارب بحدَّته حدود الجنون. بدأ الناس يردِّدون وراءه العبارة، ولم يكفوا إلا حين قَطَعَ التردادَ بصرخةٍ كالرعد، ذلك الضخمُ المعتادُ على إنهاء خطب يوم الأحد النارية، أعنى بطرس قارئ الإنجيل بكنيسة قيصرون الذى انفجر من بين الجموع قائلاً: بعون السماء، سوف نطهِّر أرض الرب من أعوان الشيطان. سكت الأسقف، فسكن الناسُ إلا بطرس القارئ. ثم أخذ بعضهم يعيد وراءه عبارته، وأضاف إليها أحدهم الترنيمة المرعبة: بسم الإله الحى سنهدم بيت الأوثان، ونبنى بيتاً جديداً للرب. بعون السماء سوف نطهر أرض الربِّ من أعوان الشيطان. بسم الإله الحى سنهدم بيت الأوثان.
استدار الأسقفُ، فتناول صولجانه، ورفعه فى الهواء ليرسم به علامة الصليب، فاجتاح الكنيسة هوسُ الجموع. تداخلت الهتافاتُ واصطخبت، عَمَتِ العقولُ، وعمَّتِ القلوب فوضى منذرةٌ بحادثٍ جسيم. كان بطرس القارئ أول مَنْ تحرَّك نحو الباب، ثم تحرَّك من خلفه الناس جماعاتٍ وهم يرددون عبارته الجديدة: بعون السماء سوف نطِّهر أرض الرَّبِّ.
كادتْ ساحةُ الكنيسة تخلو، وكانت أصواتُ الهاتفين وراء بطرس القارئ تأتى من خارج الأسوار. دخل الأسقفُ من شرفته ووراءه القسوس، ولم أدرِ ساعتها إلى أين أذهب؟ هل أعود لصومعتى وأغلق بابى علىَّ، مثلما أفعل دوما؟ أم أظل فى ساحة الكنيسة، حتى يظهر ما سوف يظهر من مشيئة الرب؟ أم أخرج وراء الجموع؟ ومن دون تدبيرٍ منى، أو بتدبيرٍ خفىِّ عنى، خرجتُ مدفوعا بتوجُّسى خلف الجموع، فلحقت بهم. ولكننى بالطبع، لم أكن أردِّد وراءهم ما يقولون .
اتجه بطرس قائدُ الجموع إلى الشارع الكانوبى الكبير، ومن خلفه سار مئاتُ الهاتفين. كانت شمسُ الظهيرة مُتَّقدةً، والرطوبةُ العالية تخنق الأنفاس. البيوتُ ارتجَّت مع حركة المؤمنين ومن علو الهتافات، كان بعضها مغلقَ النوافذ والأبواب، وبعضها يقف ساكنوه على سطحه يلوِّحون بالصلبان. ثار غبار الطرقات، وهربت الملائكة الرحيمة من السماء، وحَدَّثنى قلبى بقرب وقوع حَدَثٍ مروع. كنتُ أسيرُ مأخوذا بما يجرى من حولى، وكأننى أعيش واحدةً من رؤى سفر حبقوق المنذرةِ بفناء العالم وزوال الدنيا.
بعد حينٍ، تناقص الهاتفون المهلِّلون، وتفرَّقوا فى الطرقات مع طول الجولان فى أنحاء المدينة. صاروا عشرات موَّزعة فى الشوارع، وساروا يردِّدون الهتافات ذاتها. فى لحظةٍ ما، اعتقدتُ أن غرض هذا الصخب، تبيانُ أن المسيحيين هم الأظهرُ والأقوى بالمدينة. هى إذن، رسالةٌ ضمنيةٌ إلى الحاكم، وتنبيهٌ صريحٌ لكل السكان. ولكن الأمر انقلب إلى ماهو أعمق من ذلك، وأبعد، وأبشع .
شمسُ الظهيرة حَمَّ شعاعُها، وازدادتْ رطوبةُ الهواء حتى ثقلت علىَّ أنفاسى اللاهثة وراء الجماعة الهاتفة الباقية وراء بطرس القارئ. كدتُ أستدير راجعاً إلى أسوار الكنيسة، إلى حصنى الحصين، لولا أننى انتبهت إلى ذلك الرجل النحيل، طويل الرأس، الذى جاء من أقصى الشارع يجرى، وهو يصيح لبطرس والذين معه:
- الكافرةُ ركبتْ عربتها، ولا حُرَّاس معها .
خفق قلبى بشدة، واعترانى فزعٌ مفاجئ لما رأيتُ بطرس يجرى وهو يصرخُ، نحو الجهة التى أشار إليها الرجل ذو الرأس الطويل، وتبعه الآخرون. جريتُ خلفهم، وليتنى ما فعلتُ. عند الكنيسة الصغيرة التى فى منتصف الشارع الواسع المؤدى من المسرح الكبير إلى الميناء الشرقى، بدت من بعيدٍ عربة هيباتيا ذات الحصانين، العربة ذاتها التى رأيتها تركبها، وترحلُ بها عنى، قبلها بثلاثة أعوام. العربةُ هى هى، والحصانانِ هما هما، أنا وحدى الذى ما كنتُ أنا. بطرسُ القارئ انطلق ببدنه الضخم ليلحق بالعربة وهو يصرخ، ويصرخ وراءه أتباعه بألفاظٍ غير مفهومة. قبل أن يصل إليها، بأمتارٍ، وقف فجأةً وتلفَّت؛ فاندفع إلى ناحيته أحدهم وهو يصيح صيحةً هائلة ويُخرج من تحت ردائه الكنسى سكينًا طويلاً.. صدئاً.. أيضًا.. السكين..
╬ ╬ ╬
لن أكتب حرفًا واحدًا. لا..
╬ ╬ ╬
يارب. شُلَّ يدى.. خذنى إليك. ارحمنى.
╬ ╬ ╬
سأمزقُ الرقوق، سأغسلها بالماء. وسوف..
- اكتبْ يا هيبا، اكتبْ باسم الحقِّ المختزن فيك.
- يا عزازيل، لا أقدر.
- اكتبْ ولا تجبُن، فالذى رأيته بعينك لن يكتبه أحدٌ غيرك، ولن يعرفه أحدٌ لو أخفيته.
- حكيته لنسطور فى أورشليم، قبل سنين.
- ياهيبا، حكيتَ يومها بعضا منه، فاكتبه اليوم كاملاً، اكتبه الآن كله.
╬ ╬ ╬
آه. لما التقط بطرسُ السكين الطويلة الصدئة، رآه سائقُ عربة هيباتيا، فقفز كالجرذان وجرى متواريا بين جدران البيوت. كان بإمكان السائق أن يُسرع بحصانيه فى الشارع الكبير، وما كان لأحدٍ أن يلحق بالعربة. لكنه هرب، ولم يحاول أحدهم أن يلحق به! ظل الحصانان يسيران مُرتبكين، حتى أوقفهما بطرس بذراعه الملوِّحة بالسكين. أطَلَّت هيباتيا برأسها الملكى من شُبَّاك العربة، كانت عيناها فزعةً مما تراه حولها. انعقد حاجباها، وكادت تقول شيئاً، لولا أن بطرس زعق فيها: جئناك يا عاهرة، يا عدوَّة الرَّبِّ .
امتدتْ نحوها يدُهُ الناهشةُ وأيدٍ أخرى، ناهشةٌ أيضًا، حتى صارت كأنها ترتقى نحو السحاب فوق أذرعهم المشرعة. وبدأ الرعبُ فى وضح النهار. الأيادى الممدودة كالنصال، منها ما فتح باب العربة، ومنها ما شدَّ ذيل الثوب الحريرى، ومنها ما جذب هيباتيا من ذراعها فألقاها على الأرض. انفلت شعرُها الطويل الذى كان ملفوفاً كالتاج فوق رأسها، فأنشب فيه بطرس أصابعه، ولوى الخصلات حول معصمه، فصرختْ، فصاح: باسم الرَّبِّ، سوف نطهِّر أرض الرَّبِّ.
سحبها بطرسُ من شعرها إلى وسط الشارع، وحوله أتباعه من جُند الربِّ يهلِّلون. حاولت هيباتيا أن تقوم، فرفسها أحدهم فى جنبها، فتكوَّمت، ولم تقو على الصراخ. أعادها بطرس إلى تمدُّدها على الأرض، بجذبةٍ قويةٍ من يده الممسكة بشعرها الطويل. الجذبة القوية انتزعت خصلات من شعرها، فرماها، نفضها من يده، ودَسَّ السكين فى الزُّنَّار الملفوف حول وسطه، وأمسك شعرها بكلتا قبضتيه، وسحبها خلفه. ومن خلفه أخذ جُنْدُ الرَّبِّ يهتفون هتافه، ويهلِّلون له وهو يجرُّ ذبيحته.
كنتُ لحظتها واقفًا على رصيف الشارع، مثل مسمارٍ صدئ. لما وصلوا قبالتى، نظر بطرس ناحيتى بوجه ضبعٍ ضخم، وتهلل وهو يقول: أيها الراهب المبارك، اليومَ نطهر أرض الرَّبِّ. وبينما هى تتأرجح من ورائه على الأرض، تقلَّبت هيباتيا، استدار وجهها نحو موضعى. نظرت إلىَّ بعينٍ مصعوقة، ووجهٍ تكاد الدماءُ منه تنفجر. حدقت فىَّ لحظتها، فأدركتُ أنها عرفتنى، مع أننى كنتُ فى الزِّىِّ الكنسى! مدَّت ذراعيها ناحيتى، وصاحتْ مستصرخةً بى: يا أخى. تقدمتُ إلى منتصف الشارع خطوتين، حتى كادت أصابعى تلمس أطراف أصابعها الممدودة نحوى. كان بطرس القارئ يلهثُ منتشياً، وهو يمضى ناحية البحر ساحبًا غنيمته. وكان البقيةُ يتجمَّعون حول فريستهم، مثلما تجتمع الذئاب حول غزالٍ رضيع. لما أوشكتْ أصابع هيباتيا أن تعلق بيدى الممدودة إليها، امتدت يدٌ نهشت كُمَّ ثوبها، فتطوَّحت كَفُّها بعيداً عنى، وتمزَّق الثوبُ فى اليد الناهشة، فرفعه الناهشُ ولَوَّح به، وهو يزعق بعبارة بطرس: باسم الرَّبِّ، سوف نطهِّر. العبارة التى صارت يومها أنشودة للمجد الرخيص. من بعيدٍ، أقبلت امرأةٌ حاسرةُ الرأس، كانت تصرخ وهى تُقبل نحونا مسرعةً فزعةً ، قائلةً:
- يا أختاه. ياجنود الرومان. أغثنا يا سيرابيس!
المرأة المسرعة نحونا كان ثوبها وشعرها يرفَّان وراءها، وكنا قد اقتربنا من ناحية البحر. أقبلت المرأةُ تجرى نحو الجمع، حتى ارتمت فوق هيباتيا، ظانةً أنها بذلك سوف تحميها. فكان ما كان متوقَّعًا. اندستْ فيها الأذرع، فرفعتها عن هيباتيا، وألقتها بقوة إلى جانب الطريق. اصطدم رأسها بالرصيف، وانسحج وجهها، فتلطَّخ بالدم والتراب. حاولت المرأةُ أن تقوم، فضربها أحدهم على رأسها بخشبةٍ عتيةٍ، بأطرافها مسامير، فترنَّحت المرأةُ وسقطت من فورها على ظهرها، أمامى، والدم يتفجَّرُ من أنفها وفمها، ويلِّطخ ثوبها. عند سقوطها أمامى، صرختُ من هول المفاجأة، فقد عرفتها. هى لم تعرفنى، فقد كانت تنتفضُ وهى تلفظ آخر أنفاسها . وهكذا ماتت أوكتافيا، يوم الهول، تحت أقدامى، من دون أن ترانى.
رجعتُ خطواتٍ حتى التصق ظهرى بجدار بيتٍ قديم، لم أستطع انتزاع عينى عن جثة أوكتافيا التى أهاجتْ دماؤها الصخبَ، فاشتدت بجند الربِّ تلك الحمى التى تتملَّك الذئاب حين تُوقع صيدًا. صارت عيونهم الجاحظة مثل عيون المسعورين، وهاجت بواطنهم طلباً لمزيدٍ من الدم والافتراس. تجمعوا فوق هيباتيا، حين وقف بطرس ليلتقط أنفاسه. امتدت إلى يدها يدٌ مازعةٌ، ثم امتدت أيادٍ أخرى إلى صدر ردائها الحريرى الذى تهرَّأ، واتَّسخ بالدماء والتراب. أمسكوا بإطار الثوب المطرَّز وشَدُّوا فلم ينخلع، وكاد بطرس يقع فوق هيباتيا من شِدَّةِ الشَّدَّة المباغتة، لكنه سرعان ما عاد واستعاد توازنه، ومضى يجرُّ ذبيحته، ومن ورائه انحنى أتباعه محاولين اقتناص رداء هيباتيا. هيباتيا. أستاذة الزمان. النقية. القديسة. الربة التى عانت آلام الشهيد، وفاقت بعذابها كل عذاب.
على ناصية الطريق الممتد بحذاء البحر، صاحت عجوزٌ شمطاء وهى تلوِّح بصليب: اسْحِلوا العاهرة. وكأن العجوز نطقت بأمرٍ إلهى! توقف بطرس فجأة، وتوقف أتباعه لحظةً، ثم تصايحوا بصرخاتٍ مجلجلة. تركتُ جثة أوكتافيا ورائى، ولحقتُ بهم مبهوتًا، آملاً أن تفلت هيباتيا من أيديهم، أو يأتى جنودُ الحاكم فيخلِّصوها منهم، أو تقع معجزة من السماء، أو... كنتُ غير بعيدٍ عنهم وغير قريب، فرأيتُ نتيجة ما أوحت به المرأة الشمطاء. رأيتُ... انهالتْ الأيدى على ثوب هيباتيا فمزَّعته. الرداءُ الحريرى تنازعوه حتى انتزعوه عن جسمها، ومن بعده انتزعوا ما تحته من ملابس كانت تحيط بجسمها بإحكام. كانوا يلتذُّون بنهش القطع الداخلية ويصرخون، وكانت العجوزُ تصرخ فيهم كالمهووس: اسحلوها! وكانت هيباتيا تصرخ: يا أهل الإسكندرية! وكان البعيدون عن الوصول إلى جسمها، يصرخون: العاهرة، الساحرة ! وحدى، أنا، كنتُ صامتًا.
صارت هيباتيا عاريةً تمامًا، ومتكوِّمةً حول عريها تمامًا، ويائسةً من الخلاص تمامًا، ومهانةً تمامًا. لا أعرف من أين أتوا بالحبل الخشن الذى لفوُّه حول معصمها، وأرخوه لمترين أو ثلاثة، ثم راحوا يجرُّونها به وهى معلَّقةٌ من معصمها. وهكذا عرفتُ يومها معنى كلمة السحل التى أوحت به المرأةُ إلى بطرس القارئ وأتباعه.
شوارعُ الإسكندرية تفترشها بلاطاتٌ حجرية متجاورة، تحمى الطرقات أيام الشتاء من توحُّل الأرض بسبب المطر. البلاطات متجاورة لكنها غير متلاحمة، وحوافها حادة بفعل طبيعتها الصلبة، فإذا جُرَّ عليها أىُّ شئ مزَّقته، وإن كان ذا قشرٍ قشَّرته، وإن كان إنساناً كشطته. وهكذا سحلوا هيباتيا المعلَّقة بحبلهم الخشن، الممددة على الأرض، حتى تسحَّج جلدها وتقرَّح لحمها.
وسط الصخور المتناثرة عند حافة الميناء الشرقى، خلف كنيسة قيصرون التى كانت فى السابق معبدا، ثم صارت بيتاً للرب يقرأ فيه بطرس الإنجيل كل يوم! كانت هناك كومةٌ من أصداف البحر. لم أر أول مَنْ التقط منها واحدةً، وجاء بها نحو هيباتيا، فالذين رأيتهم كانوا كثيرين. كلهم أمسكوا الصدف، وانهالوا على فريستهم. قشَّروا بالأصداف جلدها عن لحمها. علا صراخُها حتى تردَّدت أصداؤه فى سماء العاصمة التعيسة، عاصمة الله العظمى، عاصمة الملح والقسوة.
الذئابُ انتزعوا الحبل من يد بطرس وهم يتصايحون ، وجَرُّوا هيباتيا بعد ما صارت قطعةً، بل قطعًا، من اللحم الأحمر المتهرِّئ. عند بوابة المعبد المهجور الذى بطرف الحىِّ الملكى البرخيون ألقوها فوق كومةٍ كبيرة من قطع الخشب، وبعدما صارت جثةً هامدة... ثم... أشعلوا النار. علا اللهبُ، وتتطاير الشرر. وسكتت صرخاتُ هيباتيا، بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم، عنانَ السماء. عنانَ السماء، حيث كان الله والملائكة والشيطان يشاهدون ما يجرى ولايفعلون شيئًًا.
هيبا، ما هذا الذى تكتبه ؟
اسكتْ يا عزازيل، اسكتْ يا ملعون" (ص161- 171).
وكان لمقتل هيباتيا فى كتب التاريخ والأدب صدى صاخب عنيف بسبب من الوحشية التى تم بها، وبخاصة أن القتلة كانوا من النصارى، الذين يرفعون شعارات المحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر لمن لطمك على خدك الأيمن... وممن يشار إليهم فى هذا السياق سقراط المدرسى (Socrates Scholasticus)، وهو أول من وصلت كتابته عن مأساتها إلينا، وداماسيوس وسويداس، وإدوارد جيبون المؤرخ البريطانى الشهير (الذى نطق الدكتور السيسى والقس عبد المسيح بسيط اسمه فى حلقة "العاشرة مساءً" المشار إليها بتعطيش الجيم، والصواب جعل هذه الجيم قاهرية جافة)، وبروشيه ولاكروز وباسْناج الفرنسيون، وكونت دى ليل وجيرار دى نوفال، وفولتير، الذى كتب مادة كاملة فى "قاموسه الفلسفى" باسمها، وتشارلز كنجزلى، الكاتب البريطانى الذى كتب رواية عنها، وول ديورانت، وماريو لوزى (Mario Luzi)، كاتب المسرح الإيطالى، ورين جروف (Rinne Groff)، الكاتبة الأمريكية التى استوحت من حياتها وشخصيتها عملا مسرحيا عصريا، فضلا عن الرسامين الذين صوروها فى أشكال ومناسبات مختلفة، ومنها تلك الصورة التى نراها لها فى الكتب والصحف والمجلات ودوائر المعارف وما إلى ذلك. وهناك أعمال قصصية كُتِبَتْ للصعار خِصِّيصًا سُمِّيَتْ شخصياتها الأولى: "هيباتيا". بل لقد أُطْلِق اسمها على بعض المواضع المشهورة فى العالم، ومنها موضعٌ فوق سطح القمر. كما قرأت مؤخرا فى عدد السادس من أكتوبر 2008م من صحيفة "المصريون" الضوئية، تحت عنوان "مسيحيو مصر ذبحوها ومثلوا بجثتها"، أن شركة اسبانية للإنتاج السينمائى تستعد حاليا لإنتاج فيلم عن العالمة هيباتيا، وأنه قد تقرر أن يقوم ببطولة الفيلم ممثل إسرائيلى هو أشرف برهوم، على أن تشاركه البطولة الممثلة البريطانية راشيل ويس. وما ذلك إلا قليل من كثير، علاوة على أنه لا يشمل شيئا من الدراسات والكتب التى تتناول فكرها وفلسفتها وإنجازاتها العلمية، بل يقتصر على الإبداعات الأدبية والفنية فقط. وها هو ذا المؤلف المصرى، فى جانب من عمله، يكتب بوحى من ميتتها الشنيعة ويدين المجرمين القتلة المتوحشين، وكذلك الذين حرضوا على مقتلها، متظاهرين بأن ذلك إنما يقربهم من رب السماء ويرضيه عنهم وعن فعلتهم.
وهؤلاء نحن نسوق ما جاء فى كتاب "Hypatia of Alexandria"، ولعله أقدم مرجع أشار إلى الحادثة الوحشية التى وقعت لهيباتيا، وهو متاح فى موقع "ALEXANDRIA on the Web": "Such was Hypatia, as articulate and eloquent in speaking as she was prudent and civil in her deeds. The whole city rightly loved her and worshipped her in a remarkable way, but the rulers of the city from the first envied her, something that often happened at Athens too. For even if philosophy itself had perished, nevertheless, its name still seems magnificent and venerable to the men who exercise leadership in the state. Thus it happened one day that Cyril, bishop of the opposition sect [i.e. Christianity] was passing by Hypatia's house, and he saw a great crowd of people and horses in front of her door. Some were arriving, some departing, and others standing around. When he asked why there was a crowd there and what all the fuss was about, he was told by her followers that it was the house of Hypatia the philosopher and she was about to greet them. When Cyril learned this he was so struck with envy that he immediately began plotting her murder and the most heinous form of murder at that. For when Hypatia emerged from her house, in her accustomed manner, a throng of merciless and ferocious men who feared neither divine punishment nor human revenge attacked and cut her down, thus committing an outrageous and disgraceful deed against their fatherland. The Emperor was angry, and he would have avenged her had not Aedesius been bribed. Thus the Emperor remitted the punishment onto his own head and family for his descendant paid the price. The memory of these events is still vivid among the Alexandrians".
ثم نثنى بما خطه قلم سقراط المدرسى عن الفيلسوفة الجميلة فى كتابه: "Ecclesiastical History": "THERE WAS a woman at Alexandria named Hypatia, daughter of the philosopher Theon, who made such attainments in literature and science, as to far surpass all the philosophers of her own time. Having succeeded to the school of Plato and Plotinus, she explained the principles of philosophy to her auditors, many of whom came from a distance to receive her instructions. On account of the self-possession and ease of manner, which she had acquired in consequence of the cultivation of her mind, she not unfrequently appeared in public in presence of the magistrates. Neither did she feel abashed in going to an assembly of men. For all men on account of her extraordinary dignity and virtue admired her the more. Yet even she fell victim to the political jealousy which at that time prevailed. For as she had frequent interviews with Orestes, it was calumniously reported among the Christian populace, that it was she who prevented Orestes from being reconciled to the bishop. Some of them, therefore, hurried away by a fierce and bigoted zeal, whose ringleader was a reader named Peter, waylaid her returning home, and dragging her from her carriage, they took her to the church called Caesareum, where they completely stripped her, and then murdered her with tiles. After tearing her body in pieces, they took her mangled limbs to a place called Cinaron, and there burnt them. This affair brought not the least opprobrium, not only upon Cyril, but also upon the whole Alexandrian church. And surely nothing can be farther from the spirit of Christianity than the allowance of massacres, fights, and transactions of that sort. This happened in the month of March during Lent, in the fourth year of Cyril's episcopate, under the tenth consulate of Honorius, and the sixth of Theodosius".
ثم ها هو ذا ما كتبه فولتير، الذى اتبع أسلوب التمثيل والتقريب، فتحدث عن أسقف باريس ومدام داسييه جميلة باريس والرهبان الذين ينظمون التراتيل السطحية التافهة منتظرين أن يقال إنها تفوق الإلياذة، وهو فى الواقع إنما يقصد إلى الحديث عن كيرلس ورهبانه المتعصبين وهيباتيا فيلسوفة الإسكندرية. ثم انتقل إلى الحديث المباشر الصريح عما وقع فى القرن الرابع بالإسكندرية على يد الرهبان والغوغاء الفاقدى العقل والقلب والضمير بتحريض من كيرلس أسقف الإسكندرية آنذاك، الذى وصفه الفيلسوف الفرنسى بأنه فى الواقع لم يكن إلا رجلا حزبيا ترك نفسه فريسة فى يد التعصب تصنع به ما تشاء، مؤكدا أنه كان أحرى به أن يستغفر الله لو نما إلى علمه أن أحدا قام بتعرية امرأة جميلة فى الشارع لا يبغى من وراء ذلك إلى قتلها بل لمجرد التعرية ليس إلا. يريد أن يقول: فما بالنا إذا تبع التعريةَ قتلُ تلك السيدة بسحلها وسلخها كأنها ذبيحة، ثم تقطيع جسدها إِرْبًا إِرْبًا، ثم حرقه على الشاطئ بعد ذلك فى نشوة بهيمية لا تليق بالبشر، فضلا عن أن يكون أولئك البشر أتباع دين يقدمونه للناس بوصفه دين التسامح والمرحمة، لا لشىء إلا لأنهاكانت تتناول بالدرس هوميروس وأفلاطون؟:
"Je suppose que Mme Dacier eût été la plus belle femme de Paris, et que, dans la querelle des anciens et des modernes, les carmes eussent prétendu que le poème de la Magdeleine, composé par un carme, était infiniment supérieur à Homère, et que c’était une impiété atroce de préférer l’Iliade à des vers d’un moine; je suppose que l’archevêque de Paris eût pris le parti des carmes contre le gouverneur de la ville, partisan de la belle Mme Dacier, et qu’il eût excité les carmes à massacrer cette belle dame dans l’église de Notre-Dame, et à la traîner toute nue et toute sanglante dans la place Maubert; il n’y a personne qui n’eût dit que l’archevêque de Paris aurait fait une fort mauvaise action, dont il aurait dû faire pénitence.
Voilà précisément l’histoire d’Hypatie. Elle enseignait Homère et Platon dans Alexandrie, du temps de Théodose II. Saint Cyrille déchaîna contre elle la populace chrétienne: c’est ainsi que nous le racontent Damascius et Suidas: c’est ce que prouvent évidemment les plus savants hommes du siècle, tels que Brucher, La Croze, Basnage, etc.; c’est ce qui est exposé très judicieusement dans le grand Dictionnaire encyclopédique, à l’article Éclectisme.
Un homme, dont les intentions sont sans doute très bonnes, a fait imprimer deux volumes contre cet article de l’Encyclopédie.
Encore une fois, mes amis, deux tomes contre deux pages, c’est trop. Je vous l’ai dit cent fois, vous multipliez trop les êtres sans nécessité. Deux lignes contre deux tomes, voilà ce qu’il faut. N’écrivez pas même ces deux lignes.
Je me contente de remarquer que saint Cyrille était homme, et homme de parti; qu’il a pu se laisser trop emporter à son zèle; que quand on met les belles dames toutes nues, ce n’est pas pour les massacrer; que saint Cyrille a sans doute demandé pardon à Dieu de cette action abominable, et que je prie le père des miséricordes d’avoir pitié de son âme. Celui qui a écrit les deux tomes contre l’Éclectisme me fait aussi beaucoup de pitié."
أما كنجزلى فقد صور الأمر فى روايته على النحو التالى:
"A dark wave of men rushed from the ambuscade surged up round the car .... swept forward .... she had disappeared! and as Philammon followed breathless, the horses galloped past him madly homeward with the empty carriage.
Whither were they dragging her? To the Caesareum, the Church of God Himself? Impossible! Why thither of all places of the earth? Why did the mob, increasing momentarily by hundreds, pour down upon the beach, and return brandishing flints, shells, fragments of pottery?
She was upon the church steps before he caught them up, invisible among the crowd; but he could track her by the fragments of her dress. Where were her gay pupils now? Alas! they had barricaded themselves shamefully in the Museum, at the first rush which swept her from the door of the lecture-room. Cowards! he would save her!
And he struggled in vain to pierce the dense mass of Parabolani and monks, who, mingled with the fishwives and dock-workers, leaped and yelled around their victim. But what he could not do another and a weaker did--even the little porter. Furiously--no one knew how or whence--he burst up as if from the ground in the thickest of the crowd, with knife, teeth, and nails, like a venomous wild-cat tearing his way towards his idol. Alas! he was torn down himself rolled over the steps, and lay there half dead in an agony of weeping, as Philammon sprang up past him into the church.
Yes. On into the church itself! Into the cool dim shadow, with its fretted pillars, and lowering domes, and candles, and incense, and blazing altar, and great pictures looking from the walls athwart the gorgeous gloom. And right in front, above the altar, the colossal Christ watching unmoved from off the wall, His right hand raised to give a blessing--or a curse?
On, up the nave, fresh shreds of her dress strewing the holy pavement--up the chancel steps themselves--up to the altar—right underneath the great still Christ: and there even those hell-hounds paused.
She shook herself free from her tormentors, and springing back, rose for one moment to her full height, naked, snow-white against the dusky mass around--shame and indignation in those wide clear eyes, but not a stain of fear. With one hand she clasped her golden locks around her; the other long white arm was stretched upward toward the great still Christ appealing--and who dare say in vain?--from man to God. Her lips were opened to speak: but the words that should have come from them reached God's ear alone; for in an instant Peter struck her down, the dark mass closed over her again .... and then wail on wail, long, wild, ear-piercing, rang along the vaulted roofs, and thrilled like the trumpet of avenging angels through Philammon's ears.
Crushed against a pillar, unable to move in the dense mass, he pressed his hands over his ears. He could not shut out those shrieks! When would they end? What in the name of the God of mercy were they doing? Tearing her piecemeal? Yes, and worse than that.
And still the shrieks rang on, and still the great Christ looked down on Philammon with that calm, intolerable eye, and would not turn away. And over His head was written in the rainbow, 'I am the same, yesterday, to-day, and for ever!' The same as He was in Judea of old, Philammon? Then what are these, and in whose temple? And he covered his face with his hands, and longed to die.
It was over. The shrieks had died away into moans; the moans to silence. How long had he been there? An hour, or an eternity?
Thank God it was over! For her sake--but for theirs? But they thought not of that as a new cry rose through the dome.
'To the Cinaron! Burn the bones to ashes! Scatter them into the sea!' And the mob poured past him again....
He turned to flee: but, once outside the church, he sank exhausted, and lay upon the steps, watching with stupid horror the glaring of the fire, and the mob who leaped and yelled like demons round their
Moloch sacrifice.
A hand grasped his arm; he looked up; it was the porter.
'And this, young butcher, is the Catholic and apostolic Church?'
'No! Eudaimon, it is the church of the devils of hell!' And gathering himself up, he sat upon the steps and buried his head within his hands. He would have given life itself for the power of weeping: but his eyes and brain were hot and dry as the desert.
Eudaimon looked at him a while. The shock had sobered the poor fop for once.
'I did what I could to die with her!' said he.
'I did what I could to save her!' answered Philammon.
'I know it. Forgive the words which I just spoke. Did we not both
love her?'
And the little wretch sat down by Philammon's side, and as the blood dripped from his wounds upon the pavement, broke out into a bitter agony of human tears.
There are times when the very intensity of our misery is a boon, and kindly stuns us till we are unable to torture ourselves by thought.
And so it was with Philammon then. He sat there, he knew not how long.
'She is with the gods,' said Eudaimon at last.
'She is with the God of gods,' answered Philammon: and they both
were silent again".
والآن إلى ما خطه كاتب مادة "هيباتيا" فى النسخة الفرنسية من الموسوعة المشباكية الحرة (ويكيبيديا: Wikipedia):
"Hypatia, Charles William Mitchell, 1885, Laing Art Gallery (Newcastle-upon-Tyne)
Hypatia, Charles William Mitchell, 1885, Laing Art Gallery (Newcastle-upon-Tyne)
En mars 415, elle meurt lapidée en pleine rue par des chrétiens fanatiques qui lui reprochaient d'empêcher la réconciliation entre le patriarche Cyrille d'Alexandrie et le préfet romain Oreste à la suite de conflits sanglants entre diverses communautés religieuses d'Alexandrie. D'après l'historien chrétien Socrate le Scolastique:
«Contre elle alors s’arma la jalousie ; comme en effet elle commençait à rencontrer assez souvent Oreste, cela déclencha contre elle une calomnie chez le peuple des chrétiens, selon laquelle elle était bien celle qui empêchait des relations amicales entre Oreste et l’évêque. Et donc des hommes excités, à la tête desquels se trouvait un certain Pierre le lecteur, montent un complot contre elle et guettent Hypatie qui rentrait chez elle : la jetant hors de son siège, ils la traînent à l’église qu’on appelait le Césareum, et l’ayant dépouillée de son vêtement, ils la frappèrent à coups de tessons ; l’ayant systématiquement mise en pièces, ils chargèrent ses membres jusqu’en haut du Cinarôn et les anéantirent par le feu. Ce qui ne fut pas sans porter atteinte à l’image de Cyrille et de l’Eglise d’Alexandrie ; car c’était tout à fait gênant, de la part de ceux qui se réclamaient du Christ que des meurtres, des bagarres et autres actes semblables. Et cela eut lieu la quatrième année de l’épiscopat de Cyrille, la dixième année du règne d’Honorius, la sixième du règne de Théodose, au mois de mars, pendant le Carême".
ولم تكتف الرواية بسرد مقتل هيباتيا دليلا على قَتَلَتها لا يطبقون الشعارت الجميلة التى يتغنَّوْن بها ويرفعون أعلامها عالية أمام الأبصار، إذ سبق أن روى هيبا مقتل أبيه فى جنوب مصر على أيديهم. وها هى ذى أوكتافيا أيضا تروى لِهِيبا خبر مقتل زوجها على أيديهم. ولنقرأ: "فهمتُ من كلامها، أن رجلها الميت كان فيه شئٌ من الحمق والضلال. أذابتْ قلبى جلستها الحزينة وهى تحكى، وقد حَفَّ شعرها بجانبى وجهها، فكأنها زهرةٌ آلت إلى الذبول. كان يجب علىَّ ساعتها أن أحتضنها، وأعدها بأننى سأكون لها خير زوج. قلتُ فى نفسى: هى على كل حالٍ لم تكن تحب زوجها الأول، وهى تقول إنها تحبنى. فربما أخذ الربُّ زوجها، ليعطيها أفضل منه! كان عقلى غائبا فى خَدَره، وكانت تكمل حكايتها، فتخبرنى أن زوجها خرج ذات صباح ليضع البخور فى المعبد الصغير الذى كان قائماً بشرق الميناء، فحوصر هناك، تقصدُ حاصرَه أهلُ ديانتنا.أجهشتْ وهى تقول : قتله المجرمون وقادتهم من الرهبان، وهم يدمِّرون المعبد.
- ما هذا الذى تقولين ؟ الرهبانُ لايقتلون!
- رهبانُ الإسكندرية يفعلون. باسم ربهم العجيب، وببركات الأسقف ثيوفيلوس المهووس، وخليفته كِيرُلُّس الأشد هوسًا.
- أرجوكِ يا أوكتافيا.
- طيب، ما علينا من هذا الكلام الآن. ولكن لماذا تبدو يا حبيبى متألماً هكذا، ومنحازًا لهم؟ إنهم يطاردوننا فى كل مكان، ويطردون إخوانهم اليهود، ويهدمون المعابد على رؤوس الناس، ويصفوننا بالوثنيين الأنجاس. إنهم يتكاثرون حولنا كالجراد، ويملأون البلاد مثل لعنة حَلَّت بالعالم" (ص131- 132).
ولم تتوقف تلك الوحشية عند اضطهاد غير النصارى، فها هو ذا أحد القساوسة الموحّدين من أتباع آريوس يمزقه الرهبان المثلِّثون بالسواطير فى الشارع. ولنسمع لهيبا وهو يقص علينا الأمر:
"مضت علىَّ الأيامُ فى الكنيسة المرقسية رتيبةً، باستثناء أيام الآحاد الصاخبة. أسلمت نفسى، شيئً فشيئا، إلى مشيئة الرب. وكان القَسّ يوأنَّس يرعانى من بعيد، ويوصينى دومًا بأن أتجنَّب الاندماج مع الرهبان الإسكندرانيين، خاصةً الذين يسمون أنفسهم جماعة محبى الآلام. كان منهم راهبٌ طاعنٌ فى السِّنِّ، يرهبونه كثيرا، عرفتُ بعد شهور سِرَّ نفورى من نظرته القاسية. الراهبُ المسنُّ أصله من الصعيد، ومع ذلك لم يكن يحب الوافدين إلى الإسكندرية من هناك! لقينى ذات يوم فى ساحة الكنيسة، وكان قد مَرَّ على وجودى هناك قرابة العام. دعانى إليه بإشارةٍ من عصاه التى تتكئ عليها سنواته السبعون، ولما اقتربت منه قال لى هامساً: عُدْ سريعاً إلى بلدتك، فالإسكندريةُ ليست مكانك! كان صوته أقرب لفحيح الأفاعى، وكانت لهجته لاذعةً كلسع العقارب. لم أفهم إشارته، وقد نصحنى القَسّ يوأنَّس لما أخبرته بالأمر، بالابتعاد عنه. بعدها بأيام أخبرنى خادم المضيفة بسرٍّ دفين، قال بعدما تلفَّتَ حوله: هذا الراهبُ المسنُّ، محبُّ الآلام، هو أحدُ أبطال الكنيسة ! فقد كان فى شبابه واحداً من الجماعة الذين فتكوا بأسقف الإسكندرية جورج الكبادوكى ومَزَّقوه بالسواطير فى شوارع الحى الشرقى. أضاف الخادم هامسا، بعدما تلفَّت ثانيةً: جرى ذلك قبل ثمانٍ وأربعين سنة، فى العام السابع والسبعين للشهداء! يقصد سنة إحدى وستين وثلاثمائة للميلاد. سألته:
- ولماذا فعلوا ذلك بأسقف المدينة؟
- لأنه كان مفروضا علينا من روما، وكان مارقا يميل إلى آراء آريوس الملعون" (ص160).
كذلك فالرواية تصور عالم رجال الدين النصارى فى عواصم النصرانية الكبيرة الثلاث كما هم فى الواقع: فمنهم الذى يخشى الله، ومنهم المغرور المتكبر، ومنهم الذى ارتكب الخطايا مثل هيبا مثلا، ومنهم، ومنهم. أما آراؤهم ومعتقداتهم فهى مجرد نظرات أو أفكار أو تفسيرات خاصة يريدون أن يفرضوها على الآخرين بوصفها كلام السماء، ومن هنا تبدأ النزاعات المذهبية والمعارك الطاحنة والاضطهادات والاضطهادات المضادة وتسيل الدماء، مع أنه ثبت مرارا وتكرارا أن ما يقال اليوم قد يُرْجَع عنه ويُغَيَّر غدا، بل قد يُعْتَقَد نقيضه. وعلى هذا ينبغى أن يكون الإنسان أوسع أفقا، وإن لم يَعْنِ هذا أن يقف أمام الاختلافات لا رأى له ولا موقف، أو لا ينصر الرأى الذى يؤمن به، بل المراد هو ألا يغلو فى هذا بحيث يتصور أنه لا يحق لغيره أن يعيش أو يكون له رأى مخالف لرأيه. وما نقرؤه فى الرواية ليس شيئا انتهى وأصبح ماضيا، بل ما زلنا نرى من حولنا فى المحروسة انقسامات واتهامات عقيدية تذكّرنا بتلك الحقبة التى تدور حولها الرواية يتبادلها شنودة والبياضى ومتى المسكين وماكسيموس، ثم الإكليروس والعلمانيون، فضلا عما عندنا من مجامع وبيانات ومحاكمات كنسية...
ولننظر الآن فى الصورة التى يرسمها هيبا لكيرلس أسقف الإسكندرية فى ذلك العصر، وكيف يستنكر بطل الرواية مظهر هذا الأسقف الذى يتناقض مع كل ما يمثله المسيح من بساطة وزهد. ولنلاحظ أن كيرلس فى تلك المناسبة إنما كان يحرض على هيباتيا، مما كان من ثمرته أن انطلق الغوغاء والرهبان فمزقوها وسلخوها وأحرقوها دون أى مسوغ على الإطلاق:
"أفقتُ من جَوَلان أفكارى على صوت الأجراس تدعو لخطبة الأسقف كِيرُلُّس، فخرجتُ مع الخارجين من صوامعهم، وانحشرتُ مع مئات الداخلين إلى الكنيسة . الساحة الداخلية امتلأت ، فلم تعد هناك أصلاً فرصةٌ للخروج، ولا للحركة من الموضع الذى كنت محشوراً فيه، بين الرهبان والقسوس والشمامسة وقُرَّاء الإنجيل والموعوظين الكبار والصغار، والمصارعين القدامى الذين صاروا مؤمنين، وأفراد جماعة محبى الآلام، وأبناءُ التائبين المنخرطين فى سلك الديانة، وأتباع الأخوة طوال القامة الحائرين، وجماعات من رهبان أديرة وادى النطرون .. كنتُ محاطاً من كل الجهات، بجيش الرب. هتافهم المزلزل الذى يملأ الساحة ويهزُّ الجدران، يُنبئ عن قُرب نبأَّ عظيم وحدثٍ جلل .. لما بلغ الهتاف غايته القصوى، وكادت الحناجرُ تتشرَّخ، أطلَّ علينا الأسـقف كِيرُلُّس مـن مقصورته .
هيئةُ الأسقف المهيبة أثارت استغرابى، وهيَّجت حيرتى . كانت المرة الأولى التى أراه فيها، وقد ظللتُ بعدها أراه صباح كل يوم أحد، لمدة عامين أو ثلاثة من دون استثناء، ورأيته أيضاً يوم اللقاء الخاص الذى سوف أذكره إن جاءت مناسبةٌ للكلام عنه .. لما رأيتُ الأسقف أول مرة، استغربتُ واحترتُ؛ لأنه أطلَّ علينا من مقصورةٍ مُذهَّبة الجدار بالكامل، هى شرفةٌ واحدةٌ، فوقها صليبٌ ضخمٌ من الخشب، معلقٌ عليه تمثال يسوع المصنوع من الجصِّ الملوَّن. من جبهة المسيح المصلوب ويديه وقدميه، تتساقط الدماءُ الملوَّنة بالأحمر القانى.
نظرتُ إلى الثوب الممزَّق فى تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشَّى للأسقف! ملابسُ يسوع أسمالٌ باليةٌ ممزقةٌ عن صدره ومعظم أعضائه، وملابسُ الأسقف محلاةٌ بخيوط ذهبية تُغطيه كله، وبالكاد تُظهر وجهه. يَدُ يسوع فارغة من حطام دُنيانا، وفى يد الأسقف صولجان أظنه، من شِدَّةِ بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص. فوق رأس يسوع أشواكُ تاج الآلام، وعلى رأس الأسقف تاجُ الأسقفيةِ الذهبىُّ البرَّاق. بدا لى يسوع مستسلمًا وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لى كِيرُلُّس مقبلاً على الإمساك بأطراف السماوات والأرض.
نظر الأسقفُ فى شعبه ورعاياه، وأجال عينيه فى الحشد الذى انحشر فى ساحة الكنيسة، فهدأوا. رفع صولجانه الذهبى، فصمتوا. ثم تكلم فقال: يا أبناء المسيح، باسم الإله الحى أبارك يومكم هذا، وكل أيامكم. وأبدأ كلامى بالحق الذى تكلَّم به بولس الرسول فى رسالته الثانية إلى تيموثاوس، حيث يقول له، ولكلِّ مسيحىٍّ فى كل زمان ومكان: احتمل المشقات كجندى صالح للمسيح يسوع، فالذى يتجنَّد لاينشغل بهموم الحياة حتى يُرضى الذى جَنَّده، والمجنَّد لن ينال إكليل النصر حتى يُجاهد الجهاد الشرعى" (ص156- 157).
ويضاف إلى ما سبق من أسباب غضب الكنيسة على الرواية وصاحبها ما كتبه المؤلف على لسان عزازيل عن عقيدة موت المسيح على الصليب، إذ نراه يجادل هيبا حول موت المسيح متسائلا فى استغراب وإنكار: هل يمكن بشرا أن يقتل الإله؟ وإذا كان المسيح الإله قد مات فداء للبشر من خطاياهم، فهل كفت البشرية عن ارتكاب الخطايا؟ فما فائدة موته إذن؟ وما الفرق بين موته وعدمه؟ (ص390- 391).
ولكن لا بد من القول بأن كل ما صنعه المؤلف فى روايته إنما هو طرح أفكار، وهو حر فى هذا، ومع هذا ثارت الكنيسة الأرثوذكسية كأن الرجل قد اعتدى على النصرانية رغم أنه إنما يثير أسئلة ويدير حوارا ليس إلا. فهو ليس كحيدر حيدر مثلا، الذى شتم الرسول والله والإسلام وكذب فقال إن الرسول كان عنده عشرون محظية، علاوة على أن رواية حيدر المسيئة إنما طُبِعَتْ على نفقة الشعب، الذى يسب دينه ويتطاول على إلهه ورسوله وقرآنه، أما هنا فالرواية مطبوعة فى دار نشر خاصة، وهى تنشر لكل الاتجاهات، ولا يُعْرَف عنها انحياز للاتجاه الإسلامى بالذات. وعلى كل حال فالرد على الفكر والأدب إنما يكون بالفكر والأدب. وقد وعد بعض رجال الدين النصارى بأن يكتبوا ردودا علمية على الرواية يفندون فيها رؤية الكاتب، وإننا لمنتظرون حتى نقرأ الرؤية المقابلة لما طرحه المؤلف من أفكار، إذ بهذا يتجدد الفكر وتتبلور الحقيقة. ونرجو ألا يطول الانتظار كثيرا. وإنى لأنتهز هذه الفرصة فأكرر أنى لست من القائلين بأن الروائى لا يعرض أفكاره وآراءه، بل يصور الواقع ليس غير، إذ لا ريب عندى فى أن الروائى،حين يؤلف رواية، إنما يعبر عن موقفه ووجهة نظره، ويستخدم الخامات التى فى يده لهذا الغرض. المهم ألا يسب أو يحقر أحدا أو دينه، ولا أظن زيدان قد فعل. وعلى أية حال ففى الرد الكتابى، أى الرد من نفس جنس عمل المؤلف، كفاية. فأنا من مبدإ "كتابةٌ بكتابةٍ"، اللهم إلا إذا خرج المؤلف عن حدود القانون فشتم وحقّر، وهو ما لم يصنع زيدان منه شيئا.
وقد عضد الكاتبَ فى موقفه كل من جمال أسعد والروائى والناقد يوسف الشارونى، وهما نصرانيان، إذ قال الأول عن الرواية إنها "عمل أدبي أوهم فيه المؤلف القارئ بأن أحداثه استقاها من خلال مخطوطات سريالية. وهذا الإيهام جائز حتى أن العمل يدخل تحت بند الإبداع الأدبي ولا علاقة له بالعقيدة الدينية حتى ولو كان للمؤلف رأي أو أن المؤلف قد استقى آرائه من مؤرخين غربيين أو من مصادر أخرى. تلك الآراء التي أزعجت بعض القساوسة وهي أن المسيحيين في بداية عهدهم قد قاموا بتعذيب غير المسيحيين، وهنا فلا أحد ينكر واقعة قتل وتعذيب العالمة هيباتيا. ولكن كون أن هذا قد تم عن طريق وبمعرفة كيرلس عامور الدين من عدمه فهذا طبيعي جدا حيث أنه كمسلم هو اقرب للنسطورية بلا شك والتي تقول أن المسيح رسول. أي أن ما جاء بالقصة لم يكن إساءة للمسيحيين ولكنها آراء موجودة في العقائد الأخرى غير المسيحية. فهل عندما تذكر في إطار أدبي وإبداعي تصبح إساءة ويتم مصادرتها". وهذا الكلام موجود فى مقال له بجريدة "المصريون" الضوئية بتاريخ 2/ 9/ 2008م تحت عنوان "الإبداع الفني والرقابة الدينية". أما الثانى فقد أدلى برأيه فى الاستطلاع الصحفى الذى قامت به الصفحة الثقافية فى موقع "إخوان أون لاين"، إذ نقرأ فى تلك الصفحة ما يلى: "من جانبه أكد الأديب والروائي الكبير يوسف الشاروني أنه قرأ رواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان، مُشيدًا بمستواها الفني، وأنها لا تمس العقيدة المسيحية، بل تناول فترة تاريخية معينة، واعتمد في ذلك على وثائق، وتقول الرواية عن فترة في التاريخ إن الوثنيين كان يضطهدون المسيحيين، ولما سيطر المسيحيون مارسوا الاضطهاد مع مَن سبقهم شأن جميع الدول والتاريخ في مختلف الأماكن، والأقباط كشطوا الرسوم الفرعونية، وموجود ذلك في معابد الأقصر وآثار النوبة القديمة. وقال: "لا أعتقد أن الرواية فيها هجوم على المسيحيين، وما أُثير حولها من جانب الأقباط إنما يتم تناولها من غير أهل التخصص، ومن قام بتأليف رواية مضادة ليس أديبًا (المقصود رواية "تيس عزازيل فى مكة"، التى يتطاول فيها كاتبها الخنزير لعنه الله على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتهم أمه فى شرفها). المسألة لا بد أن تُناقَش من منظور أدبي، ولا يدلي برأيه إلا شخص متمرس بالأدب، أما أن يقوم رجال دين برفع قضايا ضد المؤلف فهذا يعتبر من التخلف؛ لأن من يقرأ لا يفرق بين العمل الأدبي والمقال أو الكلام المنشور". يضيف الشاروني أن الأدب يحمل رسالةً إنسانيةً بوجه عام، ولا ينبغي أن تكون بشكلٍ وعظي، بل في إطار الحدث، والقارئ هو الذي يستخلص ما يفيد".
وأخيرا نختم بهذه الملاحظات الفنية: فأحداث الرواية وشخصياتها تتتابع فى غزارة، ومع ذلك فكثير من الشخصيات لا علاقة لها ببناء القصة، والعنصر الوحيد الذى يربط بين هذه الشخصيات وكذلك الأحداث التى تقع منها أو لها هو البطل فقط فى الغالب، وهو رباط لا يكفى. ومن ناحية المعقولية هل يمكن السفر من دمنهور إلى الإسكندرية على القدم فى ساعات معدودة من نفس اليوم ودون توقف مع بعد المسافة بينهما كما نعرف؟ كذلك هل من الممكن التقاء الخادمة والبطل على شاطئ البحر واصطحابها إياه إلى القصر فى غيبة مخدوميها وقضاؤهما عدة ليال معا يمارسان الجنس فى هذه الجنة بهذه السهولة؟ إلا أن ما يجعل القارئ يغض الطرف عن نقطة الضعف هذه هو اللذة التى يجدها فى قراءة تلك التفاصيل، فضلا عن أنه يتصور واهما بخداع من المؤلف أن القصة قد كتبت فى الماضى، ونحن عادة ما نتسامح مع أدب الماضى.
ترى مثلا ما الذى أخرج الخادم إلى البحر فى هذه البقعة المنعزلة فى ذلك الوقت؟ ولماذا أحضرت معها كل ذلك الطعام؟ وكيف تقع فى غرام شاب نوبى فقير قشف وزرى الهيئة من أول نظرة؟ وهل يمكن أن تكون مثقفة على هذا النحو؟ سوف نعرف بعد قليل أن العرافة أخبرتها أن حبيبها سوف يأتى من البحر، وكان ذلك قبل عامين. أيعقل أنها كانت تجىء إلى هذا المكان على مدى العامين السابقين ومعها الطعام والنبيذ والفِرَاش فى كل مرة؟
ومما يؤخذ على الرواية أيضا لجوء المؤلف إلى المصادفة فى حل مشكلة ضياع البطل فى الإسكندرية بعدما طردته أوكتافيا من جنتها، إذ جعله يقابل، على حين بغتة، بعضا من أترابه من نجع حمادى (ص151). ثم هل يعقل فى غمرة التعصب الجنونى أن يكتفى الراهب والمرأة والصبى بإعلان دهشتهم من خلع البطل لصليبه ورميه على الأرض عقب سحل هيباتيا وسلخها وحرقها؟ (ص173). كذلك يؤخذ على الرواية أن البطل رغم حبه الشديد لنسطورس لم يصاحبه مَرْجِعَه إلى بلده أنطاكية حين عرض عليه الذهاب معه، بل اعتذر رغم نفوره من أورشليم، والدليل على ذلك أنه يقبل اقتراحه الذهاب إلى حلب حيث يعيش فى دير تابع لكنيسة أنطاكية. فأى لخبطة هذه؟ ليس ذلك فقط، فهو يتخلف عن السفر فى قافلة نسطورس رغم أنه سوف يذهب إلى حلب، التى كان من الأفضل أن يرافق نسطورس فى طريقه الذى يمر بها فيستمتع بصحبته ما دام يحبه كل هذا الحب (ص200- 201).
وهناك مشهد يظهر فيه الحَمَام على مرأى من هيبا وأحد زملائه الرهبان فى الدير القريب من حلب وذكوره تسافد إناثه، ولكن السؤال هو: هل للحمام دور فى الرواية غير ما لاحظه عليه هيبا من حب السفاد وما إلى ذلك؟ لقد شغل هذا الأمر البطل كثيرا، كما كان هناك راهب يكره الحمام وركز عليه هيبا الكلام طويلا، فتوقعْنا أن يقول هيبا عن الحمام شيئا، لكن الطير اختفى فجأة كما ظهر فجأة، وكان الله بالسر عليما (ص383 وما بعدها).كذلك فكلام البطل عن الموسيقى من أنها صوت سماوى مقدس، وأنها مع هذا يمكن أن تستعمل فى الخير أو فى الشر كلام فيه تناقض (ص289). وبالمثل يلفت النظر فى الرواية جرأة مرتا الجنسية والعاطفية منذ البداية على هيبا الراهب، وهو تصرف غير مقنع، إذ يأخذ مثل هذا الأمر وقتا ويحتاج إلى مواقف يتبلور من خلالها ولا يمكن أن يتم هكذا بسرعة، وبخاصة أنها فتاة فى العشرين، وهو راهب مشهور، ولم يُعْرَف عنه أنه رجل منحرف حتى تجرؤ عليه كل تلك الجرأة وبهذه السرعة (ص316). ومن الغريب أنه يسألها فى هذه الصفحة عن عمرها مع أنها سبق أن قالت له فى الصفحات الماضية إنه عشرون.
والملاحظ أن عزازيل موجود مع البطل كلما شرع يكتب مذكراته وينخسه نخسا كى يواصل الكتابة. ولا أدرى ما دخل عزازيل هنا؟ يمكن أن يدفعه إلى الشك مثلا، أما الكتابة فما السبب؟ وإذا كان البطل على وعى تام بأن إبليس يريد منه ذلك وكان يكرهه كما يفهم من ردوده عليه، فلم كان يصيخ إليه وينفذ طلبه دائما؟ وبالمناسبة فالمفروض، عند كتابة هيبا فى مذكراته عن المشاعية فى النساء وإعلانه أنه يحبذ ذلك، أن يبتهج عزازيل بهذا الذى يقوله هيبا، لكننا نفاجأ بأنه يزجره حتى لا يكتب كلاما يتنافى مع تدينه ورهبانيته (ص287 مثلا).
لكن يُحْمَد للرواية مع ذلك استطاعتها رسم صورة حية واضحة للجو الجدلى الدينى آنذاك وكيفية انعقاد المجمع المسكونى، وتحويلها الشخصيات الكنسية كنسطور وكيرلس إلى كائنات حية لا مجرد أسماء وأفكار وكلمات فى الكتب. ذلك أننا نلقى كيرلس مثلا ونسمعه ونقرأ أخباره ونعرف ما يكتبه فى رسائله الدينية دفاعا عما يعتقده وهجوما على ما يعتقده الأساقفة الآخرون، ونتسقط ما يقوله هيبا ونسطورس عنه كلاما حيا طازجا لا كلاما باردا مودعا بطون الكتب يفصل بيننا وبين من يدور حوله قرون وقرون. أما نسطورس فهو أقرب إلينا من كيرلس لأنه هو وهيبا بطل الرواية وراوى أحداثها كانا صديقين، وكثيرا ما تجادلا بمحضر ومرأى ومسمع منا، وكان نسطورس يبدى رأيه فى غريمه السكندرى ويتحدث أمامنا إلى هيبا بما ينوى أن يصنعه حين يسافر إلى أفسوس للمجادلة عن مذهبه فى وجه كيرلس وشيعته. لقد أخذَنا الراوى، أو فى الحقيقة: لقد أخذَنا المؤلف، فى رحلة طويلة من أخميم إلى الإسكندرية إلى القدس إلى حلب، وأكمل جميله فكان يتتبع أخبار نسطورس فى أنطاكية، وقام بكل هذا كى يطلعنا على الأوضاع السائدة فى العالم المسيحى أوانذك، فأشعرنا، أو أشعرنى أنا على الأقل بأننى أعيش فعلا فى ذلك الزمان وفى تلك الأمكنة، وليس هذا بالشىء القليل رغم الملاحظات والتحفظات التى أخذتها على الرواية، وهى أيضا ليست بالشىء القليل. ولم يكتف المؤلف بهذا، بل عرض فى تفصيلٍ حارٍّ وقع هذا كله على عقل هيبا، الذى أدت به تلك الانقسامات والمجادلات والمشاحنات بين كبار الأساقفة إلى الشك فى كل شىء يتعلق بتلك الخصومات العقيدية، إن لم يكن فى النصرانية ذاتها، ومن ثم ترك الرهبنة وأطاع صوت عزازيل فى غير قليل من الأشياء. ومن هذا كله يتبين لنا أن المجامع البشرية هى التى تصوغ قانون الإيمان، وهذا القانون يتغير ويتطور من حين إلى آخر (ص383، 392مثلا). وكان هذا أحد العوامل المسؤولة عما اعتور عقل هيبا وقلبه من شكوك وملل وانصراف تدريجى عن النصرانية وإسلامه نفسه إلى عزازيل، الذى كان يصحبه دائما، وإن لم يكن يظهر له إلا فى الأوقات الحرجة والانعطافات الحادة. ومن هنا انتهى هيبا إلى أن الله والإيمان هما فى القلب لا فى المجامع ولا فيما يقوله رؤساء الكنائس. ليس ذلك فقط، بل إن فى الأناجيل ذاتها أشياء منسوبة إلى السيد المسيح نفسه لم ترض عقل هيبا، فهو مثلا غير مقتنع بالسبب الذى على أساسه نَفَى المسيح إمكان دخول الأغنياء ملكوت السماوات (ص179). كما فكر فى حقيقة وجود الآلهة متسائلا: هل هى موجودة وجودا مستقلا حقا أو تابعة فى وجودها لمن يؤمن بها؟ (ص209- 210). يريد أن يقول: هل الله موجود حقا؟ أم هل هو مجرد فكرة تدور فى أذهان المؤمنين به؟
وفى ضوء هذا الجدل العنيف الرهيب وما نشأ عنه من انقسامات ومذاهب يفسر الراهب الفريسى لهيبا القول المنسوب للمسيح فى الأناجيل: ما جئت لألقى سلاما بل سيفا (ص352. و من قبل أكد ذلك كيرلس فى إحدى رسائله التى كتبها مفندا آراء نسطور/ ص258- 259). والحق أن هذه أول مرة أصادف هذا التفسير الذى يبدو أنه تفسير المؤلف نفسه، بصفته خالقا لشخصية ذلك الراهب الفريسى وكل الشخصيات فى الرواية. وهو تفسير وجيه، وإن لم يستغرق كل الأبعاد المتعلقة بمعنى ذلك القول المنسوب للسيد المسيح فى الأناجيل. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الراهب الفريسى قد أقر بأن الثالوث يمثل مشكلة شائكة لا مفر منها كيفما نظرنا إليه لأنه لا يتسق مع العقل (ص352- 353). كذلك نجح الكاتب نجاحا فائقا فى صياغة خطبة البطرك، فكأن القارئ يسمع البطرك فعلا يتكلم (ص157- 159).
والمعروف أن المؤلف متخصص فى الفلسفة الإسلامية، ويهتم بالمخطوطات، وله موقع خاص بذلك. وقد اجتهد فى تقديم صورة للعصر، وجعلنى أتخيل أنى أعيش فيه: بسبب الوصف التفصيلى البيئى والمكانى والشخصى، واللجوء إلى المصطلحات الطبية والدينية التى كانت معروفة فى ذلك العصر أو نتصور أنها كانت، والتوقيت بالشمس لا بالساعة كما هو الحال الآن، والقضايا الدينية التى كانت تستولى على الناس فى ذلك الوقت. وطريقته فى بناء الرواية تشبه، فى بعض نواحيها، طريقة جرجى زيدان، إلا أن أسلوبه أكثر شاعرية وأحكم وأجمل، وفيه تأملات فى الكون والنفس البشرية، كما أنه يحكى روايته على لسان البطل، مما يجعله قريبا من نفوسنا، ويقوى إيهامنا بأننا نعيش فى ذلك العصر، وهو ما لم يفعله صاحب "الهلال" البتة.
(ملحوظة هامة: أرقام صفحات الرواية المذكورة هنا هى أرقامها فى النسخة التى تكرم المؤلف مشكورا، بناء على طلبى، بإرسالها لى بالبريد الضوئى فى ملف "وِرْد: word" قائلا إنها هى النسخة الأصلية الأولى
"أشواك" سيد قطب! ويا لها من أشواك!
خواطر بلا ضابط ولا رابط
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
بالمصادفة وقعت منذ يومين، وأنا أبحث فى المشباك عن شىء من الدراسات النقدية يتعلق برواية "أشواك" لسيد قطب، على كلمة كتبها صعلوك من صعاليك المشباك الذين يتكاثرون كالديدان والصراصير يتهم فيها سيد قطب بأنه زعيم الإرهابيين الذى لم يستطع أن يجد لنفسه موطئ قدم فى دنيا الأدب والنقد فتحول إلى الكتابة فى الدين ليضمن لنفسه ولمؤلفاته الرواج. طبعا، والدليل على صحة ما يَصِرّ به هذا الصُّرْصُور أن سيد قطب كان رجلا، نعم رجلا بكل معانى الكلمة، فى مواجهة ما رآه طغيانا واستبدادا، ولم يَلِنْ ولم يتزلف أو يتراجع عن آرائه أو مواقفه، وآثر أن يجود بروحه فوق أعواد المشانق على أن ينال العفو والسماح من يد من كان يؤمن أنهم سبب ما البلاد فيه من فساد واتجاه إلى الانهيار. والجود بالروح أقصى غاية الجود كما يعرف ذلك كل قاص ودان، اللهم إلا الديدان والصراصير.
طبعا، والدليل على صدق ما تقايأته هذه الدُّودة أن سيد قطب قبل هجره ميدان الأدب والنقد كان هو بوابة السعد التى يمر منها المحظوظون من الأدباء والكتاب ممن لم يكن المجتمع الأدبى قد اعترف بهم بعد، فإذا كتب هو، رحمه الله، عن أحد منهم وأشاد به كانت كتابته عنه هى خاتم النسر، أو قل: خاتم سليمان، الذى تنفتح له بوساطته كل أبواب السعد والشهرة. ولا أدل على ذلك من نجيب محفوظ، الذى تحول من حال إلى حال بعدما كتب عنه سيد قطب مقالين يجدهما القارئ فى كتابه المسمَّى: "كتب وشخصيات" أثنى فيهما عليه وعلى فنه القصصى خير ثناء، فـ"انتشله بذلك من طيات الظلام" (elevating Egyptian novelist Naguib Mahfouz from obscurity) بتعبير كاتب مادة "سيد قطب" فى النسخة الإنجليزية من الموسوعة المشباكية الحرة (The Free Encyclopedia) المسماة بــ"الويكيبيديا: Wikipedia". وكانت تلك هى البداية لنجيب محفوظ، الذى تكرر حديثه عنها فى بعض حواراته، وإن كان قد استدار من ناحية أخرى فقدم سيد قطب، مع شديد الأسى والأسف، فى كتابه: "المرايا" باسم "عبد الوهاب إسماعيل"، فى صورة المتعصب المنفر الشكل والسمت. وهى لفتة من محفوظ تكشف عن أشياء فى الأعماق. طبعا، والدليل على استقامة الحكم الذى أصدره هذا الفَدْم البليد الذى يتهم سيد قطب، رحمة الله عليه، بأنه زعيم الإرهابيين وأنه ترك الأدب والنقد إلى الكتابات الإسلامية كى يشتهر، أن ما كتبه سيد قطب من أدب ونقد قبل أن ينتقل إلى التأليف الإسلامى هو من أقوى وأصفى وأعمق وأدق ما كُتِب فى هذا الميدان: شعرا كان أو قصصا أو نقدا أدبيا. فأما فى الرواية فيكفيه "أشواك" وحدها على ما سوف أوضح فى هذه الكلمة التى بين يدى القارئ، ودعونا من روايته الأخرى: "المدينة المسحورة". وأما شعره فها هو ذا ديوانه تحت بصر القراء، يستطيعون أن يرجعوا إليه ليرَوْا بأم أعينهم مدى رقىّ ذلك الشعر، وبخاصة إذا وضعوا إزاءه هذه الهلوسات والتشنجات الحاليّة المنتشرة كالجرب والتى يسميها بعض المهاويس من أحلاس النقد والواغلين فيه على غير استعداد ولا موهبة ولا ثقافة: "شعرا"، وما هى من الشعر فى قُلٍّ أو كُثْرٍ.
وكيف يُتَّهَم سيد قطب بالإرهاب، وهو الذى يقول: "من الصعب عليَّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة؟ إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؟ بل كيف نهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل؟ لابد أن نصل إلى شط الملوثين. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام. وكذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة. إن الدنس سيعلق بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح، وفي الغاية التي وصلنا إليها! إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات! الشعور الإنساني وحده إذا أحس غاية نبيلة فلن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل لن يهتدي إلى استخدامها بطبيعته! "الغاية تبرر الوسيلة": تلك هي حكمة الغرب الكبرى لأن الغرب يحيا بذهنه. وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات"، "ما يخدع الطغاة شيء كما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها، وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانا، وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب، وتمد له أعناقها فيَجُرّ، وتحني لها رؤوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة، وخائفة من جهة أخرى. وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم، فالطاغية، وهو فرد، لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها"، "إن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلةً في التربية والإعداد، وإنها لا تجئ عن طريق إحداث انقلاب"؟ وهذه النقول مأخوذة من مادة "سيد قطب" فى النسخة العربية من "الويكبيديا: Wikipedia".
وأحب أن أقول إننى منذ فترة طويلة أركز فى نقدى الاجتماعى والسياسى على الشعوب العربية والإسلامية، مع علمى أن حكومات العرب والمسلمين هى أسوأ وأتفه حكومات الأرض جميعا، إلا أننى أدرك جيدا أنه لولا صمت الشعوب وجبنها وفزعها من خيالها وتبلدها وخور عزيمتها وكراهيتها لبذل أى مجهود يستعيد لها كرامتها وحقها فى الحياة والعزة ما جرؤ أى جاهلٍ فَدْمٍ حقيرٍ على أن يصنع بها ما يصنع فتزداد له تأليها وانكبابا على حذائه تلحسه وتملّس عليه بخدودها التماسا للبركة. كما أن حكام العرب والمسلمين إنما يعكسون فى عيوبهم عيوب شعوبهم، ففى كل شخص من تلك الشعوب فى الغالب مشروعُ حاكمٍ تافهٍ مستبدّ. ولا يغرنكم، أيها المصلحون، ما تسمعونه من شعارات وهتافات وانتقادات للأوضاع الفاسدة، فالعبرة بالمواقف لا بالكلام، وإلا فكلنا يحسن الكلام الكبير المنمق، إلا أننا عند الجِدّ سرعان ما نلحسه دون أدنى شعور بالخجل، وكأن شيئا لم يكن. ثم تَعَاَلْوا نجب على هذا السؤال: من يا ترى يساعد أولئك الحكام على فسادهم واستبدادهم وانحرافهم وتنفيذ سياستهم المنحازة فى كثير من جوانبها إلى أعداء الأمة؟ أليسوا هم أفراد تلك الشعوب؟ أم هم كائنات أتت من الفضاء الخارجى؟ نعم من أين يأتى القضاة والوزراء والصحفيون والمديرون وسائر الموظفين ومن يسمَّوْن بــ"نواب الشعب" الذين ينفذون سياسة الحكومات؟ أليسوا من بين صفوفنا؟ ولماذا نذهب بعيدا، وها هو ذا مقياس دقيق فى أيدينا يمكننا استخدامه للحكم على شخصيات تلك الشعوب، ألا وهو مقياس السلوك اليومى المعتاد؟ ترى بالله عليك، أيها القارئ، ما نسبة الأشخاص الذين يُطْمَأَنّ إلى سلوكهم ووعودهم إلى جموع الشعب التى لا ترعى واجبا ولا تفى بوعد ولا تَصْدُق فى كلمة ولا تريد أن تعمل أو تتعلم ولا تحب نظافة ولا نظاما ولا تبالى بعزة أو كرامة ولا يُعْتَمَد عليها فى إنجاز شىء؟ وهذا هو سيد قطب قد سبقَنا جميعا إلى هذا المعنى. ولقد فكرت مرارا أن أكتب مقالا صارخا أهيب فيه بالمصلحين أن يفضّوها سيرة ويتركوا الشعوب لمصيرها الأسود ما دامت تستعذب هذا الهوان، ولْينصرفوا إلى مصالحهم وراحة بالهم بدلا من التعرض للضرب والتعرية "بلابيص" فى الصحراء والمرض ومصادرة المال والسجن والقتل فى غير طائل. فما رأيكم يا أيها المصلحون من مفكرين وأدباء وصحفيين وخطباء ودعاة؟ حرام ما تفعلونه بأنفسكم دون جدوى! ألا تَرَوْن أن هذه دعوة حكيمة ينبغى على الأقل أن تفكروا فيها، إن لم تتبنَّوْها قلبا وقالبا فتريحوا وتستريحوا؟ إن هذه شعوب تعيش خارج التاريخ بعد أن انتهت فترة صلاحيتها الحضارية، وتنتظر الآن كلمة القضاء والقدر فيها بزلزال شامل يجتثها من جذورها ويخلص الدنيا من عارها وقبحها وتبلدها وخنوعها. أما أنتم يا حكامنا فهنيئا لكم تلك الشعوب التى لا يوجد لها مثيل فى الرضا بالقهر والإذلال والهوان والاستزادة منه والهتاف باسم أصحابه. ولا تصدقوا كلام المصلحين عن احتقان الناس وقرب انفجارهم، فهذا كلام فارغ، وإلا فها أنتم أولاء تنكِّلون برعاياكم منذ عقود وعقود وعقود، وتصنعون بهم كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من عسف وترويع وسرقة وقتل ونهب، فهل رأيتم أو سمعتم أحدا منهم قد تحرك؟ أما أنتِ أيتها الشعوب الجبانة فمِنْك لله! لقد خذلتِ نفسك فى كل الفرص التى أتاحها القدر لك، فخذلكِ الله!
هذا عن الرواية عند سيد قطب، وأما بالنسبة للنقد فلنكتف فقط بكتابيه المشهورين: "النقد الأدبى- أصوله ومناهجه" و"كتب وشخصيات"، ولا أظن أنه كان فى دنيا النقد فى تلك الأيام ما يزيد على هذين الكتابين فى شىء، سواء من ناحية الأسلوب أو السلاسة أو التحليل أو الإحاطة أو الفهم والتذوق. بل قلما نجد حتى الآن كتبا تضارعهما. ولأكن صريحا فأقول إنه لو وُضِع ما كتبه أىٌّ ممن اشتهروا بكتابة النقد القصصى فى العصر الحديث لقاء ما كتبه سيد قطب لرجحت كفة قطب بكل يقين واقتدار لما تتسم به كتاباته من شدة أسر فى الأسلوب ودفء فى التعبير ووضوح شفاف فى الفكرة واستقلال فى الشخصية وقوة ثقة بالنفس وعدم فناء فى المصطلحات والمفاهيم الأجنبية، إلا أن قطب لم يجد من يتحدث عنه ناقدا كما وجد هؤلاء، وبخاصة أنه انصرف إلى الكتابات الإسلامية بكل كيانه رغم أنها، كما سوف نرى، ليست بعيدة عن الأدب والنقد كما يتوهم الكثيرون، وكان يستطيع أن يجمع بينها وبين المقالات والدراسات التى يتناول فيها أعمال الأدباء والنقاد، لكنْ كان للأقدار كلمتها المختلفة.
ولو قارنّا مثلا بينه وبين د. محمد مندور، الذى يسميه اليساريون: "شيخ النقاد"، ولا أدرى على أى أساس شَيَّخوه، فهو يعتمد فيما يكتب على التلخيص لما يقرؤه دون الإشارة إلى المصدر الذى اعتمد عليه، بل مع الدعوى العريضة بأنه إنما استلهمه من وحى عبقريته استلهاما، وأحيانا على السطو على ما قرأه هنا وهناك كما صنع مع جان كالفيه ونعمات فؤاد، لرجحت كِفّة قطب رجحانا وشالت كِفّة مندور. وقد اخترت مندور لأنه اشتبك مع سيد قطب فى الأربعينات من القرن البائد فى معركة نقدية تشامخ فيها "شيخ النقاد" الذى لم يكن قد شاخ بعد، وظن أنه قادر على أن يهزم قطب بالتحدث من طرف أنفه، متناسيا أنه كان حديث عهد بالعودة فاشلا من فرنسا دون أن يحصل على درجة الدكتورية التى ابتُعِث من أجل الحصول عليها رغم قضائه تسع سنوات كاملات فى فرنسا، ومتناسيا أيضا أنه إلى وقت قريب كان يبدى الكثير من ضروب الخضوع والتزلف للدكتور طه حسين فى خطاباته التى كان يرسلها إليه من بلاد الفرنسيس كلما أخفق فى أمر من أموره هناك، وما أكثر ما كان يخفق، أو احتاج إلى تدخل منه لتسهيل هذا الموضوع أو ذاك أو لإعفائه من هذه العقوبة أو تلك، وما أكثر ما كان يحتاج إلى مثل تلك التدخلات، وهذه الخطابات متاحة لمن يريد الاطلاع عليها لمعرفة هذا الجانب الخفى من حياة مندور وشخصيته فى كتاب نبيل فرج الذى أصدرته دار الهلال فى تسعينات القرن المنصرم، فلم يكن هناك إذن أى مسوغ لهذا التشامخ المتصنَّع بأى حال، ومتناسيا كذلك أنه، فى كتاب له يعتز به هو ومشايعوه أيما اعتزاز، وهو كتاب "نماذج بشرية"، قد سطا على الفصول التى وضعها الكاتب الفرنسى جان كالفيه عن النماذج البشرية فى الأدب الفرنسى واستطعت أنا أن أثبت بالصوت والصورة فى كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة" أنه قد سطا فعلا وحقا على سبعة نماذج على الأقل من نماذج كالفيه، ولو قُدِّر لى أن أضع يدى أيضا على كتاب كالفيه فى النماذج البشرية فى الآداب الأوربية فأغلب الظن أننى سأجده قد سطا على فصول أخرى مما خلفه الكاتب الفرنسى، فكان ينبغى إذن أن يشعر بفظاعة ما اجترمت يداه من سرقة ويتصاغر وهو يكلم ناقدا كبيرا ملء هدومه كسيد قطب، ومتناسيا فوق هذا وذاك أن ما كان يدعو إليه من "أدب مهموس" ظن أنه قد فتح به عكا ليس شيئا آخر سوى ما يقول فيه الفرنسيون: "à (de)mi-voix" (كما فى هذين العنوانين مثلا: "La foi à mi-voix" و"Contes à mi-voix")، ومن ثم ليس له فضل فيه، وهو ما كان ينبغى أن يضعه فى اعتباره حين أخذ يطنطن بأنه ابن بجدتها وأن ما يطلق عليه: "الأدب المهموس" إنما هو من بُيَنّات أفكاره، وبخاصة أن هذا اللون من التعبير الأدبى لا يصلح فى كل المواقف والمناسبات: فشعر الفخر والحماسة مثلا لا يصلح له الهمس والنجوى (كما فى معلقة عمرو بن كلثوم، وبائية أبى تمام فى فتح عمورية، ونشيد "دع سمائى فسمائى محرقة")، كما أن الشاعر الذى غدرت به حبيبته مثلا وطعنته فى قلبه طعنة نجلاء لا يمكنه الهمس والنجوى، بل لا بد له من التألم والصراخ أو التنفيس عن نفسه بتوعدها بالانتقام وتجريعها من نفس الكأس حتى لو لم ينتقم أو يضع وعيده موضع التنفيذ (كما فى بعض أشعار كُثَيِّر عَزّة، ونونية ابن زيدون، و"لستَ قلبى" لكامل الشناوى)، وأن سخرية قطب منه لهذا السبب هى سخرية فى موضعها بالتمام والكمال رغم ما سببته لمندور من وخز مؤلم يستحقه بكل تأكيد، فضلا عن أن أسلوب قطب أحلى وأكثر إحكاما من أسلوبه رغم ما يتمتع به أسلوب مندور بوجه عام من بساطة ودفء، إلا أنه يفتقر إلى ما تتصف به لغة قطب من شدة أسر وبعد تام عن التهافت والركاكة اللذين يقابلاننا فى كتاباته هو هنا وهناك.
ولا ننس أيضا ما يتصف به مندور فى غير قليل من الأحيان من الميل إلى خطف المعلومات خطفا وعدم التأنى للتثبت مما ينقل أو يكتب، وهو ما كشفتُه فى كتابى السالف الذكر وكذلك فى الفصل الأول من كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" حيث تبين لى بكل يقين أنه لم يكن لديه الصبر على البحث والتنقيب، ولهذا كان يسارع إلى إطلاق الأحكام الفاسدة المتهافتة، وعلى نفس دَيْدَنه فى اصطناع أستاذية لا تليق بهذا الكسل والتسرع. وعلاوة على هذا فسيد قطب كان شاعرا وقصاصا، ثم أضاف إلى ذلك الكتابة الإسلامية، وهو كله مما ينقص مندور. أما الكتابة السياسية فيشترك الاثنان فيها، وإن كانت كتابات مندور قد انتهى تأثيرها لأنها كتابة وقتية تتصل بظروف معينة لا تستطيع تجاوزها والحياة بعيدا عنها، فيما تظل كتابات قطب تنتشر وتستولى على العقول والقلوب بعد موته ميتة الشهداء لأنها ذات طبيعة حية باقية ما بقى الإسلام والمسلمون وقضاياهم. نعم تنتشر كتاباته وتستولى على العقول والقلوب لا فى مصر وحدها كما هو الحال بالنسبة لمندور فى كتاباته السياسية أيام أن كان يكتب فى تلك الموضوعات، بل فى العالم العربى والإسلامى جميعا، مع الفرق الهائل بين الأثرين، لصالح سيد قطب بكل تأكيد. ثم هناك فرق آخر شديد الأهمية، وهو أن مندور إنما كان يردد كلام اليسار الوارد من الخارج، أما قطب فهو مغموس فى أرض الإسلام لا يستورد شيئا من خارج الديار ولا يتحذلق بالتبعية للفكر الإغريقى والأوربى على طريقة القرعاء التى تتباهى بشعر بنت جارتهم، ولذلك كانت الضريبة التى دفعها، رحمه الله، رهيبة!
وثمة كتابه البديع: "فى ظلال القرآن"، وهو عمل فكرى وأدبى لو كُتِب لمندور أن يعيش أضعاف عمره ويُوهَب أضعاف ما وُهِب من قوة فكرية وذوقية فلن يمكنه إنجاز معشاره. أقول هذا رغم أننى لست ممن يوافقون سيد قطب على طول الخط، فقد كتبت بالتفصيل عن هذا التفسير الفريد فى كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه"، ووافقته فى بعض الأشياء، وخالفته فى بعض الأشياء، ولكن يبقى الكتاب بعد هذا كله قمة لا يطولها أمثال مندور، وهذا إن فكر مندور أصلا أن ينطلق من منطلق الإسلام! وعجيب أن يتجاهل الدكتور مندور المرحوم سيد قطب فى كتابه عن "الشعر المصرى بعد شوقى" فلم يعرض له فى قليل ولا كثير رغم أنه يتفوق بدون أدنى جدال على شعراء كالهمشرى وإبراهيم نجا وحسن كامل الصيرفى مثلا، وإن لم يكن فى الأمر أدنى عجب عند التأمل، فمندور وقطب، بعيدا عن المعركة النقدية التى نشبت بينهما قبل ذلك، يمثلان فكرين متنافرين: الفكر اليسارى المستورَد لدى مندور، والفكر الإسلامى الأصيل لدن سيد قطب.
كما أن الإعلام الرسمى، ومن ورائه الأدباء والنقاد، والشيوعيون منهم بالذات لتنافر طباعهم وطبع سيد قطب الرجولى المحب لأمته ودينه لا البائع نفسه بيع البخس والوكس والنحس لأعداء أمته ودينه والسائر فى خطا الصهاينة الأرجاس الذين عملوا بكل قواهم على زرع خلايا الشيوعية فى بلادنا حتى تكون تلك الشيوعية فى خدمة الصهيونية ضد العروبة والإسلام والمسلمين وحتى يرقص الشيوعيون على أنغامها ويتقافزوا كما يفعل "القرد أبو صديرى"، فالمهم عند أولئك المناكيد ألا تكون هناك قيود على ذممهم الخربة وأجسادهم النجسة وشهواتهم المنتنة، فلا عراقيل أمام الخمر والزنا واللواط والدياثة والقوادة والعمالة، هذا الإعلام قد تجاهل تماما إبداعات سيد قطب فى الأدب والنقد وغير الأدب والنقد. ولقد ظهر أيام انهيار غير المأسوف على شبابه: الاتحاد السوفييتى وثائق تدين عددا من كبار الشيوعيين فى بلادنا غير المحروسة وتذكر المبالغ التى كانوا يتقاضَوْنها لقاء عمالتهم لهذه الدولة التى كانت كبرى إلى وقت قريب. وما زال هؤلاء الكبار (الصغار فى الحقيقة) يمرحون فى الأرض ويتفيهقون ويعلموننا دروس الوطنية والكفاح والشرف الذى على أصوله على نحو سمج مقيت يبعث على الغثيان. ذلك أن أولئك البعداء، جراء ما مرودوا على الخيانة والعمالة، لم يعودوا يشعرون بشىء اسمه الحياء والخجل.
والآن إلى بعض التفاصيل: فواحد من هؤلاء الشيوعيين الشرفاء (!) كانت زوجته الأمية التى التقطها من شوارع إحدى المناطق الشعبية بجوار "الست الطاهرة" حيث كانت تعيش فى كنف أب سكير، وحيث كانت تذهب إليه فى شقته القريبة التى كان يعيش فيها وحده بعيدا عن أهله الريفيين، كانت هذه الزوجة التى تعلمت، فيما بعد، القراءة والكتابة وأضحت تقدمية على سنة الشيوعيين الصائعين تعاشر عشاقها فى حضور ذلك "الجردل" بالشقة المشتركة التى ظلا يسكنانها بعد الانفصال. ولا يملك الجردل إلا أن يشكو لطوب الأرض دون جدوى: فلا هى تكف عن ممارسة الخنا أثناء وجوده فى الشقة، وعلى فراش الزوجية ذاته، ولا هو يكف عن الشكوى الذليلة المهينة! وسلم لى على الشيوعية والشيوعيين الشرفاء. وأحسن من شرف الشيوعيين "ما فيش"! وكان ينبغى أن يعرف أنه لا معنى للشكوى مما تصنعه هذه الصائعة، فهى من غرس يده وتعليمه، ومن ثم فمن المستحيل أن تطهر حتى لو اغتسلت بماء "النهر" كله من القاهرة إلى أسوان! وهذا أمر يعرفه الجميع، لكن العجيب أنك تقرأ ما كتبه كلاهما عن علاقتهما فلا تجد إلا كلاما عن الإخلاص والكفاح المشترك! ولقد شاهدتُ تلك الحيزبون أكثر من مرة فى الفضائيات وهى تنعى على الرجال أنهم لا يهتمون من المرأة إلا بالنصف الأسفل! تقول هذا وهى تشير بإصبعها إلى نصفها التحتانى على مشهد ومسمع من الدنيا كلها دون حياء! صحيح: تربية حوارى!
وهناك الشيوعى الحقير الآخر صاحب دبلوم التمريض ومؤجّر أَسِرّة المستشفى الذى كان يعمل فيه للداعرين والداعرات من رفاق الخلايا الشيوعية المنتنة يقضون فوقها حاجاتهم الحيوانية الوسخة مثلهم ومثل هذا القواد النجس. وتنظر فتجد هذا القواد يكتب فى كل الصحف العربية بأمر من الدوائر التى تحتضنه هو وأمثاله وتسهل لهم سبل العيش الدنس، وكأن المحروسة قد خلت من الأقلام المثقفة الطاهرة العاقلة الراقية، ولم يبق إلا هذا الوسخ وأشباهه، وما أكثرهم هذه الأيام!
وفى أوائل السبعينات ترددت عدة مرات على مقهى "ريش" بشارع سليمان بالقاهرة مع معيد زميل لى تربطه علاقة ببعض اليساريين. وفى إحدى هذه المرات، وكنت قد صليت المغرب قبلها بقليل فى أحد الأركان فى الممر الضيق هناك، مال علىّ زميلى قائلا وهو ينظر ناحية شارع سليمان: هل أنت جوعان؟ فقلت له: كلا، ولكن لم هذا السؤال؟ قال وهو يشير إلى شاب يشبه البُرْص مار بالشارع: هذا هو فلان الفلانى (ولم أكن سمعت به، ثم عرفت منه أنه يكتب القصة)، وأنا متأكد أنه جوعان لم يأكل منذ أمس. ولسوف أطلب بعض السميذ والبيض والجبن الرومى من بائع السميذ هذا، وأتظاهر أنى جائع حتى أعطيه الفرصة كى يأكل دون حرج. وقد كان، إذ نادى الشاب الذى يشبه البرص، وطلب بعض الطعام من بائع السميذ، وترك لصاحبنا الطعام كله يزدرده، وهو يتصايح بشعارات الكفاح اليسارى الحنجورى بعد أن أخبرنا أنه كان نائما منذ البارحة لم يستيقظ إلا الآن، وأنه لا يزال يشعر بألم خمار الشراب الذى كان يعب منه مع رفاقه عبًّا أثناء السهرة، وهو ما بعثنى إلى التهكم على ذلك اللون الرخيص التافه من التشدق بالنضال الطبقى، على حين لا يفكر رفيقنا الهمام الذى ليس عنده بعض شىء من الدم فى أن يجد لنفسه عملا يكفل له لقمة العيش على الأقل، فاغتاظ من ملاحظتى وتوتَّر وركبه عفريت. ولأول مرة أرى بُرْصًا يغتاظ ويتوتر ويركبه عفريت، فكانت تجربة مدهشة لى.
وفى أثناء ذلك كله كان الشاب الذى يشبه البرص يلتفت ناحية مجموعة يسارية جالسة على مقربة منا مكونة من بعض الشبان وإحدى الصائعات الشيوعيات، وكانوا جميعا يشربون شيئا من نقيع البراطيش الذى لا ترتاح معداتهم المنتنة لشىء سواه، وهو لا يكف عن قذف البنت الصائعة الضائعة التى تجلس مع الثلة إياها بألفاظ السباب المنتقاة التى يتقنها هو وأضرابه من لمامة الشوارع مثل: "القحبة بنت القحبة"، وهذا أخفّ ما قال، مع حرصه فى ذات الوقت على المخافتة من صوته جبنا منه وهلعا كيلا يقوم أحد من الجماعة الأخرى بضربه وإلزامه السكوت. والسبب؟ السبب هو أنه كان يخاللها على سُنّة الشيوعيين الأنجاس، لكنها تركته إلى شيوعى حقير آخر.
ولم يعمَّر ذلك البُرْص طويلا، بل سرعان ما مات وذهب فى ألف داهية جراء الإسراف فى الخمر والزنا، مع الجوع والتشرد اللذين بلا بهما معه ابنته الصغرى دون أى ذنب جنته تلك الصغيرة البريئة التى كان يجوب بها الشوارع وهو يحملها على كتفه بعد أن هجرته زوجته أخت الشيوعى الآخر السكير الهلفوت، لعنهما الله. ولقد قُدِّر لى بعد ذلك أن أقرأ للبُرْص بعض القصص التى كتبها فوجدته من قصاصى الدرجة العاشرة، إلا أن الشيوعيين، كعادتهم فى رفع كل بُرْص حقير إلى السماء، كانوا يغدقون عليه صفات العبقرية، حتى أراحنا الله من خلقته وكَسَحَه القدر إلى مجارى التاريخ حيث ينتمى.
ولا ننس حكاية أروى صالح، التى كانت واحدة منهم ثم تبين لها أنها تعيش أكذوبة كبرى، ثم كانت ثالثة الأثافى اكشتافها أن الرجال (الرجال؟) الذين تزوجتهم، وكانوا كلهم من الشيوعيين، هم جميعا من الشواذ على نحو أو على آخر كما كتب د. محمد عباس فى مقال له مشهور، فلم تطق صبرا على كل هذا القبح والنتن، وانتحرت وغاردت دنيا الشيوعية والشيوعيين الدنسة غير آسفة عليها ولا مأسوف عليها هى أيضا.
ويلحق بهؤلاء كاتبات هذه الأيام اللاتى لا يكتبن فى الواقع "أدبا" بل يفتحن مواخير يمارسن فيها "قلة الأدب"، إذ يضطجعن على قارعة الطريق عاريات كما ولدتهن أمهاتهن، وقد فتحن أفخاذهن لكل عابر سبيل، أو قل: "عابر سرير"، مثلما صور العهد القديم أُمّة بنى إسرائيل، التى قال على لسان المولى سبحانه وتعالى فى الإصحاح السادس عشر من سفر "حزقيال"، وإن كان من غير الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى كلاما عاريا على هذا النحو: "25فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ، وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ". هؤلاء لسن أديبات ولا مؤدبات، بل قحابا ومومسات من الصنف العَفِش الذى لم يكن يدور لإبليس ذاته فى بال ولا خيال. ذلك أن القحاب والمومسات المعروفات لا يخلون من بقية حياء، فهن يستترن بعهرهن، أما هؤلاء فيضطجعن للمارة على قارعة الطريق عاريات فاضحات مفضوحات فاتحات أفخاذهن، كاشفات سوآتهن المنتنة مثل أخلاقهن، وبمباركة رجالهن، إن صح أن يقال عن أمثال أولئك الجرادل: "رجال"! وهذا التحلل والانحلال هو كل ما يهم الشيوعيين ومن على شاكلتهم رغم جعجعاتهم حول الشرف والبطولة. وما أكثر السفلة "الأدناف" من أشباه الرجال الذين يكتبون مشجعين أمثال أولئك القحاب على كسر ما يسمونه برطانتهم الكريهة:"التابو" والتحرر من كل خلق كريم وكل قيمة نبيلة! ولم لا، والجميع تربية خلايا الشيوعية التى تعمل على تسهيل كل شىء لأعضائها فى العتمة، وأولها إطلاق العِنَان للأجساد الملتهبة التى لا تعرف نظافة ولا استحماما والتى لا يردعها خوف من رب ولا تفكير فى حساب أو ثواب وعقاب لأنهم لا يؤمنون برب ولا بثواب وعقاب. إنهم مجموعة من الحيوانات قد أُطْلِق سراحها وتسلط عليها السعار الجنسى فاشتعلت شهوةً واغتلامًا، فكُلُّه يقفز على كُلِّه. ولم لا، والأمر بالنسبة لهم "مولد، وصاحبه غائب"؟
وإذا كان هذا الإعلام قد تجاهل سيد قطب كأنه لم يكن فهو تجنُّبٌ لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. وأين ذهب عبد الناصر ذاته بعد أن كان اسمه يسدّ عين الشمس حتى أحال الدنيا إلى ظلام مخيف ورعب ما بعده رعب؟ وإضافة إلى هذا فالمشاهَد أن كثيرا من الـمُسَمَّيْن بـ"الإسلاميين" لا ينظرون إلى إنجازات المرحوم سيد قطب الأدبية والنقدية عادة بعين الترحيب والرضا، أو على الأقل: لا ينظرون إليها بعين الاهتمام، على رغم أن إنجازات الرجل فى تلك الساحة هى إنجازات كبيرة بكل المقاييس. وإنى لأرجو أن يأجره الله عليها أجرا كبيرا، فليس بالقليل عند خالق الذوق والجمال أن يعمل أحد عباده بقلمه فى تربية الذوق وصيانة الجمال، إذ ليست الدنيا كلها أكلا وشربا ولا حتى صلاة وصياما فقط، بل هذا وذاك وذلك وتلك وذوقا ولياقة وكياسة وهُفُوًّا للجمال وحسن تقدير له... إلخ. ثم إن من صفاته سبحانه جل وعلا أنه جميل يحب الجمال.
وبهذه المناسبة أذكر أننى، قبل عدة سنوات، لاحظت غياب طالب متدين من محاضراتى فى مادة "القصة" كنت أَشِيم أن بإمكانه التفوق فى تلك المادة وغيرها، ولما سألته عن سر هذا الغياب بَدَهَنى بردٍّ لم أكن أتوقعه البتة، إذ قال إنها محاضرات فى القصة، وهى ليست من الأهمية بمكان لأنها لا صلة لها بالدين. وعبثا حاولت أن أفهمه أن النقد الأدبى فرع من فروع المعرفة، التى حض الإسلام أتباعه على السعى لتحصيلها واكتسابها، وأن دين النبى العظيم لا يعرف تلك التفرقة المصطنعة بين علم وعلم، تلك التفرقة التى لا تظن أن ثم أجرا على تحصيل العلم إلا إذا كان متعلقا بالدين من فقه وحديث وعقيدة وما إلى هذا، وأن النقد القصصى، والنقد الأدبى بوجه عام، من شأنه إكساب الطالب الحساسية الجمالية والذوقية والتعمق فى فهم الحياة، إذ شعرتُ كأننى أنفخ فى رماد أو فى قربة مقطوعة، وبدا لى أن قطاعا كبيرا جدا من المسلمين ينظرون إلى الوجود من ثَقْب إبرة مع أنه ليس لِدِينهم نظير فى الاهتمام بالدنيا والدعوة إلى البراعة فى كل مناحيها وتسنُّم ذراها، فى الوقت الذى يجىء فيه المسلمون فى العصور الحديثة بوجه عام فى ذيل الأمم حتى فى أمور النظام والذوق والجمال! وها هى ذى دورة بكين الأولمبية تهتك الستر عن تخلفهم الشائن حتى فى ميادين الرياضة جميعا، وهو أمر مخجل لأية أمة أخرى غير أمة المسلمين التى لم تعد تعرف شيئا اسمه الخجل والخزى، إذ بات الخزى طعامها اليومى والأسبوعى والشهرى والسنوى حتى إشعار آخر يبدو أنْ سيطول انتظاره كثيرا كثيرا كثيرا.
وإذا كانت الكلمة الطيبة فى دين النبى العظيم صدقة، أفلا يُعَدّ كلامنا فى النقد الأدبى والقصصى كلمة طيبة نؤجَر عليها يوم القيامة لما تؤدى إليه من خير كثير فى هذه الدنيا التى أثبت المسلمون فى عصرنا أنهم أساتذة الفشل فيها؟ وإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، أفلا تُعَدّ تلك المحاضرات لونا من إماطة الأذى، لا عن الطريق، ولكن عما هو أهم وأخطر: عن العقول والأذواق؟ أستغفر الله العظيم! ترى من أين أتى ذلك الطالب وأشباهه بهذا التفكير العجيب، وذلك الذوق الخشن، إذ لم يتورع أن يجبه أستاذه الذى يريد له المصلحة والتفوق بهذا الرد الجافى الخالى من كل أثر للياقة؟
لقد قرأت فى ذلك الوقت لأحد الدعاة المعروفين فى صحيفة من الصحف الإسلامية الخاصة ذات مرة أن كتابة القصة حرام!
- الله أكبر! لماذا يا مولانا؟
- لأنها قائمة على الكذب؟
- كيف يا فضيلة الشيخ؟
- ألا يقول القَصّاص من هؤلاء مثلا إن فلانا الفلانى قام من نومة القيلولة فحلق لحيته واغتسل وتعطر ولبس بدلته ثم خرج إلى الشارع قاصدا المقهى القريب... إلى آخره، رغم أنه ليس هناك رجل بهذا الاسم قام بهذا أو ذاك من التصرفات، بل كله من اختراع الكاتب الكذاب؟
لإِنْ كان الأمر كما يقول الداعية المشهور فكلنا، بحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه، ذاهبون إلى جهنم، وبئس المصير، ولن يدخل الجنة سوى ذلك الداعية، إن دخلها، ما دام دخولها بهذا العسر العسير. لكن الله من رحمته جعل للجنة ثمانية أبواب، ولم يجعلها كمساجد مصر التى يحرص خادم المسجد المزعج الكسول على أن يغلق أبوابها جميعا ولا يترك منها إلا درفة واحدة من باب واحد لا تسمح بدخول أحد إلا إذا دخل بالجنْب ونَشِبَ فى حلق الباب كما تَنْشَب شوكة السمكة فى بلعوم الآكل وتسده فيختنق ويكاد أن يموت، ولم يستطع المرور إلا باستعمال لبِّيسة حذاء، وبعد أن يكون قد خلع ملابسه ودهن جسمه بالصابون. يا مُسَهِّل! لقد كان رسول الله يحب التوسعة، لكن المسلمين فى عصرنا هذا يغرمون بالتضييق فى كل شىء. الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: بشِّروا ولا تنفِّروا، ونحن ننفِّر ولا نبشِّر أبدا حتى لنرى أنه لو حدث أن انكشف من شعر المرأة "شعراية" واحدة لكان مصيرها قعر الجحيم للتو واللحظة.
الإسلام مَهْيَعٌ واسعٌ مكون من مسارات كثيرة، وكلها تؤدى إلى ذات المصير ما دام السائر يلتزم بالإيمان بالله واليوم الآخر والرسل الكرام وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام يصدق فى كلامه وفعاله، وما دام يعمل ولا يكسل، وما دام يخلو قلبه من الأحقاد والضغائن، وما دام يحب الخير للناس جميعا، والمسلمين منهم بوجه خاص، وما دام يسعى وراء العلم والمعرفة، وما دام يحرص على الذوق الجميل، وما دام يحب نبيه ويقدر العمل العظيم الذى أنجزه والدور الكريم النبيل الذى أداه جميع صحابته الشرفاء معه... ثم لا يهم بعد ذلك التسمية التى يتسمى بها، فالله سبحانه وتعالى رب الجميع من سنة ومعتزلة ومتصوفة وشيعة وخوارج. إلا أن كل فرقة من الفرق التى تنتمى للإسلام ترى أنها هى وحدها الفرقة الناجية، محوِّلةً بهذه الطريقة المهيع الواسع إلى حبل رفيع معلق فى الفضاء لا ينجو إلا من يستطيع السير بل الجرى عليه ذهابا وإيابا طول النهار والليل وهو مغمض العينين دون توقف أو كلل، ودون تلعثم أو تلجلج؟ وأَنَّى لأحد ذلك؟ إن مصير من يحاول هذا الجنون معروف، ألا وهو سقوطه من حالق واندقاق عنقه وحمله على الأعناق إلى النعش فالقبر خَبْطَ لَزْق! أم ترى هناك من يرى خلاف ذلك؟ أَرُونِيه، ولكم الأجر والمثوبة من رب الأجر والمثوبة!
وبالمناسبة فقد كان عندى فى تسعينات القرن الماضى طالب لا يكف عن سؤالى عن مصير المعتزلة يوم القيامة: أهم فى الجنة أم فى النار؟ لتأتيه إجابتى على وتيرة واحدة لا تتغير أبدا، وهى: وهل أخبروك يا بنىّ أنهم سيعينوننى ضابط جوازات على باب الجنة كما يصنعون فى المطارات لأفرز القادمين: فمن كان معتزليا كالجاحظ والنظّام مثلا أمرت بزبانيتى أن خذوه واعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ومن كان مثلك يدخن واصفرت أسنانه من التدخين ولا يصلى، أو على الأقل: غير منتظم فى الصلاة، ولا يقرأ كما ينبغى لطالب مسلم أن يجعل ديدنه القراءة ويسعى فى تحصيل العلم لا يتوقف عن ذلك أبدا أمرت به أن احملوه معززا مكرما فى محفة مزينة بباقات الورد والريحان وضعوه فى الجنة؟ يا بنى، إننى أنا نفسى لا أدرى ما الله فاعل بى. ولو أننى نجوت من أهوال النار ولو بخمس وأربعين فى المائة أو بما هو دون ذلك بكثير وقبلونى فى الجنة عن طريق الرأفة والعطف لكنت أسعد السعداء؟ ثم أردت مداعبته فسألته: وأنت، هل تصلى؟ فأجابنى بما أعرف أنه سيجينبى به: أحيانا، وأحيانا. فعدت أسأله: أولا تدخن، رغم أن التدخين ضار لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، سواء قلنا إنه حرام كما أفهم أنا، أو اكتفينا بكراهته؟ فقال: بلى. فقلت له عندئذ: أوليس من الأفضل أن تشتغل بمصيرك أولا ثم تبحث فى مصير كبار المفكرين كالجاحظ وغيره؟ أو تظن يا ناصر أن أمثال الجاحظ سيدخلون النار بهذه البساطة التى تتوهمها، وبكلمة من واحد مثلك، لا لشىء إلا لأنه معتزلى؟ وحتى الآن أرانى كلما رأيت ناصر، الذى أصبح من طلبة الدكتورية (المتقدمين قليلا فى السن)، أسأله ضاحكا: هيه! أين انتهى الأمر بك مع الجاحظ؟ وأين وضعته: فى الجنة أم فى النار؟ فيقول لى وفى وجهه بعض الخجل: أولا تزال تذكر هذه السذاجات يا دكتور؟ ثم أنظر إلى أسنانه البُنِّيّة وأسأله: هيه! والسجائر؟ فيقول منكسرا: أحاول أن أكف عنها. على أن المحزن فى الأمر هو موت الجاحظ ورحيله عن دنيانا منذ قرون طويلة، إذ كنت أتمنى أن لو كان من معاصرى ناصر، هذا الذى يريد أن يراه يتقلى فى النار ويصيح من ألم العذاب ولا مجير، فيضع فيه رسالة تخلده فى الدنيا وتدير اسمه على لسان العالمين ليل نهار، بدل هذا السخف الذى أحاول أنا تحبيره هنا عبثا! وبعيدا عن هذا التناول الفكاهى للأمر أرانى أتأمل هذا الانكسار من تلميذى فى بعض الأحيان وأقول فى نفسى: ومن يدريك يا فلان؟ (فلان هذا هو أنا طبعا كما لا أحتاج إلى أن أشرح للقراء!) ربما كان انكسار ذلك الطالب واهتمامه بالإسلام على قدر فهمه البسيط سببا فى دخوله الجنة، على حين يُحْرَم منها من هو مثلك يا أبا خليل. هل عندك اعتراض؟ فأسارع قائلا: ومن أنا حتى يكون لى اعتراض على ما يشاؤه الله؟
وعَوْدًا إلى داعيتنا الذى يكذّب القصاصين ويرى أنهم ذاهبون إلى جهنم نقول: من الواضح أنه يوسّع معنى الكذب بحيث يدخل فيه كل شىء تقريبا. وعلى هذا فإذا قلتُ مثلا إننى ما إن رأيت الأسد مقبلا علىّ حتى أخذت ذيلى فى أسنانى وقلت: يا فكيك، فأنا فى رأيه كذابٌ قرارىّ، لأنى أولا ليس لى ذيل، وحتى لو كان لى ذيل فمنذ متى يستطيع الحيوان "أبو ذيل" أن يأخذ ذيله فى أسنانه؟ وثالثا فإنه لم يحدث أن قلت أنا أو غيرى قط عند الهرب: "يا فكيك"، بل الذى يحدث أن الهارب يجرى بأقصى سرعته دون أن ينبس فى الغالب ببنت شَفَة. بل إن عبارة "بنت شفة" ذاتها كذب فى كذب، لأن الشفاه لا تحمل ولا تنجب، فكيف يكون لها بنون أو بنات؟ كذلك هل للجدار إرادة كما لنا نحن البشر مثلا حتى يقول القرآن عن موسى وفتاه إنهما وجدا فى القرية التى مرا بها جدارا يريد أن ينقض؟ وهل كل من كان فى الدنيا أعمى بالمعنى الذى نعرفه من العمى سيكون فى الآخرة أعمى وأضل سبيلا؟ إن هذا كله مجاز، ولو حاسبناه بحساب داعيتنا الكريم فسوف ننتهى إلى تلك النتائج الكارثية.
وفن القصة هو بدروه مجاز، بيد أنه مجاز من نوع أوسع، فمجازه ليس فى الكلمة أو فى الجملة، بل فى بنائه كله من أوله إلى آخره. وهذا،كما قلت، معروف للطرفين: للأديب وللقارئ على السواء. والكذب بوجه عام آفة مرذولة يعاقِب عليها ربنا جل وعلا، وأفظع ألوانه هو الكذب الذى يتعمد فيه صاحبه الإخبار بغير ما حدث بغية تضليل الآخرين وإيذائهم، أو فى أقل القليل: بغية تفويت المصلحة عليهم. ويليه الكذب الذى ليس وراءه أى غرض كريم، بل الرغبة محض الرغبة فى تغيير الحقائق، وهو ما يعد مرضا، والعياذ بالله. والحق أنه لو قام أمر البشر على الكذب ما تحركت المجتمعات خطوة واحدة إلى الأمام، إذ إن التقدم والتحضر والعمل والإنتاج والسعى فى الأرض لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هناك أمان واطمئنان إلى ما يتردد من روايات وأخبار وحكايات، وإلا فكيف يبنى الناس أمور حياتهم فى العلم أو فى العمل أو فى العلاقات الاجتماعية وغير ذلك على أرض من الرمال المتحركة المهلكة؟ والقصاصون لا يأتون إلى شىء وَقَع فيَلْوُونَه عن حقيقته رغبة فى الضرر والأذى، كما أنهم لا يكذبون حبا فى الكذب، بل يعرفون هم وقراؤهم منذ البداية أن الأمر كله خيال فى خيال، وأن المقصود هو التسلى عن الهم والتعمق فى فهم الحياة وتثقيف العقل والذوق واكتساب الرقىّ اللغوى والتعبيرى وشغل أوقات الفراغ بما يعود على الذهن والقلب بالنفع الكريم وترسيخ هذه القيمة أو تلك والتنفير من هذا السلوك أو ذاك... إلخ. فليس هناك إذن، من حيث المبدأ على الأقل، تضليل ولا تعمد لتشويه الحقائق ولا رغبة فى الإضرار بأحد. أما إذا وقع من بعض القصاصين ذلك فهؤلاء يدانون وحدهم لا فئة القصاصين جميعا!
نعم لقد كان هناك فى علماء المسلمين القدامى من كان ينظر إلى عمل القُصّاص فى المساجد شَزْرًا ويحذِّر منهم ومن قَصَصهم، لكن ينبغى ألا يفوتنا أن ذلك إنما كان موجها إلى القُصّاص الذين يخترعون الأحاديث ويضيفونها زورا وبهتانا إلى رسول الله لا إلى القُصّاص من حيث إنهم قُصّاص. فالأمران مختلفان كما وضحت فى الفصل الخاص بفن القصة من كتابى: "فنون الأدب فى لغة العرب". بل لقد استثنى الرسول من الكذب المعيب ما كان هدفه الإصلاح أو دَرْء الخطر عن الجماعة كما فى حالة الصلح بين المتخاصمين، أو فى حديث الرجل إلى زوجته طلبا لإدخال السرور على قلبها بدلا من صدمها بما فى قلبه من مشاعر الكراهية التى تعرض له فى وقت الغضب والمنازعة، أو الكذب على الأعداء حين يقع الإنسان أسيرا فى أيديهم مثلا. وبطبيعة الحال ليست هذه الحالات الثلاث هى الحالات التى يجوز فيها وحدها ولا يجوز فى سواها تنكب قول الحقيقة، إذ ليست إلا مجرَّد أمثلةٍ غير مستغرِقة.
ثم إن للواقع فى الأعمال القصصية معنى آخر. إنه ليس ما وقع فعلا، بل ما يمكن أن يقع أو ما يقتنع القارئ بأنه يمكن أن يقع. ولقد قلت: "أو ما يقتنع القارئ أنه يمكن أن يقع" حتى يدخل فيه قصص "ألف ليلة وليلة" والسِّيَر الشعبية التى يختلط فيها الجن والشياطين وبنو الإنسان فى وقائع الحياة اليومية دون أية فواصل ويقع فيها السحر والغرائب ببساطة تشبه بساطة تنفسنا للهواء، ويراه بعضنا الآن خرافات بَلْقاء لا ينبغى أن نصدق شيئا منها، إلا أن القدماء كانوا يعتقدون فيها ويؤمنون بها فيصدّقون بظهور الجن والشياطين للبشر وبقدرة السحرة على تصيير الناس أحصنة وبراغيث وأصناما جامدة خرساء، وما إلى ذلك. ولقد كنت يوما من الأيام أقول بما يقول به النقاد الآن من أن الفرق بين القصص القديم والقصص الحديث هو أن الأول يقوم على حكاية الخرافات والأمور اللامعقولة، ثم تنبهتُ فيما بعد إلى أن الخرافات بالنسبة للقدماء لم تكن خرافات، بل كانوا يتحدثون عنها حديث من يراها واقعا حقيقيا لا مراء فيه. بل إننا الآن لا نزال نتخذ من الأساطير والخرافات القديمة مشجبا لكثير من أعمالنا القصصية والمسرحية. بل لقد ظهر فى العقود الأخيرة ما يسمى فى عالم القَصَص بــ"الواقعية السحرية"، وهى ضرب من القَصَص يشبه إلى حد بعيد قصص "ألف ليلة وليلة" رغم أن الكتّاب الذين يتبعون هذا الأسلوب يعلمون جيدا أن هذا كله ليس إلا خرافات وأساطير لا تصدَّق. إلا أن هناك اتفاقا ضمنيا بين الكتّاب والقراء على السكوت عن هذه النقطة كأنها ليست هناك. ثم من يدرينا أن بعض ما نراه الآن حقائق لا ريب فيها لن يكتشف الناس فى المستقبل القريب أو البعيد أنها لم تكن سوى خرافات وأننا كنا مخدوعين عن أمرها؟ من هذا يتبين لنا كيف أن داعيتنا المبجل الجليل قد بسّط الأمر تبسيطا مُخِلاًّ حين أطلق حكمه المتسرع على القصة بأنها مجموعة أكاذيب وأن القصاص شخص كذاب ينبغى أن يتوب ويُنِيب ويعزم على ألا يعود إلى المعاصى أبدا ويبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام.
لكن هل ترك سيد قطب الأدب والنقد الأدبى تماما بعدما اتجه إلى الكتابات الإسلامية؟ كلا، فقد كتب مثلا "التصوير الفنى فى القرآن"، وهو كتاب فى التذوق البلاغى والنقدى للنص القرآنى المجيد. كما أن كتابه: "فى ظلال القرآن" هو أيضا، فى جانب من جوانبه، تناول بلاغى ونقدى لهذا النص الكريم. وكلا الكتابين مصوغ بأسلوب أدبى أنيق مشحون بالدفء وينفح بعطر الوجدان. بل إن كتابات سيد قطب الإسلامية التى لا علاقة لها بالأدب بمعناه الشائع هى رغم ذلك أدب بكل ما تعنيه كلمة "الأدب" من دلالة، إذ هى جميعا تتسم بحرارة التعبير وتجنيح التصوير وحلاوة الأسلوب وروعته. وهذه هى مواصفات النص الأدبى بغض النظر عن الموضوع الذى يتناوله ذلك النص. وهذا معروف لا حاجة إلى التدليل عليه. وقد أكده د. محمد مندور حين قال إن هناك من الكتابات التاريخية وغيرها ما يدخل فى الأدب لهذا السبب الذى ذكرته (انظر كتابه: "تأسيس الفنون السردية وتطبيقاتها"/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ 2008م/ 80- 85،120). وأذكر أننى قرأت لتوفيق الحكيم فى أحد كتبه استغرابه لانحصار الأدب عندنا فيما يسمى بالنثر الفنى، على حين أنه يضم، لدى الغربيين، الكتابات التاريخية والكتابات العلمية ذاتها إذا صيغت صياغة فنية جميلة. ويقول كاتب مادة "الأدب" فى "الموسوعة العربية العالمية" إن الأدب "تعبيرٌ راقٍ عن المشاعر والأفكار والآراء والخبرة الإنسانية. وهو، في معناه العام، يشمل كل ما كُتِب عن التجارب الإنسانية عامة... فالأدب هو أحد الفنون الجميلة، أو ما يمكن أن يشار إليه بالكتابة الجميلة".
وفى الطبعة الرابعة من " Penguin Dictionary of Literary Terms and Literary Theory"، وتحت عنوان"Literature"، نقرأ السطور التالية، وفيها أن مصطلح "الأدب" مصطلح لا يخلو من الغموض والاتساع حتى إنه ليشمل، إلى جانب الرواية والمسرحية والشعر، أعمالا مثل كتاب "الشعر" لأرسطو، و"أصل الأنواع" لداروين، و"تاريخ الحروب الصليبية" لرانسيمان مثلا، لما فيها من أسلوب فنى جميل وشعور حار وما إلى ذلك: "A vague term which usually denotes works which belong to the major genres: epic, drama, lyric, novel, short story ode. lf we describe something as 'literature', as opposed to anything else, the term carries with it qualitative connotations which imply that the work in question has superior qualities; that it is well above the ordinary run of written works. For example: 'George Eliot's novels are literature, whereas Fleming's Bond books are unquestionably not.' However, there are many works which cannot be classified in the main literary genres which nevertheless may be regarded as literature by virtue of the excellence of their writing, their originality and their general aesthetic and artistic merits. A handful of examples at random suggests how comprehensive the term can be. For instance: Aristotle's treatises on Poetics and Rhetoric; St Augustine's Civitas Dei; Erasmus's Moriae Encomium; Descartes's Discourse on Method; Berkeley's Platonic Dialogues; Gibbons's Decline and Fall of the Roman Empire; Prescott's History of the Conquest of Mexico; Darwin's On the Origin of Species; Lord Acton's Essays on Church and State; Lytton Strachey's Queen Victoria; R. G. Collingwood's The ldea of Nature; D'Arcy Wentworth Thompson's On Growth and Form; Sir Arthur Keith's The New Theory of Human Evolution; Sir Charles Sherrington's Man on His Nature; Sir Steven Runciman's The History of the Crusades; and Dame Rebecca West's The Meaning of Treason. Scores of others might be added to such a list.".
فسيد قطب إذن لم يترك الكتابة الأدبية والنقد الأدبى كما يتصور كثير من الناس، بل كل ما هنالك أنه انصرف عن تناول الأعمال البشرية إلى العكوف على القرآن العظيم والقضايا الإسلامية الكبيرة واضعا كل إمكاناته الذوقية والأدبية والنقدية فى خدمة هذا المشروع المتميز. وعلى هذا فلست من رأى د. على شلش، الذى وضع عن سيد قطب كتابا يشى عنوانه وحده بما يريد أن يقول، وهو "التمرد على الأدب- دراسة فى تجربة سيد قطب". ويرد د. شلش هذا التمرد المتوهَّم إلى شعوره بالإحباط من جراء عدم اهتمام الكتّاب الكبار به ورفضهم الاعتراف بقيمة ما يكتب من خلال مقالات ودراسات يؤلفونها عنه. ولكن هل كان سيد قطب قليل الشأن حتى يحس بالإحباط جراء أمر كهذا، وهو الذى كان يعطى بما يكتبه عن هذا الأديب أو ذاك صك الاعتراف به؟ لقد كان، رحمه الله، كاتبا كبيرا ملء السمع والبصر، بل كان الناقد الأول بالنسبة لجيله والجيل التالى له، وكان كل أديب يتمنى أن يفوز منه بمقال. ومن هنا تصفه "The Columbia Encyclopedia" فى مقالها عنه بطبعتها السادسة (2008م) بأنه "كان كاتبا وناقدا أدبيا محترما: Qutb became a respected writer and literary critic". وكان يكتب فى كثير من المجلات والصحف كما نعرف، وهو ما أشار إليه أيضا كاتب المادة الخاصة به فى "الويكيبيديا: wikipedia" فى نسختها الفرنسية، إذ نقرأ أنه كان "journaliste dans plusieurs des principales revues panarabes des années 30 et 40 (tel qu'Alaraby)"، وكذلك سهيل هاشمى (Sohail H. Hashmi) كاتب ترجمة "سيد قطب" فى "and the Muslim World Encyclopedia of Islam"، الذى كتب يقول: "His early writings, consisting primarily of literary criticism and works of fiction and poetry, brought him to the attention of Egypt ’s cultural elite, including Taha Husayn". كما كان صاحب أسلوب لا يبارَى دقةً وأناقةً وسلاسةً وحيويةً ونصوع عبارة وسعة ثقافة ورهافة ذوق وقوة ثقة بالنفس. ثم إن من يشعر بالإحباط إنما يعتزل دنيا الكتابة، فضلا عن أن يعكف على كتاب الله الذى لا يقترب الكاتب العاقل منه إلا وقد نضج نضوجه النهائى، ولقد كان سيد قطب من هذه الناحية من أعقل العقلاء.
كذلك فالمقارنة فى هذا المجال بين سيد قطب، رحمه الله، وعادل كامل على نحو ما صنع د. شلش هى مقارنة مجحفة ولا معنى لها، فكامل قد طلق دنيا الأدب والأدباء والنشر والناشرين تطليقا بائنا، وانصرف إلى مهنته فى المحاماة، أما قطب فظل يكتب وينشر وتتهافت دور النشر على مؤلفاته. بل إنه، وهو فى السجن، قد وضع عددا من أهم أعماله وأخصبها، ومنها كتابه الفريد: "فى ظلال القرآن"، الذى يكفى وحده لوضع اسمه فى سجل الكتاب الخالدين فى كل العصور، بخلاف كامل، الذى لم يكتب بعد ذلك إلا رواية نشرتها له دار الهلال فى أوائل التسعينات على ما يقول الدكتور شلش نفسه اسمها: "الحل والربط"، وإن كان من الممكن جدا أن يكون قد كتبها قبل هجره لدنيا الأدب. وعلى أى حال فهذا، بالنسبة إلى كامل، هو كل شىء. فكيف تصح المقارنة بين الرجلين؟ وأين قامة عادل كامل من قامة سيد قطب أصلا؟ الواقع أن هذه مقارنة لا معنى لها ولا موضع من الإعراب.
أقول هذا رغم أنى مدين للدكتور شلش بتشجيعه إياى وأنا فى مقتبل الشباب حين قرأ لى فى أول السبعينات من القرن البائد قصتين قصيرتين أيام أن كنت أكتب القصة القصيرة وأتردد على دار الأدباء، التى قابلته فيها، وأثنى مشكورا على أسلوبى وطريقتى فى القص، مداعبا لى عن حق بأننى قد قصدت فى إحدى القصتين الإشارة إلى الفلم الفرنسى الذى كان يُعْرَض فى ذلك الوقت فى بعض دور الخيالة، وهو فلم "الموت حبا". وكان شلش ناقدا فنيا أيضا. وزاد الرجل فلفت نظر الدكتور عبد القادر القط إلىّ، وزكَّى نشر القصتين فى مجلة "المجلة"، التى كان الأستاذ الدكتور يرأس تحريرها أوانئذ، إلا أنها أغلقت أبوابها عقب ذلك بقليل فلم يتيسر نشر شىء لى فيها.
أما قول د. على شلش بأن نجيب محفوظ كان أصلب الثلاثة، إذ ظل يكتب وينشر فى الوقت الذى انصرف فيه الآخران عن الكتابة الأدبية، فهو كلام غير دقيق بالنسبة لسيد قطب رحمه الله. لماذا؟ لأن سيد قطب لم يهجر الكتابة بتاتا فى يوم من الأيام حسبما رأينا، بل ظل يكتب وينشر، وألف أخصب أعماله فى تلك الفترة التى يدعى الدكتور شلش أنه هجر الأدب فيها كما سلف القول، وبالذات فى فترة السجن التى لو قُدِّر لمحفوظ أن يجرّبها لما استطاع أن يكتب شيئا البتة. وفى مادة "Qutb, Sayyid" من "دائرة المعارف البريطانية الموجزة: Britannica Concise Encyclopedia" (ط2005م) نقرأ أن سنوات السجن هى أخصب الفترات فى حياة سيد قطب تأليفا: "His prison years were his most productive". كل ما فى الأمر أن محفوظ ظل يكتب القصة لأنه لم يكن إلا قصاصا، أما قطب فكان ناقدا وقصاصا وشاعرا وكاتبا سياسيا ومفكرا إسلاميا. وإذا كان قد توقف عن كتابة القصة مثلا أو عن نقد الأعمال الأدبية، فقد انصرف إلى القرآن الكريم بالدراسة والتحليل والتذوق واضعا كل إمكاناته ومواهبه العقلية والنقدية والذوقية والأسلوبية فى خدمة هذا العمل العظيم. فكيف يقال إن محفوظ كان أصلب من قطب؟ وكيف، ومحفوظ معروف بأنه كان يلبس لكل حال لبوسها ويحرص على ألا يصطدم بالسلطة أو بالرأى العام أو بأصحاب النفوذ فى ميدان النقد فى عصره، على حين أن قطب لم يكن يبالى بشىء من ذلك متى ما اقتنع أنه على الحق، بصرف النظر عن مدى موافقتنا له فى بعض أفكاره ومواقفه أو لا؟
وأنا، بالمناسبة، لا أوافقه على كل ما قاله فى تفسيره للقرآن مثلا، بيد أن هذا لا يعمينى عن الحقيقة الساطعة التى تصيح بملء فيها أن ذلك التفسير هو تفسير فريد لا يجود الزمان بمثله فى سهولة. ولقد قدم الرجل رقبته فداء ما كان يعتقد من مبادئ وأفكار، ولم يقبل أن يتنازل عن شىء من ذلك أو يلتمس الصفح من السلطات، والجود بالرقاب أسخى آيات الجود! ومرة أخرى فنحن عندما نقول هذا فإنما نقوله بغض النظر عما إذا كنا نوافقه على هذا أو ذاك من مواقفه وآرائه، فتلك قضية أخرى (انظر ما قاله الدكتور شلش فى كتابه السالف الذكر/ دار الشروق/ 1994م/ مقدمة الكتاب: "فى البدء").
***
وكنت كتبت فى مقال لى منشور فى بعض المواقع المشباكية منذ عدة سنين عن رواية "أشواك" أنها تدور حول تجربة عاطفية بين شاب وفتاة انتهت بخِطبةٍ لم يُكْتَب لها الاستمرار، وكانت هذه الرواية أول ما وقع في يدي لسيد قطب، وكنت أيامها في الإعدادية عام أربعة وستين وتسعمائة وألف للميلاد، ولم أكن قد سمعت باسم مؤلِّفها من قبل، وكنت أظنه مجرد أديب شاب، كما لم يَدُر بخَلَدي ولا بخلَد أي إنسان أنه بعد نحو سنتين لا غير سيكون له ضجيجٌ رهيبٌ يملأ الدنيا ويشغل الناس كما لم يشغلهم أحد من قبل. ومما قلته فى ذلك المقال أن التجربة التي تعالجها الرواية هي، فى أغلب الظن، تجربة شخصية للمؤلف. كما أشرت إلى تعاطفى وقتها مع بَطَلَيِ القصة، وابتأست لهذه العلاقة الجميلة أن تُجْهَض دون تمامها. لقد كنت أيامها في بداية فترة المراهقة الرومانسية الجميلة، فضلاً عن حلاوة الأسلوب الذي صيغت به الرواية وبراعة الكاتب في التعبير عن حرارةِ التجربة وجوِّها الأسيان الذي يبعث على الحسرة! وأضفت قائلا إننى، حين أعدت قراءتها بعد سنوات طويلة تزوَّجت خلالها وسافرت إلى الخارج وأنجبت أولادًا، وجدت لها نفس التأثير الأول بل أَشَدّ، نظرًا لمعرفتي بالمصير المأساوي الذي آل إليه كاتبها. وكنت قد قرأت وأنا بسبيل إعداد رسالتي للدكتوريَّة نقدًا لها في مجلة "الرسالة" القديمة كتبه وديع فلسطين، إذا لم تكن الذاكرة قد عبثت بي، ورأيته يأخذ على الرواية أشياء بحيث يخرج القارئ لهذا النقد بانطباع مؤدَّاه أنها ليست روايةً ذات شأن، وهو ما لم أستطع أن أتفق فيه مع الناقد قط، إذ الرواية عندي، ولا تزال، أكبر من هذا كثيرًا كثيرا.
ثم ختمت كلامى عن الرواية قائلا: "ولعلي أستطيع أن أعود إليها قريبًا فأقرأها للمرة الثالثة لأمتِّع نفسي بها من جديد". وهأنذا أعود إليها هذ الأيام فعلا كما رجوت فى المقال المذكور، فهل تغير رأيى فيها؟ أم هل بقى كما هو؟ الواقع أن تقديرى لها قد زاد كثيرا، واستمتاعى بها قد أضحى أقوى من ذى قبل، وتعاطفى مع بطلها، الذى أتصور أنه هو سيد قطب ذاته، صار أحرّ وآلم. نعم منذ قرأت الرواية فى صباى وأنا أتصور أنها تحكى ما وقع لكاتبها رغم أنى لا أذكر أننى قرأت فى أى من ترجمات سيد قطب أنه كان ينوى الزواج فخطب فتاة، وأوشك أن يعقد قرانه عليها، لكن الأمر لم ييلغ نهايته المرجوّة على غرار ما فى القصة. إلا أن بعض السمات الفارقة فى شخصية بطل الرواية هى نفسها تقريبا سمات شخصية سيد قطب: فكلاهما كاتب مشهور يكتب فى الصحف ويعرفه الناس، وله تأثير على نطاق واسع حتى إن البطل حين ذهب مع خطيبته إلى القسم للتبليغ عن أخيها الصغير الذى تأخرت به مربيته فى العودة إلى البيت واطلع الضابط على بطاقته أبدى ترحيبه به بوصفه كاتبا مرموقا يكتب فى الصحف الواسعة الانتشار. وكلاهما شاعر، وشاعر وجدانى. كما أن الاثنين كليهما ريفيان محافظان، وإن كان هذا لم يمنع البطل من خطف قبلة من فتاته مثلا بين الحين والآخر. كذلك فبطل الرواية يبدى، فى بعض المواقف، ما يوحى بأنه يرى فى الارتباط بالمرأة عقبة تعوقه عن بلوغ أهدافه فى الإصلاح، وهو ما يتفق مع ما نعرفه عن حياة سيد قطب من عدم زواجه مثلما انتهى الأمر بالبطل فى الرواية، إذ انتهت أحداثها بانفصاله عن خطيبته ليقابلها بعد بضع سنين وفى يدها ابنها، ويفاجأ بها تناديه بذات الاسم الذى كانا ينويان أن يسميا به أول ابن لهما حين كانا يستعدان للزواج، مما يدل على أنها كانت تحبه حقا وصدقا وأنه هو الذى أفسد حياته وحياتها بالشك بسبب بعض الأشياء التافهة التى ليس لها فى حد ذاتها خطر، إلا أن شِرّة الشباب وشدة غيرته كفيلة بتوليد البغل نفسه وتدمير كل شىء فى وسوسة لا معنى لها.
طبعا أنا أقول هذا الآن وقد تخطيت عتبة الستين وصرت أهدأ مما كنت فى عرامة الشباب، لكن قطب لم يكن أيامها شابا لأنه يذكر فى الرواية أن فارق السن بينه وبين خطيبته عشر سنين. والحق أن عطفى عليه هو الذى يدفعنى إلى هذا القول لتصورى أنه لو كان تزوج من تلك الفتاة التى من الواضح أنه كان يحبها حبا شديدا فلربما لم تكن نهايته قد اتخذت هذ المنحى المأساوى، فالزواج والأولاد كفيلان فى كثير من الحالات بأن يهدئا من شدة الثورة والسخط على الأوضاع ويبصرا المصلح بالهوة الفاغرة فمها تحت أقدامه فيعمل بقدر طاقته على اجتنابها، ولربما استطاع أن يجد طريقة أخرى فى الدعوة إلى ما يؤمن به دون الاصطدام بغباء السلطة وانغلاق عقلها وانعدام مشاعرها وجلافتها وقسوتها، التى تمثلت عند أدنى دركاتها فيما صنعته مع محمد نجيب نفسه، ذلك الرجل الكريم الذى استدعاه من يُسَمَّوْن بــ"الضباط الأحرار" لينتفعوا بجاهه ومنصبه وسمعته الشريفة، فلباهم وعرّض نفسه لما يمكن أن يصيبه من تنكيل وسجن أو إعدام، إلى أن حصلوا منه على ما يريدون فقلبوا له ظهر المجن وأَرَوْه النجوم فى عز الظهر، ولم يرحموا أحدا من أبنائه، بل دمروهم تدميرا. وظل الرجل طوال سنوات وسنوات يعامَل بقسوة وحشية لا مسوغ لها لا من شخصيته ولا من الظروف التى كانت تمر بها مصر ولا من طبيعة الشعب المصرى المستكينة التى لا تبالى بشىء حتى لو انطبقت السماء على الأرض، بل تظل على ولائها (الظاهرى طبعا، فهى لا تبالى فى الواقع بشىء مبالاة حقيقية) لمن فى السلطة مهما سامها الخسف والهوان والاستبداد وطيّن عيشتها واحتكر كل شىء فى يده وخنقها وحرمها الهواء الطائر وأوجب عليها أن تتنفس بمقدار، وفى أوقات معلومة لا تعدوها، ومن منخر واحد فقط بعد أن يضيق فتحته ولا يسمح بتوستعها مهما تكن الظروف. نعم، فنحن شعب لا يحسن إلا الطبل والزمر والرقص ومشاهدة مباريات الكرة المتخلفة ككل شىء فى حياته. وهذا كل ما يهمه، وطظ بعد ذلك فى الدنيا ومن نفضوها. ذلك أنى أرى، وكان قطب نفسه يرى شيئا كهذا على نحو ما قرأنا فى أول هذه الدراسة، أنه لا موجب لتضييع الوقت وإهلاك الأعصاب فى مطاحنة السلطات ما دامت الشعوب "مبسوطة على الآخر" مع تلك السلطات، وسعيدة بما تصنعه بها، وتكره كراهية العمى من يشذ عن خط سيرها المهين فيبدى شيئا من الشجاعة فى مواجهة السلطة ويطالبها بحق الشعوب فى الحياة والعزة والكرامة. إنها شعوب طبل وزمر، ولا شىء آخر. إنها شعوب لا تُعْنَى إلا ببطنها وفرجها، ثم لا شىء آخر. إنها شعوب ضُرِبَتْ عليها الذلة والمسكنة والهوان والبلادة وبُغْض العلم والعمل والإبداع والحضارة، ثم لا شىء آخر. وعلى رأى المثل: "أنا راضى، وأبوها راضى، وما لك أنت يا قاضى؟"!
إنى أكتب هذا الكلام وأنا أكاد أطقّ من أجنابى كمدا وقهرا، والناس فى كل مكان من حولى "آخر انسجام"، وكأن الدنيا كلها برها وبحرها وسماءها قد دانت لها، وأخذت بذلك على الله عهدا إلى آخر الدهر! والواقع أن الإنسان إذا ما صوَّب نظره هنا وهناك وقارن بين شعوبنا فى هذه المرحلة البائسة من تاريخها والشعوب الأخرى، ورأى أن الشعوب كلها شىء، وشعوب العالم العربى والإسلامى الحاليّة شىء آخر، شىء كله زفت وقطران، انبثق السؤال التالى فى التو واللحظة: أوقد خلق الله الشعوب الأخرى من طينة، وخلق العرب والمسلمين فى العصر الحديث من طينة أخرى؟ إن ما تفعله شعوبنا الآن ليس له إلا معنى واحد هو أنها شعوب انتهت فترة صلاحيتها. بل إن كل شىء يقول بعلو صوته إنها تدمر نفسها وتنتحر حضاريا.
وأخيرا إليك، أيها القارئ، هذه النكتة السوداوية التى تلخص الموقف كله وتعطيك ببساطة تامة ما أردت أن أقوله لك فى الفقرات الكثيرة الماضية وأحس رغم ذلك أننى لم أصل إلى مبتغاى، فقد قرأت أن الناس، أثناء تظاهرة من تظاهرات حركة "كفاية" ضرب الأمن المركزى كالعادة حولها نطاقا أوقف المرور، كانوا لا يكفّون عن التذمر من المتظاهرين. أتعرف لماذا أيها القارئ؟ لقد كانوا يقولون إن التظاهرة تعطلهم عن بلوغ بيوتهم. وتسأل أنت: وما الذى يستعجلهم هكذا للوصول إلى بيوتهم؟ فأجيبك: لا شىء، إلا أن يخلعوا جواربهم ويشرعوا فى تخليل أصابع أقدامهم. وهل هناك عمل آخر للناس فى بلاد العرب والمسلمين غير هذا وأمثاله؟ أوتظن أن هذه شعوب يُرْجَى من ورائها خير؟
***
و"أشواك" من الروايات التى يبرز فيها العنصر التحليلى النفسى بروزا واضحا. لقد كان سيد قطب يغوص فى نفسية بطليه ويأخذنا معه فى رحلة الغوص ويطلعنا على كل ما يدور فى الأعماق حيث التيارات التحتية المتلاطمة التى لا يلحظها عين الواقف على شاطئ البحر. وهو يفعل ذلك فى براعة يحسد عليها، وفى خفة ورشاقة فنية ومقدرة على النظر إلى الأمر من كل وجوهه رغم ما يبدو من أنه هو بطل الرواية، ومن ثم كانت الخشية من أن ينسى نفسه ويأخذ جانب البطل ويدين الفتاة على طول الخط. إلا أنه لم يقع فى ذلك الشرك، فكان هذا دليلا على أنه روائى كبير يمسك بخيوط عمله فى أستاذية مكينة. ولقد كانت الرواية حرية بأن يشير إليها مؤرخو الرواية عندنا، بل أن يفيضوا القول فيها، بيد أنهم جميعا قد أغفلوها إغفالا تاما. أنا لا أتحدث هنا عن النقاد، الذين استقبلوها لدن صدورها بما هى أهله من الاهتمام فكتبوا عنها ودرسوها، بل أتكلم عن مؤرخى الرواية، الذين جاؤوا بعد إعدام سيد قطب، فقد سكتوا جميعا عن مثل هذا الأمر الذى لم يكن ليعرضهم لأى شىء من جانب السلطات، إذ لا علاقة للأمر بنشاط قطب السياسى، لكنهم أثبتوا أنهم فعلا شجعان أجرياء لا يخشون فى قولة الحق لوم لائم. وفى يدى الآن كتاب الدكتور محمد مندور الذى أصدرته قصور الثقافة مؤخرا وأعطته عنوان "تأسيس فنون السرد وتطبيقاتها"، وهو عنوان لا يلائم فكر مندور ولا المصطلحات التى كانت معروفة فى عصره. ما علينا، فالذى أحب أن أقوله هو أن مندور حينما تناول الحديث عن تصنيفات الرواية فى مصر وجاء ذكر الرواية التحليلية لم يكلف خاطره أن يزج باسم رواية قطب ولو على سبيل "برو العتب" كما يقولون. وهكذا يخذلنا مؤرخو الرواية فلا يذكرون شيئا عن تلك الرواية البديعة التى لا بد أن تظهر فى أية قائمة للرواية المصرية مهما يكن طبيعة تلك القائمة.
وهذه النزعة التحليلية تظهر مع اللحظة الأولى فى الرواية، وكأن صاحبها حريص على أن يرينا منذ البداية أنها رواية تحليلية لا مراء. وهذا هو الفصل الأول بحذافيره: "حينما أمسك بيدها ليلبسها خاتم الخطوبة، في حفل من الأهل والأصدقــاء، وفي ضوء الأنوار الساطعة، وعلى أنغام الموسيقى في الحجرة المجاورة، أحس بيدها ترتعش متقلّصة في يده، ونظر فإذا دمعة تندّ من عينيها. شعرَ بشوكة حادة تنغرز في فؤاده، وغامت الدنيا في عينيه، وتوقّع شرا غامضا يوشك أن ينقضّ، بل شعر بالكارثة تظلله، وتغشى حياته. ولكنه تماسك، وأسرع يدعوها إلى المقصف المعد في مكان آخر، غير ملتفت لدعوة المدعوين!
وهنـاك، قبل أن يحضر أحد، نظرَ في عينيها المغرورقتين، فإذا هي تحاول بشدّة أن تبتسم، وتحاول أن تبدو خفيفة رشيقة كعهدها في غالب الأحيان. أمسك بيديها بين يديه، وحدق في وجهها، وهو يقول:
- ماذا؟
قالت:
- لا شيء!
قال:
- بل هناك أشياء. ويجب أن أعلم هذه الأشياء.
قالت:
- أوه! قلت: لا شيء. ثم اسكت! لقد بدأوا يحضرون!
قال:
- أسكت. على أن تعديني بكل شيء بعد انصرافهم.
قالت:
- وهو كذلك!
وكانوا قد أقبلوا يتغامزون، فسحبت يدها من يده متظاهرة بالدلال والخفة، كأنما كانا يتناجيان ويتعابثان في غفلة من عيون الرقباء.
...
قالت في لهجة مناورة:
- ولماذا تصر على أن هناك شيئا؟ ألا تتأثر الفتاة، وهي تقف في مفترق الطريق بين عهدين؟
قال في لهجة جادة:
- اسمعي يا سميرة. إنني أعرفك جيدا، ولم تعد خافية منك تخفى عليّ. ولقد لاحظت تلك النوبات التي تفجؤك وأنت معي في أبهج اللحظات، وهي علامة لا تخطيء على أن هناك شيئا. ثم إنني أحبك ذلك الحب الذي تعرفينه، وإن بين قلبي وقلبك تلك "الشيفرة" الخفية التي تجعل لكل دقة في فؤادك صداها القوي في فؤادي، فلا تحاولي أن تغالطيني أو تغالطي نفسك بعد اليوم.
فارقتها ابتسامتها، وخذلها تماسكها، وغامت على وجهها سحابة من الأسى، وقالت في صوتٍ غائر كأنما ينبعثُ من أعماق هاوية:
- أعلم أنك تحبني فوق مقدور الإنسان، وهذا ما يعذب ضميري. ثم سكتت سكته رهيبة فتناول يدها في صمت، وهو يحس هول العاصفة تجتاح نفسها فتحطمها وتوشك أن تجتاح حياتهما جميعا، وحدّق بشدة في عينيها ونظر إليها مستزيدا!
قالت:
- اغفر لي أن أقول لك كل شيء. إنني أثق بك ثقة عميقة، وأشعر بمقدار حبك لي. ولو فتشت في قلبي لوجدت لك مثل هذا الشعور فيه. ولكن هنالك في ضميري أشواكا سأضع عليها يدك، وأترك لك التصرف فيها كما تريد.
قال:
- قولي كل شيء ولا تخـافي!
قالت:
لقد عزمت أن أقول.
...
في نهاية قصتها كانت تقول، وهي تهتز وتختلج: "وهذه الدمعة التي رأيتها لم يكن منها بد. كنتُ أشيّع بها عهدا عزيزا. كان اللحن الموسيقي من حولي هو لحن الجنازة، أشيع به نعشه للمرة الأخيرة. والآن لقد انتهى!".
وحينما بلغت القصة إلى هذا الحد كان قد اعتزم في نفسه أمرا لا يدري كيف اعتزمه، ولا بأي شعور اتجه إليه. كان الفارق بينه وبين فتاته عشر سنوات، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه يشيخ. وكان يحبها حبا عنيفا مجنونا، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه يحبها حبا سماويا شفيفا. وكان شديد الغيرة متوفز الإحساس، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصـار أنه فوق العواطف البشرية، وفوق غرائز الإنسان. قال في صـوت خفيض رتيب رهيب:
- يا بنيتي، إنني أعطف عليكما، فاعتمدي عليّ وسأساعدكمـا!
قالت في دهشة:
- تساعدنا؟ وكيف؟
قال في توكيد:
- ستكونين له!
قالت في ذعر:
- وأنت؟
قال:
- سأكون لك منذ اليوم أخا وصديقا!
قالت:
- وتضحي حبك لي كله، وماضيك معي كله، وجهدك من أجلي كله؟
قال:
- نعم أضحيه. ولا زلت على استعداد لغيره من التضحيات. أضحيه وأنا أعلم أنني ضحيت بالحياة!
قالت مبهورة:
- يا لله! إنك نبيل. بل أنت أنبل من إنسان.
وحينما أوى إلى فراشه انجلى عنه هذا الـخُـمَار المريح، وتنبّهت أعصـابه، وواجه كأنما هوّة تنفتح بين قدميه، وفجوة تفصـل شطري حياته، ومدى من العمر لا يقاس بالآباد!
لقد بنى في أحلامه عشهما المنتظر، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام، ولقد عاش هذه الأحلام عيشة الواقع، واستغرق في هذا الخيال، حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة! فأين هو الآن من هذه الأحلام؟
لقد أحسّ بالطعنة، وعرف أنه فقد الحلم القديم: حلم الحورية الهاربة التي سيقودها مغمضة العينين إلى العش المسحور بعد أن عاش في هذا الحلم عامين كاملين، وبعد أن سُحِر بها منذ اللقاء الأول، وأعدّ نفسه وأحاسيسه كلها لارتقاب اليوم الموعود.
وجد نفسه يبكي.
ثم أدركته رحمة الله فنام!".
فانظر إلى هذا الصراع العنيف فى أغوار نفس البطل بين حبه العارم العنيف لخطيبته وبين مثاليته التى رأى أنها توجب عليه الانسحاب من الميدان بعد أن يجمع بينها وبين خطيبها الأول الذى كان هو يتصور أنها لا تزال تحبه، ومن ثم لن يستطيع أن يفوز بقلبها وحبها كاملا. وانظر كيف يظن فى البداية أن المسألة هينة، وأن القرار الذى اتخذه لن يسبب له أى ألم وأنه من ثم لا رجعة له فيه، بيد انه ما إن ينصرف ويعود إلى منزله ويخلو إلى نفسه حتى يتبين له ولنا أن هذا كله محض أوهام، وأن الأمر ليس بتلك السهولة التى ظنها وظنناها معه فى البداية. ولسوف نقرأ فى مواضع متعددة من الرواية مشاهد تحليلية كهذا المشهد، بل أبدع وأروع، إذ سوف يرينا كيف استولى حب الفتاة على قلب البطل استيلاء، لا بناء على كلام الرواى، بل من خلال التصرفات والحوارات والمواقف الحية. إننى كلما تذكرت وقائع الرواية وما انتهت عليه شعرت بحزن شديد وكدت أقول لسيد قطب، وكأنه جالس حيالى يكلمنى وأكلمه: لم فعلت بنفسك هذا وألقيت بتلك النعمة التى وهبكها الله دون أن تفكر فى العواقب العنيفة والآلام الرهيبة التى تألمتها، وحق لك أن تتألمها؟ ترى كيف سهل عليك أن تفرّط فى تلك الفتاة الجميلة الأنيقة المصقولة المتحضرة التى سرعان ما استجابت لك وانخرطت فى عالم القراءة الراقية وأخذت تناقشك فى كل ما تقرأ مناقشة الند للند، فضلا عن موهبتها فى العزف الموسيقى الذى كان يستبيك ويهدهد روحك ويطفئ نار غضبك وشكوكك؟ بالله ماذا كنت تريد أكثر من ذلك؟ يا خسارة! لقد وصفتَها أكثر من مرة بأنها "حورية". وهذا صحيح، وكنت لا أحب لك أن تفرّط فى حورية كهذه! لكن ماذا نقول سوى أنها الأقدار، وأنه لم يُكْتَب لك فى اللوح المحفوظ أن تفوز بها؟
اقرأ معى، أيها القارئ، هذه السطور التى وصف بها الرواى ما حدث إثر مشاهدة بطلى الرواية لفلم يشبه قصتهما، مما حرك فى نفس البطل المخاوف والشكوك، فعاد هو وخطيبته إلى بيتها محطم النفس مكتئبا، واسأل نفسك: أفلم يكن أجدر بالبطل أن ينظر إلى النعمة التى بين يديه ويحرص عليها ويشكر ربه بسببها ويعمل على أن يأخذ منها أكبر ما يستطيع من السعادة وراحة البال ويبتعد عن موجبات التنغيص والنكد؟: "هنا لم يطق صبرا على المواجهة، وخاف أن تخونه الكلمات، وأن تفضحه السمات، فانفلت إلى حجرة النوم. ولم يكن عليه من بأس في أن يرتاد من حُجَر الدار ما يشاء. لقد كان في حاجة لأن يستلقي ويستريح، كالرحالة المجهد المكدود في سفر طويل. لم يخلع ملابسه، ولم يخلع حذاءه، فما كانت له بقية من قوة يؤدي بها هذه الحركات. لقد كان حَسْبه أن يلمح السرير لينحط عليه كالجدار المنهار. وانقضت دقائق، ومناظر الرواية أمام عينيه، بينما ترنّ في أذنه كلمات الأم الطيبة القلب عن هذه الفترة الحلوة من الحياة. وينفلت زمام أعصابه، فلا يستطيع أن يضبطها لمواجهة هذه المفارقات. وفي هذه اللحظة تصل إلى سمعه من حجرة الجلوس نغمة البيانو. إنها تعزف، إنه لحنه المحبوب، لحنه المسحور.
لقد سمع هذا اللحن من قبل، وسمعه كثيرا، سمعه من تلك الفتاة نفسها، سمعها تعزفه فاستعاده واستعاده، وظل يستعيده في نشوة عجيبة، حتى قالت له في دعابة ساحرة: لن أعيده مرة أخرى إلا لقاء أجر معلوم! لم يكن يعرف اسم اللحن ولا عنوانه، ولم تكن تعرفه هي كذلك. كان أستاذ البيانو قد حفّظها إياه دون أن يذكر لها عنوانه. فما قيمة الاسم والعنوان؟ إن هذا اللحن المجهول كان يستجيش ضمائره ويحرك خواطره ويثير في حسه النشوة والحلم واللهفة والانسياب. كان يصور نفسه في تلك الفترة التي لم يكن يعيش فيها على الأرض، ولم يكن يحس إلا أن الحياة حلم ظافر سعيد. لقد كان يحب. يحب هذه الفتاة التي تعزف ذلك اللحن وإنها لتعزفه بيدها وقلبها، وبأعصابها وملامحها. كانت هي اللحن ذاته في صورة مجسمة. ولم تكن قد برزت بَعْدُ تلك الأشواك. ثم ها هي ذي تعزفه مرة أخرى. وإنه ليسري إلى نفسه رويدا رويدا، وينسكب في أعصابه رفيقا رفيقا، وإن نفسه لتهدأ وتطمئن، وإن أعصابه لتسكن وتستريح، وإنه ليثمل، ثم ينتشي، ثم يرف في جو شاعري شفيف، وإنه لينتفض بعد لحظة خفيفا نشيطا، وإنه لينفلت إلى حجرة الجلوس ملهوفا مشتاقا، حتى إذا اقترب استرق السمع والنظر، فإذا هي، هي حلمه الجميل، هي حوريته الهاربة، هي، ولا شيء سوى الماضي العزيز، والثقة العميقة، والحب المفتون. هي، وإنه ليطوقها من الخلف في لهفة، فتبدو كأنما ذعرت للمفاجأة. المفاجأة التي كانت تنتظرها ولا شك بغريزتها العبقرية، غريزتها الفطنة التي توحي إليها في هذه اللحظات بالذات بالعمل المفرد الوحيد، الذي يجدي في مثل هذا الأوان. هي، وقد وجدها، ووجد نفسه، ووجد فيها ما يقال. وإن الحب ليعود اللحظة يحلم، وإن الحياة لهي في هذا الحلم الظافر السعيد!". لكن إبليس اللعين لا يرضى لابن آدم أبدا أن يستمتع بالسعادة! وكيف، وبينهما من العداوة ما لا ينساه أبدا ذلك الرجيم، وإن نسيه ابن آدم لغفلته ونسيانه الذى يجرى منه مجرى الدم فى العروق؟
أكتب هذا وقلبى يدمع، مع أن سيد قطب مات منذ زمن، ولا بد أن تكون الحورية قد لحقت به هى أيضا، أو تكون قد تجاوزت التسعين من عمرها. إلا أننى فى قراءتى للرواية فى المرتين الثانية والثالثة كنت أتناسى نهايتها المؤلمة التى أعرفها منذ القراءة الأولى، فأتصور أن شيئا ما سوف يحدث فى آخر لحظة فيصلح ما فسد بين الخطيبين ويتزوجان ويعيشان فى الثبات والنبات، ويقرآن معا كتبا وروايات، وينجبان صبيانا وبنات، قارئين وقارئات على عكس الجموع العربية والإسلامية التى لا تقرأ ولا تحب أحدا يقرأ وتكره القراءة والقراء كراهية العمى. ولشديد الأسف فإنى أفاجأ دائما بأن نهاية الرواية هى هى لم تتغير فى شىء، مما يزيدنى ألما على ألم.
ويشبه هذا ما وقع لى حين شاهدت فلم "زينب" القديم لأول مرة، إذ فوجئت بأن زينب لم تمت بالسل ولا بغير السل، بل حصلت على الطلاق من زوجها الأول واقترنت برجل آخر يحبها وتحبه عالجها من مرضها فبرئت وعاشت معه فى سعادة وهناء، وهو ما انتشلنى من جو الغم والنكد الذى كان يسود الفلم حتى تلك الانعطافة المباغتة التى يتميز بها الفلم عن رواية الدكتور هيكل، وأسعدنى أشد سعادة. ولقد قرأت مرة فى "أخبار النساء" لابن الجوزى أن عمر بن الخطاب قال: "لو أدركتُ عفراء وعُرْوة لجمعتُ بينهما"، أى لسهَّل، رضى الله عنه، لهذين المحبين أمر الزواج فلم يفترقا ويقاسيا مرارة الحرمان. وليس شرطا أن يكون ما نُسِب إلى ابن الخطاب رضى الله عنه صحيحا بالضرورة، إلا أن للعبارة دلالتها الهامة. ومع هذا فهى أشبه أن تكون قد صدرت من ابن الخطاب العبقرى الذى كان، رغم شدته الظاهرية، يعطف على الضعف البشرى عطفا نبيلا.
إننى على وعى تام بأن للتاريخ وللقدر منطقهما الذى يختلف عن منطقى هنا، فقد أعد القدر سيد قطب لينهض بدور لا يستطيع غيره النهوض به، وإلا فكم واحدا يمكنه أن يسير إلى المشنقة فى رجولة وصلابة ورسوخ وإيمان لا يتلجلج وعدم التلفت إلى الماضى أو الأسف مجرد الأسف على ما وقع، بل مع الفرح الغامر لأنه سوف يلقى ربه ولم يبدّل تبديلا، سوى سيد قطب؟ كما أن ورطة أمريكا فى العراق وأفغانستان وتوقفها عن اجتياح العالم الإسلامى كله كما كانت تخطط، أو فى أقل القليل: تأخرها عن إنجاز ذلك الهدف حتى الآن، إنما هو، فى جانب منه، بركة من بركات هذه الرجولة العجيبة التى قلما يعرف الزمان لها شبيها، فإن الشبان والرجال والكهول الذين اتخذوا من قطب مثالا لهم هم وقود هذا الكفاح البطولى العظيم الذى تئن منه أمريكا رغم الفوارق الهائلة بينها وبين أولئك المغاوير فى العدة والعتاد والتخطيط والموارد والإمكانات والعلم والخبرة، لصالحها طبعا. إلا أن البركة الإلهية ونفحات الإيمان التى يتمتع بها أولئك الأبطال تسد جانبا كبيرا من النقص الذى يعانون منه. ومرة أخرى أقول إننى لا أوافقه، رحمة الله عليه، على كل ما كتب، إلا أن هذا لا يعمينى عن موطن العظمة فى شخصيته، وإلا فلست بإنسان! وإذا كنت لا أستطيع أن أسير سيرته أو أكون مقتحما للأخطار والنيران دون تلعثم أو تخوف مثله، فعلى الأقل ينبغى أن أقول فيه كلمة الحق، وألا أكون لئيما فأحاول التنقص منه حتى لا تتكشف نقائصى. ***
والحق أن الموجبات الموضوعية للشك والوسوسة والتردد لدى بطل الرواية ليست من القوة بمكان، بل كان من الممكن جدا أن ينتصر البطل عليها ويسعد بالجنة التى كان يرتع فى بحبوحتها، جنة الحب والتفاهم، وينتهى الأمر بالزواج وامتزاج الجسدين والروحين وارتواء الحبيبين من كوثر السعادة الصافى. بيد أن البطل، فيما هو واضح، لم يكن يريد أن يرتاح من هذا الشك وذلك الوسواس وما يجره فى أعقابه من منغصات ومزعجات. ذلك أن أصل المسألة كلها أن العروس قد كاشفته بعد أن ضغط عليها إثر شعوره بأنها تكن فى قلبها شيئا، بأنها كانت مرتبطة برجل قبله يعمل ضابطا وأنها تريد أن يساعدها كى تنساه تماما، وأنها قابلته مرة فى مكان عمله فى المعسكر الحربى الذى كان يعمل به. وبدا من سلوكها مع البطل وصراحتها وشفافيتها أنها مخلصة فيما تقول وأنها تحبه فعلا، وأنه إذا كان هناك رسيس باق من الحب القديم فهو فى طريقه إلى الزوال، بل سرعان ما زال فعلا، وأصبحت الحورية له بكيانها أجمع. ثم إنه كان يحبها حبا جنونيا ملك عليه حياته رغم أنه فى نوبة نبل وأريحية فى بداية صلته بها صارحها بأنه سوف يعمل على وصل ما كان انقطع بينها وبين الرجل الذى كان توشك أن تخطب له ثم لم تتم الخِطبة، وإن كان قد اتضح له أن من اليسير عليه أن يفقد حياته ولا يفقد الحورية. ومع هذا كله فقد تبين له أن رجوعها إلى ذلك الرجل لا يمكن أن يحدث. ولقد كان ذلك كله كافيا كى يرمى الأمر وراء ظهره ويقبل عليها بكل ما يستطيعه من سعادة وهناء، إلا أن الشيطان الرجيم بارع فى الوسوسة وزرع بذور الشك والشقاء فى قلب ابن آدم، كما أن ابن آدم ليس دائما من العقل والحكمة بحيث يهتبل الفرصة السانحة ويكرع من نهر السعادة الذى يجرى تحت قدميه، بل يُؤْثِر أن يَشْقَى ويتعذب ويُشْقِىَ ويعذِّب من حوله على أن يسعد ويهنأ، وإلا فلم آثر الإنصات إلى وسوسات الشيطان فى الجنة، التى كان يعيش فيها لا به ولا عليه دون أى إحساس بالتعاسة والشقاء، على أمر الله له بالحذر من أبى الأباليس؟ لقد رأى بطلنا مثلا فى المنام حلما يسىء إلى صاحبته، وكان قد تركها وفَصَم خِطْبته لها، وإن بدأ فى ذلك الوقت يفكر فى وصل ما انقطع، فما كان منه إلا أن سارع إلى لقائها فى بيتهم وحاصرها بالأسئلة وكأن ما حلم به هو حقيقة واقعة. ومعنى هذا أنه يبحث عن التعاسة والغم بمنكاش ولا يرتاح إلا إذا آلم نفسه وعذب ضميره وبات مرتعا للهم والشك والعذاب المحرق.
وهنا أحب أن أقول شيئا، وهو أن الإسلام لا يحبذ النكش فى ماضى الفتاة بهذه الطريقة التى لا بد أن تنتهى بتدمير كل شىء. وفى ذهنى الآن ما قرأته منذ وقت طويل عن عمر رضى الله عنه وأرضاه حين قال لأهل فتاة كان قد أقيم عليها حد الجلد وتقدم لها بعد ذلك خاطب ففكروا فى مصارحته بما وقع، إلا أن عمر هددهم بعقاب أليم إن هم لم يستروا عليها، إذ يكفى المسكينة ما أُوقِع بها من عقاب. وقد أنفقت بعض الوقت فى البحث عن هذا الحديث فى موقع "الدرر السنية" حتى وفقت إلى العثور، وهذا هو نص الحديث حسبما وجدته فى الموقع المذكور: "أتى عمرَ بن الخطاب رجل فقال: إن ابنة لي كنت وأدتها في الجاهلية فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركتْ معنا الإسلام فأسلمت. فلما أسلمت أصابها حد من حدود الله، فأخذت الشفرة لتذبح نفسها، فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت، ثم أقبلت بعد بتوبة حسنة. وهي تُخْطَب إلى قوم، أفأخبرهم من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر رضي الله عنه: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار! أنكحها نكاح العفيفة المسلمة" (الراوي: الشعبي- خلاصة الدرجة: فيه انقطاع- المحدث: ابن كثير- المصدر: مسند الفاروق- الصفحة أو الرقم: 1/ 393). وإن عينىَّ لتوشكان أن تتندَّيا بالدمع وأنا أقرأ الآن تلك القصة!
ولقد تكفل الله سبحانه بغفران اللمم، بل هو عز وجل يغفر الذنوب جميعا. والعبرة فى أن يرى الرجل من خطيبته الإخلاص، وألا تكون سيرتها قطعة من اللادن تلوكها الألسن، وعليه ألا يتصور أنها كان ينبغى أن تنتظر حتى يهل عليها ويشرّف وجودها بمحيّاه البهىّ، فعندئذ، وعندئذ فقط، تفتح قلبها للحب، أما قبل ذلك فلا. والعجيب أن الرجل لا يطالب نفسه بشىء من ذلك، وهذا لون من الأنانية المقيتة التى لا تليق. وكثير من الشبان فى فترة الخِطْبة يحاول أن يقبّل خطيبته، فإذا استجابت له شك فى خلقها وسلوكها وكان أول شىء يفكر فيه هو تركها بذريعة أنها لا تُؤْتَمَن على عرضه، وإن رفضت غضب منها وعَدَّ ذلك برهانا على أنها لا تحبه ولا تستجيب لما يريد. بالله كيف يطلب منها أن تكون باردة فى مثل ذلك الموقف وأن تقيس كل شىء بمقياس المثالية، وهو نفسه موحول فى طين الأرض ويعمل على أن يوحلها معه؟ إنها بشر مثله، فلا ينبغى أن يثير غريزتها ثم يطلب منها أن تستعصم كل الاستعصام. فلماذا لا يقول ذلك لنفسه أولا؟ أوليس هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف؟ ولا أدرى من أين أتى الرجالَ عندنا أن القلب لا يعشق ولا ينبغى أن يعشق إلا واحدا ليس إلا. إن القلب الإنسانى ليسع ألوانا من التجارب. أفلو أحبت الفتاة خطيبها الأول، ثم لأمر أو لآخر تركها ذلك الخطيب، أفينبغى أن تترهب بعده إلى الأبد وتهجر دنيا الرجال، على حين يسرح هو فى الأرض مرحا ويخطب غيرها ويستمتع بحياته طولا وعرضا؟ إنها بشر مثله، وقد غرس الله فى فطرتها ما غرس فى فطرته من حب الجنس الآخر والهفوّ إليه والرغبة فى الاقتران به، ومن حقها إذن أن تصنع ما يصنع هو. أولو تزوجت المرأة، ثم مات عنها زوجها، أفتظل طول عمرها أرملا لا تفكر فى سواه؟ والله إن فعلت هذا من تلقاء نفسها لتربية أولادها مثلا أو حفاظا منها على ذكرياتها الجميلة معه فهى وشأنها، وتُشْكَر على ذلك، وإلا فكما أنه لا يُقِيم على ذكراها أبد الدهر لو كانت هى التى ماتت قبله، فكذلك لا يصح أن نطالبها بما لا نطالبه به ولا نتوقعه منه. لقد تزوج الرسول عليه السلام مرارا، فلم نسمع أنه حاصر أيًّا من زوجاته بالأسئلة عن حياتهن السابقة، بل لم يحدث قط أن اهتم بمعرفة ما كان بين المتزوجات منهن قبله وبين أزواجهن الماضين. فهل نكون نحن أغير منه صلى الله عليه وسلم أو أكثر مثالية؟ ألا إنه لتنطع سقيم! وفى روايتنا نرى سامى يقبّل حوريته ويحضنها ثم لا يدخل بها، فماذا كان يريد منها أن تصنع؟ أوكان يرى أنها لا يصح لها الزواج من بعده إلا إذا صارحت رجلها الجديد بما وقع بالتفصيل وتحصل منه رغم هذا على البركة، أو فى أسوإ الأحوال: على العفو والمغفرة؟
لقد قرأت فى الفصل المسمى: "العذراء الأم" من الرواية ذلك النص الذى يستوجب الوقوف إزاءه طويلا، وكان البطل فريسة لنوبة من نوبات النكش فى دفاتر الماضى دون مسوغ صحيح: "عاد إلى داره موحش النفس مظلما كئيبا، تجثم على صدره الكآبة، ويغشى نفسه الوجوم، وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح: تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كله؟ وأن هذه الفتاة ليست له، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعا؟ إنه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة. يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين. يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد في زي قاهري، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة. ومع هذا كله طيبة القلب وصفاء الروح! تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة؟ أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟". وإنى لأتساءل: وماذا فى بنات القاهرة؟ أهن من صنع الشيطان، وفتيات سائر المدن والقرى من صنع الله؟ أويكون ذنب الفتاة أنها قد تصادف مولدها فى القاهرة؟ إن العاصمة أقمن بوجه عام أن تجعل شخصية المرء أنضج وأوسع أفقا. وإنى لأنظر إلى نفسى قبل وبعد مجيئى إلى القاهرة وأتساءل: أية النفسين أفضل عندك يا فلان؟ لا شك أن شخصيتى ما كانت لتنضج كل هذا النضوج لولا أننى أتيت إلى القاهرة رغم الحزن الشديد الذى كنت أشعر به أول وفودى عليها، وهو نفسه ما كنت أحس به أنا وزوجتى مضاعفا أضعافا فى بداية حياتنا فى أوكسفورد، إلا أننا نحمد الله آناء الليل وأطراف النهار أن أتاح لنا كل تلك التجارب على مرارتها فى بدايتها وما شاكتنا به من أشواك. لقد صيرتنى تلك التجارب إنسانا عالميا بدلا من أن أظل قرويا ساذجا ضيق الأفق والاهتمامات قليل الموهبة ضحل الثقافة والنفس. وفى القاهرة، بعد ذلك كله، كما فى كل مكان، الاستقامة والالتواء، والعفة والانحراف. وفى قلب القرى والنجوع والكفور فجور كالذى فى القاهرة، كما أن فى القاهرة زهدا وعفافا كالذى يجده الإنسان لدن أطهر الأولياء الصالحين فى محاريبهم. ولقد كنت حريصا أنا وزوجتى على تأدية كل صلاة فى ميعادها فى بريطانيا حتى ونحن نتنزه بين الحقول حول أوكسفورد حيث كنا نمضى فى بعض الأيام المشمسة الرائعة ساعات طويلات، ومعنا المذياع مفتوحا على إذاعة القاهرة أو صوت العرب، وكذلك بعض الكتب نقرأ فيها أو نتناقش حولها، أو نلاعب الطفلين على الأرجوحة فى الحدائق التى تقابلنا فى كل مكان. فإذا أردنا أن نصلى أدينا صلاتنا حيث نحن. فهل منعَنا وجودنا فى الحقول، وتحت أنظار المارة، فى بلد غير مسلم من تأدية صلاتنا فى ميعادها؟ هذا، ونحن بَعْدُ فى تديننا بسطاء غاية البساطة!
وهذا يذكّرنى بما دار فى بداية ثمانينات القرن الماضى بينى وبين شاب طبيب متدين له صلة بى فى إحدى القرى المصرية حول الفتاة التى كان يريدها زوجة له، إذ كان رأيه أنها ينبغى أن تكون جاهلة لم تذهب إلى المدرسة وليست لها أية تجارب من أى نوع، أو كما قال هو: "قطة مغمضة"! فكان ردى أن ما يتصوره هو الباطل والوهم بعينه، فليس هناك فتاة مغمضة كما يتصور، وأن كل فتاة لا بد أن تمر بتجارب فى حياتها أيا كان لون هذه التجارب، وأن عقول البشر مفتوحة لتيار الحياة ليل نهار لا يمكن أن تنغلق أبدا، وأنه سوف يجد عقل الفتاة الجاهلة محشوا بالخرافات والضلالات التى تلقتها عن أمها الجاهلة مثلها وعن جاراتها اللاتى لا يقللن جهلا عنها هى وأمها، وأن الفتاة التى تذهب إلى المدرسة وتتعلم القراءة والكتابة لن تعدم، فى أسوإ الأحوال، أن تتعلم آية قرآنية أو حديثا نبويا أو بعض الإرشادات الصحية وقواعد اللياقة والسلوك، على حين أن تفكير الفتاة الجاهلة منحصر فى أمور الطبخ والكنس والزريبة وما إلى ذلك، وأنه لا معنى لتصور أن كل ما تفعله الفتاة المتعلمة هو كتابة الخطابات الغرامية لكل من هب ودب، وأننى لا أفهم أبدا كيف أن رجلا متعلما تعليما حقيقيا بحيث يبلغ هذا التعليم أغوار عقله وقلبه يفكر مجرد تفكير فى الزواج من فتاة جاهلة لم تتعلم. ثم زدتُ فلفتُّ نظره إلى ما كنت أسمعه من أن فى البيت المواجه لبيتهم عبر الطريق الزراعى والمصرف مجموعة من الأخوات المتعلمات المشهورات بجمالهن. هذا ما قلته له، وإلى هنا وكل شىء جميل، وقد اقتنع صاحبنا بما قلته له، إذ خطب كبرى أولئك الفتيات وتزوجها على بركة الله. إلا أن غير الجميل فى الأمر أنه دعا إلى عُرْسه كل الناس ما عداى أنا رغم نفورى من حضور حفلات الأعراس بزحامها وطول ما يُنْفَق فيها من وقت ممل. وتكرر هذا فى كل عرس تم بين أحد من إخوته وبين فتاة أخرى من ذلك البيت. وبطبيعة الحال أنا لا أقصد إلى المقارنة بين سيد قطب وهذا الشاب، فسيد قطب إنما قال عن نفسه أو عن بطله ما قال فى غمرة الألم والشك القاتل، وإن كان ذلك البطل مسؤولا عن الانصياع للشك والخضوع له وعدم بذل الجهد الكافى للتحرر منه. كما أنه كان مقدِّرا لثقافة خطيبته ورهافة حسها وذكائها وجمالها القاهرى المصقول. لقد كان البطل وقتذاك، سواء قلنا إنه هو سيد قطب أو لم نقل، كاتبا مشهورا يشار له بالبنان، ولم يكن بالشخص النكرة المنغلق الأفق والذوق.
هذا فيما يتعلق بالنصف الأول من ذلك السؤال الذى ألقاه البطل على نفسه وهو فى غمرة الضياع والألم: "تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة؟ أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟"، أما الشق الآخر من السؤال فهو ما يلفت النظر وينبغى أن يستبقينا أمامه طويلا. ترى أكان قطب، إذا قلنا إنه هو بطل الرواية، زاهدا فى المرأة أو غير متعلق بها التعلق الكافى؟ إن وقائع الرواية لترفض هذا التفسير رفضا عنيفا، وإلا ففيم كل هذا الوله والشك والقلق وعدم الصبر إلى أن يتم الزواج فينال الحبيب من حبيبته ما يشاء من قبلات وأحضان؟ أتراه كان يفكر فى أن يَهَب حياته للإصلاح؟ فأما الإصلاح الدينى فلم يكن قطب قد اتجه إليه بعد، علاوة على أن الإسلام لا يعرف الترهب، وهو رحمه الله كان ولا ريب يعلم هذا جيدا. أما الإصلاح السياسى فلم نسمع أن أحدا من فرسانه عزف عن الزواج بسببه، وهذا إن كان سيد قطب يفكر فى هذا اللون من الإصلاح فى ذلك الوقت، أو كان قد فكر فى الإصلاح أصلا قبل اتجاهه إلى الإسلام. لكن لو استدرنا ونظرنا إلى المسألة من وجهها الآخر لوجدنا أن بطل القصة كان بينه وبين خطيبته عشر سنوات، ومعنى هذا أنه تأخر فى التفكير فى الزواج. كما أن سيد قطب لم يتزوج قط، ومات عَزَبا رحمه الله. أتراه كان استشفافا منه للغيب إذا أخذنا بأنه هو بطل الرواية، إذ هجس قلبه، مجرد هجس غامض، بأنه سوف يختار فى مقبل الأيام طريقا كله معاناة وآلام، وقد ينتهى نهاية مأساوية، ومن ثم لا داعى لأن تكون له زوجة وأولاد يتجشمون معه هذا كله؟ لاحظ، أيها القارئ، أننى إنما عزوت ذلك إلى الهاجس ليس غير، وإلا فليس يعلم الغيب إلا الله، وإنْ صَدَقَتِ الهواجس فى غير قليل من الأحيان! وإلا فليس أمامنا إلا أن نقول إنه القدر، الذى كان يُعِدّ سيد قطب لدوره التاريخى الذى نعرفه والذى بذل دمه من أجله عن طواعية تامة ورجولة لا نظير لها.
ومنذ عدة ليال كنت أعسّ فى جنبات المشباك، فاطَّلَعْتُ فى موقع "http://www.worldpress.org/Mideast/2150.cfm"،تحت عنوان "Memories of Sayyid Qutb: An Interview With John Calvert"، على حوار مع جون كلافرت (John Calvert)، شريك وليام شبرد (William Shepard) فى ترجمة كتاب قطب: "طفل من القرية" إلى الإنجليزية، وكان من بين ما سُئِله كلافرت السؤال التالى:
"Qutb was a life-long bachelor. What were his attitudes towards women? :"
فكان جوابه:
"I think he was a little bit afraid of women. He projected a lot of stuff on to women. He regarded women as a potential source of fitna, or social discord … Qutb was very afraid of the effects of sexuality as something that would compromise his identity as a God-fearing Muslim. If you look at his book Thorns, at the episodes he says that he experienced in the United States , women are always there in the background as temptresses. I don’t think that this pathology is common to Islamic culture, but I think Qutb certainly had a troubled relationship with women".
وفى هذا النص يؤكد كلافرت أن ما كتبه سيد قطب فى رواية "أشواك"، وكذلك فى مقالاته عن رحلته إلى أمريكا، يُظْهِر بجلاء أنه كان يَعُدّ المرأة فتنة ينبغى توقى شرها، وأن صلته بها كان يسودها الاضطراب. ولست أوافق المترجم على كلامه، فليس فى "أشواك" شىء من هذا الذى يقول، بل تعكس الرواية سعادته بخطيبته وحبه لها وفرحته بأنها تجسّد ما كان يحلم به فى المرأة التى يريد الاقتران بها، إلا أن التردّد والتنوُّق والشكوك قد سممت عليه سعادته وأوردت علاقته بالحورية موارد التلف والبوار. ولا شك أن غريزة الجنس غريزة عاتية، ومن ينكر ذلك فهو كذاب أو جاهل مخدوع لا يعرف شيئا من حقائق الحياة، لكننى لا أظن أن لسيد قطب فى كتاباته، وبخاصة فى"أشواك"، موقفا خائفا من المرأة يقوم على أساس افتراض الشر فيها، فما المرأة فى الواقع إلا إنسان يخضع كما يخضع الرجل لغريزة الجنس. وهو يعرف هذا جيدا، فهو كاتب ومفكر كبير، وإن كان الموروث الشعبى يطابق بين المرأة وبين تلك الغريزة، ويحمّلها من ثم التبعة وكأنها هى المسؤولة عن انحراف الرجل ووقوعه فى شَرَك الغواية، مع أن الاثنين إنما تسيّرهما نفس الشهوة، وبالتالى فكلاهما مسؤول عن الخطيئة. بل ربما كانت مسؤولية الرجل أكبر، إذ كثيرا ما خدع المرأة ومنّاها الأمانى وهوّن عليها الأمر وعشّمها فى الزواج، ثم إذا ما جَدَّ الجِدّ تصرف بنذالة وأخذ ذيله فى أسنانه وبلَّغ فِرَارا، تاركا إياها وحدها تواجه المجتمع بعارها، ذلك العار الذى تتحمله فى نظر المجتمع وحدها عادةً، لا لشىء إلا لأن العار الذى اشتركا فى عمله لا تظهر آثاره إلا عليها. كما أن سيد قطب، إن قلنا إنه هو سامى بطل الرواية، كان يتعاطف مع خطيبته رغم كل تلك الشكوك التى كانت تنتاشه بين الحين والحين. كما برّأها أمام أهلها أكثر من مرة ملقيا باللوم على نفسه. إلا أنه كان يريدها وردة لم تنفتح أوراقها لأحد قبله ولم يطّلع على ما فى قلبها أحد قبله، وهو فى هذا يشبه كثيرا من الشبان والرجال فى بلادنا، فليس هو بالبِدْع فى ذلك.
والبطل فى "أشواك" يشبه فى هذه السمة بطل "سارة" فى بعض الملامح العامة: فكلاهما يقع فريسة للشك فى الفتاة التى يحبها ويقاسى فى هذا السبيل أهوال الجحيم. إلا أن ثمة فرقا كبيرا بين الفتاة هنا والفتاة هناك: فهى فى "أشواك" خطيبة، أى أن العلاقة بينها وبين حبيبها علاقة شرعية، وهى فى "سارة" مجرد حبيبة لا يربطها بحبيبها شىء شرعى. كما أن طبيعة الشك هنا غيرها هناك: فبطل العقاد يشك فى حبيبته لأنه أحس أنها على علاقة بغيره فى ذات الوقت الذى كانت مرتبطة به فيه، على حين أن بطل "أشواك" كان يخشى أن يكون قلب خطيبته ما زال ينبض بالحب للشاب الذى كان يريد خِطْبتها قبله. كذلك فخطيبة سامى هى التى أنبأته بما كان بينها وبين ذلك الشاب، وطلبت منه أن يساعدها على تجاوز ذلك الماضى معترفة له بأنه يفوق خطيبها السابق كثيرا وأنه ليس إلى المقارنة بينهما لهذا السبب من معنى. أما "سارة" فكانت مخادعة لا تخلص لهمام. ومما تتشابه فيه الروايتان أيضا أن كلا البطلين كاتب مشهور. وقد حرص الراوى على أن يشير إلى ذلك من خلال انتباه الضابط فى كل من الروايتين إلى شخصية محدثه المعروفة من كتاباتها فى الصحف والمجلات ذات الشأن. وكلتا الروايتين تنتهى بالقطيعة بين الحبيبين، مع تعاطف كل منهما مع حبيبته رغم ذلك، وإن كان لكل منهما مسوغاته فى هذا التعاطف، كما أن درجة التعاطف عند سامى أقوى كثيرا منها لدى همام، فضلا عن أن العامل الحاسم فى الافتراق فى "أشواك" يرجع إلى الفتاة، التى شعرت أن الريح التى ستسيّر قارب حياتها مع سامى لن تكون رخاءً فى ظل شخصيته المتشككة التى لا تريد، فيما يبدو، أن تجنح إلى السلام. ولا ينبغى أن ننسى أن سيد قطب بقى ردحا طويلا من عمره متعلقا بالعقاد مخلصا له مدافعا عنه ضد مناوئيه من أمثال الرافعى ومندور، وكان يراه أديبا ومفكرا وشاعرا متميزا وممتازا ليس له من ضريب، وذلك قبل أن يستقلّ بطريقته هو ويمضى على سنته. فلا غَرْوَ إذا وجدنا بين روايته ورواية العقاد مثل تلك المشابه، وهى لا تنال من رواية "أشواك" فى قليل أو كثير، وبخاصة أنها فى معظمها مشابه قائمة على المصادفة المحضة. وكلتا الروايتين هى بَعْدُ من القَصَص العالى الذى قلما يقرأ الإنسان قَصَصًا مثله: سواء فى روعة الأسلوب أو عمق التحليل أو إحكام البنية الفنية أو فى مقدرة الاستيلاء التام على كيان القارئ، مع انفراد "أشواك"، فى حالتى أنا على الأقل، بأنها تثير التعاطف مع بطل القصة وحبيبته حتى من قبل معرفتى بشخصية سيد قطب كما أوضحت من قبل.
وفى النهاية أترك القارئ مع هذه الفقرات من الرواية يقرؤها على مهل: "وفي المساء كان يقصد إلى الدار، وليس في خياله إلا صورتها المرحة الوثابة، وإلا صوتها الشجي الطروب. واستقبلته متهللة، وقبل أن يجتاز الممر وراء الباب، وكانت يدها لا تزال في يده، قالت:
- كنت الليلة خائفة. ولكم تمنيت لو تجيء في الظلام!
وأحس أن الدنيا لا تسعه من الفرح، فضغط يدها بحراره، فتأودت وهي يشد يدها في يده، وبدت فتنة جارفة لا تحتملها الأعصاب! وانطلقت بعد قليل إلى البيانو توقع عليه اللحن المسحور، فغمرت روحه نشوة عجيبة، وانسربت خواطره تراود أحلاما ذهبية، وأحس بسعادة تضيء روحه بنور وهاج، وتحلق به في وادٍ من التيه بعيد.
وبعد أن استعادها مرة ومرة، على عادته كلما سمع اللحن المسحور، أعلنت في دعابة ساحرة أنها لن تعيد العزف، ونهضت واقفة وانفلتت من الحجرة كالحورية الهاربة، أو كالغزال الشرود. وكان معه في الحجرة أبوها وأمها وأخوها الشاب، ورآها تذهب نحو مرافق المياه، فتظاهر بعد برهة بأنه ذاهب إلى المرافق، وكانت له الحرية في أن يذهب ويروح حيثما يشاء، وكان يفصل المرافق عن الحجرات ممر طويل ضيق. وفي منتصف الممر قابلها راجعة. ولا يذكر أنه رآها كما رآها هذه الليلة. كانت متوهجة يخيل إلى الرائي أنها تتوقد، كما يخيل إليه أن كل نفسها منافذ تُتَلَقَّى منها الأضواء والأصداء، وتشع منها الطاقة والحرارة! ونسي المنزل ومن فيه، وهم على مقربة منهما، وراح يضمها إليه في شوق عارم، ويهوى على شفتيها في لهفٍ حَرُور، وأحس أنها تتذاوب فيه، وتتفانى بكاملها، وأنها تستجيب له بكل ذرة فيها، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى.
ومضت فترة لم يكن يعي فيها شيئا، ولكنه لا ينساها أبدا! مضت هذه الفترة، وإذا هي تَثْنِي جيدها إلى الوراء، وقَوَامها في يديه، فتواجهه بنظراتها الجاهرة، وتقول في دعابة ساحرة:
الرجل وراءنا! والله أناديه!
ولم يكن يملك إلا أن يضمها إليه في عنف، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك الفتنة. ثم تملصت منه، وانفلتت تجري. وعاد هو إلى الحجرة نشوان، ولكنه تعبان! عاد فجلس، ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئا، ولو تنبه أحدهم إلى عينيه لرآهما تقطران نشوة وسكرا.
...
وغابت عنهم فترة طويلة، ثم عادت وقد هدأ كل هذا النشاط، وسكنت كل هذه الفورة، وبدت مطفأة خابية. وصدمه هذا الانقلاب صدمة عنيفة. وخيلت له أوهامه أن هذا ندم منها على ما وهبت له، وأنها لا تزال تعد نفسها لحبيبها الأول. كانت كل معرفته بالمرأة من الأوراق! ووجم، وثقل عليه الجو، فشاع في المجلس كله الوجوم، وبخاصة وقد تقدم الليل، وداعب عيونهم النعاس.
وانتهز فرصة انفرادهما بعد قليل في الممر، فراح يفسد كل شيء. قال لها:
يبدو أنك نادمة على ما أعطيت.
وهزت رأسها أنْ: نعم.
فلم يحاول أن يفهم إلا أنها تعني ما تقول! قال:
تريدين أن تكوني له خالصة!
وجرح هذا كرامتها، فلم ترد أن تتقهقر. قالت:
أي نعم!
وغاظه ذلك جدا. ولم يحاول أن يفهم غلطته في سَوْق هذا الحديث إليها الآن. قال:
لن أعيدها مرة أخرى. اطمئني!
قالت في برود:
تحسن صنعا!
وأفلت منه قياد نفسه، ولم يعرف كيف يدير الكلمات، قال:
- لا يزال أمامك أن تختاري. فالفرصة بعد لم تضع!
وتظاهرت بعدم المبالاة، وكانت عادتها حين تجرح كبريائها، وقالت:
- والفرصة أمامك كذلك لم تضع، وتستطيع أن تتصرف بكامل حريتك!
وهنا فقط أحس أنه أخطأ في إدارة الحديث من أوله، وأنه استجاب لهواجسه التي لا زالت تختلج في ضميره، وأنه دفع بها إلى مكابرة لا مفر لها منها، فقال:
لندع الحديث الآن.
وعاد إلى الحجرة يستأذن للخروج. ولم تحضر هي لتسلم عليه. فدعتها أمها، فحضرت متثاقلة، ومدت إليه يدها باردة فسلم وانصرف وملء نفسه ظلام.
***
عاد إلى داره موحش النفس مظلما كئيبا، تجثم على صدره الكآبة، ويغشى نفسه الوجوم. وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح: تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كله؟ وأن هذه الفتاة ليست له، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعا؟ إنه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة. يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين. يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد في زي قاهري، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة. ومع هذا كله طيبة القلب وصفاء الروح! تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة؟ أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟ وفي مثل هذه الهواجس، التي كان يصاحبها في نفسه هم ثقيل وهمود كئيب، قطع الطريق الطويل بين دارها وداره، حتى إذا وصل لم تكن فيه بقية من النشاط للصراع والتفكير، فاستلقى مهدودا فنام!
وأصبح الصباح، فإذا هو يجد له نفسا جديدة غير التي نام بها. لقد صحـا وفي نفسه صفاء هاديء وصوفية شفيفة. إنه يعطف على الفتاة عطفا هادئا رفيقا. لقد صارعت أشواكها وقاومت ماضيها، ولقد ألقت بنفسها بعد هذا كله إليه، مجردة من كل ستار، عارية من كل رداء. وبالأمس ألقت بنفسها كلها إليه، واستسلمت لأحضانه. أنثى كاملة تستسلم للرجل الذي تختاره، فما باله لا يزال بعد هذا كله يذكّرها بالأشواك، ويحيطها بالشكوك، ويحرجها بالاتهام؟ لها الله!
وأحس عندئذ بالصفاء الهادئ يفارقه، وبالصوفية الشفيفة تتخلى عنه، وأجدّت له هذه الخواطر شوقا جارفا شديدا، ورأى نفسه يعبر عن هذا الشوق بشعر حار ملهوف. وحينما جاء موعده اليومي كان قد أنفق كل رصيده من الصبر، فانطلق إلى الدار ترفّ كل جوارحه هوًى إليها، وصعد السلم قافزا لاهثا. فلما كان أمام الباب وقف يلتقط أنفاسه قبل أن يضغط زر الجرس.
وجاءت الخادم ففتحت الباب، وبيدها الطفل الصغير أخو الفتاة، وكان يحبه حبا جما لخفة دمه، ورشاقة حركته، وحلاوة حديثه. وكانت الخادم خارجة به للرياضة في منتزه قريب. فتناوله بكلتا يديه، وقبله قبلة حارة عنيفة! ثم سأله عن "سميرة"، فقال الطفل في شيء من التخابث:
- عايزها؟
- أيوه.
قال:
- كانت تبكي.
ولا يدري كيف استقبل هذه الكلمة. تألم لها ما في هذا شك، ولكنه شعر بارتياح غامض. تبكي؟ إذن في نفسها من حديث الأمس بقية. وإن بكاءها ليؤلمه، ولكن أوَلاَ يدل هذا على أن المسألة في نفسها باتت جدا، وأنه يؤذيها ما يثور في نفسه حولها من شكوك؟ وتنبه لهذا الشعور في نفسه فعده شعورا أثيما! أوَيريحه أن تتألم الفتاة لمجرد استيثاقه أن الأمر بينهما قد صار جدا؟ ثم يزعم أنه يحبها؟ يحبها أو يحب نفسه؟ ومع ذلك يصف نفسه بالإيثار! وبينما كانت هذه الخواطر تجول في نفسه كان يندفع في الدار مناديا:
سميرة. سميرة. أين انت يا سميرة؟
ولقيته أمها فسلمت عليه، وفي قسماتها شيء من الانكسار، ونادت بدورها عليها:
سميرة. تعالي. إنه جاء!
وأحس من هذا أن عدم مجيئه اليوم كان متوقعا، وأنه قد دار بشأنه حديث. وعـاوده الشعور المبهم المختلط. وأقبلت سميرة، ونظر فإذا هي مكدودة، تغيم عليها سحابة من الأسى. ولكنه قد حضر برصيد نفسي ضخم من الحماسة والطلاقة، فراح يجلو هذه الغاشية بنشاطه وطريقة حديثه والتفاتاته وحركاته، واستجابت الأم لهذا فبدا عليها الانشراح. أما هي فكانت في نفسها بقية لا تزال، ولكنها كانت خيرا مما لقيها أول مرة. وطلب منها أن تعزف له دوره المحبوب، ولكنها تمنعت حتى كادت أمها تغضب، فاستجابت لها. وكان عزف هذا الدور يكفي لإحداث جو آخر. وخرجت الأم، وقد راقها الجو الجديد، لتشرف على الشاي والفاكهة! ولما اختلى بها قالت له في رزانة:
- يا سامي. إنك مظلوم معي. ومن واجبك أن تبعد عن طريقي. إنه مليء بالأشواك!
وحاول أن يطمئنها بشدة، فأخذ يدها بين يديه وضغطها مربتا، وقال: - أرجو يا سميرة أن تغفري لي اندفاعاتي، فأنا رجل جُرِح مرة، فدعي لي فرصة تندمل فيها جروحي، كما تركت لك فرصة تنتزعين فيها أشواكك.
وأدركتْ ما في لهجته من صدق وعمق فقالت:
- معك حق. معك حق. ولكنني مع هذا بدأت أخاف!
قال لها في توكيد ظاهر:
- لا. لا تخافي. ثقي أنني أثق بك في أعماقي. وإلا ما وجدتني بجانبك إلى هذه اللحظة. قالت:
- سأقول لك الحق: أنا مجرمة.
عندئذ فاضت نفسه رقة لها وعطفا عليها، وراح يطمئنها على ثقته بها، ويبرئها مما ترمي به نفسها. وبعد فترة على هذه الوتيرة من الحديث عاد إليها اطمئنانها، وارتدت إليها بشاشتها، وتوهجت عيناها بذلك البريق الجذاب العجيب، وخُيِّل إليه أنه غسل ما في نفسها وغسل ما في نفسه، وأنهما يرفان طليقين في سماء الحياة".
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
HOME
د. إبراهيم عوض
موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم
١٩٨٧
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى أسرتي الصغيرة التي لا أكف عن الدعاء إلى الله أن يبارك فيها : زوجتي ، ويمنى " الفراشة الرقيقة " ، وعلاء الدين " الأسد الصغير " . جمعنا الله على الخير والسعادة في الدنيا ، وفي رياض الخلد في الآخرة .
مقدمة
رشحني قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب ( جامعة عين شمس ) أنا والأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة ، للاشتراك في المؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، الذي كان مقررا له أن ينعقد في أول أكتوبر الماضي ( ثم تأجل إلى الثامن عشر من نفس الشهر ) بإسلام أباد عاصمة باكستان ، فكتبت البحث الذي بين يدي القارئ الكريم ، وأرسلته إلى هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ( بمكة المكرمة ) المشرفة على المؤتمر ، فأحالته إلى لجنة التحكيم الخاصة بالنظر في مثل هذه البحوث فأجازته وأثنت مشكورة على ما بُذل فيه من " جهد علمي واضح " ( وهذه عبارة الرسالة التي وصلتني لا عبارتي أنا ، فأرجو أن يعذرني القارئ ) ، ودعت لي بالخير . ومع ذلك فإني للأسف لم أسافر لحضور المؤتمر ، لأن تذاكر السفر التي وعدت بها لم تصلني ، لتأخري في الرد على الرسالة المذكورة أعلاه ، لظروف خارجة عن إرادتي ، إذ كنت عند وصولها مسافرا إلى جمهورية جامبيا في غرب إفريقية ، فلما عدت تسلمتها بعد فوات الأوان ، وبالتالي تأخر ردي وإرسالي الملخصين المطلوبين ( بالعربية والإنجليزية ) عن الموعد المحدد .
وقد علمت من مقالة الأستاذ فهمي هويدي : " الإعجاز القرآني : المصالح والمفاسد ! " ، المنشورة بأهرام الثلاثاء ٣ / ١١ / ١٩٨٧ ( ص / ٧ ) أن عدد البحوث التي قدمت للمؤتمر قد بلغت خمسمائة بحث ، وأن الذي أجيز منها هو ثمانية وسبعون بحثا فقط ، فسرني هذا سرورا عوضني إلى حد كبير عن حضور المؤتمر والسفر إلى باكستان الشقيقة . والحمد لله . الذي هو أهل كل حمد .
حدائق القبة ٢٣ / ١١ / ١٩٨٧
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا تتبعنا في كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن العلم والمعرفة[1] فسوف نجد الملاحظات الآتية :
أن كلا الكتابين يعد العلم والمعرفة هبة من عند الله سبحانه . يقول الكتاب المقدس : " وكلم الرب موسى قائلا : انظر . قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور من سبط يهوذا باسمه ، وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة ... وهأنا قد جعلت معه أهولياب بن أخيساماك من سبط دان ، وفي قلب كل حكيم القلب جعلت حكمة ليصنعوا كل ما أمرتك "[2] . وفي موضع آخر نرى سليمان عليه السلام يدعو الله أن يمده بالحكمة والمعرفة : " فأعطني الآن حكمة ومعرفة لأخرج أمام هذا الشعب وأدخل "[3]. فيرد المولي جل وعلا عليه بقوله: " قد أعطيتك حكمة ومعرفة، وأعطيك غنى وأموالا وكرامة "[4] . وها هو داود يرجو ربه أن " ذوقا صالحا ومعرفة علمني "[5]. وفي سفر " الأمثال " :" لأن الرب يعطي حكمة. من فمه المعرفة والفهم "[6] . وفي " دانيال " : "يعطي ( الله ) الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهما "[7] .
وفي القرآن الكريم نقرأ قوله عز من قائل : " علم الإنسان ما لم يعلم "[8] ، وقوله سبحانه عن آدم عليه السلام : " وعلم آدم الأسماء كلها "[9] ، وقوله تعالى عن يوسف عليه السلام : " وإنه لذو علم لما علمناه "[10] ، وقوله سبحانه عن العبد الصالح ( في قصة موسى عليه السلام ) : " وعلمناه من لدنا علما "[11] ، وقوله جل شأنه عن داود عليه السلام : " وعلمناه صنعة لبوس لكم "[12] ، وقوله تبارك وتعالى عن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلمك ما لم تكن تعلم "[13] ، وقوله عز شأنه في خطاب المؤمنين : " واتقوا الله ، ويعلمكم الله "[14] .
فمن هذه النصوص يتبين لنا أن كلا الكتابين ينظر إلى المعرفة ، سواء كانت معرفة عقلية أو روحية أو صناعية تطبيقية ، على أنها عطية إلهية ؟ وهذا طبيعي ، فكلا الكتابين يدعو إلى الإيمان بالله سبحانه وأنه خالق كل شيء ، وإن شابت الإيمان بالله في الكتاب المقدس شوائب كثيرة تتفاوت بين السفاهة من جانب والشرك بالله من جانب آخر .
أما موقف الكتابين من المعرفة والعلم والحكمة فالكتاب المقدس يقول : "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم . لأن تجارتها خير من تجارة الفضة ، وربحها خير من الذهب الخالص . هي أثمن من اللآليء وكل جواهرك لا تساويها"[15] . وفي سفر "الأمثال" نقرأ أن "كون النفس بلا معرفة ليس حسنا"[16] . وفي إشعياء : "سبي شعبي لعدم المعرفة"[17] . وفي هوشع : "قد هلك شعبي من عدم المعرفة"[18] .
وبالمثل يغبط القرآن الكريم من آتاه الله الحكمة ، ويعدها خيرا كثيرا : "يؤتي الحكمة من يشاء . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"[19] ، ولا يسوي بين العلماء والذين لا يعلمون : "قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟"[20] . والله سبحانه يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات عالية لا يرقى إليها غيرهم : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"[21] .
لكن على حين نجد أن نظرة القرآن إلى العلم مطردة على هذا النحو فإن في الكتاب المقدس آيات أخرى تناقض الآيات السابقة التي استشهدنا بها منه آنفا ، ففي سفر "الجامعة" أن معرفة الحكمة ، مثلها مثل معرفة الحماقة والجهل ، هي قبض الريح ، وأن "في كثرة الحكمة كثرة الغم . والذي يزيد علما يزيد حزنا"[22] ، ومن هنا فإن "الدرس الكثير تعب للجسد"[23] ، بمعنى أنه تعب لا يجدي على صاحبه شيئا، كذلك يؤكد بولس أن الله "مرجع الحكماء إلى الوراء ومجهل معرفتهم"[24]، وأنه قد جهل "حكمة هذا العالم"، وأنه قد "اختار ... جهال العالم ليخزي الحكماء"[25] ، وأن "حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله" ، "وأيضا الرب يعلم أفكار الحكماء باطلة" . وعلى هذا فـ "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما"[26] .
إن كاتب مادة Science في Dictionary of the Bible يدافع عن موقف بولس تجاه العلم كما تعكسه الآيتان ١ ، ٧ من الأصحاح الثامن من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( ونص كلامه هو : "وأما من جهة ما ذبح للأوثان فنعلم أن لجميعنا علما . العلم ينفخ ، ولكن المحبة تبني . فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئا فإنه لم يعرف شيئا بعد كما يجي أن يعرف ... ولكن ليس العلم في الجميع ، بل أناس بالضمير نحو الوثن إلى الآن يأكلون كأنه مما ذبح لوثن . فضميرهم إذ هو ضعيف يتنجس") ، فيزعم أنه لا يقصد به دراسة مخلوقات الله ( أو كما سماها هو "أعمال الله : The work of God" ) بل كان هجومه منصبا على المعرفة التي تفتخر بها الفرق المتهودة والباطنية في عصره ، على عكس المعرفة الحقيقية التي كان يشيد بها أيما إشادة[27] . والحقيقة أن مثل هذا الدفاع لا يصمد للنظر ، فإن هجوم بولس على الحكماء وعلمهم غير مقصور ، كما رأينا ، على الآيتين السابقتين . ثم إن جميع المعارف أيا كانت إنما هي ، على نحو أو على آخر ، دراسات لمخلوقات الله . وقد كان الأحرى ببولس ، لو كان فعلا يقصد ما يقوله الكاتب المذكور ، أن يهاجم غرور العلماء فقط لا العلم نفسه والحكمة ، فإن العلم والحكمة لا يمكن أن يكونا إلا خيرا ، وخيرا كثيرا .
وليس بولس هو وحده الذي ينظر إلى المعرفة والعلم هذه النظرة ، فها هو يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى إن مسحة التعميد للذين لم يعاصروا المسيح كفيلة بعدم احتياج الممسوح إلى أن يعلمه أحد لأن هذه المسحة تعلمه كل شيء[28] .
إن هذا الاضطراب في موقف الكتاب المقدس نحو العلم والمعرفة يعسر فهمه وتفسيره إلا على أساس واحد هو أنه ، على وضعه الحالي ، صناعة بشرية . ولست أوافق الدكتور موريس بوكاي على قوله إن "الأمر الذي لا جدال فيه هو أنه ليست هناك أية إدانة للعلم في أي كتاب مقدس من كتب أديان التوحيد"[29] ، فها هي نصوص من الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى تفند هذا الادعاء ، ولعل تفسير ذلك هو أن هذا الكتاب قد خضع لكثير من الحذف والإضافة وإعادة الصياغة والنحل مما باعد بينه وبين أصله الإلهي ، وجعل من الصعب في بعض الأحيان ، ومن المستحيل في أحيان أخرى أن نقول إن الدينين اللذين يقدسه أتباعهما قد بقيا ديني توحيد.
ومع ذلك فقد بقيت في الكتاب المقدس قبسات من نور الوحي الإلهي . ولعل من هذه الأقباس الإلهية ما جاء في "الأمثال" من أن "مخافة الرب رأس الحكمة"[30] ، وهو ما يذكرنا بقول الله سبحانه في القرآن الكريم : "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"[31] .
وقد يكون من هذه الأقباس أيضا ما يفهم من المثل الآتي الذي أورده لوقا في إنجليه على لسان سيدنا عيسى عليه السلام من أنه لا مسؤولية بدون علم ، وعلى قدر العلم تكون المسؤولية ، إذ مع العلم ينتفي العذر ويحق على المذنب العقاب . أما من لم يبلغه العلم فهو معذور : "فقال الرب : فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها ؟ طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا . بالحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله . لكن إن قال ذلك العبد في قلبه : سيدي يبطئ قدومه . فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر . يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين . وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا . ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلا . فكل من أعطى كثيرا يطلب منه كثير ، ومن يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر"[32] . وفي مثل هذا المعنى ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان سيدنا عيسى أيضا عليه السلام : "قال لهم ( للفريسيين ) يسوع : لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية . ولكن الآن تقولون : إننا نبصر . فخطيتكم باقية"[33] . فالعمي هنا هو عدم المعرفة ، أما الإبصار فهو العلم بالواجبات والمسؤوليات . ويشبه هذا في خطوطه العامة قول بولس في رسالته إلى العبرانيين : << فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة"[34] ، إذ مع معرفة الحق والباطل والصواب والخطإ ينتفي العذر ، وعلى هذا فلابد من العقاب ما دام الآثم قد اجترح الإثم عن اختيار .
فإذا انتقلنا إلى القرآن فإننا نجده يذم اليهود ذما شديدا لإقدامهم على تحريف الوحي مع علمهم أن هذا إثم فاحش : "كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"[35] ، وينذرهم قائلا : "لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"[36] . كما نجده يحذر المؤمنين من الإشراك بالله بعدما علموا أن التوحيد حق : "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون"[37] ، ويوجه نظر الرسول عليه الصلاة والسلام على سبيل ضرب المثل إلى أنه "لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير "[38] و " لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين "[39] .
وقد فهم المرحوم الشيخ شلتوت من قوله تعالى : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيت له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم . وساءت مصيرا"[40] أن من لن يعلم بالحق بمعنى أنه لم يبلغه أو بلغه وعلم به ولكن على نحو محرف ، أو علم به على وجهه الصحيح ولكنه لم يستطع الاقتناع به رغم أنه لم يقصر في ذلك على مدى عمره فهذا لا يناله الوعيد الإلهي بالإصلاء في جنهم"[41] . ومثله قول الشيخ محمد عبده إن الإسلام يجعل من النظر العقلي وسيلة الإيمان الصحيح ، حتى لقد قال قائلون من أهل السنة : "إن الذي يستقصى جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالباً غير واقف عند الظن فهو ناج"[42] .
من هذا كله نرى أن العلم هو أساس المسؤولية ، وأنه لا مسؤولية بلا علم ، على أن يكون مفهوما طبعا أن العلم والسعي إليه هو واجب على كل مسلم ومسلمة . أما في الكتاب المقدس فإن معرفة الشريعة إنما تستمد من الكاهن ، "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ، ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود"[43] . وهو فرق جد هام بين القرآن والكتاب المقدس فيما يختص بهذه المسألة .
والآن بعد أن اتضح لنا موقف كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ورأينا أنه على حين يطرد تمجيد القرآن للعلم نجد أن هذا الاطراد معدوما في الكتاب المقدس ، ننتقل إلى موقف الكتابين من منهج البحث في العلوم ، إذ قد يقول قائل إن مجرد الحث على طلب العلم وتفضيله على غيره من النعم هو كلام عام ، فنحب أن نرى هل يمكن أن نعثر في كل من الكتابين على توجيهات وأفكار محددة من شأنها أن تنزل بنا من أفق التعميم إلى أرض المنهج الصلبة .
وقبل أن نبحث عن الآيات المتصلة بهذا الموضوع علينا أن نعرف معنى "التفكير العلمي" ونلم بخصائصه إلماما سريعا.
يقول د. توفيق الطويل : " ينسب التفكير العلمي إلى المشتغلين بالعلم الطبيعي . ويراد اليوم بالعلم الطبيعي كل دراسة تصطنع منهج الملاحظة الحسية ، والتجربة العلمية إن كانت ممكنة ، وتتناول الظواهر الجزئية في عالم الحس ، وتستهدف وضع قوانين لتفسيرها ، بالكشف عن العلاقات التي تربط بينها وبين غيرها من الظواهر وصياغة هذه القوانين في رموز رياضية ، وذلك للسيطرة على الطبيعة والإفادة من مواردها وتسخيرها ظواهرها لخدمة الإنسان في حياته الدنيا"[44] .
ويفصل د. توفيق الطويل القول في خصائص التفكير العلمي ، التي يمكن تلخيصها على النحو التالي :
١ - البدء بتطهير العقل من معلوماته السابقة[45] .
٢ - الملاحظة الحسية كمصدر وحيد للحقائق[46] .
٣ - نزوع العلم الحديث إلى التكميم[47] .
٤ ، ٥ - موضوعية البحث ونزاهة الباحث[48] .
٦ - الاعتقاد في مبدأ الحتمية[49] .
٧ - توافر الثقافة الواسعة للعلماء[50] .
ولا يخرج عن ذلك ما قاله د. أحمد زكي من أن "العلم مؤسس على التجربة يجريها العالم ويرقم نتائجها ، وعلى الملاحظة يأتيها ، ويرصد نتائجها ، ثم هو يعمل عقله في هذه النتائج من بعد ذلك"[51] . ويشير همايون كبير إلى أهمية الإيمان باتساق الطبيعة واطراد قوانينها والإيمان بقيمة الوحدات الفردية وأهمية ملاحظتها في مجال العلم وتطوره[52] .
مما سبق يتبين لنا أن المنهج العلمي يقوم على الإيمان بأن العلم محيط لا ساحل له ، وأن وسائل الإنسان إلى تحصيل العلم هي حواسه وعقله ، التي ينبغي أن تكون مفتوحة ويقظة دائما للطبيعة وظواهرها من حوله كي يتسنى له استخلاص القوانين التي تحكمها بعد التثبت من كل ما يلاحظه ويستنبطه .
فأما في الكتاب المقدس فقد بحثت فيه تحت نفس العناوين التي بحثت تحتها في القرآن فلم أجد فيه ما وجدته في القرآن من آيات تتصل بمبادئ المنهج العلمي اتصالا وثيقا . وأما القرآن ففيه آيات كثيرة تبرز سعة آفاق العلم وعدم انتهائها عند حد ، كقوله تعالى : "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون"[53] . "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون"[54] . "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"[55] . "وفوق كل ذي علم عليم"[56] . ثم هذه الآية التي يأمر فيها العليم الحكيم رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام أن "قل : رب ، زدني علما"[57] . إن هذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يأمر فيها الله رسوله أن يستزيد من شيء . ولنلاحظ أن المأمور بذلك هو محمد ، الذي كان يتنزل عليه الوحي صباح مساء . وكذلك هذه الآية التي يسوي فيها القرآن بين الجهاد في سبيل الله وطلب العلم ، إذ يسمي كلا منهما "نفرا" ، والتي يحض فيها المؤمنين أن يبقى مع الرسول في المدينة ، حين لا يخرج للغزو مع الجيش ، من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة . فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"[58] . صحيح أن العلم هنا هو العلم الديني ، بيد أنه ينبغي ألا يفوتنا أن هذا هو المجال العلمي الوحيد الذي كان يتتابع فيه ظهور الجديد كل يوم ، وأحيانا كثيرة في مدى زمني أقصر من ذلك ، على عكس ما يسمى الآن بالعلوم التجريبية ، التي كانت معارف العرب فيها في ذلك الحين مجرد شظايا بدائية ساكنة لا يلحقها تطور أو تجديد . والعبرة على كل حال بمبدإ التخصص وتهيئة الدولة المناخ المناسب لعكوف العالم على علمه وتشجيعه بل حثه على ذلك .
كذلك ما أكثر الآيات القرآنية التي تتحدث عن نعم السمع والبصر والعقل وتمن بها على العباد بما يدل على جلالة وظيفتها : "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون"[59] . "وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة"[60] . "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . قليلا ما تشكرون"[61] . "وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة"[62] .
وأيضا ما أكثر الآيات التي تحض على النظر والتأمل في الملكوت ووقائع التاريخ : "فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم"[63] . "فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر"[64]. "أفلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ؟"[65] . "أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة"[66]. "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم : كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من زوج بهيج ؟"[67] . "أفلا ينظرون إلى الإبل : كيف خلقت ؟ * وإلى السماء : كيف رفعت ؟ * وإلى الجبال كيف نصبت ؟ * وإلى الأرض : كيف سطحت ؟"[68] . "قل : سيروا في الأرض فانظروا : كيف بدأ الخلق ؟ ثم الله ينشيء النشأة الآخرة"[69] .
وإلى جانب هذه الآيات هناك مواضع أخرى يعنف فيها القرآن من لا يستخدمون حواسهم وعقولهم تعنيفا شديدا لدرجة أنه يهبط بهم إلى ما دون مرتبة العجماوات . قال تعالي : "لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام ، بل هم أضل"[70] . "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"[71] . "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ؟ فإنها لا تعمي الأبصار ، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور"[72] .
والإنسان في القرآن مطالب بالتفكير قبل أن يؤمن أو يكفر ، حتى يكون إيمانه أو كفره عن بينة : "قل إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا"[73] . "أو لم تتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة"[74] . "أو لم يتفكروا في أنفسهم ؟"[75] . ومطالب كذلك بالتفكير بعد الإيمان ، إذ من صفات المؤمنين أنهم هم "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض"[76] .
وفي مجال التثبت نجد القرآن يحذر دائما من الوقوف عند الظن ، إذ لابد من العلم اليقيني : "وما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يظنون"[77] . "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس"[78] . "إن يتبعون إلا الظن . وإن الظن لا يغني من الحق شيئا"[79] . بل يبلغ موقف القرآن من الظن وعدم الاعتداد به الحد الذي يدعو عنده إلى اجتناب الكثير من الظن لأن بعضه إثم ، فهو حذر الوقوع في القليل غير المتعين ينبذ الكثير: "يا أيها الذين آمنوا ، اجتنبوا كثيرا من الظن . إن بعض الظن إثم"[80].
ولا يقف التثبت في القرآن عند اطراح الظن ، بل لابد من البرهان : "فقلنا ( أي قال المولى سبحانه ): هاتوا برهانكم"[81] . "إن عندكم من سلطان ( أي برهان قاطع ) بهذا"[82] . "قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟"[83] . "إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين"[84] .
وعلى الإنسان أن يرجع فيما يجهله إلى أهل الاختصاص : "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"[85] . "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"[86] . ولا يصح في مجال العلم الاعتداد بالآراء المتوارثة لمجرد شيوعها وترديد الأجيال لها . ومن هنا كانت حملة القرآن شعواء على المقلدين لأسلافهم: "قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا"[87] . "قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"[88] . "وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباؤنا"[89] . "قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ؟"[90] . "قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا"[91] . "قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مهتدون"[92] . قالوا : إن وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون"[93] .
بالنسبة للنظام الكوني وما يجري عليه من قوانين مطردة هناك هذه الأيات التي تتحدث عن السنة والتقدير والقدر والوزن والميزان ، وهي كلها ألفاظ تعني ما يعنيه مصطلح "قوانين الطبيعة" أو "القوانين الكونية" . ففي مجال التاريخ والحضارة وطباع البشر وانهيار الأمم نقرأ هذه الآيات : "وإن يعودوا (أي الكفار لكفرهم وإجرامهم) فقد مضت سنة الأولين"[94]. "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا. ولا تجد لسنتنا تحويلا"[95]. "سنة الله في الذين خلوا من قبل. وكان أمر الله قدرا مقدورا"[96] . "ولن تجد لسنتنا تبديلا"[97] . "فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا"[98] . "قد خلت من قبلكم سنن"[99] . "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم"[100] .
أما الآيات التالية فهي تتحدث عن القانون في مجال الظواهر الطبيعية : "والقمر قدرناه منازل"[101] . "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل"[102] . "وخلق كل شيء فقدره تقديرا"[103] . "وكل شيء عنده بمقدار"[104] . "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه . وما ننزله إلا بقدر معلوم"[105] . "وأنزلنا من السماء ماء بقدر"[106] . "فجعلناه ( أي ماء الإنسان ) في قرار مكين * إلى قدر معلوم"[107] . "وجعلنا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون"[108] . "والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان"[109] .
بعد استعراض هذه الآيات ، وهي مجرد أمثلة ، يستغرب الإنسان كيف يجرؤ مؤلف Promotion de l’Islam على زعم بأن الحضارة الإسلامية هي نتاج غير طبيعي لشخصية محمد وطبيعة الإسلام ، لأن الرسول ( كما يقول ) كان أميا ، والإسلام ( في نظره ) لا يهتم إلا بالحياة الآخرة ، فكيف تكون النتيجة إذن هي هذه الحضارة الإسلامية المزدهرة التي تعلمت منها أوربا ؟ والإجابة عنده هي أن الإسلام قد ورث ثقافة الإغريق والبيزانطيين والفرس[110] . وهو يتهم الإسلام بفقدان قوى الأصالة والإبداع التي يتطلبها قيام الحضارة[111] ، ويؤكد أن من بين ما يحتاجه الإسلام من الغرب اقتباس المنهج التجريبي والروح التحليلية والعقلية الناقدة[112] . ولكن سرعان ما يزول استغراب الإنسان لهذه المزاعم حين يعرف أن صاحبها رجل دين ، فرجال الدين من المستشرقين هم أسخفهم عقلا وأعماهم تعصبا وأضيقهم أفقا وأجرؤهم على الكذب إلا قليلا منهم . والسؤال هو : ترى لو أن القرآن والرسول لم يحضا على المجد والتفوق في الدنيا وطلب العلم واتباع مبادئ المنهج العلمي المؤسسة على اليقين والتثبت والتساؤل وتقليب النظر والملاحظة واستقراء القانون أكانت هذه الثقافات التي ورثها المسلمون تؤدي في أيديهم إلى شيء ؟ لقد كان هذا التراث بين أيدي الأوربيين في ذات الوقت فكيف لم يستفيدوا منه مجرد استفادة ، ولا أقول : ينتقدوه ويضيفوا إليه ويطوروه ويصبغوه بشخصيتهم وعبقريتهم كما فعل المسلمون ؟ الجواب هو أن كتابهم المقدس ، وإن مجد العلم في بعض آياته ، فإنه في آيات أخرى يحتقره وينفر منه . وهو على أية حال لا يدعو إلى التفكير واستخدام العقل والتأمل في أحوال الأمم ومظاهر الطبيعة والتثبت من كل رأي أو فكرة قبل اعتناقها ، وذلك على عكس الإسلام ، الذي يذكر مؤلف كتاب Christ et Bahá’u’llah أن من بين خصائصه التي تميزه "حرية الفكر والتوافق بين الدين والعلم"[113] .
هذا فيما يتعلق بموقف كل من الكتاب المقدس والقرآن من العلم ومن التفكير القائم على مبادئ المنهج العلمي من ملاحظة يقظة وتفكير متثبت مدعوم بالبراهين وبعد عن الظن وتأمل في نظام الكون وسننه ومقاديره . والآن إلى النقطة الأخيرة الخاصة بما ورد في كل من الكتابين من معارف علمية : تاريخية أو طبيعية ، لنرى مدى موافقة هذه المعارف لما هو مقطوع بصحته من العلم أو مخالفته لها مخالفة لا تقبل تأويلا كائنا ما كان .
لقد أثبتت الدراسات العلمية الموضوعية أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مفعم بأخطاء تاريخية وحسابية وعلمية فادحة يستحيل أن يجد المؤول لها مخرجا على وجه من الوجوه . ومن هذه الدراسات ما نهض به ابن حزم بصبر ودقة عجيبين ويقظة عين وعقل قل أن يوجد لها بين الباحثين نظير ، وذلك في العشرات بعد العشرات من الصفحات ذات القطع الكبير .
ولست أنوي أن أعرض بل ولا حتى أن أشير مجرد إشارة إلى كل ما درسه ابن حزم من أخطاء فاحشة يعج بها الكتاب المقدس ، فكتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" ، الذي يتضمن هذه الدراسة مطبوع في الأسواق ، ويستطيع القارئ أن يرجع إليه بنفسه ، وأنا ضمين له بأنه سيجد فيه ألوانا رفيعة من الفوائد العلمية والمتع العقلية . ولكني سأجتزئ ببعض أمثلة أرجو أن تغري القارئ بقراءة الأصل كله .
قال ابن حزم : "وبعد ذلك قال : ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان . ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس . اسم أحدها النيل ، وهو محيط بجميع بلاد زويلة الذي به الذهب . وذهب ذلك البلد جيد . وبها اللؤلؤ وحجارة البلور . واسم الثاني جيحان ، وهو محيط بجميع بلاد الحبشة . واسم الثالث الدجلة ، وهو السائر شرق الموصل . واسم الرابع الفرات . وأخذ الله آدم ووضعه في جنات عدن"[114] . ولا أظنني بحاجة إلى أورد تفنيد ابن جزم لهذا الكلام ، فسخفه ظاهر لكل ذي عينين . وقال ابن حزم في موضع آخر : "وبعد ذلك قال : وأولاد يعقوب اثنا عشر . فأولاد ليئة : رؤابين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساخر وزبولون . وأبناء راحيل : يوسف وبنامين . وابنا بلهة : راحيل دان ونفثالي . وابنا زلفة أمة ليئة : جادا وأشير . هؤلاء بنو يعقوب الذين ولودوا له بفدان أرام . قال أبو محمد رضي الله عنه ( أي ابن حزم ) : هذا كذب ظاهر ، لأنه ذكر قبل أن بنيامين لم يولد ليعقوب إلا بأقراشا بقرب بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس بعد رحليه من فدان أرام بدهر . والله تعالي لا يتعمد الكذب ولا ينسى هذا النسيان"[115] . ويقول ابن جزم أيضا : "وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم : أتاكم يحيى وهو لا يأكل ولا يشرب ، فقلتم : هو مجنون . ثم أتاكم ابن الإنسان ( يقصد نفسه ) يأكل ويشرب ، فقلتم : هذا صاحب خوان شروب للخمر خليع صديق للمستخرجين والمذنبين . قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل كذب ... فإنه قال هاهنا إن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب حتى قيل فيه إنه مجنون من أجل ذلك . وفي الباب الأول من إنجيل مارقش أن يحيى بن زكريا هذا كان طعامه الجراد والعسل الصحراوي . وهذا تناقض ، وأحد الخبرين كذب بلا شك"[116] . "وفي الباب السابع والعشرين من إنجيل متى أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره . وكانا يشتمانه ويتناولانه محركين رؤوسهما ، ويقولان : يا من يهدم البيت ويبنيه في ثلاث ، سلم نفسك . إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب . وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مارقش أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله . واللذان صلبا معه كانا يستعجزانه[117] . وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل لوقا ( هو في الأصحاح الثالث والعشرين في الإنجيل الذي في أيدينا الآن ) : وكان أحد اللصين المصلوبين معه يسبه ويقول : إن كنت أنت المسيح فسلم نفسك وسلمنا . فأجابه الآخر وكشر عليه وقال : أما تخاف الله وأنت في آخر عمرك وفي هذه العقوبة ؟ أما نحن فكوفئنا بما استوجبنا ، وهذا لا ذنب له . ثم قال ليسوع : يا سيدي ، اذكرني إذا نلت ملكوتك . فقال له يسوع : آمين . أقول لك اليوم تكون معي في الجنة"[118] . قال أبو محمد : إحدى القضيتين كذب بلا شك ، لأن متى ومارقش أخبرا بأن اللصين جميعا كانا يسبانه . ولوقا يخبر بأن أحدهما كان يسبه والأخر كان ينكر على الذي يسبه ، ويؤمن به . والصادق لا يكذب في مثل هذا . وليس يمكن هاهنا أن يدعى أن أحد اللصين سبه في وقت وآمن به في آخر ، لأن سياق خبر لوقا يمنع من ذلك ويخبر أنه أنكر على صاحبه سبه من لم يساعده قط على ذلك . وكلهم متفق على أن كلان اللصين وهم ثلاثتهم مصلوبون على الخشب ، فوجب ضرورة أن لوقا كذب أو كذب من أخبره ، أو أن متى كذب وكذب مارقش أو الذي أخبره ولابد"[119] .
ولا يظن ظان أن المسلمين وحدهم هم الذين يرون في الكتاب المقدس هذا الرأي فإن العلماء الغربيين يقولونه ، بل يشاركهم فيه كثير من رجال الدين . فكاتب مادة Christianity في دائرة المعارف البريطانية يؤكد أن منطق النصرانية وفلسفتها ومعارفها العلمية هي نتاج ينتمي إلى عصور تاريخية مضت ، وأن ذلك كان خطوة في طريق التطور العلمي ، وأن الزعم بأنه يمثل الحقيقة المطلقة هو زعم لا يساوي عناء الرد عليه[120].
وفي أحد تفاسير الكتاب المقدس ( وعنوانه A New Commentary on Holy Scripture, Including the Apocrypha ) أن سفر "التكوين" لا يشتمل على المعلومات الصحيحة الخاصة بالبدايات الحقيقية للأرض نفسها أو تلك الخاصة بالإنسان والحضارة الإنسانية عليها . ومثال ذلك أن بدايات العالم والبشرية ترجع إلى زمن أبعد من التاريخ الذي ورد في سفر "التكوين" بمدى لا يمكن قياسه ، وأن ترتيب ظهور المخلوقات على مسرح الوجود كما هو مذكور في الأصحاح الأول من سفر "التكوين" لا يتفق مع الحقائق الجيولوجية[121] . بل إن هذا التفسير يضع سفر "التكوين" في مرتبة أدنى من الوثائق البابلية والمصرية القديمة التي تتضمن نفس الأحداث والشخصيات التاريخية[122] .
وفي تفسير آخر للكتاب المقدس William Neil’s One Volume Bible Commentary أن مقاسات الفلك الذي صنعه نوح ، كما وردت في الكتاب المقدس ، وسعته من الداخل لا تتناسب أبدا مع الأعداد الغفيرة والمتنوعة لركابه ، الذين كان عليهم أن يعيشوا فيه ويأكلوا[123] ، وأننا لو أخذنا ما جاء في سفر " التكوين " عن الفيضان على حرفيته لكان علينا أن نصدق أن هذا الفيضان قد غمر وجه البسيطة كلها بعمق خمسة أمتار ، وهو ما لا علاقة له بالتاريخ البتة[124] . ويرجع التفسير المذكورذلك إلى أنه لم تصلنا أية سجلات مكتوبة لتاريخ بني إسرائيل إلا بعد إبراهيم بألف عام ، وأن ما هو مكتوب في سفر "التكوين" إنما كتب بعد ذلك بعدة قرون ، ولذلك لا ينبغي أن نتوقع الدقة التاريخية بمعناها الحالي في هذه الأصحاحات لا في الأحداث ولا في الحوار[125]. كذلك يذكر أن الصيغة الحالية للعهد القديم لا ترجع إلى أبعد من ثلاثمائة سنة قبل عيسى عليه السلام على أبكر تقدير ، أي بعد تسعة قرون من حدوث من حدوث الوقائع التي يحكيها سفر "العدد"[126] . وهو ما يقوله تقريبا التفسير الذي سلفت الإشارة إليه ، إذ يؤكد أنه لا يوجد حاليا أي عالم له أي حظ من الشهرة يعتقد أن التوراة ، على ما هي عليه الآن ، قد كتبها موسى[127] .
أما إدوارد كلد فإنه يشير في كتابه Childhood of Religions إلى أنه حتى في ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية توجد أخطاء بعضها متعمد ، وبعض هذه كانت بأمر الملك نفسه ، وأن هذه الأخطاء يجري تصحيحها من قبل العلماء الأثبات ، وأن هناك إضافات ( بالحروف المائلة ) في الترجمة لم تكن في الأصل ، وأن هذه الإضافات تجعل المعنى في بعض الأحيان غامضا[128] .
وبعد فهذه مجرد أمثلة سريعة . ويمكن للقارئ الذي يريد الاستزادة أن يرجع بنفسه إلى الكتب المذكورة هنا وما أشارت إليه من مراجع ، وكذلك إلى الكتاب القيم الذي ألفه د. موريس بوكاي ونشرته دار المعارف مترجما إلى العربية بعنوان " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة " .
والآن يثور السؤال الآتي : ماذا كان رد الفعل لدى المؤمنين بالكتاب المقدس بعد تعرية ما يتضمنه من أخطاء تاريخية وعلمية فادحة ؟ إن عقيدة الكتاب المقدس تقوم على أن الوحي هو كلام الله لفظا ومعنى . ولكن المحدثين أصبحوا يعترفون بدور لكاتب الوحي في عملية التدوين[129] . إنهم يفرقون بين الوحي من ناحية الشكل وبينه من ناحية المضمون . فمن الناحية الأولي يرون أنه خلق أدبي للكاتب . ومن الناحية الثانية يقولون إنه صادر عن الله[130] . إن الوحي ، في نظرهم ، لا يلغي شخصية الكاتب ، بل إن ظروفه تتدخل في الصياغة ، ويمكن أن يقع تحريف في النص ، ومن ثم فلابد ، كما يقولون ، من عملية النقد والتمحيص[131] . وهو نفس ما قاله من قبل معجم Hook’s Church Dictionary الذي يرى أن الأنبياء وكتبة الكتاب المقدس قد أدوا ما تلقوه من الوحي كما هو بدون أدنى خطإ (من الناحية اللاهوتية)، ولكن هذا لا يصدق على الأخطاء النحوية والعلمية[132] .
إذن فقد تم الاعتراف بما في الكتاب المقدس من أخطاء تاريخية وعلمية ، بيد أن المؤمنين به ، كما رأينا ، لا يسلمون بسهولة ، إذ اخترعوا نظرية لتسويغ استمرار إيمانهم به رغم هذه الأخطاء . وهذه النظرية تتلخص في أن ما فيه من أفكار ومعتقدات لاهوتية ومبادئ أخلاقية مصدره الله ، أما المعلومات العلمية فهي بشرية تفسرها ثقافة كاتب الوحي ومزاجه ودرجة التقدم العلمي في عصره[133] . والقائلون بهذا يرددون أن خلاص البشر لا يتوقف على دقة المعلومات التاريخية والعلمية ، فهذه المعلومات نتاج بشري ، وهي تخضع لسنة التطور ، وأنه لا يمكن من ثمة مطالبة كاتب الوحي بسبق زمانه ، وأن الكتاب المقدس ليس كتابا مدرسيا ، أي أن وظيفته ليست تقديم معلومات علمية دقيقة[134] .
لقد تحطمت النظرية القديمة حول عصمة الكتاب المقدس إذن على أيدي البحوث العلمية والتاريخية . والحق أنه لولا أننا مقيدون بعنوان هذا البحث لبينا كيف أن الجانب اللاهوتي والأخلاقي هو أيضا لم يسلم من الأخطاء والتحريفات . وصدق الله العظيم ، الذي يقول في قرآنه في أهل الكتاب : "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم من كتبت ايديهم ، وويل لهم مما يكسبون"[135] .
ومع ذلك فإن النظرية الجديدة لا تحل المشكلة ، بل تعكس تهربا من الحقيقة الساطعة ، حقيقة أن الكتاب المقدس ، كما هو الآن ، ليس وحيا إلهيا ، وأن لم يخل كما سبق القول من قبسات من النور الإلهي . لقد نسي أصحاب هذه النظرية أن صياغة الوحي الإلهي في عبارات تتضمن معلومات علمية خاطئة لابد أن يكون لها تأثير ضار على هذا الوحي ، إذ يفقده قداسته . وإن الإنسان ليتساءل : لماذا ترك الله سبحانه المضمون العقيدي والأخلاقي يكتسي ثوبا لا يليق به ، ثوبا مهلهلا على النحو الذي رأينا ؟ كيف لم يوح سبحانه المضمون والشكل دفعة واحدة ؟ لقد قيل في تسويغ هذا إن الله سبحانه لا يتكلم بأصوات وكلمات ، ولذا فهو قد اكتفى بالإيحاء بالفكرة[136] . ولكن قائلي هذا قد نسوا أيضا أن الله سبحانه لا يفكر كما نفكر ، فكيف يقال إنه أوحى بالفكرة ولم يوح باللفظ ما دام الأمر في الحالين واحدا ؟ أو على الأقل لم كان لابد أن يصوغ متلقي الوحي المضمون الإلهي في عبارات تتضمن معلومات خاطئة ؟ ولم لم يجنبه الله الأخطاء التي وقع فيها ؟ وهذا طبعا إن سلمنا بصحة المضمون العقيدي والأخلاقي ، وهو ما لا نسلم به .
والآن جاء دور القرآن . ولست أنوي أن أناقش كل الآيات المتعلقة بالعلم في القرآن المجيد ، فما أكثر الكتب التي قامت بهذه المهمة ، وإن غالى بعضها في الربط بين حقائق العلم الحديث ونظرياته وبين بعض الآيات التي يصعب على الدارس الموضوعي أن يرى فيها شيئا قاطعا أو على الأقل واضحا يربطها بالحقائق العلمية الثابتة ، دعك من أولئك الذين يرون في بعض الآيات أشياء لا وجود لها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وإنما سأكتفي بإيراد عدد من الآيات التي بهذا الشكل ، وسأقف عند بعضها مستأنيا بعض الشيء . اقرأ مثلا هذه الآيات الكريمة ، وراجع بنفسك تفسيرها في ضوء العلم الحديث : "ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ... "[137] . "وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات"[138] . "وينزل من السماء من جبال فيها من برد"[139] . "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين"[140] . "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين"[141] . "وجعلنا من الماء كل شيء حي... "[142] . "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث"[143] . "والشمس تجري لمستقر لها . ذلك تقدير العزيز العليم . والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار . وكل في فلك يسبحون"[144] . "فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب"[145] .
ولنعد مرة ثانية إلى الدكتور بوكاي ، الذي يقول : "ومن الثابت فعلا أنه في فترة تنزيل القرآن ... كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ قرون ، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقا لنهاية تنزيل القرآن . إن الجهل وحده بهذه المعطيات الدينية والدينوية هو الذي يسمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت بعضهم يصوغونه أحيانا ، والذي يقول إنه إذا كان القرآن فيه دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب هو تقدم العلماء العرب على عصرهم ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بالتالي قد استلهم دراساتهم . إن من يعرف، ولو يسيرا ، تاريخ الإسلام ، ويعرف أيضا أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحق لمحمد صلى الله عليه وسلم ، لن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية . فلا محل لأفكار من هذا النوع ، وخاصة أن معظم الأمور العلمية الموحى بها أو المصوغة بشكل بين تماما في القرآن لم تتلق التأييد إلا في العصر الحديث . من هنا ندرك كيف أم مفسري القرآن ( بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الإسلامية العظيم ) ، قد أخطأوا حتما وطيلة قرون ، في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق"[146] .
وهنا نصل إلى الآيات التي ذكرت آنفا أنني أحب أن أستأنى عندها قليلا ، فقد وجدت في التفاسير القديمة ما يؤكد هذا الذي يقوله الدكتور بوكاي ، ففي تفسير قوله تعالي : "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ذللا ، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس ... "[147] ، إذ يقول الشريف الرضي : " والعسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل ، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار وأضغاث النبات ، لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة وعلى أوصاف معلومة . والنحل تتبع تلك المساقط ، وتعهد تلك المواقع فتنقل العسل بأفواهها إلى كوراتها ، والمواضع المعدة لها ، فقال سبحانه : "يخرج من بطونها" والمراد "من جهة بطونها" ، وجهة بطونها أفواهها . وهذا من غوامض هذا البيان وشرائف هذا الكلام"[148] . فانظر كيف أن العلماء المحققين حتى عصر الشريف الرضي ( القرن الخامس الهجري ) يقررون أن العسل لا يخرج من بطون النحل ، ومن ثم عد هو قوله تعالى : "يخرج من بطونها شراب ..." مجازا من مجازات القرآن ، التي أدار عليها كتابه الذي اقتبسنا منه النص السابق . والصواب هو ما قاله القرآن من أن العسل يخرج فعلا من بطون النحل ، التي تجمع الرحيق ، ويتحول في معدتها إلى عسل تقوم بإفرازه بعد ذلك[149] .
وفي خطأ مشابه يقع الإمام الباقلاني، إذ يعد قوله تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء... "[150] نوعا من التعميم في التعبير ، فقد ظن أن القرآن ، حينما قال إن كل الدواب مخلوقة من ماء ، لم يقصد أن القرآن أنها كلها كذلك بل بعضها فقط ، ولكنه عمم القول . فماذا يقول علماء العصر الحديث ، الذين قتلوا هذا المسألة بحثا ؟ " الثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي ، وأن الماء هو العنصر الأول المكون لكل خلية حية ، فلا حياة ممكنة بلا ماء . وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما فإن أول سؤال يطرح هو : أيحتوي هذا الكوكب على كمية من الماء للحياة عليه ؟"[151] والطريف أن الباقلاني قال قوله ذاك دفاعا عما ظنه الملحدون في عصره مطعنا في القرآن الكريم . وهذا نص كلامه : " وأما قوله عز وجل : "والله خلق كل دابة من ماء ..." قال الملحدون : وفي هذه الآية إحالة من وجوه ، أحدها أنه خلق كل دابة من ماء وليس الأمر كذلك ، لأن منها ما يخلق من بيض وتراب ونطف ... والجواب أن قوله "كل" لا يقتضي استغراق الجنس ، بل هو صالح للتعميم والتخصيص . ولو ثبت العموم لجاز تخصيصه إذا علمنا أن من الدواب ما لم يخلق من ماء . على أن من الناس من يقول : أصل الأشياء كلها أربع : الماء والهواء والنار والأرض ، وكل دابة مركبة من بلة ورطوبة"[152] . والآياتان السابقتان وتعليق الشريف الرضي والباقلاني عليهما لا يحتاجان إلى تعقيب ، اللهم إلا القول بأن هذين العالمين قد أتيا بعد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة قرون أحرز المسلمون أثناءها تقدما علميا كبيرا جدا بالقياس إلى معارف العرب بل والعالم كله في عصر الرسول ، ومع ذلك فالقرآن على صواب وهذان العالمان ، وهما يعكسان معارف عصريهما ، هما المخطئان .
ويمكن أن نلحق بهاتين الآيتين قوله تعالى : "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ... "[153] ، فقد فسر البيضاوي ، وهو متأخر نسبيا (عاش في القرن الثامن الهجري) ، عبارة "كأنما يصعد في السماء" على النحو التالي : "شبهه (أي شبه الله من يريد أن يضله) ، مبالغة في ضيق صدره ، بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء ، مثل فيما يبعد عن الاستطاعة . ونبه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود . وقيل : معناه : كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه" . أما تفسير الآية في ضوء مكتشفات العلم التجريبي فهو أن الذي يضله الله يشعر بنفس ضيق الصدر الذي يحسه الصاعد في طبقات الجو العليا حيث الهواء مخلخل فلا تجد الرئتان كفايتهما من الهواء والأكسجين[154] . وأنا ، وإن لم أكن متخصصا في أي فرع من العلوم الطبيعية ، يصعب على أن أوافق الدكتور موريس بوكاي ، الذي يؤكد أن هذه الآية تعبر عن فكرة عادية تماما ، والذي يخالف من يقولون إن فكرة ضيق التنفس كانت مجهولة عند العرب في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأن وجود مرتفعات عالية تربو على ٣٥٠٠ متر في شبه الجزيرة العربية يجعل من غير المنطقي ، في رأيه ، القول بجهل صعوبة التنفس الناشئة عن الارتفاع[155] . وتنهض مخالفتي للدكتور بوكاي على أساس أن الآية تتحدث عن "التصعد في السماء" وهو ما لم يكن متاحا لأي إنسان في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام (بغض النظر عن حادث المعراج) ولا فيما بعده ببضعة عشر قرنا ، لا "التصعيد في الجبال" كما يفيد كلامه . كذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ، كما نعرف من سيرته الشريفة ، لم يصعد غير جبلي حراء وثور ، أولهما في فترة التحنث السابقة على البعثة ، والثاني في طريقه هو وأبي بكر إلى يثرب . ولم ترد في السيرة أية إشارة ، ولو من بعيد ، إلى أي أثر لهذا الصعود على جهازه التنفسي عليه الصلاة والسلام . بل إني لا أذكر أن أحدا من كتاب السيرة في العصر الحديث ممن صعد هذين الجبلين قد ألمح إلى مثل هذا الأثر ، على رغم حرصهم الشديد على تسجيل كل ما يعتريهم أثناء ذلك من تأثرات عضوية أو نفسية . ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد زار صنعاء ، التي يشير إليها الدكتور بوكاي[156] . بل إني أستبعد أن يكون سكان مثل هذه المدن العالية في ذاك العصر ، حتى لو كانوا أحسوا بشيء من هذا ، قد تنبهوا إلى السبب الحقيقي لذلك . وأحب أن أكرر القول ، كيلا ننسى ، أن القرآن يتحدث عن "التصعد في السماء" لا "التصعيد في الجبال" . ثم ها هي كتب التفسير القديمة ، لا تجدها حين تبلغ هذه الآية إلا تقول إن المقصود هو أن الكافر الذي أغلق قلبه يستحيل عليه الإيمان كما يستحيل على بشر أن يصعد في السماء ، وهو ما يدل دلالة قاطعة على أن فكرة ضيق التنفس المشار إليها كانت مجهولة لدى هؤلاء المفسرين ، الذين كانوا بلا شك يعيشون في ظل حضارة متقدمة أعظم التقدم بالقياس إلى الحياة البدائية التي كان يحياها عرب الجاهلية وعصر المبعث.
وثمة آية أخرى أراني ، رغم عدم تخصصي كما سلف القول في أي من العلوم الطبيعية ، مضطرا إلى أن أخالف ، في تفسيرها ، الدكتور بوكاي ، الذي يكرر كلام المفسرين القدامى . وهذه الآية هي : "وهو الذي مرج البحرين : هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا"[157] . وفي تفسيرها يقول د.بوكاي : "معروفة تلك الظاهرة التي كثيرا ما تشاهد عن عدم الاختلاط الفوري لمياه البحر المالحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة . ويرى البعض أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصب نهري دجلة والفرات ، اللذين يشكلان بالتقائهما بحرا ، إذا جاز القول ، طوله أكثر من ١٥٠كم ، هو شط العرب . وفي الخليج ينتج تأثير المد ظاهرة طيبة هي انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضي ، وذلك يضمن ريا طيبا"[158] . والحقيقة أن هذا التفسير غير مقنع : فمن الناحية اللغوية يصعب علي أن أوافق العالم الفرنسي ومفسرينا القدامى على أن أداة التعريف في "البحرين" هنا هي للعهد ، الذي قيل على أساسه إن "البحرين" المذكورين هما دجلة والفرات . إن الآيات السابقة تتحدث عن الظل (الظلام) والرياح والماء والأنعام والأناسي ، وهي مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلام بعينه ولا رياح بعينها ولا ماء معين ولا أنعام ولا أناسي مخصوصة ، فلم يقال إذن إن "البحرين" هنا هما بحران معينان (دجلة والفرات) ؟ إن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام ، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضي أن يكون "البحران" أيضا هما "النهر والبحر" بإطلاق ، أي أن (ال) فيهما هي (ال) الجنس لا العهد . فهذا من ناحية اللغة والبلاغة ، فضلا عن ذلك فإن ماء النهر ، مهما توغل بقوة اندفاعه إلى مدى بعيد في داخل البحر أو المحيط ، يختلط في النهاية بمائهما ، ومن ثمة فإن ظاهر الأمر أن النهر يبغي في البداية على البحر ( عندما شق ماءه الملح وأزاحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغي في النهاية عليه ( عندما اختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذي أفقده خاصية العذوبة وأعطاه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ إذن والحجر المحجور ؟ أما "المنتخب في تفسير القرآن" فإنه يقول في هامش خصصه للتعليق على هذه الآية إنها ربما " تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تاما ، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق : يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بغي أحدهما على الآخر وحجرا محجورا ، أي حاجزا خفيا مستورا لا نراه " . لكن ثمة نقطة هامة يبدو لي أن كاتبي هذا التعليق ، على رغم جدته وطرافته (بالنسبة لي على الأقل) قد أغفلوها ، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان في الشقوق على هذا النحو لا يمكن تسميتهما بحرين . ثم إذا كان الماءان في هذه الظروف لا يلتقيان ، فإنهما في عرض البحر والمحيط يلتقيان ويتمازجان ويصبحان في النهاية ماء واحدا ، كما قلنا من قبل . يبدو لي ، والله أعلم ، أن البرزخ المذكور في هذه الآية هو القوانين التي بمقتضاها بقى كل من الماء العذب والملح كل هذه الدهور المتطاولة التي لا يعلم مداها إلا الله ، وسيبقيان إلى أن يرث الله الأرض والسماوات موجودين، فالأنهار تصب في البحار والمحيطات ، وكان المفروض ، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد ، أن يختلط الماءان اختلاطا دائما ، فلا ينفصلان بعد ذلك أبدا ، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض ماء ملحا . بيد أن التقدير الإلهي قد شاء أن يقوم البحر بحمل الماء من البحار والمحيطات ، فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماء عذبا كما كان ، وهكذا دواليك . وهكذا أيضا يبقى الماء العذب والماء الملح ، ويتعايش البحران دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويقضي عليه. فهذا هو البرزخ وهذا هو الحجر المحجور ، فيما أفهم ، والله أعلم . كما يبدو لي أن هذه الآية ، إلى جانب امتنانها على العباد بهذه النعمة الإلهية ، تتضمن معنى مجازيا ، فإني أظن أن المقصود بالماء العذب هنا المؤمنون وبالماء الملح الكافرون ، والمعنى هو أن الإيمان والكفر سيبقيان إلى آخر الدهر لا يستطيع أحدهما أن يقضي على الآخر تماما . والذي دعاني إلى هذا التفسير هو ما فهمته من أولى الآيات التي تتحدث عن ظواهر الطبيعة في السياق الذي وردت فيه آيتنا هذه ، والآية التي إليها هي : "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ، ولو شاء لجعله ساكنا ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا . ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا"[159] . أما المعنى المجازي الذي لمحته فيها ، بجانب معناها الظاهري ، فهو أن الله يطمئن الرسول أن كفر قومه ، المرموز إليه هنا بالظل (أي الظلام) ، إن كان الآن ممدودا فإن الله قابضه رويدا رويدا ، ومبزع شمس الإيمان عما قليل . والذي أوحى إلي بهذا المعنى هو السياق الذي وردت فيه هذه الآية هي وآية "وهو الذي مرج البحرين ..." ، فقد كان المولى سبحانه يتكلم عن الأمم السابقة التي كذبت برسلها عنادا وطغيانا ، فأهلكها الله بعد أن كانت مستعزة بقوتها وانتشار سلطانها ، فبدت لي النقلة إلى الحديث عن بعض الظواهر الطبيعية غير مفهومة إلا في ضوء هذا المعنى المجازي .
ونأتي الآن إلى آخر آية أحب أن أتريث عندها قليلا ، وهي قوله تعالى : "وما يستوي البحران : هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج . ومن كل تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون حلية تلبسونها ..."[160] . فما أكثر ما قرأت هذه الآية ولكن لم ألتفت إلى ما تنبهت إليه وأفزعني منذ فترة ليست بالبعيدة ، وهو ما تؤكده الآية من أن الحلي تستخرج من النهر والبحر كليهما ، إذ إن الذي كنت أعرفه حتى ذلك الوقت هو أن اللؤلؤ والمرجان ( المذكورين في آية مشابهة في سورة "الرحمن" ) لا يوجدان إلى في البحار . وقفز السؤال إلى عقلي على الفور مفزعا : " أيمكن أن يكون القرآن قد أخطأ ؟ " . إن هناك عدة آيات مشابهة في سورة "الرحمن" ، ولكنها لا تثير أية مشاكل ، فنصها هو : "مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"[161] ، ومعناه أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين لا من كل منهما ، كما تقول : " إن في يدي هاتين مائة جنيه " ، ويكون المبلغ كله في اليد الأولى بينما الثانية خلو تماما من أي نقود ، ولا تكون قد عدوت الحقيقة . أما آية سورة "فاطر" فإنها تقول بصريح العبارة : " ومن كل ... تستخرجون حلية تلبسونها " . ولم تسعفني ما عندي من تفاسير قديمة ، فأخذت أقلب نظري في أرفف مكتبتي وأنا حائر ضائق ، وإذا بي ألمح ترجمة يوسف علي للقرآن فأفتحها فأجد فيها شفاء نفسي ، إذ يذكر المترجم رحمه الله ( في تعليقه على هذه الآية في الهامش ) من الحلي البحري اللؤلؤ والمرجان ، ومن الحلي النهري العقيق وبرادة الذهب وغيرهما . ثم رجعت بعد ذلك إلى دائرة المعارف البريطانية ( مادة Pearl ) و"المنتخب في تفسير القرآن الكريم " فوجدت أن اللؤلؤ يوجد أيضا في المياه العذبة[162] . وكأن الكتاب الأخير يرد على حيرتي ، إذ يقول : " وقد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرا للحلي ، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك . أما اللؤلؤ فإنه ، كما يستخرج من أنواع معينة من البحر، يستخرج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان ... إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة ، ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس ، الذي يستخرج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة . ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من باندالاس في بروما العليا . أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالبا في الرواسب النهرية . ومن الأحجار شبه الكريمة التي تستعمل في الزينة حجر التوباز ويوجد في الرواسب النهرية في مواقع كثيرة منتشرة في البرازيل وروسيا ( الأورال وسيبيريا ) وهو فلورسيليكات الألمونيوم ، ويغلب أن يكون أصفر أو بنيا . والزيركون CIRCON حجر كريم جذاب تتقارب خواصه من خواص الماس ، ومعظم أنواعه الكريمة تستخرج من الرواسب النهرية"[163] . وحتي يقدر القارئ رد فعلي الأول حق قدره أذكر له أنه حتى بعض المترجمين الأوربيين في العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر الحلي . وقد تجلى هذا في ترجمتهم لهذه الآية ، فمثلا نرى رودويل الإنجليزي يترجم الجزء الخاص بالحلي منها هكذا :
Yet from both ye eat fresh fish, and take forth for you ornaments to wear.
فعبارة "from both" تصلح لترجمة آية سورة "الرحمن" لا هذه الآية . كذلك ينقل رودي باريت هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالي :
"Aus beiden ebt ihr frishes feisch"
إلى هنا والترجمة صحيحة ، هذه العبارة تقابل بالضبط قوله تعالى : "ومن كل تأكلون لحما طريا" وإن كان استخدم في مقابل طريا كلمة "frish" ومعناها الدقيق "طازج" . لكن تنبه لترجمته للجزء الآتي الذي يقول فيه :
Und (aus dem Salzmeer) geurnnt ihr scmuck….. um ihm euch anzulegen.
والذي ترجمته : "وتستخرجون (من البحر المالح) حلية تلبسونها" . ويرى القارئ أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة : "من البحر المالح : aus dem Salzmeer " ، وهو ما يوحي باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلي على ما تقول الآية الكريمة . (أما ترجمة سيل وبالمر (الإنجليزيتان) وترجمتا كازيمريسكي وماسون (الفرنسيتان)، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين (الألمانيتان) على سبيل المثال فقد ترجمت كلها النص القرآني كما هو ، ولكنها لزمت الصمت فلم تعلق بشيء .
ويرى القارئ من هذا الآية بالذات كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة يستبعدها واحد مثلي يعيش في القرن العشرين ، وآخرون مثل المستشرق الإنجليزي رودويل ونظيره الألماني رودي باريت ، فكيف عرفها الرسول عليه الصلاة والسلام إذن وأداها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن ، وبخاصة أن الأنهار التي ذكر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تستخرج منها تقع في بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية ، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم تكتشف إلا في العصور الحديثة.
فإذا قارنا بين الكتاب المقدس والقرآن في هذا الصدد راعنا أن المؤمنين بالكتاب المقدس كانوا يصدقون تصديقا أعمى بكل ما جاء فيه على حرفيته على أساس أن كل كلمة بل كل حرف فيه وحي إلهي ، ثم اضطروا اضطرارا تحت مطارق الحقائق العلمية القاطعة إلى أن يهجروا هذه النظرية إلى نظرية أخرى ملخصها إنه لا ينبغي أن يؤخذ النص على حرفيته ، بخلاف بعض مفسري القرآن الكريم القدماء الذين كانوا يرون في بعض الآيات لونا من المجاز أو توسعا في التعبير ، ثم جاءت المعارف العلمية القاطعة فأثبتت أنهم كانوا مخطئين في هذا الموقف وأن الآيات تعني تماما ما عبرت عنه .
المراجع
l القرآن الكريم .
l الكتاب المقدس .
l ابن حزم ، الفصل في الملل والأهواء والنحل / مكتبة السلام العالمية / القاهرة .
l د. إبراهيم عوض / تفسير سورة التوبة / ١٩٨٧ .
l د. أحمد زكي / مع الله في السماء / كتاب الهلال / عدد ٣١١ / نوفمبر ١٩٧٦ .
l البيضاوي ( تفسير ) .
l د. توفيق الطويل / في تراثنا العربي والإسلامي / عالم المعرفة / عدد ٨٧ / مارس ١٩٨٥ .
l الجلالين ( تفسير ) .
l الزمخشري ( تفسير ) .
l الشريف الرضي / تلخيص البيان في مجازات القرآن ( تحقيق محمد عبد الغني حسن ) ط / ١ .
l مالك بن نبي / الظاهرة القرآنية ( ترجمة عبد الصبور شاهين ) / مكتبة دار العروبة / القاهرة / ١٩٥٨ .
l محمد عبده ، الإسلام بين العلم والمدنية / كتاب الهلال / عدد ٣٨٥ يناير ١٩٨٣ .
l محمد عبده / رسالة التوحيد / كتاب الهلال / عدد ٣٥٥ / يولية ١٩٨٠ .
l محمد فؤاد عبد الباقي / المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
l محمود شلتوت / تفسير القرآن الكريم / الأجزاء العشرة الأولى / دار القلم / القاهرة / ط ٢ .
l المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
l د. موريس بوكاي/ القرآن والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / دار المعارف / القاهرة ١٩٨٢ .
l الموسوعة الثقافية / دار الشعب .
l النسفي ( تفسير ) .
l همايون كبير / العلم والديمقراطية والإسلام ( ترجمة عثمان نويه ) / دار الهلال .
l Alexander Cruden, Cruden’s Concordance. The Epworth Press, London , 1952.
l Cambridge Companion to the Bible, Cambridge Univ. Press, 1892.
l C.H. Dodd, The Authority of the Bible, Fontana Books, 1960.
l Ch. Gore H.L. Goudge, A. Guillaume, A New Commentary on Holy Scripture Including the Apocrypha, London Society for Promoting Christian Knowledge, 1929.
l Edward Clodd, Childhood of Religions, Henry S. King & Co., London 1875.
l Encyclopedia Britannica, Vol. 5, ed. 14, 1938.
l George Townshend, Christ et Baha-u’llah, Maison d’Editions Baha’ies, Bruxelles, 2 ͤ ed., 1968.
l Georges Marchal, Promotion de l’Islam, Berget Leuault, Paris, 1957.
l J.D. Douglas (editor), The New Bible Dictionary, Inter-Varsity Press, London , 1972.
l Joseph Hubby, Christus-Manuel d’histoire des religions, Bauchesne et ses files, Paris, 1946.
l Maulana Sadr-ud-din, Der Koran, die Muslimische Mission , Berlin , 1964.
l Max Henning Der Koran, Reclam, Stuttgart , 1981.
l Rudi Paret, Der Koran, W. Kholhammer, Stuttgart , 1983.
l Stanley Cook, An Introduction to the Bible, Pelican Books, 1945.
l W.F. Hooks Hook’s Church Dictionary, London , John Murry, 1887.
l William Neil, William Neil’s One Volume Bible Commentary, Hodder & Stoughton, London – Sydney – Auckland – Toronto, 1973.
للمؤلف (هذه القائمة خاصة بسنة 1987م)
١ - الترجمة من الإنجليزية – منهج جديد .
٢- في الشعر الإسلامي والأموي – تحليل وتذوق .
٣ - في الشعر العباسي – تحليل وتذوق .
٤ - في الشعر الأندلسي – تحليل وتذوق .
٥ - في الشعر العربي الحديث – تحليل وتذوق .
٦ - فصول من النقد القصصي – رؤية جديدة .
٧ - من أعلام النقد القصصي – ( بالإنجليزية والعربية ) .
٨ - المستشرقون والقرآن .
٩ - مصدر القرآن – دراسة في الإعجاز النفسي .
١٠ - من الطبري إلى سيد قطب – دراسة في مناهج التفسير ومذاهبه .
١١ - تفسير سورة المائدة .
١٢- تفسير سورة التوبة .
١٣ - محمود طاهر لاشين .
١٤ - نقد القصة في مصر .
١٥ - NOVEL – CRITICISM IN EGYPT
١٦ - المتبني – دراسة جديدة لحياته وشخصيته .
١٧ - معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين – بحث موضوعي مفصل .
١٨ - لغة المتنبي – دراسة تحليلية .
١٩ - موقف الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ( تحت الطبع ) .
٢٠ - المتنبي بإزاء القرن الإسماعيلي في تاريخ الإسلام – لماسينيون ( ترجمة وتعليق ودراسة د. إبراهيم عوض ) – ( تحت الطبع ) .
رقم الايداع 8060 / 87
مطبعة الشباب الحر ومكتبتها
ت : ٣٩٠٧٦٢١ القاهرة
[1] بالنسبة لآيات الكتاب المقدس اعتمدت على الكتابين التاليين : " Cambridge Companion to the Bible " و " Cruden’s Concordance " أما بالنسبة لآيات القرآن فقد كان معولي في تتبعها على " المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم " لمحمد فؤاد عبد الباقي .
[2] خروج / ٣١ / ١ ~ ٦ . وانظر أيضا خروج / ٣٥ / ٣٠ ~ ٣٦ .
[3] أخبار الأيام الثاني / ١ / ١٠ .
[4] أخبار الأيام الثاني / ١ / ١٢ .
[5] مزامير / ١١٩ / ٦٦ .
[6] أمثال / ٢ / ٦ .
[7] دنيال / ٢ / ٢١ .
[8] العلق / ٥ .
[9] البقرة / ٣١ .
[10] يوسف / ٦٨ .
[11] الكهف / ٦٥ .
[12] الأنبياء / ٨٠ .
[13] النساء / ١١٣ .
[14] البقرة / ٢٨٢ .
[15] أمثال / ٣ / ١٣ ~ ١٥ . وانظر أيضا أمثال / ٨ / ١٠~ ١١ .
[16] أمثال / ١٩ / ٢ .
[17] إشعياء / ٥ / ١٣ .
[18] هوشع / ٤ / ٦ .
[19] البقرة / ٢٦٩ .
[20] الزمر / ٩ .
[21] المجادلة / ١١ .
[22] الجامعة / ١ / ١٧ ~ ١٨ .
[23] الجامعة / ١٢ / ١٢ .
[24] إشعياء / ٤٤ / ٢٥ .
[25] رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس / ١ / ٢٠ ، ٢٧ . وانظر ص / ١٠٧٩ ( آخر السطر االتاسع ما بعده ) من مبحث Le Christianism et L’ me antique لمؤلفيه Joseph Hubby و Pierre Rousselot حيث يشير الباحثان إلى حملة بولس على "حكمة هذا العالم" . (والبحث منشور في كتاب Christus, Manuel d’histoire des religions بإشراف Joseph Hubby) .
[26] رسالة يوحنا الأولى / ٢ / ٢٠ ، ٢٧.
[27] انظر مادة ( " Science " ) من Dictionary of the Bible لمحرره Wᵐ Smith مجلد / ٣ ص / ١١٦٠ ~ ١١٦١ . وانظر كذلك تفسيرا قريبا من هذا ، ولكن بدون هذا التفصيل في
A New Commentary on the Holy Scripture Including the Apocrypha لمحرريه Ch. Gore و H.L. Goudge و A. Guillaume ص / ٤٩١ (النهر الأيسر) .
[28] رسالة يوحنا الرسول الأولى / ٢ / ٢٠ ، ٢٧ .
[29] د. موريس بوكاي / القرآن والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / ١٤٠ .
[30] أمثال / ١ / ٧ .
[31] فاطر / ٢٨.
[32] إنجيل لوقا / ١٢ / ٤٢ ~ ٤٨ .
[33] إنجيل يوحنا / ٩ / ٤١ .
[34] الرسالة إلى العبرانيين / ١٠ / ٢٦ .
[35] البقرة / ٧٥ .
[36] البقرة / ٤٢ .
[37] البقرة / ٢٢ .
[38] البقرة / ١٢٠ .
[39] البقرة / ١٤٥ .
[40] النساء /١١٥ .
[41] انظر الشيخ محمود شلتوت / تفسير القرآن الكريم / الأجزاء العشرة الأولى / ٢٣٦ ~ ٢٣٧ .
[42] الشيخ محمد عبده / الإسلام بين العلم والمدنية / ١١٨ ~ ١١٩ . وانظر أيضا كتابه " رسالة التوحيد " / ١٨ ~ ١٩ .
[43] ملاخي / ٢ / ٧ .
[44] د. توفيق الطويل / في تراثنا العربي والإسلامي / ٧ ~ ٨ .
[45] السابق / ٩
[46] السابق / ١٤
[47] السابق / ٤٢
[48] السابق / ٤٧ .
[49] السابق / ٥٢ .
[50] السابق / ٥٧ .
[51] د. أحمد زكي / مع الله في السماء / ١٩ .
[52] همايون كبير / العلم والديمقراطية والإسلام / ٩ ~ ١٣ ، ١٩ ~ ٢٠ .
[53] يس / ٣٦ .
[54] النحل / ٨ .
[55] الإسراء / ٨٥ .
[56] يوسف / ٧٦ .
[57] طه / ١١٤ .
[58] التوبة / ١٢٢ . وانظر في تفسير هذه الآية واختلاف المفسيرن في فهم " النفر " هنا تفسيري لسورة " التوبة " / ٢٢١ ~ ٢٢٣
[59] النحل / ٧٨ .
[60] المؤمنون / ٧٨ .
[61] السجدة / ٩ والملك / ٢٣ .
[62] الأخقاف / ٢٦ .
[63] عبس / ٢٤ ~ ٣١ .
[64] الطارق / ٥ ~ ٨ .
[65] الأعراف / ١٨٥ .
[66] الروم / ٩ .
[67] ق / ٦ ~ ٧ .
[68] الغاشية / ١٧ ~ ٢٠ .
[69] العنكبوت / ٢٠ .
[70] الأعراف / ١٧٩ .
[71] الأنفال / ٢٢ .
[72] الحج / ٤٦ .
[73] سبأ / ٤٦ .
[74] الأعراف / ١٨٤ .
[75] الروم / ٣٠ .
[76] آل عمران / ١٩١ .
[77] الجاثية / ٢٤ .
[78] النجم / ٢٣ .
[79] النجم / ٢٨ .
[80] الحجرات / ١٨ .
[81] القصص / ٧٥ .
[82] يونس / ٦٨ .
[83] الأنعام / ١٤٨ .
[84] الأحقاف / ٤ .
[85] النساء / ٨٣ .
[86] النحل / ٤٣ والأنبياء / ٧ .
[87] البقرة / ١٧٠ .
[88] المائدة / ١٠٤ .
[89] الأعراف / ٢٨ .
[90] يونس / ٧٨ .
[91] لقمان / ٢١ .
[92] الزخرف / ٢٢ .
[93] الزخرف / ٢٣ .
[94] الأنفال / ٣٨ .
[95] الإسراء / ٧٧ .
[96] الأحزاب / ٣٨ .
[97] الأحزاب / ٦٢ والفتح / ٢٣ .
[98] فاطر / ٤٣ .
[99] آل عمران / ١٣٧ .
[100] النساء / ٢٦ .
[101] يس / ٣٩ .
[102] يونس / ٥ .
[103] الفرقان / ٢ .
[104] الرعد / ٨ .
[105] الحجر / ٢١ .
[106] المؤمنون / ١٨ .
[107] المرسلات / ٢١ ~ ٢٢ .
[108] الحجر / ١٩ .
[109] الرحمن / ٧ ~ ٨ .
[110] Georges Marchal, Promotion de l’Islam pp. 40-41, 50-51.
[111] السابق / ٤١ ، ٥٢ .
[112] السابق / ٥٦ .
[113] George Townshend, Christ et Bahá’u’llah, p. 41. وانظر ص / ٥٩ حيث يؤكد أن العرب كانوا سادة الدنيا في وقتهم في العلوم التجريبية .
[114] ابن حزم / الفصل في الملل والأهواء والنحل حـ / ١ / ٩٥ . والنص موجود في سفر " التكوين " / ٢ / ١٠ ~ ١٥ مع بعض الاختلافات في أسماء الأعلام . .
[115] السابق حـ / ١ / ١١٢ . والنص موجود بنفس عبارته تقريبا في سفر " التكوين " / ٣٥ / ٢٣ ~ ٢٦ .
[116] الفصل حـ / ٢ / ١٨ . والنص موجود ، مع اختلاف يسير في العبارة ، في إنجيل متى / ١١ / ١٨ ~ ١٩ .
[117] انظر في هذه القصة وتفصيلاتها متى / ٢٧ / ٣٦ ~ ٤٤ .
[118] انظر لوقا / ٢٣ / ٣٩ ~ ٤٣ .
[119] الفصل حـ / ٢ / ٤٤ .
[120] Encyclopaedia Britannica, Vol. 5, p. 636.
[121] A New Commentary on Holy Scripture Including the Apocrypha ص / ٣٨.
[122] السابق / نفس الصفحة .
[123] William Neil’s One Volume Bible Commentary, p. 31.
[124] السابق / ٣٢ .
[125] السابق / ٤١ وانظر أيضا ص / ١٢٠ .
[126] انظر السابق / ١٢٠ ~ ١٢١.
[127] A New Commentary on Holy Scripture p. 20.
[128] Edward Clodd, Childhood of Religions. Pp. 233-234.
[129] انظر مادة “Inspiration” من The New Bible Dictionary بإشراف J. D. Douglas ص / ٥٦٤ .
[130] السابق / ٥٦٥ .
[131] السابق / ٥٦٦ .
[132] Hook’s Church Dictionary, p. 403. .
[133] السابق / ٩٦٤ .
[134] انظر New Commentary on Holy Scripture, p. 39; William Neil’s One Volume Bible Commentary, pp. 13-14; Stanley Cook, An Introdution to the Bible, pp. 192-193 and C.H. Dodd, The Authority of the Bible, pp. 17, 23, 26, 28. .
[135] البقرة / ٧٩ .
[136] انظر C.H. Dodd / ٢٦ .
[137] البقرة / ٢٢٢ .
[138] الأعراف / ٥٧ .
[139] النور / ٤٤ .
[140] النحل / ٦٦ .
[141] المؤمنون / ١٣ ~ ١٤ .
[142] الأنبياء / ٣٠ .
[143] الزمر / ٦ .
[144] يس / ٣٨ ~ ٤٠ .
[145] الطارق / ٥ ~ ٧ .
[146] د. بوكاي / ١٤٥ ~ ١٤٦ .
[147] النحل / ٦٨ ~ ٦٩ .
[148] الشريف الرضي / تلخيص البيان في مجازات القرآن / ١٩٣ .
[149] انظر مادة " عسل النحل " في " الموسوعة الثقافية " . أما البيضاوي ، وهو متأخر عن الشريف الرضي بنحو ثلاثة قرون ، فإنه يأخذ بالتفسير الصحيح للعبارة ولكنه يذكر أيضا الرأي الآخر من غير تعقيب .
[150] النور / ٤٥ .
[151] د. بوكاي / ٢١٢ . وانظر كذلك تفسير هذه الآية في " المنتخب في تفسير القرآن الكريم " والتعليق العلمي في أسفل الصفحة .
[152] الباقلاني / نكت الانتصار لنقل القرآن / ٢٠٢ .
[153] الأنعام / ١٢٥ .
[154] انظر مثلا مالك بن نبي / الظاهرة القرآنية / ٢٨٧ .
[155] د. بوكاي / ٢٠٩ .
[156] المرجع السابق ( بالهامش ) .
[157] الفرقان / ٥٣ .
[158] د. بوكاي / ٢٠٥ . وانظر كذلك ، في تفسير هذه الآية ، البيضاوي والزمخشري والنسفي والجلالين مثلا .
[159] الفرقان / ٤٥ ~ ٤٦.
[160] فاطر / ١٢.
[161] الرحمن / ١٩ ~ ٢٢ .
[162] "المرجان" هنا هو اللؤلؤ الكبير
[163] "المنتخب في تفسير القرآن الكريم" في التعليق على الآية / ١٢ من سورة "فاطر"
HOME
رواية "العمامة والقبعة"
لصنع الله إبراهيم
وتيار الكتابة الاستمنائية!
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
فى منتصف تسعينات القرن المنصرم فكرتُ أن أجعل من "العمامة والقبعة" صورة غلاف لكتاب من كتبى كنت بصدد إصداره فى ذلك الحين عنوانه: "السجع فى القرآن"، وهو كتاب قمت بترجمة البحث المنشور فيه عن الإنجليزية ثم ألحقت به دراسةً تناولتْ ما يحتوى عليه من آراء كان لى بشأنها رؤية أخرى تختلف كثيرا عن رؤية المستشرق صاحب البحث. وكان فى ذهنى أن تشير القبعة إلى الطرف الغربى الذى يمثله المستشرق مؤلف الدراسة المذكورة، والعمامة إلى الطرف المسلم الذى أمثله أنا. بيد أن التصميم الذى أرانيه الطابع وقتها لم يعجبنى، فألغيته واستبدلنا به تصميما زخرفيا يقوم على بعض الأشكال الهندسية. ومع هذا فلى كتاب آخر اسمه "المستشرقون والقرآن" صدر فى طبعته الثانية منذ عدة سنوات (على وجه التحديد عام 2003م) يرى القارئ على غلافه صورة قبعةٍ رمزًا للاستشراق، ومعها صورة المصحف رمزا للقرآن، الطرف الثانى من المعادلة التى يشير إليها العنوان. من هنا رأيتُنى، عند وقوعى على بعض العروض النقدية فى عدد من المواقع المشباكية حول رواية "العمامة والقبعة" لصنع الله إبراهيم منذ أيام حين كنت أعسّ كعادتى بين الحين والحين وراء ما أحتاجه من كتبٍ وموادَّ منشورةٍ على المشباك، قد تحمستُ لقراءتها، وبخاصة أنها تتناول موضوعا حيويا وهاما، ألا وهو الحملة الفرنسية التى هجمت على مصر أواخر القرن الثامن عشر ودامت ثلاث سنوات إلى أن قيض الله سبحانه وتعالى لأرض الكنانة أن تتخلص من كابوسها المرعب.
والواقع أننى حين استطعت الوصول إلى كتاب صنع الله إبراهيم على المشباك وتنزيله بعد عدة محاولات فى الأشهر الماضية، فقد كنت أمنّى النفس بوليمة فنية تعوضنى عن الرواية الضئيلة الشأن التافهة القيمة التى قرأتها له فى منتصف تسعينات القرن الماضى وأصابتنى قراءتها بخيبة أمل لا توصف، إذ ألفيت مستواها الفنى متدنيا غاية التدنى، وموضوعها يدور حول السجن وما فيه من حرمان جنسى يؤدى بالمسجونين إلى الاستمناء، وإلى اللواط بمن يسوقهم حظهم التاعس من الصبيان المساكين إلى مرافقتهم فى السجن. ولهذا أطلقت على تلك الرواية، وعنوانها "شرف": "الرواية الاستمنائية". ذلك أننى لم أجد فيها تقريبا شيئا آخر، واستغربت أشد الاستغراب أن يعكف روائى تطنطن له الصحافة وأقلام الكتاب كل تلك الطنطنة على مثل هذه الموضوعات وكأنه مراهقٌ لا يفهم للحياة معنى إلا أنها مجال لتفريغ الشحنات الجنسية المهووسة عن هذا الطريق الشاذ. وهو ما ذكرنى بكاتب آخر قرأت له فى تلك الفترة أيضا قصة تافهة تدور حول صابونة يصطحبها شاب أزهرى إلى الحمام مصورا عملية الاستمناء ومجسدا رائحة الإفراز التى تشبه رائحة البيض، كل ذلك فى أسلوب وتصوير مغثٍّ، بل مقىِّء. وأغلب الظن أنه هو المقصود بالطالب الأزهرى، فتصرفاته وأخلاقه تشبه تصرفات الطالب المذكور وأخلاقه، كما أنه، رغم تمرده على الإسلام وكل ما يرتبط به، أزهرى صميم، وإن كان يخفى هذا عمن لا يعرفونه. وبالمناسبة فقد قرأت فى كتاب صنع الله إبراهيم: "يوميات الواحات" أنه، بعد وصلة تعذيب له ولزملائه فى بداية وصولهم إلى سجن أبى زعبل فى منتصف خمسينات القرن الفائت، وفى ذات الليلة التى مات فيها شهدى عطية، وكان نزيلا معهم فى ذلك السجن، لم يستطع هو النوم ليلتها إلا بعد أن "استمنى خفيةً" بنص تعبيره، ربما قياما بطقوس تشييع جثمان الفقيد لدى اليساريين! ولم لا، ولكل قوم طقوس خاصة يحرصون على تأديتها فى المناسبات الهامة المختلفة؟
والحق لقد أضحينا نطالع هذا وأشنع منه فى كل ما يكتب الآن من روايات على يد المتنورين والمتنورات، من بينها ما قرأته منذ أسابيع من هذا الأسلوب الكتابى المؤذى للذوق والخلق الكريم فى مقال لأحد كبار السن لا العقل ممن تراه فتقول فى الحال إنه "دَنَف" حسبما كنت أسمع الناس فى قريتى وأنا صغير يصفون كل من تنقصه "الـمَرْجَلَة"، وإن ظن صاحبنا أنه متنور أريب. وفى هذا المقال وفى أمثاله من المقالات نرى هذا "الدَّنَف" يسلط الضوء على عدد من الكاتبات الخارجات على الذوق والخلق والكرامة مشيدا بهن وبكسرهن لما يسميه هذا الصنف المتخلف من الكتاب بــ"التابو"، يقصد أنهن لا يلتزمن بأدب ولا بذوق ولا بعفة ولا بطهارة، ويقتبس من ذلك العفن المقيئ نصوصا دنسة كلها رجس ونجاسة. وإنى لأعجب لهذا اللون من النساء القارحات اللاتى لا يتمتعن بأية ذرة من الرقة ولا من الحياء واللاتى لا يجدن أى حرج فى الحديث عن "مؤخراتهن" ومقدماتهن وما يفعله الرجال بهن فى الفراش بتفصيل يبعث على الاستفراغ، ثم يدعين مع ذلك أنهن فى منتهى الرقة والحياء وأنهن لم يكنّ يعرفن أن الرجل يصنع هذا مع امرأته.
ونحن حين نقول هذا لا ننكر أن لغريزة لجنس لذتها، فإن من ينكر هذا لا يمكن أن يكون سوى منافق أو ناقص الرجولة إن كان رجلا، أو ناقصة الأنوثة شاذة فى تكوينها إن كانت امرأة، اللهم إلا إذا كانت "عاهرة بالسليقة" (بتعبير نجيب محفوظ) من أولئك النسوة اللاتى يتظاهرن فى كتاباتهن بأنهن يكرهن الرجال وسيرة الرجال، مع أنها لا تستطيع أن تقضى وقتها بعيدة عن سرير يفترسها فيه رجل، إلا أن للصنعة والتحرق للرواج عند الغربيين حكمهما الذى لا بد لأمثالها من النزول عليه. لكن هذا شىء، والتعرى على ذلك النحو غير الكريم بحجة الصراحة شىء آخر، وإلا فليتعرَّ البشر فى كل أحوالهم حتى وهم يقضون حاجاتهم بما يصاحب ذلك من مناظرَ وأصواتٍ وألوان ٍوروائحَ ما دامت الصراحة تجيز كل شىء، وبخاصة أن ها هنا أيضا لذة، ولذة كبيرة. ومعروف من تجارب التاريخ أن الاستسلام للشهوات هو باب الانهيار حتى لو تأخر انتظاره قليلا. وهو لا يتأخر إلا حين لا توجد فى مقابل الأمة المنفلتة أمةٌ فتيةٌ ضابطةٌ لشهواتها متطلعةٌ إلى العلا، فإنْ وُجِدَتْ مثل تلك الأمة فإنّ المجتمع الذى أسلم نفسه لشهواته ولم يستطع مقاومة لذتها ينهار أمامها كما ينهار قصر من الرمال، مثلما وقع، غداةَ سطوع شمس الإسلام، للدولتين الرومانية والفارسية فى مواجهة العرب، الذين كانوا فى الجاهلية لا يساوون شيئا ولا قيمة لهم... إلى أن جاء الإسلام وعلّمهم أن يمارسوا الضبط لشهواتهم ويتطلعوا إلى الأعالى، مع الإيمان بالله وبأنفسهم وقدرتهم على الإنجاز، مما يعرفه كل أحد، فكان الانتصار المدوى لهم، والانهيار الرهيب للفرس والروم. ثم دار الزمان دورته واستسلم العرب لشهواتهم ولم يعودوا يعملون على ضبط أنفسهم فحقت عليهم كلمة التاريخ وسنة الله فى خلقه، وانهاروا أمام أعدائهم الذين كانوا قبلا يرتعبون من مجرد ذكر اسمهم أمامهم.
والعرب والمسلمون الآن فى هذه الفترة السَّحْماء من تاريخهم لا يتحملون ضغطا آخر غير ما يعانونه من ضغوط، وبخاصة أنهم فى الدرك الأسفل من الجد والاجتهاد والعمل والإتقان، ودعنا من الإبداع، فليس لهم الآن فيه قليل ولا كثير، بعد أن كانوا هم سادة الدنيا فى العلم والعمل والطموح وأخذ الأمور مأخذ الجِدّ. فلو فتحنا باب الإغراء بالشهوات والنفخ فى ضرامها متابَعَةً لكل ساقطة لا ترى الدنيا إلا من خلال ...ــها حيث يقع "برهان عسلها" وتَسْوَدّ الدنيا فى وجهها ووجه من خلَّفوها إذا قيل لها: "تحشمى يا امرأة، واسترى ما ابتُلِيت به، ولا تتفسخى هكذا" لاشتعلت الدنيا وأحرقت النار كل شىء ولم نجد من يقف فى وجه ذلك الحريق المبير. وكم من هزائم وكوارث كان سببها الضعف أمام تلك الشهوات! والعارفون بخبايا الحياة يعلمون جيدا أن الزنا واللواط والخمر والميسر والتهافت على المناصب والأموال تمثل مخاطر رهيبة فى هذا الميدان. وأشدها الجنس: الشاذ منه والطبيعى على السواء، فلكل ساقطة لاقطة.
والصراحة فى مثل تلك الأمور تهيج الشهوات. ومرة أخرى لا أنكر أن الجنس لذيذ، فهو شهوة وضعها الله فى فطرتنا، وذكره فى القرآن وجعله من زينة الحياة الدنيا، ونبه النبى إلى أهميته وخطورته، وإن كان الإسلام قد دعا فى ذات الوقت إلى العفة والطهارة والاستعصام بالحياء والبعد عن الفحش. ومن ينكر ما فى الجنس من لذة فهو منافق أو شاذ التكوين النفسى أو الجسدى أو كليهما. إلا أن الحياة لا تقوم على اللذة وحدها ولا دائما، فما أكثر ما فيها من آلام ومتاعب وبلايا، ومن ينكر هذا أيضا فهو غبى، أو أنانى لا يهمه إلا جسده ولذته، وليذهب كل شىء بعد هذا إلى الجحيم. وما أسهل المرور من ثغرة أولئك الاستلذاذيين والاستلذاذيات إلى الإضرار بمصالح المجتمع والأمة. ولا يقل أحد: فها هم أولئك الغربيون يجرون وراء لذاتهم ولا يبالون بأى شىء آخر، ورغم هذا لم ينهاروا. نعم لا ينبغى التجج بذلك لأنهم لا يجرون وراء لذاتهم وحدها ولا بالطريقة التى يفعل لَذِّيّونا ولَذِّيّاتنا ممن يعبدون الجسد ويسبحون بحمده ويتخذونه معيارا وحيدا للحياة ولتقويمهم للحياة، بل ما زالوا يعملون ويجدون ويبدعون ويسعون وراء العلم. كما أنهم، حسبما قلت قبل قليل، لا يجدون فى مواجهتهم قوة تقدر على ممارسة الضبط لشهواتها ولديها الطموح للأعالى وتمتلئ حيوية وتوثبا مثلما كان حال العرب حين أتاهم الرسول بالإسلام وآمنوا به واعتنقوه بقلوبهم وعقولهم وصار دما فى عروقهم. ولو أن الذين يحاربون الأمريكان والبريطان فى العراق مثلا كانوا يستندون بظهورهم إلى الأمة كلها وكانت الأمة على شاكلتهم لانتهى أمر أمريكا وبريطانيا من التاريخ كله أيضا كقوتين عظميين. لكن المجاهدين المسلمين للأسف لا يستندون إلى مدد من أمتهم، بل يعملون وحدهم. ومع هذا فإن أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وكل أوربا تقريبا تقف شبه عاجزة فى العراق أمام تلك الثلة القليلة الزاهدة فى الدنيا الواضعة نصب عينيها الجنة والله. إن هذه المواجهة هى، فى جانب منها، مواجهة بين الاستسلام لشهوات الجسد وبين الاعتصام بالعفة والتأبى على الخنوع التام لتلك الشهوات، اللهم إلا ما يحلله الله. بل حتى هذا كثيرا ما يهملونه اهتماما منهم بما هو أجل وأخطر. لكن أنى للأوغاد العبيد لأجسادهم وشذوذهم وانحلالهم أن يفهموا هذا؟
وإلى القارئ مثالا من رواية لإحدى أولئك المنتميات لعالم القلم رغم أن مكانهن المناسب ليس هو دنيا الكتابة، بل الكباريهات التى تؤدَّى فيها رقصات "الإستربتيز" حيث تتجرد الراقصة العاهرة من ملابسها كلها وتعرض على الحاضرين سوأتها كاملة ينهشونها بعيونهن على راحتهم، زاعمات هن والقوادون الذين يلتقطونهن من زوايا الطريق ويشجعونهن على هذا أنهن فنانات. بل إن هؤلاء الراقصات لأفضل منهن ألف مرة، إذ هن يؤدين رقصاتهن فى مكان مغلق لا يرتاده إلا القليلون، كما أنهن يكتفين بتعرية سوآتهن دون أن يباشرن الجنس ولا يصفنه بتفصيلاته وألفاظه العارية أمام الدنيا كلها. تقول واحدة من كاتبات الإستربتيز وممارسات الجماع على الورق، ونحن ننقل ما ننقله هنا عن "الدنف"، ونستميح القراء الكرام أن يعذرونا فى نقل مثل هذا العفن، فناقل الكفر ليس بكافر، فضلا عن أننى أريد أن يعرف القراء مع أى صنف دنس من الكائنات نتعامل. ثم إن هذا الصنف لم يستر على نفسه، فهل نستر نحن عليه؟ تقول المحترقة نقلا عن "الدَّنَف": "كنت أصل إليه مبلّلة، وأول ما يفعله هو أن يمد إصبعه بين ساقيَّ، يتفقد العسل كما كان يسميه، يذوقه ويقبّلني ويوغل عميقا في فمي". لكنْ لشديد الأسف والأسى لم تشرح لنا الكاتبة المقصود بقولها عن نفسها إنها كانت تصل لعشيقها مبللة، وإن كان المعروف أن ذلك التعبير يعنى أن الشخص قد تبول على نفسه: هكذا هو فى العربية والإنجليزية والفرنسية: "to wet one's pants or oneself, mouiller sa culotte; faire pipi dans sa culotte". بارك الله فيها، وأدام ذواق عشيقها لعسلها، ولطحينتها أيضا النابعة من ناحيتها الأخرى حتى يكون طعامه عسلا بالطحينة، فيشرب ويأكل ملء فمه وبطنه هنيئا مريئا!
وتمضى الكاتبة حسبما يخبرنا "الدَّنَف" قائلة: "كنت أذهب إليه في الصباح قبل العمل. أصعد الدرج ركضا، أدق الجرس رنة خفيفة، فيفتح الباب فورا، وكأنه كان ينتظرني وراءه، نصف نائم. أرمي ملابسي وأدخل السرير ملتهبة، ألتصق به، وأبدأ في تشممه. يرفع الغطاء، وتمر يده على تفاصيل جسمي ببطء شديد، يتذوق عسلي بجدية راضية، وأتفقد بشفتي كل موضع من جسده، عيناي مفتوحتان وجسدي أيضا. بين تسرعي المتلهف، وتمهله المتلذذ، نجد إيقاعنا. يمر الوقت ولا نفترق، لا نتوقف: تحته، فوقه، إلى جانبه، منبطحة على بطني، راكعة على ركبتي. بين كل وضعية وأخرى، كان يردد جملة يقولها دائما: عندي فكرة. كانت أفكاره لا تنتهي، وأنا أحب أفكاره وفلسفته".
ويستمر "الدَّنَف" فى النقل فنقرأ: "كان يقول لي النساء نوعان: المرأة الخسة، والمرأة الجمرة، وأنا أسأله بخبث، وهو لا يرد، بل يجذبني إلى صدره وأرتمي عليه، ويقبل عيني وشفتي، وأنا أمص ريقه، ويحسس على بطني، وأفتح ساقي، ويدخلني عميقا ليحترق معي، أود أن أسأله: والرجال كم نوعا؟ وتنسيني متعتي ولذتي كل الأسئلة". وتقول فى موقع آخر من القصة أيضا: "ما كنت أمشي معه في الشارع العام، وما كان يمشي إلى جانبي، من دون أن يضع يده على مؤخرتي، يتحسسها من فوق الثياب أو على اللحم مباشرة. أصرخ مبتعدة عنه: مجنون، نحن في الشارع العام. قد يرانا الناس! كنت جبانة، وحريتي الجنسية العملية لا تعبر عن نفسها إلا بعيدا عن عيون الآخرين. كان يقول: تلفتين نظر الناس عندما تبتعدين عني. إنهم لا يَرَوْن شيئا. لا أحد ينظر إلينا لو تابعتِ السير بهدوء. يرد عليَّ وعلى استهجاني، وهو يعيد يده إليَّ، إلى مؤخرتي، وأنا أشهق رغما عني، والتصق به، وأنسى العيون الغريبة. صار يبحث عن باب أول عمارة نمر قربها كي يجذبني إلى داخلها، ويقبل شفتي، ويمص لساني، ويتحسس صدري. بداية كنت مضطربة، وبمرور الوقت تعودت، وصرت أمشي إلى جانبه، وعيناي تبحثان معه عن أي مكان يمكنني فيه أن أقبّله وأمص لسانه وأتحسس جسده". وتتابع واصفة لقاءها مع "المفكر" عشيقها: "المفكر هو عشيقي؟ لم يخطر لي هذا أبدا. هل يمكن أن أكون عشيقة؟ لرجل لا أريد منه إلا أن يحضنني في مكان مغلق؟ ثم أذهب بعد في التأويل لأن المفكر قال لي كعادته: عندي فكرة. فيقترب من السرير، وأنبطح أنا على بطني رافعة ظهري، معتمدة على ذراعي. هو خلفي ولا أراه. تمر كفاه بإصرار، ترسمان حدودي من الكتفين إلى الفخذين لتستقرا على مؤخرتي، يشدني إليه، ألتصق به أكثر، كي أمتلأ به أكثر، أدفن وجهي في الوسادة لأخنق همهمات لذتي المتوحدة مع حركاتنا وكلماتنا. كنت أعرف أن الجماع ألذُّه أفحشه، ومع ذلك كنت أحاول أن أكتم حتى أنيني. يشدني إليه. وتلك الوضعية هي أكثر ما أحب، وأكثر ما يحب هو أيضا".
ويورد لنا "الدنف" ما قالته واحدة أخرى من كاتبات الإستربتيز ممارسات الجماع على أعين القارئين عن ليلة زفافها وهى تتأفف وتتبرم متظاهرة بالرقة والحياء، ومتصنعة السذاجة المفضوحة والطهارة الكاذبة، علىحين أن كل كلمة من كلامها الذى تصف به ما وقع إنما ينبئ عن عاهرة بالسليقة على رأى العم نجيب محفوظ: "هل تعرفين؟ حين تزوجت كنت أظن أن كل مشاكلي انتهت، ولكني اكتشفت أنني دخلت سجنا فيه كل أنواع العذاب. أنا، باني بسطانجي التي مُنِعَتْ طيلة حياتها حتى مجرد أن تفكر في ذَكَرٍ، بين ليلة وضحاها أصبح المطلوب مني أن أكون عاهرة في الفراش، أن أمارس كما يمارس هو، أن أسمعه كل القذارات، أن أمنحه مؤخرتي ليخترقها بعضوه، أن أكون امرأة منسلخة الكيان، أن أكون نسخة عنه وعن تفكيره. المشكلة تجاوزتني يا "شاهي"، ولهذا تطلقت. ما اخترقني لم يكن عضوه. كان اغتيالا لكبريائي. وفيما أشعل هو سيجارة انتصاره ليتمم بها متعته، قمت أنا منكسرة نحو الحمام. غسلت جرحي وبكيت. لم أكن احلم في تلك الليلة، فقد فاتني قطار الأحلام، وتركني واقفة على محطة مقفرة تنعق فيها غربان الخيبة. ليلتها لم يزرني الشاب الأسمر الذي لطالما حلمت به، لم يلامسني بغابته الصغيرة قبل أن استسلم للنوم تماما، ولم تحلَّ سمرته عليَّ كليل رومانسي جميل. كانت تلك ليلتي الأولى، بدون رجل. كانت ليلة تنزف بين الفخذين إهانة قاتمة، ليلة لا معنى لها، حولتني إلى كائن لا معنى له. حقارتي بدأت من هنا، من هذا الزواج الذي لا معنى له، من هذه المغامرة التي لم تثمر غير كثير من الذل في حياتي، وكثير من الانهزامية والتلاشي والانتهاء في غاية السخف. كانت تحدث لي أمور لا أفهمها، أمور تجعلني أنتهي، وأتوقف عند لحظة اتخاذي لقرار الزواج. خمس وثلاثون سنة، وأنا في انتظار عريس يليق بحجم انتظاري". بشرفك يا أنتِ (!ن كان لك شرف!) إن هذا، والحق يقال، لهو كلام القحاب القوارح لا كلام أديبة محترمة، لأنه لا علاقة له بالأدب، بل بقلة الأدب!
وأمثال هاتين المرأتين يُتَرْجَم قيئهما وبرازهما إلى كل لغات العالم وتتهافت عليهما كبار دور النشر فى الغرب والشرق. طبعا، ولم لا، وقد قدرتا على ما لم تقدر عليه أية امرأة حرة شريفة؟ أليستا قد فعلتا فى ميدان الأدب ما تفعله أية قحبة حين تعرّى جسدها وتأتى من الحركات وتصدر من الأصوات ما يشعل الشهوات النائمة دون تأثم أو حياء؟ وأين الفن والأدب فى هذا؟ إن هذا مما تستطيعه كل قحبة، على حين لا تقدر عليه الحرة الكريمة، وإن زعم كل عتل خسيس أن هذا فتح مبين، وأن المرأة حين تصنع ذلك فإنما تدفع الظلم عن نفسها وعن بنات جنسها. وبالله عليكم أيها القراء أى دفع للظلم فى أن تعرى هؤلاء النسوة سوآتهن على ذلك النحو؟ هل استطعن بهذا أن يحصلن على حقوقهن فى الميراث التى شرعها الله لهن ويريد البعض أن يحرمهن منها مثلا؟ هل كن محرومات من التعليم ثم أتت هؤلاء النسوة فناضلن حتى حصلن لهن على حق التعليم؟ هل كن يُكْرَهْن على الزواج ممن لا يردن ثم نجحت هؤلاء النسوة فى توطيد حق المرأة فى الموافقة على زوجها أو رفضه؟ هل كانت النساء يأخذن مرتبات أضأل من مرتبات الرجال رغم قيامهن بما يقوم به الجنس الخشن من عمل فاستطاعت أولئك المناضلات تأمين الحصول على نفس المرتب لهن ولبنات جنسهن؟ ومن أعجب العجب أن نجد واحدا من أشباه الرجال يصفق لهذا اللون من الكتابات النسائية بحجة أن المشباك (الإنترنت) يحتوى على صور وأفلام عارية متاحة ومباحة للجميع على عينك يا تاجر! فالحمد لله أن مثله لم يجد شيئا يتخذه ذريعة لهذه الكتابات إلا أشباهها من المواقع الساقطة بما فيها من مومسات يؤدين تلك المهمة القذرة. وهو ما يعنى أنه لا يجد موضعا يضع فيه أولئك الكاتبات إلا موضع المومسات اللاتى يتجردن من ملابسهن ويمارسن الفاحشة أمام عيون العالم كله لتهييج شهوات الرجال.
الواقع أنه لا إبداع فى حديث بعض النسوة عن مؤخراتهن ومقدماتهن وما يفعلنه بالتفصيل العارى فى الفراش بألفاظه وعباراته الجارحة دون تجمل أو حياء، وإلا فأية مومس تتناول هذه الموضوعات فى كلامها، وما أكثر ما يتناول المومسات هذه الموضوعات فى أحاديثهن، هى أديبة مبدعة. إن دنيا الإبداع واسعة شاسعة متناوحة الجوانب، بيد أن ثمة فريقا من أشباه الرجال لا يريدون من المرأة الكاتبة إلا فضح نفسها وهتك عرضها وكشف سوأتها مقبلة ومدبرة. وهناك قصة لها دلالتها فى هذا السياق، وهى أن إحدى الطالبات، وكانت تدرس فى الجامعة على يد ناقد من نقاد الحداثة والتنوير معروف، دخلت عليه فى مكتبه ذات يوم لتريه نموذجا مما تكتبه التماسا لكلمة تشجيع أو توجيه، فما كان منه إلا أن ترك ما قدمته له قائلا: دعيك من هذه الموضوعات التقليدية. لم لا تتناولين مثلا ما يحدث لك أثناء حيضك؟ فما كان من البنت المسكينة إلا أن صعقت وولَّتْ من حضرة التنويرى الهمام فَزِعَةً تطلب النجاة.
والآن فلنعد إلى صنع الله إبراهيم، الذى نُعِتَ بأنه "أعظم الكتاب المصريين الأحياء" فى أحد المواقع المشباكية التى تكاثرت كالفُطْر وأصبح كل من هب ودب فيها كاتبا عبقريا يشار إليه بالبنان ويحرص كثير منهم أشد الحرص على أن ينشر مع ما يكتبه، رغم ركاكته وسخافته وتفاهته، صورة له وهو ينظر إلى القراء عبر ظهره الذى يصر على أن يعطيهم إياه بدلا من صدره، أو يمسك بذقنه، ولا أدرى لماذا، إلا أن يكون السبب هو خوفه من أن تطير، أو يضع يده تحت لَحْيِه إشارة إلى أهميته التى يمتلئ بها إلى درجة الانفجار لولا لطف الله وستره لعلمه جل وعلا أن العرب ليسوا ناقصين كوارث وبلايا، نعم لنعد إلى الأستاذ صنع الله فنقول إنه كذلك يسير على نفس المنوال فى صنعة القلم، إذ نراه يُتَوْبِل كتابه المذكور، وهو كتاب لا علاقة له بفن الرواية ولا بالأدب الجيد من قريب أو من بعيد، بالكلام العارى البالغ غاية الفجاجة فى وصف الجماع: بين راوى الأحداث الذى لا نعرف له اسما وبين الجارية السوداء الخرساء وبولين الفتاة الفرنسية التى كانت عشيقة أيضا لنابليون.
وقبل أن ندلى برأينا تفصيلا فى الأمر نسوق بعض ما كتبه الأستاذ صنع الله، الذى خذلنى مرتين وخدعنى الحديث عنه من قِبَل النقاد "إياهم" فظننت أن تحت القبة شيخا، فإذا بى أكتشف أنه لا شيخ ولا قبة. لنسمعه يصف كيف أتى الجارية لأول مرة، وكان الشيخ الجبرتى الذى يشتغل راوينا كاتبا لديه مسافرا إلى قريته فى إبيار بالغربية، وهى لا تبعد عن قريتنا: "كتامة الغابة" إلا بضعة كيلومترات: "حملت القنديل واقتربت في خفة من الباب المفضي إلى غرف النساء. فتحته في رفق. خرجت إلى بسطة يضيؤها (يقصد: "يضيئها") ضوء خافت منبعث من قنديل معلق في أعلى الحائط. أطفأت قنديلي ووضعته جانبا. تقدمت من جسم ممدد في الركن. تعثرت في قبقاب خشبي فوجهت السباب إلى نفسي لأني لم أنتبه (لا ليس هذا هو السبب، بل لأنك وغد سافل!). انحنيت فوق الجارية السوداء. كانت عيناها الواسعتان مفتوحتين. رفعت قميصها الواصل حتي العقبين فلم تنبس بكلمة. مددت يدي إلى خصرها. بحثت حتى عثرت علي دكة لباسها القطني. جذبته إلى أسفل دون أن تعترض. أمسكت بساقيها وثنيتهما إلى أعلى ثم وقعت عليها. وجدت صعوبة في دخولها فاستعنت بريقي (الله يقرفك يا شيخ!). انتهيت بسرعة (إخص عليك!). لم تنبس بكلمة أو حتى آهة. وظلت تتطلع إلىّ وفي عينيها نظرة لم أدرك كنهها (أما أنا كاتب هذه الدراسة فأدرك كنهها وأعرف أن صاحبتها تحتقرك وتراك ولدا نذلا، وتريد أن تقول إنها مشمئزة من هذه الكتابة المراهقة الرخيصة التى يمارسها المؤلف! إلا أنها لا تقدر على الكلام لأنك أنت ومؤلفك قد أخرستماها بتصرفاتكما الفِجّة المقيئة!). اعتدلت واقفا وبسطت قميصي فوق السروال. مسحت عرقي بطرفه. تناولت قنديلي وانسحبت عائدا إلى حجرتي". يكتب صنع الله إبراهيم هذا، وهو يقترب من السبعين، وليس فى الكتاب ما يستلزم شيئا من هذا. أقول: "الكتاب" لا "الرواية"، لأننا لسنا بصدد رواية، بل كتاب أراد صاحبه أن يتخذ شكل اليوميات التسجيلية مثل "عجائب الآثار" للجبرتى، ولكن هيهات، فالفرق بين الكتابين والكاتبين هو الفرق بين السما والعمى، وبين الثريا والثرى.
فالجبرتى مؤرخ عالمى عظيم بلغ من عظمته أنْ قد بهر فيلسوفا كأرنولد توينبى فوصفه بــ"المؤرخ العظيم" وقال إنه جدير حقا أن يوضع اسمه فى قائمة المؤرخين العالميين الكبار ذوى المكانة المتميزة: "The great Egyptian historian al-Jabarti… would undoubtedly figure on a list of candidates for the distinction of ranking as leading historians of civilized nations". وذكر إدوارد وليم لين، المستشرق البريطانى المعروف، فى كتابه عن المصريين المحدثين وعاداتهم وتقاليدهم، أن له كتابًا جِدَّ ممتازٍ فى التأريخ لمصر منذ بداية القرن الثانى عشر الهجرى "The sheykh 'Abd-Er-Rahman El-Gabartee, another modern author, and a native of Cairo, particularly deserves to be mentioned, as having written a very excellent history of the events which have taken place in Egypt since the commencement of the twelfth century of the Flight". وفى دائرة المعارف البريطانية (ط2008م) نقرأ فى المادة المخصصة لمصر أن القرون الثلاثة التى خضعت فيها البلاد للحكم العثمانى لم تنجب مؤرخا ذا قيمة سوى الجبرتى: "In almost three centuries of Ottoman rule Egypt produced only one historian worthy of note, al-Jabartī (died 1825), famous for his observations on the French occupation". ويضعه كاتب مادة "التاريخ، عِلْم" فى "الموسوعة العربية العالمية" بين أفضل عشرة مؤرخين على مستوى العالم بأسره.
والواقع أن الجبرتى بهذا جِدُّ حقيقٍ، إذ إن له أسلوبا تصويريا يقلّ مثيله حيويةً وجاذبيةً، كما أن الآراء التى يصدرها على الأشخاص والوقائع تدل على دقة وتجرد وسعة أفق وعمق نظر وإحاطة. أما صنع الله فلا يهتم به إلا طائفة على شاكلته من النقاد لا تستطيع أن تقوّم أعماله كما ينبغى أن يكون التقويم، فتراهم يبالغون فى الإعلاء من شأنها، ولكن هذا كله عبث لا يصح لأن هناك شيئا لا يعرف اللعب ولا الهزل ولا العبث ولا ينخدع بالبكش اسمه التاريخ. على أن أظرف ما فى الموضوع تحديد الراوى لنوعية القماش الذى صنع منه "لباس" الجارية، قائلا إنه من القطن. يا لعبقريتك يا سيد صنع الله، فقد جعلت بطل كتابك يتنبه فى العتمة حيث كانت الجارية ترقد فى البسطة أمام غرف النساء، وفى تلك الظروف التى من شأنها أن تخبّل عقل أجعص جعيص، إلى أن القماش كان من القطن، وإن كان قد فاته أن يحدد نوع هذا القطن، وهل هو قطن طويل التيلة أو قصيرها. ملحوقة! تستطيع أن تستدرك هذا فى الطبعة القادمة، فأرجو ألا ينسينّك الشيطان ذِكْرَه!
وصنع الله، حين يصنع هذا ويتحدث عن راوى الكتاب بهذا الشكل، لا يحسن رسم الشخصيات، فهو لا يفرق هنا مثلا بين شاب متدين يشتغل مساعدا لزعيم المؤرخين المسلمين المحدثين وبين ملحد لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مثلا أو زنديق لا يبالى بحرام أو حلال أو شيوعى منحل من الشيوعيين الذين يعرفهم العالم العربى المبتلَى بنفايات الفكر الغربى لا يدرى كيف يحترم ما يستحق الاحترام من البشر والأشياء والقيم. ومن هنا كان خطؤه القاتل فى ذلك الكتاب الذى يقدمه إلى القراء على أنه رواية، ويتناوله أيضا من يطلقون على أنفسهم: "نقاد" على أنه رواية، على حين لا يمت إلى فن الرواية، ولا إلى الأدب الجيد، بأى سبب. ثم ما حكاية "جاء ظهرى" هذه التى كررها صنع الله فى كتابه على لسان الراوى بمعنى أنه قد بلغ ذروة التهيج وهو يجامع البنت الفرنسية وآن أوان القذف؟ الواقع أننى لا أدرى من أين أتى بها، فهل يتكرم السيد صنع الله ويفيض علينا من علمه الغزير ويشرح لنا مصدره الذى استقاه منه. كنا نسمع فى الريف قديما أن فلانة "عليها ظهرها"، أى حائض، أما أن يقول رجل عن نفسه: "جاءنى ظهرى" فهذا ما لا علم لى به. فليتفضل المؤلف بتعليمنا ما لا نعلم، فكلنا آذان صاغية.
وعبثًا يتساءل القارئ الكريم عن الحكمة فى تضمين الكاتب كتابه تلك المناظر الجنسية، بل تلك العلاقة الجنسية ذاتها التى كانت بين الراوى وبين كل من الجارية وبولين، إذ من الممكن جدا حذف الصفحات التى تتضمن الحديث عن هذا الموضوع دون أن يختل شىء فى الكتاب على الإطلاق. ذلك أن مجامعة الراوى للجارية لم تترك أى صدى فى حياته، كما أن العلاقة التى قامت بينه وبين بولين لم تؤثر بشىء على شخصيته ولا غيرت فكره فجعلته يحب الاحتلال الفرنسى مثلا ويكره وطنه ومواطنيه تحت تأثير اشمئزاز عشيقته الفرنسية منهم ووصفها لهم بكل نقيصة أو يترك مصر ويهاجر معها إلى فرنسا حين غادرت أرض الكنانة عائدة إلى بلدها، ولا هى طورته ثقافيا فشرع يقرأ بالفرنسية كتب المستشرقين ويقتنع بما يقولون عن الإسلام وأهله أو يقرر وضع الدراسات فى تفنيد ما يقولون عن أمته ودينه، أو تحوَّل ذوقه الفنى فصار يحب الموسيقى الكلاسيكية الغربية التى كانت تعزفها أمامه أحيانا وتحدّثه بانبهار شديد عن مبدعيها الكبار كموتسارت وبيتهوفن. بل لقد ظل على ذوقه القديم الذى كان له فى النساء قبل أن يعاشرها ويجامعها ويرى كيف تختلف عن النسوة المصريات (اللاتى يعرفهن على الأقل) من حيث بياضها وسمرتهن، ونحافتها وسمنتهن، وصغر صدرها وضخامة أثدائهن، وثقافتها العصرية المتنوعة وجهلهن... إلخ. كما أنه ظل يصلى ويصوم رغم كل ما اجترحه معها من زنا، إذ لم تترك علاقته بها ولا ما ارتكبه معها مرارا من الفاحشة أى أثر فى نفسه من هذه الناحية فظل بعدها مثلما كان قبلها، وكأن شيئا لم يكن. وهو أمر غريب غاية الغرابة، إذ كان لا بد أن يشعر بالذنب والاضطراب والحيرة والسخط على نفسه ويندفع فى الاستغفار والابتهال إلى الله أن يسامحه ويحاول التماسك حتى لو سقط فى الفاحشة مرة أخرى وأخرى وأخرى. أما أن يمارس الأمرين معا وكأنه لا شىء فى الزنا فهذا أمر عجيب لا يدخل العقل، اللهم إلا إذا كان ملحدا منافقا أو أن تكون الحملة الفرنسية بتداعياتها المختلفة واختلاطه بالفرنسيين وتشربه أفكارهم ومفاهيمهم وقيمهم قد نال من إيمانه بالله واليوم الآخر فاتخذ من اللذة والجرى وراءها ديدنه ودينه، وهو ما لم يحدث، وإلا لكان على الكاتب أن يذكره لنا ويقنعنا به. أما ما نعرفه عن الراوى كما يعرضه علينا المؤلف فى كتابه فهو يدل على أن ما صنعه به هو اضطراب شنيع فى رسم شخصيته يدل على أن فنه لا يزال فِجًّا نيئا لم ينضح بعد رغم كل هاتيك السنين التى صرفها فى تأليف القصص والروايات.
إن كل ما كتبه صنع الله عن العلاقة الجنسية بين الراوى وبين تَيْنِكَ المرأتين لا تمثل أكثر من جملة اعتراضية ليس لها أى محل من الإعراب فى الكتاب. إنه أشبه بالرقصة الشرقية التى لا يكاد يخلو منها فلم مصرى قديم رغم انعدام الصلة بينها وبين بقية عناصر الفلم، وإن كانت المناظر التى ضمنها صنع الله كتابه المتهافت هى من النوع الذى يُعَدّ بجانبه هز البطن والأرداف فى أفلامنا غير المحترمة عملا محترما غاية الاحترام. وحتى لو كان لتلك العلاقة بين الراوى وبولين دور فى الكتاب لما سوَّغ ذلك شيئا من الفحش الذى يطفح به، إذ يمكن المؤلف فى هذه الحالة أن يومئ مجرد إيماء إلى ما يريد قوله، وما أجمل الإيماء فى تلك الأمور!
فإذا تبين لنا أن الكتاب لا علاقة له وثيقة بفن الرواية ظهر لنا وجه الحقيقة القبيح عاريا ورأينا بأم أعيننا أن الكاتب لا يعرف كيف يُحْكِم تأليف ما يكتب. ذلك أن الموضوع لا صلة بينه وبين الوقائع التى يسجلها الراوى فى أوراقه السخيفة، تلك الأوراق التى لا معنى لها ما دامت هناك يوميات الجبرتى بكل ما تتسم به من حيوية وفنٍّ وَصْفىٍّ بلغ الغاية وأسلوب عجيب وروح شعبية. ليس ذلك فحسب، بل إن قصة الغرام بين الراوى وبولين لا تقوم على أى أساس، فالحب لا ينشأ هكذا كالنبات الشيطانى دون سبب. ذلك أن بولين فتاة فرنسية مثقفة فى الوقت الذى لم يكن لدى الراوى شىء مما لديها من ثقافة تراها هى على الأقل ثقافة رفيعة. بل إننا لا نعرف له شيئا من ثقافة سوى أنه كان يكتب للجبرتى ما يمليه عليه من تاريخه، فضلا عن أن تلك الفتاة إنما تمثل الغزو الفرنسى الذى يحتقر مصر والمصريين احتقارا شنيعا ظهر فى أكثر من حديث لها مع تلميذ الجبرتى وآلمه إيلاما صعبا، وإن لم يمنعه من استمرار العلاقة غير المنطقية بينه وبين المرأة الفرنسية. كما كان يتهافت عليها عدد من الفرنسيين الذين أَتَوْا فى ركاب نابليون لغزو مصر، بل إن نابليون ذاته قد اتخذها عشيقة له رغم وجود زوجها معها، إذ كان ضابطا فى الجيش الفرنسى الموجود على أرض مصر، فلم تكن إذن تشكو جفافا فى اهتمام الرجال بها حتى يقال إنها لم تجد أمامها إلا الراوى فاتخذت منه مشبعا لرغباتها الجنسية، والسلام. علاوة على أنه لم يسبق بينهما موقف عاطفى أو مثير أغراها بأن تسلم نفسها إليه ثانى مرة يصعد معها إلى مسكنها فوق المجمع العلمى الذى كانت تشتغل معه فيه. ثم إنه لم يكن على شىء من وسامة أو أناقة أو لباقة، وفوق هذا كان مبتدئا فى اللغة الفرنسية بحيث لا يستطيع أن يعوض شيئا من هذه النواقص عن طريق التغزل فى محاسنها مثلا، لأنه لو فعل لجاء كلامه مكسرا يبعث على الضحك والاستهزاء. ويزيد الطين بِلّةً أنها لم تكن تمارس معه الفاحشة وحده، بل كانت تمارسها كذلك مع زوجها ومع نابليون دون أن ترى فى ذلك شيئا مستغربا. بل إن الرواى هو أيضا لم ير فيه ما يستوجب قطع علاقته بها، فالمهم هو أن يمارس معها الجنس، وليكن بعد ذلك ما يكون، رغم أنه قد تألم فى البداية لا من أجل ذلك، بل تصورا منه أنه لن يصل إليها فيما بعد. ومن هنا فحين عادت الأمور بينه وبينها إلى "مجاريها" كما يقال (فنحن فعلا فى مجارٍ وفضلات ووساخات) لم تشغله المخادنة التى كانت بينها وبين نابليون فى قليل أو كثير.
أضف إلى ذلك أنه لا معنى لتسجيل الراوى وقائع الزنا بالجارية وبالفتاة الفرنسية فى يومياته. ذلك أنه لم يكن من عادة المسلمين قبل العصر الحديث أن يسجلوا مثل تلك الأمور كتابة، وإلا فليدلنا السيد صنع الله على بعض الأمثلة التى تنقض ما نقول. ولو افترضنا أن الأمر على خلاف ذلك، وهو ما لا يكون، أو غضضنا الطرف عن هذا العيب القاتل وقلنا: الطيب أحسن، فلا تؤاخذ يا ابن الحلال الأستاذ صنع الله إبراهيم بكل صغيرة وكبيرة، بل عليك أن تفوّت له أشياء كثيرة، وإلا فلن ننتهى، فلسوف يثور فى وجوهنا سؤال فنى هام يريد جوابا، وجوابا مقنعا. ألا وهو: من يا ترى ذلك الشخص الذى قد أدى إلينا هذه اليوميات؟ أو كيف عثرنا عليها؟ فالمفروض أن الراوى شخصية تاريخية ما دام المؤلف قد ربطه بالجبرتى على هذا النحو اللصيق، وإن كنا نعرف تماما أنه ليس له وجود تاريخى على الإطلاق، بل هو من صنع خيال المؤلف السقيم، لكن هذا موضوع آخر، فالمفروض هو أن يكون الأمر بخلاف ذلك كما يقتضيه الفن السليم، وما دام الأمر كذلك فكيف وصل إلينا يا ترى مخطوط تلك اليوميات؟ إن كل شىء فى الفن الراوئى لا بد أن يكون مسوغا، وإلا كان العمل فاشلا، وهذا الأمر الذى نحن بصدده الآن يحتاج إلى تسويغ وإقناع حتى يدخل العقل.
ولتقريب المسألة أذكر للقارئ الحيلة التى لجأ إليها الفيلسوف مالك بن نبى فى أول ترجمته الذاتية فى كتابه الخطير المشهور: "مذكرات شاهد القرن"، إذ حكى لنا أنه بينما كان يصلى العصر وحده فى ركن منعزل بمسجد قسنطينة بالجزائر شعر بشخص يتسلل إلى جانبه وهو ساجد فى ركعته الثانية ويترك ربطة أوراق ثم يمضى، وحين انتهى هو من صلاته ووجد الربطة ولم يظهر صاحبها اضطر إلى فتحها فوجد مذكراتٍ شخصيةً هامة كتبها بعضهم ورأى هو، نظرا لأهميتها الشديدة، أن ينشرها على الناس. لقد كان على مالك بن نبى أن يبين لنا كيف بلغته تلك المذكرات التى ينشرها على القراء ما دام لم يشأ أن يذكر أنه هو صاحبها وكاتبها، وإلا لقد كان ينبغى أن يقول بصريح العبارة إنه هو الصاحب والكاتب، وهو ما لم يشأ أن يفعله لأمر أو لآخر، فكان لا بد إذن من اصطناع تلك الحيلة، وإن كانت حيلة مكشوفة كما نرى وكما لابد أن يكون هو أيضا قد شعر، ولكن هذه نقرة أخرى.
وفوق هذا فصنع الله حريص، دون أدنى شىء يستند إليه، على تشويه الجبرتى وتصوير منزله على أنه أقرب ما يكون إلى بيت الدعارة، فالجوارى فيه مبذولاتٌ لمن "يطلع فى دماغه" فى أى وقت أن ينام مع من يصادفها منهن فى أية غرفة ، بغض النظر عن حِلّ هذا له أو لا. ذلك أن الجارية التى كان الراوى يمارس معها الجنس هى جارية الجبرتى، ومع هذا نراه يقدم على الزنا بها متى ما أراد. وحين يظهر عليها الحمل يكذب على سيده ولا يصارحه بأنه هو الفاعل، راجيا أن تقع فى عُبّ المؤرخ الكبير! ولكن هل كان بيت الجبرتى هكذا؟ فأين الدليل؟ إن الجبرتى ليس شخصا خياليا حتى يجوز للكاتب أن يشكله على النحو القبيح الذى يريد، بل الجبرتى شخصية تاريخية حقيقية، ومن ثم لا بد من المحافظة على حقائق التاريخ عند الحديث عنه. لقد كان على الكاتب الالتزام بحقائق التاريخ لا أن يذهب فى وادى الأوهام فيقدم لنا صورة للرجل غير صادقة، وبخاصة أن الراوى ليس شخصية تاريخية حقيقية، بل هو من صنع خيال المؤلف. ولكن ماذا كنا ننتظر من شخص هو "من صنع" صنع الله؟
هذا مع الجارية، أما مع بولين عشيقة نابليون فإلى القارئ أول شىء وقع بينهما فى ميدان الجنس: "بمجرد دخولنا مسكنها التفتت إلىّ واحتضنتني ثم وضعت شفتيها على شفتى. وفجأة حدث شئ غريب. فقد أدخلت لسانها في فمي. لم أدر ما جرى بعد ذلك. فقد وجدنا أنفسنا فوق أريكة مجاورة وأنا فوقها وعضوي داخلها. احتضنتني في قوة، وفجأة جاء ظهري فتشبثت بي وهي تردد لاهثة: انتظر. ثم انفصلت عني وجففت مائي بطرف ثوبها. وأحسست أنها مستاءة. أزاحت عمامتي وعلقت على رأسي الحليقة قائلة: شعرك ناعم وجميل. لماذا تحلقه؟ لو أرسلته يكون شكلك أجمل.
قلت: أعوذ بالله. تريدين أن أصبح مثل المخنثين.
فكت جدائل شعرها الطويل فتحسست خصلاته التي تدلت فوق كتفيها حتى خصرها وشممت رائحة الصابون تنبعث منه. قالت إنها تجد صعوبة في تنظيمه في خصلات متموجة، وتستخدم لذلك عاكصا من الورق. وإنها تفكر في قَصِّه حسب الموضة الجديدة إلى خصلات قصيرة تنسدل فوق الجبهة. نهضت واقفة وأخذتني من يدي إلى الغرفة الداخلية. كان فراشها وسط الحجرة عبارة عن سجادة مبسوطة على ألواح خشبية تحيط بها أربع مخدات فخمة، وأعلى ذلك غطاء من الحرير أو الموسلين. وحولت عيني بسرعة عن الفراش. تناولت حقا صغيرا فوق منضدة بجوار الفراش. رفعت غطاءه فرأيت مسحوقا أحمر. قالت: إنه روج لتحمير الخدين لكني لا أستخدمه. هل تعرف أن سيدات البلاط الملكي في فرنسا كن يستعملن لزينة وجوههن 13 ظلا مختلفا واحدا فوق الآخر؟ أنا أكتفي بكريم إسمه: "ندى السوسن" أدهن به وجهي قبل النوم. وعند الخروج أبلل إصبعي الصغير وأمر به على حاجبي ورموشي حتى تلمع.
كانت تتحدث كالأطفال. أحطتها بذراعيّ فدفنتْ رأسها في عنقي. كانت أقصر مني قليلا. قبلتها في عنقها فرفعتْ رأسها ووضعتْ لسانها في فمي. غنيت لها: "قال لي غزالي: أديني جيت، وافعل كما تختار فيَّه، أركِّبك صدر برمّان، وتحل دكة ألفية". شرحت لها معاني الكلمات وكيف أن "الدكة الألفية" هي حزام مطرز بألف لون. جذبتها إلى الفراش. وفي هذه المرة خلعت ملابسي حتى صرت عاريا وساعدتها على خلع تنورتها وقميصها الداخلي. وبدت نحيلة للغاية. تأملت مبهورا جسدها العاجي ثم تحسست نهديها فقالت إنهما صغيران. وإنها عندما كانت في الثانية عشرة كانت تضع عند الخروج أربعة مناديل تحت العباءة يمينا ويسارا مكان الثديين. نصحتها أن تفعل مثل بناتنا. فهن يضعن لبابة الخبز الساخن بين النهدين للتعجيل بنموهما.
قالت: لكني لم أعد صغيرة.
قلت: عندي علاج آخر.
التقطت ثديها بفمي وأخذت أمتصه وأجذبه إلى الخارج. ثم فعلت المثل بالثدي الآخر. انتفخت حلمتاها وبدأت تتنهد. أردت أن أثني ساقيها إلى الخلف لكنها رفضت وباعدت بينهما. ثم ولجتها برفق. قالت: تعرف ماذا تفعل كي لا أحمل؟ أومأت برأسي فهمست: لا تتعجل.
جززت على أسناني محاولا السيطرة على نفسي. وعندما فقدت السيطرة غادرتها وأفرغت مائي فوق بطنها. سمعتها تصرخ ثم بدا لي أنها غابت عن الوعي. تطلعت إليها مصعوقا ثم تلفت حولي بحثا عن قلة ماء. وإذا بها تمسك بيدي باسمة ثم ترفعها إلى فمها وتقبلها. اعتدلت على ظهرها وتنهدت في رضا. ثم وضعت يدها على بطنها وبللت أصابعها من مائي ثم دعكت ثدييها. وقالت في خبث: هذا أفضل لنمو الثديين. استلقيت إلى جوارها واحتضنتها. أفلتت من أحضاني وقالت: لا بد أن ننزل الآن قبل أن يأتي أحد". وأرجو من القارئ الكريم أن يلتفت إلى أن الراوى لم يكن يعرف من الفرنسية، وبالذات فى أول معرفته ببولين، إلا شظايا وشذرات قليلة نيئة لا تغنى فى مثل هذه المحاورة بشىء، إلا أن صنع الله على كل ما يناقض المنطق والواقعية جِدُّ قدير، وبه جِدُّ خبير، وهو ما سوف نعود إليه تفصيلا فيما يُقْبِل من صفحات!
وقد تكرر هذا الدنس مرات، وكانا يأخذان راحتهما دون أى احتراس وكأنهما يعيشان وحدهما فى هذا العالم حتى إنه كان يذهب إلى مسكنها والحراس واقفون على الباب حماية لها لأنها عشيقة نابليون، فيمر بالحراس دون أن يسأله أحد إلى أين هو ذاهب، فضلا عن أن يمنعه من الدخول، بل دون أن يفكر أحد فى تبليغ بونابرت خبر تردده عليها وبقائهما وحدهما فى الطابق الثانى لمدد طويلة. وواضح تماما لمن يقرأ الكتاب أن الكاتب لا يقبض على زمام فنه، بل كل همه هو الإثارة الجنسية مع أنها لا تليق به وبسنه المتقدمة. ولو أن هذا صدر عن شاب أرعن لما كان مقبولا، فكيف من شيخ فى سن صنع الله إبراهيم؟ وكيف، والعمل الذى ورد فيه لا يتطلب شيئا من ذلك ولا له فيه دور يمكن أن يؤديه؟ إنما هو إثارة رخيصة ليس إلا. ثم إن راوى الكتاب شخصية غير تاريخية، فكيف يقيم الكاتب بينه وبين شخصية تاريخية معروفة جيدا، وكانت بينها وبين نابليون مخادنة، علاقة عشق وزنا؟
وفوق هذا ففى الكتاب أخطاء لغوية فادحة وفاضحة تدل على أن الكاتب ليس لدية أية فكرة عن التمرهندى فى مجال اللغة رغم أن اللغة والبراعة فيها إنما هى مَجْلَى موهبة الأديب، ورغم أن الكتاب قد تمت مراجعته لغويا من قِبَل أحد الشعراء حسبما يقول المؤلف فى مؤخرته. وليعذرنى القارئ الكريم حين أستخدم كلمة "المؤخرة" هنا، فقد جاءت هكذا دون سابق تدبير، وما إلى شىء مما يقصده إخواننا وأخواتنا البعداء من المتنورين والمتنورات من ذوات المؤخرات الـمُتْأَرات قد أردتُ، بل كل ما قصدته هو "نهاية الكتاب"، ولكنْ بتلك الكلمة جرى المقدور، وليس من المقدور مهروب. وهذه بعض أخطاء الكاتب الكبير، بل أكبر كاتب فى بَرّ مصر، بل أكبر كتاب العرب والعجم أيضا والإنس والجن وسكان العالم العلوى والسفى جميعا، حماه الله من عيون الحاسدين والشانئين، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر، وعنده بحران لا بحر واحد: الأحمر والمتوسط، اللذان سبق عبد الناصر فشرب منهما وشربنا معه حتى كيعاننا بعد الهزيمة المدوية أم جلاجل، تلك التى سموها، بعيدا عنكم وعن السامعين والقارئين أجمعين: "نكسة"، وكانت النية متجهة إلى أن تشرب منهما أمريكا وإسرائيل، لولا أنه ("الله يرحمه" على رأى أنور السادات) قد فوجئ بالضربة تأتيه من الغرب، على حين كان يتوقع إتيانها من الشرق لأن إسرائيل خائنة العهود لم تحترم توقعه واستنذلت فيها وباغتته من الجهة المعاكسة، وإن كنت لا أدرى أى غرب يقصده الزعيم الملهم، فقد أتتنا الضربة من الشرق فعلا، لكنه لم يجد شيئا يقوله، فكان هذا التنطع الذى يبرع فيه الزعماء الخالدون.
ما علينا. نعود إلى الأستاذ صنع الله، الذى هو أكبر كاتب مصرى وعربى وعجمى وإنسى وجنى وعلوى وسفلى فى اللحظة الراهنة وفى كل اللحظات من راهنة ومقبلة وماضية، فنقول إننا سوف نورد بعض أخطائه، وهى أخطاء عبقرية مثله، لأن كل إناء بما فيه ينضح، وأخطاء العباقرة لا بد ولا مناص ولا معدى ولا مفر من أن تكون عبقرية مثلهم: ونفتتح بهذا التعبير المضحك الذى يفاجئنا به أكبر كاتب فى العالم فى أول الكتاب: "ناس تخبّ فوق حميرها". ذلك أن الناس إنما تركب الحمير، فكيف يمكن أن تخب فوقها، والخبب إنما هو نوع من الجرى؟ والمقصود أن الحمير هى التى كانت تخبّ، لكن المؤلف لا يعرف كيف يعبر التعبير الدقيق. عبقرى! ماذا نفعل؟ ويقول أيضا: "رفعتُ عيناى"، و"رفعتْ هى عيناها إلىّ" برفع المفعول به، وهذه من علائم عبقريته. فالرجل لا يعرف كيف يكتب كتابة سليمة شأن كل عبقرى تنويرى، وهذه من مخازى العصر الحديث حيث يكثر تسمية فلان وعلان أديبا وكاتبا ومفكرا كبيرا فيما هو لا يستطيع أن يسطر سطرا واحدا غُفْلاً من الأخطاء الفاحشة. ومنها: "سيكتشفوني" بنون واحدة رغم أنه لم يسبق الفعل ناصب ولا جازم لانشغاله بالسين. وكان حريا به لو لم يكن عبقريا لا يخضع لما نخضع نحن له من القواعد والقيود أن يقول: "سيكتشفوننى". ولكن نونا واحدة أو نونين لا تستحق أن نحدث لغطا بسببها. ومنها كذلك أنه يجعل لكل صلاة "آذانا". لماذا؟ لا أدرى. أو ربما خلق لها آذانا حتى لا تكون أقل من الحيطان، لأنه إذا كانت الحيطان لها آذان، فهل الصلوات أدنى منها؟ كلا وحاشا! وقد كرر حكاية الآذان هذه عدة مرات كيلا ينسى القراء، فاعتبروا يا أولى الألباب. وأنا متأكد أنه لن يدرك مقصدى من هذه السخرية، فعبقريته أكبر من أن تساعده على إتقان اللغة أو فهم تصحيحات المصححين. ومنها قوله: "وعبرت الرواق الجديد ذي السقوف المذهبة"، بدلا من "ذا السقوف المذهبة" كما يقول عباد الله غير العبقريين من أمثالنا. ومنها استعماله كلمة "بلوة" عوضا عن "بلوى" على طريقة طلبة هذه الأيام الذين لا يقرأون ولا يعرفون الألف من كوز الذرة، فتراهم يقولون: "فُصْحَة" و"فَتْوَة" و"نجوة" و"سلوة" و"دعوة" و"بلوة" فى "فُصْحَى، وفتوى، ونجوى، وسلوى، ودعوى، وبلوى". إنها حقا وصدقا بلوى، وأى بلوى! إنها ثقافة الآذان التى لا يعرفون سواها. ولم لا، وقد جعل الأستاذ صنع الله من قبل للصلوات آذانا؟
ومن الأخطاء العبقرية فى الكتاب قوله: "اتخذ مكانه فوق سرادق مذهب يطل على النيل الممتلئ". وواضح أنه يقصد بــ"السرادق" شيئا يُجْلَس عليه. إلا أن المعاجم السخيفة، تلك التى وُضِعَتْ لقوم غير عبقريين ككاتبنا العبقرى الذى هو أعظم الكتاب فى عصرنا وفى كل العصور، تقول للأسف شيئا آخر. ولسوف نكتفى منها بــ"تاج العروس" للزبيدى المعاصر للجبرتى حتى لا نذهب بعيدا، وفيه نقرأ: "السرُّادِقُ كعُلابِطٍ...: الذِي يُمَدّ فَوْقَ صحْنِ البَيْتِ... وقالَ ابنُ الأثِيرِ: هو كلًّ ما أحاطَ بشَيء من حائِط أو مَضْرِب أو خباء... وفي التَّنْزِيل: "أَحاطَ بِهمْ سُرادِقُها". قال الزَّجّاجُ: أَي صارَ عَلَيْهِم سُرادِقٌ من العَذابِ، أَعاذَنا الله تَعالَى منها. والسُّرادِقُ: البَيْتُ من الكُرْسُفِ نَقَله الجَوْهَريُّ، وأَنْشدَ لرؤبَةَ، وهكذا وقَع في كتاب سِيبَوَيْهِ، قالَ الصاغانيُّ: وليسَ لَهُ، وإِنَّما هُو للكَذّابِ الحِرْمازِيِّ:
يا حَكَمُ بن المُنذِر بنِ الجارُودْ
أَنْتَ الجَوادُ ابنُ الجَوادِ المَحْمُودْ
سرُادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ"
أى أن السرادق لا يُجْلَس عليه كما فهم كاتبنا العبقرى.
وهو يستعمل الصيغة العامية لكمة "الـمُوسَى" فيقول: "مُوس"، ويجمعها على "أمواس" بدلا من "مواسىّ"، وكله عنده صابون! ومن استعمالاته العامية أيضا التى لا يعرف وجه الصواب فيها قوله: "فتسابقوا لبعض بالبشارة"، و"ابتعادنا عن بعض" بدلا من "بعضهم لبعض"، و"بعضهم عن بعض" على التوالى. وقس على ذلك قوله: "وبقينا مدة فى أحضان بعضنا"، وهو ما يذكرنى بأغنية الحاجة شادية: "حبينا بعضنا، وبحنا بسرنا، عقبالنا كلنا، وتبقوا زينا، فى الهوااااا سوااااا". ومن الاستعمالات العامية كذلك: "الأهرامات" و"الرسومات"، وهو ما يذكرنى بقولنا ونحن أطفال صغار فى بداية تعليمنا: "الكُتُُبَات" بدلا من "الكتب". ياه! لم أكن أعرف أننا كنا عباقرة إلا اليوم. ألسنا كنا نفعل مثلما يفعل أكبر كاتب فى الشرق والغرب والشمال والجنوب؟ فماذا نريد أعظم من ذلك؟
ومن تلك الأخطاء أيضا قوله: "قال إن أغا يوناني حضر من الإسكندرية"، جاهلا أن الصواب: "يونانيا" بالنصب لأنها نعت لاسم "إن"، وهو "أغا". ومنها كذلك قوله: "حتى يبدون"، والصواب: "حتى يبدوا" بحذف نون المضارع لأنه منصوب. ومنها قوله: "يخطئوهم" مع أنه لم يسبق الفعل ناصب ولا جازم فوجب إثبات نون الرفع. ومنها "جاء ظهرينا"، بنصب الفاعل، وقد تكرر، وهو من فتوح اللغة التى سوف يذكرها التاريخ له وتقرَّر على طلبة المدارس المعاتيه حتى يزدادوا بمشيئة الواحد الأحد عَتَهًا فوق عتههم. ومنها "نفذ صبرى" بالذال، وصحتها: "نَفِدَ صبرى" بالدال وكسر الفاء. وكذلك "شيقة"، وإن لم يكن عدلا منى أن أتوقع معرفة صنع الله وجه الصواب فيها، وهو "شائق" لأن "شيق" معناها "مشتاق" كما فى قول شوقى محدّثا النهر العظيم عن عروس النيل التى يقال إنها كانت ترمى نفسها فيه عن حبٍّ فداء لوطنها: "وأتتك شَيِّقَةً حواها شيِّقُ". ومنها "وتلى علينا آخر قصائده، وبها هذين البيتين"، التى "انتصب" فيها المبتدأ بدلا من الرفع اتباعا لقواعد النحو الجديد التى دشنها عبقرينا المتربع على رقاب كتاب العالم، علاوة على كتابته الفعل "تلا" بالياء، وصوابه أن يكتب بالألف لأن أصل الألف واو (هكذا: تلا يتلو تلاوة). وليسامحنى القارئ أيضا فى "انتصب" هذه، فما لى عنها مفر. ومثل ذلك قوله: "بها بابَيْ حانوتين" بدلا من "بها بابا حانوتين" على الابتداء. وقريب منه قوله: "هل تعرف من هم الضحايا الحقيقيين؟ الفلاحين"، إذ إن كلتا الكلمتين الأخيرتين خبر، ومن ثم فحقها الرفع. ومنها "خَشَتْ" و"نَسَتْ" بدلا من "خَشِيَتْ" و"نَسِيَتْ". ومنها "لا شيء ذي أهمية" بخفض "ذى"، وهو ما لا يمكن أن يكون. وكذلك "2000 قنطارا" بنصب "قنطارا"، على حين أنها مجرورة. ومنها "تجمَّعَ بميدانها الجاف أرباب الملاهى والبهلويين" بجر الكلمة الأخيرة رغم استحقاقها للرفع لانعطافها على فاعل، فضلا عن أنها "البهلوانات" لا البهلويون". ومثلها قوله: "وخرج النصارى البلديين". ثم هذه: "ورأيت بينهم قبط وشوام وأجانب ويهود وضباط كبار"، حيث الصواب الذى لا صواب غيره هو: "ورأيت بينهم قبطا... ويهودا وضباطا كبارا". ومثلها كذلك قوله: "ودخل جندي فرنساوي يرتدي سترة ذات شرائط مذهبة وبنطلون ضيق لصيق بالجلد" بدلا من "يرتدي سترة ذات شرائط مذهبة وبنطلونا ضيقا لصيق بالجلد" كما لا يخفى إلا على كبار الكتاب العباقرة مثلما هو واضح.
ومن تلك الأخطاء العبقرية كصاحبها قوله: "يدفع منها كل سنة مائة ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسه" برفع "ثمانون" رغم انعطافها على مفعول به منصوب كما هو جلىٌّ بيّنٌ إلا للعباقرة الذين لا يلتفتون إلى هذه التفاهات. ومنها قوله عن امرأتين: "باعا" بدلا من "باعتا": "طيف بأمرأتين (لاحظ وضع الكاتب الهمام همزة على الألف الأولى من الكلمة رغم أنها همزة وصل) فى شوارع مصر بين يدى الحاكم، ينادَى عليهما: هذا جزاء من يبيع الأحرار. وذلك أنهما باعا امرأة لبعض نصارى الأروام بتسعة ريالات". وطبعا ليس هذا خطأ من كاتبنا العبقرى، لكنها محاولة للتسوية بين الرجال والنساء حتى لا يكون هناك ذكر وأنثى. ألم تعترض إحداهن على أنْ ليس لها عضو ذكورة؟ فهذا هو كاتبنا يجيب عليها ويلغى التفرقة بين الجنسين. ولكنه بهذه الطريقة يثبّت ما يسمونه: "ذكورية اللغة"، إذ يلغى ضمائر التأنيث ويبقى على الضمائر التذكيرية وحدها، وهذه مشكلة أخرى لا أدرى كيف سنواجهها. ولعل القارئ لم ينس ما كنت كتبته فى ردى على شريف الشوباشى حين طالب منذ سنوات بإلغاء التذكير والتأنيث من لغة القرآن، فقلت له إن هذا يكون وجيها لو لم يكن بين الجنسين تلك الفروق التى لا يمكن تجاهلها، كما أنكم بهذا إنما تريدون إلغاء شخصية المرأة لأنكم تعملون على حذف الضمائر والصيغ الصرفية الخاصة بها من لغتنا واستخدام ضمائر الرجال لها بدلا منها، وليس فى هذا ما يخدم قضيتها بحال من الأحوال. حيرنا هؤلاء الناس والله حيرة عظيمة! ولكنْ واضحٌ أن كل ما يهمهم هو تدمير الثوابت أيا كانت النتائج والثمار، وليذهب كل شىء بعد ذلك إلى الجحيم.
وبعد، فإنى أتساءل: إذا كانت هذه أخطاء صنع الله، الذى هو أكبر كتاب مصر والعرب والمسلمين والدنيا كلها بأرضها وسمائها، ودعونا من الأخطاء الإملائية والترقيمية، وهى أكثر من الهم على القلب، قلبى أنا وأمثالى طبعا، أما قلبه هو فربُّنا لا يملأ له قلبا بهمٍّ ولا غمٍّ، وليعش طوال عمره السعيد المديد خالى القلب من كل شىء، فقد كُتِبَتْ له الأولوية على الكتاب جميعا فى الأرضين السبع والسماوات السبع وتربَّع على رقابهم، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر، وعنده بدل البحر الواحد بحران اثنان كما قلنا، والمهم أن يستعد لنكسة أخرى كنكسة سبع وستين أو أشد، فكيف كان يكون الأمر لو لم يخضع كتاب جنابه العالى من قبلُ لتصحيح صديقه الشاعر؟ العجيب أن كل من يمسك بالقلم هذه الأيام من كتابنا التنويريين التقدميين "الشرفاء" (ولا بد من "الشرفاء" هذه التى كان الكتاب اليساريون فى الستينات حريصين أشد الحرص على وصف أنفسهم بها دون سائر عباد الله غير الشرفاء، "وأحسن من الشرف مافيش" كما كان يقول توفيق الدقن!)، أقول: إن كل من يمسك بالقلم هذه الأيام من كتابنا التنويريين الشرفاء تقريبا لا يختلف فى ذلك عن عبقرينا الكبير الذى ليس كمثله شىء بين الكتّاب فى أنحاء الكون كله. ولنا الله مع هؤلاء العباقرة! فاللهم سترك وكرمك ولطفك! ومعروف أن لكل صنعة أصولها ومبادئها، ومن لا يتقن هذه الأصول والمبادئ فهو غشيم فى الكار. فالنجار مثلا لا بد أن يعرف أول ما يعرف كيف يدق مسمارا دقا سليما، وكيف يغرّى الخوابير الخشبية، وإذا لم يستطع أن يتقن ذلك لم يصلح أن يكون نجارا. وقس على ذلك سائر الحرف والمهن. فلماذا يراد للأدب أن يشذ عن هذا فيقال لمن يجهل كيف يستخدم لغته إنه أديب كبير بل أكبر أديب فى مصر بل فى الكون؟ إنها لمهزلة، وأى مهزلة. وهذا دليل على الإفلاس الفكرى والأدبى عندنا. بيد أن الأمور فى دنيا الأدب لا تؤخذ بالنبابيت مهما تَبْدُ مواتية لكل ذى نبوت، والتاريخ لا يتوقف عند وقتنا الحاضر، بل هو ممتد ومتحرك لا يتوقف، وغدا ستعتدل الأحوال المائلة. ولقد خلق الله الكون بميزان، أى بقوانين دقيقة، ومن ثم لا يمكن أن تستمر أو تستقر السيادة للهلس وشغل الثلاث ورقات مهما كانت أيدى البهلوانات والحواة خفيفة لا تمكن ملاحظتها. قد يدوم ذلك نقطة أو نقطتين: يوما أو يومين، أو أسبوعا أو أسبوعين، أو شهرا أو شهرين، أو سنة أو سنتين. قل: "ان شالله"! أما أن يستمر إلى الأبد فهو ما لا يمكن أن يكون.
ثم إن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب لا يلائم عصر الحملة الفرنسية، وإن لجأ صنع الله أحيانا إلى الاستعانة ببعض ألفاظ أو عبارات من الجبرتى، فعندئذ وعندئذ فقط، تنفح السطور ببعض من رائحة ذلك العصر، أما فيما عدا هذا فلم ينجح الكاتب فى الإيحاء بأننا نعيش مع بطل الكتاب وراوى أحداثه فى العصر الذى يفترض أنه كان يعيش فيه. وأقول: "يفترض" لأن صنع الله لم يقدر على إقناعنا بذلك، إذ جاءت صورة ذلك الرجل مهتزة اهتزازا عنيفا. بل إنه لم يعطه اسما، فبقى على طول الكتاب مجهَّلا غامضا لا ندرى شيئا عن أصله ولا فصله سوى أنه هاجر من الصعيد إلى العاصمة أيام الطاعون. أما من أية مدينة أو قرية، وأما إلى أية أسرة ينتمى، وأما فى أية بيئة اجتماعية أو ثقافية نشأ وتربى وتشكلت جذور شخصيته، وأما أى تعليم تلقاه... إلخ فهذا كله لا ندرى عنه شيئا. لماذا؟ لا ينبغى أن نطالب الكاتب بجواب على أى من هذه الأسئلة، فهو أكبر كاتب فى مصر بل فى العالم. ومثله، إن كان له مثل، لا يتدهدى إلى الرد على تلك الأسئلة السخيفة. أوليس مضحكا أن يكون هذا هو مستوى رسم الشخصية الأولى فى الكتاب؟
ولنأخذ مثلا السطور التى بدأ بها الكتاب على لسان الراوى: اندفعت وسط الجموع الصاخبة. الحرارة خانقة. الشمس لاهبة. التراب يملأ الجو. العرق يسيل على وجهي وأسفل إبطي. تعثرت في نتوء وسط الطريق كونته القاذورات والعفوشات المتراكمة. توقف الكنس والرش منذ ظهر الفرنسيس علي تخوم القاهرة. أوشكت على الوقوع لولا أن لحقني أحدهم وشدني من ساعدي. سقطت عمامتي فوق الأرض، وانفك عقدها. التقطتها وأعدت ربطها فوق رأسي. سكك ودروب. سوق السمك. وكالة القمح. وكالة الأرز. جامع المعلق. وكالة الكتان. وكالة الزيت. وكالة الابزارية. وكالة الملايات. درب القصاصين، درب البرابرة، موقف الحمير، جامع أبو العلا، سكة أبو العلا. بالأمس ذاع خبر هزيمة مراد بك في انبابة. وخرج عمر مكرم نقيب الأشراف من القلعة حاملا بيرقا كبيرا أسماه العامة "البيرق النبوي". تبعته الألوف بالنبابيت والعصي ورجال الطرق الصوفية بالطبول والزمور والأعلام والكاسات. جاء في أعقابهم العجزة والشحاذون والمسلولون والعميان والمجذومون. أُغلقت الدكاكين والأسواق. اتجه الجميع لبر بولاق لينضموا إلي إبراهيم بك الذي حشد مماليكه لملاقاة الفرنسيين. توزع أبناء الطوائف بين المساجد والخرابات. نصبوا خياما لاقامتهم ومبيتهم. تطوع البعض للإنفاق على الآخر. جهز التجار جماعات من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل. ولم يفد هذا كله بشئ فسرعان ما انهزم ابراهيم بك وولى هاربا. وبدأت رحلة العودة إلى المدينة. رددت مع الصائحين: ياخفي الألطاف نجنا مما نخاف. زعق أحد خلفي: بالك. التفت لأرى حصانا يمتطيه مملوك شاب في سروال كبير أحمر اللون وصديري واسع ذي أكمام طويلة وعمامة ملفوفة حول طربوش طويل. كانت الدماء تلوث ملابسه. شق طريقه بعنف بين الجارين فأوقع بعضهم أرضا ودهسهم. التصقت بالجدار. مال فوق فرسه ولوح بسيفه. التقط عمامة أحد أولاد البلد وانفجر ضاحكا. تكشفت عمامة الضحية عن رأس حليقة لم يتبق من شعرها سوي خصلة واحدة. لوح بسيفه مرة أخرى في اتجاهي. ارتميت علي الأرض. لعنته في سري فلم أجرؤ علي الاحتجاج. ابتعد المملوك فنهضت واقفا. وضعت ذيل جلبابي بين أسناني وجريت. مررت بشونة قمح. ثم حانوت الكتان المستورد من ألمانيا الذي تملكه الزوجة الثانية للشيخ الجبرتي، ويديره ابنه خليل. ثم منزله تجاه جامع ميرزه جوربجي. يقضي به الصيف عادة ولم ينتقل إليه بعد. وكالات القطن والحنا والسكر والزعفران والبن والصمغ والعاج. أزقة ضيقة لا تتسع لمرور رجلين متقابلين. حواري دائرية يتوه فيها من لا يعرف المنطقة جيدا. عويل النساء في البيوت. رجال مهرولون وأمتعتهم فوق رؤوسهم. نساء حاسرات يحملن أطفالهن فوق الأكتاف. المقس المقفرة التي تكاد تخلو من العمران. امرأة بطرحة مطوحة خلف الكتف وصرة. فلاحات عجفاوات في جلاليب سوداء ورجال ضامرون في قمصان زرقاء تشدها علي خصورهم حبال غليظة من التيل. الأزبكية. بيوت الأمراء والأعيان. الأتباع يكدسون الأمتعة فوق الجمال. ناس تخب فوق حميرها. درت حول البركة. أوشكت أن أصطدم ببغلة يمتطيها شيخ عجوز. لحقت به جماعة من الإنكشارية، جند الوالي التركي. تميزهم ريشة ذات شعبتين فوق طراطيرهم. حاذى أحدهم العجوز فدفعه جانبا وأوقعه ثم التقط مقود البغلة وجرها خلفه. ساعدت العجوز علي النهوض وأخذ يولول على بغلته المخطوفة. واصلت الركض. تراجعت الشمس وخف لهيبها. الموسكي. عبرت القنطرة بصعوبة. خيل لي أنها ستقع من فرط الزحام. قطعت شارع الأشرفية حتى نهايته في مبتدأ شارع الغورية. عطفت على خُطّ الصنادقية. اندفعت من باب الحارة المفتوح. رأيت مدرسة السنانية التي تعلم بها شيخي مغلقة الأبواب. في مقابلها وكالة السلطان اينال مغلقة وبجوارها البيت. توقفت أمامه ألهث أسفل المشربيات المغلقة النوافذ. باب مقنطر موارب. مدخل قصير بجوار مصطبة منحوتة من الحجر. باب آخر يفتح على رحبة واسعة في وسطها حديقة صغيرة. الشيخ عبد الرحمن الجبرتي واقف قرب الباب الداخلي للبيت ومسبحته في يده. الاضطراب ظاهر علي وجهه. إلى جواره ابنه خليل الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، ويصغرني بعامين. منصور، عبده الأسود يداه مضمومتان إلى صدره وعيناه مثبتتان على عيني سيده. يدرس رغباته لينفذها قبل أن ينطق بها. لحقني جعفر بقلة الماء. حكيت لأستاذي ما وقع من أحداث. كيف قاتل المماليك في شجاعة. الواحد منهم يطلق أولا قربينته ثم يدسها تحت فخذه وبعدها يطلق طبنجاته ويقذف بها من فوق كتفه ليلتقطها خدمه، ثم يقذف بسهام الجريد الفتاك، وأخيرا يهاجم بسيفه الأحدب، وأحيانا يحمل سيفين في آن واحد ويضرب بهما ولجام الجواد بين نواجذه. لكنهم تراجعوا أمام الفرنساوية الذين نظموا أنفسهم في مربعات غريبة الشكل".
فهل يمكن أن يدور فى خَلَد عاقل أن الأسلوب العربى قد عرف قبل هذه الأيام النحسات تلك الطريقة العجيبة ذات الجمل القصيرة المتقطعة التى لا تتصل أية جملة بالتى قبلها أو التى بعدها بأى رابط، فضلا عن أن يكون ذلك فى أواخر العصر العثمانى لدن مجىء الحملة الفرنسية؟ إن هذا الأسلوب لم يعرف فى الكتابات العربية قبل العقود الأخيرة وعلى أيدى أمثال صنع الله. ولقد ارتكستُ فيه ذات مرة فكتبت قصة قصيرة به فى أوائل سبعينات القرن الماضى عندما كنت أظن أننى قصاص موهوب، ثم سرعان ما برئت من تلك اللُّوثة بفضل الله بعد أن وضعت عقلى فى راسى وعرفت خلاصى. وها هى ذى كتب النثر العربى متتاحة لكل من يريد، فليدلنى من يخالفنى فى هذا الكلام على ما ينقض قولى، وأنا زعيمٌ برجوعى عما قلته. وهذا الأسلوب بما يتسم به من انفصال جمله بعضها عن بعض وكثرة الجمل الاسمية هو فى الواقع عَرَضٌ من أعراض الشعور بالدونية تجاه الغرب، إذ يقلد فيه الكاتب العربى نظيره الأوربى الذى لا تعرف لغاته ما تعرفه العربية من روابط تصل عادة بين الجمل المتتابعة، فضلا عن أن تلك اللغات لا تتضمن إلا الجمل الاسمية، على عكس الحال لدينا حيث نستخدم نوعين من الجمل: اسمية وفعلية. وقد ذكر صنع الله فى "يوميات الواحات" أنه لجأ، فى كتابة قصة له وهو فى السجن بعنوان "أميرتى السمراء"، إلى هذه الطريقة التى تخلو من حروف العطف والربط كلون من التجديد.
صحيح أن الراوى قد حرص على تضمين كلامه الألفاظ التالية: "عفوشات، والبيرق النبوى، والطبول والزمور والأعلام والكاسات"، لكن لا شىء هنالك فى السطور المقتبسة سوى هذا. ولا ننس كذلك أنه كان حريصا طوال الوقت على ذكر كل ما يمر به من أماكنَ ومبانٍ أو يشاهده من وقائعَ وأحداثٍ أو يقابله من بشر وحيوان، وكأنه معلِّقٌ كروى من معلقينا الثرثارين الذين لا يتركون شاردة ولا واردة إلا وصدعوا أدمغتنا بها مهما تكن تفاهتها، ومعظمها بحمد الله تافه لا يستحق عناء الذكر، وبخاصة أن التلفاز يضع تحت أبصارنا كل شىء بحيث لا نحتاج إلى شىء من هذا اللت والعجن. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن الراوى كان محشورا بين الجموع التى تجرى هنا وههنا فى ذلك الحر الخانق والعرق السائل وأنه لم يكن لديه فسحة من الوقت ولا من هدوء الأعصاب ولا من انفساح المكان بحيث يمكنه رؤية ما يوهمنا المؤلف أنه كان يراه ويسجله فى مصورته الذهنية التى لا تند عنها تفصيلة من التفصيلات تَبَيَّنَ لنا أن هذا الذى يعمله صنع الله هو الغشم الفنى بعينه. لقد بلغ من كَرْب الراوى وهو سائر فى الطريق أنه كان يقع من شدة الزحام فتنفك عمامته ويجد فى إعادة لفها وكبسها فوق رأسه مشقة شديدة وأنه لم يكن يستطيع أن يعبر عن غيظه بكلمة واحدة خوفا من فرسان المماليك الذين كانوا يخطفون أغطية الرأس من فوق أدمغة المهرولين من أولاد البلد وهم يقهقهون، فكيف بالله يمكننا أن نصدق أن ذلك الرجل كان لديه من الوقت وفراغ البال وروقان الخاطر ما يجعله ينخرط فى تلك الثرثرة البغيضة التى أخذ صاحبها على عاتقه القيام بدَوْر المرشد السياحى الخام الذى لا يترك للسائح المسكين فرصة يلتقط فيها أنفاسه ويعطى آذانه إجازة فيندمج اندماجا مباشرا فى المناظر التى يمر بها ويرتاح قليلا من الثرثرة التى لا تنتهى، أو بدَوْر البنت الخليجية فى رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمى السورية المتبرّسة، أى التى تعيش فى باريس وتتصرف فى كل شىء، وبالذات فى ميدان الجنس، كما تتصرف نساء باريس بل كما لا تستطيع أولئك النسوة أن يتصرفن لأنها تفوقهن بمراحل على نحو لا يخطر على البال. فماذا قالت النعيمى عن تلك البنت الخليجية؟ قالت، والعهدة عليها، أو بالأحرى: على صديق من أصدقائها حكى لها ما كانت تصنعه البنت الخليجية معه فى الفراش، وإن كنت لا أصدقها ولا أصدقه: "حلوة ممتلئة، صدرها يجنن. ولكنها صرعتنى. فى السرير. لم تسكت: تغنى. تنتحب. لم تتوقف عن الكلام الطالع النازل. تصف ما نفعل أولا بأول كأفضل معلق رياضى فى البث المباشر. فى البداية هيجتْنى أكثر، ثم بدأتُ أحسّ وكأن كلماتها نوع من التشويش. حاولتُ إسكاتها بالقبل مطبقا على فمها. لا فائدة. ما إن أتوقف لحظة حتى تعاود البث. لم أعرف كيف انتهيت. أوف!". وهذا بالضبط ما نشعر به تجاه ثرثرة بطل الكتاب، أو بالأصح: ثرثرة مؤلف الكتاب. المضحك فى الأمر أننى فتحت "برهان العسل" الآن فقط وأنا فى عز اندماجى فى كتابة الفقرات الحالية من هذه الدراسة، فكان ما كان من وقوعى على ذلك النص فقررت اقتباسه والاستشهاد به. ورب صدفة خير من ألف ميعاد! ثم ما لزوم تعداد راوى الكتاب لأسماء تلك الأماكن دون أن يعرف القارئ عنها شيئا ودون أن يشير هو إلى مواضعها من القاهرة؟
ونفس الثرثرة البغيضة تلقانا عند وصف الراوى لبيت الجبرتى: "نفذنا من الباب الداخلي وأغلقته. عبرنا الحوش واتجه جعفر إلى غرفة الخدم بينما ولجت الغرفة المخصصة لي. كانت جدرانها مطلية بالجير وذات لون أبيض ناصع. انحنيت فوق صندوق حاجياتي ورفعت غطاءه. أخرجت حاشية كبيرة ووسادتين وملاءة. جذبت حصيرة من سعف النخيل بمربعات سوداء وصفراء بحيث تواجه الباب التماسا للطراوة. وبسطت فرشتي فوقها. طاردت الذباب والناموس. وخرجت مغلقا الباب خلفي. دخلت كوة كرسي الراحة ذات المدخل المكوع. لم تفلح فتحة التهوية العلوية في تبديد الرائحة. تبولت وغسلت يدي بجذور عيش النون الصفراء التي لا رائحة لها. عدت إلى غرفتي فوجدت خادما قد أحضر لي الأكل على طبلية. رفعت القماش الذي يغطيه. ملوخية بها قطعة من اللحم. فجل وبصل وخيار وطماطم. بنجر وخيار منقوعان في الخل. رغيفان مستديران من الخبز. لاحظت أن حجمهما أصغر من المعتاد. ولمست طعم التراب عندما مضغت لقمة. ومع ذلك أكلت في حماس. فلم يدخل جوفي شيء منذ الصباح. شربت كوبا من شربات الورد. تجشأت. دفعت الطبلية ونهضت واقفا. ولجت كرسي الراحة، ودعكت أسناني بالجذور الصفراء وتوضأت. عدت إلى غرفتي فجففت يدي وصليت العشاء. خرجت من جديد إلى الحوش المظلم. الجو حار وخانق. إلى اليسار أقبية بها اصطبل الدواب ومخزن الغلال ومطبخ كبير به ركن للأخشاب والفحم. إلى اليمين حجرات الخدم والعبيد والضيوف. أبوابها مفتوحة تتصاعد منها همهمة خافتة. تجاوزت الحجرة الواسعة المخصصة للطلبة والمجاورين وحلقات التدريس. تطلعت حولي فلم أر أثرا لأحد. اقتربت من الباب الداخلي ودفعته. صعدت سلما قليل الدرج إلى الطابق الأعلى. هاجمتني الرائحة المطهرة لنبات الشيح الممزوج بخشب الصبر. ممشي دائري يشرف علي الحوش. عقود وأعمدة من الرخام الملون. مصابيح مبلورة وقناديل فضية مضاءة. غرف مغلقة. مستوقد تسخين المياه الذي يجري في مواسير إلى الحمّام. خلعت أحد القناديل وحملته في يدي. اقتربت من قاعة مرتفعة درجتين. دفعت الباب ودخلت. رفعت القنديل إلى أعلى وأجلت البصر حولي. السقوف والجدران مزينة بالخشب المحفور والمبخور وبالقيشاني الملون. ساعة حائط من البندقية. بجوار الحائط خزانتان متقابلتان فيهما الآنية الفاخرة. أرائك وشلت حريرية فوق السجاجيد. تحف منثورة في الزوايا ومعلقة على الجدران. الاسطرلاب الذي ورثه عن أبيه ويجري عليه أبحاثه في الفلك. ثريات بفروع من البلور. شماعد. يدعو الشيخ هذه القاعة "مجلس العقد الداخل" في صدرها أبيات من الشعر مطرزة على قطعة من الحرير. تهنئة من الشيخ مصطفى الصاوي بتمام البناء. بابان ملبّسان بالأصداف والنحاس البراق. أحدهما يفضي إلى خزانة الكتب وغرف النساء والعيال. والثاني إلى فسحة بها كرسي راحة ثم القاعة الكبرى التي يجلس فيها كبار الزائرين".
إن صنع الله يذكّرنا بما يفعله الطباخون فى برنامج "فتافيت" التلفازى مثلا حين يطبخون أمام المشاهدين شيئا. ذلك أنهم لا يكفون عن شرح كل خطوة يقومون بها، والحديث عن كل عنصر من عناصر الطبق الذى يطبخونه، وتحديد الوقت اللازم لكل خطوة يخطونها فى سبيل إعداد الأكلة... ولم يكن ينقصه إلا أن يشرح لنا ماذا يصنع فى "كرسى الراحة" وبالتفصيل الممل وبالبث المباشر صوتا وصورة، والحمد لله أن صناعة البث لم تتقدم بعد إلى المدى الذى تنقل معه الروائح أيضا! ولا أظن أحدا من القراء يصدق أن يروح الراوى فى نوبة وصف لكل شىء فى بيت الجبرتى وكأنه يشاهده لأول مرة. إن هذا خَبَلٌ وصفىٌّ لا أظن الراوى كان مصابا به، فضلا عن أن تبلغ إصابته به هذا الحد!
لقد حاول الأستاذ صنع الله تسويغ كثرة التفاصيل التى من هذا النوع فى كتابه فقال، فى الحوار الذى أجراه مع "السياسة" الكويتية" السالف ذكره، إن "هناك كتابات أخرى كثيرة اعتمدتُ عليها ربما في جملة، أو أسعار السلع. وهي كتابات متناثرة هنا وهناك، خصوصا دراستين لنيللي حنا وليلى عنان. وكل هذه المصادر تمكنت خلالها من الحصول على التفصيلات التي كنت أحتاج إليها. أهمها كيف عاش الناس في تلك الأيام لأنه من وجهة نظري أن الرواية هي فن التفاصيل. وكان من الممكن بدلا من أقوم بالبحث وراء التفاصيل أن أقول إنه في سنة كذا دخلت الحملة الفرنسية على مصر ثم خرجت سنة كذا, وأملأ بذلك ألف صفحة. إذن الرواية تحتاج إلى التفاصيل حتى تعطي مصداقية للقارئ. فالأسعار والأماكن والعلاقات الشخصية تفاصيل مهمة جدا في بناء الرواية وكما في الجزء الخاص بالعبدة السوداء "ساكتة" كيف أنها في حالة صمت دائم. لذلك أطلقوا عليها هذا الاسم. حتى في الجنس لا تتكلم لأنها عبدة".
لكنه نسى شيئا مهما، ألا وهو أنه لا بد أن تأتى مثل هذه التفصيلات فى سياقها الروائى الطبيعى دون ثرثرة ودون تكلف، وإلا بدا الأمر وكأنه شراب مر يجَرَّعه القارئ تجريعا دون أن يكون هناك ما يستدعى تجرُّعه كما هو الحال هنا. أما بالنسبة إلى ما قاله عن الجارية فهو كلام مضحك جدا جدا، إذ من قال إن الجوارى كن يلزمن الصمت عندما يمارسن الجنس مع سادتهن؟ هذه أول وآخر مرة أسمع فيها هذا المنطق العجيب. ترى هل كان كل من يجامع جارية يضع بجواره على الفراش خيزرانة يلهبها بها كلما تأوهت أو غنجت أو حتى تنفست فهى تخشى إن تنفست أو قالت لها كلمة من نفسها أن يمسك بالخيزرانة ويلهبها؟ طيب يا فالح. أوتستطيع أن تقول لى: وكيف يستمتع أصحاب الجوارى بهن وهن صامتات متخشبات ينظرن بعيون ميتة كجاريتك حسب وصفك لها؟ إن هذا ليس جنسا، بل مأتما! فأل الله ولا فألك يا صنع الله!
الحمد لله أنه لم يزعم أنهم كانوا ينزعون بالكلابات ألسنة الجوارى من حلوقهن حتى يضمنوا ألا يسهون ويصدرن صوتا على سبيل الخطإ عند الجماع، إذ من المعروف أن كل بنى آدم خطاء، فلا بد إذن أن تسهو الجارية وتقول لها كلمة من نفسها مهما اتُّخِذَ من احتياطات واحترازات. أليست من بنات حواء، اللاتى تفضل الواحدة منهن أن تموت ولا تسكت أبدا حتى لو طارت فيها رقاب وقامت الحرب الكونية الثالثة، بل حتى لو قامت القيامة ذاتها؟ كما أن معالجة خطئها بإلهابها بالخيزرانة بدلا من نزع لسانها من اللغلوغ يتطلب من صاحبها أن يتوقف عما هو بسبيله إلى أن يضربها، ثم يستأنف عمله مرة أخرى بعد ذلك. وفى هذا من التنغيص والتنكيد ما فيه، فلذلك كان الأحوط هو الأخذ بمبدإ "الباب الذى يجىء منه الريح، سُدّه لتستريح". وبالنسبة إلى قوله عقب ذلك إن "الجنس في الرواية يكشف عن الوضع الاجتماعي السائد في ذلك الوقت، أما العلاقة التي كانت بين الراوي و"ساكتة" فهي مختلفة تماما عما كان بينه وبين الفرنسية "بولين" حيث كان في العلاقة كلام وحوار وحب، علاقة إنسانية وقصة" فهو كلام فى الهجايص، إذ أين العلاقة الإنسانية بين ذلك الخلبوص الفاقد الكرامة الذى كان يشعر بالزهو لأن نابليون يزنى بالبنت التى يزنى بها وبين تلك البنت نفسها التى تسلم نفسها لعدة رجال فى ذات الوقت؟ وأين العلاقة الإنسانية فى الفحشاء التى كان يرتكبها ذانك النجسان؟ ثم أين الحوار والحب بينهما، ولم يكونا يتحدثان إلا عن أعضائهما الجنسية وما يتعلق بها تقريبا؟ وهل كانت النجسة الفرنسية تنظر إليه على أنه مساوٍ لها فى الثقافة والتحضر والجنسية؟ أم تراه هو أيضا كان يمارس الجنس معها وهو ساكت ينظر إليها بعيون ميتة كعيون السملك المنتن؟ لكنه يقول إنه كان يغنى لها حينئذ وهو منسجم بل منشكح آخر انشكاح! حاجة تحير والله!
وعَوْدًا إلى الجارية ومزاعمه السخيفة حولها ننقل السطور التالية من بعض الكتب التراثية عن الجوارى لنرى هل كن يصمتن عند الجماع: يقول ا لجاحظ فى كتابه: "الحيوان"، ولم يكن للجاحظ بالمناسبة زوجة بل جارية، فهو يتكلم كلام خبير: "حدَّثنا المازنيُّ، قال: ابتاع فتًى صَلِفٌ بَذَّاخ جاريةً حسناءَ بديعةً ظريفة، فلمّا وقع عليها قال لها مرارًا: ويلَكِ، ما أوسَعَ حِرَك! فلمّا أكثَرَ عليها قالت: أنت الفداءُ لمن كان يملَؤُه... وزعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم، فراوغَتْه فلم ينقطع عنها، فحثّتْ في المشي فلم ينقطع عنها، فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت: يا هؤلاء، لي طريقٌ ولهذا طريق، ومولاي ينيـ...ـني. فسَلوا هذا ما يريدُ مني؟ وزَعَمَ أيضا أن سيارا البرقيّ قال: مرّت بنا جاريةٌ، فرأينا فيها الكِبْرَ والتجبُّر، فقال بعضنا: ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيـ...ـها. قالت: كما يكون. فلم أسمع بكلمة عامّية أشَنََعَ ولا أدلّ على ما أرادت ولا أقصَر من كلمتها هذه... ودخل قاسم منزل الخُوارزمي النخَّاس، فرأى عنده جارية كأنها جانّ، وكأنها خُوط بانٍ، وقد قال جحشويهِ في شعر شبيها بهذا القول، حيث يقول: وكأنّها جَدْل عِنان، وكأنه الياسمين نعْمةً وبياضًا، فقال لها: أشتريك يا جارية؟ فقالت: افتحْ كيسَك تسرَّ نفسَك. ودخلت الجارية منزل النخّاس، فاشتراها وهي لا تعلم. ومضى إلى المنزل، ودفعها الخوارزميُّ إلى غلامه، فلم تشعر الجارية إلا وهي معه في جَوْف بيت. فلما نظرتْ إليه وعرفتْ ما وقعَتْ فيه قالت له: ويلكَ! إنك واللّه لن تَصِل إليّ إلا بعد أن أموت. فإن كنت تجسُرُ على نَـ...ـك من قد أدرجوه في الأكفان فدونَك واللّهِِ. إن زلتُ منذ رأيتك ودخلتُ إلى الجواري أصف لهنَّ قبحك وبليّةَ امرأتك بك. فأقبل عليها يكلِّمها بكلام المتكلمين، فلم تقبل منه، فقال: فلم قلتِ لي: افتَحْ كيسَك تسرَّ نفسك؟ وقد فتحتُ كيسي فدَعيني أَسُرّ نفْسي، وهو يكلِّمها وعينُ الجارية إلى الباب، ونفْسُها في توهُّم الطّريق إلى منزل النخّاس. فلم يشعر قاسمٌ حتّى وثبَتْ وثبةً إلى الباب كأنّها غزال، ولم يشعر الخوارزمي إلاّ والجارية بين يدَيه مغشيٌّ عليها. فكرَّ قاسمٌ إليه راجعا وقال: ادفعْها إليّ أشفي نفسي منها. فطلبوا إليه فصفَح عنها، واشتراها في ذلك المجلس غلامٌ أملحُ منها، فقامت إليه فقبَّلت فاه، وقاسمٌ ينظرُ، والقومُ يتعجَبون ممّا تهيأ له وتهيَّأ لها. وأما عيسى بن مروان كاتب أبي مروان عبد الملك بن أبي حمزة فإنّه كان شديد التغزُّل والتّصندل، حتَّى شرب لذلك النبيذَ وتَظَرَّف بتقطيع ثيابه وتغنَّى أصواتا، وحفظ أحاديثَ من أحاديث العشّاق ومن الأحاديث التي تشتهيها النساء وتفهمُ معانِيها. وكان أقبحَ خلْق اللّه تعالى أنفا، حتَّى كان أقبحَ من الأخنَس ومن الأفطس والأَجدع. فإمّا أن يكون صادَقَ ظريفةً، وإما أنْ يكونَ تزوَّجها. فلما خَلاَ معها في بيتٍ وأرادها على ما يريد الرَّجلُ من المرأة امتنعت، فوهب لها ومنَّاها وأظهر تعشقها وأرَاغَها بكلِّ حيلة. فلما لم تُجِب قال لها: خبِّريني، ما الذي يمنعُك؟ قالت: قُبْح أنفِك وهو يَستقِبلُ عيني وقتَ الحاجة. فلو كان أنفُك في قفَاك لكان أهونَ عليَّ. قال لها: جُعِلْتُ فِداك! الذي بأنفي ليسَ هو خِلقةً، وإنّما هو ضربةٌ ضُرِبتُها في سبيل اللّه تعالى. فقالت واستغربَتْ ضحِكًا: أنا ما أبالي في سبيل اللّه كانَتْ أو في سبيل الشَّيطان. إنَّما بيَ قُبْحُه. فخذْ ثوابَك على هذه الضَّربة من اللّه، أمَّا أنَا فلا".
ومن "أخبار النساء" لابن الجوزى: "قال عليّ بن الجّهم: لمّا أفضت الخلافة إلى جعفر المتوكّل على الله أهدي إليه ابن طاهرمن خراسان هديّةً جليلةً فيها جوارٍ، منهنّ جاريةٌ يقال لها: "محبوبة" كانت قد نشأت بالطّائف، وكان لها مولىً قد عُنِيَ بها، فبرعت في فنون الأدب وأجادت الشّعر. وكانت راويةً ظريفةً مجيدةً للغناء. فقربت من قلب المتوكّل وغلبت عليه. قال: فخرج عليّ يوما وقال لي: يا علي، دخلت السّاعة على قينة وقد كتبت بالمسك على خدّها جعفرا، فما رأيت أحسن منه، فافعل فيه السّاعة شعرا. فأخذت الدّواة والقرطاس، فانقفل عليّ حتّى كأنّي ما عملت بيتا قط. فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أذنتَ لمحبوبة أن تقول شيئا عسى أن ينفتح لي. فأمرها، فقالت مسرعةً، وأخذتِ العود فجسته وصاغت لحنا، واندفعت وغنّت:
وكاتبةٍ بالمسك في الخدّ جعفرا * بنفسي خطّ المسك من حيث أثرّا لئن أودعتْ سطرا من المسك خدّها* لقد أودعت قلبي من الشّوق أسطرا.
فاعجب لمملوكٍ يظلّ مليكه * مطيعا له فيما أسرّ وأجهرا
قال عليّ: وغضب عليها مرّة، وكان لا يصبر عنها، فأمر جواري القصر أن لا تكلّمها واحدةً منهنّ. فكانت في حجرتها أيّاما، وقد تنغّص عيشه لفراقها. فبكرتُ عليه يوما، فقال: يا علي. قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: رأيت الليلة في منامي كأنّي رضيتُ عن محبوبة، فصالحتها وصالحتني. فقلت: خيرا يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وسرّك. إنّما هي عُبَيْدتك. والسّخط والرّضا بيدك. فوالله إنّا لفي حديثنا إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين، سمعت صوت عودٍ من غرفة محبوبة. قال: فقم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع. فنهضنا حتّى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب العود وتغنّي:
أدور في القصر، لا أرى أحدا * أشكو إليه ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصيةً * ليست لها توبةٌ تخلّصني.
فهل شفيعٍ لنا إلى ملكٍ * قد زارني في الكرى فصالحني
حتّى إذا ما الصّبح لاح لنا * عاد إلى هجره فصادمني؟
قال: فصاح أمير المؤمنين، وصحت معه. فتلقته وأكّبت على رجله تقبّلها، فقال: ما هذا؟ فقالت: يا مولاي رأيت في ليلتي هذه كأنّك صالحتني، فتعلّلتُ بما سمعت. قال: فأنا والله قد رأيت مثل ذلك. وقال: يا عليّ، أرأيت أعجب من هذا، وكيف اتّفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنّا فيه؟ واصطلحا. وما زالت تغنّيه هذه الأبيات يومنا ذلك. وازدادت حظوتها عنده حتّى كان من أمره ما كان".
وفى "ألف ليلة وليلة" حكايات عشق وغرام بين سادة وجوارٍ، وليس هناك صمت ولا خَرَس، بل ضحك وفرفشة كما ينبغى أن يكون الأمر فى مثل تلك الحال. والحمد لله أن الجوارى عاقلات فاهمات للحياة ولطبيعة الممارسات الجنسية ولا يُصِخْن لهذا السخف الماسخ، ويتصرفن التصرف الطبيعى فى مثل تلك الظروف، وإلا لاستحال الأمر إلى كابوس! ويكفى أن أحيل القارئ إلى حكاية غانم بن أيوب مع قوت القلوب جارية هارون الرشيد، وحكاية على بن بكار وشمس النهار، وهى محظية من محاظى الرشيد أيضا، ليرى كيف تتصرف كل من الجاريتين اللتين لم تُبْلَيا بشىء من أفكار الماركسيين الشاذة الغريبة ولا تعرفان تخشُّبًا ولا بَكَمًا ولا تنظران نظرات لا معنى لها كالجارية البلهاء فى كتاب صنع الله إبراهيم. والنسخة التى فى يدى الآن، أو بالأحرى: أمامى على شاشة الكاتوب، مصرية تماما روحًا ولغةً. فهل يقال بعد هذا إن الجوارى كن يعامَلْن فى المباضعة معاملة تختلف عن معاملة الحرائر؟ هذا كلامٌ سخيف من كلام الشيوعية الذى مللناه لحد الموت عن الطبقية والسادة وأقنان الأرض وما إلى هذا. ألا يعرف صنع الله أن كثيرا من خلفاء المسلمين وأولادهم قد أنجبتهم جوارٍ؟ إن فى كتب التراث كثيرا جدا من قصص الجوارى تصورهن منعَّمات معشوقات متحكمات فى أحرار الرجال متلاعبات بقلوبهم. ماذا يريد أكثر من هذا إن كان هناك أكثر من هذا؟ وأخيرا أتظن يا صنع الله أن الجاحظ، الذى لم يكن يستطيع الكف عن الضحك، وإلا مات، كان يطيق أن يجامع جاريته وهى ساكتة خرساء لا تحدثه ويحدثها، ولا تُضْحِكه ويضحكها؟ كنت أتمنى أن يكون الجاحظ حيا. إذن لعلمك كيف تفكر، ولجعل منك أمثولة للأجيال القادمة إلى يوم الدين مثلما جعل من أحمد بن عبد الوهاب حين وضع فى التهكم به "رسالة التربيع والتدوير". وفى الجبرتى كثير من الأخبار التى تبدو فيها الجوارى سعيدات يعاملهن سادتهن معاملة جد كريمة ويرفهون عيشهن ترفيها كبيرا.
وقد كنت نويت أن أقف عند هذا الحد لولا أننى بالمصادفة لمحت على شاشة كاتوبى كتاب إدوارد وليم لين، الذى أنزلته من المشباك منذ ليلتين رغم وجود نسخة ورقية نادرة فى حوزتى، ففتحته فوجدت يه النصوص التالية عن الجوارى فى مصر فى القرن التاسع عشر: وفى أول نص نرى فريقا من الأغنياء يستعينون بامرأة تعلم بناتهم وجواريهم الصلاة والقرآن والقراءة والكتابة. لاحظ: بناتهم وجواريهم معا دون تفريق: "Some of the rich engage a "sheykhah" (or learned woman) to visit the hareetn daily; to teach their daughters and female slaves to say their prayers, and to recite a few chapters of the Kuran ; and sometimes to instruct them in read ing and writing". وفى نص آخر نقرأ أن الجوارى البيض مفضلات عند المصريين من أصل تركى على الحرائر، وأن كثيرات منهن يفضلن البقاء مع سادتهن على العتق والعودة إلى أهليهن حُرّاتٍ لما يتمتعن به من معاملة ممتازة كلها تدليل ورفاهية: "The white slaves, being often the only female companions, and sometimes the wives, of the Turkish grandees, and being generally preferred by them before the free ladies of Egypt, hold a higher rank than the latter in common opinion. They are richly dressed, presented with valuable ornaments, indulged, frequently, with almost every luxury that can be procured, and, when it is not their lot to wait upon others, may, in some cases, be happy : as lately has been proved, since the termination of the war in Greece, by many females of that country, captives in Egyptian hareems, refusing their offered liberty, which all of these cannot be supposed to have done from ignorance of the state of their parents and other relations, or the fear of exposing themselves to poverty". ثم النص التالى: "Often, indeed, if mutual attachment subsist between her and her master, the situation of a concubine-slave is more fortunate than that of a wife". إلا أننى وجدت ايضا هذا النص الذى يقول أيضا إن ملابس الجارية لا تختلف عن ملابس الحرة فى مصر بما يعنى أنه ليست هنا تفرقة فى هذا المجال: "The dresses of the female slaves are similar to those of the Egyptian women".
والآن لندلف إلى لغة القصة، وأول ما يخطر لنا من سؤالات هو: هل كانت كلمة "الغدارة" معروفة فى ذلك الحين؟ لقد بحثت عنها فى الجبرتى عبثا، ولو كان يستعملها لأتى على ذكرها. ذلك أن ابن الحلال يزعم أن الجبرتى قد اشترى غدارة وبارودا كى يحمى بيته وأسرته من عدوان الغوغاء أيام هيجان المصريين ضد الحملة الفرنسية. فهل كان الجبرتى يستعين فى الدفاع عن نفسه بالغدارات والبارود؟ أترانا فى شيكاغو المحطة حيث يكثر الكاوبويات الملاعين فى الحانات وحولها، وفى جيب سروال كل منهم مسدس يخرجه عند اللزوم فى لمح البصر أو هو أقرب، ثم يديره فى الهواء بحركة بهلوانية نصف كُمّ، ثم "طاخ طوخ طيخ"، فإذا بالخصم مجندل يتشحَّط فى دمائه على الأرض، ولا أحد يسأل عن صحته؟ تصوروا الجبرتى وقد لبس قبعة وسروالا واسع الساقين (مُودَة "رِجْل الفيل") مغلَّفا بِوَاقٍ جلدى فضفاض (ولاتسألونى عن السبب فى وجود هذا الواقى الجلدى، فأنا لم أكن كاوبويًا فى يوم من الأيام)، وقد وضع فى جانب فمه سيجارا ضخما وهو يرطن بالإنجليزية على طريقة الأمريكان التى يعوّجون فيها أفواههم ويلوون ألسنتهم، وبالذات الكاوبويات منهم، وبالذات بالذات الكاوبويات المجرمون القراريّون! أدفع نصف عمرى وأرى الجبرتى فى هذا الوضع، وهو يُحَرِّق الأُرَّم وينظر إلى صنع الله شَزْرًا لما افتراه عليه فى هذا الكتاب ثم يستل "غدارته" فى "لا وقت: in no time" ويفرغها فى كرشه، وهو يتمتم من بين أسنانه (بالأمريكانى طبعا): "علشان تحرَّموا تاكْلوا جِلاَسْ، وتقطّعوا فى فَرَاوِى الناسْ: Alashan tiharramu taklu glaas, witkatta'u fi farawi-nnaas"!
كذلك نراه، أى نرى الأستاذ صنع الله (أو بالأحرى: نرى الراوى، فصنع الله فى الواقع هو الراوى، والراوى هو صنع الله)، قد استخدم كلمة "الشمّاعين" بمعنى "كاسحى المجارى": "الرائحة العفنة تأتي من ناحية الحفرة التي تُفْرَغ بها كراسي الراحة. لم يأت أحد من الشماعين لكسحها منذ أيام". ولأنى لم أعد أطمئن أبدا إلى مقدرته الفنية ولا معارفه التاريخية فقد رجعت إلى الجبرتى الذى اعتمد عليه كثيرا، بل كان جل اعتماده عليه، وإن لم يستطع أن يفيد من ذلك الاعتماد كما ينبغى بسبب من قصوره الفنى والفكرى، فوجدت النص التالى، وهو، فى حدود علمى، النص الوحيد فى الكتاب الذى وردت فيه كلمة "شمّاعون": "وانعدم وجود السمن والزيت والشيرج وزيت البزر وزيت القرطم لاحتكارها لجهة الميري، وأغلقت المعاصر والسيارج، وامتنع وجود الشمع والعسل والشمع المصنوع من الشحم لاحتكار الشحم والحجز على عمال الشمع فلا يصنعه الشمّاعون ولا غيرهم". وفى معجم "تاج العروس" للزبيدى معاصر الجبرتى وصديقه، وكان يسكن القاهرة حيث مات فى الطاعون قبل دخول الفرنسيس بسنوات، أن "الشمّاع" هو من يعمل الشمع، وهذا هو معناها فى كل المعاجم التى نعرفها. فما معنى هذا؟ معناه أن صنع الله إبراهيم يحول الشمع والعسل إلى خراءٍ ومجارٍ، ولله فى خلقه شؤون. ثم يصفه أحدهم بأنه كبير الكتاب، على غرار "كبير الرحيمية"! اللهم إلا إذا قيل إنهم فى ذلك الوقت، ولشُحّ الشمع نظرا لاضطرابات القاهرة التى أوقفت المراكب السائرة، كانوا يغشّون فى صناعة الشمع ويصنعونها من الفضلات البشرية. ألا نكتشف الآن فى مصر أن بعض الجزارين يبيعون للناس لحم الحمير الميتة على أنها لحم ضأن، والناس تأكل ولا هى هنا، بل مبسوطة وآخر انسجام؟ فما وجه الغرابة إذا قلنا ذلك عن الشمع تبييضا لوجه المؤلف على الأقل، وهو رجلٌ علينا جِدّ عزيز، ومن أجله يرخص الغالى؟
وما دمنا فى المراحيض والمجارى فلعله أن يكون من المستحسن الإشارة إلى ما تكرر فى الكتاب من استعمال الراوى كلمة "كرسى الراحة" للدلالة على المرحاض. وقد بحثت عنها وكررت البحث فى كتاب الجبرتى أستاذ الراوى صاحب تعبير "كرسى الراحة" فلم أجدها بتاتا. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإننا فى قريتنا التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية كنا نسمى المرحاض بــ"الكرسى" ("الكرسى" فقط دون شىء آخر). كذلك وجدت فى "عجائب الآثار" كلمة "الملاقى"، وكنا نستخدمها فى القرية للدلالة على فتحة المرحاض البلدى التى من شأنها تلقِّى فضلات المتغوط. أما كلمة "كنيفات" التى وردت فى الكتاب مرة على الأقل فهى من معجم الجبرتى كما حَزَرْتُ، ومفردها: "كنيف". فلماذا لم يستمر الكاتب على تلك اللفظة بدلا من الحذلقة؟
وكذلك الأمر فى قول كاتبنا الهمام فى شخص الراوى: "أكلتُ فى حماس"، إذ لا وجود لعبارة "فى حماس" أبدا عند الجبرتى، بل لا وجود لكلمة "حماس" البتة. والموجود فقط هو لفظ "حماسة"، أى شِعْر الحرب والنفخ فى عزائم الرجال. بل إن كلمة "حماس" لا وجود لها بهذا المعنى فى لغة الضاد، بل تعنى نوعا من الشجر. وهذا من قلة تبصر الكاتب الذى كان ينبغى أن يبذل جهدا أكبر كثيرا مما بذل، إذ الفن لا يسلم مقادته لكل من هب ودب، بل لا بد من العرق والسهر والدموع والمعاناة والألم. هكذا هى طبيعة الفن كما فهمها حتى أجدادنا من العرب القدماء أمثال زهير بن أبى سلمى والحطيئة والفرزدق، الذين لم يكن أحد منهم متنورا حداثيا! ومن تفانين الشيخ صنع الله، بارك الله فيه وأعلى مراتبه ونصره على من يعاديه، تسمية بطل الكتاب لمعجم "الصِّحَاح" الذى ألفه الجوهرى بــ"القاموس العربى للجوهرى"، ولا أدرى ولست إخال أدرى من أى واد من أودية عبقر اصطاد هذه التسمية الحلمنتيشى. ألم أقل إنه لا يصبر على متطلبات الفن؟ إن الرجل لا يعرف إلا سلق البيض، ودمتم!
ومن هذا الوادى العبقرى العجيب حيث تسكن الجن والشياطين التى تلهم عباقرة الشعراء بكل معجز غريب، قوله على لسان الراوى: "حوليّات الإسحاقى"، يقصد بــ"الحوليات" كتابا فى التاريخ يسجل فيه صاحبه الحوادث عاما وراء عام كما صنع الجبرتى مثلا. وقد اكتفى بذكر اسم الكتاب دون أن يعرّفنا شيئا عنه وكأنه من الشهرة بمكان، مع أنه يطنب كثيرا فى أشياء تافهة. المهم لقد وجدت الكتابين التاليين لمحمد بن عبد المعطى بن أبي الفتح بن أحمد الاسحاقي: "لطائف (الـ)أخبار الأُوَل فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول"، و"دوحة الأزهار الإسحاقية فيمن ولي الديار المصرية"، فهل هذا هو المراد؟ ولكنى لم أعثر على شىء اسمه: "حوليات الإسحاقى". وبغض النظر عن هذا كله هل كانت كلمة "حولية" معروفة لدن تأليف الإسحاقى كتابه، وهو من أهل القرن الحادى عشر الهجرى؟ أو حتى فى عصر الجبرتى؟ لقد نظرت فى "تاج العروس" للزبيدى، معاصر الجبرتى وصديقه كما هو معروف، فلم أجد هذا المصطلح. وكل ما عثرت عليه هو "جملٌ حَوْلِىٌّ، ونباتٌ حولى، وكل ذى حافر أَوْفَى سنةً هو حولى"، بمعنى "مَرَّ عليه حَوْلٌ"، أى عام. وفى شعر نابغة بنى شيبان مثلا: "قهوة حولية"، أى خمرٌ مرَّ عليها فى الدِّنَان عام. ومن أمثال العرب القديمة: "لا تحبق فى هذا الأمر عَنَاقٌ حولية"، أى أمر لا قيمة له ولا تأثير. وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى من أهل القرن التاسع عشر: أن "الحولية"، وجمعها "حوليات"، هى القصائد التى كان زهير بن أبى سلمى ينظم الواحدة منها فى حولٍ، أى عام، رغبةً منه فى التجويد. وهذا كل ما هنالك. فأين من هذا ما كتبه صنع الله إبراهيم، الذى يطنطن له المطنطنون؟ وأين هذا منه؟
ومما يؤخذ على الكاتب أيضا من ناحية عجزه عن استخدام أسلوب يوحى بالعصر ويمثل اللغة التى كانت مستخدمة أيامها، استعماله تعبير "أنا الآخر": "نهضت واقفا منزعجا أنا الآخر"، مع أن هذا التعبير لم يكن له وجود فى العربية فى ذلك الحين، بل دخل فيما بعد إلى لغة الضاد حين اتصلت لغة القرآن ولغة الفرنسيس ونشطت حركة الترجمة من هذه إلى تلك فاستخدم بعض الكتاب عندنا هذه العبارة على سبيل التقليد للفرنسيين فى قولهم مثلا: "Nous autres. Vous autres... إلخ". وهناك من لغويينا من لا يقبل ذلك، مؤكدا أنه لا يصح استعماله فى العربية.
وفى موضع آخر من الكتاب نقرأ ما كتبه الراوى فى يومياته إذ يقول: "ووجدنا أن الفرنساوية أحدثوا حديقة للحيوان وأخرى للطيور وخصصوا جانبا من الأرض للتجارب الزراعية. وجانبا آخر لمرصد ومطبعة ومجموعة آثار وورشة تصنع بها أجهزة جراحية وبراجل وعدسات تلسكوبية وميكروسكوبية وأدوات رسم ومساحة وأصباغ للطباعة وشفرات سيوف وقبعات"، فهو يستعمل كلمتى "تلسكوبية وميكروسكوبية"، ولا أظنهما كانتا معروفتين فى مصر آنذاك، وبخاصة أنهما لم تردا فى كتاب الجبرتى، بل الذى ورد فيه هو كلمة "النظارة" للدلالة على المنظار المقرّب، وقد رصدتُها مرة واحدة.
وأظرف من هذا أنه يجعل مصابيح الأزهر تضاء بالغاز. وهذا هو النص المقصود، وهو من كلام الراوى لبولين: "وشرحت لها معني المجاورة حيث التغذية مضمونة من خلال التوزيع اليومي لحوالي قنطارين من الخبز، بالإضافة إلى الغاز الضروري لإنارة المصابيح وفي كل شهر يوزعون علينا عطايا للمصاريف". ولا يدرى القارئ ماذا يقصد المؤلف بالغاز: هل يقصد "الغاز"، تلك المادة الهوائية فعلا؟ لكن هل كانت الجراية تتضمن نصيبا من الغاز لكل مجاور؟ لم نسمع بهذا من قبل. ثم أين كانوا يحتفظون بهذا الغاز؟ هل كانت هناك أنابيب؟ أم هل يريد الكاتب ما يسميه عامة المصريين: "الجاز"؟ لكن هل كان المصريون، إن كانوا يعرفون الجاز فى ذلك الوقت، يسمونه بهذا الاسم؟ وهل كانوا ينطقون الجيم غينا على هذا النحو؟ أيا ما يكن الأمر فلا وجود لتلك الكلمة فى الجبرتى ولا فى "تاج العروس". ومثلها قول الراوى عن الجبرتى: "سألته بعد انصراف الشيخ المهدي عما إذا كان..."، فهذا التركيب لم يكن معروفا فى الأساليب العربية فى ذلك الوقت، بل هو ترجمة حرفية تمت فيما بعد لعبارة "whether… \if I asked him" الإنجليزية أو عبارة "Je l'interrogeai si…" الفرنسية. وأذكر أن الأستاذ العقاد قد أخذ على د. أحمد فؤاد الأهوانى استعماله هذا التركيب فى بعض ما كتب، وإن كنت لا أذهب إلى المدى الذى ذهب إليه العقاد، ولكن مع عدم تحبيذى للجوء إليه إلا للضرورة، وفى أضيق نطاق.
كذلك يستعمل الراوى المصطلح ا لجغرافى: "رأس الرجاء الصالح"، وهو المصطلح الذى يدل على طرف القارة الإفريقية الجنوبى المطل على المحيط الهندى. وهذا المصطلح لم يكن معروفا بعد فى العربية، وهو لفظ أطلقه الأوربيون على ذلك الموضع أيام الكشوف الجغرافية تفاؤلا به بعد أن كان يسمى قبلا: "رأس العواصف". وهو بالإنجليزية والفرنسية: "The Cape of Good Hope. Le cap de Bonne Éspérance ". وحتى لو افترضنا أنه كان معروفا للمصريين فى وقت الحملة الفرنسية فلا يمكن أن يكون بنفس الترجمة التى عُرِف بها بعد ذلك واستقر العرف عليها حتى الآن، بل لا بد أن يمر عليه وقت يقضيه فى قلق واضطراب ويتخذ صورة أو صورا أخرى قبل أن ينتهى إلى وضعه الحالى كعادة أمثاله من المصطلحات. وما دمنا لا نعرف أحدا فى ذلك العصر استعمل هذا المصطلح فمعنى ذلك أن ابن بجدته هو راوى وقائع الكتاب، الذى لم تكن ثقافته ولا معرفته باللغة الفرنسية ولا العربية لتؤهله لترجمة المصطلح على ذلك النحو الدقيق و الأنيق بحيث يكسب القبول النهائى دفعة واحدة لا مثنوية فيها. ومن المصطلحات التى لم تكن قد عُرِفَتْ فى العربية، أو على الأقل: لم تكن عرفت بالمعنى الحالى، كلمة "الاستقلال"، وكلمة "وطنىّ" اللتان استعملهما الرواى بمعناهما الحالى، على حين يستعمل الجبرتى الأولى فى مثل "استقل فلان بالإمارة"، لا فى مثل قولنا: "استقلت مصر عن بريطانيا" وأمثاله، أما الثانية فلا وجود لها فى "عجائب الآثار". ومن المصطلحات التى لم تكن قد عُرِفَت فى ذلك العصر كلمة "الجمهورية"، التى وردت على لسان الراوى ترجمة لقول بولين إن نابليون "أنقذ الجمهورية من ثورة الغوغاء وقضى عليهم بلا رحمة". ذلك أن الترجمة الفرنسية لكلمة "La Republique" حسبما جاء فى إحدى الاتفاقيات بين سلطات الاحتلال الفرنسى وممثلى الدولة العثمانية هى "المشيحة" لا "الجمهورية". وهذا هو النص كما نقله الجبرتى مرتين بنصّه ضمن الاتفاقية المذكورة فى حوادث شهر شعبان سنة 1214هـ: "صح وثبت وتقرر بختوماتنا الخاصة بنا بالمعسكر حيث وقعت المداولة بحد العريش في شهر يلويوز سنة ثمان من إقامة المشيخة الفرنساوية"، "صح وجرى بمحل العسكر العام بالصالحية في ثامن شهر يلويوز سنة ثمان من المشيخة". ونفس المصطلح نجده فى النص التالى الذى يتحدث عن نية كليبر فى أن تُرْسَل كسوة الكعبة "إلى مكانها بمكة وتكسى بها الكعبة على اسم المشيخة الفرنساوية"، والقصة موجودة فى حوادث رمضان سنة 1215هـ، وكذلك فى قول الجبرتى إنه "قد وصل لساري عسكر أمر من المشيخة بوصول مراكب الموسقو التي تحمل الذخائر الى الفرنساوية". أما فى نص التحقيق القضائى الثانى مع سليمان الحلبى فنجد مصطلح "الجمهورى" بلفظ التذكير: "نهار تاريخه ستة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهوري الفرنساوي". والملاحظ أن أسماء الشهور هى أسماؤها حسب التقويم الثورى لا حسب التقويم الميلادى، ولسوف نعود بالتفصيل إلى هذه النقطة فيما بعد.
قد يقال إنك تكلف الأستاذ صنع الله إبراهيم شططا من الأمر، إذ ما له وهذه الدقائق؟ إنه مجرد قصاص! وهنا مربط الفرس، فالقصاص الحقيقى هو الذى يُعْنَى أشد العناية بمثل تلك الدقائق ويتقنها ويدرسها جيدا قبل أن يمسك بالقلم. أما إجراء القلم على الورق فهذا مما يستطيعه كل أحد، ولا يصعب على أى إنسان. وإلا لقد كان عليه فى تلك الحالة أن يلجأ إلى رواية كتابه بضمير الغائب، وعند ذاك يمكنه أن يكتب على راحته بأسلوبه هو، لأن المتكلم حينئذ هو صنع الله المعاصر لنا، وليس تلميذ الجبرتى الذى كان يعيش فى عهد الغزو الفرنسى. صحيح أن صنع الله استخدم عددا من الكلمات التى كانت شائعة فى ذلك العصر، لكنْ ينبغى ألا يفوتنا أنه كان ينقل كلام الجبرتى كله تقريبا كما هو، أما حين يستقل قليلا عنه فقد كانت خطاه تضطرب ويترنح فى مشيته ويحتاج إلى من يمسكه ويتولاه حتى لا يسقط أرضا.
لكن أكانت هناك ضرورة لتقديم كتاب "العمامة والقبعة" بضمير المتكلم أصلا؟ لقد سئل المؤلف فى حوار معه فى جريدة "السياسة" الكويتية السؤال التالى: "رغم أنك اعتمدت على ما كتبه الجبرتي إلا أنك اخترت أن تروي الأحداث من وجهة نظر أحد تلاميذه. لماذا اخترت شخصية "المصري" بطل الرواية التلميذ التابع للجبرتي ليدون الأيام والأحداث مثل أستاذه؟" فأجاب قائلا: "بدايةً العمل الروائي يطرح سؤالا: من يكون الصوت في الرواية؟ هل أنا الكاتب أم راوٍ آخر أم أحكي من خلال شخصيات عدة؟ وأستريح دائما لصيغة الأنا للمتكلم، وأغلب أعمالي تقوم على ذلك البناء. وكنت أريد تقديم لوحة بصرف النظر عن تفصيلات الأحداث أو الشخصيات وغيرها لهذا العصر وأهتم بتفاصيل كثيرة مثل: كيف يعيش الناس؟ وما يأكلونه ويشربونه؟ وماذا يرتدون؟ وكيف يتحدثون مع بعضهم؟... ورأيت أنه يمكن أن يحدث ذلك من خلال دخول بيت الشيخ الجبرتي الذي يعتبر الشخصية الرئيسية في الرواية. و في رأيي الجبرتي قام بعمل نقلة نوعية في تسجيل التاريخ ووقائعه من خلال "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". وأصبحت هناك فرصة لدخول أفضل إلى عالمه من خلال وجود مرافق له. هذا التلميذ يدون الأيام مثل أستاذه بل وينقل ما يحدث من أحداث جسام ويطلب منه الجبرتي أن يخرج ويشاهدها ويحكيها له ليدونها ويتبادل الاثنان الحكايات. وهذا ما يسمح لنا أن نجعل هذا التلميذ يتعرف إلى امرأة فرنسية ليحتك بعالم آخر مغاير".
هذا جواب المؤلف، أما أنا فأقول غير متردد ولا مجمجم: لا ليست هناك أية ضرورة لذلك، بل كل الضرورات كانت تستوجب تقديم ذلك الكتاب للقارئ بضمير الغائب، ولا يصح أن يتخذ صنع الله إبراهيم من ميله نحو استخدام ضمير المتكلم ذريعة للّجوء إلى هذا الاسلوب، ففى الفن ليست المسألة هى: ماذا تريد؟ بل ماذا ينبغى أن تفعل؟ ولكن لماذا قلت إنه ليست هناك ضرورة تستوجب تقديم الكتاب بهذه الطريقة؟ لعدة أسباب أجتزئ منها بما يلى: أولا أن الراوى الذى قدم لنا بلسانه أولا، ثم بقلمه ثانيا، وقائع الكتاب لم يكن له دور هام بحيث تقل قيمة الرواية، فضلا عن أن ينقصها شىء، لو كانت قد رويت بضمير الغائب. ذلك أن الشىء الوحيد الذى يختص به الراوى هو مجامعته لبولين عشيقة نابليون، وهذا أسوأ ما فى الرواية خلقيا وفنيا على السواء كما سبق بيانه، فلا موجب من ثم لتكرار القول فيه. وثانيا لقد رأينا أن صنع الله لم يحسن إنطاق الراوى بلغة عصره، اللهم إلا حين كان يأخذ كلام الجبرتى كما هو دون تصرف تقريبا. ولو أنه ألقى بالراوى خارجا لأراح واستراح، وتحول الكتاب إلى كتاب تاريخى كما ينبغى أن يكون، لا قصة فنية كما حاول صنع الله دون جدوى أن يجعله. وثالثا أن الراوى لم يقدم لنا شيئا لم يقله الجبرتى حتى لو كان معتمد الأستاذ صنع الله على مصادر أخرى غير مؤرخنا المصرى الكبير، إذ إن الجبرتى قد غطى كل شىء تقريبا حتى إن الراوى لم يأت تقريبا بأى جديد، على الأقل فى الأمور التى تهمنا، علاوة على أن أسلوب الجبرتى، رغم ما يظهر فيه أحيانا من أخطاء لغوية قليلة، يحلق فى سماء عالية من حيث الوصف والحيوية والدقة والأصالة والعمق لا تُطال أبدا، فضلا عن أن يكون المتطاول هو راوى الكتاب، الذى هو فى الواقع صنع الله نفسه بلحمه وشحمه كما هو معروف من الأدب بالضرورة، وليس أحدا آخر. ورابعا لقد ارتكب الأستاذ صنع الله أخطاء قاتلة وسخيفة معا فى رسمه شخصية الراوى وفى رصده لملامحه النفسية وتصرفاته: فمثلا فى الوقت الذى نراه لا يزال مبتدئا فى اللغة الفرنسية التى كان قد التقط بعض ألفاظها وعباراتها من تاجر فرنسى كان يشتغل عنده قبل الانتقال إلى بيت الجبرتى، وهى ألفاظ وعبارات لا تقدم ولا تؤخر كما لا أحتاج إلى أن أنص على ذلك، إذا به يتناقش مع بولين فى أعقد الموضوعات حتى وهما يمارسان العشق والغرام ويستمع إلى المحاضرات التى تلقى فى المجمع العلمى الفرنسى بغاية السهولة، لنفاجأ به بعد ذلك كله يعجز أمام ترجمة عبارة "الموت الزؤام" إلى الفرنسية فى المنشور الذى كتبه قرب نهاية الرواية لتعليقه فى الأماكن العامة بالقاهرة بغية تحريض الناس على مقاومة الاحتلال الفرنسى. بالذمة أليست هذه حاجة تكسف؟ أوقد تَرْبَسَتْ مع صاحبنا الذى كان يتراطن والبنت الفرنسية بكل طلاقة فى السرير وخارج السرير ولا يعجز معها عن شىء لا فى لغة اللسان ولا فى لغة السِّنان، فلم يقدر على ترجمة "الموت الزؤام" يا سيد صنع الله؟ ثم إن ذلك الولد لم يُبْدِ طوال الكتاب تقريبا أية علامة على أنه يتمتع بكرامة شخصية أو وطنية، ولم يظهر أية نخوة دينية، بل رأيناه يجترح الفاحشة بضمير بارد، وإن كان العيب عيب صنع الله لا عيبه هو، لكن هذه ليست هى القضية الآن، فما عدا مما بدا حتى ألفيناه فجأة يفكر فى مقاومة الفرنسيين بالمنشورات المضحكة التى طَقَّتْ فى يافوخه دون سابق إنذار والتى لم يلصق منها سوى نسخة أو اثنتين قبل أن يمسكوه ويعتقلوه بضعة أيام كان فيها مثالا للجبن الذليل ليطلقوا سراحه فيعود إلى تنبلته المعهودة، وكأن شيئا لم يكن. لقد بلغ من بلادة حسه وضميره أنه كان طوال مرافقته تقريبا للحملة الفرنسية على الشام يتحدث فى يومياته (فى يومياته: لاحظ) على أنه واحد من الفرنسيين، مسجلا ما يرتكبونه ببرودة دم، واصفا العرب والمسلمين الذين يضربهم الفرنسيون بالمدافع والقنابل ويقتلونهم تقتيلا بــ"العدو". طبعا كله من الأستاذ صنع الله، منه لله، لأن هذا الولد ليس له وجود إلا فى خيال المؤلف كما نعلم جميعا.
والحق أنى لا أفهم لماذا اختلق الأستاذ صنع الله شخصية ذلك الراوى، وعندنا الأصل متمثلا فى أستاذه المؤرخ العظيم الذى يصوره المؤلف حقودا، أو على الأقل: غيورا من تلميذه. وإنى لأتساءل: فيم يغار من ذلك المفعوص؟ هل كان سيأخذ منه عضوية الديوان الفرنسى مثلا؟ ولم يا ترى كان الولد المفعوص يحرص على إخفاء ما يسطره فى مكان لا تقع عليه العين، وليس فيه ما يستدعى هذا الإخفاء؟ صحيح أن فيه إشارة إلى زناه بالجارية وببولين، ولكن متى كان العرب والمسلمون قبل العصر الحديث يسجلون مثل تلك الأمور؟ إن صنع الله هنا إنما يصور نفسه لا الراوى، وما هكذا يكون القص كما هو معلوم. ومن يرجع إلى "يوميات الواحات" ير أنه كان يريد أن يسجل، فيما كان يكتبه من يوميات فى السجن، "مشاعره (مشاعره فقط؟) الجنسية" لولا أنه كان يخشى وقوعها فى يد مسؤولى السجن أو المباحث أو أحد من زملائه. ثم ما الذى أوجب فى نظر الراوى أن يكتب هذه الأشياء التى لا تهم أحدا آخر غيره، اللهم إلا إن كان يتبرك بها؟ والجنون فنون. والمضحك أن الراوى الذى رأيناه حريصا على الاحتفاظ بسرية ما يكتب لا يأتى إلا بما فى كتاب الجبرتى، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: أهو مجنون فى عقله خلل يدفعه إلى الإتيان بتصرفات لا منطق فيها ولا سبب لها؟ ثم إن رسم شخصبة هذا الولد مضطربة أشد الاضطراب: خذ عندك مثلا علاقته ببولين، ودعنا من لامنطقيتها كما بينّا من قبل، وتعال بنا إلى موقفه ومشاعره بعدما علم أن نابليون يزاحمه فى عشقها: فمرة نراه يبكى وهو واقف على مقربة من مسكنها يرى بونابرت يدخل عندها، طبعا ليمارس معها الجنس. عظيم! لكنه هو نفسه لم يكن يجد أية غرابة فى أن تعشقه بولين وتعشق بونابرت فى ذات الوقت، بل إنه كان يشعر بالزهو لأن بونابرت يشاركه مخادنتها (إخص عليك يا ولد!)، ويتحدث معها فى ذلك الموضوع دون أدنى حرج أو غضب أو ألم كأنه يتحدث فى أمر لا علاقة له به. ومرة نسمعه يسألها، وهو فوقها (تصوروا!) عن قوة نابليون الجنسية والمدة التى يقضيها فى جماعها قبل أن يقذف. سمك، لبن، تمر هندى! ولم لا، ونحن مع أكبر كاتب فى العالم؟
وإلى جانب ما مضى، وهو كثير مزعج، نستطيع أن نشير إلى العيوب التالي. وسوف أتتبع هذه العيوب فى خط مستقيم بادئا بأول أحداث الكتاب، حيث نشاهد جرى الناس فى الشوارع على غير هدى وتصادمهم ووقوع بعضهم على الأرض وسط ذلك الزحام الشديد والحرارة الخانقة والأتربة المثارة، إذ نرى مملوكا فوق فرسه عائدا، كما هو واضح، من ميدان القتال الذى هُزِم فيه المماليك أمام القوات الفرنسية لاستخدامها أدواتٍ وأساليبَ قتاليةً متطورةً لم يكن للماليك بها عهد، وكان على المملوك آثار دماء، إلا أن ذلك كله لم يمنعه من خطف عمائم بعض الناس والقهقهة بصوت عال سرورا بما يصنع. فكيف بالله يمكن أن يكون المملوك العائد من ميدان المعركة مع الفرنسيين مهزوما ومغطى بالدماء، رائق المزاج إلى حد أن يختطف عمامة أحد أولاد البلد فى وسط هذا الحشد وينفجر فوق ذلك ضاحكا؟ الواقع أننا نحن الذين ننفجر مغتاظين من المؤلف الذى ليس عنده حس بالواقع يستطيع به أن يقدر أبعاد الموقف تقديرا سليما.
وفى الحوار التالى نسمع عجبا لم نكن نظن أنه يمكن خطوره لأحد على بال حتى سمعناه من صنع الله: "قال أستاذي إن إبراهيم بك سيء الحظ. من أسبوع ضبطته زوجته يجامع إحدى إمائه فضربته.
- وسكت عليها؟
- لا يستطيع معها شيئا فهي ذات مكانة عظيمة، ولها كرامات ويأتيها الوحي من النبي". وبمستطاعنا ان نبتلع أى شىء فى هذا النص إلا أن يقول الجبرتى إن الوحى يأتيها من النبى. ترى هل النبى إله يُوحِى لمن يشاء؟ وبأى شىء كان يوحِى إليها يا ترى؟ أبأن تضرب زوجها؟ وقبل ذلك كله هل يمكن أن يقول الجبرتى هذا؟ ألم يجد صنع الله إلا الجبرتى ليجرى على لسانه هذا الكفر؟ وحتى لو افترضنا أنه قد خرج من الملة، فهل كان يجرؤ أن يجاهر بهذا القول فى مجتمع مسلم كمجتمع القاهرة آنذاك؟ ولو افترضنا أنه جُنَّ فقال ما قال، فهل كان تلميذه ليسكت على هذه الشُّنْعة؟ أنحن فى حلم أم فى علم يا إلهى؟ ولقد ذهبتُ فقلبتُ "عجائب الآثار" للجبرتى تقليبا فلم أجد شيئا من هذا على الإطلاق.
كذلك يخبرنا الراوى أنه قد قر قراره على تأريخ يومياته بالتاريخ الميلادى. لماذا؟ لا ندرى، فهذا أمر لا يمكن أن يدور فى عقل مسلم آنذاك. وحتى عندما بدأ المسلمون فى مصر استعمال التاريخ الميلادى كانوا يستعملونه مع التاريخ الهجرى ويضعونه بعده بحيث تكون الأولوية لتاريخنا العربى، على الأقل من الناحية الرسمية. وها هو ذا الجبرتى أستاذه يسير على سنة جميع المؤرخين المسلمين قبله فيعتمد التاريخ الهجرى الذى لم يكن ليخطر سواه فى ذهنه بحال. فلِمَ يشذ التلميذ عن هذه السُّنّة إلى تلك الطريقة المرهِقة التى لا توصله، إن كانت صحيحة، إلى تحديد اليوم والشهر، بل تقتصر على السنوات فقط؟ إنه صنع الله الذى يفكر بهذه الطريقة لا الراوى، اللهم إلا إذا سخرنا وقلنا: لعل الراوى كان قد اتفق مع دار نشر فرنسية تطبع له الكتاب فى باريس كى يقرأه الفرنسيون، الذين سوف يسرهم أن يطالعوا ماكتبه بالتفصيل هذا الخلبوص عما وقع بينه وبين بولين فى غرفة نومها. كذلك فالطهطاوى فى رحلته إلى فرنسا المسماة بــ"تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" إنما يعتمد التاريخ الهجرى، والتاريخ الهجرى وحده، فى الحديث عن المراحل التى قطعها فى النيل وفى البحر المتوسط قبل أن يصل إلى فرنسا، وكذلك فى كلامه عند عودته من تلك البلاد، وهذا موجود فى بداية الرحلة وفى نهايتها. والطهطاوى يمثل الجيل التالى للراوى، فما بالنا بالراوى الذى كان سابقا فى الزمن؟ بل إن المراسلات التى كان يكتبها المسيو جومار المشرف على البعثة إلى رفاعة فى باريس وكذلك المستشرق سلفستر دى ساسى، كانت مؤرخة بالتاريخين: الميلادى والهجرى معا. كذلك يستخدم على مبارك فى خططه التوفيقية التقويم الهجرى على طول الخط، وهو تال فى الترتيب التاريخى لرفاعة. وقد أرخ بهذا التقويم كل الوقائع التى أدرحها فى كتابه، ومنها وقائع الاحتلال الفرنسى لأرض الكنانة، مثلما صنع الجبرتى بالضبط. الواقع أن موضوع اعتماد الراوى التاريخ الميلادى فى مذكراته السخيفة هو عيب شنيع ينال من الكتاب فوق ما يعانى منه من عيوب قاتلة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل قل بالأحرى: إنه إنما بدأ. ذلك أن الفرنسيين فى ذلك الوقت لم يكونوا يستعملون التقويم الميلادى يا سيد صنع الله يا كبير الكتاب يا عبقرى، بل كانوا يستعملون منذ قيام ثورتهم قبل عدة سنوات تقويما جديدا خاصا ليس فيه يناير ولا فبراير ولا مارس ولا إبريل... ولا السنوات الميلادية، بل كان شيئا لا عهد لهم ولا لأحد آخر به من قبل، فصرنا نسمع بأسماء الشهور الجديدة على النحو التالى: nivôse, pluviôse, ventôse, germinal, floréal, prairial, messidor, thermidor, fructidor, vendémiaire, brumaire, frimaire، وصرنا نسمع العام الأول من قيام الجمهورية (I. ANNÉE DE LA RÉPUBLIQUE)، والعام الثانى من قيام الجمهورية... وهكذا دواليك. وكان العام يبدأ فى اليوم الذى يوافق الثانى والعشرين من سبتمبر، وكانت مدة الشهر ثلاثين يوما على الدوام، على أن تكون هناك خمسة أيام فى نهاية العام مكملة، وستة فى السنين الكبيسة. وكان كل شهر يتكون من ثلاثة أسابيع، وكل أسبوع عشرة أيام. وظل العمل بهذا التقويم سارى المفعول لمدة ثلاثة عشر عاما منذ بدء الأخذ به. أى أنه استمر إلى ما بعد خروجهم من مصر ببضع سنوات. ومن يرجع إلى كتاب "Description de l'Egypte"، وصحيفة "COURIER DE L'ÉGYPTE" يجد أن ضباط الحملة الفرنسية وعلماءها وفنانيها ومهندسيها ومن يعاونهم من الموظفين كانوا يستخدمون في العادة هذا التقويم الجديد. فكيف يقال إن الراوى قد أخذ التقويم الميلادى عن التاجر الفرنسى الذى كان يعمل عنده، وتعلم تحويل التواريخ الهجرية إلى ميلادية على يديه، رغم أن التاجر الفرنسى ذاته لم يكن يستعمل التقويم الميلادى أصلا؟
وحتى لو ضربنا عن كل ذلك صفحا، وهو ما لا يمكن الضرب عنه صفحا بحال، فإن أسماء الشهور الإفرنجية التى اعتمدها الراوى المخبول لم تكن قد عُرِفَتْ بعد على هذا النحو الذى نعرفه الآن، إذ كان رفاعة الطهطاوى فى الجيل التالى لذلك الراوى يكتبها بالشكل الآتى، وذلك موجود فى كتاب "التعريبات الشافية لمريد الجغرافية": "ينويه، فبريه، مارث، أبريل، مايو، يونية، يولية، أغسطوس، سطمبر، أقطوبر، نونمبر، دقمبر". فهل يعقل أن يتوصل الراوى إلى الطريقة التى استقر عليها العرف فى مصر بالنسبة إلى نطق تلك الشهور ورسمها الإملائى قبل حدوث ذلك بهذا الوقت الطويل متخطيا جهود رفاعة ومحاولته فى هذا السبيل، رغم أنه لم يكن شيئا مذكورا إلى جانب رفاعة سواء من ناحية الثقافة أو الخبرة أو العيش بين الفرنسيين فى بلادهم ست سنوات كاملات؟
كما أن طريقة تحويل التاريخ التى ذكرها إنما تصح مع الأعوام فقط لا الأيام، وهذا إن صحت، وهى لا تصح، وإلى القارئ نص ما كتب: "دونت التاريخ الهجري. ثم استبدلته بالتاريخ الميلادي بالطريقة التي تعلمتها من التاجر الفرنسي. ضربت العدد المعبر عن السنة الهجرية في 131 وقسمت الناتج على 135 ثم أضفت إلى خرج القسمة الرقم 621 فحصلت على السنة الميلادية الموافقة". والصواب هو ما يلى: "للتحويل من السنة الهجرية إلى السنة الميلادية نستخدم العلاقة التالية: ميلادي= 622 + هجري (32 على 33) فبداية السنة الهجرية 1410 توافق إلى ميلادي= 622+ 1410× (33 على 32) = 622+ 1367،3 = 1989 م. أما إذا أردنا توخي الدقة في التحويل، كأن نود الحصول على التواريخ الموافقة بالأيام من الشهر والسنة، فعلينا عندئذ أن نتبع الطريقة التالية: بما أن السنة الهجرية القمرية 97023.0 من السنة الشمسية اليوليانية، والسنة الشمسية اليوليانية= 1.03071 سنة هجرية، وعند التحويل من التأريخ الهجري إلى الميلادي نتبع الخطوات التالية: 1- نحذف السنة الهجرية التي لم تستكمل شهورها 2- نحسب ما يكافىء السنين الهجرية من سنين ميلادية بضربها في رقم 0,970233 3- نضيف الناتج إلى المدة المنقضية من اول التاريخ الميلادي إلى اليوم من الشهر من السنة الهجرية المراد حساب مكافئه. فالناتج هو المكافىء بالسنين اليوليانية 4- نضيف إلى الناتج 13 يوما للحصول على التاريخ وفق التقويم الغريغوري". ولينظر القارئ الآن مدى الاستهتار لدى صنع الله إبراهيم. ولم لا يستهتر ملء هدومه، وقد قالوا له إنك أكبر كاتب فى الحتة؟
ومن مظاهر اللامنطق الذى يصل إلى حد الخبل أن يذهب بطل الكتاب إلى بيت صديقه حنا ويظل يلح عليه حتى يخرج معه إلى الشارع على ما فى ذلك، حسبما يقول الكتاب، من خطر رهيب عليه بوصفه نصرانيا، إذ كانت صدور الناس تشتعل غيظا وغضبا من النصارى لما صنعوه لدن مجىء الفرنسيين من الترحيب بهم والتعاون معهم وانتهاز الفرص للتنكيل بالمسلمين كقطعهم رواتبهم واستيلائهم على أوقافهم وتطاولهم عليهم بالإهانة حتى صاروا يأمرونهم بالقيام عند مرورهم، ثم شددوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع، ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه، رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه وأصعدوه إلى الحبس بالقلعة وضربوه، واستمر عدة أيام في الاعتقال، وعندما يستجيب حنا ويخرج معه إلى الشوارع بعد تغييره هيأته وطريقة مشيته وزيه على سبيل التخفى ويريد منه أن يرافقه إلى مكان معين نفاجأ ببطلنا يعتذر ويفضل العودة إلى البيت تاركا حنا وحده فى الشارع، وكأن الخطر الذى صدّعا أدمغتنا به قبل قليل قد تبخر فى الهواء ولم يعد له وجود. ما رأيكم فى أن نقرأ الحكاية "من طقطق لسلامو عليكو"؟ على أن نكبّر مخنا ولا نلقى بالا إلى عدم اهتمام كاتبنا الهمام بمسألة الترقيم، فكله عنده صابون، أو قل: كله عنده نقط، وكأنه لا يوجد علامات ترقيم أخرى غير النقطة حتى لنكاد من جراء ذلك نصاب بالنقطة. وكذلك ينبغى ألا نهتم بغرامه الشديد غير المفهوم بحذف أدوات العطف وروابط الجمل: "لمحتُ جمعا من الناس وبعض العسكر الانكشارية. فاتجهت مباشرة إلى بيت حنا. كان في مثل عمري وكنت قد تعرفت عليه لدي تاجر الحبوب والعقاقير الفرنسي الذي عملت عنده قبل أن يضمني الجبرتي إلي بيته. أما هو فقد انتقل إلى بيت الشيخ البكري الذي اتخذه سكرتيرا. واستمرت صداقتنا. طرقت الباب عدة مرات. فتحه لي شاحب الوجه. جذبني إلى الداخل في لهفة. تبعته وأنا أردد بصوت مرتفع: دستور. يا ساتر. لتنبيه النساء. جلسنا في قاعة مجاورة للباب. أحضر لي كوبا من الماء الذي يحرص الأقباط على غليه. حكيت له مشاهداتي. عرضت عليه أن يخرج معي لنتفرج. هز رأسه مترددا. ألححت عليه. غادرالغرفة وعاد مرتديا عمامة القبط سوداء اللون. كان ممنوعا علي القبط واليهود لبس العمامة الخضراء أو الحمراء أو البيضاء أو انتعال المراكيب الحمراء والصفراء. امتنع عليهم أيضا ركوب الخيل والبغال. أو البقاء فوق حميرهم عندما يمرون بالمساجد. سألته عما به فقال إنه لم ينم جيدا لأن أطفال سكان الطابق الأعلى كانوا يمرحون بالقباقيب الخشبية ويلعبون بدق الهون. استمهلني عند الباب وواربه. ترددت في الخارج صيحات تدعو إلى قتل النصارى واليهود. اصفر وجهه وارتعشت أنفه الكبيرة. قلت له: غيّر ملابسك. قال كيف؟ قلت غيّر العمامة. ضع واحدة بيضاء والبس مركوبا أصفر. قال: سيكتشفوني. قلت: لا تخش شيئا. الفرنسيون الآن هم الذين يحكمون وهم من ملتك. دخل وعاد مرتديا عمامة بيضاء. غادرنا البيت. وجدته يتجه تلقائيا إلى يسار الطريق كعادة الأقباط الذين يتحتم عليهم ترك الجانب الأيمن من الشارع للمسلمين. جذبته من ذراعه ليسير إلى جواري ناحية اليمين. خرجنا إلى الشارع وسط صيحات الحمارين. قال: نذهب إلى بيت البكري فأنا قلق عليه. قلت: لن يصيبه أذى فهؤلاء الشيوخ يفلتون دائما من كل مصيبة. قال: أنا خائف على زينب.
التفت إليه مصعوقا: زينب من؟
أطرق برأسه إلى الأرض: إبنة الشيخ البكري
- يا وقعة سودة. احكي لي.
- في البداية لم أكن أراها أو حتى أسمع صوتها. كنت أظل بالحجرة المخصصة لي أسفل مسكن الحريم مباشرة. وتبلغني الوكيلة أوامرها. ثم سُمح لي بالصعود إلى الحجرة المجاورة. وصارت تملي على أوامرها بنفسها عبر باب مفتوح بين الغرفتين. هكذا سمعت صوتها.
- رأيتها؟
- لم تكن تخرج إلا لماما. وفي هذه الحالة ترتدي السبلة الواسعة التي تتدلى حتى الأرض وتغطي وجهها بالبرقع الذي لا يكشف سوي عينيها. في مرة برزت فجأة من حجرتها. كانت سافرة. طالعني وجه مثل القمر في تمامه تحيط به ضفيرتان من الشعر ويعلوه اكليل مرصع. كانت في ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر فوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمنطقة من الحرير الدمشقي الثمين. وتدلى من أذنيها قرطان تألفا من جوهرتين كبيرتين. لم أعرف النوم من لحظتها.
- هذا كل شئ؟
- تكررت رؤيتي لها سافرة. كانت تمر من أمام باب حجرتي دون حجاب.
- هل تعرف عمرها؟
- أظنها في السادسة عشرة.
أرادني أن أصحبه حتى بيت البكري في الأزبكية لكني فضلت العودة". إذن لم ظللتَ وراء الرجل حتى أخرجته من بيته ما دمت تريد العودة إلى البيت؟ لقد افتعل الكاتب المسألة كلها كى يحدثنا عن الاضطهاد الواقع على النصارى، وإلا أفكان من الممكن أن واحدا مثل الراوى مقطِّعًا السمكة وذيلها يغيب عنه هذا إلى أن يخبره به حنّا فى بيتهم وإلى أن يسمع الناس فى تلك اللحظة، وبالمصادفة المحضة، يا للهول، تهتف فى الشارع بالويل والثبور وعظائم الأمور له ولبنى طائقته؟ ثم أيمكن التصديق بأن الجماهير التى كانت تتوعد النصارى خارج البيت لا تعرف أن ذاك البيت هو بيت نصرانى فتقتحمه وتنكل بأهله بدلا من انتظارهم حتى يخرجوا بما يترتب على ذلك من تضييع الوقت وتجرع مرارة الانتظار وناره، مع أن من الممكن الانتهاء من الأمر فى غلوة واحدة؟ أنا بطبيعة الحال أتهكم على هذا المستوى الفنى المضحك فى الكتابة والتأليف! وشىء آخر فاتنى أن أسأل الكاتب عنه، وهو حكاية إغلاء النصارى للماء. لقد أشار إلى أن هذه عادتهم، لكن لماذا كانت هذه عادتهم؟ لم يكلف سيادته نفسه أن يشرح لنا السبب فى أن هذه كانت عادتهم. ذلك أن هذه كانت ومازالت عادته: أن يقول شيئا بين الحين والحين يثير حيرتك ثم لا يكلف نفسه شرح ذلك. أما تعلُّق حنا ببنت الشيخ البكرى فلا تأخذها فى بالك "منك له له له"، فالرجل إنما يمارس الوحدة الوطنية، التى نحرص كلنا عليها حرصنا على حياتنا. ثم هل يملك أحد قلبه، وهو (كما جاء فى الحديث الشريف) بين إصبعين من أصابع الرحمن؟ صحيح ان أصابع صنع الله إبراهيم هى التى تلعب هنا، وهى التى تحرك كل شىء بخيوط، وصحيح أيضا أنها خيوط مرئية ساذجة مفضوحة وأن الأصابع التى تحركها أصابعُ غشيمةٌ تنقصها مهارة الفن وحساسيته، لكن كما قلنا: لا بد من التفويت، وإلا انفعت مرارتنا غير ما هى مفقوعة! ولا بد أن ننكتم أيضا فلا نتساءل: من أين لحنا، وهو النصرانى الذى يجب أن يرتدى ملابس معينة لا يعدوها، بالعباءة البيضاء وغيرها مما ليس من زى النصارى؟ ذلك أن الأستاذ صنع الله "رجل جاهز" لاتأخذه أية مفاجأة على سبيل البغتة. وعلينا كذلك أن نغضى النظر عن همز المؤلف، على لسان الراوى، للمشايخ (أى علماء الدين المسلمين لا غيرهم، حتى يكون الكلام واضحا)، وكأن الراوى ليس شيخا مثلهم، وإن كان شيخا صغيرا أو مشروع شيخ، وكأنه أيضا لا يشتغل مع واحد من أكابرهم، وإن كان يَنْفِس عليه ويحاول منافسته حتى يكون مؤرخا كبيرا مثله ويحظى مثله أيضا بمديح أرنولد توينبى فى القرن العشرين، فيبادل الشيخُ الكبيرُ تلميذَه الشيخَ الصغيرَ "بسلامته" تربصا بتربص، ولا أدرى لماذا، ولكن هكذا شاءت إرادة مولانا الشيخ صنع الله، ولا رادَّ لمشيئته. نعم علينا أن نغضى النظر عن هذا أيضا، وإلا فلن نفرغ من الكتاب إلى يوم النشور والنفخ فى الصُّور! ودَعُونا أخيرا وليس آخرا من قول الراوى لصديقه حنا: "احكى لى" بإثبات الياء فى آخر فعل الأمر وكانه يخاطب امرأة لا رجلا بشوارب يقف عليها الصقر، فهذا هو مستوى صنع الله وأشباهه من العباقرة أكابر الكتاب فى العالم العربى وغير العربى على السواء، أو بالأحرى: على غير السواء، ولا ينبغى أن نشغلهم بتلك التفاهات.
وفى موضع آخر من الكتاب يكتب مؤلفنا بقلم الراوى فى يومياته ما يلى: "الخميس 15 نوفمبر: اكتشفت أن أستاذي أوجز الحديث في أوراقه عن المشايخ المقتولين بالقلعة ولم يذكر أسماءهم"، على حين أن كل ما قاله بنَصِّه وفَصِّه هو بعض ما قاله الجبرتى، بل لقد أورد الجبرتى تفصيلات أكثر. وهذا كلام مؤرخنا الكبير: "ثم إنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ اسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري. وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر الى جهة الشام، وفحصوا عليه فلم يجدوه. وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا. واتُّهِم أيضًا ابراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعًا من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخيفين والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الآغا.
وفي يوم الأحد ثامن عشره توجه شيخ السادات وباقي المشايخ الى بيت صاري عسكر الفرنسيين وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الآغا وقائمقام والقلعة فقيل لهم: وسعوا بالكم، ولا تستعجلوا. فقاموا وانصرفوا.
وفيه نادَوْا في الأسواق ولا أحد يشوش على أحد مع استمرار القبض على الناس وكَبْس البيوت بأدنى شبهة، وردَّ بعضهم الأمتعة التي نُهِبَتْ للنصارى. وفيه توسط القلقجي لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على صاري عسكر فاختار منهم الشباب وأولي القوة وأعطاهم سلاحًا وآلات حرب ورتبهم عسكرًا، ورئيسهم عمر المذكور، وخرجوا وأمامهم الطبل الشامي على عادة عسكر المغاربة، وسافروا جهة بحري بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا أيضًا مركبين بها عِدّةٌ من عساكرهم فحاربواهم وقاتلوهم. فلما ذهب أولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عَشْمَا وقتلوا كبيرها المسمى بابن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه، وكان شيئًا كثيرًا جدا، وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخًا عوضًا عن أبيهم. وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى إشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفًّا وبأيديهم بناقدهم، فيشير إليهم بألفاظ لغتهم كأن يقول: مردبوش، فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها، ثم يقول: مَرْش، فيمشون صفوفًا إلى غير ذلك...
وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس الى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صاري عسكر ليتحدث معهم، فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم الى بيت قائمقام بدرب الجماميز، وهو الذي كان به دبوي قائمقام المقتول، وسكنه بعده الذي تولى مكانه، فلما وصلوا بهم هناك عَرَّوْهم من ثيابهم وصعدوا بهم الى القلعة فسجنوهم الى الصباح فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقَوْهم من السور خلف القلعة، وتغيب حالهم عن أكثر الناس أيامًا. وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ إلى مصطفى بك كتخدا الباشا وكلموه في أن يذهب معهم إلى صاري عسكر ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظنًّا منهم أنهم في قيد الحياة، فركب معهم إليه وكلموه في ذلك، فقال لهم الترجمان: اصبروا. ما هذا وقته؟ وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا الى الهروب وذهبوا الى البيوت والمساجد، واختلفت آراؤهم ورأَوْا في ذلك أقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم. فذهب بعض المشايخ الى صاري عسكر وأخبروه بذلك وتخوف الناس، فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين ومر الآغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان، وسكن الحال...
وفيه كتبوا أوراقًا وألصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس. وفيه شرعوا في إحصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة، والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه. وفيه أيضًا قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة، وهي التي كانت تُرِكَتْ، وسُومِح أصحابها وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة وبرطلوا القلقات والوسايط على إبقائها، وكذلك دروب الحسينية. فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها الى ما جمعوه من البوابات بالأزبكية ثم كسروا جميعها وفصلوا أخشابها ورفعوا بعضها على العربات إلى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطبًا للوقود، وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون وكسروها وعبروا منها إلى السوق فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار وقتلوا القلق الذي هناك وخرجوا بدون مدافع ولا منازع. وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ إلى صاري عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قُتِل أبوه، وكان معوقًا ببيت البكري، فشفَّعهم فيه وأطلقوه".
والواقع أن هذا هو الوضع الطبيعى، إذ ليس للراوى وجود تاريخى، بل هو مجرد شخصية روائية لم يستطع صنع الله أن يصنع منها شيئا فكان هذا الخبص واللبص والزعم على الجبرتى بما هو منه براء، على حين أنه ما من شىء أساسى فى الكتاب تقريبا إلا وهو مأخوذ من الجبرتى. وهو دليل فشل فنى لا يليق، ومع هذا تطنطن لصاحبه الأقلام. لقد افتعل صنع الله افتعل صراعا بين الراوى والجبرتى، ولكن على أى شىء؟ ولأى هدف؟ لا أدرى.
ويبلغ التناقض فى تصرفات الراوى أن يبدو فى غير قليل من الأحيان وكأنْ قد أصابه العَتَه. انظر كيف يخاف أن يضع أوراق يومياته تحت صندوق متاعه فى غرفته الخاصة ببيت الجبرتى حتى لا يحرك الخدم الصندوق من مكانه فتنتكشف أوراقه. إلى هنا ويستحق أن نضرب له تعظيم سلام، وإن كنا لا نفهم خوفه من اطلاع الآخرين على تلك الأوراق، فليس فيها شىء لم يكتبه الجبرتى فى مخطوطه، اللهم إلا حكاية مجامعته للجارية السوداء والفاحشة التى يرتكبها مع بولين، وكان المفروض أن يحذف ذلك لأنه لا فائدة فيه ما دام لا ينوى أن يطلع الناس على تلك الأسرار، ولأن الناس فى العالم الإسلامى فى ذلك الوقت وبعد ذلك الوقت بزمن طويل لم يكونوا يفعلون هذا لأن صنع الله وزمرته ومن على شاكلتهم لم يكونوا قد شَرَّفوا بعد، ولا يمكن بطبيعة الحال أن تجرى الأمور فى الأدب بأثر رجعى. إلا أننا نفاجأ بالراوى بعد اللَّتَيّا والتى قد وضع أوراقه فعلا تحت الصندوق رغم كل شىء بعد أن دق تحت الصندوق مسامير قال إنها ستحمل الأوراق وتبقيها بعيدا عن الأرض خوفا من أن يتسرب الماء إلى أسفل الصندوق الذى يسميه لفقره اللغوى: "قاع الصندوق"، جاهلا الفرق بين قاع الصندوق من الداخل من الجهة الفوقية، وأسفل الصندوق من الخارج من الجهة التحتية. ولكن بالله ماذا يمنع الخدم من تحريك الصندوق واكتشاف الأوراق المخبوءة هناك كما كان يخشى أولا؟ هل لأنه دق أربعة مسامير تحت الصندوق؟ وماذا فى ذلك مما يمنعهم من تحريك الصندوق؟ قالوا: سرقوا الصندوق يا أبا لمعة. قال: لكن مفتاحه معى. يا ذكاءك يا أخى! بُلَّ المفتاح إذن واشرب ماءه! ألم أقل إن هذا الراوى فى بعض الأحيان يتحول إلى معتوه؟
ثم انظر إليه بعد ذلك بقليل وهو يقول: "بالليل وأنا على أهبة النوم تخيلت أن الأوراق تراكمت بحيث صارت كتابا يحمل اسمي". طبعا، فقد قيض الله لك الأستاذ صنع الله مكتشف المواهب وصانع النجوم والكواكب والمجرات فوق البيعة فنشر كتابك الوهمى الذى لا وجود له إلا فى عقله هو، وأعطاه اسم "العمامة والقبعة"، على غرار "الكنكة والفنجان" و"السلم والثعبان" و"الفيل والمنديل" و"الفِلّة والفانلّة" و"التوت والنبوت". وعما قليل سوف يتصلون بك من باريس ويعرضون عليك نشر كتابك على مستوى المعمورة بعد ترجمته إلى كل لغات العالم مثلما اتفقوا مع صاحبة "برهان العسل"، ذلك العسل الذى ينبع من نقطة التقاء فخذيها ويحرص عشيقها على ذوقه بمجرد أن يراها ولا يصبر حتى تخلع ملابسها طبقا لكلامها هى لا كلامنا، فنحن ناس غلابى لا نعرف شيئا من هذا الحرام. لكنهم سوف يسمون كتابك: "غيط البصل" كلون من التمييز بيين الكتابين، وإيماءً إلى أن صاحبه شيخ أزهرى خنشور حالِق جَلْط، وليس بنتا شامية مغناجا بيضاء كلهطة القشدة! ابسط يا عم، ماشية معك آخر حلاوة وبقلاوة!
كذلك هل من المعقول أن تأخذ بولين راوينا الفَتِك إلى مسكنها فوق المكتبة فيمارسا الجنس معا على راحتهما ويغنى لها بعض الطقاطيق والمواويل البلدية ويترجم ما يغنيه ثم يجامعها مرة أخرى ويشرح لها بعض الأمور المتعلقة بالجماع وما إلى ذلك، كل هذا بطمأنينة بال وهدوء أعصاب، وكأن زوجها لا يمكن أن يأتى فجأة فى أى وقت مثلا؟ مع أن هذا الخلبوص نفسه قد ذكر بعظمة لسانه الذى سيأكله الدود (آسف: بل أكله منذ أكثر من قرنين، وبقى لسان صنع الله) أن ذلك الزوج كان يغار على زوجته ويعاملها بطريقة وحشية، ولا يطيق أن تكون عشيقة لبونابرت. اللهم إلا إذا رد علينا الأستاذ صنع الله بأن ذلك الضابط كان ذا ميول اشتراكية، فهو يؤمن بأن الناس (الشغيلة والكادحين والمشايخ الفقراء الشبان كالراوى وأمثاله فقط من فضلك لأن المسألة ليست سائبة دون ضابط ولا رابط) شركاء معه فى امرأته، إذ لا يحق له أن يستبد بذلك الجمال وحده من دون المحرومين، وإلا فكيف يكون اشتراكيا؟ ومعروف أن للاشتراكيين والشيوعيين فى أمور الجنس بدوات شاذة لا تدركها عقول أمثالنا.
ثم هل من المعقول أن يمارس الراوى الزنا بهذه السهولة ودون إحساس بالإثم ولذع الضمير؟ إن هذا أمر غريب لا تهضمه النفس، فهو يصلى وتلميذ للجبرتى ويعيش فى بيته معاونا له. ولا يُعْقَل ألا يترك ذلك كله فى نفسه أثرا فلا يشعر بتأنيب الضمير فى مثل تلك الظروف. للأسف الشيدد فإن الأستاذ صنع الله يقيسه على الشيوعيين وأمثالهم من الملوثين. والمضحك أنه بعد أن زنا بالبنت الفرنسية مرات لا يعلم عددها إلا الله دون خالجة من ندم أو شعرة من تردد رغم أنه كان يصوم ويصلى جميع الصلوات بما فيها التراويح نجده فجأة يحاول أن يقاوم ويستغفر الله. ليس ذلك فقط، إذ لا يعقل أن يترك بونابرت عشيقته هكذا دون رقابة بحيث يدخل عليها واحد من أبناء البلد ويجامعها على راحته، وفى حضور المرأة الشامية التى كانت تقوم على خدمتها وتسوقه إلى مخدعها حين مجيئه؟ وأدهى من ذلك أنه يجامعها ومسكنها يقف أمام بابه العسكر الفرنسى ويرونه وهو يدخل عليها ويغيب عندها. ولعلهم كانوا يسهرون على راحة المحروس حتى يقضى وطره فى أمان وسكينة ودون خوف. الحق أن قصة الراوى مع بولين من ألفها إلى يائها إنما تشبه حكايات أبى لمعة، ولا أدرى كيف خطرت لصنع الله، إذ الحب أو الجنس لا يتم بهذه الطريقة ولا بتلك السهولة فى مثل هذه الظروف. إنها أشبه بحكايات الجائع الذى يحلم بسوق الحب. ومعلوم أنه ما على الجائع الحالم من حرج!
كما سبق أن قلنا كان لا بد أن يكون هناك أسباب لوقوع تلك البنت فى غرامه بهده السرعة الصاروخية وانهيارها معه فى الزنا دون مقدمات، فما هى تلك الأسباب؟ هل كان وسيما إلى درجة مذهلة؟ هل كان من أسرة غنية لها مكانة فى مصر تلفت الأنظار وترى بولين من مصلحتها أن توثق علاقتها به لهذا السبب؟ هل كان ولدا فالنتينو بارعا فى الغزل لا تثبت أمامه النساء فاستطاع أن يغزو قلبها الجاف لأن أحدا ممن حولها من الفرنسيين لا يبالى بها؟... إلخ. لقد كانت هذه المرأة تحتقر المصريين وتتأفف من قذارتهم وتجبه الراوى بهذا فيتألم ويغضب رغم أنه هو أيضا كثيرا ما توقف عند تلك القذارة وهو يصف الناس والشوارع والبيوت، وهو ما يجعل الأمر كله بزرميطا فى بزرميط، فكيف تقع فى حبه وبهذه السرعة والبساطة وعند أول بادرة، ومن تلقاء نفسها؟ أليس هو واحدا من هذا الشعب القذر كما تصفه؟ ثم لقد شبعنا من الموضوع المتهالك، موضوع وقوع البنت الأوربية فى غرام الشاب العربى، وبخاصة أن نتائجه فى الغالب كارثية رغم ما يبدو على السطح من أنه ظفر وانتصار، إذ الغرب لا يبالى بأن تزنى بناته ونساؤه مع شبابنا ما دمن يؤدين له خدمة الإيقاع بالشبان الشرقيين فى حبائل العمالة له عن عمد أو غير عمد.
وهناك التجهيل الذى ضرب الكاتب نطاقه حول الراوى حتى إننا نظل طوال الرواية لا نعرف اسمه كما سبق القول رغم أنه قد حانت عدة فرص كان ينبغى ذكر اسمه فيها، لكنه أصر على موقفه فبقى مجهَّلاً حتى الرمق الأخير من الكتاب، كما هو الحال مثلا حين تعارف وبولين لأول مرة فسألها عن اسمها فذكرته له، ثم سألته عن اسمه فقال: "اسمى..."، مكتفيا بثلاث نقاط لا تعنى شيئا، ولا أدرى كيف نطق هذه النقاط الثلاث وهو يكلمها، وكما هو الحال كذلك فى اليومية التالية التى كتبها خلال مرافقته للحملة الفرنسية إلى الشام: "كتبت أحداث الأيام الماضية في الصباح. واستدعاني قبطان. قال: اسمي الكابيتان هويه. وأنت؟ وقرأ اسمي من ورقة أمامه"... إلخ. ولكننا، من جهة أخرى، إذا ما أعدنا التفكير فى الأمر ألفينا أن هذا أمر طبيعى لأن الراوى ليس له دور يؤديه كما أوضحنا من قبل، إذ هو لا يأتى بشىء من عنده، بل يسطو على ما كتبه الجبرتى ثم يزعم أن الجبرتى لم يقل هذا أو ذاك ليتضح فى النهاية أنه هو كلام الجبرتى، اللهم إلا جماعه للزنجية التى فك تكتها وكأنه قد فتح عكا، ثم مواقعته لبولين. ولأن الراوى ليس له دور، بل هو كشرابة الخرج، فمن الطبيعى أن نراه، عند وصفه فى يومياته المزعومة لضرب العريش، يتحدث بضمير الفرنسيين كأنه واحد منهم وراض بما يصنعون، مع أنه مصرى مسلم، وفوق هذا كان يؤلمه أشد الألم أن تعيب بولين المصريين. إنه يتحدث عن العدوان الفرنسى الشيطانى على البلاد والعباد فى مدن فلسطين وقراها بروح باردة لا ألم فيها ولا صراع ضمير ولا إحساس بالقهر والغم والخوف من الله لاشتراكه فى الرحلة اللعينة وقيامه بمساعدة أولئك المجرمين الكلاب. بل إنه، فى يومياته التى يكتبها لنفسه، ليسمى أهل فلسطين على طول الخط بــ"العدو". وكان يستطيع أن يهرب ويختفى عن الأنظار قبل الرحلة حتى لا يشترك فى هذا الضلال والكفر أو حتى أثناءها بعدما رأى العدوان الإجرامى على أهل دينه وعروبته. ومن المضحك المبكى أن يتحدث عن اضطراره لكسر الصيام أثناء ذلك. فأى صيام يتحدث عنه، وهو الزانى القرارى المشارك فى العدوان الكافر على ملته وأمته؟
وهنا أنتهز الفرصة فأنقل الآن للقارئ العزيز بعض إنجازات الفرنسيين أثناء حملتهم إلى الشمال لتعرف الأجيال الجديدة المغيبة العقل والإرادة أن التنويريين الخنازير عندنا يضللونهم حين يشيدون بحضارة الفرنسيس التى أحضروها معهم إلى بلادنا، لكننا، ككل كافر للنعمة صلب المخ عنيد غبى، لم ننتهز الفرصة السانحة، وآثرنا على العكس من ذلك مقاومتهم على الترحيب بهم والتعلم منهم والجلوس تحت أقدامهم كى يدوسوا على وجوهنا ورقابنا وأفواهنا بأحذيتهم ليبتهج التنويريون، لا أبهجهم الله أبدا: "أشرفنا على العريش مع شروق الشمس. طالعتنا غابة نخيل قرب البحر. وبدا أن المكان لا يضم غير مجموعة أكواخ عتيقة يحرسها نفر قليل من جند الأتراك. أطلقنا المدافع عليها. ثم تقدمنا من البيوت وهنا انهال علينا وابل من الطلقات. دخلنا البلدة بعد معارك طاحنة استمرت طول اليوم. ولأول مرة أشهد بشاعة الحرب. فقد قتل الفرنساوية الأهالي بالسناكي. لم يكن بالبلدة أقوات فبدأنا نتضور جوعا. وقتل الجنود الجمال والخيول وأكلوها. أكلت معهم بعد أن كسرت صيامي مرة أخرى. أفردوا لي مكانا في خيمة المترجمين. وخفت على حماري فربطته إلى فرشي. وكان معي قبطي ومالطي وعراقي واثنان من الشوام. ولم أتمكن من كتابة شىء بسبب انعدام الضوء...
شن الفرنساوية ليلة أمس هجوما مباغتا على جنود المعسكر التركي الذين لا يقاتلون عادة بين الغروب والفجر. فدخلوا المعسكر بعد منتصف الليل دون أن يلحظهم أحد حتى بلغوا قلبه. وقتلوا الرجال النيام بالسناكي.
أضاف هوية ملحقا عن القتلي والجرحى وأسباب الوفاة. ثلاثة فرنساوية مقابل 500 قتيل و900 أسير من الأعداء. استبشعت عدد القتلى فقال إن المصريين والعرب متوحشون. وإن الله أرسل بونابرته لمعاقبتهم...
تمت الاستعدادات للهجوم على المدينة. وبعد أن رفضت الحامية التسليم واحتجزت الرسول بدأ الهجوم الساعة الثانية بعد الظهر. وأحدث رجال الخنادق ثغرة في سور المدينة وبعد ساعات سقطت المدينة واستسلمت حاميتها لكن الجنود أعملوا السيف في حوالي 2000 منهم. راح الفرنساوية يقتلون كالمجانين طوال المساء والليل كله دون تفرقة بين المسلمين والمسيحيين والرجال والنساء. وبقيت في المعسكر خوفا من أن يتعرض لي أحد منهم. وفي آخر الليل أيقظني صوت الصباغ يناديني. خرجت إليه فقال إنه لا يستطيع النوم بعد كل ما شاهده في البلدة. وإن الفرنساوية تحولوا إلى وحوش يطعنون الشيوخ والفتيات ويهتكون أعراض البنات وهن لا يزلن في أحضان أمهاتهن. وإن صرخات الإسترحام تضاعف هياجهم...
(لكن كان عقل الراوى فى واد آخر:) الجمعة 8 مارس: اليوم عيد الفطر، واجتمع المسلمون لصلاة العيد في العراء. أتساءل عما إذا كان يقدر لي أن أرى بولين مرة أخرى؟ عدت بعد الصلاة إلى خيمة الكابيتان فوجدته قد سجل أعداد قتلى الأمس بــ 4410 قتيلا. ولعله لمح شيئا في وجهي فقال لي: إنها الحرب يا صغيري. قرب الظهر أرسل بونابرته اثنين من ياورانه أحدهما ابن زوجته وكلاهما حدثان إلى قلعة يافا. فناداهما الترك من نوافذ القلعة وصاحوا بأنهم على استعداد للتسليم إذا وعدوا بألا يعاملوا كما عومل بقية أهل يافا. فوعدهم الشابان بأنهم لن يقتلوا. فخرجوا وسلموا سلاحهم. وحكى لي إبراهيم الصباغ في المساء أن بونابرته عندما رأى ياورانه يعودان مع بضعة آلاف من الأسرى اصفر وجهه وقال ساخطا: ماذا سأفعل بهم؟ ثم أمر بإعدامهم.
السبت 9 مارس: انهمك الفرنساوية صباحا في فصل المغاربة عن بقية الأسرى وجمعوا الآخرين أمام خيمة نابليون ومنعوا عنهم الطعام. وقادوا المغاربة إلى شاطئ البحر. وتبعتهم من بعيد فرأيتهم يصفونهم عند الماء ثم تقدمت كتيبتان منهم وبدأت في إطلاق النار عليهم. جرى البعض في محاولة للفرار فنادى عليهم الفرنساوية قائلين آن بونابرته عفا عنهم فعادوا. وفور اقترابهم أطلقوا عليهم النيران. وألقى بعضهم نفسه في الماء وحاول الهرب سباحة فاصطادهم الجنود على مهل. فاصطبغ ماء البحر بدمائهم وانتشرت جثثهم فوق سطحه"... وهلم جرا.
وبرغم كل ما شاهدناه من تصرفات الراوى وملامح شخصيته نراه، وهو الذى لم يكن يبالى بشىء على الإطلاق إلا بجماع بولين مهما فعل الفرنسيون فى فلسطين ومصر، يزعم فجأة أنه يشعر بالخجل والكرامة (شيئا لله يا أبا كرامة أنت ومؤلفك!) وأنه لن يذهب إلى المجمع ردا على ما صنعه الفرنسيون من فرض غرامة ثقيلة على المصريين وبَصْق أحد المارة عليه عندما رآه يخرج من الديوان، وكأنه لم يكن يذهب إلى الديوان كل يوم دون أن يبصق عليه أحد. يا أخى، ستمائة طُظّ فيك وفى عدم ذهابك إلى الديوان! أوتظن أن "بسلامته" الديوان سيقف حاله إذا لم تذهب؟ أَمَا إنك لغبىٌّ بصحيح. ولكن العيب ليس عليك، بل على مؤلفك الذى لم يحسن أدبك. نعم لم يحسن أدبك، وأقصد الأدب بمعنى الـخَلْق الفنى وبمعنى التهذيب جميعا. ومن ذلك أيضا أن الراوى ما إن يسمع كلام سليمان الحلبى عن الجهاد ردًّا على تبذُّل الفرنسيين حتى يتأثر به ويشاركه الرأى والموقف، مع أنه كان قد سبق أن رأى كل المباذل والقتل والنهب وساهم فى تذليلها للفرنسيين وكان من رجالهم، ولم يحدث أن ترك هذا رغم بشاعاته وشناعاته شيئا فى نفسه. ألم أقل: سمك، لبن، تمر هندى؟
كذلك ما الذى يا ترى تستفيده الرواية أو يستفيده القراء من وصف الراوى لمعالم الطريق الذى سلكه حين أراد لصق المنشور الذى كتبه للفرنسيين، وبالذات وصفه للطريقة التى تُُعَدّ بها كرات اللحم الملفوفة فى ورق العنب فى أحد المطاعم، وكذلك ألاعيب الحاوى الصغير؟ ترى فى أى شىء نحن يا رجل: فى ... أم فى شَمّ وَرْد؟ الواقع أنك حاجة باذنجان خالص! ولسوف أترك القراء يحكمون بأنفسهم بعدما يقرأون كلامك بأنفسهم: "نويت أن أعلق واحدة في ميدان الرميلة وعند باب الوزير قرب القلعة وعند قناطر السباع، وعند المجمع العلمي في الناصرية. أما الثلاث الأخريات فقررت أن أعلقها في الشمال. واحدة عند باب النصر وواحدة قرب حارة الأفرنج في الأزبكية والثالثة عند باب زويلة. صليت العصر وتسحبت خارجا بعد أن وضعت ورقة في صدري. اتجهت إلى المشهد الحسيني ومضيت في شارع سيدنا الحسين حتى تقاطع السكة الجديدة ثم شارع وكالة التفاح ومررت بقصر الزمرد حتى وصلت شارع وكالة الصابون المتخصصة في بضائع بلاد الشام. مررت بكنيسة الشوام والمدرسة الفارسية. ثم بمحل شواء لحم مفروم على هيئة كرات صغيرة مغلفة بأوراق العنب موضوعة في أسياخ من الخشب. وأشرفت على مئذنة جامع الحاكم بأمر الله وبعد عدة عطف اقتربت من المدرسة الجنبلاطية الملاصقة لباب النصر. لمحت من مبعدة بضعة عساكر من أهل البلد ومعهم عسكريان فرنساويان متجمعين عند الباب. أبطأت سيري وجعلت أتفرج على الدكاكين وأغلبها لتجارة المنسوجات. توقفت أمام بائع حمص وترمس واشتريت منه. كنت أريد أن أعلق الورقة في موضع يسهل على الفرنسيين رؤيتها منه. فكرت في تعليقها على جدار المدرسة الجنبلاطية لكني عدلت عن الفكرة فهي بعيدة عن مرمى رؤيتهم كما أن التلاميذ يمكن أن ينزعوها. وقفت في مدخل دكان قبورجي يطرز الحرير والجوخ والكشمير بخيط معدني في إبرة معقوفة. ولمحت طوبة بجوار الحائط فأعددت المسمار في يدي. تابعت العساكر بركن عيني وهم يتضاحكون دون أن يغيب عنهم تأمل المارة والتمعن فيهم. ظهر حاو معه صنبور تسيل منه المياه ثم تنقطع فجأة لتسيل بعد لحظات وذلك حسب أمره. وتجمع بعض الصبية وجعلوا يهللون. ولم ينطل الأمر على الفرنساوية فأخذوا يسخرون منه. عندئذ أخرج كأسا وتحدث طويلا بمداعبات وتهريج ثم نفخ في قوقعة كبيرة ورفع غطاءالكأس فظهرت بيضة ثم قلب الكاس ورفع غطاء قاعه فظهر كتكوت. التف العساكر حوله وجعل الفرنساوية يمازحونه. وانشغلوا عن الباب. ورأيت في الجدل الدائر فرصتي فانحنيت وتناولت الحجر وأخرجت الورقة من صدري وعلقتها على جدار الباب ودققت المسمار ثم رميت الطوبة وابتعدت على الفور وقلبي يدق بشدة في صدري". عليك بــ"طاسة الـخَضَّة" يا رجل، وسوف يكون كل شىء عال العال!
ثم بعد أن صار رجلا مجاهدا فى سبيل الله ويقبض عليه الفرنسيون ويحبسونه مع غيره فى القلعة نراه يتذكر ما كان بينه وبين القحبة الفرنسية واجدا فيها عزاء: "اقتادوني إلى القلعة حيث ضربوني بالكرابيج على كفوفي ووجهي ورأسي طالبين أسماء شركائي وأماكن إخفاء الأسلحة. ولما لم يتحصلوا مني على شيء أودعوني الحبس. قضيت الليلة الأولي بمفردي نائما فوق الأرض الباردة. ووجدت السلوى في تذكر ما جري بيني وبين بولين وظل طيفها يلف بمخيلتي. وفي الفجر أخذت أرتعش من البرودة. فكنت أقفز كالقرد لكي تسري الدماء في عروقي". بالضبط حسبما ذكر لنا صنع الله إبراهيم فى "يوميات الواحات" أنه ورفاقه الشيوعيين كانوا يصنعون فى السجن، إذ كانوا "يقفزون كالقرود" (بنفس التعبير) من البرد كى يحصلوا على بعض الدفء. كما أخبرنا هناك أيضا أنه لم يستطع النوم ليلة قتل شهدى عطية زميله فى السجن إلا بعد أن استمنى خفية. إذن فالمؤلف إنما يخلع نفسه على الراوى. والمفروض أنه، وإن استعان بتجاربه وخبراته فى تأليف قصصه، لا ينبغى أن ينسى أن لكل حالة ولكل شخصية ظروفها وسماتها الخاصة التى تميزها عن غيرها.
"وقعت اليوم مفاجأة غريبة. فقد وصل ثلاثة محابيس قادمين من قلعة الرحمانية وإذا بأحدهم هو عبد الظاهر. وضعت فرشته إلى جواري وقضينا الوقت يحكي كل منا ما مر به. وأكد لي واقعة القبض عليه كما ذكرها حنا وإن كان قد تشكك في أنه هو الذي أبلغ عن الأمر. وحكيت له ما فعلته من تعليق الأوراق فأثنى علىّ. ثم حكيت له قصتي مع بولين فتلى (يقصد: "فتَلاَ") علي مقتطفات من كتاب "مكايد الناس" (لعلها "مكايد النساء"؟) للبتانوني الأباصيري تبين جهل النساء بالشريعة وأن لديهم شبقا جنسيا ولا يعرفون (الصواب: "يعرفن") حدودا وأنهن ناقصات عقل ويورطن الرجال في ارتكاب جريمة الزنا وان امرأة كانت وراء مقتل علي بن أبي طالب وولده الحسن أيضا". فلماذا لم تقل هذا لنفسك من الأول؟
وبعد، فقد آن الأوان، أيها القراء الأعزاء، أن أسكت، ولعلى قلت شيئا نافعا، وأستغفر الله عما يمكن أن يكون بَدَرَ منى من ذنب. إنه، سبحانه، عفو غفور. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
HOME
المخزاة الجعيطية
فى كتابة السيرة النبوية
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
منذ شهور كتبت دراسة طويلة أرد فيه على رأى سخيف للدكتور هشام جعيط ملخصه أن اسم النبى محمد لم يكن محمدا بل قُثَم. وكنت بحثت، قبل أن أكتب تلك الدراسة، عن كتاب جعيط فى السيرة النبوية، وهو الكتاب الذى ورد فيه هذا الرأى المتهافت، لكنى لم أوفَّق وقتذاك إلى العثور عليه. ومنذ أربع ليالٍ فقط وقع الكتاب فى يدى بالمصادفة المحضة، وهو مكون من جزأين، وصادر عن "دار الطليعة" ببيروت فى كانون الثانى (يناير) 2007م. وبدأت أقلب صفحات الجزء الثانى، وعنوانه: "فى السيرة النبوية-2 تاريخية الدعوة المحمدية فى مكة"، لأنه هو الجزء الذى تعرض فيه المؤلف لاسم النبى وزعم زعمه السمج بأن اسمه الحقيقى "قُثَم" لا محمد. وما إن مضيت بضع صفحات فى القراءة حتى وجدت أخطاءً بالكوم، وكلها من النوع المضحك المخزى فى آن. ورغم أنى قرأت بقية الكتاب على عجل فإن مقدار الأخطاء والثغرات التى قابلتنى أثناء ذلك شىء هائل: فهناك الركاكة والاستعجام وتفكك الفكر وتناقض الكلام وضعف المنهجية واللف والدوران والجهل بالمصادر اللازمة للموضوع والعجز عن القراءة السليمة... وهأنذا أضع بين يدى القارئ ما تنبهت له فى تلك القراءة العجلى، وهو فى الواقع أمر يبعث على الغثيان.
وأول ما يلاحظ على الدكتور جعيط أن أسلوبه ليس من الأساليب الجميلة بحال، فضلا عن أنه يعجّ بالأخطاء والركاكة والتواء العبارة، مما يقربه من العجمة فى غير قليل من الأحيان، رغم أن أباه، كما قرأت، كان عالما من علماء تونس. لكنْ من الواضح أن ذلك لم يكن له فيما يكتب التأثير المنتظر للأسف. ومن ذلك مثلا العبارة التالية التى توحى بأننا أمام طالب أجنبى حديث عهد بتعلم العربية، فهو لم يتقنها بعد: "وهنا على قبرِ وفى مسجدِ الرسول المؤسس للدين والهوية ولتاريخية كبيرة، فى مسجد المدينة وهو بصدد البناء، تم لقاء بين عبد الملك وبين سعيد بن المسيب..." (ص34). وهى عبارة لا تنفح شيئا من روائح العروبة بما فيها من عسر التركيب والتوائه، فكأن كاتبها غير عربى. ومثلها كذلك قوله فى الصفحة التالية: "وقد تأكدت فكرة التاريخ مع الرجلين معا (يقصد عروة بن الزبير وعبد الملك بن مروان): كيف بدأت الأمور، تلك التى أتت بكتاب مقدس، بالتحام الجماعة، بملك الدنيا؟".
وتقابلنا فى الصفحة التاسعة عشرة كلمة "أُثْرِيَتْ"، التى يستعملها كاتبنا اللوذعى فى الجملة التالية: "أُثْرِيَتِ المكتبة التاريخية واتسعت إمكانيات الباحث" على أنها فعل متعد بمعنى "أَغْنَى"، ولهذا بناه للمجهول، على حين أنه فى الحقيقة ليس فعلا متعديا كما توهَّم جعيط بثقافته اللغوية الفقيرة، بل فعلا لازما بمعنى "اغتنى". وعلى هذا يمكننا أن نقول إن فلانا "أثرى" من التجارة الفلانية، أى أصبح رجلا غنيا، لكن لا يصح أن نقول إن التجارة الفلانية قد "أَثْرَتْ" فلانا، أو إن المحاضرة الفلانية "أَثْرَتْ" فهمنا للموضوع الفلانى، أى جعلته غنيا. وقد تكرر هذا الاستعمال فى مواضع أخرى. وعلى العكس من تعدية الفعل: "أثرى" نراه يُلْزِم الفعل: "مَسَّ" ويُدْخِل على مفعوله الباء فيقول: "مَسَّ فلان بكذا" (ص264- 265، 269. وفى الجزء الثانى من الكتاب تكررت مرتين ص90، ومرة ص91 على سبيل المثال)، بدلا من "مَسَّه" كما ينبغى أن يكون الاستعمال. ومثل الفعل الأخير الفعل "عَمَّ"، فهو فعل متعد، إلا أن الكاتب يستخدمه لازما، مدخلا على المفعول به الحرف: "على": "والإسلام فى آخر المطاف لم يعمّ على الحجاز بما فى ذلك مكة إلا بتكوين أمة فدولة فقوة ضاربة سياسية" (ص316).
وفى الصفحة التاسعة عشرة أيضا وغيرها من الصفحات تقابلنا كلمة "تَوْرَخة"، التى لا أستطيع أن أمسك بزمام نفسى فلا أقول كما كان يونس شلبى رحمه الله يقول كلما سمع شيئا من زميله مرسى فى مسرحية "مدرسة المشاغبين"، إذ كان يتساءل فى حيرة بل فى بلاهة: "إنجليزى ده يا مرسى؟". فأنا بدورى أتساءل وكلى فزع: "عربى هذا يا دكتور؟". إن هناك ناسا لو أتيح للواحد منهم تسعة وتسعون طريقا كلها تؤدى بهم إلى النجاة، وطريق واحد ليس إلا يقودهم إلى الضلال والهلاك والضياع لتركوا التسعة والتسعين طريقا ولم يَحْلُ فى أعينهم إلا طريق الضلال والضياع. لماذا؟ هذا مما احتارت البرية فيه. وقد كان عند الدكتور جعيط كلمة "التأريخ"، لكنه تركها إلى "تَوْرخة" هذه التى لم أسمع بها قط، ولا أظن أحدا عاقلا سمع بها من قبل أو سيسمع بها من بعد. ولست أعرف أى شيطان سول له أن يستعمل هذه الكلمة الثقيلة على اللسان والأذن والذوق والقلب والعقل جميعا، وكذلك الأنف والجلد فوق البيعة. بالله عليك أيها القارئ الكريم، أوكنت تظن أن هناك من يقول: "تَوْرخة" قبل أن أسوق لك هذه الكلمة من كتاب الدكتور جعيط؟ الحق أنه لو عُرِضَ علىّ أن أدخلها فى كتاباتى لقاء ثروة من المال ما قبلتُ رغم حاجتى الماسة بل القاتلة إلى مثل تلك الثروة، إذ إن وجهها "يَقْطَع الخميرة من البيت" كما يقول الناس فى قريتنا. ولا أظنها إلا تقطع الخميرة أيضا من تونس، فهى مشؤومة تجلب النحس والفشل أينما حلت وكيفما توجهت مثلما يخيّم الشؤم أيضا على كلمات "مِيتانَصّ" و"إيثيقا" (ومنها "الأوامر الإيثيقية"/ ج1/ ص125) و"قَوْعَدَة" و"هاجيوغرافى" التى قابلتها فى أوائل الكتاب.
والأولى كلمةٌ هجينٌ نصفها الأول يونانى، ونصفها الأخير عربى، وهى فى الواقع مصطلح حديث (meta-text, métatexte) من اختراع اللغوية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا (Julia Kristéva)، ومعناه كما جاء فى "قاموس مريام وبستر الجديد:Webster's New Millennium™ Dictionary of English": "a text describing or explaining another text: النص الذى يصف أو يشرح نصا آخر"، كالكتابات النقدية بالنسبة إلى نصوص الإبداع الأدبى مثلا، وفى "القاموس الدولى للمصطلحات الأدبية:Dictionnaire International des Termes Littéraires" نقرأ ما يلى: "le métatexte est un texte dont l'objet est un autre texte (commentaire, critique, glose, etc)"، والثانية هى كلمة "Ethica" اللاتينية (وفى الفرنسية والإنجليزية: "L'éthique, Ethics")، وتعنى "فلسفة الأخلاق"، والثالثة هى وضع القواعد لشىء ما، والرابعة (hagiographical) صفة مشتقة من "hagiography-- hagiographie"، أى الكتابات التى تتناول حياة القديسين وما يتصل بها. ويقابل تلك الصفة فى سياقنا الحالى (الأشياء والأمور) الخاصة بالسيرة النبوية، ويمكن أن يقال: "(كتابات) تتصل بالسيرة"، أما إذا أردنا الترجمة المباشرة للكلمة فنقول: "(الكتابات) السِّيرِيّة" مثلا. هذا لو أردنا أن نكون طبيعيين يفهم الناس عنا، ولكن للحذلقة العاجزة سلطانا على بعض النفوس يبلغ حد المهزلة، والعياذ بالله! ومثل تلك الكلمة كلمة "ميتا خطاب" (ص204، وكذلك "ميتاجُنون"/ ج1/ ص98. أنعم وأكرم بالجنون ومِيتَاه!).
وانظر أيضا قوله، عن بعض كتب السيرة النبوية التى تستقى هى وسيرة ابن إسحاق من ذات المصدر، إنها "تدلو من نفس الدلو" (ص27)، وهى عبارة تذكّرنى بأسلوب طلبة هذه الأيام النحسات فى أوراق الإجابة آخر العام، إذ أجدهم يحومون حول التعبير المراد دون أن يصيبوه بسبب عدم قراءتهم للكبار أصحاب الأساليب المونقة، بل ندرة قراءتهم أصلا وندرة مرانتهم على الكتابة الدقيقة، بَلْهَ الكتابةَ عموما، فتجىء تعابيرهم مهوَّشة لا تصيب المقصود عادةً إلا على سبيل المصادفة والشذوذ. وليس فى العربية التى نعرفها "دَلاَ فلان من نفس الدلو"، إذ الفعل: "دلا يدلو/ أَدْلَى يُدْلِى/ دَلَّى يُدَلِّى دلوه فى البئر" مثلا معناه: أنزله فى البئر للاستقاء. أما "دلا من نفس الدلو" فلا أدرى كيف تكون، إذ الدلو لا يُدْلَى من الدلو، بل يُدْلَى فى البئر.
ومن تلك الأخطاء المزعجة لديه أيضا قوله إن "الإنجيل ليس بالكتاب المنزل على شكيلة القرآن" (ص30. وقد تكررت مرة أخرى ص316، وكذلك عدة مرات فى الجزء الأول من الكتاب). ولا أدرى من أى وادٍ التقط "شَكِيلة" هذه، فالعرب إنما تقول: "شاكلة" كما فى القرآن مثلا: "قل: كلٌّ يعمل على شاكلته" لا "على شكيلته". أما إذا كان هناك كاتب أو شاعر عربى ممن تؤخَذ عنهم اللغة قد استعمل تلك الكلمة فلسوف أرجع عما قلته هنا، وأشكر من أرشدنى إلى ما كان غائبا عنى. وكان هشام جعيط، قبل ذلك فى الصفحة السادسة، قد ضبط الفعل الماضى: "بطل" بضم الطاء (هكذا: "بَطُلَ") غير دارٍ أن ضم الطاء يقلب معنى الفعل من البطلان إلى البطولة. وفى القرآن المجيد نقرأ قوله عز شأنه عن التقام عصا موسى لحبال سحرة فرعون: "فوقَع الحقُّ وبَطَلَ ما كانوا يعملون" (الأعراف/ 118). وكان يمكن أن يسكت صاحبنا "الهاجيوغرافيكالى" فلا يتعرض للفعل المذكور بضبط ولا ربط، لكن القدر أراد أن يكشف مقدار ما عنده من علم فوسوس إليه الشيطانُ أن يتحذلق فتحذلق، فكان ما كان.
والآن إذا كان هذا هو أسلوب هشام جعيط فى العربية فكيف يكون أسلوبه فى الفرنسية، التى ذكر فى مقدمة الجزء الأول من الكتاب، وعنوانه: "الوحى، القرآن، النبوة"، أنه فكر فى بداءة الأمر أن يؤلفه بها لكنه سرعان ما عدل عن تلك الفكرة؟ (ط2/ دار الطليعة/ بيروت/ مايو- أيار 2000م/ 7). الحمد لله أن دكتورنا "الهاجيوغرافيكالى" قد ثاب إلى رشده وصاغ كتابه بالعربية، فــ"نصف العَمَى ولا العَمَى كله" كما يقول المثل الشعبى!
وأطرف ما فى الموضوع أن السبب الذى حدا به إلى التفكير فى وضع الكتاب بالفرنسية هو أن "العربية فقيرة جدا فى كل ما هو مصطلحات فى الفلسفة والعلوم الإنسانية التى انتشرت فى الغرب لكثرة استعمالها وكثرة استيعابها" كما يقول! أرأيت كيف تتباهى القَرْعاء التى ليس لها شعر بجمال شعرها رغم ذلك بدلا من أن تكفأ على الخبر ماجورا ولا تفضح نفسها؟ اللغة العربية إذن فقيرة، وفقيرة جدا، ولا تستطيع استيعاب ما فى ذهن سعادته من أفكار ومصطلحات! واضح يا دكتور! واضح جدا! الحق أنك تذّكرنى برجل صرعه غريمه على الأرض وبرك فوق صدره وأشل حركته فلم يعد يستطيع أن يفلفص منه وضاعت كرامته تماما بعد أن حطه تحطيما، إلا أنه مع ذلك كله لا يكف عن الصياح طالبا من المشاهدين الذين انفضح أمامهم أن "يشيلوا من فوقه" ذلك الغريم حتى يتمكن من ضربه! ولكن الدكتور يعرف رغم هذا مستواه الحقيقى فى القدرة على التعبير بالعربية فنراه يلمح إلى أن كتابات أمثاله بالعربية فى هذه الحالة عرضة لأن تكون مبهمة وأن يسمها القراء بأنها أجنبية، إلا أنه يسارع مؤكدا أن ذلك ليس من العيب فى شىء (ج1/ ص8). طبعا، فأنت رجل لا تعرف العيب!
ومن تلك الأخطاء التى لا يقع فيها طالب مبتدئ، فضلا عن أستاذ جامعى لا يعجبه العجب ويدخل علينا وقد فتح صدره مثل "شجيع السِّيمَا، أبو شَنَب بَرِّيمة" وكأنه سيفتح عكا، قوله عن الرسول: "فكَوْنُ أبوه مات وأمه حامل به يصعب قبوله" (ص146)، جاهلا أنها "أبيه" لا"أبوه" لأنها مضاف إليه. ومن ذلك أيضا قوله: "بقدر ما كانت مكة ضيقة فضائيا بقدر ما اتسعت بكثرة وكثافة سكانها" (ص161، وانظرص213، وكذلك ص41 من الجزء الأول)، مكررا كلمة "بقدر ما" فى هذا التركيب غير دارٍ أنها لا تكرر، بل الصواب أن يقال مثلا: "بقدر ما كانت مكة ضيقة فضائيا كانت متسعة بكثرة وكثافة سكانها". وأمثاله ممن لا يعرفون كيف يتعاملون مع اللغة يكررون أيضا كلمة "كلما" القريبة فى المعنى فيقولون مثلا: "كلما عملتَ ساعات أطول كلما كسبتَ مالا أكثر"، قياسا غبيا على التركيب الإنجليزى والفرنسى التالى: "The more one has, the more one wants\ Plus on a, plus on désir avoir"، وكأن العرب لم يكن عندهم هذا التركيب قبل الإنجليزية والفرنسية بأحقاب وأحقاب. ولقد وجدتُ أيضا كلمة "كلما" مكررة عنده مع فعل الشرط وجوابه فى الصفحة 45 من الجزء الأول ، إذ قال: "كلما تقدم الزمن كلما تضخم دور الحديث فى التشريع".
وهذا المستعجم لا يستطيع أن يقول مثلا إن للمسيحية ثقلها الكبير على بلاد العرب، بل كل ما يقدر عليه هو أن يقول إنها "تَزِن بوَزْنٍ كبير على المنطقة" (ص162. وقد ورد هذا التعبير أيضا فى الصفحة رقم 96 حيث يقول إن "أوربا، وهى طليعة الإنسانية، طردت كل القوى الخفية التى وزنت بوزن كبير على البشر من آلهة وشياطين وأرواح وملائكة"). ترى ما دور الأعاجم فى معاونة الرجل وتحبير صفحات كتبه؟ لقد رآها عندهم هكذا: "peser lourdement sur…\ to weigh heavily upon…"، فترجمها على معناها المادى الأصلى دون فهم للسياق، وهذا أقصى مداه، فكله عنده صابون. مسكين! وقد سبق أن استعملها فى رأس الصفحة السابعة والعشرين من الجزء الأول، إذ قال: "إن تاريخ الأديان كتاريخ لا يزن بوزن يُذْكَر أمام مجال المعتقد ذاته"، ثم أعادها على سبل التأكيد فى أسفل الصفحة ذاتها مع بعض التغيير: "هناك وَزْن تاريخٍ طويلٍ جدا... أتى من الغياهب". ومن تلك الأخطاء المستعجمة قوله عن مفهوم الفارقليط: "إن مفهوم الباراكلبتس كان لا بد من قبل منشغلا فى ذهن النبى... كما انشغل فى ذهن مانى قديما" (ص166). أرأيتم إلى هذه الدُّرَر؟ إنها المرة الأولى، ولسوف تكون الأخيرة، التى أسمع فيها بفكرة تنشغل فى ذهن صاحبها! إنجليزى ده يا مرسى؟
ومن عجمته أيضا تسميته الإسلام: "دين التوحيدية" (ص202)، وقوله تفسيرا لاعتراض المشركين على اختيار الله سبحانه للرسول بدلا من "رجل من القريتين عظيم" بأنه عليه الصلاة والسلام "لم يكن شيئا اجتماعيا" (ص208)، وكذلك جَمْعه كلمة "نواة" على "نواتات" (ص213)، ثم ذلك التركيب العجيب الذى لا أذكر أننى رأيته عند أحد سوى هشام جعيط: "وإنْ نحن نجدها فى "المزَّمِل" ففى الآية 20 الأخيرة" (225). ترى هل يصعب عليه إلى هذا الحد أن يقول: "وإنْ (نحن) وجدناها..."؟ وقد تكرر هذا التركيب الشاذ مرة أخرى على الأقل فى قوله: "وإن هى (أى آلهة القرشيين) لا تتماهى معها (أى مع الملائكة) فهم يعترفون بوجود الملائكة" (ص280). ومن الأعجميات عنده كذلك التركيب التالى الذى يستعمل فيه "إنما" فى جملة اسمية بدون اسم "إن"، وهو ما لم أسمع به من قبل فى الفصحى لا عند كاتب محترم أو غير محترم: "وإسلام أهل مكة المزعوم إنما مرتبط بالغرانيق" (ص227)، وقوله عن المطعم بن عدى إنه "لم يُذْكَر إلا بقلّة، والأقرب عن خطإ، فى قوائم أصحاب الجدل والمعاداة" (ص232)، وهو كلام أشبه برُقْيَة النملة. ومنها قوله عن قصة الغرانيق: "ومفادها بكلمة أن الشيطان حسب التقليد ألقى على لسان النبى آيتين فى مدح آلهة قريش..." (ص272)، والمقصود بــ"التقليد" روايات السيرة والحديث النبوى طبقا لرطانة ذيول الاستشراق، إذ هى ترجمة حرفية قميئة لمصطلح "Tradition"، الذى يستخدمه المستشرقون، بمعنى "السُّنّة" و"التراث" وما أشبه. وهناك كذلك قوله عن تأثر الأسرة، أىّ أسرة، بظهور الرجال العظام فيها أو عدمه: "هل يزن الوسط العائلى بوزنه فى انبثاق شخصية عظماء الرجال أم يزن نقضا؟" (ص254). وهو كلام ككلام شمهورش غير قابل للفهم. وأما قوله إن القرآن هو "من قلة المصادر الدينية الصحيحة التى صورت واقع النزاع القائم" (ص255) فهو كلام خواجات يُقْصَد به أن القرآن هو من تلك المصادر القليلة. ثم نجىء إلى قوله على طريقة العَوَامّ: "هم فى حالة عداء مستمر بين بعضهم" (ص300)، بدلا من "... بين بعضهم وبعض"... إلخ.
وبالنسبة للمنهج الذى يذكر جعيط أنه سيتبعه فى كتابه نراه يقول، فى مفتتح الفصل الأول من الجزء الثانى، عن الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية فى كتب التراث إنه "لا بد للمؤرخ من نقدها وفحصها بكل دقة، فلا يمكن تغليب رواية على رواية أخرى حسب الأهواء أو لإثبات فكرة كما فعل كثير من المؤرخين المحدثين، بل يجب على المؤرخ أن يتجنب تصديق المصادر بدون رويّة بقدر ما يتجنب الإجحاف فى النقد والرفض بدون حجج. والمصادر خاضعة بالأساس للمنطق التاريخى".
لكن هل اتبع دكتورنا "الهاجيوغرافيكالى" الهمام النصيحة التى شنَّف آذاننا بها؟ لنأخذ مثلا تشكيكه السخيف فى قرآنية قوله تعالى: "وأَمْرُهم شُورَى بينهم" فى الآية 38 من سورة "الشورى" بشبهة أنه لا يناسب السياق الذى ورد فيه (ص22- 23)، ومن ثم يزعم أن تلك العبارة هى مما أُقْحِم على القرآن فيما بعد عند كتابته للمرة الرسمية الثالثة فى عصر عثمان، ولم "يَبُحْ" بها النبى، حسب رطانة الدكتور جعيط، الذى لو كان لديه شىء من الحس السليم لفهم أنه بهذه الإمكانات اللغوية المتواضعة بل الوضيعة ما كان ينبغى له أن يتغشمر فى كلامه عن كتاب الله على هذا النحو الجاهل. وأحب أن أقول للقارئ إن ريجى بلاشير، المستشرق الفرنسى الذى أعمى الله بصره فى أخريات حياته مثلما أعمى قبلا بصيرته، كان من شِنْشِنَته الزعم بأن هذه الكلمة أو تلك العبارة لم تكن فى النص القرآنى الأصلى، بل أُقْحِمت عليه فيما بعد. والمقصود من كلام جعيط عن آية الشورى، حسبما أشار هو نفسه عقيب ذلك، أن عثمان قد أضاف هذه العبارة من لدنه كى يضفى الشرعية على تبوُّئه الخلافة. وكأن الشورى تحتاج إلى تبرير، وهو ما يعنى أن الأصل فى أمور الحكم حسبما قرره القرآن وطبقه الرسول هو الاستبداد وقفز كل طامح مغامر على كرسىّ السلطة عَنْوَةً ودون اعتبار أو انتظار لرأى الناس الذين سيحكمهم، فكان لزاما على عثمان أن يضيف إلى القرآن جملة تقول إن الشورى يا مسلمون يا متخلفون هى أمر طيب، ومن ثم فلا وجه لاعتراضكم على الأسلوب الشُّورِىّ الذى وصلتُ به إلى الإمساك بمقاليد أموركم. أليس ذلك أمرا مضحكا؟ فهذا هو مستوى"هاجيوغرافيكاليّنا" اللوذعى فى الفهم والتبرير وقراءة النصوص.
طيب يا دكتور جعيط، سأحاول أن ألغى عقلى وأنزل إليك وأقول: فليكن أن عثمان قد فكر بهذه الطريقة. أليست هناك آية قرآنية صريحة فى وجوب الأخذ بالشورى، وصيغت على نحو أشد وأفعل فى النفوس، وهى الآية رقم 159 من سورة "آل عمران" الموجهة إلى النبى ذاته لا إلى المسلمين بوجه عام، وبصيغة الأمر لا بصيغة الخبر كما فى الآية التى نحن بصددها، وبعد هزيمة أحد التى تمت بعد مشاورة النبى لأصحابه ونزوله على مقتضيات الشورى وخروجه لملاقاة المشركين خارج المدينة حسب رأى الأغلبية فكان ما كان، ورغم هذا يوجب عليه ربه أن يلتزم بالشورى مع المسلمين فى كل الأمور؟ وهذه هى الآية: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". فلماذا شعر عثمان يا ترى أنه لا بد اختراع آية للشورى، وعنده تلك الآية؟ وكيف سكت المسلمون على بكرة أبيهم فى كل بلاد العرب والمسلمين فلم ينكروا ذلك عليه رضى الله عنه؟ وأين كان علىّ كرم الله وجهه؟ بل أين الشيعة منذ ذلك اليوم حتى يومنا الأغبر هذا؟ لكن على من تُلْقِى مزاميرك يا أبا خليل؟
وبالمناسبة فالقرآن عند الدكتور جعيط "مطبوع بطابع عبقرية شخصية ملهمة فى الفكر والتعبير، فى المعانى الميتافيزيقية، فى قوة الإيحاء" (ص25). ولا أظن المعنى إلا واضحا لا يحتاج أى تدخل منى لشرح مقصد الكاتب. ويزداد الأمر عجبا وغرابة حين نرى كاتبنا "الهاجيوغرافيكالى"، رغم ذلك، يؤكد أنه من غير الممكن أن يكون القرآن قد تعرض لأى تغيير فى نصوصه لما له من قداسة شديدة فى نفوس المسلمين ولأنه كان محفوظا فى الصدور والطروس جميعا ويردده الناس فى كل صلاة ويرجعون إليه دائما فى تشريعاتهم بحيث لا يمكن أن يعتريه أى تغيير دون أن يثير ضجيجا وعجيجا يهتز له المسلمون فى كل مكان. عظيم (ص22- 23)، فما المشكلة إذن؟ وكيف يتسق هذا والقول بأن القرآن قد دخلته بعض الإضافات؟ حسبما هو مخطط فسوف يردّ بعض القراء قائلين إن هشام جعيط قد بذل جهدا عظيما ورائعا فى الدفاع عن صيانة القرآن من العبث والتحريف، فلا يعيبه أن يقال إنه قد أُقْحِمَتْ عليه جملة ليست منه لا تقدم ولا تؤخر، جملة صغيرة لا خطر من ورائها، وممن؟ من عثمان ختن النبى وأحد أقرب صحابته إلى قلبه وأحد العشرة المبشرين بالجنة، يا داهية دُقِّى! بالإضافة إلى بعض الحالات المحتملة الأخرى التى سقط من القرآن فيها بعض العبارات أو أضيفت إليه بعض العبارات الأخرى أو كُرِّرَتْ على سبيل الخطإ بعض الآيات أيضا كما ذكر هو نفسه (نفس الموضع السابق). وهنا الخطر كل الخطر، إذ يكفى أن نفتح الباب حتى لو كان مجرد مواربة، فالمهم أنه لم يعد محكم الإغلاق بحيث يكون من السهل بعد هذا دفعه دفعة بسيطة كى ينفتح على مصراعيه، بخلاف ما لو ظل مغلقا بالترابيس المحكمة التى لا تسمح لأحد أن يفتحه. نعم هذا هو المخطط! وأظن القارئ قد فهم عنى دون حاجة إلى أن أعاود الشرح!
وقد سبق إلى ذهنى، قبل أن أتنبه إلى أن من بين مراجع د. جعيط ترجمة بلاشير للقرآن، أن يكون قد أخذ كلامه عن الآية من ذلك المستشرق الذى خصصت لترجمته فصلا فى الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن" ووقفت إزاء هذا الزعم الأحمق عنده مرات مبينا ما فيه من سخف وضلال وبعد عن العلمية والموضوعية التى يتشدق بها مولانا المستشرق وأمثاله. ولهذا قمت الآن فأحضرت ترجمة بلاشير من الصوان القريب منى حيث أكتب هذه الدراسة، وفتحتها على الآية المذكورة فألفيته يقول إن الطبرى يفسرها بأنها تتحدث عن مشاورات الأنصار بخصوص هجرة النبى عليه الصلاة السلام إليهم والعيش معهم فى يثرب، ثم يضيف أن مثل هذا التفسير لا يتمشى مع السياق (Blachère, Le Coran, Librairie Orientale et Américaine, Paris, 1957, P. 515, N. 36). وهذا ما قاله جعيطنا حَذْوَك النعل بالنعل، إلا أنه ككل تابع مخلص أمين فى تبعيته قد أضاف ما هو أشنع. ذلك أن بلاشير قد اكتفى بأن المراد فى الآية هو المشاورة اليومية فى كل مناحى الحياة لا فى أمر الهجرة فحسب، أما جعيطنا فأراد أن يكون كلامه من النوع الحراق المشطشط فأشار إلى عثمان ووصوله إلى الخلافة عن طريق الشورى. طبعا حتى يثبت لمتبوعيه أنه مخلص لهم وأمين وأنه يستحق الطنطنة التى يُحْدِثونها له يلفتون بها الأنظار إلى عبقريته التى لم تلدها ولادة؟
ولأنه عبقرى لم تنجب النساء مثله فهو ليس بحاجة إلى أن يقدم دليلا على ما يقول ولا أن يتجشم البحث عن حجة يسند بها هراءه هذا المتمخط، وإلا فلماذا لم يقل لنا كيف لا تتسق الجملة المذكورة مع السياق الذى وردت فيه؟ كنا نحب أن يكلف نفسه شيئا من التعب فيذكر لنا الحيثيات التى قال على أساسها ما قال. لكنه فى الواقع لا يعرف شيئا عما يهرف به. إنما هو كلام نقله من بلاشير، ثم أضاف إليه ما أضاف، وربما كان ما أضافه هو رأيا لمستشرق آخر لم يُكْتَب لنا أن نطلع عليه لأنه لم يسجله فى كتاب مثلا، بل اكتفى بأن ألقاه إلى صاحبنا وترك له مهمة نشره فى العالمين.
وحتى لا يظن أحد أننا نغالى بعض الشىء فى كلامنا عن هشام جعيط أرانى مضطرا إلى نقل عبارة له تكشف موقفه هنا بوضوح، إذ قال فى مقدمة الجزء الثانى من كتابه (ص8) إنه "لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب والمسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميا"، وهو ما يعنى أنه لا بد أن نكون نسخة أخرى من المستشرقين، وإلا فليقل لى أحد كيف نصنع ما يطالبنا به جعيط، وبالشرط الذى اشترطه، إلا أن نكون نسخة أخرى منهم؟ أليسوا هم واضعى المناهج التى يصفها بــ"المناهج المعترف بها عالميا"؟ ويزيد الطينَ بلّةً قوله قبيل هذا عن العرب والمسلمين إنهم "أناس لهم عادةً رؤية مسبقة مستقاة من التربية الدينية ومن الجهاز الثقافى لكل فرد" (ص7)، بما يعنى أن هذه سمة من سماتنا نتميز بها عن غيرنا، وبالذات الأوربيون الموضوعيون المجردون من مثل تلك التأثيرات، مع أنه سرعان ما يقول عقب هذا إن الرأى العام الغربى، ومعه بعض المستشرقين، متأثر بتراث سلبى عن الرسول. إلا أنه يصف الغربيين رغم ذلك، وفى نفس الموضع، بأنهم هم الذين أسسوا العلم الحديث فى كل مكان وتقدم على أيديهم علم التاريخ تقدما بالغا. ثم تأخذه حالة الجلالة التى تعترى بعض الدراويش فيعلن بملء فيه، وبكل جسارة "هاجيوغرافيكالية" تليق به وبعبقريته الاستبصارية، أن أوربا فى العشرين سنة التى سبقت بداية القرن العشرين وتلك التى تلتها قد تم لها الانفتاح على كل شىء فى الحياة واستكشاف كل شىء تقريبا فى المعرفة والفن (ص10). ولم يفته، وهو يتطوح من الوجد "الهاجيوغرافيكالى" كأى درويش أصيل، أن يسمى تلك الفترة بــ"اللحظة المذهلة فى الحقيقة"! وهو كلامٌ جنونىٌّ بكل يقين، إذ معناه أن البشرية إنما تلعب الآن فى الوقت الضائع وأن حَكَم المباراة سيطلق صفارة النهاية بين لحظة وأخرى لينفض السامر ويذهب كل حى إلى حال سبيله. ترى أين ينبغى أن نضع هذا الكلام "الهاجيوغرافيكالى"؟ الحق أن مكانه هو أقرب مزبلة!
وبعد هذا كله نجده ينتقد كثيرا من كتابات المستشرقين فيرمى بعضها بأنه ليس من العلم فى شىء (ص11)، وينبز بعضها الآخر بالعدوانية (ص13)، ويحكم على بعض ثالث بأنه لا يمثل "سوى عدم الشعور بالمسؤولية العلمية" والانفلات من العقال والابتعاد عن الصرامة المنهجية التاريخية (ص14)، وهو ما يحير الباحث المسكين من أمثالنا غير "الهاجيوغرافيكاليين" فلا ندرى أنغلق الشباك الاستشراقى أم نفتحه. حيرك الله يا دكتور جعيط كما حيرتنا ودوختنا وراءك "السبع دوخات" دون أن تستقر بنا على حل!
وعودةً إلى ما زعمه عن الآية المذكورة نقول إن المضحك فى الأمر هو ترديده لزعم عدم اتساق عبارة الشورى مع سياقها بثقة من يفقه العربية ويستطيع تذوق أساليبها فيعرف ما يتسق منها وما لا يتسق، على حين أنه فى الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك تمام البعد. عشنا وشفنا واحدا ركيك العبارة كهشام جعيط يفتى فى القرآن فينفى من نصوصه ويثبت، وعنده أم الكتاب. فسبحان أبى جهل! يا رجل، عيبٌ ما تفعل. اذهب أولا فتعلم لغة القرآن، ثم تعال بعد ذلك واجلس منه مجلس التلميذ "الذكى" الذى يريد أن يزداد من العلم لا أن يتمرد حتى يرضى عنه قوم آخرون لعنة الله عليهم وعلى من يصيخ السمع إليهم ويعمل على إرضائهم ويفرح بما يقولونه فيه رغم أن ما يقولونه ليس إلا الجهل والخبث بعينه يُثْنُون به على تابع لهم ينعق بما ينعقون به لا يخرج عنه، وإن كان ينعقه أحيانا بطريقة تبدو مختلفة، إذ يرسمون له خطوطها العامة ويتركون له التفاصيل. واضح، يا دكتور جعيط، أن كلامك فى أول الفصل عن وجوب وزن الروايات التاريخية جيدا والترجيح بينها فى تجردٍ من الهوى هو مجرد كلام لم تنتفع أنت به، بل كنت أول من أدار له ظهره من الناس ولم يمر على قولك إياه إلا ثوانٍ ليس إلا. ويزيد الأمر فداحة أنه ليس أمامنا فى الآية المذكورة إلا رواية واحدة، وهو ما يعنى أنك قد اختلقت المخالفة هنا اختلاقا، ولم يكن رأيك مبنيا على موازنتك بين روايتين أو أكثر والترجيح بينهما واختيار واحدة دون الأخرى بناء على ما أداك إليه عقلك وتفكيرك، بل هو مجرد نقل لما قاله بلاشير مع تتبيله بالشطة السودانية الحراقة.
وبالمثل فقوله إن من المحتمل أن تكون بعض الآيات القرآنية قد كُرِّرَت على سبيل الخطإ ليشبه ما قاله الشيخ أبو بكر حمزة، الجزائرى الذى كان شيخا للمعهد الإسلامى التابع لمسجد باريس والذى ترجم القرآن الكريم إلى لغة الفرنسيس، حين وقف إزاء الآية رقم 52 من سورة "الأنفال" وكأنها معضلة مؤرقة تطير النوم عن جفنيه مدعيا أنها ليست سوى تكرار للآية التى قبلها بآية، وأن جامعى القرآن على عهد عثمان رضى الله عنه قد وصلتهم روايتان مختلفتان لآية واحدة، فلما لم يستطيعوا أن يحددوا أيتهما هى الصحيحة، وأيتهما هى الخاطئة، اضطروا إلى إثباتهما معا فى المصحف وخرجوا بذلك عن العهدة (Le Cheikh Si Boubakrur Hamza, Le Coran- Traduction Nouvelle et Commentaires, Fayard-Denoel, Paris, 1972, T. 1, PP. 361- 362، بالهامش). وهو كلام كاذب لأنه ليس ثمة أحد قال بوجود روايتين مختلفتين هنا لآية واحدة، بل هو ادعاء ساقط من عنديات شيخنا الهمام كادعاءات جعيط، فضلا عن أن الآية الثانية ليست تكرارا للأولى بأى حال، وفضلا كذلك عن أن القرآن ملىء، ككثير جدا من النصوص العلمية والأدبية والمقدسة، بالجمل والعبارات المتكررة، فلماذا هذه من دون مثيلاتها جميعا هى التى أسهرت ليالى أبو بكر حمزة وجعلته يقضى عمره يتقلب على فراش الشوك لا يستطيع أن يهنأ بغمض جفنيه ولو لحظة؟ إنها ذات الخطة. نعم إنها ذات الخطة حتى يبتلع القارئ المسكين السم المدسوس فى العسل ويتوهم أن المترجم المخلص الأمين قد بذل كل جهده لحل المشكلة عبثا وأنه حين قال ما قال لم يكن أمامه إلا هذا. وإلا فلماذا لم يقل ذلك فى غيرها من الآيات المشابهة والمتطابقة؟ إنها طبعا الأمانة العلمية ولا شىء غير الأمانة العلمية. ويمكن القارئ أن يعود إلى ما كتبته تفصيلا فى هذه النقطة فى الفصل الرابع من الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه" (دار القاهرة/ القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 87- 89)
وهذا نص الآيتين فى سياقهما كاملا حتى يطمئن القارئ إلى ما نقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)".
ومثل ذلك فى السخف تشكيك جعيط فى العام الذى وُلِد فيه النبى دون أدنى حجة أو رواية يمكنه الاعتماد عليها فى وجه الروايات المتعددة التى تؤكد أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام 570م. على أية حال تعالَوْا بنا نَرَ ماذا فى جعبة عالمنا "الهاجيوغرافيكالى". قال: "لم يولد محمد فى رأيى قبل سنة 580م أو حواليها أو بعدها، وكل ما ذُكِر عن سنة 570م لا يصمد أمام الفحص لسببين: هجمة أبرهة على العرب وقعت فى سنة 547م حسب النقوش، ولا يوجد أى سبب لكى يولد محمد على أية حال "عام الفيل". وهذا إنما هو علامة زمنية ليس أكثر. من وجهة أخرى إن صح أن البعثة حصلت حوالى 610م وأن الهجرة إلى المدينة وقعت قطعا فى سنة 622م حسب شهادة أوراق البردى التى لدينا، فلماذا تقرر المصادر أنه بُعِث فى الأربعين من عمره؟ إجماعها حول هذه النقطة لا قيمة له، فسِنُّ الأربعين فى ذلك الزمان سنُّ شيخوخةٍ، وليس بسن كهولة، وقد قضى النبى فيما بعد عشرين سنة أو أكثر وهو فى كامل نشاطه. ورقم الأربعين رقم سحرى لدى الساميين، وقد حللنا هذا فى الجزء الأول. ومن المستغرب أن يشير القرآن إلى هذه السن على أنها السن التى يبلغ فيها الإنسان أَشُدّه: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ" (الأحقاف/ 15). ما معنى هذه العبارة؟ وهل المقصود قراءة خاطئة أو شىء آخر؟ على كلٍّ رأيى أن كتب السِّيَر، زيادة على ما شُحِنَتْ به سن الأربعين من معنى دينى سحرى، اعتمدت أيضا على آية قرآنية تقول: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (يونس/ 16). ما المقصود بالعمر؟ حياة كاملة أو ما يشبه ذلك؟ فى الثقافات القديمة هى ما نسميه بالجيل، والجيل عدد السنين الكافية جسديا لكى ينجب الإنسان وتنجب بذرته، أى ابنه، إنسانا آخر. وهو يعنى سن الثلاثين أو ما يقارب ذلك. لكن هذه السن أيضا أخذت طابعا شبه سحرى: فالإسكندر غزا العالم فى سن ثلاثة وثلاثين، والمسيح بُعِث فى الثلاثين. على أنه لا شك فى أن "العمر" فى الفهم العربى يعنى ذلك لأن الناس يتزوجون عند البلوغ أو بعد ذلك بقليل. وهذه السن عالية نسبيا على أية حال، ويكتمل فيها نضح الإنسان. وبالتالى رأيى أن محمدا بُعِثَ فى الثلاثين أو حتى قبل ذلك، ولم يولد إلا حوالى 580م، ولم يعش إلا خمسين سنة ونيف" (143- 144. والموضع الذى أشار إليه فى الجزء الأول من الكتاب هو ص119).
وأولا أحب أن ألفت النظر إلى الخطإ فى قوله: "لم يعش إلا خمسين سنة ونَيِّف"، وصوابه: "ونَيِّفًا" لانعطافها على الظرف المنصوب، وهو كلمة "خمسين (سنة)"، وكذلك إلى الركاكة العامية فى قوله عن الإسكندر إنه قد غزا العالم "فى سن ثلاثة وثلاثين". إن هذا كلام سوقى لا يصلح أن يقوله كاتب محترم. وكل من له أدنى تذوق للعربية يقول: "فى سن الثالثة والثلاثين"، أما ما قاله هشام جعيط فهو من كلام الشوارع العامى!
وثانيا لا بد من التنبه إلى أنه لن يترتب شىء على الإطلاق على كون النبى وُلِد فى هذا العام أو ذاك، فلماذا يرهق هشام جعيط نفسه إذن ويرهقنا ويزعجنا معه فى مخالفة ما هو مُجْمَع أو شبه مجمع عليه؟ إنها الرغبة فى إفقاد القارئ العربى والمسلم الثقة فى تاريخه وسيرة نبيه وقرآنه وعلمائه وكل تراثه. إنها الشهوة الجامحة الجاهلة فى خلخلة ما هو صُلْبٌ مستقرّ ثابت لا لكى يحرك الأذهان الجامدة كما سوف ينعق بما لا يفهم، بل لكى يترك هذه الأذهان وقد شكَّتْ فى كل شىء ورأت الضياع مكشرا عن أنيابه فى وجهها يريد أن يفترسها. الروايات، كما يقول، تُجْمِع (خذ بالك: تُجْمِع!) على كذا وكذا من الأمور، لكن علامتنا الفهامة يقول: طظ فى هذا الإجماع. والسبب؟ السبب هو أن له رأيا آخر. وعلام يستند رأى "أبِى رأىٍ" هذا؟ لا يستند إلى شىء. إذن فماذا نقول فى القرآن، وهو يقرر أن سن الأربعين هى سن تمام القوة والنضج؟ بسيطة! وهل جئتَ فى جمل يا رجل؟ نقول إن قراءة الآية غير صحيحة. لكن كيف؟ يا أخى، هذا أمر من التفاهة بمكان بحيث لا ينبغى لجلالته أن يشغل نفسه بها. وهل يليق بمن فى مثل مكانته جل جلاله أن يتنزل إلى مثل تلك الأشياء التافهة؟ وماذا يضير أن تكون الآية صحيحة القراءة أو خاطئتها؟ أرجو أن يلاحظ القارئ الكريم أن هشام جعيط ينكر صحة الروايات التى أجمعت، كما يقول، على ولادة النبى فى التاريخ الذى نعرفه، وأنه لا يستند فى هذا الإنكار إلى أى شىء سوى أنه يرى ذلك، وكأن الأمر هنا هو مجرد وجهة نظر طَقَّتْ فى دماغه دون سبب، وأنه لما رأى آية قرآنية تعترض طريقه المتعسف لم يجد أمامه شيئا يرد به سوى أن الآية خاطئة القراءة أو أى شىء من هذا القبيل. وهذا هو العلم الذى بشرنا به فى المقدمة زاعما أنه سيأتى بما لم يأت به الأوائل ولا الأواخر ولا الأواسط. طبعا لا يمكن أن يأتى عاقل يحترم نفسه ويحترم المنهج العلمى بمثل ما أتى به هشام جعيط. ذلك أن ما أتى به هشام جعيط ليس علما ولا منهجية، بل تطاولا وغلظ وجه! فمثل هذا الشخص حين يقال له: ما الدليل على أن رقم الأربعين رقم سحرى؟ أو من قال لك إن العمر هو الجيل؟ أو على أى أساس قلت إن الجيل هو ثلاثون عاما أو أقل؟ أو ما وجه الخطإ فى قراءة الآية؟ فإنه لا يقدم دليلا على ما يزعم! إنما هو كلام، والسلام، وكأننا فى مغالبة ومغايظة. وما هكذا يكون العلم ولا المنهجية التى يفلقنا هو وأمثاله بالثرثرة الفارغة المتنطعة حولها. وعلى هذا النحو لا يمكنك أن تمسك بشىء مما يقوله هشام جعيط لأنك تتعامل مع زئبقٍ رجراجٍ لا يستقر على حال!
وقد رجعت إلى"لسان العرب"، الذى اعتدَّه هو نفسه أحد مراجع السيرة المعتمدة (ص15)، لعلى أجد أن كلمة "العمر" تعنى الجيل من الناس كما يزعم صاحبنا "الهاجيوغرافيكالى" ولو على سبيل المجاز فلم أجد شيئا من ذلك التنطع السمج. وأزيده من الشعر بيتا فأقول له إن كلمة "جيل" لا تدل فى لغة القدماء على ما يقول، بل "الجيل" عندهم هو الصنف من البشر: فالصينيون مثلا جيل، والعرب جيل، والروم جيل، والترك جيل، أو هو كل قوم لهم لغة خاصة بهم. وواضح أن "الجيل" إنما يعنى شيئا قريبا من الشعب أو الأمة كما نعرفهما اليوم. ومعنى هذا أن الله قد ضرب على الدكتور جعيط الأسداد من كل جانب. إلا أننى لا أنتظر منه أن يفىء إلى الحق، وإن لم يكن ذلك على الله ببعيد، والله المستعان على كل حال.
ترى ما مصلحة المسلمين فى أن يزعموا كلهم على بَكْرة أبيهم أن نبيهم إنما بُعِثَ فى الأربعين إذا كان قد بُعِث فى الثلاثين؟ أو ترى ما الخوف الذى دفعهم جميعا من هاشميين وأمويين ومنافقين ومرتدين، ومن مكيين ومدنيين وطائفيين ويمنيين ونجديين وبحرانيين وعمانيين، ومن عرب وغير عرب، على مر القرون إلى تغيير تاريخ البعث الحقيقى؟ ثم إن جعيط قال إن سن الثلاثين هى كذلك ذات طابع سحرى، ومع ذلك يقول إنه عليه السلام قد بُعِثَ فى سن الثلاثين. فلماذا كانت حلوةً منه، ومُرّةً من الأقدمين؟ العلة تكمن فيما قلته قبل قليل من أن مراده هو خلخلة الثقة ونسف الاطمئنان إلى أى شىء يتعلق بديننا ورسولنا وقرآننا وتراثنا، وكل شىء بعد ذلك يهون. ثم لماذا ينبغى ألا يولد النبى فى عام الفيل كما يقول؟ أهو ضد قوانين الكون؟ ألا يرى القارئ سخف منطق هذا الرجل؟ والمضحك العجيب أن ولادة النبى سنة 570م لا تجعل مجيئه إلى الدنيا متوافقا وعام الفيل حسب تحديده لتاريخ ذلك العام، الذى أكد أنه حل قبل ذلك بثلاثة وعشرين عاما، ومع هذا يصر على أنه صلى الله عليه وسلم لم يولد فى سنة 570م. أى أنه لن يرضى عن شىء ولن يسلّم بأى شىء مما أجمعت عليه الروايات حتى لو انطبقت السماء على الأرض! كذلك من أين له بأن سن الأربعين كانت فى ذلك الزمان سن شيخوخة؟ فليأتنا بأثارة من علم إن كان من الصادقين. ولا أظنه يريد أن يقنعنا بأن العرب فى ذلك الزمان كانوا إذا ما بلغ الواحد منهم الأربعين ينحنى ظهره ويشيب شعره ويهرم ويحال إلى الاستيداع، فينكفت فى كسر بيته قائلا: "هيه! يا للا حسن الختام!"، انتظارا لمجىء أحد العساكر ببندقيته ليطلق عليه رصاصة الرحمة كما يفعلون مع خيل الحكومة!
المعروف، بالعكس من ذلك، أن سكان البوادى كثيرا ما تطول أعمارهم أطول من سكان الحضر لهدوء حياتهم وبساطة أطعمتهم وابتعادهم عن الضغوط العصبية وعدم تعرضهم للملوثات الهوائية والمائية والطعامية والأمراض والأوجاع التى يصعب علينا الآن نحن أهل الحضر تجنبها تماما. وهو ذاته رغم كل الهلس والهجس الذى صدَّعنا به يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه عاش بعد المبعث عشرين عاما وهو فى كامل قوته ونشاطه. وهذا ينسف كل ما قاله، إذ ما دام الناس فى ذلك الزمان يشيخون بالسرعة التى ذكرها، وهى سن الأربعين، فكيف ظل شيخ كالنبى فى كامل قوته ونشاطه لمدة بضع عشرة سنة أخرى، أى منذ أن بلغ الأربعين بعد بعثته بعشر سنوات طبقا لحسابه الحلمنتيشى؟
ولأبى حاتم السجستانى كتاب مشهور عنوانه: "الوصايا والمعمَّرون" نقرأ فيه أن ثمة ناسا فى الجاهلية طالت أعمارها طولا شديدا حتى لقد تجاوز عمر البعض منهم ثلاثمائة سنة. ولست آخذ هذا على حرفيته، إلا أن تكرار الكلام فى هذا الموضوع يؤكد أن طول العمر فى تلك الأزمان كان أمرا صحيحا. وهناك من عاشوا فى زمن النبى أكثر من مائة عام، ولم يكونوا يثيرون استغراب من حولهم، ومنهم النابعة الجعدى، الذى أكتفى هنا بذكره لأن لى كتابا عنه وقفتُ فيه أمام مسألة السن هذه وناقشت بعض المستشرقين الذين أنكروا عليه طول العمر، وإن لم أذهب إلى المدى البعيد الذى ذهبت إليه بعض الروايات المغالية. بل إنّ تزوُّج الشيوخ وقتذاك بفتيات صغيرات كان أمرا مألوفا، ولو كانت الشيخوخة والعجز يبدآن فى الأربعين على ما يزعم الدكتور جعيط لما رأينا أولئك الشيوخ يجرؤون على الزواج فى تلك السن، فضلا عن أن تكون الزوجة فتاة شابة! بل لقد كان الشيوخ أقوى من كثير من شباب اليوم على تحمل ويلات الحياة ومشقاتها دون شكوى، وبخاصةٍ ويلات الحرب والجوع والعطش والسفر الطويل المرهق والعمل اليدوى المضنى. وما زلنا فى عصرنا هذا نسمع بناس قد تجاوزوا المائة، فما بالنا بتلك الأزمنة؟ وفى موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية نقرأ أن فى العصر الحديث من عاش 122 سنة و146 يوما، وهى جين لويز كالمون (Jeanne Calment)، الفرنسية التى عاشت من 12 فبراير 1875م إلى 4 أغسطس 1997م.
ومن المحتمل أن يكون ناس فى الأزمنة القديمة قد عاشوا أطول من 122 عاما، إلا أنه لم يسجَّل رسميا لأن القدماء لم يكونوا يعرفون مسألة الأرقام القياسية والإحصاءات العامة وما إلى ذلك، وإن لم يمنع هذا من تأليفهم كتبا ككتاب السجستانى: "المعمَّرون والوصايا"، الذى لا أظن أن كل ما فيه عبارة عن مبالغات وخرافات كما قد يتبادر إلى أذهان المغرمين بالتكذيب "لله فى لله"، وإلا فلنكذب القرآن أيضا، ففيه وفى العهد القديم معا أن نوحا عاش نحو ألف عام. ولكنْ على من يكذّب القرآن أن يقيم الدليل على أن ما يقوله كتاب الله فى هذا الموضوع كذب أو خرافة. ومَنْ يا ترى يستطيع ذلك فى أمرٍ مضى وانقضى ولم يعد ثم سبيل إلى إرجاعه أو إلى الطعن فيه؟ بالإضافة إلى أن قياس أمور القدامى على أمورنا فى كل تفاصيلها منهج خاطئ: فى بعض الحالات على الأقل. ومن هنا فلست أشاطر كاتب مادة "Life expectancy" فى موسوعة "Wikipedia" فى قوله: "Although there are several longevity myths mostly in different stories that were spread in some cultures, there is no scientific proof of a human living for hundreds of years at any point of time"، إذ كيف يمكنه التحقق من أن ما ينكره لم يحدث فى الماضى، وبخاصة أن هناك من أكدوا حدوثه، ومن الصعب الزعم بأنهم جميعا كاذبون أو خاضعون لتأثير الفكر الخرافى تماما؟ وفى أقل القليل إذا كان العلم لا يستطيع إثبات طول العمر قديما إلى مئات السنين فإنه بالمقابل لا يستطيع إثبات عدمه.
على أنه لا بد لى هنا من تسجيل شكرى لهشام جعيط رغم ذلك لأنه، والحمد لله، قد وافق كتاب السيرة القدماء على أن النبى هو فعلا من بنى هاشم وأنه مكى، وليس من وسط جزيرة العرب (ص144) كما تقول صاحبة كتاب الــ"Haggerism" المستشرقة باتريشيا كرونة أم سن ذهب (أو فضة، لا أدرى بالضبط، فقد كنت رأيتها مرتين أو نحو ذلك فى أوكسفورد فى أواخر سبعينات القرن الماضى، ولست متأكدا الآن أكانت سنها ذهبا أم فضة، وكانت حركات يديها وهى تشيح بهما أثناء المحاضرة تفتقر إلى رقة النساء وتوحى لك بأن المتحدث ذكر لا أنثى). ولك أن تتخيل مبلغ سعادتى وسر شعورى بأنه لا بد لى من شكر د. جعيط إذا عرفت أننى كنت واضعا يدى على قلبى خشية أن تعتريه واحدة من بدواته غير العلمية أو المنهجية أو المهلبية بالألماظية، وما أكثرها وأعصاها على الانضباط، فيُقِلّ عقله ويدخل فى منافسة حمقاء مع الست كرونة ويزعم أنه صلى الله عليه وسلم ليس من مكة ولا من بنى هاشم ولا من أواسط الجزيرة ولا هو عربى أصلا ولا فصلا، بل يابانى. نعم يابانى من بلاد الواق واق بعينين مشقوقتين بالموسَى كسائر أهل اليابان، ومنهم ابنا الأستاذ ميسرة عفيفى صديقنا المصرى المقيم هناك! وأرجو من القراء ألا يظنوا بى المبالغة حين أذكر اليابان، فهم لا يعرفون فجور كارهى الإسلام. ألم يقل طه حسين، عندما نفى مصر عن الشرق جملة وتفصيلا فى كتابه الآثم السخيف: "مستقبل الثقافة فى مصر" وألحقها بأوربا، إنه يقصد الشرق البعيد كالصين واليابان والهند؟ أرحت قلبى يا دكتور جعيط، أراح الله قلبك! وأنت لا تعرف سبب دعوتى هذه لك ولا تستطيع أن تقدرها حق قدرها لأنك لا تدرى ماذا حدث لى فى الفترة الأخيرة! أقولها وقلبى يعلو ويهبط من شدة الانبهار: الانبهار الجسدى والنفسى معا.
لكن الدكتور هشام سرعان ما ركبته الحالة التى ساعةً تَرُوح، وساعاتٍ تجىء، فأنكر أن يكون أبو النبى قد مات وهو فى بطن أمه. ومن بين ما تنطع به لإيهامنا بصحة هذا التخلف قوله إن كتاب السيرة إنما قالوا ذلك حتى لا يكون لأحد فضل عليه. ألم يقل الله له: "ألم يجدك يتيما فآوى"؟ (ص146- 147). طيب يا بطلنا الهمام، وهل إذا مات أبوه وهو فى بطن أمه، ألن يتولى تربيته بدلا من أبيه شخص آخر سوف يكون له فضل رعايته، وهو هنا جده عبد المطلب أولا ثم عمه أبو طالب ثانيا؟ أم تراهم قالوا إن الغزالة هى التى ربته كما هو الحال مع المأسوف على شبابه حَىّ بن يقظان بطل قصة ابن طُفَيْل؟ لكن هذه أضرط من الأخرى، فخَلِّنا فى الراعى البشرى، فهو أفضل من الغزلان.
لاحظ، يا قارئى العزيز، أن هذا كله لا قيمة له فى مجرى أحداث السيرة، وجعيط نطّاط الحيط يعرف ذلك كله وغير ذلك كله، إلا أن المراد هو إيقاع البلبلة فى نفوس العرب والمسلمين حتى لا يطمئنوا إلى شىء يتعلق بحضارتهم وتراثهم ودينهم ونبيهم. أفهمت الدور الذى يحاول المحفَّظ، اسم النبى حارسه وصائنه، أن يقوم به؟ وبالمناسبة فقد كانت الحالة التى اعترته هنا من النوع الثقيل الخطير، إذ شكك أيضا فى اسم والد الرسول، كما شكك فى اسم الرسول نفسه على ما قرأتَ لى فى بحث آخر مسحنا فيه بما كتبه المحفَّظ الأرض قبل مدة. ولهذا نضرب صفحا عن هذا القىء، وبخاصة أننا لا ننوى تناول كل ما قاله، وإلا ما فرغنا، إذ الساحة تفيض بأمثاله ممن لو تفرغ لهم الواحد ما وجد وقتا حتى لدخول الحمّام!
وهو يتكلم عن القرآن صراحة على أنه من عمل النبى عليه السلام، استقى ما فيه من أفكار وعقائد وقصص من أهل الكتاب حين كان يقيم بالشام ويتصل بهم هناك، ولكن بعد أن تعلم قبل ذلك فى بلاده على يد الحنفاء (ص151 وما بعدها. وهو، فى الصفحة السادسة والأربعين من الجزء الأول من الكتاب، يرى أن الرسول لو كان قد قال للناس إن القرآن نتاج تفكيره هو لفشلت الدعوة، وإن أضاف ما معناه أنه صلى الله عليه وسلم كان مقتنعا مع ذلك أن القرآن هو من عند الله. أى أنه كان واهما مخدوعا يتصور ما لا حقيقة له).
والطريف، وكل أمر الرجل طرائف، وإن كان بعضها كارثيا، أنه يعود بُعَيْد ذلك فى نفس الصفحة فيتظاهر بالهجوم على المستشرقين الذين يقولون بأن القرآن هو من صنع النبى. لكن لماذا؟ لأنهم ينظرون "إلى الإسلام والقرآن نظرة خارجية مجردة من كل إيمان" (حمِش والله!)، ومن ثَمَّ يَعْمَوْن عن "سعة علم النبى ومقدرته الفذة فى معرفة التراث الدينى واللغات السريانية والعبرية واليونانية التى نجد أثرها فى القرآن ومعرَّبا فى الشكل"، وكذلك عِلْمه "بالكتاب المقدس والأناجيل المزيفة والتلمود وآثار الربانيين"، فضلا عن "مقدرته الفائقة فى الإبداع الدينى والخَلْق التشريعى".
لكن هذه واسعة حبتين يا دكتور! ومع ذلك فإنى أشد على يديك وأشكرك على أنك، وإن نفيت أن يكون اسمه "محمدا"، قد سميته رغم ذلك اسما عربيا هو: "قُثَم"، ولم تقل إنه كان إجريجيا يدعى: "خريستو"! ربنا يشفى الكلاب ويضرّك يا شيخ! ولكن ما دامت المسألة بهذه السهولة فما الذى كان يضيرك لو قلت إنه كان يعرف السنسكريتية واللاتينية أيضا، وكله بثوابه؟ فهاتان اللغتان تضمان تراثا دينيا مهما لا يستغنى عنه واحد كمحمد يريد أن يكون نبيا. ولماذا لم تقل كذلك إنه كان يتردد على مكتبة المتحف البريطانى مثل الرجل الذى كان وجهه مملوءا بالدمامل: كارل ماركس وبائس الذكر الحقود المسمى: سلامة موسى، وإنه كان يقبع هناك طوال النهار والليل لا يفارق الكتب حتى حفظها كلها على بكرة أبيها وأمها كذلك، حتى لا نُتَّهَم بأننا أبناء ثقافة ذكورية قمعية حمصية سمسمية سودانية تفرّق بين الرجل والمرأة، وتنحاز للأول على حساب الثانية؟ وتقول إنك تدافع عن الرسول ضد المستشرقين؟ يا للبجاسة!
من هنا فإن القرآن، حسب مزاعم جعيط، يردد ما جاء فى كتب أهل الكتاب عن معجزات الأنبياء رغم أن هذه المعجزات لا حقيقة لها، بل مجرد خرافة لا صلة بينها وبين الواقع (ص255). وقد سبق أن قال ذلك بكل وضوح فى الجزء الأول من الكتاب/ 29 حيث يؤكد أن "معجزات الأنبياء من قبل لم توجد فعلا، وإنما رُوِىَ بعدهم أنها وُجِدت، وسرت القصة عبر التاريخ على أنها واقعةٌ جرت، وإِنِ المعجزة إلا حديث عن المعجزة"، وهو ما كرره ص79 من ذلك الجزء أيضا. كما أشار (ص53) إلى أنه لم يكن ثم كلام بين الله وموسى ولا جدال بينه وبين إبراهيم، بل كل ذلك من تأثير نزعة الأنسنة التى كانت عليها العقلية القديمة والتى لم يشأ محمد تخطئتها رغم معرفته أنها خرافة، بل سايرها انتظارا منه أن يأخذ التطور الذى أتى به مجراه ويفيق الناس من تصديق تلك الخرافات. وبالمثل فإن جبريل لم يتمثل لمريم عليها السلام فى شخص إنسان، وكل ما هنالك أن القرآن جارى اعتقاد المسيحيين وكلام الإنجيل ليس إلا/ 1/ 122. كذلك يؤكد فى الصفحة 75 من ذلك الجزء أنه لم يكن هناك نبى عربى قبل محمد، مكذبا بذلك ما ورد فى القرآن عن هود وثمود وشعيب، ليعود فى الصفحة 136 من نفس الجزء، فيتحدث عن أنبياء العرب الذين قص القرآن ما جرى لهم من تكذيب! وبالمناسبة فهو يقول فى نفس الصفحة إن عيسى قد قُتِل. وهذا، كما نعرف، مخالف لما جاء به القرآن. كما ذكر أن الرفض المتعنت الذى جابهت به قريش دعوة الإسلام قد "حدا بالنبى أن يعمّق فكره ويدخل فى ذاته ليستخرج أقوى صور الخيال الدينى عبر "الأعراف والرعد والأنعام ويوسف وإبراهيم"..." (ص298).
ولأنه قد سبق لى أن تناولت الدعوى الخاصة بتعلم الرسول على أيدى الحنفاء وأهل الكتاب بكثير من التفصيل والصراحة المطلقة وقلَّبت على كل الوجوه ما قاله المستشرقون فى اتهاماتهم للرسول عليه السلام فى كتابى: "مصدر القرآن"، وهو متاح على المشباك، فإنى أكتفى بإحالة القراء إليه ليعرفوا رأيى فى هذا الموضوع بالتمام والكمال، وإن كان من الممكن تدمير كل هذا التنطع بسؤال واحد بسيط: لماذا لم ينبر لمحمد أحد من الحنفاء أو من أهل الكتاب فيقول له: ألست أنت الرجل الذى تعلَّم على أيدينا وأخذ ما كنا نقوله ونقرؤه أمامه، ثم أتى اليوم وادعى النبوة؟
وبالنسبة للحنفاء الذين اتُّهِم الرسول بأنه تعلم على أيديهم فهم إما أسلموا وتبعوه، أو إذا كانوا قد ماتوا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فقد دخل أبناؤهم فى دينه وأصبحوا من تلاميذه، ولم يحدث أن فتح أحد من هؤلاء أو أولئك فمه بالإشارة، مجرد الإشارة، إلى شىء من هذا، وهو ما يهدم كل ما يتنطع به المتنطعون فى ذلك المضمار. ونفس الشىء يصدق على أهل الكتاب، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن السر فى عدم حديث أى منهم فى ذلك الموضوع، وما كان أسهله وأصدقه لو كان الأمر على ما يتساخف به جعيط، كى يضع حدا لكل هذا الكذب المحمدى ويئد دعاواه وتدليساته فى مهدها ولا تخسر اليهوديةُ مكانتها التى كانت لها فى بلاد العرب، ولا النصرانيةُ الشامَ بتلك السهولة التى فقدته بها. وإذا كان المسلمون قد عتّموا، كما يقول جعيط، على مثل تلك النقاط الحساسة فى حياة سيد البشر، فلماذا لم يتكلم واحد من هؤلاء فيَفْتِشَ السر ويفضحَ محمدا فيُضْحِىَ بين غمضة عين وانتباهتها مضغة فى الأفواه وينتهى أمره وأمر رسالته فلا يعود ثمة داع للدور الذى يؤديه جعيط نطاط الحيط وأمثاله الآن، وتوفِّر الدوائر المعادية للإسلام فلوسها وتعبها وتنفقهما فى شىء آخر؟ صدق من قال: إذا لم تستح فاصنع ما شئت!
أما ما قاله عن ذكر القرآن المجيد لمعجزات الأنبياء السابقين مسايرة لأهل الكتاب بوصفها قد وقعت فعلا رغم خرافيتها فهو، والحق يقال، منطق سخيف. ذلك أن الموقف الوحيد الصحيح الذى كان ينبغى أن يتخذه النبى تجاه معجزات الأنبياء الماضين ما دام يرى أنها خرافة هو إنكار وقوعها من أساسها فيريح ويستريح بدلا من وجع الدماغ الذى ظل القرشيون فى مكة واليهود فى يثرب من بعدهم يزعجونه به لسنوات طوال استفزازا له أن يأتيهم هو أيضا كأولئك الأنبياء السابقين بمعجزة. وجعيط يؤمن بأن محمدا كان داهية، فكيف فات الرسولَ صلى الله عليه وسلم ذلك الحلُّ العبقرىُّ السعيدُ وهو فى قبضة يده، ولم يكن ليكلفه شيئا بالمرة؟
وجعيط يلح على التأثير النصرانى الهائل على محمد، ومن ثم على القرآن الذى ألفه. وهذا كله ترديد لما قاله المستشرقون، الذين يذكر جعيطنا أسماء مشاهيرهم فى سياق حديثه عن هذا الموضوع. ولأن الكذب والتدليس ليس لهما رجلان فإننى أقول له: إذا كان الأمر كذلك فكيف تفسر لنا بعبقريتك البائسة سر كل تلك الكراهية العنيفة المتلظية التى يكنها النصارى له صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا كان الإسلام هدما شاملا ماحقا لكل أسس النصرانية واتهاما مطلقا لرجالها بأنهم حرفوها وخلقوا دينا غير الدين الذى أنزله الله على عبده ونبيه عيسى بن مريم عليه السلام؟ الواقع أن الرجل بسيط التفكير ساذجه، وهو لا يعرف إلا أن يردد ما يُلْقَى إليه بعد أن يضيف له ما يتفوق به على أساتذته، شأن كل تابع عريق فى التبعية.
والرسالة المحمدية لدى جعيط هى رسالة محلية عربية لا شىء فيها من العالمية. طبعا، ومن الشواهد على صدق قوله عن ضيق أفق الدعوة الإسلامية أنها لاقت قبولا فى العالم أجمع ودخلها الناس من كل جنس ولون ودين ومذهب، بيضًا وحمرًا وصفرًا وسمرًا وسودًا، رجالا ونساء، أحرارا وعبيدا، من الشام ومصر وليبيا وتونس (بلد صاحبنا) والجزائر والمغرب وموريتانيا والسنغال وجامبيا، التى زرتها فى أواسط الثمانينات وكتبت عن رحلتى إليها كتابا لعل الله يهيئ الفرصة لنشره قريبا، وسائر أفريقيا، ومن السند وأفغانستان وبلاد تركب الأفيال وبلاد تركب الحمير من البشر ممن لا يفقهون ولا يتعظون ويظنون أنهم بتبعيتهم لأعداء أهليهم ودين أهليهم سوف ينالون احترامهم جاهلين أن التابع سيظل حقيرا منبوذا عند الأقدام مهما فعل وتقرب إلى متبوعيه، ومن بلاد الواق واق، التى ينتمى إليها صديقى وزميلى القديم محسن يوشيهارو أوجاساورا اليابانى المسلم الذى كنت أصدر أنا وهو فى الجامعة فى منتصف الستينات من القرن الماضى مجلة حائط كان يرسمها بريشته، وكتبت فيها مقالا ضاحكا عنه، والذى رأيته فى المنام الليلة رغم أنى لم أره منذ عقود، وكذلك من الصين وتايلاند والروسيا وبلاد المغول، ومن أستراليا وأوربا وأمريكا. لقد حصل للرجل لطف! وعلى رأى يحيى حقى: إنه مَرْيــُوح! على كل حال لقد صدقت مقولة نجيب محفوظ للمرة الثانية: الأولى عندما فاز بجائزة نوبل رغم أن المساحة التى تدور فيها أحداث جميع رواياته تقريبا لا تزيد عن كيلومتر فى كيلومتر فى الحسينية والجمالية والدرّاسة. والثانية حين انتشر دين محمد صلى الله عليه وسلم فى العالم أجمع رغم أنه لم يكن فى ذهنه وقتها سوى بيئته القرشية، وفى أبعد تقدير: بيئته العربية، فإذا به يكتسح الدنيا اكتساحا. ولولا أنه مات منذ أربعة عشر قرنا من الزمان لأعطَوْه مثل نجيب محفوظ جائزة نوبل. ألا خيبة الله على كل عصفور صغير العقل!
أذكر أننى، عندما كنت فى بانجول عاصمة جامبيا فى غرب أفريقيا صيف عام 1986م وذهبت أصلى المغرب لأول مرة فى الجامع الكبير القريب من الفندق، قد راعنى ما رأيته من اجتماع المصلين للابتهال والصلاة على النبى الكريم من بعد الفراغ من صلاة المغرب إلى أن أذن المؤذن للعشاء الآخرة، فجاشت منى المشاعر، وطفقت أفكر فى ذلك السلطان العظيم لمحمد ولدينه على أرواح هؤلاء الناس وعقولهم وقلوبهم رغم بعد ديارهم عن بلاد الرسول ورغم اختلاف الجنس والقارة واللغة. وسجلت هذا فيما كتبته حين رجعت إلى الفندق فى تلك الليلة. والغريب أن د. جعيط يعود فى موضع آخر من الكتاب فيقر، ولكن بعد اللف والدوران، بأن رسالة محمد عالمية وأن القرآن يهتم بالإنسانية جمعاء لا العرب وحدهم، إلا أنه لا يستمر على هذا الإقرار رغم هذا، إذ يقول إن ثمة فرقا بين النظر والواقع، وإنه إذا كان القرآن يتجه فى خطابه إلى الناس كافة، فإن محمدا لم يكن يدعو أحدا فى الواقع الفعلى إلا العرب. أى أن رسالته فى الحقيقة رسالة وطنية رغم كل شىء (ص287- 288). لكن المسلمين فيما بعد، حين رَأَوُا انتشار الإسلام فى البلاد المختلفة خارج الجزيرة، تبينوا أن النبى قد بُعِث للناس كافة كما أراد القرآن (ج1/ ص106). أى أن عالمية الإسلام هى من اختراع المسلمين.
وهنا أحب أن أناقش قضية أثارها الدكتور جعيط فى مقدمة الجزء الثانى من كتابه الذى نحن بصدده، وهى عقيدة المؤرخ الدينية، إذ ينصح المؤرخين المسلمين، متى بدأوا البحث فى أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يضعوا عقائدهم الدينية "بين قوسين" على حد تعبيره، بمعنى أن يَنْسَوْا إيمانهم بنبوته ويركزوا فقط على ما تقودهم إليه أبحاثهم. ذلك أن التاريخ "علم وضعى وأرضى يتناول فعاليات الأفراد والمجتمعات البشرية فى الماضى، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد"، و"العلم يحاول أن يفسر الأمور لا أن يحكم عليها"، وهو يتناول "الحقائق الدينية بالوصف والتحليل، بالبحث فى التأثرات والتطورات، ويضعها فى لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطَى الإيمانى" (ص5- 6). ويُفْهَم من هذا بكل وضوح أن المؤمن بنبوة محمد وأنه رسول من عند الله أنزل عليه القرآن وكلفه بتبليغه للناس كافة يمكن أن يقول فى محمد كلاما آخر مختلفا عن هذا تماما ويظل مع ذلك مسلما يؤمن بنبوته بالمعنى الذى شرحناه هنا.
ولا أظن أن ثمة عاقلا يفهم طبيعة الإسلام يمكن أن يقول بهذا، إذ الإيمان بالإسلام لا يكون إلا بالعقل، فمتى قام فى العقل رفض لنبوة محمد لم يعد ثم موضع للقول بأن صاحب هذا العقل لا يزال مسلما. قد يقول مثل هذا الشخص إنه يحترم محمدا وإنه يرى فيه مصلحا عظيما أو شيئا من هذا القبيل، وهذا كله على العين والرأس، ومن حق صاحبه أن يقوله ولا نُكْرِهه على خلاف ما يعتقد، وإن لم يمنعنا ذلك من مناقشته ومخالفته، بل وتسخيفه إن وجدنا ما يدعو إلى هذا، بالضبط مثلما أعطى هو لنفسه الحق فى أن يقول فى محمد ومهمته كلاما يخالف ما نؤمن نحن به. لكن هذا شىء، وزعمه أو زعم من يرافئونه على هذا الكلام أنه لا يزال مسلما شىء آخر. الواقع أن صاحب هذا الكلام إما أن يكون كذابا أو منافقا أو مصابا بانفصام فى الشخصية أو حائرا يمزقه الشك ولا يستطيع أن يرسو على بَرٍّ مريح.
لقد بحثت هذه القضية سنة 1986م فى كتابى عن "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكان طه حسين قد قال قولا كالذى قاله جعيط، إذ نادى بأن على من يريد دراسة الأدب العربى التجرد من دينه وكلام آخر يدور فى نفس المدار، فقلت إن هذا معناه شىء واحد هو أن الإسلام يناقض البحث العلمى، فكيف يجمع طه حسين بين الإيمان بالإسلام والإيمان بالمنهج العلمى، وهو يرى أنهما متناقضان؟ إن عليه أن يختار واحدا منهما ما دام الأمر كذلك، لأن من المستحيل، إلا على ذى عقل مضطرب أو مريض بانفصام فى شخصيته، أن يجمع بينهما. إن طه حسين يعلن أنه، فى شكه فى الشعر الجاهلى، إنما يجرى على منهج ديكارت، فكيف إذن تجاهل أحد القوانين الفطرية التى رأى ديكارت أنها تعلو فوق كل شك، ألا وهو "قانون عدم التناقض"، الذى بمقتضاه لا يمكن أن "يكون" الشىء و"لا يكون" فى نفس الوقت، بل إما أن "يكون" فقط أو "لا يكون"؟ إن تطبيق هذا القانون على النقطة التى نحن بصدها يستلزم أن يؤمن طه حسين إما بالدين أو بالمنهج العلمى ما داما فى رأيه متعارضين (انظر مادة "Descartes" من "A Dictionary of Philosophy, Pan Books, 1979" لمؤلفه Antony Flew).
أما قول طه حسين: "إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتساؤله: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟" (انظر "تحت راية القرآن"/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/ 349- 350) فهو مغالطات بهلوانية: فأولا إذا كان يعتقد أن الدين يتميز بالثبات والاستقرار فكيف يطالب باطّراحه والتجرد منه أثناء البحث؟ لقد كان الأحرى به أن يعرف أن بحث الأدب العربى لا يدخل فى نطاق الدين، ومن ثم لم تكن به حاجة (لو كان فعلا يعنى كلامه هذا) إلى دعوته المريبة تلك. وثانيا أنا لا أفهم العلاقة بين الرضا والغضب واللذة والألم والفرح والحزن وبين الإيمان. إن الإيمان هو اقتناع بعقيدة وتشريع ما، والاقتناع من شأن العقل لا من شأن المشاعر، التى كما يصورها هو نفسه لا تستقر على حال، مع أنه قال إن الدين يتميز بالثبات والاستقرار. والإسلام هو دين العقل لا التسليم القلبى دونما فهم أو بحث أو اقتناع، على عكس الأديان الأخرى التى يقع المؤمن بها فريسة للصراع بين عقله وعلمه وبين إيمانه وتسليمه، هذا الصراع الذى يظل يؤرقه ولو فى أعماق نفسه إذا حاول أن يكبته هناك فى تلك الأعماق المظلمة بعيدا عن وعيه، أو يدفعه فى نهاية الأمر إلى الكفر.
من هنا يرى الرافعى أن مقال طه حسين الذى اقتطف هو منه ما سبق (وكان طه حسين قد نشره فى جريدة "السياسة" تسويغا لموقفه وآرائه التى بثها فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") إنما هو تفسير وتعليل لكفره على أساس من العلم، إذ "يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مِثْلُه كافرا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنا أقوى الإيمان فى شعوره" (المرجع السابق/ 350- 351). كما يرى أن تسمية الشعور شخصية، والعقل شخصية أخرى، معناه أن النسيان هو أيضا شخصية، والذِّكْر شخصية، والإنسان عدة شخصيات، وأنه حين ينتقل من حالة إلى أخرى إنما ينتقل من شخصية إلى أخرى ويصبح رجلا غير الذى كان (السابق/ 351). وكذلك يرى أنه لا بد من التوفيق بين الدين والعلم فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغوا وعبثا (السابق/ 354)، وهو ما قلناه من قبل. لقد كان على طه حسين فى الحقيقة، بدلا من اللف والدوران، أن يحدد موقفه من الدين، وهو ما فعله فى نفس المقال الذى نحن بصدده، إذ قال: "إن العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يُحْدِثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإنْ رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق أنها تؤلِّه نفسها" (السابق/ 348- 349).
بهذا يكون موقف طه حسين آنذاك واضحا: فهو لا يؤمن بالإسلام، إن آمن به، على أنه دين سماوى أوحاه الله إلى نبيه محمد، بل على أنه اختراع بشرى. وإذن فالرافعى لم يكن متجنيا عليه قِيدَ شعرة حين رماه بالكفر والإلحاد. وأحب أن أبادر هنا إلى القول بأننى لا أريد بهذا أن أسىء إلى طه حسين، بل أبحث فقط الأمر بحثا علميا. وإذن أيضا فإن طه حسين حين أعلن، فى الخطاب الذى أرسله، على أثر الهجوم عليه بسبب كتابه، إلى مدير الجامعة أحمد لطفى السيد، أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لم يكن يعنى ما يقول (السابق/ 165)، إلا أن يكون الخطاب من تأليف لطفى السيد نفسه، وهو فى الواقع به أشبه. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو فى ذات الوقت لا يؤمن بوحى ولا بإله، ما دامت الجماعة إنما تؤله نفسها وتعبد فى الحقيقة ذاتها، وما دام الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض اختراعا بشريا. أما زعمه أنه لم يتعمد فى كتابه الخروج على الدين فهو خداع لا يجوز فى العقول، لأنه إذا لم يكن وصْفه لبعض قصص القرآن (فى كتابه: "فى الشعر الجاهلى") بأنها أساطيرُ مخترَعةٌ لغايات سياسية، وقوله إن المسلمين هم الذين ردّوا الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم وغير ذلك، هو الخروج على الدين فإنه لا يوجد شىء إذن اسمه الخروج على الدين. وقد دعت هذه المخادعة الأستاذ الرافعى إلى تكذيبه ووصفه بعدم الحياء والعناد والمكابرة والكذب والسخرية بعقل الأمة (السابق/ 243).
والغريب أن الصحفى السورى سامى الكيالى، الذى رمى من اتهموا طه حسين فى دينه بالرجعية والجمود بسبب ما ورد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" هو نفسه الذى طبع ونشر لإسماعيل أدهم بحثا بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" (مطبعة مجلة "الحديث"/ حلب/ 1938م). وفى هذا البحث يمدح أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، كما يشير إلى رأيه الذى يَعُدّ فيه الدين نتاجا بشريا. والغريب كذلك أن هذا البحث قد أُعِيد نشره فى عدد من أعداد مجلة "الحديث" نفسها التى كان يصدرها الكيالى، وكان ذلك فى نفس العام (عدد نيسان/ إبريل)، ولكن بعد أن حُذِفت منه العبارات التى تتحدث عن إلحاد طه حسين وثورته على الدين ونظرته إليه على أنه نتاج بشرى، ووُضِع مكانها بعض النقط. إن هذا يبين حقيقة موقف ذلك الصحفى الذى لا ينبغى أن يخدعنا كلامه، وإلا فكيف يكون وصف طه حسين بالإلحاد من جانب إسماعيل أدهم جميلا، ووصفه بذلك من شيوخ الأزهر وعلماء مصر رجعية وتزمتا؟ (انظر كتابه "مع طه حسين"/ سلسلة "اقرأ"- عدد 112/ 1/ 56 وما بعدها).
والآن فلنعد إلى هشام جعيط ومنهجه الذى يسير عليه فعلا لا كلاما، فالعبرة بالتطبيق الواقعى لا الكلام النظرى المجرد، فنقول إنه يرفض كثيرا جدا من الروايات التى تتحدث عن حياة الرسول وشخصه ويذهب فيتخيل سيرة جديدة زاعما أن هذه هى الصرامة العلمية. وهو، بصنيعه هذا، يذكّرنا بما صنعه من قَبْلُ أستاذٌ مصرىٌّ كان يعيش فى سويسرا، وحصل فى أخريات حياته على الدكتورية من فرنسا بأطروحة عن السيرة النبوية رفض فيها كل شىء كتبه المسلمون، واخترع سيرة أخرى من خياله مدعيا أنها هى السيرة الصحيحة. وقد رددت عليه يومها فى كتاب لى اسمه: "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية- خطاب مفتوح إلى د. محمود على مراد"، فثارت ثائرته وكتب فى مجلة "المصور" المصرية مقالا طويلا قال فيه إننى أكفّره وأستخدم معه أسلوب الإرهاب، فاضطررت أن أرد عليه مرة أخرى وتحديته أمام قراء "المصور" أن يأتينى بكلمة واحدة استخدمت فيها ألفاظا ترهيبية، فضلا عن أن أكون كفّرته فى كتابى الذى ناقشته فيه وأنا واضع فى يدى قفازا من حرير على رأى صديقنا المشترك الذى عرفنى به وحصلت بفضله على نسخة من الأطروحة المذكورة، المستشار رابح لطفى جمعه رحمه الله، وانتهت المسألة عند هذا الحد، ثم انتقل بعدها بقليل إلى جوار ربه.
وإضافة إلى ما سبق نقول إن كتابات د. جعيط تفتقر إلى الدقة والوضوح فى غير قليل من الأحيان. ومن ذلك قوله إن محمدا قد "نجح فى تكوين أمة وإدخال كل الحجاز فى دينه وضمن سلطته" (ص25)، تدليلا منه على الإنجاز السياسى الهائل الذى حققه الرسول الكريم، وهو ما يعنى أن أقصى ما بلغه الرسول فى نشاطاته السياسية هو إدخال الحجاز كله تحت سلطانه. أما باقى الجزيرة العربية فلم ينجح الرسول، بناء على هذا الكلام المهوَّش، فى إدخاله فى الدولة الجديدة التى أنشأها صلى الله عليه وسلم. أم لعل الدكتور جعيط يظن أن الحجاز هو كل بلاد العرب كما كان القرويون المصريين البسطاء فى طفولتى يظنون؟ إذ كانوا لا يعرفون من تلك البلاد إلا أنها "بلاد الحجاز"، على اعتبار أنه لم يكن يهمهم منها فى ذلك الزمن إلا الحج، والحجاج إنما يذهبون إلى الحجاز ولا يخرجون عنه إلى أن يعودوا من أداء الفريضة.
وبالمثل فإن معلوماته فى لُبّ تخصصه تبدو متخلفة كثيرا، فهو مثلا يؤكد أن كتاب ابن إسحاق هو أقدم كتاب وصلنا فى السيرة النبوية (ص40)، وذلك رغم وجود كتابين آخرين على الأقل يرجعان إلى مؤلفَيْن سابقَيْن عليه، وهما كتابا "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير (ت94هـ) بتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى ونَشْر مكتب التربية العربى لدول الخليج بالرياض عام 1401هـ- 1881م، و"المغازى النبوية" لابن شهاب الزهرى (ت124هـ)، الذى حققه وأخرجه د. سهيل زكار عن دار الفكر بدمشق عام 1401هـ- 1881م أيضا. كما أن كاتبنا التونسى، أثناء حديثه عن الأمم القديمة التى ورد ذكرها وذكر أنبيائها فى القرآن، يتحذلق فيقول إن "ثمود" يصف الأمم القديمة الكافرة بأنهم كانوا "فرهين"، أى فرحين بما أنجزوه (ص171- 172)، متصورا بعبقريته التى لم يؤتها الله أحدا آخر سواه أن ثمود نبى من أنبياء الله أُرْسِل للأمم القديمة جمعاء وكأنها "شروة طماطم" أخذها كلها كما هى بعُجَرها وبُجَرها.
ومن هذا الوادى تصوره أن القرآن عندما سمَّى عبد العُزَّى عمَّ الرسول فى سورة "المسد" باسم "أبى لهب" قد "منحه كنية رمزية تهديدية" (ص184)، وهذا نص كلامه حرفيا. والواقع أن عبد العزى كان يسمَّى هكذا منذ البداية لحمرة لونه وإشراق وجهه. صحيح أن القرآن قد أوعده بأنه سيَصْلَى نارا ذات لهب، لكن تهديد القرآن له شىء، وتكنيته بهذه الكنية شىء آخر، إذ كان يكنى بها، كما قلنا، منذ الجاهلية من قِبَل الناس جميعا لا من قِبَل أعدائه فحسب. وكان بإمكان د. جعيط، إذا أراد أن يخالف ما تقوله الروايات التى وردتنا بهذا الشأن عن علمائنا القدامى، أن ينص أولا على تلك الروايات ثم يتناولها بالبحث ويورد فى نهاية المطاف رأيه هو. وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد فسر د. محمود على مراد المارّ ذكره تكنية عم الرسول بــ"أبى لهب" بأنه هو الذى حفر الأخدود وملأه نارا وأحرق فيه المسلمين، فلهذا سماه القرآن: "أبا لهب". وهكذا تصاغ السيرة على أيدى علماء آخر زمن!
كذلك نجد هشام جعيط يزعم أن القرآن المكى يخلو من عداء أهل الكتاب (ص194). يقول ذلك عقب إيراده ترتيب السور القرآنية زمنيا عن نولدكه الألمانى وبلاشير الفرنسى وعقب طنطنته بعمل هذين المستشرقين وبما يقدمه لدارس القرآن من فهم أعمق لتاريخ الدعوة وسيرة الرسول. وهو يريد من وراء كلامه القول بأن القرآن إنما يعكس رأى الرسول فى الناس من حوله بناء على مواقفهم منه، وبما أن مكة لم يكن فيها نصارى أو يهود يعادونه فإن القرآن يخلو من الآيات التى تعيبهم وتعاديهم. والواقع أن هذا جهل مبين، إذ فى القرآن المكى حملة على تأليه النصارى للمسيح عليه السلام (مريم/ 34- 39، والزخرف/ 57- 66)، وحملة أعنف على اليهود لتكرر كفرهم بالله بعد أن جاءهم موسى بالبينات ولاتخاذهم العجل وغير ذلك (الأعراف/ 138- 171، وطه/ 83- 98). فما قول القارئ الكريم فى ذلك؟ ألا يرى أن طنطنة الرجل بما صنعه المستشرقان المذكوران هى طنطنة فارغة؟
ومن جهله كذلك ادعاؤه أن مشيئة الله فى القرآن هى مشيئة اعتباطية إلى حد كبير (ص203). لكنه لم يسق لنا أية آية تدل على هذا السخف الماسخ الذى يقوله. نعم إننا نقرأ فى القرآن المجيد قوله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (النحل/ 40)، "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس/ 82)، لكن القرآن يلفتنا فى ذات الوقت إلى أنه جل وعلا قد خلق الكون بالميزان وأن ثم سُنَنًا يسير هذا الكون عليها. أما الآيتان المذكورتان فمعناهما عند من يفقهون أنه سبحانه وتعالى لا تحكمه أية إرادة خارجية، بل إرادته وحدها هى الإرادة، لكنها إرادة قائمة على السنن، وإن لم يمنع هذا من خرق تلك السنن إذا ما أراد سبحانه ذلك ما دامت المشيئة هى مشيئته وحده، وهو ما وقع فى صورة معجزات لبعض الأنبياء والرسل عليهم السلام، ولا يمثل مع ذلك سوى حالات استثنائية قليلة! وهو نفسه يقول (ص79- 80 من الجزء الأول من كتابه هذا) إن من المستحيل "خرق القوانين الطبيعية بأية إرادة كانت. والقرآن واضح هنا: "ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الأحزاب/ 62)". وكان قد قال شيئا قريبا من هذا قبلا (ص20 من نفس الجزء).
ومن الشواهد أيضا على عدم إحسانه القراءة زعمه أن البلاذرى قد أنكر سفارة عمرو بن العاص إلى نجاشى الحبشة بغية تأليبه على المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده لِوَاذًا بعطفه وعدله، قائلا إن ذلك المؤرخ يحكم على تلك السفارة بأنها "وهم" (ص226). وها هو ذا "أنساب الأشراف" للبلاذرى بين يدىّ أنظر فيه ما كتبه مؤرخنا العظيم، فماذا قال؟ سأنقل لكم ما كتبه بالنص لتَرَوْا معى إلى مدى يمكن الثقة بفهم هشام جعيط لما يقرأ. قال البلاذرى: "وأما عمارة بن الوليد فيقال إنه وعَمْرو بن العاص توجها برسالة قريش إلى النجاشي في أمر من بالحبشة من المسلمين ليفسداه عليهم ويهجناهم عنده ويسألاه دفعهم إليهما. وحمّلوهما إليه وإلى بطارقته هدايا من أدم وغيره. وذلك وهم. وقيل: إنه كان مع عمرو بن العاص في هذه المرة عبد الله بن أبي ربيعة، ولم يكن معه عمارة. فردهما النجاشي مقبوحين خائبين، فاشتدت قريش عند ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الثبت.
ثم إن عمرا وعمارة خرجا بعد ذلك في تجارة إلى الحبشة، وكانا ظريفين فاتكين. وكانت مع عمرو امرأته، فقال لها عمارة، وهما يشربان في السفينة: قبِّليني. فقال لها عمرو: قبِّلي ابن عمك. ففعلت، وحَذِره عمرو. فأرادها عمارة على نفسها، فامتنعت، وفطن عمرو بذلك. ثم إن عمرا جلس على حرف السفينة ليبول، فدفعه عمارة في البحر، وكان يجيد السباحة، وأخذ بالقلس وتخلص، فاضطغنها عليه وكتب إلى أبيه العاص بن وائل أن اخلعني وتبرأ مني ومن جريرتي على بني المغيرة وبني مخزوم، فقد كان من عمارة كيت وذيت. وهو يرصد له بما يرصد به. ولم يلبث عمارة، حين دخل أرض النجاشي، أنْ دَبَّ لامرأة النجاشي فاختلف إليها. ويقال إنها رأته فعشقته، وكان جميلا فدَعَتْه. فجعل يختلف إليها، وكان يحدّث عمرا بما يجري بينهما، فكان عمرو يظهر تكذيبه ليمحكه بذلك. فقال له ذات ليلة: إن كنت صادقا فائتني بدهن من دهن النجاشي الذي لا يَدَّهِن به غيره، فإني أعرفه. وكان أصفر، فأعطته قارورة منه وثوبا أصفر من ثيابه. فجاء بذلك إلى عمرو، وكانا ينزلان في دار واحدة، فقال له عمرو: لقد نلتَ ما لم ينله قرشي قبلك. وأخذ الدهن والثوب إليه، فلما أصبح أتى النجاشي بذلك وحدثه الحديث. فيقال إن النجاشي أخذه فقطعه آرابا ثم أحرقه، وأخذ امرأته فدفنها وهي حية. ويزعمون أن النجاشي دعا بالسواحر، فسحرنه، فكان يهيم. ثم إنه مات على تلك الحال. ويقال إنه لما فعلن به ذلك هام فكان مع الوحش. وخرج عبد الله بن أبي ربيعة في طلبه، وكان اسمه بحيرا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله، فدُلَّ على مواضعه ومظانّه، فالتزمه فجعل يقول له: تنحَّ عني يا بحير. ومات في يده".
والآن من الواضح الجلىّ أن هشام جعيط لم يفهم النص، فالبلاذرى لا ينكر السفارة كما توهم جعيط، بل ينكر فقط إحدى روايتيها، وهى الرواية الأولى التى تقول إنها كانت مكونة من عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد والتى عقب عليها بقوله: "وذلك وهم". أما الرواية الأخرى التى تتكون السفارة فيها من عمرو ومن عبد الله بن أبى ربيعة فيطمئن إليها قائلا: "وهذا الثبت". ومع هذا فإنه يعود فيذكر سفر عمرو وعمارة معا إلى الحبشة، لكن لا للسفارة بل للتجارة على ما هو بيّن لكل من يفهم.
وهذا مثال آخر، وما أكثر الأمثلة، على عدم فهم هشام جعيط لما يقرأ، وهو تشكّكُه فى الرواية المشهورة عن إسلام عمر بن الخطاب، تلك الرواية التى تعزو يقظة ضمير الفاروق وتبلور عزمه على دخول الإسلام إلى قراءته لبعض آيات القرآن، فهو يقول إن "روايات البلاذرى عن الواقدى عن معمر عن الزهرى أقرب إلى الصحة حيث يقول: "أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة"، أى مبكرا من غير أن يذكر أى تَوْرَخَة (يقصد: من دون أن يذكر تاريخا للواقعة)، لكنه يقول إنه أتى النبى ليؤمن، وكان مجتمعا فى بيت فى الصفا (دار الأرقم؟)" (ص249). هذا ما كتبه هشام جعيط، أما الذى كتبه البلاذرى فهذا هو بنصه وفصه: "حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي: ثنا حصين بن هلال بن إساف، قال: أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة. وحدثني محمد بن سعد والوليد بن صالح عن الواقدي عن معمر عن الزهري، قال الواقدي: وحدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين وغيرهما، يزيد بعضهم على بعض، قالوا: أسلمت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر وأسلم زوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فكانا يتكتمان بإسلامهما عن عمر، وكان عمر شديدا على من أسلم من قومه. وأسلم نعيم بن عبد النحّام، وإنما سمي النحّام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فرأيت فيها أبا بكر وعمر، وسمعت نحمة من نعيم"، فسمي: النحّام. قالوا: وكان شريفا. وكان خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب فيقرئها القرآن، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم متوشحا بالسيف يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه ذُكِروا له وأُخْبِر أنهم مجتمعون في بيت عند الصفا، وهم أربعون أو نيف وأربعون بين رجال ونساء، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عمه حمزة وعلي وأبو بكر رضي الله عنهم. فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد؟ قال: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها وذم من مضى من آبائها، فأقتله فيرجع الأمر إلى ما كان عليه. أيظن محمد أن قريشا تنقاد له؟ كلا واللات والعزى. فقال له نعيم: قد والله غرتك نفسك يا عمر. أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض إذا قتلت محمدا؟ فقال: لا أعلم رجلاً جاء قومه بمثل ما جاء به، فلئن تركناه لهي السوءة. وأراك تتكلم عنه، وما أظنك إلا قد تبعته. فسكت نعيم وقال: ارجع إلى بيتك فأقم أمره. فقال: وأيُّ أهل بيتي اتَّبَع محمدا؟ قال: فاطمة أختك وختنك سعيد بن زيد. قد والله أسلما. فقال عمر: أراك والله صادقا. إن سعيدا قد نزع إلى ما كان أبوه يدين به من خلاف قومه وترْكِه أكل ذبائحهم وحضور أعيادهم. فمضى عمر يريدهما. قال نعيم: وندمت على إخباري إياه بما أخبرته به وأني لم أطو أمرهما عنه كما طويت أمر نفسي. وكان عمر قد رأى خَبّابًا يختلف إليهما. قال: فدخل عمر على أخته وزوجها، وعندهما خباب، ومعه صحيفة فيها سورة "طه"، وهو يقرئهما إياها. فلما سمعوا حسّه تغيب خباب رضي الله عنه في مخدع لهم في البيت، وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها. فلما دخل عمر قال: ما هذه الهينمة التي سمعتُ؟ قالا: ما سمعتَ شيئا. قال: بلى والله. لقد بلغني أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد، فقامت فاطمة لتكفه عنه فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت أخته وختنه: نعم والله لقد أسلمنا وآمنا بالله وبرسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ورقَّ وارعوى، وقال لأخته: هاتي الصحيفة لأنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان عمر كاتبا. فقالت: لا أفعل حتى تغتسل، فإنه كتاب لا يمسه إلا طاهر. فاغتسل عمر، ثم أعطته الصحيفة وفيها "طه". فلما قرأ صدرا منها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خَبّاب قوله طمع فيه فخرج وقرأ عليه السورة، وقال: يا عمر، إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس يقول: "اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعُمَر أو عمرو بن هشام".
قال عمر: فدُلَّني على محمد حتى آتيه فأُسْلِم. فدله عليه، فخرج حتى انتهى إلى دار الأرقم المخزومي فضرب عليهم الباب. فلما سمعوا صوته قال الأرقم: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحًا بسيفه. فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: إن كان يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد سوى ذلك قتلناه بسيفه، فأْذَنْ له. فدخل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحُجُزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذةً شديدة، وقال: "والله ما أراك تنتهي أو يُنْزِل الله بك قارعة. فقال: جئتك لأومن بالله ورسوله وما جئتَ به من عند الله، فقد سمعتُ قولاً لم أسمع مثله قط. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت بها أنه قد أسلم، وتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم ذلك، وعَزُّوا بإسلام حمزة وعمر، وعلموا أنهما سيمنعنان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفان له من عدوه. ولما أسلم عمر نزل جبريل فقال: قد استبشرنا بإسلام عمر.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن عبد الله عن عمه ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلاً وعشر نسوة، فما هو إلا أن أسلم حتى ظهر الإسلام بمكة. حدثني محمد بن سعد: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق: حدثنا القاسم بن عثمان عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا. قال: وكيف تأمن بني هاشم وبني زهرة إذا فعلت ذلك؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت. فقال له: أفلا أدلك على أختك وختنك؟ فقد صبآ وتركا دينك الذي أنت عليه. فمشى عمر متذمرا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت رضي الله عنه. فلما سمع خباب حِسّ عمر توارى في البيت، فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال: وكانوا يقرأون "طه". فقالا: حديث تحدثناه بيننا. فقال: لعلكما قد صبأتما؟ فقال ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ قال: فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمَّى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر، إن الحق لفي غير دينك. اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم أقرؤه. وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك نجس، وإنه "لا يمسه إلا المطهرون"، فقم فاغتسل أو توضأ. فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ "طه" حتى انتهى إلى قوله: "إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري"، فقال: دلوني على محمد. فلما سمع خباب رضي الله عنه قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس لك، فإنه قال: "اللهم أَعِزَّ الدين بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام". قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار، وعلى بابها حمزة رضي الله عنه وطلحة وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رَأَوْه وَجِلُوا منه، فقال حمزة رضي الله عنه: هذا عمر. فإن يرد الله به خيرا يسلم، وإن يكن غير ذلك يكن قتله علينا هينا. قال: والنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ داخل يُوحَى إليه، فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال: ما أراك يا عمر منتهيا حتى ينزل بك من الخزي والنكال كما نزل بالوليد. اللهم هذا عمر بن الخطاب، فأَعِزَّ به الدين. فقال عمر: أشهد أنك رسول الله. وأسلم ثم قال: أخرج يا رسول الله"... قال الواقدي: هذا أثبت ما سمعنا في عمر...".
وأول ملاحظة نخرج بها من هذا النص أن تساؤل جعيط عن حقيقة الدار التى بالصفا لا موضع له لأن الرواية التالية قد ذكرت أنها هى فعلا دار الأرقم بن أبى الأرقم. والواقع أن لهذه الملاحظة دلالتها الخطيرة، إذ تكشف مرة أخرى أن جعيط لا يحسن القراءة أو أنه يتخطفها تخطفا كما لاحظتُ من قبل على د. محمد مندور فى الفصل الذى عقدته للشيخ حسين المرصفى من كتابى عن "مناهج النقد العربى الحديث". والثانية، وهى الأهم، أن البلاذرى لا يرفض الرواية التى تعزو إسلام عمر إلى قراءته آيات من القرآن الكريم، بل يؤمن بصحتها تمام الإيمان حسبما سنرى بعد قليل. وإنى لأتحدى جعيط وزعيط ومعيط ونطاط الحيط جميعا أن يدلونى على جملة أو كلمة أو همسة أو حتى نحمة من البلاذرى تومئ مجرد إيماء إلى أنه يرفض تلك الرواية. وكيف يرفضها، وقد أوردها بدل المرة مرتين، ثم عقب فى نهاية كلامه على كل ما قاله عن عمر بما فيه هاتان الروايتان بأنه أصحّ ما سمعه فى هذا الموضوع؟ على أن المسرحية لما تنته فصولا، فإن الإسناد الذى ساقه جعيط هو إسناد الرواية التى ينكرها جلالته ويومئ إلى أن الواقدى ينكرها هو أيضا. أما الخبر الذى أورده هو باعتباره الرواية التى يقبلها البلاذرى ويرفض ما عداها، وهو: "أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة"، فهذا إسناده: "حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي: ثنا حصين بن هلال بن إساف". ثم إن هذا الخبر لا يتعارض بحال والروايتان الأخريان اللتان ساقهما البلاذرى، بل يتكاملان: الخبر بإيجازه، والروايتان التاليتان له بما فيهما من تفصيلات وتوضيحات. وهكذا نلمس مرة أخرى بأيدينا لمسا أن د. جعيط لا يحسن القراءة أو على الأقل: لا يحسن الفهم. وهذا إن لم يكن يتعمد التدليس تعمدا، وهو ما لا أستبعده أبدا.
والعجيب أن يتهم جعيط ابن إسحاق ويزعم أنه، لتشيعه وخضوعه لضغط العباسيين الذين كتب السيرة النبوية فى عهدهم، قد أسند لبنى هاشم، وخصوصا العباس، دورا فىحماية النبى أكبر كثيرا من الواقع تقربا إلى بنى العباس (ص252). وهذا الكلام قد سبق أن قاله د. محمد على مراد، الذى رددتُ عليه وفنّدتُ كل ما قاله همسة همسة، ونحمة نحمة، فكتب مقالا فى مجلة"المصور" القاهرية يتهم فيه العبد الفقير إلى ربه تعالى بأنه يرهبه ويكفره، إذ اتهم د. مراد ابن إسحاق نفس الاتهامات وأدار عليها رسالته من أولها إلى آخرها. ولست أدرى أكان ترديد جعيط لكلام مراد مجرد مصادفة أم اطلع على ما كتب الرجل فأخذه دون أن يشير إليه. ذلك أن تلك الأطروحة لا تظهر بين مراجع جعيط. ونترك هذه النقطة للباحثين يحققونها على مهل.
وسواء كان جعيط قد أخذ من مراد أو لم يأخذ فالكلام الذى قاله هو، فى الحق، تنطعٌ ماسخٌ. لماذا؟ لقد سبق أن أثبتُّ فى كتابى: "إبطال القنبلة النووية الملقة على السيرة النبوية"، الذى فندتُ فيه أطروحة الدكتور مراد تفنيدا لم يترك فيها موضعا لثَقْب إبرة دون أن ينسفه، أن ابن إسحاق عالم فاضل لا ينزل إلى هذا المستوى الواطى الذى يحاول جعيطنا أن ينزله إليه، متجاهلا أن هناك علماء كراما لا يبيعون ضمائرهم ولا يرضَوْن أن يعيشوا أذنابا لبعض الجهات كبعض الناس وينعقوا بما ينعق هؤلاء به. وبرهنت على ذلك بما قاله القدماء الأثبات فى ابن إسحاق وعلمه وفضله، وكذلك المستشرقون. كما لفتُّ الانتباه إلى أن العباسيين شىء، والشيعة شىء آخر، وأنه كان بين الفريقين عداوة ملتهبة طوال التاريخ، فلا معنى إذن للقول بأن تشيع ابن إسحاق المزعوم قد جعله يزيف التاريخ من أجل إرضاء العباسيين.
ثم لا ننس أن ابن إسحاق لم يسند حماية النبى إلى العباس بل إلى أبى طالب. كما لا ينبغى أن يفوتنا ما كتبه فى سيرته من أن أبا طالب قد مات على دين قومه. أفلو كان الرجل يكتب التاريخ كى يرضى بنى هاشم أكان يميت شيخهم فى عهد النبى كافرا بالدين الذى أتى به ابن أخيه؟ ومِثْلَ ذلك قٌلْ فيما كتبه عن أبى لهب، إذ كان يستطيع، ما دامت الأمور سائبة إلى هذا الحد وكان يمالئ الهاشميين كما يزعم جعيط، أن يُدْخِله الإسلام. وماذا فى ذلك؟ وما الذى كان سيتكلفه فى هذا أكثر من جرة قلم لا راحت ولا جاءت؟ ومن يا ترى يضرّه أن يقال إن أبا لهب قد أسلم وسوف يدخل الجنة؟ أما العباس الذى ينتمى إليه العباسيون فلم يُسْلِم فى سيرة ابن إسحاق إلا فى فتح مكة، مثله فى ذلك مثل أبى سفيان. فأى فضل له فى هذا بحيث يتخذه ابن إسحاق متقرَّبا إلى العباسيين؟ كذلك فما قاله ابن إسحاق فى هذا الموضوع قد قاله عروة والزهرى فى كتابيهما من قبل فى العصر الأموى، أى قبل العباسيين. أقول هذا حتى لا ينبرى أحد من سخفاء العقل التافهين فيزعم أنهما قد كتبا هذا إرضاء للعباسيين. كما أن ابن حزم وابن عبد البر فى كتابيهما عن السيرة النبوية قد قالا نفس الشىء، وكانا يعيشان فى الأندلس فى ظل حكم بنى أمية. أفترى جعيط يجرؤ على القول بأنهما كانا يتشيعان وكانا يريدان التقرب من بنى العباس؟ بل إنه هو نفسه قد شهد بأن السيرة رغم كتابتها فى عهد بنى العباس لا تنال كثيرا من أجداد الأمويين ولا تنالهم بسوء كبير (ص261). فماذا يريد أكثر من هذا كى يكف غَرْب لسانه عن ابن إسحاق ولا يفترى عليه الأكاذيب؟
أما بخصوص الفرية التى افتراها بعض شياطين أوربا فى الفترة الأخيرة زاعمين أن القرآن لم يكن له وجود إلا بعد نزوله الذى يزعمه المسلمون بنحو قرن ونصف، إذ اخترعه العرب اختراعا واخترعوا معه شخصية محمد وتاريخه وتاريخ الفتوح والخلفاء الأربعة وخلفاء بنى أمية أيضا، فلم يجد هشام جعيط ما يقوله فى الرد عليها إلا أن المسلمين كانوا يتلون القرآن فى الصلاة بدليل أنه كانت هناك مساجد فى الكوفة منذ عهد زياد، وأخرى فى المدينة منذ عهد عبد الملك (ص24). أرأيتم الكرم البالغ الذى يكرمناه الدكتور جعيط؟ إن معنى كلامه هذا هو أنه لم تكن هناك مساجد فى الكوفة قبل زياد، ولا فى المدينة قبل عبد الملك! ومعنى هذا مرة أخرى أن عليًّا لم يكن يصلى لا هو ولا رجاله فى عاصمة خلافته لأن المساجد لم يكن لها وجود فى الكوفة قبل زياد. كما أن النبى لم يكن يصلى لا هو ولا الصحابة لأن المساجد لم يكن لها وجود فى المدينة قبل عبد الملك بن مروان! وهكذا يكتب التاريخَ أستاذُ التاريخ ذو الاسم الطنان! فيا لضيعة التاريخ وأستاذ التاريخ معه!
وقد سبق أن تناولت هذه الفرية الشيطانية فى مقال لى ظهر فى عدد من المواقع المشباكية قبل عدة سنوات بعنوان "خذوه فغُلّوه ثم فى الخَنْكَة أَوْدِعوه". وفيما يلى بعض الفقرات التى تهمنا من هذا المقال، إذ أصدر طبيب فرنسى معتوه اسمه برنار راكان كتابا بعنوان"Un Juif nommé Mahomet : يهودىٌّ اسمه محمد" جاء فيه أن "L'islamologue Alfred-Louis de Prémare (Les fondations de l'islam, Editions du Seuil) établit qu'une bataille s'est déroulée en 683 en Syrie, et non à Médine, ville qui n'existait pas au septième siècle, soit cinquante ans après la mort officielle de "Mahomet". D'après les légendes islamiques, j'ai calculé que Médine aurait compté vingt mille habitants, soit autant que Paris à la même époque... en plein désert, sans eau et sans agriculture. Creuser un fossé autour relève de la fantaisie".
وهذا الطبيب المخبول يشك فى صحة وجود المدينة المنورة ومكة المشرفة والرسول والمعارك التى خاضتها القوات المسلمة فى ذلك العصر والمواقع التى دارت رحاها فيها أيضا. ولنستمع أولا إلى ما يقوله عن وفاة الرسول عليه السلام وتولى أبى بكر رضى الله عنه الخلافة من بعده: "Mahomet a été déclaré mort en 632 suite à une tractation entre Abou Bakr et le calife Omar, sans concertation avec Ali, floué alors qu'il dirigeait une armée de la région qui est aujourd'hui l'Irak. Pourtant "Mahomet" donne des ordres en 634, 640, 651, 660, 683, 688, 725, 785, 830, 855".
فحسب أوهام طبيبنا كان قد تمّ اتفاق بين أبى بكر وعمر، عند وفاة الرسول عليه السلام، على تولى الأول حكم المسلمين، على حين كان على بن أبى طالب، طبقا لعلم صاحبنا اللَّدُنّىّ، يقود الجيوش وقتها بعيدا فى العراق فلم يتم التنسيق معه بل تم خداعه. كما يسخر طبيبنا المتهوس من أن الرسول، رغم وفاته فى 632م، كان لا يزال يصدر الأوامر بعد ذلك لوقت طويل فى الأعوام 640،651، 660، 683، 688، 725، 785، 830، 855م! ترى من أين لكاتبنا كل هذه العبقرية التى لا مثيل لها؟ ما كنت أعرف أن ما يقوله بعض الناس من أن الفَرْق بين العبقرية والجنون شعرة هو رأى صحيح، حتى قرأتُ هذا الكلام فرأيتُ كيف أن عيار العبقرية قد يزيد حبتين فينقلب جنونا خالصا لا أمل فى الشفاء منه ولو أحضروا لصاحبه خيرة النطاسيين والمعالجين النفسانيين ومحضِّرى العفاريت وكاتبى الأحجبة والمعزِّمين! بالله متى كان علىٌّ يقود الجيوش فى العراق عند وفاة النبى؟ وبأية أمارة كان هذا يا ترى؟ لقد كان، رضى الله عنه وكرَّم وجهه، آنذاك فى المدينة مع غيره من أقارب النبى مشغولا بتغسيله وتكفينه ودفنه صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هناك جيوش إسلامية فى أى مكان فى ذلك الحين، اللهم إلا جيش أسامة بن زيد، الذى كان قد تم تجهيزه للذهاب إلى حدود الشام، إلا أن موت النبى عليه الصلاة والسلام قد أوقفه إلى حين. وبالنسبة للعراق بالذات لم يحدث أن وطئه حتى ذلك الحين أى جيش مسلم، بل لم يحدث أى تفكير فى إرسال قوات إلى حدوده مع جزيرة العرب فى عهد النبى قط. أما أنه عليه السلام كان يصدر أوامره إلى المسلمين إلى ما بعد وفاته بعد عقود فليقل لى القراء الكرام: كيف كان هذا؟ ومن يا ترى قاله سوى هذا المخبول؟ يقينا أن قائل هذا الكلام ليس له مكان يصلح له إلا الخانكة أو العباسية خَبْطَ لَزْقَ دون إبطاء أو تأخير، لا للمسارعة بتدارك حالته، فهى كما قلنا حالة ميؤوس منها، بل لحماية الناس من خطره، فلربما أقدم على عمل متهور يعرِّض الأمن العامّ للخطر (أو بتعبير الخفراء عندنا فى القرية: "الإِمْن العامّ" بكسر الهمزة، كَسَّر الله ضلوعه كلها ضلعا ضلعا حتى يهمد ويريحنا من هذه الدوشة الكذابة التى يزعجنا بها مثلما تزعجنا دوشة نباح الكلاب بالليل حين تكون فَاضِيَةً لا عمل لها!) فيعضّ طفلا من رجله أو يهارش كلبا ويدميه فينشب فيه الكلب الآخر مخالبه وتصير معركة كلابية حامية وتصبح مشكلة ونقول ساعتها: يا ليت الذى جرى ما كان!
وهذا الرجل يترك حقائق التاريخ ويذهب فيفترض أشياء لا يمكن أن تكون صحيحة أبدا ثم يبنى فوقها ما يريد الوصول إليه من نتائج يرى أن من شأنها التشكيك فى تلك الحقائق التاريخية. فعلى سبيل المثال فمكة عنده كانت، فيما يبدو ("فيما يبدو": لا حظ!)، حيًّا من أحياء دمشق، لكن لماذا؟ الجواب، حسبما يقول، هو أن كلمة "مكة" تعنى بالآرامية: "مدينة منخفضة". ثم يمضى مؤكدا "أننا الآن قد أصبحنا نعرف أن المسلمين الأوائل، شأنهم شأن القَرَائين الأوائل (جمع "قرآن")، تم اختراعهم فى الشام، وليس فى جزيرة العرب:"Le mot: la mecque est faraméen syrien, et signifie ville basse, désignant probablement un quartier de Damas. On sait maintenant que les premiers musulmans, comme les premiers corans, et la vie de Mahomet, furent inventés en Syrie, et non en Arabie...La Mecque n'existait pas, car on n'a jamais vu des milliers d'habitants s'installer dans un désert aride sans eau ni cultures".
خلاص: لقد أبرم سيادته التاريخ إبراما وأصدر فرماناته بأن مكة ليست من مدن جزيرة العرب بل من مدن الشام! ولا يستطيع المتضرر أن يلجأ إلى أى قضاء بعد هذا القضاء المبرم الذى قضاه صاحبنا! فانظر بالله عليك أيها القارئ كيف يُكْتَب التاريخ، وكيف يريد بعض الناس أن يحكّموا أهواءهم المجنونة فى تغيير حقائقه، وكيف يريدوننا أن نتابعهم على هذا التنطع، وإلا كنا متخلفين! ناشدتكم الله يا قرائى الكرام، لو كانت مكة حيًّا من أحياء دمشق، فأين ذهب ذلك الحى؟ ولماذا سكت الدمشقيون عن هذا التزييف الجلف الذى لم يحدث مثله فى التاريخ، وبخاصة أنه يسلبهم الشرف المتمثل فى أن بلادهم هى مركز الإسلام ومصدره؟ وكيف صمت أحفاد القرشيين، والأمويون منهم بالذات، على ما قالته أقلام المؤرخين وكتب السيرة المزيفة عن أجدادهم وعن معاداتهم للدعوة الجديدة مما يشهّر بهم ويفضحهم فى كل أرجاء العالم؟ وأين ذهب الرومان الذين كانوا يحتلون بلاد الشام فلم ينبّهوا العالم إلى هذا التزييف الوقح الذى مارسه العرب والمسلمون، على الأقل من باب الانتقام والحرب المعنوية والدعائية بعد أن خسروا الحرب العسكرية والسياسية؟ ومعروف أن الشوام لم يسلموا كلهم، بل بقى منهم حتى الآن كثير من النصارى واليهود، فكيف يسكتون على مثل تلك الفعلة العجيبة، وهى فرصة لفضح هؤلاء الذين فتحوا بلادهم وأَتَوْهم بدينٍ غير الدين الذى يعتنقونه، ولسان غير اللسان الذى كانوا يتكلمونه؟ ولماذا لم يتكلم ويصدع بالحقيقة واحد مثل ثيوفان الكاتب البيزنطى الذى أتى بعد عصر الرسول ببضعة عقود ليس إلا وأخذ على عاتقه محاربة الإسلام، بدلا من نسبة الأكاذيب إلى الرسول الكريم وأصحابه على عادة المبشرين؟ ترى هل من الممكن أن يتم تزييف شىء مثل هذا ثم تسكت الدنيا كلها عنه فلا تتكلم ولا تعترض أو لا تبدى على الأقل شكًّا، إلى أن هلّ علينا الطبيب الفرنسى المأفون بعد أربعة عشر قرنا من الزمان فعدل الوضع المائل؟ واعتمادا على ماذا؟ اعتمادا على أوهام ما أنزل الله بها من سلطان! ثم ما دخل المعنى الذى يدعيه، صوابًا أو خطأً، لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينةً فى جزيرة العرب؟ إن كلامه يوحى بأن كلمة "مكة" ليست عربية، وهو سخف آخر من سخافات الرجل الذى من الواضح أنه لا يفقه شيئا بالمرة فى موضوعنا، بل ينقل من كتب بعض المستشرقين ما يوافق هواه دون عقل أو فهم! فالآرامية والسريانية والكلدانية والأشورية والعبرية والحبشية...كل هذه اللغات، مَثَلها مَثَل العربية، لغاتٌ ساميّة، بالضبط مثلما نقول إن الفرنسية والطليانية والإسبانية والبرتغالية هى لغات لاتينية، أىْ لغات تفرعت من اللغة الأم واستقلت بنفسها. وعلى هذا فالقول بأن هذه الكلمة الموجودة فى لساننا العربى أو تلك ليست عربية بل سريانية مثلا أو آرامية هو فى الواقع كلام يُقْصَد به التلبيس على القارئ العادىّ الذى لا يعرف شيئا عن الموضوع، إذ ليس هناك أى دليل على أن ذلك صحيح، فضلاً عن أنْ ليس هناك من معنًى لأن تُخْتَصّ العربية دون أخواتها الساميات بالأخذ عنهن بدلا من القول المنطقى العاقل بأنها تشتمل على هذه الألفاظ كما تشتمل عليها أخواتها.
والعجيب أن الطبيب الفرنسى المخبول يرجع إنكاره وجود مكة إلى أنها تقع فى وادٍ جديب غير ذى ماء ولا زرع. أفنكذّب إذن أقاربنا ومعارفنا وكل المصريين والعرب والمسلمين وكل الكتّاب والرحالة من مسلمين وغير مسلمين ممن زاروا مكة قبل توظيف شطر من أموال النفط فى تحلية ماء البحر الأحمر لسكانها ولسائر أهل السعودية والخليج كله عموما، ونقول لهم: وإِنِنْ! مهما قلتم لنا عن مكة فليس لمكة وجود! لقد نسى المجنون أن زمزم كانت ولا تزال هناك طول الوقت يشرب الناس ويستمدون حاجاتهم الأخرى من مائها فتكفيهم هم وضيوف الرحمن بحمد الله. وهذا أمر قد شهد به المستشرقون الذين استطاعوا الاندساس بين الحجيج والتظاهر بأنهم مسلمون وكتبوا عن البلد الأمين. وحتى بعد أن توفر لها ماء البحر المحلَّى فلا تزال المنطقة المحيطة بها واديا غير ذى زرع. وما زال الناس كذلك يقطنونها ويحبون العيش فيها حتى الآن رغم شدة حرارتها، وسيظلون يفعلون ذلك إلى ما شاء الله. وعلى أى حال فليس العيش فيها بالصعوبة التى عليها الحياة فى مناطق الإسكيمو ولا بواحد على المليون منها، ومع ذلك فتلك المناطق تعجّ بالسكان ويحبها أهلها كما يحب أهل كل بلد بلدهم!
لقد فات ذلك المخبول أن الأصل فى الأخبار عموما أنها صادقة ما لم يقم دليل على عكس ذلك أو يَحُكْ فى النفس شىء مما سمعتْه، فعندئذ يشك الإنسان فيما بلغه، وحقّ له أن يشك. فما الذى فى الخندق أو فى وجود مكة أو المدينة مما يبعث على الريبة؟ لقد كان أحرى بهذا المجنون أن يذهب فيقرأ أولا قبل أن يتهور كل هذا التهور. هل يمكن أن يتصور عاقل أنه لم تكن هناك فى بلاد العرب قبل الإسلام مدينة اسمها مكة، ثم نبتت هكذا نبتا عفاريتيا بعده، ثم لم يبد أحد دهشته (وبخاصة من سكانها الجدد الذين لم يكن لهم قبل ذلك وجود) من هذا التراث الغزير الهائل الذى يدور حولها شعرًا ونثرًا وتاريخًا ودينًا وأنسابًا والقائل بأنها طول عمرها كانت موجودة فى جزيرة العرب؟ أترى الذين أنشأوا تلك المدينة وأَتَوْا بالناس ووضعوهم فيها كما توضع البلاليص فى أماكنها دون أن يؤخذ لهم رأى قد ألزقوا لاصقًا على أفواههم إلى أن انطمست ذاكرتهم ولم يعودوا يعرفون شيئا عن أصلهم أو فصلهم ولا عن أصل مدينتهم أو فصلها، فعند ذلك رفعوا اللاصق وسمحوا لهم بالكلام؟ وهل فعلوا مثل ذلك مع سكان الأرض جميعا بما فيهم النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون فى جزيرة العرب قبل الإسلام ثم تم إجلاؤهم عنها بعده؟ ترى لماذا لم يفتح أحد من هؤلاء فمه فيفضح المستور ويكشف الزيف والتزييف؟ وماذا نقول فى بطليموس الجغرافى اليونانى القديم الذى تكلم عنها وسماها "مَكُرَبا: Macoraba" (كتاب وليم موير عن سيرة الرسول/ صxc، ومادة "Mecca" فى الطبعة الأولى من "The Encyclopaedia of Islam")؟ وماذا نصنع مع ما قاله هيرودوت عن اللات، إحدى الآلهة الوثنية التى كان لها صنم فى كعبة مكة قبل الإسلام (وليم موير/ صcii- ciii)؟ كذلك ما العمل إزاء ما ذكره الرحالة الأوربى بروس (Bruce)، الذى زار بلاد الحبشة فى القرن الثامن عشر الميلادى من أن الأحباش يروون فى تواريخهم أن أبرهة قصد مكة ثم ارتد عنها لما أصاب جيشه من المرض الذى يصفونه بالجدرى (عباس محمود العقاد/ مطلع النور/ كتاب الهلال ديسمبر 1968م/ العدد 213/ 75)؟ وفضلا عن ذلك فثمة بحث لكرزويل الآثارى المشهور يرد فيه على كايتانى المستشرق الإيطالى وما يذهب إليه من إنكار بناء قريش للكعبة، ويؤكد أن ما وصلنا فى كتب التاريخ عن هذا الأمر صحيح لا شك فيه (العقاد/ مطلع النور/ 76). وهناك أيضا كتاب للمستشرق الهولندى دوزى يحاول أن يثبت فيه وجود بنى إسرائيل فى مكة خلال عصورها الجاهلية عنوانه: "Die Israeliten zu Mekka"، كما كتب فى نفس الموضوع المستشرق البلجيكى لامنس كتابا عنوانه:"Les Juives à la Mecque". ولم نسمع بأحد سواهما من المستشرقين أو غير المستشرقين ممن يؤبه بكلامهم أو لا يؤبه يقول إن مكة لم يكن لها فى إقليم الحجاز أثناء الجاهلية وجود!
ثم لماذا يفعل العرب بعد الإسلام هذا كله؟ وهل يُتَصَوَّر أن يفكر الحكام العرب بعد الإسلام، وبعد أن أَضْحَوْا يسبحون فى بحور الغنى والترف، فى إنشاء مدينة مثل مكة فى قلب الجبال والصحراء حيث يشحّ الماء (على أساس أن زمزم غير موجودة بناء على فرضيتة الطبيب الفرنسى الرذيلة مثله) وحيث تنعدم الزراعة والصناعة؟ ثم كيف يَرْضَوْن بعد ذلك كله، وهم المسلمون، أن يُنْسَب لآبائهم زورا وبهتانا أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان وأنهم حاربوا القرآن والرسول الذى أتاهم به وحاولوا القضاء عليه وعلى دعوته، بل وصل الأمر بهم أن فكروا يوما فى قتله والتخلص منه غدرا وغيلة؟ ومن المجنون الذى سولت له نفسه بالانتقال إلى مثل تلك المدينة دون أن يكون هناك جاذب من أى نوع يَهْوِى بفؤاده إليها حتى ولا ذكريات الطفولة والصبا فيها وكونها موطن الأجداد؟ باختصار لا يوجد سبب واحد، كما رأينا، يجعلنا نصدق هذا الهراء الجنونى، فى الوقت الذى تتضافر كل الدواعى لرفضه والسخرية من عقل صاحبه.
ونفس الشىء الذى قاله مخبولنا عن مكة نجده فى كلامه التالى عن يثرب، إذ يقول:" Le mot medina (s'écrivant mdn) est un mot araméen syrien, et signifie district, dans la région de Madian (s'écrivant aussi mdn) en Syrie". وكما قضى قضاءه المبرم فى أمر مكة فحكم عليها أن تكون شامية لا عربية، ومُحْدَثة النشأة بعد الإسلام لا عريقة الجذور قبله، نراه هنا كذلك يصدر حكمه الذى لا يُصَدّ ولا يُرَدّ بأن المدينة هى أيضا ذات أصل شامى، وأن اسمها آرامى! ونفس الردود التى أوردناها عليه فى تخريفاته الرقيعة عن مكة تكفى فى الرد على تخريفاته هنا التى لا تقل عنها رقاعة! ونزيد على ذلك أن بطليموس وإسطفانوس البيزنطى قد كتبا عن المدينة وسمياها: "Yathrippa: يثربَا"، كما تشير إليها النقوش المعينية باسم "يثرب" (مادة"Al- Madina" فى "The Encyclopaedia of Islam").
وبالإضافة إلى هذا فإن ثمة كتابات يهودية شامية من القرن الثالث قبل الميلاد تتحدث عن وجود يهود فى منطقة خيبر وما حولها، وإن أنكرت عليهم طريقة ممارستهم لدينهم (إسرائيل ولفنسون/ تاريخ اليهود فى بلاد العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1927م/ 13)، وهو ما يتسق مع ما يقوله المسلمون عن وجود يهود قبل الإسلام فى تلك المناطق بما فيها يثرب، هؤلاء اليهود الذين لم يعد لهم أثر هناك بعد ذلك، فما الذى يدفع المسلمين يا ترى إلى القول بأنه كان هناك قبل الإسلام وجود لليهود فى يثرب إذا لم يكن لهذه المدينة وجود فعلى حسبما تزعم تخريفات الطبيب الفرنسى؟ وثمة كتاب للعالم الغربى لِسْزِينْسِكى يتناول وجود اليهود فى المدينة قبل الدعوة المحمدية اسمه:"Die Juden zu Medina". كما يتحدث إسرائيل ولفنسون الباحث اليهودى فى كتابه السالف الذكر عن وجود اليهود فى يثرب وما حولها حديث الموقن تمام الإيقان، مُورِدًا أقوال المستشرقين فى ذلك، ومستدلاًّ من بعض أسماء القبائل والشخصيات والأماكن والحصون والآبار اليهودية على سبيل المثال على أن ما يقوله العرب عن هذا الموضوع صحيح (16-17، 61- 62، 81...)، فضلا عن أنه لا ينكر شيئا البتة مما تقوله المصادر الإسلامية عن الحوادث التى جرت هناك بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين بنى إسرائيل عليهم اللعنة. وما هذا، رغم ذلك كله، إلا غَيْضٌ من فَيْض!
وبعد، فإن هشام جعيط هو مثال صارخ من أمثلة كثيرة تحاصرنا من كل ناحية على البكش العلمى الذى تُقْرَع الطبول له وتُنْفَخ المزامير للفت الأنظار إليه وإلى صاحبه وإيهام الناس أنه عبقرى ليس كمثل عبقريته شىء، وما هو فى الواقع سوى كاتب متواضع القيمة، إلا أن آلة الإعلام الجهنمية تعمل بكل وسيلة على تضخيمه وتصويره للمشاهدين على أنه عملاق كى ينشر الهلس الذى ينشره فيظن القراء أنهم بإزاء كاتب نحرير ذى علم غزير ومنهج قدير، مع أنه فى واقع الأمر كائن مسكين طبقا لما رأيناه عليه فى أسلوبه وأفكاره ومنهجه ليس فى جَعْبته إلا كل رأىٍ فطير. والله المستعان!
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
من المسؤول عن تخلفنا؟
عمرو خالد أم طه حسين؟
كلمة فى أذن أ. شريف الشوباشى!
بقلم د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
فى مقال له بالأهرام بتاريخ 26/ 12/ 2007م عنوانه: "من يتحكم فى عقل مصر؟" كتب الأستاذ شريف الشوباشى وكيل وزارة الثقافة بمصر كلاما عجيبا كله أخطاء ومقارنات ساذجة وأحكام مطلقة ليس فيها رائحة الصحة يدين به عصرين من عصور الحضارة الإسلامية إدانة تامة لا ترى فيهما إلا كل شر، ويلمز التدين من طَرْفٍ خَفِىٍّ ومن طَرْفٍ ظاهرٍ معا. وقد دفعنى ما جاء فى المقال إلى التعقيب عليه بما فتح الله به إبراء للذمة وتوعية للقارئ بأنْ ليس كل ما يُكْتَب فى الجرائد هو كلام سليم، بل فى كثير منه ضحالة وضآلة. ولسوف أورد أولا كلام الأستاذ الشوباشى كاملا، ثم أقفِّى عليه بما كتبته فى تفنيده.
قال الأستاذ: "لو تخيلنا أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعث من قبره في هذه الأيام وأقام ندوة في قاعة صغيرة فالأرجح أن عدد الحاضرين لن يتجاوز بضع عشرات. ولو افترضنا أن الداعية عمرو خالد أقام في نفس الليلة أمسية دينية في إستاد القاهرة الدولي فالأرجح أنه سوف يمتلئ عن آخره، بل وسيكون هناك تجمهر من المريدين في الخارج يُمْنَعُون من الدخول نظرا لامتلاء الإستاد. هذا هو حالنا الآن في عصر سُحِبَتْ فيه السجادة من تحت أقدام أهل الثقافة، وانفض الناس عن كل من يتحدث بلغة العقل ويتخذ المنطق والعقلانية وسيلة للتأثير في النفوس.
وقد ظلت مصر قرونا طويلة ترزح تحت مظلة الجهل وتغييب العقل في عصور سيطر خلالها العثمانيون والمماليك على مقدرات البلاد، وكان همهم الوحيد هو الإبقاء على سلطانهم ونهب خيرات الشعب. لذلك فقد كان من الطبيعي أن تسيطر الخرافات والأساطير على عقول الناس بتشجيع من الحكام الأجانب كما كان الحال خلال القرون الوسطى في أوروبا، حيث كانوا يربطون المريض في شجرة ويضربونه بالسياط لاعتقادهم بأن الشيطان بداخله هو السبب في علته.
وبدأت بشائر عصر النهضة عندما بادر الوالي محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، بإرسال البعثات إلى الخارج لينهل مبعوثوه من العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها. وشيئا فشيئا بدأ عصر جديد تماما على مصر، وهو ظهور طبقة ممن يمكن أن يطلق عليهم: "المثقفون" استفادوا من اطلاعهم على الفنون والآداب والعلوم الأوروبية، وأضافوا لها اللمحات المصرية والعربية المستمدة من حضارتنا العريقة. ولأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلى رأي في قضية عامة. وربما كانت مقدمة ابن خلدون هي المحاولة الوحيدة الجادة في هذا الاتجاه قبل ذلك. فلم يكن هذا العبقري رائدا في علم الاجتماع فقط، وإنما أيضا في منهجية التأليف.
ولعل أول كتاب في العصر الحديث يستحق هذا الاسم هو "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي الذي وضعه بعد عودته من باريس واطلاعه على حضارة فرنسا وأوروبا. ثم توالى كبار المثقفين من أمثال علي مبارك ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق، ثم طه حسين والعقاد والحكيم وغيرهم. وقد أتاحت الصحافة نشر أفكار كل هؤلاء على نطاق واسع لم يُتَحْ مثله لكل سابقيهم. وتنبه كل هؤلاء لقيمة ذلك الاختراع الجديد فكتبوا جميعا في الصحف، وكان ألمع المثقفين يتخذون من "الأهرام" منبرا للوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء. وظل هؤلاء هم الذين يشكلون عقل مصر وضميرها طوال حقبة الملكية وحتى نكسة 1967. وفي هذه الفترة الفاصلة في تاريخ مصر الحديث بدأ دور هؤلاء المثقفين يخفت شيئا فشيئا، وبدأ الناس لا يؤمنون بما يقولون، وظهر تيار يتهمهم بالكذب والاحتيال على الناس حتى أوصلونا للهزيمة والانكسار.
ولم يجد المتحدثون باسم الدين صعوبة في ملء الفراغ والسيطرة على عقول الناس. فإن كان المثقفون، كما يقولون، قد مالأوا الحكام وأسهموا في تخدير عقول الشعب وتبرير الأخطاء التي أدت إلى التدهور والهزيمة، فإن قادة الرأي الجدد الذين يتخذون الدين وسيلة للوصول إلي السلطة إنما يناهضون الحكم وينتقدون الحكومة ويعتبرون أن البعد عن الدين هو سبب كل المصائب التي حلت على مصر وأن الحكومات المتوالية تناست الدين فجرّت البلاد إلي الهاوية. وأصبحت اللغة التي يتقبلها الناس هي لغة الغيب والخزعبلات حتى رأينا العجب العجاب علي شاشات الفضائيات. فإذا كان العقل قد أثبت فشله في تفسير الواقع فلا بد من وجود وسيلة أخرى لإرضاء الناس المتلهفين لمعرفة الحقيقة. وظهرت طبقة من المتحدثين باسم الدين يغرسون قيما جديدة معظمها يأخذ من ديننا الحنيف القشور، واستغل تيار سياسي هذا المناخ الجديد ليستشري في الحياة السياسية المصرية كما لم يحدث في تاريخها الطويل.
ومع انكماش دور المثقفين أصبح هؤلاء هم الذين يتحكمون في عقل مصر ويمثلون المثل الأعلى بالنسبة للشباب الذي يرى آفاق المستقبل موصدة في وجهه حتى أصبح بعضهم على استعداد لإلقاء أنفسهم في التهلكة من أجل الهجرة للخارج.
والمشكلة أن هؤلاء الذين يتحدثون باسم الدين لا يعرفون الدين، بل يركبون الموجة للتوصل إلي أهدافهم التي لا علاقة لها بالسماء لكنها أهداف دنيوية ومادية وسلطوية. وأصبح الذين يدغدغون الغرائز ويلعبون على أوتار الحرمان والفقر والخوف من المستقبل ويستغلون الإيمان المتجذر في أعماق الشعب المصري هم الذين يتحكمون في عقل الأمة.
وفي رأيي المتواضع فإنه لا أمل في أن تأتي أية إصلاحات اقتصادية أو سياسية أو هيكلية بثمار حقيقية مادام المتحكمون في عقل مصر يفسدون هذا العقل ويجرّون المجتمع إلي قضايا وهمية ومعارك دون كيشوتية يكون الخاسر الأول فيها هو الشعب المصري".
انتهى ما قاله الأستاذ الشوباشى، والآن جاء دورى لأدلى أنا أيضا برؤيتى فى القضايا الخطيرة التى طرحها وقدم تحليله لها ورأيه فيها وحلوله لما يتصل بها من مشاكل. ومن هنا أتوكل على الله وأقول: أول شىء نلاحظه فى هذه السطور هو وضع المؤلف للمثقف مقابل الداعية كأنهما نقيضان لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يكون بينهما تفاهم أى تفاهم، فكأن الداعية ليس مثقفا، بل كأنه لا يستخدم عقله ولا يخاطب عقول الآخرين، إذ جعل الكاتب من المثقف صاحب عقل، أما الداعية فلا عقل له. وخلاصة الكلام هو أن الدين والثقافة شيئان متخاصمان لا سبيل إلى الالتقاء بينهما. وهذا كلام خطير غاية الخطورة، وبخاصة إذا رأينا أ. الشوباشى يندب حظ الأمة التى ابتلاها الله بالدعاة فاستجابت لهم وحرمت نفسها من بركات المثقفين من أمثاله هو وطه حسين! باختصار إذا كنتَ إنسانا متدينا: سواء كنت داعية أو واحدا من جمهور الدعاة فأنت إنسان لا عقل لك، ولا أمل فيك ولا فيما تسمعه وتقرؤه، بل الأمل كل الأمل أن تنصرف عن الدين وعن الدعوة إلى الدين، لأن الدين جهل وغباء. وأنت، إذ تفعل ذلك، إنما تنقلب على الخطة الصحيحة التى انتهجها محمد على ورجاله ومثقفو عصره حين تركوا ماضيهم واتجهوا نحو قبلة أوربا والغرب. أليس هذا هو ما تقوله السطور الماضية، صراحة أو ضمنا؟
ولكن هل كان طه حسين، الذى يجعل منه الشوباشى مثلا للمثقف ذى العقل، عاقلا فعلا فى كل ما كتب وتكلم ووقفه من مواقف؟ نعم، هل كان عاقلا مثلا حين أنكر أن يكون إبراهيم قد بنى الكعبة أو زار مكة أصلا رغم أن القرآن قد ذكر زيارته لمكة وبناءه الكعبة، فقال طه حسين المثقف العاقل نابذ الخرافة ومُزِيلها وقاشع حجب الظلمات عن العقول والنفوس والضمائر: وإِنِنْ؟ أى فليقل القرآن الكريم ما يشاء، أما أنا المثقف صاحب العقل المتنور فلا أصدق بشىء من هذا. أم هل كان طه حسين، إذ أنكر الشعر الجاهلى كله أو جُلّه لا لشىء إلا لأن مرجليوث المستشرق البريطانى قد سبقه بعشرة أشهر لا غير إلى إنكار هذا الشعر بعد أن كان هو نفسه قبيل ذلك مباشرة لا تدور فى خاطره خالجة من الشك فى ذلك الشعر، بل كان يؤكد وجوده إلى الدرجة التى كان يراه أساس الحضارة الإسلامية، أقول: هل كان طه حسين وقتها مثقفا عاقلا رغم أنه فى إنكاره للشعر الجاهلى لم يَسُقْ قط على دعواه الفطيرة أى دليل علمى؟ أم هل كان طه حسين، عندما دعانا إلى احتذاء أوربا فى كل ما تصنعه من خير أو شر، وحُسْنٍ أو سُوءٍ، وإلى نَضْو غشاء الشرقية العربية الإسلامية تمام النَّضْو والالتحاق بركب المدنية الأوربية والتنكر لكل ما لديْنا، هل كان طه حسين ساعتها مثقفا ذا عقل؟ ترى ما مقياس الثقافة والعقل عند شريف الشوباشى؟ أهو أن تكون مناهضا للدين؟ الواقع أن كلامه لا يقول شيئا آخر سوى هذا. لو أن طه حسين قال: إنه ليس بين يدىّ دليل خارج القرآن على أن إبراهيم زار مكة وبنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، غير أنى فى ذات الوقت لا أستطيع أن أكذّب بما جاء فى القرآن لأن القرآن لا يمكن أن يكون مخطئا، إذ هو وحى سماوى، ووحى السماء لا يخطئ أبدا، فهو من عند الله أعلم العالمين، أو إن لم يكن يؤمن بالقرآن وبأنه من عند الله أن يقول: إننى لا أستطيع أن أكذّب بالقرآن لأنه ليس بين يدىَّ دليل على خطإ ما يقول، لقلنا له: نِعْم العقل. أما أن يكذّب بالقرآن دون أن يكون بين يديه أى برهان على صحة ذلك التكذيب فهذا هو فقدان العقل، وهذه هى مخاصمة الثقافة. ولو أن طه حسين أنصت جيدا إلى ما قاله له العلماء الأثبات الذين كانوا يعرفون أكثر جدا جدا مما يعرف هو عن الشعر الجاهلى وبينوا له أن كثيرا جدا من ذلك الشعر شعر صحيح، فاحترم علمهم وعقولهم وثقافتهم ولم تأخذه العزة بالإثم ويزداد تمردا دون دليل أو أثارة من علم، لكان رجلا مثقفا بحق وحقيق، أما أن يتمرد عليهم ويرفض أن يتعلم على أيديهم ما يجهله، فهذا هو فقدان العقل، وهذه هى مخاصمة الثقافة.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فهل من العقل والثقافة أن يعجز طه حسين عن أن يربى ابنه تربية عربية إسلامية، وقد كانا يعيشان فى بلد عربى، بل بلد زعيم العروبة، بحيث يعرف لغة الدولة والثقافة والحضارة التى ينتمى إليها، على الاقل إلى جانب اللغة الفرنسية التى لم يكن يعرف غيرها لأن أمه الفرنسية قد غرست فيه حب الفرنسية وكراهية العربية، تلك اللغة التى لم تحاول أن تتعلمها هى نفسها رغم أنها عاشت فى مصر عشرات السنين، ولو على سبيل المجاملة لزوجها وللبلد الذى جعل من زوجها وزيرا للمعارف، أى وزيرا للغة العربية وللثقافة العربية، لأن كل ألوان الثقافة فى تلك الوزارة بل فى ذلك البلد الذى تولى فيه طه حسين الوزارة إنما كانت وما زالت تُتَلَقَّى عن طريق العربية وتنتمى إلى الثقافة العربية؟ يقول أنيس منصور بالنص والحرف إن "ابن طه حسين الدكتور مؤنس لا يعرف العربية!" (من مقال له بعنوان "جاءوا من وادي الجن!"/ جريدة "الشرق الأوسط" الدولية/ السبـت 26 جُمَـادَى الأولـى 1426 هـ- 2 يوليو 2005م/ العدد 9713، وعلامة التعجب الموجودة بعد عبارة أنيس عن جهل ابن طه حسين بالعربية هى من عنده لا من عندى). هذا ما قاله أنيس منصور عن ابن طه حسين، الذى كان ينادَى فى البيت باسم "كلود"، كما كانت أخته تسمى: "مرجريت" نزولا على مشيئة الأم الفرنسية الجبارة التى كانت تربيهما تربية نصرانية فيما قرأنا، ولم يهتم أبوهما فى المقابل أن يربيهما تربية إسلامية، وها هى ذى كتبه التى ترجم فيها لنفسه وبيته وأولاده موجودة تشهد على ذلك. وقد استشهدت بأنيس منصور كيلا يقول قائل إننا نستشهد بخصوم طه حسين، فلا قيمة لتلك الشهادة.
وهناك كلام آخر كثير يمكن أن يقال فى هذا السياق، ولكن نكتفى بما ذكرته جريدة "الرياض" السعودية يوم الخميس 11 صفر هـ- 1 إبريل 2004م/ 1425العدد 13068 السنة 39 عن ذات الموضوع ، وإن كانت توسعت فيه بما يجلّى الصورة أكثر وأكثر، إذ كتبت تحت عنوان "الابن المنسي لطه حسين": "قبل أسابيع قليلة توفي في باريس الابن الوحيد للدكتور طه حسين من زوجته الفرنسية سوزان. اسم ابن طه حسين هو مؤنس، وكان يحمل شهادة دكتوراه في الأدب الفرنسي. وقد عمل فترة من الزمن أستاذا جامعيا وموظفا في منظمة الأونسكو بباريس. وقد جاءت وفاته في ذكرى مرور أربعين عاما بالضبط على وفاة والده، وإثر حديث أدلى به إلى جريدة "الحياة"، التي نشرت مع الحديث صورة لمؤنس بدا فيها شبيها شبها واسعا بوالده، سواء من حيث طوله أو من حيث ملامح وجهه. ولكن مؤنس غادر فجأة هذه الحياة إثر إدلائه بهذا الحديث، فما إن عادت الصحفية التي أجرت معه الحديث من جديد إلى منزله لغرضٍ ما بعد أيام من زيارتها الأولى حتى قيل لها إنه تُوُفِّي. وكان عند وفاته في الحادية والثمانين من العمر، وهو العمر الذي عاشه والده أيضا. وقد أجهد الكثيرون من القراء أذهانهم وهم يبحثون عن آخر ظهور لمؤنس طه حسين في مصر أو في الحياة الثقافية المصرية والعربية، أو عما إذا كان قد ظهر أصلا في الصحافة المصرية أو في ناد من نوادي القاهرة، فأعياهم التذكر. ذلك أن مؤنس غادر مصر قبل حوالي الخمسين عاما إلى العاصمة الفرنسية حيث حصل على الجنسية الفرنسية وعاش في فرنسا كأي مواطن من مواطنيها. ومع أنه نقل بعض أعمال والده إلى الفرنسية، ومنها كتابه: "أديب"، كما أنه كتب ذكرياته عن والديه ومنزل الأسرة في القاهرة، إلا أن ذلك لم يكن له أي صدى في الحياة الثقافية المصرية. وهذه الذكريات عن والديه وحياته معهما وهو شاب لا تزال مخطوطة لم تخرج إلى النور بعد، وتبحث وزارة الثقافة المصرية في الوقت الراهن عن مترجم مصري ينقلها إلى العربية. وقد أثارت وفاة مؤنس طه حسين على هذه الصورة في منفاه الباريسي، إن صح انه كان يعيش في منفى، ردود فعل مصرية تمحورت حول المسؤولية عن غيابه خارج مصر طيلة هذه المدة وانقطاعه انقطاعا تاما أو شبه تام عنها، إذ لم يحضر إليها سوى مرات قليلة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، ومن أجل المشاركة في مناسبات عائلية تستلزم مشاركته كوفاة والده أو والدته.
كما طرح بعض المثقفين المصريين سؤالا حول سبب هذا الغياب. فهل كان ذلك هو النظام الناصري الذي كانت ترزح تحته مصر، أم لأنه وجد في باريس والغرب الترجمة الحقيقية لما كان حلم به طه حسين في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر"؟ أم للسببين معا؟ وقال مثقفون مصريون آخرون إن سبب ذوبان ابن طه حسين في فرنسا يعود إلى التربية التي تلقاها في منزل والديه في مصر. فالأسرة كلها كانت تتخاطب بالفرنسية فيما بينها، والمدرسة القاهرية التي كان مؤنس يتلقى فيها العلم كانت أيضا مدرسة فرنسية. ومع أن طه حسين كان يريد لولديه مؤنس وأمينة أن يجيدا اللغة العربية إلا أن وجود زوجته الفرنسية في البيت حال عمليا دون تحقيق هذه الرغبة، أو لنقل: إن رغبة زوجته طغت على رغبته. والغريب أن مؤنس ليس الوحيد في أسرة طه حسين الذي هاجر نهائيا من مصر إلى الخارج، فبعده لحقت به إلى باريس ابنة شقيقته أمينة المتزوجة من وزير خارجية مصر السابق محمد حسن الزيات لتقيم بالقرب منه في باريس، واسمها سوسن. أما شقيقة سوسن، واسمها مني، فقد هاجرت بدورها إلى الولايات المتحدة هجرة نهائية. وبذلك لم يبق في مصر من أسرة طه حسين أحد!
وقد طرح هؤلاء المثقفون المصريون السؤال التالي: لو أنه كان لعباس محمود العقاد أولاد، هل كان من الممكن أن يتركوا مصر نهائيا إلى الخارج؟ لقد كان العقاد شخصية مصرية صميمة متشبعة بالروح العربية الإسلامية. وقد كان مستبعدا لو تزوج ورُزِق بأولاد أن يسلك أولاده طريق باريس أو غير باريس. ولكن لأن طه حسين سلك سبيل "التفرنج"، ولم يكن إسلامه متينا من البداية، فقد مهّد السبيل لأن تدخل الرياح إلى منزله وتقتلع أسرته خارج بيئتها ومحيطها. والواقع أن ما يقوله هؤلاء المثقفون المصريون لا يخلو من الحقيقة. فما كتبه طه حسين أو عمل من أجله يمكن أن يؤدي لا إلى هجرة ولديه نهائيا من مصر إلى الغرب، بل إلى هجرة مصرية جماعية إلى أي مكان. بدأ حياته الفكرية بكتاب عن الشعر الجاهلي شك فيه بشخصيات واردة في القرآن الكريم، كشخصية إبراهيم عليه السلام. وفي كتب أخرى وجد أن لليهود حضورا قويا في التراث العربي الإسلامي، ودعا إلى تقوية هذا الحضور. وذكر في أحد كتبه أن مصر خضعت لغزاة كثيرين كان منهم العرب. وفي كتابه عن المتنبي شك بوجود أب شرعي لأبي الطيب واعتبره، بوجه من الوجوه، لقيطا أو ابن زنى! ولكن لعل ما ورد في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" شكّل السبب النظري لهجرة ولديه إلى الخارج. فقد ذكر في هذا الكتاب أن العقل المصري إذا كان قد تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط. وقد خطا خطوة أخرى في هذا الاتجاه عندما قال إن "المتوسطية" تؤدي تلقائيا وحتميا إلى أوروبا، وتعني الأوروبية وتفضي إلى التأَوْرُب أو الأَوْرَبة. فعنده أن طريق التقدم والقوة هي "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها". فإن خيف على مصر من "أن يؤدي الاتصال القوي الصريح بالحضارة الأوروبية إلى التأثير على شخصيتنا القومية وطمس ما ورثنا من ماضينا وعن تراثنا"، فإن الرد لديه أننا إنما "كنا معرّضين لخطر الفناء في أوروبا حين كنا ضعافا مسرفين في الضعف، وحين كنا نجهل تاريخنا القريب والبعيد، وحين لم نكن نشعر بأن لنا وجودا ممتازا". أما الآن بعد التحرر والتطور والتقدم، "الآن وقد عرفنا تاريخنا، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرنا العزة والكرامة، واستيقنّا أن ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج، فإني (يمضي أو ينتهي طه حسين) "لا أخاف على المصريين أن يَفْنَوْا في الأوروبيين".
ويبدو أن الدكتور مؤنس حسين، رحمه الله، سمع كلام والده وأراد أن يختبر صحته بنفسه. سار سيرة الأوروبيين وسلك طريقهم وكان لهم شريكا في حضارتهم، فانتهى إلى الفناء فيهم. وفي غمار هذا الاختبار الصعب نسي مؤنس مصريته تماما، وربما إسلامه أيضا، فتحول إلى مواطن فرنسي إن لم يكن كامل المواطنية الفرنسية فإلى فرنسي لا يختلف عن أبناء المستعمرات الفرنسية التي يمكن لأبنائها أن يحوزوا الجنسية الفرنسية وأن يقيموا في باريس وينعموا بالحياة الرغدة فيها. صحيح أنه كتب في باريس ذكرياته عن منزل الأسرة: "رامتان" بالقاهرة، ولكنه كتب هذه الذكريات بالفرنسية لا بالعربية التي نسيها مع الوقت تماما وكمالا. وذكر في الحديث الذي أدلى به إلى صحافية مغربية ونشرته جريدة "الحياة" أن هذه الذكريات لا قيمة لها الآن لأنها لا تعني أحدا. ولكن المشكلة كانت في أن بوصلة التقدم عند طه حسين، وهي البوصلة التي استخدمها ابنه وأضلّته، كانت بوصلة غير سليمة. ذلك أن التقدم لا يعني وجوبًا التأَوْرُب، فهو يمكن أن يحصل بطريقة أخرى لا تؤدي إلى طمس شخصيتنا وهويتنا. كما أنه بالغ عندما تحدث عن العزة والكرامة، وجانب الصواب تماما عندما قال جازما إنه ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج، ولذلك لا خوف على المصريين من أن يَفْنَوْا في الأوروبيين. ولما استخدم ابنه وَصْفَته، عن ظنٍّ منه بأن والده لا يمكن أن يقول ما قال إلا وهو متيقن من نجاعة طبه، فَنِيَ فناءً تاما في الفرنسية الأوروبية لدرجة تحوله إلى رقم في شقة في عمارة بأحد أحياء باريس! مع الوقت نسي مؤنس طه حسين مصر كلها، كما نسي منزل الأسرة وتراث والده. لم يكن قد بقي في ذاكرته سوى مشاهد ضبابية لأسرةٍ، الزوجُ فيها منصرفٌ إلى شؤون الجامعة والتعليم والأدب والثقافة، والزوجة فيها منصرفة إلى تربية ولديها تربية فرنسية مسيحية في جوهرها. كان العالم الجزائري عبد الحميد بن باديس يمجّد الأمهات الجزائريات اللاتي يلدن للجزائر أبناء بررة مخلصين لها، ويخشى على بلده من الفرنسيات المتزوجات من جزائريين لأنهن يلدن للجزائر أبناء ضعفاء في وطنيتهم وثقافتهم ولغتهم القومية. وقد أثبتت تجربة مؤنس طه حسين، الابن المنسي لطه حسين، الذي تُوُفِّيَ في باريس ودُفِن فيها كما يُدْفَن الغرباء، صحة نظرة ابن باديس وخطأ نظرة والده".
وبمناسبة إشارة الكاتب إلى أن مؤنس طه حسين "ربما" نسى إسلامه أقول إن هناك كلاما فى هذا الصدد إن صح، وهو عندى أقرب إلى الصحة منه إلى الخطإ، إن لم يكن صحيحا بإطلاق، فإن "ربما" هذه سوف تتحول إلى "يقين"، وبخاصة أن المرحوم أحمد حسين زعيم حزب "مصر الفتاة" قبل ثورة يوليه قد كتب فى مجلة "الثقافة" المصرية فى أواخر سبعينات القرن الماضى، اعتمادا على ما قاله كاتم أسرار طه حسين فريد شحاتة النصرانى، إن طه حسين قد تم تعميده فى كنيسة القرية التى كانت تعيش فيها أسرة سوزان زوجة المستقبَل. وقد ربطت أنا بين هذا وبين ما ذكره هو فى الجزء الثالث من كتابه: "الأيام" عن رفضه القاطع أن يصاحبه أحد من زملاء البعثة المصريين آنذاك فى رحلته إلى تلك القرية فى الجنوب من أجل خطبة سوزان، التى كانت ترفضه وتجبهه فى قوة وجلافة بأنها لا تحبه، إلى أن تدخل خالها القسيس وأقنعها بالزواج منه قائلا لها إنه سوف يسبقها على الدوام! يسبقها إلى ماذا؟ لعل هذا المقال عن ابن طه حسين وتأثير أمه عليه يجيب على شىء من ذلك السؤال.
الواقع أنها فضيحة ثقافية وحضارية ووطنية وقومية وأخلاقية معا، ولسنا نحن الذين نكشنا هذا الموضوع، بل الذى نكشه واحد ممن يريدون لنا أن نتنكر لعنصر أصيل من عناصر ثقافتنا العربية الإسلامية ونتخذ من طه حسين معيارا لنا وننبذ كل ما يتعلق بالدين والدعوة إليه لأنه يناقض الثقافة! أية ثقافة يا ترى؟ لا أدرى. كلا بل أنا أدرى أشد الدراية، إلا أننى لا أريد أن أفتح أبوابا لو فتحت فلسوف تقلب كل شىء وتفضح أشياء خطيرة، وإن كنا قد تناولناها فى غير ذلك الموضع فنالنا بسببها ضُرٌّ كبير نحتسبه عند الله، الذى لا تضيع عنده الودائع المحتَسَبة، ضُرٌّ لم نكن نظن أنه يمكن أن يمسّنا فى يوم من الأيام، وبالذات على أيدى من يجعجعون طول النهار، وطول الليل أيضا حتى وهم نائمون، بحرية الفكر وحرية التعبير، أو فلنقل على سبيل الاختصار: بالتنوير، ذلك "التنوير" المسكين الذى تحول على أيدى تتار العصر الحديث المنغلقى الذهن المنكوسى القلب الملتوى الضمير الفاقدى الانتماء إلى هوية الأمة ودينها وثقافتها وماضيها وحاضرها إلى "تبوير" و"تدمير"! آه أيها التنوير، كم من الجرائم والمظالم والمخازى والكوارث تُرْتَكَب باسمك!
وعودا إلى المقارنة بين طه حسين وعمرو خالد فإنى أتصور أنه لو قام، بدلا من عمرو خالد، مفكر دينى كبير يخاطب الناس بأسلوب كأسلوب طه حسين فخامةً وجزالةً، وتناوَلَ موضوعات أعمق وأكثر جوهرية مما يتناوله عمرو خالد لكانت النتيجة قلة عدد من يقبلون على الإنصات له. فليست المسألة هى المقارنة بين الثقافة متمثلة فى العلمانيين وبين الجهل متمثلا فى المتدينين كما يحاول الكاتب أن يزرع فى وهمنا، بل فى أن كل ما هو عميق وجوهرى لا يحظى بجماهيرية واسعة، سواء كانت له صلة بالدين أو لا. ومرجع ذلك هذه الأيام بالذت إلى انصراف الناس عموما عن القراءة وعن التعمق فى أمور الفكر والثقافة والإخلاد إلى الكسل الذهنى وأخذ الأمور من شواشيها والاكتفاء بالسطوح من الأشياء فى الأغلب الأعم. وبالمناسبة فالإسلام لا يرحّب بهذا ولا يَرْحُب به صدرا، بل يريد من أتباعه أن يبذلوا كل ما يستطيعون من جهد دون أن يألوا فى ذلك شيئا. إلا أن المسلمين للأسف، فى هذه المرحلة الحضارية من تاريخهم، يميلون إلى الأدنى فى كل مجال، ويرضَوْن من المجد والسموق بأقل القليل، بل بالصفر إذا كانت هناك مندوحة. أى أن الدين هو أول من يدينهم فى ذلك، على عكس ما يزعم كثير من شانئيه. فكأنهم هم المعنيّون بقوله تعالى: "ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا". كما لا ينبغى أن يفوتنا أن عمرو خالد يمثل بين الدعاة صرعة جديدة، ومعروف أن لكل جديد سحره، وإن كان هناك الآن من ينتقده ويكثر من انتقاده حتى لقد أعلنت طوائف من الشباب الذين كانوا متعلقين به فى مبتدإ أمره انصرافهم عنه لشعورهم بأنه لا يمثلهم فى شىء وأنه إنما يرتبط بالأغنياء من الطبقة الجديدة قبل كل شىء، بل لقد قرأت منذ أيام من يشكك فى نياته ويتهمه اتهاما مبطنا بأنه محسوب على الإسلام خطأً. وأيا ما يكن الأمر فهل يصح فى المقارنة أن نضع عمرو خالد فى مواجهة طه حسين؟ إن الشريحة التى يخاطبها الأول غير تلك التى كان يخاطبها الأخير، فالأول يخاطب الشريحة التى تعتمد فى تحصيل ثقافتها على مشاهدة التلفاز ولا تتغيا العمق ولا التنوع ، أما الدكتور طه فكان يخاطب شريحة القراء الذين يبحثون عن الأسلوب الجميل والفكر النقدى والأدبى. كما أن عمرو خالد ليس بالأديب ولا الكاتب. إنه متحدث تلفازى فحسب. كذلك فهو يفتقر إلى ما كان يتمتع به طه حسين من صوت آسر وأسلوب فاتن مهما يكن اتفاقنا أواختلافنا مع الدكتور طه فى هذا الرأى أو هذا الموقف أو ذاك. بل إن عمرا، فيما أتصور، لا يمكنه الكلام بالفصحى ولا الكتابة السليمة بها. ومع ذلك فهذه الميزات التى تُمِيل الكِفّة لصالح طه حسين لا تهم فى قليلٍ أو كثيرٍ المشاهد التلفازى الذى يقبل على أحاديث عمرو خالد. وبالمثل فإن الموضوعات والقضايا التى كان يكتب فيها الدكتور طه ويتحدث لا تحظى باهتمام ذلك المشاهد. لهذا كله فإنى لا أفهم السر فى هذه المقارنة التى أقامها الكاتب بين الرجلين. إن لكل منهما مجاله وجمهوره الذى يسعى وراءه ويطلبه. وكلاهما بعد ذلك مثقف، وإن اختلفت ثقافة كل منهما عن الآخر فى النوع والسعة والعمق.
أما قول الأستاذ الشوباشى إن مصر "ظلت قرونا طويلة ترزح تحت مظلة الجهل وتغييب العقل في عصور سيطر خلالها العثمانيون والمماليك علي مقدرات البلاد..." ونعته للماليك والعثمانيين بــ"الأجانب" فهو كلام مضحك. ذلك أن مصر والعالم العربى، بل العالم الإسلامى كله، كان فى ذلك الوقت قويا مهيبا عزيز الجانب لا تستطيع أوربا أن تنظر إليه إلا خاشعة الطرف خافضة الجناح، لا كما تفعل الآن حيث لا تتعامل معنا إلا بما فى قدميها، ونحن عاجزون عن أن نصنع شيئا لوقف هذه المهانة التى جاءتنا على أيدى "أهل التنوير" الواقعين فى غرام أوربا وما فى قدم أوربا، اللاعقين التراب الذى تدوسه قدم أوربا وما فى قدم أوربا، والداعين إلى مزيد من الترامى على حذاء أوربا والمكتفين بالفتات الذى يتساقط تحت حذاء أوربا. نعم لقد أصاب المماليك والعثمانيين فى نهاية المطاف بعد عدة قرون من العزة والقوة والمهابة ما أصابهم من الضعف والتقهقر والانحلال، سنة الله فى دنيا البشر، بل فى دنيا البشر وغير البشر، لكن الدور والباقى على "أهل التنوير" الذين لم تنل البلاد العربية والإسلامية حتى الآن على أيديهم عزة ولا قوة ولا مهابة رغم مرور أكثر من قرنين من الزمان. ثم ما حكاية "الأجانب" هذه التى ابتُلِينا بها فى العصر الحديث ويريد بعضٌ منا أن يطبقها بأثر رجعى على أزمنة وأوضاع لا تتسق معها، إذ كانت الرابطة آنذاك، وما زالت فى الغرب حتى الآن، وإن ادعى خلافَ ذلك الغربيون ومن يجرى فى أثرهم من أبناء جلدتنا لاهثا، هى الرابطة الدينية إلى جانب الوطنية. وهذا إن صح أن الرابطة الوطنية أفضل من الدينية. على أية حال، يا أستاذ شوباشى، لقد تولى أمرنا ناس ليسوا بــ"أجانب" بمقياسك، فهل كان حكمهم للعرب والمسلمين أفضل من حكم المماليك والعثمانيين الأجانب أولاد ستة وستين؟ لقد كانت البلاد فى ظل حكم المماليك والعثمانيين لمدة قرون مستقلةً شامخةً، وكانت لها فى صلتها بأوربا اليد العليا فلا تستطيع أوربا ولا الذين نفضوا أوربا أن يقولوا لها: ثلث الثلاثة كم؟ بل كانوا هم الذين يقولون لها: ثلث الثلاثة كم؟ وربع الأربعة كم؟ وخمس الخمسة كم؟ وعشر العشرة كم؟ وهى ساكتة راغمة دون أن تفتح فمها إلا بالسمع والطاعة، أو فى أقل تقدير: إلا بالاحترام ولزوم الحدّ! ولم يكن بين علماء تلك العصور وكتّابها من يفترون التزييف على الواقع الساطع الذى يبهر العين بل يخرقها ويخزقها فيقولون إن المصريين كانوا يفعلون ما يفعله النصارى فى أوربا فى ذلك الوقت إذ "يربطون المريض في شجرة ويضربونه بالسياط لاعتقادهم بأن الشيطان بداخله هو السبب في علته" كما يقول.
ذلك أن المصريين كان عندهم فى ذلك الوقت، قبل أن ينهار كل شىء فى نهاية المطاف شأن كل شىء فى دنيا البشر، مستشفيات وأطباء وأدوية، ولم يكونوا متخلفين هذا التخلف الأوربى العجيب، إذ كان نقطة انطلاقهم هى أقوال الرسول الكريم التى ينبه فيها أتباعه إلى البحث لكل داء عن دوائه الكفيل بالقضاء عليه، ومنها الحديث التالى الذى رواه مسلم، وهو: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواءُ الداءِ برأ بإذن الله عز وجل"، ذلك الحديث الذى يشرحه الإمام النووى الشامى المولد والإقامة على النحو التالى، وكان النووى بالمناسبة يعيش فى عصر المماليك، وتحديدا فى عصر الظاهر بيبرس قاهر التتار، الذى نرجو من الله أن يقيض من حكام العرب والمسلمين الحاليين مثيلا له ينتصر على مغول العصر من صليبيين وصهاينة ويكنس أرض العروبة والإسلام من دنسهم ودنس ذيولهم الذليلة المنهارة من أبناء البلاد الذين تسكن جنوبهم قلوب بائسة يائسة هالعة خانعة. يقول الإمام النووى: "قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله": الدواء بفتح الدال ممدود، وحكى جماعات منهم الجوهري فيه لغة بكسر الدال. قال القاضي: هي لغة الكلابيين، وهو شاذ. وفي هذا الحديث إشارة إلى استحباب الدواء، وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف. قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله" فهذا فيه بيان واضح لأنه قد علم أن الأطباء يقولون: المرض هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمداواة رده إليه، وحفظ الصحة بقاؤه عليه، فحفظها يكون بإصلاح الأغذية وغيرها، ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض، وبقراط يقول: الأشياء تُداوَى بأضدادها، ولكن قد يدِقّ ويغمض حقيقة المرض وحقيقة طبع الدواء فيقل الثقة بالمضادة، ومن هاهنا يقع الخطأ من الطبيب فقط. فقد يظن العلة عن مادة حارة فيكون عن غير مادة أو عن مادة باردة أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها فلا يحصل الشفاء، فكأنه صلى الله عليه وسلم نبّه بآخر كلامه على ما قد يعارَض به أوله، فيقال: قلتَ: لكل داء دواء، ونحن نجد كثيرين من المرضى يداوَوْن فلا يبرءون، فقال: إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء، وهذا واضح. والله أعلم".
وانظر، أيها القارئ الكريم، أيضا إلى شرح الإمام ابن حجر (773- 852هـ)، وهو عالم مصرى فلسطينى من علماء العصر المملوكى كذلك، للحديث التالى الذى رواه البخارى والذى يجرى فى نفس المجرى: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، إذ يقول كلاما لا يقل روعة ومنهجية وتدقيقا وتنقيرا وتمحيصا وتحليلا للألفاظ وتقليبا للأمر على كل وجوهه المحتملة عما قاله الإمام النووى فى شرح حديث مسلم، علاوة على تنبهه إلى ما نسميه الآن بــ"الآثار الجانبية" للدواء، وإلى الفكرة الفلسفية التى افترعها الغزالى وأخذها عنه ديكارت وهيوم ورَسِل، التى تقول إنه ليس فى طبيعة الأسباب الدنيوية أن ينتج عنها ما تعودنا عليه من نتائج، بل كل ما هنالك أن الأمر مجرد عادة تَعَوَّدْنا تحقُّقَها، مَرْجِعُها، عند المفكرين المسلمين، إلى إرادة الله سبحانه، الذى لو كان أراد شيئا آخر لرأينا نتائج أخرى غير التى تَعَوَّدْنا تحقُّقَها. قال فى كتابه: "فتح البارى بشرح صحيح البخارى": "قوله: "ما أنزل الله داء": وقع في رواية الإسماعيلي "مِنْ داء". و"من" زائدة، ويحتمل أن يكون مفعول "أنزل" محذوفا فلا تكون "مِنْ" زائدة بل لبيان المحذوف، ولا يخفَى تكلُّفه. قوله: "إلا أنزل له شفاء": في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث "يا أيها الناس، تداوَوْا". ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداوَوْا"، وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم. ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس. ولأحمد عن أنس "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداوَوْا". وفي حديث أسامة بن شريك "تداوَوْا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا: الهَرَم". أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم. وفي لفظٍ: "إلا السَّام" بمهملة مخففة، يعني الموت. ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره "عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه". أخرجه النسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم. ولمسلم عن جابر رفعه "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى". ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رَفَعَه "إن الله جعل لكل داء دواء، فتداوَوْا، ولا تداوَوْا بحرام". وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب، وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا، أو عبر بالإنزال عن التقدير. وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام. وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر. وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر"بإذن الله". فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته. والتداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك... ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بألا دواء له، وأقروا بالعجز عن مداواته. ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله "وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه" إلى ذلك، فتكون باقية على عمومها. ويحتمل أن يكون في الخبر حذفٌ تقديره: لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء. والأول أولى. ومما يدخل في قوله "جهله من جهله" ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ، ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع. والسبب في ذلك الجهلُ بصفة من صفات الدواء. فرُبّ مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحدا لكن يريد الله ألا ينجع فلا ينجع. ومن هنا تخضع رقاب الأطباء. وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة، وهو بمعجمة وزاي خفيفة "عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت رُقًى نستَرْقيها ودواء نتداوى به؟ هل يردّ من قَدَر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله تعالى". والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب، وهو ينجع في ذلك في الغالب، وقد يتخلف لمانع، والله أعلم. ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد، وحُكِيَ كَسْر دال الدواء. واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح. ولعل التقدير: "إلا داء الموت"، أي المرض الذي قُدِّر على صاحبه الموت. واستثناء "الهرم" في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا، والتقدير: "لكن الهرم لا دواء له". والله أعلم".
فانظر بالله عليك أيها القارئ الكريم لترى الفرق بين كلام عالمين يعيشان فى العصر المملوكى الذى ينظر إليه كاتبنا الألمعى اللوذعى نظرة تعال واحتقار ويتحدث عنه من أطراف مناخيره، عالمين يزن كل منهما كلامه بماء الذهب ويحلل كل لفظ كأحسن ما يفعل أعظم المناطقة الوضعيين، ويظل ينقّر ويفحص ويتفحص حتى يصل إلى مكامن الحقيقة، كل ذلك فى لغة واضحة دقيقة ومنهجية صارمة حاسمة وعلم واسع عميق يحيط بجوانب الموضوع إحاطة السوار بالمعصم، وهما قبل ذلك كله وبعد ذلك كحله عالمان دينيان، أى متخلفان رجعيان ضيقا العَطَن، وبين كلام واحد من المتنورين الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب، ولا حتى فى شعبان أو رمضان، وهو كلام ينقصه التدقيق والتعميق، ويفتقر إلى المنهج والمنطق، ويهجم صاحبه على موضوعه دون أن يتذرع له بما يقتضيه العلم من قراءة وتفحص وتنقير، مكتفيا بأن يلقى ألفاظه كما تتفق له، لا يفكر من أين أتت ولا أين تقع ولا ماذا تصيب، إذ هو لا يعرف شيئا اسمه المبالاة والاهتمام، وإلا ما واتته نفسه على قول ما نحن بصدده هنا من كل داهية دهياء وكارثة نكراء وبلوى صماء عمياء مما نعنّى أنفسنا بالرد عليه وكشف ما فيه من تغشمر واعتساف.
وانظر كذلك، أيها القارئ الكريم، إلى تلك الجرأة التى تسول لصاحبها أن يرمى، ظلما وبَغْيًا وعَدْوًا، عصرين كاملين من عصور الحضارة العربية الإسلامية بالجهل والتخلف، ويزعم على الدعوة الدينية المزاعم لصالح العلمانية والعلمانيين، أولئك الذين تَوَلَّوْا أمور الأمة طوال قرنين من الزمان كانت محصلتهما تلك الثمار السامة التى نتجرع غصصها القاتلة، بدءا من محمد على، الذى لعب به الأوربيون ما حلا لهم اللعب ووظفوه لتحقيق أغراضهم فى محاربة الوهابيين والأتراك وحصلوا منه على الأموال الطائلة لقاء تحديث الجيش وإقامة المصانع التى تخدم الجيش فى المقام الأول، تلك الأداة التى استغلوها منه أبشع استغلال ثم أَعْطَوْه فى النهاية خازوقا ضخما كبيرا خرج من حلقه وهتك أحشاءه وأعاده إلى نقطة الصفر محطما لا يصلح لشىء، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت! وهو ما فعلوه ويفعلونه وسيظلون يفعلونه مع حكام العرب و المسلمين ما بقيت الشعوب نائمة فى العسل، بل فى المجارى والنتن، تلعق أحذية أولئك الحكام وتهتف بأسمائهم وتتمنى رضاهم وهم لا يَرْضَوْن عنها أبدا لأنها لا تهمهم فى كثير ولا قليل، إذ كل همهم فى رضا الدول الكبرى التى تستخدمهم أحذية فى أقدامها ثم تخلعهم بعد أن تأخذ منهم ما تريد وتلقى بهم فى أكوام الزبالة بعد أن تدمرهم تدميرا. هذا ما فعلته مع محمد على، وهو نفسه ما فعلته مع الشريف حسين، وما فعلته مع جمال عبد الناصر، وما فعلته مع شاه إيران، وما فعلته مع صدام حسين، وما تفعله الآن مع برويز مشرف وغير برويز مشرف من كل جاهل خائن معروف الاسم والسَّحْنة والسلوك، وما سوف تفعله مع كل واحد من حكامنا حَذْوَك النَّعْلَ بالنعل... دون أن يتعلم واحد منهم الدرس، ودون أن تصحو الشعوب من مرقد العدم الذى يحتوى جثمانها النتن العَفِن.
إن من أعجب العجب أن يشبّه كاتبنا الهمام عصر المماليك والعثمانيين بما كان يحدث فى أوربا من ربط المرضى فى جذوع الأشجار والانهيال عليهم بالسياط كى يخرجوا الأرواح الشريرة من أجسادهم. فمن يا ترى أنبأه أن الوضع لدينا كان كذلك؟ أم تراه شم على ظهر يده فأنبأته العصفورة بما كان يحدث؟ لنقرأ مثلا هذا النص الذى استمددناه من كتاب صلاح الدين الصفدى: "أعيان العصر وأعلام النصر"، من ترجمته للأمير جمال الدين الأشرفى الملقب بــ"آقوش"، وهو من رجال الدولة المملوكية، وعاش فى القرنين السابع والثامن الهجريين فى الشام أولا ثم فى مصر ثانيا وأخيرا. يقول الصفدى: "وولاّه السلطان الملك الناصر نظر البيمارستان المنصوري، فكان يدخل بعض الأوقات إلى المجانين، ويُدخلهم الحمّام، ويكسوهم قماشا جديدا، وأحضر لهم يوما جماعة من الجوالقية، فغَنَّوْا لهم بالكف ورقص المجانين. وكان يبرّ المباشرين الذين هم به بالذهب من عنده، ويطلع في الليل قبل التسبيح المئذنة، ويتفقد المؤذنين، وكان للبيمارستان به صورة عظيمة، وأملاكه محترمة لا يُرْمَى على سكانها شيء من جهة الدولة ولا يتعرض لهم أحد بأذيّة". فإذا كان هذا هو حال التعامل مع المجانين، فما بالنا بالمرضى الأصحاء العقول؟ صح النوم يا أستاذ شوباشى! لقد كانت البيمارستانات، أى المستشفيات، منتشرة فى كل مكان، وكانت الدولة توليها الاهتمام اللائق بدولة متحضرة، وتسند الإشراف عليها لكبار رجالها كما رأينا فى الكلام عن الأمير آقوش آنفا، وترتب لها الأطباء فى كل تخصص، وتجرى عليها الأموال الطائلة، عدا ما كان ينشئه أهل الخير والبر والإحسان من مستشفيات مجانية لعلاج المرضى من كل نوع وصرف الدواء لهم والإنفاق عليهم مدة إقامتهم فيها.
هذا فى العصر المملوكى، أما فى العصر العثمانى فنقرأ على سبيل المثال السطور التالية، وهى من مقال بعنوان "كركوك ودور المدارس والتكايا والعلماء في تطوير العلوم من عام 1918- 2003م" لنظام الدين إبراهيم أوغلو منشور بموقع "www.turkmanmedia.com"، وتجرى على النحو التالى: "كما نعلم أنّ فضل المدارس الدّينيّة والعلميّة والتّكَايا والعلماء كانت كبيرة في تطوير وازدهار العلوم الإسلاميّة، وكذلك في تطوير حضارة الدّولة الإسلاميّة، ووصلت إلى ذروتها عندما كنّا أمّةً واحدةً وارتفعت فيها المعاني الرّوحيّة السّامية، وازدهرت فيها كافة مجالات العلوم من علم الفلك واالتّكنلوجيا والطّب والكيمياء والفيزياء والفلسفة ونحو ذلك. وعلينا أن لا ننسى دور الدّولة العثمانيّة في ذلك أيضا. فيعرّف محمد أبو المجد الموضوع في رسالته: “ومما لاشك فيه لقد ازدادت هذه المدارس زيادة محسوسة وبالإضافة إلى المساجد والخانقاه التّكايا والزّوايا في العهد العثماني وكان يلحق أحيانا به ضريح أو مستشفى (البيمارستانات) أو سبيل، وكانت تُدْرَس في مدرسة الخانقاه أو التّكِيّة العلوم الدينية على المذاهب الأربعة، علما أنّ الخانقاه أو التكايا قامت بدور أوسع من المدرسة في نشر الوعي الديني الموجه، وكذلك الزّوايا والتي كانت بداية الزّوايا بداية علمية، حيث يتّخذ كل شيخ أو عالم زاوية من زوايا أحد المساجد الكبرى لتعليم الفقه وتفسير القرآن الكريم وبقية العلوم الإسلاميّة. وكان لكل شيخ مريدوه وأتباعه، وكانت كل زاوية تسمّى باسم شيخها. بالإضافة إلى ذلك كان للحُسَيْنِيّات أيضا نفس الدور العلمي للعلوم الإسلاميّة. ولقد اهتم بها العبّاسيون في أواخر عصورهم، ثمّ اهتم الأيوبيون والمماليك والصفويون، وتعزّزت في عصر الدولة العثمانية والتي وصلت إلى ذروتها فبَنَوْا معها مرافقَ أخرى من مسجد ومدرسة للتعليم وحمام ومكتبة ومستشفى ووقف لإدارة أمورها". والواقع أنه فى أيام الدولة العثمانية اتسعت مساحة الأوقاف كثيرًا، وكانت المدارس والزوايا والمساجد والمستشفيات... إلخ تدار بالأوقاف ويُصْرَف عليها منها.
أما إن كان هناك من يلجأ إلى الخرافات فى معالجة المرضى فإنما حصل ذلك بعد تدهور الأمور وانتشار الجهل والتخلف، وكان محصورا بين الطبقات الشعبية، ولا يرضى عنه العلماء ولا الأطباء أبدا، على عكس الأمور فى أوربا العصور الوسطى، إذ كان الأطباء عندهم هم الذين يعالجون الناس هذا العلاج الخرافى الجاهل بمباركة رجال الدين. ولنجتزئ هنا ببعض ما كتبه الأمير أسامة بن منقذ فى كتابه: "الاعتبار" عن الطب عند الصليبيين: "ومن عجيب طبهم أن صاحب المنيطرة كتب إلى عمي يطلب منه إنفاذ طبيب يداوي مرضى من أصحابه، فأرسل إليه طبيبا نصرانيا يقال له: ثابت. فما غاب عشرة أيام حتى عاد فقلنا له: ما أسرع ما داويت المرضى! قال: أَحْضَروا عندي فارسا قد طلعتْ في رجله دُمَّلَة، وامرأة قد لحقها نُشَاف، فعملتُ للفارس لبخة ففتحت الدُّمَّلّة فصلحت، فحميت المرأة ورطبت مزاجها. فجاءهم طبيب إفرنجي فقال لهم: هذا ما يعرف شيئا يداويهم. وقال للفارس: أيما لك: أن تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين؟ قال: أعيش برجل واحدة. قال: أحضروا لي فارسا قويا وفأسا قاطعا. حضر الفارس والفأس وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب، وقال للفارس: اضرب رجله بالفأس ضربا واحدا واقطعها. فضربه، وأنا أراه، ضربة واحدة ما انقطعت، فضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق، ومات من ساعته.وأبصر المرأة فقال: هذه المرأة في رأسها شيطان قد عشقها! احلقوا شعرها. فحلقوه، وعادت تأكل من مأكلهم: الثوم والخردل، فزاد بها النُّشَاف، فقال: الشيطان قد دخل في رأسها. فأخذ الموس وشق الرأس صليب وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكّه بالملح، فماتت من وقتها. فقلت لهم: بقي لكم إليّ حاجة؟ قالوا: لا. فجئت وتعلمت من طبهم ما لم أكن أعرفه"، وإن كان قد أضاف مع ذلك أن من أطبائهم من يتبع ألوانا ناجعة من العلاج.
ومرة أخرى كيف تواتى الأستاذ الشوباشى نفسه على الحط بهذه الطريقة من شأن العصر المملوكى، وقد كان يعج بالعشرات بعد العشرات من الشعراء والكتاب المعروفة أسماؤهم للمحتكين بأدب تلك الفترة. ولا يصح أن ننسى أبدا أن ذلك العصر هو عصر المعاجم الكبرى كـ"القاموس المحيط" للفيروزابادى و"لسان العرب" لابن منظور، والموسوعات الأدبية كـ"نهاية الأَرَب فى فنون الأدب" للنويرى و"صبح الأعشى" للقلقشندى، وكذلك كتب التنبيه على الأخطاء اللغوية وتصويبها مثل "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" للصفدى، فهل يعقل أن تكون بمصر وحدها كل تلك المدارس التى لا تحصى كما يقول رحالتنا، وتزدهر كتابة المعاجم والموسوعات الأدبية فى ذلك العصر، ثم يكون منحطا بتلك الصورة التى يريدنا الكاتب أن نصدق بها؟ ذلك أمر بعيد التصديق!
ثم إن ذلك العصر يعجّ بهاماتٍ عملاقةٍ مثل ابن خلدون والقلقشندى ولسان الدين بن الخطيب وابن حجّة الحموى والمقريزى وابن تَغْرِى بَرْدِى وابن دقيق العيد وعز الدين بن عبد السلام والسخاوى وابن حجر وتاج الدين السبكى والسيوطى وابن تيمية وابن قيّم الجوزية وأبى الفدا وأبى شامة وابن العماد والقَرَافى وابن هشام وابن عَقِيل وابن شاكر الكتبى وابن العديم وابن بَطّوطة وابن إياس وابن نباتة وصلاح الدين الصَّفَدى وابن فضل الله العمرى وابن الوردى وصفى الدين الحِلّى وابن دانيال وابن عربشاه والقزوينى والفيروزابادى وابن منظور والنويرى وأبى الحسين الجزار وابن مكانس وسراج الدين الوراق... وقد ذكرت أسماء هؤلاء الأعلام كيفما اتفق. ومن يرجع إلى الموسوعة العظيمة التى صنعها د. محمود رزق سليم لعصر المماليك وتياراته الفكرية والأدبية لَشُدِه. وقد اطّلعتُ على هذه الموسوعة وقلبت فيها وقرأت عددا غير قليل من فصولها منذ نحو خمس عشرة سنة حين أُسْنِد إلىّ تدريس العصر المملوكى والعثمانى فى كلية التربية بالطائف، فكان أن تغيرت نظرتى إلى ذلك العصر تغيرا حادا، وذلك بفضل الدكتور سليم وكتابه العملاق الذى أدعو الله أن يقيض له من طلاب الدراسات العليا من يعكف عليه ويدرسه ويعطيه حقه من التقدير، أو يوسع لى فى العمر ويتيح لى من الفرصة ما يساعدنى على القيام أنا نفسى بهذا الواجب. وهناك كتاب آخر أكثر من جيد يؤرخ لهذا العصر أيضا هو كتاب د. عمر موسى باشا: "تاريخ الأدب العربى- العصر المملوكى". بل إن جب نفسه قد ذكر عددا من أصحاب هذه الأسماء العملاقة وأبرز ما يتحلى به نتاجها الفكرى والأدبى من قيمة عظيمة، وهم البوصيرى وأبو الفدا وابن ماجد الملاح (الذى ساعد البرتغاليين على اكتشاف رأس الرجاء الصالح) والقلقشندى والذهبى والصفدى وابن حجر والسخاوى والدميرى وابن تيمية والمقريزى وابن عَرَبْشَاه والسيوطى (ص 142- 147)، ولسان الدين بن الخطيب (ص 150، 155)، وابن بطوطة (ص 151- 152)، وابن خلدون (ص 153)، بالإضافة إلى السطور الكثيرة المنبهرة التى خصصها للحديث عن "ألف ليلة وليلة" (ص 148- 149)، ذلك العمل الذى سحر ولا يزال يسحر العقل والذوق الغربى.
أما فى العصر العثمانى فلدينا على سبيل المثال عبد الغنى النابلسى فى الرحلة الدينية، والشربينى المصرى فى الشعر الشعبى، وطاشكبرى زاده فى الترجمة لعلماء الترك، وحاجى خليفة فى إحصاء العلوم، والمقَّرى التلمسانى مؤلف "نفح الطيب"، الذى يتناول كثيرا من جوانب الأدب الأندلسى ويترجم لعدد كبير من أعلامه، ويوسف البديعى كاتب التراجم الشهيرة عن أبى تمام والمتنبى وأبى العلاء المعرى، والتهانوى واضع "كشاف اصطلاحات الفنون"، والشهاب الخفاجى المصرى مؤلف "شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل والنادر الحـُوشِىّ القليل" و"شرح درة الغوّاص فى أوهام الخوَاصّ" و"ريحانة الألِبّا وزهرة الحياة الدنيا"، وعبد القادر البغدادى صاحب "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب"، تلك الموسوعة اللغوية والأدبية والتاريخية التى لا تقدَّر بثمن، والبهاء العاملى صاحب "الكشكول"، والمحبّى الحموى صاحب "خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر" و"قصد السبيل فيما فى اللغة العربيية من الدخيل"، و"نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة"، والشوكانى الفقيه والمفسر والمحدّث الغنى عن التعريف، صاحب "فتح القدير" و"نيل الأوطار"، ومنجك باشا اليوسفى، وهو شاعر فحل يذكرنا فى قوة شعره وتحليق موهبته بمحمود سامى البارودى، وكذلك بدر الدين الغَزّى، صاحب الرحلة المسماة: "المطالع البدرية فى المنازل الرومية" و"آداب المؤاكلة" و"الزبدة فى شَرْح البردة" وغيرها من الكتب التى بلغت حَوالَىْ مائة وعشرين كتابا، والذى وضع فى تفسير القرآن، حسبما قرأت، منظومةً سَلِسَةً توصف بالخلوّ من التكلف، وتبلغ مائة وثمانين ألف بيت تحدث عنها ابن العماد فى "شذرات الذهب" وحاجى خليفة فى "كشف الظنون"، وهو شىء هائل، وبخاصة أنه قد أورد الآيات القرآنية فى هذا النظم بنصها. وإنى لأتمنى أن يتاح لى الاطلاع على هذا النظم الذى أثار عاصفة من الأخذ والرد عند ظهوره ما بين راضٍ به ومنتقد له ناقم على صاحبه.
الحق أن العصر العثمانى لم يكن عصر خمول وتدهور قولا واحدا، بل هذا إنما ينطبق على المرحلة الأخيرة منه، شأن كثير من النظم السياسية، وإلا فقد كانت هناك علامات كثيرة وهّاجة فى ذلك العصر: منها أنه كان زاخرا بعدد غير قليل من أعلام الفكر والكتابة والشعر ممن ذكرنا بعضهم آنفا، وأنه كان هناك حتى فى أواسط إفريقيا وفى بلاد الملايو وأندونيسيا والهند وتركيا ذاتها من يستعملون العربية فى الكتابة والتأليف. ومنها أن الإسلام قد اتسعت رقعته فى وسط أفريقيا وشرق أوربا ومالابار. ولقد كانت الدولة العثمانية قوة مهيبة مرهوبة الجانب لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، فضلا عن تهديدها، وذلك قبل أن تدبّ فيها عوامل الهرم والتداعى بفعل عدد من العلل الداخلية والخارجية من أهمها مؤامرات الدول الأوربية، إلى أن انتهى أمرها وأمر الخلافة الإسلامية جميعا على يد مصطفى كمال أتاتورك فى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.
ولكى نزيد القارئ من الشعر بيتا كما يقول السعوديون أنقل له هذه الفقرات من تحقيق منشور فى موقع "إخوان أون لاين" عنوانه: " التحيُّز في كتابة التاريخ: الدولة العثمانية نموذجًا" لمجد عبد الفتاح، الذى كتب يقول: "الدكتور علي محمد الصلابي، المفكر الليبي المعروف صاحب كتاب "الدولة العثمانية- عوامل النهوض وأسباب السقوط"، قدَّم في بداية كتابه مدخلاً عن مناهج كتابة التاريخ أكَّد فيه أن المؤرخين الأوروبيين واليهود والنصارى والعلمانيين الحاقدين لم يتورعوا عن الهجوم على تاريخ الدولة العثمانية، فاستخدموا أساليب الطعن والتشويه والتشكيك فيما قام به العثمانيون من خدمةٍ للعقيدة والإسلام، وسار على هذا النهج الباطل أغلب المؤرخين العرب بشتى انتماءاتهم واتجاهاتهم القومية والعلمانية، وكذلك المؤرخون الأتراك الذين تأثَّروا بالتوجه العلماني الذي تزعَّمه مصطفى كمال، فكان من الطبيعي أن يقوموا بإدانة فترة الخلافة العثمانية، فوجدوا فيما كتبه النصارى واليهود ثروةً ضخمةً لدعم تحولهم القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى.
ويحلل الدكتور الصلابي أسباب هذا العداء بالنسبة للمؤرخ الأوروبي يرجع إلى تأثره بالفتوحات العظيمة التي حققها العثمانيون، وخصوصًا بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطية القسطنطينية. ويضيف أن الهجمات الإعلامية المُركَّزة من زعماء المسيحية بسبب الحفاظ على مكاسبهم السياسية والمادية، وكرههم للإسلام وأهله واندفاع قواتهم العسكرية للانتقام من الإسلام والمسلمين، ونزع خيراتهم بدوافع دينيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ، وقد ساندهم كُتَّابهم ومؤرخوهم للطعن والتشويه والتشكيك في الإسلام وعقيدته وتاريخه، فكان نصيب الدولة العثمانية من هذه الهجمة الشرسة كبيرًا.
وشارك اليهود الأوروبيون بأقلامهم المسمومة ضد الدولة العثمانية خصوصًا، والإسلام عمومًا، وازداد عداء اليهود للدولة العثمانية بعد أن فشلت كافة مخططاتهم في اغتصاب أي شبرٍ من أراضي هذه الدولة لإقامة كيان سياسي لهم طوال أربعة قرون هي عمر الدولة العثمانية السُنيَّة، استطاع اليهود بمعاونة الصليبية والدول الاستعمارية الغربية، ومن خلال محافلهم الماسونية، أن يحققوا أهدافهم على حساب الأنظمة القومية التي قامت في العالم العربي والإسلامي والتي وصفت نفسها بالتقدمية والاشتراكية، واتهمت الخلافة العثمانية على طول تاريخها بالتخلف والرجعية والجمود والانحطاط وغير ذلك، واعتبرت المحافل الماسونية والمنظمات الخفية التابعة لليهود والقوى العالمية المعادية للإسلام والمسلمين أن مسألة تشويه الفترة التاريخية للدولة العلية العثمانية من أهم أهدافها.
وسار المؤرخون العرب في العالم الإسلامي في ركب الاتجاه المهاجم لفترة الخلافة العثمانية، مدفوعين إلى ذلك بعدة أسباب: يأتى في مقدمتها إقدام الأتراك بزعامة "مصطفى أتاتورك" على إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924م، والتحول إلى المنهج العلماني في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على حساب الشريعة الإسلامية. وتحالفت هذه الحكومة مع السياسة الأوروبية المعادية للدول الإسلامية والعربية، واشتركت سلسلة الأحلاف العسكرية الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والتي رفضتها الشعوب العربية الإسلامية وبعض حكوماتها. وقد كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بقيام الكيان السياسي الصهيوني في فلسطين عام 1948م، مما جعل الشعوب العربية الإسلامية تندفع خلف حكوماتها القومية بعد غياب الدولة العثمانية التي كانت تجاهد كل من تُسَوِّل له نفسه بالاعتداء على شبرٍ من أراضي المسلمين.
ويأتي سبب التبعية المنهجية لمدرسة التاريخ العربي لتاريخ المناهج الغربية كعاملٍ مهمٍّ في الاتجاه نحو تشويه الخلافة العثمانية. وقد تأثَّر كثيرٌ من مؤرخي العرب بالحضارة الأوروبية المادية. لذلك أسندوا كل ما هو مضيءٌ في تاريخ بلادهم إلى بداية الاحتكاك بهذه الحضارة المادية الوافدة من الغرب، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث من وصول الحملة الفرنسية على مصر والشام، وما أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب، وما ترتب عليه بعد ذلك من قيام الدولة القومية في عهد محمد علي في مصر، وصحب ذلك اتجاههم لإدانة الدولة العثمانية التي قامت بالدفاع عن عقيدة الشعوب الإسلامية ودينها وإسلامها من الهجمات الوحشية التي قام بها الأوروبيون النصارى.
لقد احتضنت القوى الأوروبية الاتجاه المناهض للخلافة الإسلامية، وقامت بدعم المثقفين في مصر والشام إلى تأصيل الإطار القومي وتعميقه، من أمثال البستاني، واليازجي، وجورج زيدان، وأديب إسحاق، وسليم نقاش، وفرح أنطوان، وشبلي شميل، وسلامة موسى واليهودي الصهيوني هنري كورييل، وهليل شفارتز، وغيرهم. ويلاحظ أن معظمهم من النصارى واليهود، وأن أغلبهم من المنتمين إلى الحركة الماسونية التي تغلغلت في الشرق الإسلامي منذ عصر محمد علي، والتي كانت بذورها الأولى مع قدوم نابليون في حملته الفرنسية. لقد رأى أعداء الأمة الإسلامية أن دعم التوجه القومي والوقوف مع دعاته كفيلٌ بإضعاف الأمة الإسلامية والقضاء على الدولة العثمانية.
واستطاعت المحافل الماسونية أن تهيمن على عقول زعماء التوجه القومي في داخل الشعوب الإسلامية، وخضع أولئك الزعماء لتوجيه المحافل الماسونية أكثر من خضوعهم لمطالب شعوبهم، وبخاصةً موقفها من الدين الإسلامي الذي يشكِّل الإطار الحقيقي لحضارة المسلم وثقافته وعلومه، ولم يتغير هذا المنهج المنحرف لدى المؤرخين العرب بشكل عام بعد قيام الانقلاب العسكري في مصر سنة 1952م؛ حيث اتجهت الحكومة العسكرية في مصر منذ البداية، والتفت حولها أغلب الحكومات العسكرية إلى دعم التوجه القومي. كما أن معظم هذه الحكومات ارتكزت على أسسٍ أكثر علمانية في كافة الجوانب، بما في ذلك الجانب الثقافي والفكري، فنظروا إلى الخلافة العثمانية والحكم العثماني للشعوب الإسلامية والعربية بأنه كان غزوًا واحتلالاً، واسندوا إليه كافة عوامل التخلف والضعف، والجمود والانحطاط التي ألمَّت بالعالم العربي الإسلامي، واعتبروا حركات الانشقاق والتمرد التي قامت إبان الفترة العثمانية، والتي كان دافعها الأطماع الشخصية، أو مدفوعةً من القوى الخارجية المعادية للخلافة الإسلامية اعتبروها حركاتٍ استقلاليةً ذات طابعٍ قوميٍّ.
أما المؤرخون الماركسيون فقد شنوا حربًا لا هوادة فيها على الدولة العثمانية، واعتبروا فترة حكمها تكريسًا لسيادة النظام الإقطاعي الذي هيمن على تاريخ العصور الوسطى السابقة، وأن العثمانيين لم يُحدثوا أي تطورٍ في وسائل أو قوى الإنتاج، وأن التاريخ الحديث يبدأ بظهور الطبقة البرجوازية ثم الرأسمالية التي أسهمت في إحداث تغييرٍ في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في بداية القرن التاسع عشر، والتقَوْا في ذلك مع المؤرخين الأوروبيين من أصحاب الاتجاه الليبرالي، وكذلك مع أصحاب المنظور القومي، وقام بعض المؤرخين والمفكرين من النصارى واليهود بالترويج للاتجاهين الغربي والماركسي بواسطة التأليف وترجمة مؤلفاتهم، والذي ساندته المحافل الماسونية، وحاولوا أن يبتعدوا عن أيٍّ من الأطر الإسلامية الوحدوية، مفضلين عليها الدعوة القومية بمفهومها المحلي أو العربي كمشروع الهلال الخصيب في الشام، أو مشروع وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، فضلاً عن نشاطهم في ترويج الاتجاهات القومية المحدودة، كالدعوة إلى الفرعونية في مصر، والآشورية في العراق، والفينيقية في الشام... إلخ. وأما المؤرخون الأتراك الذين برزوا في فترة الدعوة القومية التركية فقد تحاملوا كثيرًا على فترة الخلافة العثمانية، سواءٌ لمجاراة الاتجاه السياسي والفكري الذي ساد بلادهم، إلى جانب تأثر المفكرين الأتراك بموقف بعض العرب الذين ساندوا الحلفاء الغربيين إبَّان الحرب الأولى ضد دولة الخلافة وإعلان الثورة عليها سنة 1916م.
وبرغم تفاوت الأسباب وتباينها إلا أن كثيرًا من المؤرخين الْتَقَوْا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية. لقد اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق والكذب والبهتان والتشكيك والدس، ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الأعمى والدوافع المنحرفة بعيدةً كل البعد عن الموضوعية".
ثم نأتى إلى الداهية الثقيلة فى مقال وكيل وزراة الثقافة فى مصر، وهى زعمه أن التراث العربى الإسلامى يخلو تماما من أى كتاب "في موضوع خاص غير الدين، ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"، وإن كان قد استثنى "مقدمة ابن خلدون"، التى وصفها بأنها "هي المحاولة الوحيدة الجادة في هذا الاتجاه قبل ذلك". أى أنها مجرد محاولة ليس إلا. ما كل هذا الكرم والتواضع والتنازل يا أستاذ شوباشى؟ الحق أننى كلما قرأت شيئا للأستاذ شريف ترحمت على أيام أبيه وعلى مؤلفاته، فهى مؤلفات تَرْفِدها قراءة عميقة وتفكير طويل ومنهجية صارمة، مؤلفات أنصفت الحضارة العربية الإسلامية إنصافا عظيما رغم يسارية الرجل، فقد كان كاتبا محترما متعمقا وملما إلماما واسعا ودقيقا بأى موضوع يتناوله فى كتاباته، وكان له أسلوب دافئ محكم، مع بساطة وسلاسة.
من الواضح الذى لا يمكن أن ينتطح فيه عنزان أو يتهارش فيه ديكان أن الأستاذ شريف الشوباشى لا يعرف شيئا عن هذا الأمر الذى زَجَّ فيه بنفسه "كالبقدونس"، وهذا التشبيه ليس من عندياتى، بل استقيته من تمثيلية "أم شناف"، التى أستمع إليها من تسجيلٍ محمَّلٍ على كاتوبى وأنا أكتب ما أكتب الآن، فعذرا للمرحوم عبد الفتاح مصطفى مبدع هذه التمثيلية الفائقة الروعة وأغنياتها المشجية ذات العذوبة الصافية. نعم من الواضح أنه ليس عنده فكرة عن التمرهندى، وإلا لم يقل ما قال. ترى ماذا نسمى كتاب "تاريخ الرسل والأمم والملوك"، الذى أبدعه شيخ المؤرخين ابن جرير الطبرى وتلك الكتب التى وضعها من سار على دربه من علماء المسلمين فكتب مثله فى علم التاريخ، وكذلك "كتاب" سيبويه وجميع كتب النحو المشابهة، ورسائل الجاحظ وكتابه عن "البخلاء"، وكتاب "المعارف" لابن قتيبة، وكتاب ابن حزم: "طوق الحمامة"، وكتاب المقَّرِىّ: "نفح الطيب"، وكتابَىْ "معجم الأدباء" و"معجم البلدان" لياقوت وسائر الكتب التى تجرى مجراهما، وما كتبه ابن المعتز فى "البديع" و"طبقات الشعراء"، وما ألفه ابن الجوزى من كتب فى "أخبار النساء" و"أخبار الحمقى والمغفلين" و"الأذكياء"، وما كتبه ابن سلام وابن قتيبة وأبو هلال العسكرى وعبد القاهر وابن طباطبا العلوى وابن الأثير وابن بسام الشنتريشى فى تاريخ الأدب والنقد الأدبى والبلاغة، وما افترعه لغويونا العظماء كابن جنى وابن فارس وابن منظور والزبيدى وغيرهما، وما أبدعه الفلاسفة المسلمون على اختلاف مشاربهم ومدارسهم من مؤلفات فلسفية كالكندى والغزالى وابن الطفيل وابن رشد، وكذلك ما وضعه علماء الكيمياء والفيزياء والطب من رسائل وكتب، وما كتبه المؤلفون فى الترجمة لأنفسهم كالغزالى والسيوطى وابن خلدون، علاوة على روائع القصص كــ"رسالة الغفران" لأبى العلاء و"مقامات" الهمدانى والحريرى و"حى بن يقظان"، الذى كتب قصته أكثر من فيلسوف مسلم وحمّلها كل منهم أفكاره الفلسفية... إلى آخر ما تركه لنا الأجداد من تراث علمى لا يمكن إحصاؤه، وكله قد أُلِّف بمنهجية محكمة ينتقل القارئ فيه من المقدمة إلى النتيجة فى سلاسة ويسر، فوق ما فيه من عمق وإبداع؟ أم ترانا ينبغى أن ننكر وجود كل تلك المؤلفات التى تجل عن الحصر ونذهب فنزعم مع الأستاذ الشوباشى تلك المزاعم المضحكة؟ كلا ثم كلا.
وإذا كان الأمر كما قال الأستاذ الشوباشى من أن المبعوثين إلى أوربا بدءا من عهد محمد على قد نهلوا هناك "العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها"، فكيف يقول رغم هذا بعد أسطر قلائل إنه "لأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ إذ ما الذى استفادته أوربا إذن من أجدادنا من علم ومعرفة إذا كان أولئك الأجداد لم يستطيعوا أن يخطوا الخطوة الأولى فى العلم والمعرفة، ألا وهى "وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ ألا يرى القارئ الكريم مثلما أرى أن فى كلام الكاتب اضطرابا وتفككا وتنافرا، وأن مقدمات كلامه لا تسلم إلى مؤخراته؟
أما قوله إن كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوى هو أول كتاب فى العصر الحديث يستحق لقب الكتاب المنهجى فهو كسائر كلامه لا معنى له، فقد سبق الـجَبَرْتِىُّ رفاعةَ فوضع كتابه المسمَّى: "عجائب الآثار"، الذى لا ينقضى عجب القارئ الفاهم مما فيه من دُرَرٍ علمية ومنهجية وحيادية عجيبة ودقة فى الاستقصاء والوصف وحيوية فى الأسلوب، مما دفع مؤرخا وفيلسوفا كبيرا وشهيرا كأرنولد تُويِنْبِى إلى الإشادة بالجبرتى ذلك المؤرخ العالمى الذى قلما يجود الزمان بمثله. ورغم المكانة العالية التى أحرزها كتاب رفاعة فإنه يقصّر كثيرا عن كتاب الجبرتى، وبخاصة أنه أطول جدا جدا جدا جدا من "تخليص الإبريز"، وأكثر تنوعا وأرحب مجالا، رغم ما يعتريه أحيانا من بعض الخطإ والركاكة اللذين لا يقل رفاعة عنه فى مقارفتهما. وحتى فى الجانب الخاص بإطلاعنا على منجزات الحضارة الغربية الحديثة ووجوه المقارنة بين أوضاعنا وأوضاع الأوربيين أَجِد، بكل يقين، أن كتاب الجبرتى يَفْضُل كتاب رفاعة، على الأقل لأن الجبرتى حين يتناول هذا الجانب إنما يتناوله تناولا حَيًّا مكسوًّا باللحم والدم والعظام والأعصاب لأنه يسوقه لدن كلامه عما يرصده من وقائع ويصفه أو يترجم له من أشخاص، على عكس رفاعة، الذى كان يكتفى عادة بالكلام النظرى، ولا يتوسع فى الكلام عن الأحداث والأشخاص توسع الجبرتى، أحد شيوخ المؤرخين فى العالم أجمع، رحم الله الاثنين رحمة واسعة. ومن هنا أيضا يتبين لك، يا قارئى الكريم، أن الأستاذ الشوباشى قد أخطأ التصويب خطأ لا يغتفر فطاشت رميته فى الفضاء العريض دون أن تُنْكِى جرحا أو تُسِيل دما!
وبالنسبة لقوله إننا، باتصالنا بأوربا وبما لديها من معارف، قد تكوّنت عندنا طبقة جديدة اسمها طبقة "المثقفين"، فلا أدرى أكان الأستاذ نائما أم كان يقظان صاحيا حين قاله. ذلك أنه لا معنى لمثل هذا الكلام إلا أن الحضارة العربية الإسلامية كانت تخلو من ذلك الصنف من الرجال، إذ كان كل هم العرب والمسلمين فى تلك الأزمان الغبراء النكراء هو حشو مصارينهم والسلام، أما عقولهم فلها رب اسمه الكريم! لقد كانوا لا يعرفون شيئا اسمه الكتابة والقراءة والتفكير والتدبير، وكانوا فى عمومهم أميين، ومن كان يكتب ويقرأ منهم فلم يكن يعدو التوقيع باسمه فى شخبطة كنكش الفراخ ليس إلا، أما ما وراء هذا فهو والأحلام سواء بسواء. ومن ثم فإن قال لك مجنون أو معتوه ملتاث إن فى تاريخنا مثقفين، ومثقفين كبارا، كالجاحظ مثلا (أقول: "مثلا") أو ابن قتيبة أو الأصفهانى أو ابن المعتز أو التوحيدى أو أبى تمام أو البحترى أو ابن الرومى أو المتنبى أو ابن جنى (أو ابن عفريت أو ابن إبليس) أو ابن خروف (أو ابن جدى أو ابن كبش) أو ابن زيدون (أو ابن نقصون) أو ابن حزم أو الشهرستانى أو الثعالبى أو ابن بسام أو ابن سِيدَه أو القزوينى أو المقريزى أو ابن خلدون أو ابن عربشاه أو السيوطى أو البوصيرى أو النووى أو ابن حجر (أو ابن زلط) أو القلقشندى أو الجبرتى... إلى آخر الآلاف المؤلفة من تلك الأسماء فإياك ثم إياك ثم إياك أن تصدق حرفا واحدا من هذا الهراء. فقد قال مؤلفنا إن ظاهرة "المثقفين" فى حضارتنا إنما بدأت فى العصر الحديث بعد اتصالنا بأوربا، ولم يكن لها، والحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه، أى وجود قبل ذلك بتاتا. وما دام مؤلفنا قد قال فالقول ما قال مؤلفنا. وعلى هذا فالأستاذ الشوباشى أحرى بلقب "المثقف" من واحد كالعقاد أو الزيات أو المازنى مثلا لأنه عاش فى فرنسا عدة سنوات، على حين أنهم لم يعيشوا فى فرنسا ولا فى أى بلد أوربى قط. فهم إن كانوا مثقفين إذن ليسوا "مثقفين" كما ينبغى أن يكون "المثقف"، بل مثقفون من منازلهم، وشتان بين "المثقف" المنازلى و"المثقف" الذى يحضر حصص الثقافة ومحاضراتها حية! ولعل القارئ الكريم قد لاحظ كيف خلت قائمة "المثقفين" التى أصدرها مكتب الأستاذ الشوباشى لتجميع "المثقفين" وتوريدهم للبيوت والمؤسسات من رجال مساكين كتب القدر عليهم سوء الحظ وانكسار الخاطر مثل محمد مصطفى المراغى ومحمد الخضر حسين ومحمود شلتوت وعبد الرحمن تاج وعبد المتعال الصعيدى ومحمد حسين الذهبى ومحمد الغزالى وسيد قطب والسيد سابق وأحمد الشرباصى وخالد محمد خالد وعبد الحميد كشك، وهو ما يدل على أن المسألة ليست فى المقارنة بين طه حسين وعمرو خالد، تلك المقارنة السطحية الساذجة رغم كل ما سبق أن قلته بشأنها، بل فى النظر إلى الدين ومن يكتبون فيه على أنه لا وشيجة له ولا لهم بالثقافة.
وإذا كان الأمر كما قال الأستاذ الشوباشى من أن المبعوثين إلى أوربا بدءا من عهد محمد على قد نهلوا هناك "العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها"، فكيف يقول رغم هذا بعد أسطر قلائل إنه "لأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ إذ ما الذى استفادته أوربا إذن من أجدادنا من علم ومعرفة إذا كان أولئك الأجداد لم يكونوا يستطيعون أن يخطوا الخطوة الأولى فى العلم والمعرفة، ألا وهى "وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ ألا يرى القارئ الكريم مثلما أرى مدى ما فى كلام الكاتب من اضطراب وتفكك وتنافر وتشوش فى الفكرة والعبارة، وأن مقدمة كلامه لا تسلم إلى مؤخرته؟
ومما لا أهضمه أيضا فى مقال الأستاذ الشوباشى قوله إن صوت المثقفين بعد هزيمة يونيه 1967م شرع يخفت شيئا فشيئا ولم يعد الناس يثقون فيما يكتبون وانصرفوا عنهم. ذلك أنه لم يحاول أن يفسر لنا سر انصراف الناس عن هؤلاء الذين خلع عليهم سيادته لقب "المثقفين" دون بقية عباد الله ممن يقرأون ويكتبون ويفكرون ويدبرون مثلهم. كل ما فى الأمر أننا نفاجأ بقوله إن الناس قد انصرفت عنهم وعما يكتبون، وكأن الناس انطست فى نظرها فقررت دون أى سبب أن تنصرف عنهم ثم انصرفت، وكان الله يحب المحسنين! على أية حال فمن الواضح أن الناس قد أخذت مقلبا سخنا على أيدى مثقفى الأستاذ الشوباشى وعلى أيدى الحكام الذين كانوا يقربون مثقفى الأستاذ الشوباشى، إذ توالت الهزائم ولم يستطع أولئك الحكام ولا معاونوهم من مثقفى الأستاذ الشوباشى أن ينجزوا شيئا مما وعدوا به الجماهير، وانكشفت خيبتهم القوية لكل من له عينان. صحيح أن الشعوب تستحق هذا وأكثر منه لأنها مثل مثقفيها وحكامها فى العيوب والمساوئ والمخازى، إلا أن هذه نقرة أخرى.
كذلك كان ينبغى أن يفسر سيادته لنا السبب فى إقبال الناس على من صك لهم، كعادته فى صك الألقاب وخلعها على طائفة من الناس وحرمان أخرى منها، لقب "المتحدثون باسم الدين"، وإيثارهم حديث الغيب والخرافات والخزعبلات على حديث العقل والتنوير والثقافة. وليتأمل القراء الكرام حملة سيادته على الغيب وقَرْنه إياه بالخزعبلات، ثم التفافه عقبها للإشادة بقيم ديننا الحنيف رغم كل هذا، وكأنه بعد سخطه على الغيب واتهامه إياه بالخزعبلات قد بقى فى ديننا شىء اسمه "قيم ديننا الحنيف". ترى بالله عليك، أيها القارئ الطيب، هل يمكن أن يتبقى من الإسلام شىء له معنى بعد إزاحة عالم الغيب منه؟ فماذا نقول إذن له سبحانه وتعالى حين يصف المتقين الداخلين الجنة يوم القيامة بأنهم، أوّلَ شىء، المؤمنون بالغيب حسبما جاء فى بداية سورة "البقرة" فى أول المصحف الشريف؟ أنقول له إن عبدا من عبادك يدعى الأستاذ شريف الشوباشى (أو بالأحرى: "شريف الشوباشى" حافيا من اللقب لأننا عند الله لا ألقاب لنا، بل كلنا عباده فحسب!)، ويعمل وكيلا لوزارة الثقافة فى مصر قد أصدر فرمانه بألا يؤمن أحد بالغيب فصدقناه وآمنا بما أمرنا به ونبذنا ما قلت يا ألله؟ ولكن هل يصح هذا عذرا لأحد أمام المولى سبحانه؟ أم إن الله نفسه، والإيمان به هو إيمان بالغيب، خزعبلة من الخزعبلات (أستغفر الله!) فلا ينبغى إذن أن نشغل أنفسنا به أصلا؟ وهو غاضب جدا ولم يبق له إلا أن يلطم الخدود لأن هؤلاء الغيبيين الخزعبلاتيين قد أصحوا يتحكمون فى عقول الأمة، وكان ينبغى كما قلت أن يسأل نفسه: ما الذى أوصل الأمور إلى هذا المدى؟ كما ينبغى أن يسأل نفسه: كيف وصل هؤلاء الغيبيون الخزعبلاتيون إلى التحكم فى عقول الناس رغم انسداد أبواب وسائل الإعلام ونوافذها وسقوفها وسراديبها فى وجوههم؟ ها هو ذا الأستاذ الشوباشى ورفاقه من المتنورين غير الغيبيين وغير الخزعبلاتيين فى أيديهم وتحت تصرفهم جميع وسائل الإعلام، فكيف فشلوا فى اكتساب ثقة الناس؟ وكيف لم نسمع سيادته يوما يهاجم فسادا أو ينادى بإصلاح؟ وكيف، ما دام يرى أن هؤلاء الغيبيين والخزعبلاتيين لا يفهمون شيئا فى الدين وأنه هو وحده ومن على شاكلته، الذين يفهمون الدين ويعرفون قيمه الكريمة، لم يدع الناس ولو مرة إلى التمسك بتلك القيم الكريمة؟ الذى أعرفه أننى ما دمت لا يعجبنى ما يقوله غيرى أن أنبرى أنا وأقول ما عندى مما أرى أنه هو الجدير بالنفع والإفادة؟ أم إنه يجرى على مبدإ "لا يرحم ولا يدع رحمة ربنا تنزل"؟
ثم إنه يعيب هؤلاء الغيبيين الخزعبلاتيين بأنهم استولَوْا على عقول الشباب الذين أصبحوا على استعداد لأن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة غرقا أمام شواطئ إيطاليا لانسداد أبواب الأمل فى وجوههم؟ ألم يكن أولى به أن يعيب من تسببوا فى إيصال الشباب إلى هذه الدرجة من اليأس والإحباط ودفعوه من ثم إلى إلقاء نفسه فى المهالك؟ كلا، إنه يؤثر أن يترك الحمار ويضرب البرذعة. فماذا نفعل معه، وهذه عادتنا نحن المصريين، وهو منا، فلا يمكن أن يشذ عن عادتنا، لا قطع الله لنا ولا له عادة. ومع هذا فإنى لا أستطيع أن أكتم دهشتى من موقفه هذا من هجرة الشباب إلى أوربا! أوكان يريد أن ينفرد دونهم بالعيش على أرض تلك القارة؟ أليس لهم هم أيضا نفس مثله؟ الواقع أنه لم يكن يصح منه مؤاخذتهم على ذلك التطلع حتى لا يتهمه حقود بالأنانية. ثم من يدرى؟ ألا يمكن أنهم إنما كانوا يريدون الاحتكاك بأوربا وتشرُّب ما لديها من علوم ومعارف واكتساب لقب "المثقفين" من ثم على يدى الأستاذ الشوباشى؟
أما اتهام من يسميهم الأستاذ الشوباشى: "المتحدثين باسم الدين" بالانتهازية والانغلاق فهو صحيح فى بعض الأحيان، ولكنْ صحيحٌ أيضا أن فى الشيوعيين، وفى الليبراليين، إن كان حقا عندنا من هذا الصنف، وكذلك فى كل فصيل سياسى أو دينى، انتهازيين ثعلبيين من الطراز الأول بامتياز، وأبرع من أولئك وأوغل فى الانغلاق والانتهازية وشغل الثلاث ورقات. ولذلك أقول إن العبرة فى يقظة الشعوب وتحركها وعدم إسلام أمرها إلى أحد مهما تكن درجة وثوقها به، فإن أمة تلقى زمامها إلى من يسوقها على غير إرادة منها أو بصيرة سوف ينتهى بها الأمر إلى أن تصير حملا مسكينا فى يد ذئب شرير لا يرحمها ولا يرعى فيها إلاًّ ولا ذمّة، وساعتها لا تلومنّ إلا نفسها، وهذا إن كانت هناك فرصة بعد أن يأكلها الذئب كى تبكى وتلوم نفسها! وكما يقولون فى الأمثال: على نفسها جنت براقش! وأنا، فى الواقع، لا أفهم كيف تدّعى الأمة أنها أمة مسلمة وتحرص على الصلاة والحج وما إلى ذلك مما لا يتم إسلام المرء إلا به، وفى ذات الوقت لا تعمل ولا تنتج ما تحتاجه بيديها بل تتفنن بكل ما فى وسعها من أجل تجنب بذل الجهد الحقيقى وتكره إتقان عملها وتنفر من القراءة والعلم والتفكير وتشغيل العقل ولا تعرف لقيمة الإبداع طعما ولا معنى ولا ترى فيما يسود حياتها من قبح وفوضى وقذارة وإهمال وإزعاج من كل جنس ولون وتخلف وتشويه وفساد ورشاوى وبكش وبلادة وترهل وغلظ ذوق وخشونة سلوك أى خطإ، بل تتعايش معه وكأنها تعيش فى الفروس الأعلى! ألا تفكر تلك الأمة فى أنها سوف تقف بين يدى الله فيسألها عما فعلته بنفسها فى الدنيا وأوردها موادر الهلاك والذل وجلب على رؤوسها الخزى والعار وأدى بها إلى سيطرة أعدائها على مقدرات أمورها، وهى طوال كل ذلك الوقت تلهو وتضحك وتتناسل وترقص وتصفق وتهرج، وكأنها قد حازت الدنيا كلها فى يديها. والله إننى لخجلان أكاد أتوارى من القهر والغم. ولكن من يقرأ، ومن يسمع، وأمة "اقرأ" كلها تقريبا لا تقرأ؟ خيبة، والسلام، لا نملك إزاءها إلا النصح، فلعل الله يفتح للأمة بابا من الفرج، وإن كنت لا أدرى كيف!
والطريف أن يعود الكاتب بعد هذا كله فيصف رأيه فى نهاية مقاله بأنه رأى متواضع. ولا أدرى أى تواضع يتحدث عنه سيادته بعد أن "طاح" فى الثقافة العربية وكثير من أعلام الفكر والدين عندنا دون أدنى مبالاة بأى شىء. لو كان هذا تواضعا حقيقيا لما سطر سيادته من هذا المقال حرفا واحدا، بل لما فكر مجرد تفكير فى أن يسطر حرفا واحدا منه، بل لما خطر له الموضوع أصلا، إذ من الواضح أن معرفته بالموضوع لا تؤهل صاحبها لمجرد الاقتراب منه، فما بالك بالكتابة فيه؟ بل ما بالك بالتربع على كرسى الفتيا وإصدار مثل تلك الأحكام الخطيرة التى لا ترعى فى أحد أو فى شىء إلاًّ و لا ذمة؟
ثم ما الذى منع الأستاذ الشوباشى وأمثاله من التأثير فى عقول الأمة بفكرهم التنويرى الذى من شأنه شفاء البلاد والأمة من كل داء، ووسائل الإعلام كلها على بَكْرَة أبيها ومُهْر أمها وبَغْل جدها وحمار جدتّها فى أيديهم، على حين أن هؤلاء الذين يشكو هو من سيطرتهم على عقول الناس لا يملكون من تلك الوسائل شيئا؟ ألا يدل هذا على أنه هو وأمثاله قد فشلوا فشلا ذريعا رغم كل شىء، وأن أولئك المتخلفين فى نظره الذين حُرِموا العقل المتنور ووسائل الإعلام على السواء هم أفضل أداء وأقوى تأثيرا؟ اللهم إلا إذا قال إن الشعب متخلف مثل أولئك المتخلفين، فهو ينجذب إلى صِنْوه ولا ينجذب إلى المتنورين المثقفين. وحينئذ فلا أدرى ماذا يمكن أن يقال أو أن يُفْعَل. أما التحجج بأن اولئك المتخلفين الجعجاعين يضيعون وقت الناس فيما لا طائل خلفه فالرد عليه أسهل شىء، إذ كان الزمام وما زال فى أيدى المتنورين صلى الله عليهم وسلم، فما الذى حال بينهم وبين التصدى للقضايا غير الدونكيشوتية؟ لقد فشلوا فشلا قاتلا، إلا أنهم مع هذا لا يريدون أن يكفّوا عن اتهام الآخرين بما فيهم هم قبل غيرهم.
ومما قاله الأستاذ الشوباشى كذلك تأكيده أن المشكلة تكمن فى جهل الذين يتحدثون باسم الدين بهذا الدين نفسه وأنهم يركبون الموجة للتوصل إلى أهدافهم التى لا علاقة لها بالسماء، بل هى أهداف دنيوية ومادية وسلطوية، وأنهم يدغدغون الغرائز ويلعبون على أوتار الحرمان والفقر والخوف من المستقبل ويستغلون الإيمان المتجذر فى أعماق الشعب المصري، وأنهم لا تربطهم أية صلة بالدين الحنيف. فأما اتهامه لهم بأنهم طلاب سلطة فاتهام لا معنى له، لأن لعبة الديمقراطية إنما تقوم على تداول السلطة، فلا داعى إذن لهذا الكلام الذى يستطيع أن يقوله هؤلاء بدورهم فيمن يتولَّوْن أمور البلاد. وإذا كان سيادته يرى أنهم لا يفهمون الدين الحنيف ولا تصلهم به أية صلة فليتقدم هو وليعرض علينا فهمه الصحيح للإسلام وليبصّر الناس بحقيقته ويدعوهم إلى قيمه العظيمة، ولسوف يستمع الناس له ما دام ينطلق من منطلق إسلامى، ولا يدع الساحة خالية لهؤلاء الذين يرميهم بكل نقيصة حتى لا يفسدوا على الناس أمر دينهم ودنياهم معا.
ونصل إلى دعوى استغلالهم لفقر الناس وحرمانهم، ونسأل الأستاذ الشوباشى: ومن أوصل الأمور إلى هذا الدرك الأسفل من الفقر والحرمان، والأمور إنما هى فى يد غيرهم؟ وما الذى يمنعك يا أستاذ شوباشى من الكتابة فى هذه القضية وفضح من دفعوا الأمور إلى هذا الحد، وأنت رجل تمسك فى يدك قلما، وصفحات الأهرام ومطابع هيئة الكتاب ومكتبة الاسرة مفتَّحة الأبواب لك على مصراعيها؟ إن كلامك معناه بكل بساطة هو أنكم فشلتم، ولا تريدون أن تبحثوا عن أسباب الفشل لتلافيها، وكل همكم هو تفزيع الناس من أولئك القوم الذين لا أزعم بشأنهم المزاعهم فأقول إنهم سوف يسوون الهوائل، بل كل ما أستطيع قوله هو أن ما قلته بشأن تحميلهم وحدهم المسؤولية الكاملة عما نحن فيه من تخلف هو ادعاء لا نصيب له من الصحة وأنه كلام فارغ وأنكم أنتم المسؤولون رسميا عن التخلف الذى تعانى منه البلاد، وإن لم يعن هذا أبدا أن الشعب مُعْفًى من مسؤوليته التى هى بكل تأكيد أكبر من مسؤوليتكم. أما هل يقدر هؤلاء الناس أو لا يقدرون على علاج ما أفسدتموه فهو أمر يدخل فى علم الغيب، فضلا عن أن أول شروط النجاح لذلك العلاج هو يقظة الشعب ومناضلته عن حقوقه وكرامته وعدم تركه المجال لكم أو لهم تتحدثون باسمه وتستغلونه وتفسدون عليه أمره وتحرمونه من خيرات بلاده وتدوسون كرامته بأحذيتكم وتعاملونه بتجبر وعتوّ وتتركونه يقاسى الحرمان والهوان!
والطريف، وكل ما فى مقال الأستاذ الشوباشى، الذى لا أريد أن أكون سببا فى مضايقته لدماثة خلقه رغم خلافى الشديد معه، هو كلام طريف، أنه يعود فيرمى المتحدثين باسم الدين بأنهم يلعبون على غرائز الشباب. أوبعد أن أوردوهم موارد التهلكة تتهمهم بأنهم يلعبون على الغرائز؟ وكيف يا سيدى المفضال؟ أوعندهم مجلات وأفلام جنسية خليعة يزودون بها الشباب ويعدونهم ويمنّونهم بأنهم، متى وصلوا إلى الحكم، سوف يوفرون لكل شاب فاتنة من فاتنات السينما تخلع ملابسها له خصيصا كل ليلة بطريقة الإستربتيز؟ فهذا هو ما أفهمه من اللعب على الغرائز؟ الحق أن هذه أول مرة أسمع فيها من يتهم أولئك الناس بتلك التهمة. من الممكن أن يصدقك الجمهور إذا قلت إنهم منغلقو الذهن، حتى لو لم يكونوا كذلك، وبكل تأكيد ليسوا كلهم كذلك. إن تهمة إثارة الشهوات واسعة حبتين، بل ثلاث حبات وأكثر يا أستاذ شوباشى.
بالعكس إن هؤلاء المتحدثين باسم الدين كما يسميهم الأستاذ الشوباشى يطلون على الناس من القنوات الفضائية بسحن مخيفة ولحى طويلة هائشة تلقى الرعب فى القلوب، وتقطع الخميرة والخبز أيضا من البيت. وعلى هذا فتلك التهمة قد خرجت هى أيضا "آوت" للأسف يا أستاذ شوباشى! وعلى كل حال ألم يكن أجدر بالأستاذ الشوباشى أن يرينا كيف الخروج من هذا المأزق الذى يضرب حولنا نطاقا من المعاناة والشقاء والتخلف والعجز والفقر والحرمان بدلا من إلقاء اللوم والمسؤولية على ناس، أيا ما يكن رأينا فيهم وموقفنا منهم، هم فى الواقع لا دخل لهم بما نحن فيه، لسبب بسيط هو أنهم لا أشاروا ولا استشيروا ولم يكونوا يوما من أهل الحكم ولا حتى من أهل العقد والحل.
أما اتهامهم فوق البيعة بأنهم يستغلون الفرصة رغبة من هؤلاء الطماعين الذين يستحقون أن تندب فى عيونهم رصاصة فى الوثوب إلى الحكم، فهو اتهام لا طعم له، إذ الحل بسيط وعلى مد الذراع لو أراد الأستاذ، ألا وهو أن ينصرف سيادته وأمثاله إلى إصلاح الحال المائل، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجل قطع الطريق على هؤلاء المنافسين الذين يريدون أن يستولوا على أسباب السلطان، لا أهنأهم الله بها أبدا، وذلك بدلا من إفساد أعصابه بالشكوى والتذمر منهم والزراية عليهم وإلقاء التهم فى وجوههم عبثا، إذ إن الناس لا يمكن أن يصدقوا أى كلام إلا إذا رأوا بأم أعينهم ثمار ذلك الكلام. وأيا ما يكن الأمر فما وجه العيب فى أن يتطلع أحد إلى الحكم؟ ترى هل هناك طائفة من البشر أخذوا على الله عهدا ألا يزيحهم من كرسى الحكم أبدا مهما خابوا وأفسدوا وفشلوا وعكّروا على المواطنين صفو الحياة، وصفو الممات أيضا؟ أليس الناس فى كل بلاد العالم تتداول الحكم: فيوما لك، ويوما عليك؟ أم إن الأستاذ الشوباشى يريدها ديمقراطية تفصيلا لفئة "المتنورين" وعلى قَدّ مقاسهم وحدهم؟ ولكن بأمارة ماذا؟ فليأتنا بأثارة من علم أو حتى من جهل إن كان من الصادقين.
والواقع أنى لا أدافع فى هذا المقال عن أحد، فأنا بحمد الله لا أومن إلا بشىء واحد فى هذا السياق، وهو أنه إن لم تهبّ الأمة كلها مرة واحدة وتأخذ زمام أمورها فى أيديها وتكف عن التنبلة والخوف والنفاق والفساد وكراهية التقدم والنفور من التحضر فلا أمل: لا على أيدى "المتنورين" ولا على أيدى "المتحدثين باسم الدين" إن كان هناك أمل أصلا فى أن يترك لهم "المتنورون" الفرصة للوصول إلى الحكم. ذلك أن نبرة صوته لا يمكن أن تخطئ معناها الأذن، فهى نبرة كلها وعيد واستعداء. أم للقارئ فهم آخر؟
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
HOME
إنهم"يحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه"!
آخر تقاليع أوباش المهجر: "القرآن الشعبى"
د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
منذ عدة ليال علمت، بالمصادفة المحضة وأنا أتصفح أحد مواقع المشباك، أن موقعا من المواقع النجسة قد نشر فى صفحته الرئيسية شيئا اسمه "القرآن الشعبى" من عمل أوباش المهجر يَسْخَرون به من القرآن. ولفت انتباهى تحذير أحد الكتاب الأفاضل للقراء المسلمين من محاولة الوصول إلى هذا الموقع أو قراءة ذلك القرآن خشية منه على عقيدتهم. ولم أكذّب خبرا فحاولت الوصول إلى هذا النص الذى يُخْشَى منه على عقائد المسلمين كل هذه الخشية فوجدت أن المسألة تتلخص فى أن حثالة الأوباش من أعباط المهجر ممن أُوتُوا نصيبا هائلا من الفهاهة والبلاهة والسفاهة والسفالة والرذالة والجهالة قد جاؤوا بالنص القرآنى وأخذوا يعبثون بآياته مغيرين كلمات مثل "الله" و"الرحيم" و"الصراط" و"الرَّيْب" و"الرِّجْس" و"النكاح" بطول القرآن كله إلى "اللات" و"الرجيم" و"الطريق" و"الشك" و"الوساخة" و"النيك" على الترتيب، علاوة على إتْباعهم بعض الألفاظ القرآنية شرحا عاميا لها على سبيل التهكم والسخرية أو تعليقا بذيئا عليها تصورا منهم أن هذا من شأنه تدنيس كتاب الله. وقد ذهب ذهنى يقلب فى صفحات التاريخ عن المحاولات التى قام بها أوباش سابقون بغية تحريف القرآن، فتذكرت ما صنعه اليهود فى ستينات القرن الماضى حين وزعوا فى بعض البلدان الإفريقية المسلمة مصاحف بدّلوا فيها وحرّفوا، كما صنعوا مثلا مع كلمة "لُعِنَ" فى قوله تعالى: "لُعِنَ الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم"، التى حرفوها إلى "أُمِنَ" مستغلين التشابه الخَطِّىّ بين الكلمتين. وبهذه الطريقة فإن اليهود، بدلا من استيجابهم اللعنة الإلهية، أصبحوا مأمونين يُطْمَأَنّ إلى كلامهم وسلوكهم وأخلاقهم. وهكذا تحول الذم إلى إشادة ومدح. ثم تذكرت أيضا ما تريده أمريكا من الدول العربية من إسقاط النصوص القرآنية التى تدعو المسلمين إلى الجهاد ذَوْدًا عن دينهم وكرامتهم وأوطانهم وأممهم، وبذلك يخلو الجو للصليبيين والصهيونيين ليفعلوا بنا وببلادنا وثرواتنا وحاضرنا ومستقبلنا ما يحلو لهم دون معقّب أو منقّب أو رقيب أو حسيب. ثم تذكرت أيضا كتاب "الفرقان الحق" الذى ظهر منذ أعوام قليلة فى محاولة دنيئة لتقليد القرآن الكريم، وكله سباب مقذع لله والرسول والمسلمين. وها نحن أولاء نشهد الآن محاولة أخرى لتحريف القرآن المجيد. فما معنى هذا؟ إن معناه أمران: الأول أن أهل الكتاب قد مَرَدُوا على تحريف وحى السماء فأضحى الأمر يجرى فى دمائهم كالأفيون والكوكايين والهيروين لا يستطيعون منه فكاكا حتى إنهم لم يكتفوا بما اقترفوه فى حق كتبهم، بل مدوا أيديهم إلى القرآن ذاته يريدون تلويثه كما لوثوا كتابهم المقدس، ولكن هيهات. والثانى أنهم فى أمريكا والغرب قد فقدوا عقولهم وبلغوا من الوقاحة والبجاجة والرذالة والسفالة مبلغا بعيدا جَرّاء كراهيتهم لهذا القرآن ورعبا منه رغم أن فى أيديهم من وسائل القوة والجبروت ما لم يكن يخطر على بال. وهذا دليل على ما يمثله القرآن لهؤلاء المجرمين من تحدٍّ يعلمون هم قبلنا أنه تحدٍّ رهيب، وذلك رغم ضعف المسلمين المخزى فى هذا الطور من أطوار تاريخهم. وقد سألت نفسى: لم لا تكتب يا فلان شيئا فى هذا الأمر كما كتبتَ عن "الفرقان الحق" لَدُنْ ظهوره فمزّق الله على يديك وأيدى أمثالك ذلك الضلال المبين وفَضَح المآبين الذين كانوا وراءه؟ لكنى لم أقف أمام هذا السؤال طويلا، إذ كنت وما زلت مشغولا ببعض الشؤون الأخرى الملحة... إلى أن صح منى العزم فجأة، رغم هذه الشواغل، على كتابة بعض الصفحات فى هذا السبيل، وهى الصفحات التى بين يدى القارئ الكريم والتى كتبتها أمس واليوم على عجل. وأرجو أن تجد فيها أمتى شيئا من الجدوى.
وأول ما نقف لديه مما صنع الأوباش هو سورة "الفاتحة"، التى كتبها الخنازير على النحو التالى: "بسم اللات الرحمن الرجيم (1) الْحَمْدُ للات رَبِّ الإنس و الجن (2) الرَّحْمَنِ الرجيم (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (عيسى ابن مريم) (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الطريق الْمُسْتَقِيمَ (6) طريق الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ كالمسلمين غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من اليهود وَلا الضَّالِّينَ من المسيحين (7)". وكما يرى القارئ فأول القصيدة كفر وزفت وقطران على دماغ البهائم المثلِّثة عبّاد الأوثان والصلبان الذين زيفوا مثل هذا الكلام عبثا منهم بالوحى الإلهى، شأنهم فى ذلك شأن أسلافهم الذين سجل الله عليهم ذلك الخزى، فها هم أولاء يُقْدِمون فى وضح النهار على العبث بالقرآن مبدلين كلاما بكلام ومدخلين فى نصه ما ليس منه، غير منتبهين (لكونهم بهائم ذوات أظلاف ولا تفهم من الحياة إلا التبن والبرسيم والعلف) أنهم بهذا العبث لا يضرون إلا أنفسهم ولا يضرون القرآن أو الإسلام أو نبيه العظيم أشرف الخلق فى شىء. ذلك أنه ما من دين حارب الوثنية كما حاربها الإسلام، الذى حمل على اللات والعُزَّى ومناة وسائر الأصنام والأوثان، ورغم هذا لا يستحى الأوباش من الكذب على دين محمد فيرميه هؤلاء الوثنيون عبدة الصليب بدائهم الوثنى، فبُعْدًا لهم من أوباش أغبياء! إنهم، بذلك الصنيع الدنىء، ليذكّروننا بما كان أوباش أوربا، فى عصور الظلمات والجهل والقذارة والتنطع والتخلف الشامل، يرددونه كذبا وزورا عن النبى قائلين إنه يدعو إلى عبادة ثالوث من الآلهة الوثنية، وإن سبب تحريم الإسلام للحم الخنزير هو أنه سكر ذات مرة فانطرح، أستغفر الله، على مزبلة كانت الخنازير تأكل منها، فلما وجدته هناك آذته، فلما أفاق وعلم بما حدث حرّم أكلها... إلى آخر هذا الخبل العقلى.
وعَوْدًا إلى عبث الأوباش فى سورة "الفاتحة" وارتداد سهامهم إلى نحورهم نقول: من المعروف أن المسلمين يبجلون المسيح أيما تبجيل وينظرون إليه على أنه رسول كريم وأنه من ثم أخ لرسول الله محمد عليهما جميعا الصلاة والسلام ولا يقولون فى حقه كلمة واحدة يمكن أن تسىء له بأى حال. صحيح أنهم أعقل من أن يؤلهوه، لكنهم يحترمونه احتراما عظيما لا يزيد عليه إلا احترامهم لرسولهم سيد الأنبياء والمرسلين. وقرآنهم المنزل من لدن رب الأرباب لا يذكره إلا بكل خير. فماذا فعل البهائم ذوات الأظلاف؟ لقد ظلت تؤلهه فيما عبثت به من القرآن الكريم، إلا أنها ككل مطموس البصر والبصيرة لا تفكر ولا تتدبر ولا تفهم كيف تتوقى ما يمكن أن تجلبه على نفسها من بلايا ورزايا وكوراث ومصائب، إذ جعلت المسيح هو اللات، وهو أيضا الرجيم: "بسم اللات الرحمن الرجيم (1) الْحَمْدُ للات رَبِّ الإنس والجن (2) الرَّحْمَنِ الرجيم (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (عيسى ابن مريم) (4)".
كذلك فقد جعل الأوباش اللات هو الذى وهب مريم عيسى، وهو الذى كان يوفر لمريم فى معتكَفها بالمحراب ما كانت تحتاجه من طعام وشراب، وهو الذى بشّر يحيى بأنه سيرزقه ولدا، وهو الذى اصطفى مريم على العالمين، وهو الذى بشر مريم بالمسيح، وهو الذى توفى المسيح ورفعه إليه وأنقذه من الكافرين...: "إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللات أعرف بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللات إِنَّ اللات يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللات يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللات وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللات يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللات اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللات يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللات يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللات وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللات وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللات وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللات رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا طريق مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللات قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللات آمَنَّا بِاللات وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللات وَاللات خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللات يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللات لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)".
وعيسى، عند الأوباش، هو عبد اللات ورسوله، وقد رفعه اللات إليه: "قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللات وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللات إِلَيْهِ وَكَانَ اللات عَزِيزاً حَكِيماً (158)"، "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللات وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ". واللات هو الذى أخذ ميثاق بنى إسرائيل وبعث منهم اثنى عشر نقيبا: "وَلَقَدْ أَخَذَ اللات مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللات إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللات قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)" واليهود والنصارى هم أبناء اللات وأحباؤه بنص كلامهم: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللات وَأَحِبَّاؤُهُ". وموسى يذكّر قومه بنعم اللات عليهم، فاللات هو الذى جعلهم أنبياء وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤته أحدا سواهم من العالمين: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللات عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللات لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)". والتوراة تشتمل على حُكْم اللات: "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللات ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)". وكذلك الأمر بالنسبة للإنجيل: "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللات فِيهِ".
واللات هو الذى كلم موسى فى الوادى المقدس طُوًى: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللات لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)". وموسى يدعو قومه إلى الاستعانة باللات ويقول إن اللات هو رب العالمين وإنه هو الذى أرسله وإنه لا يمكن أن ينسب إلى اللات شيئا لم يطلب منه أن يدعو قومه إليه ولا يمكن أن يستبدل به إلها آخر، ويحذر السحرة ألا يفتروا على اللات كذبا حتى لا يُسْحِتهم اللات بعذاب: "وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللات إِلاَّ الْحَقَّ"، "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللات إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللات قُلُوبَهُمْ وَاللات لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)"، "قَالَ لَهُمْ مُوسَى (أى للسحرة) وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللات كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى (61)"، "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللات وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للات يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)"، "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللات أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)". ويقول أيضا لقومه بعدما أضلهم السامرى واستنقذهم هو من ذلك الضلال: "إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللات الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)".
والمسيح يدعو قومه إلى عبادة اللات ويتوعد من يكفر باللات بجهنم، وبئس المصير: "وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللات رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللات فَقَدْ حَرَّمَ اللات عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)". واللات هو الذى أنعم على عيسى فأيده بروح القدس
ومكّنه من شفاء البُرْص والعُمْى وخَلْق الطير ونَفْخ الروح فيه وإحياء الموتى بإذنه، وهو الذى يدعوه المسيح أن يُنْزِل عليه هو وحوارييه مائدة من السماء ويطلب من الحواريين أن يتقوه، كما أنه هو الذى سيَمْثُل المسيح أمامه يوم القيامة للحساب مرتجفا خاضعا خاشعا خانعا متبرئا من المثلّثة عَبَدة الصليب: "إِذْ قَالَ اللات يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللات إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللاتمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللات إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللات يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللات قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أعرف مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللات رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللات هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللات عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)". ويقول اليهود إن عُزَيْرًا هو ابن اللات، وهو نفسه ما تقوله النصارى عن المسيح: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللات وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللات". والمسيح يعلن أن اللات هو ربه ورب قومه: "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللات آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30)"، "وَإِنَّ اللات رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا طريق مُسْتَقِيمٌ (36)". وهو يؤكد لقومه أنه رسول اللات: "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللات إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ". وهويستحث همم الحواريين كى ينصروا اللات، فيستجيبون له: "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللات قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللات".
والأوباش لا يتركون نبيا أورسولا إلا شوهوا صورته ولطخوها بطين المجارى الصادر من حلوقهم وأفواههم، حتى إنهم ليسمّون "الأنبياء" فى عنوان سورة "الأنبياء" باسم "البؤساء". ولا جرم أنهم حين يفعلون هذا إنما يجرون مرة أخرى على عرق فيهم أصيل ورثوه عن أجدادهم وآبائهم! أليسوا هم الذين شوه أسلافهم سيرة الأنبياء فلم يَذَروا أى واحد منهم إلا زنّوه بتهمة شنيعة: فمنهم الديوث الذى يقدم زوجته لملك مقابل بعض الأبقار، ومنهم القتّال البارد الضمير، ومنهم الزانى القرارى، ومنهم المتطاول على الله أوالمجدف فى حق الله، ومنهم المرتكس فى تسهيل عبادة الأوثان لزوجاته، ومنهم الممارس لزنا المحارم مع بناته، ومنهم...، ومنهم... إلخ. فهم إذن حين يصنعون ما صنعوه مع القرآن إنما يجرون على سنة آبائهم الخنازير. وماذا ينتظر الإنسان من خنزير من سلالة خنازير؟
ولن نكتفى بالكلام النظرى، بل سنرفده بالنصوص التى لا تعرف أن تكذب ولا تتجمل: يقول سفر "التكوين" عن إبراهيم عليه السلام: "1وَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ هُنَاكَ إِلَى أَرْضِ الْجَنُوبِ، وَسَكَنَ بَيْنَ قَادِشَ وَشُورَ، وَتَغَرَّبَ فِي جَرَارَ. 2وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَارَةَ امْرَأَتِهِ: «هِيَ أُخْتِي». فَأَرْسَلَ أَبِيمَالِكُ مَلِكُ جَرَارَ وَأَخَذَ سَارَةَ. 3فَجَاءَ اللهُ إِلَى أَبِيمَالِكَ فِي حُلْمِ اللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ: «هَا أَنْتَ مَيِّتٌ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذْتَهَا، فَإِنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ بِبَعْل». 4وَلكِنْ لَمْ يَكُنْ أَبِيمَالِكُ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، أَأُمَّةً بَارَّةً تَقْتُلُ؟ 5أَلَمْ يَقُلْ هُوَ لِي: إِنَّهَا أُخْتِي، وَهِيَ أَيْضًا نَفْسُهَا قَالَتْ: هُوَ أَخِي؟ بِسَلاَمَةِ قَلْبِي وَنَقَاوَةِ يَدَيَّ فَعَلْتُ هذَا». 6فَقَالَ لَهُ اللهُ فِي الْحُلْمِ: «أَنَا أَيْضًا عَلِمْتُ أَنَّكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبِكَ فَعَلْتَ هذَا. وَأَنَا أَيْضًا أَمْسَكْتُكَ عَنْ أَنْ تُخْطِئَ إِلَيَّ، لِذلِكَ لَمْ أَدَعْكَ تَمَسُّهَا. 7فَالآنَ رُدَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، فَيُصَلِّيَ لأَجْلِكَ فَتَحْيَا. وَإِنْ كُنْتَ لَسْتَ تَرُدُّهَا، فَاعْلَمْ أَنَّكَ مَوْتًا تَمُوتُ، أَنْتَ وَكُلُّ مَنْ لَكَ»". يعنى لو أن الملك لم يعرف حقيقة أمر سارة فى الحلم لكان قد زنى بها بعد أن قدمها له إبراهيم على طبق من ذهب كأنه، أستغفر الله، ديوثٌ قرنان.
وهو ما تكرر مع ابنه إسحاق، ومن شابه أباه فما ظلم: "1وَكَانَ فِي الأَرْضِ جُوعٌ غَيْرُ الْجُوعِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ، فَذَهَبَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِيمَالِكَ مَلِكِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، إِلَى جَرَارَ. 2وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ وَقَالَ: «لاَ تَنْزِلْ إِلَى مِصْرَ. اسْكُنْ فِي الأَرْضِ الَّتِي أَقُولُ لَكَ. 3تَغَرَّبْ فِي هذِهِ الأَرْضِ فَأَكُونَ مَعَكَ وَأُبَارِكَكَ، لأَنِّي لَكَ وَلِنَسْلِكَ أُعْطِي جَمِيعَ هذِهِ الْبِلاَدِ، وَأَفِي بِالْقَسَمِ الَّذِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ. 4وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكَ جَمِيعَ هذِهِ الْبِلاَدِ، وَتَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، 5مِنْ أَجْلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ لِقَوْلِي وَحَفِظَ مَا يُحْفَظُ لِي: أَوَامِرِي وَفَرَائِضِي وَشَرَائِعِي». 6فَأَقَامَ إِسْحَاقُ فِي جَرَارَ. 7وَسَأَلَهُ أَهْلُ الْمَكَانِ عَنِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: «هِيَ أُخْتِي». لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَقُولَ: «امْرَأَتِي» لَعَلَّ أَهْلَ الْمَكَانِ: «يَقْتُلُونَنِي مِنْ أَجْلِ رِفْقَةَ» لأَنَّهَا كَانَتْ حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ".
أما لوط فجامع ابنتيه واحدة وراء الأخرى دون أن يشعر بخالجة من ندم: "30وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ، وَابْنَتَاهُ مَعَهُ، لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ. 31وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. 32هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». 33فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. 34وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أَيْضًا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». 35فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا، 36فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. 37فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوآبَ»، وَهُوَ أَبُو الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ. 38وَالصَّغِيرَةُ أَيْضًا وَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ عَمِّي»، وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ".
وموسى، حين قتل المصرى، إنما قتله عن عمد وبدم بارد مَثَلُه مَثَلُ أى مجرم عات لا قلب له ولا ضمير لديه، على عكس القرآن الكريم الذى قال إنه "وكزه" فقط، لكن الأقدار قضت عليه أن يموت من الوكزة التى لم يكن وراءها نية القتل: "11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ، 12فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ".
ولا يكتفى موسى بممارسة القتل بدم بارد، بل يخاطب الله بجلافة وقلة أدب، وكأنه بدوى يخاطب بدويا مثله. فحين طلب منه ربه أن يذهب إلى فرعون لاستنقاذ بنى إسرائيل من العبودية: "قَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ». 11فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ؟ 12فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ». 13فَقَالَ: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلُ». 14فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى وَقَالَ: «أَلَيْسَ هَارُونُ اللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ، وَأَيْضًا هَا هُوَ خَارِجٌ لاسْتِقْبَالِكَ. فَحِينَمَا يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ، 15فَتُكَلِّمُهُ وَتَضَعُ الْكَلِمَاتِ فِي فَمِهِ، وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَمَعَ فَمِهِ، وَأُعْلِمُكُمَا مَاذَا تَصْنَعَانِ. 16وَهُوَ يُكَلِّمُ الشَّعْبَ عَنْكَ. وَهُوَ يَكُونُ لَكَ فَمًا، وَأَنْتَ تَكُونُ لَهُ إِلهًا. 17وَتَأْخُذُ فِي يَدِكَ هذِهِ الْعَصَا الَّتِي تَصْنَعُ بِهَا الآيَاتِ»". وطبعا لم يفت القارئ الكريم كيف أن موسى هو إله هارون كما ذكر النص المضحك.
أما داود، الذى يُنْسَب له المسيح فيقال: المسيح بن داود، فها هوذا ما صنع، بارك الله فيه وفى النسب الذى ينتسب إليه المسيح: "2وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا. 3فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». 4فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. 5وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى». 6فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى يُوآبَ يَقُولُ: «أَرْسِلْ إِلَيَّ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ». فَأَرْسَلَ يُوآبُ أُورِيَّا إِلَى دَاوُدَ. 7فَأَتَى أُورِيَّا إِلَيْهِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ عَنْ سَلاَمَةِ يُوآبَ وَسَلاَمَةِ الشَّعْبِ وَنَجَاحِ الْحَرْبِ. 8وَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «انْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ». فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَخَرَجَتْ وَرَاءَهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ. 9وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى بَيْتِهِ. 10فأَخْبَرُوا دَاوُدَ قَائِلِينَ: «لَمْ يَنْزِلْ أُورِيَّا إِلَى بَيْتِهِ». فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَمَا جِئْتَ مِنَ السَّفَرِ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟» 11فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: «إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ». 12فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَقِمْ هُنَا الْيَوْمَ أَيْضًا، وَغَدًا أُطْلِقُكَ». فَأَقَامَ أُورِيَّا فِي أُورُشَلِيمَ ذلِكَ الْيَوْمَ وَغَدَهُ. 13وَدَعَاهُ دَاوُدُ فَأَكَلَ أَمَامَهُ وَشَرِبَ وَأَسْكَرَهُ. وَخَرَجَ عِنْدَ الْمَسَاءِ لِيَضْطَجِعَ فِي مَضْجَعِهِ مَعَ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَإِلَى بَيْتِهِ لَمْ يَنْزِلْ. 14وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبًا إِلَى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيَدِ أُورِيَّا. 15وَكَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ يَقُولُ: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ، وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ». 16وَكَانَ فِي مُحَاصَرَةِ يُوآبَ الْمَدِينَةَ أَنَّهُ جَعَلَ أُورِيَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ رِجَالَ الْبَأْسِ فِيهِ. 17فَخَرَجَ رِجَالُ الْمَدِينَةِ وَحَارَبُوا يُوآبَ، فَسَقَطَ بَعْضُ الشَّعْبِ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ، وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا. 18فَأَرْسَلَ يُوآبُ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِجَمِيعِ أُمُورِ الْحَرْبِ. 19وَأَوْصَى الرَّسُولَ قَائِلاً: «عِنْدَمَا تَفْرَغُ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ الْمَلِكِ عَنْ جَمِيعِ أُمُورِ الْحَرْبِ، 20فَإِنِ اشْتَعَلَ غَضَبُ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَكَ: لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْقِتَالِ؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ مِنْ عَلَى السُّورِ؟ 21مَنْ قَتَلَ أَبِيمَالِكَ بْنَ يَرُبُّوشَثَ؟ أَلَمْ تَرْمِهِ امْرَأَةٌ بِقِطْعَةِ رَحًى مِنْ عَلَى السُّورِ فَمَاتَ فِي تَابَاصَ؟ لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ السُّورِ؟ فَقُلْ: قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا».22فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَدَخَلَ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِكُلِّ مَا أَرْسَلَهُ فِيهِ يُوآبُ. 23وَقَالَ الرَّسُولُ لِدَاوُدَ: «قَدْ تَجَبَّرَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ وَخَرَجُوا إِلَيْنَا إِلَى الْحَقْلِ فَكُنَّا عَلَيْهِمْ إِلَى مَدْخَلِ الْبَابِ. 24فَرَمَى الرُّمَاةُ عَبِيدَكَ مِنْ عَلَى السُّورِ، فَمَاتَ الْبَعْضُ مِنْ عَبِيدِ الْمَلِكِ، وَمَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا». 25فَقَالَ دَاوُدُ لِلرَّسُولِ: « هكَذَا تَقُولُ لِيُوآبَ: لاَ يَسُؤْ فِي عَيْنَيْكَ هذَا الأَمْرُ، لأَنَّ السَّيْفَ يَأْكُلُ هذَا وَذَاكَ. شَدِّدْ قِتَالَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْرِبْهَا. وَشَدِّدْهُ».26فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ أُورِيَّا رَجُلُهَا، نَدَبَتْ بَعْلَهَا. 27وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا. وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ". يا له من نسب يشرّف! زنا وقتل وغدر وخسة ولؤم وبرود أعصاب يليق بجد الإله! وحتى حين كبر الجد وشاخ كان لا يزال على عوائده القديمة. ذلك أنه رجل أصيل يؤمن بالمثل القائل: من فات قديمه تاه!: "1وَشَاخَ الْمَلِكُ دَاوُدُ. تَقَدَّمَ فِي الأَيَّامِ. وَكَانُوا يُدَثِّرُونَهُ بِالثِّيَابِ فَلَمْ يَدْفَأْ. 2فَقَالَ لَهُ عَبِيدُهُ: «لِيُفَتِّشُوا لِسَيِّدِنَا الْمَلِكِ عَلَى فَتَاةٍ عَذْرَاءَ، فَلْتَقِفْ أَمَامَ الْمَلِكِ وَلْتَكُنْ لَهُ حَاضِنَةً وَلْتَضْطَجعْ فِي حِضْنِكَ فَيَدْفَأَ سَيِّدُنَا الْمَلِكُ»".
وعندنا أيضا ابنه سليمان ووقوعه فى حمأة الافتتان بالأوثان التى كانت زوجاته الكافرات يعبدنها فأشرك بالله آلهة أخرى إكراما لخاطرهن رغم أن الله نهى بنى إسرائيل عن الزواج بأمثالهن نهيا باتا: "1وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ: مُوآبِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَأَدُومِيَّاتٍ وَصِيدُونِيَّاتٍ وَحِثِّيَّاتٍ 2مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: «لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ». فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ. 3وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. 4وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. 5فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. 6وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ. 7حِينَئِذٍ بَنَى سُلَيْمَانُ مُرْتَفَعَةً لِكَمُوشَ رِجْسِ الْمُوآبِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورُشَلِيمَ، وَلِمُولَكَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ. 8وَهكَذَا فَعَلَ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ. 9فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ، 10وَأَوْصَاهُ فِي هذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبعَ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ. 11فَقَالَ الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. 12إِلاَّ إِنِّي لاَ أَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ابْنِكَ أُمَزِّقُهَا. 13عَلَى أَنِّي لاَ أُمَزِّقُ مِنْكَ الْمَمْلَكَةَ كُلَّهَا، بَلْ أُعْطِي سِبْطًا وَاحِدًا لابْنِكَ، لأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي، وَلأَجْلِ أُورُشَلِيمَ الَّتِي اخْتَرْتُهَا»".
ومع سليمان كرة أخرى فى "نشيد الأنشاد" حيث نستمع إليه وهو يتغزل فى حبيبته: "1مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ، صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ. 2سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ. 3ثَدْيَاكِ كَخَشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ. 4عُنُقُكِ كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ. عَيْنَاكِ كَالْبِرَكِ فِي حَشْبُونَ عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ. أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ النَّاظِرِ تُجَاهَ دِمَشْقَ. 5رَأْسُكِ عَلَيْكِ مِثْلُ الْكَرْمَلِ، وَشَعْرُ رَأْسِكِ كَأُرْجُوَانٍ. مَلِكٌ قَدْ أُسِرَ بِالْخُصَلِ. 6مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ أَيَّتُهَا الْحَبِيبَةُ بِاللَّذَّاتِ! 7قَامَتُكِ هذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ، وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ. 8قُلْتُ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بِعُذُوقِهَا». وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ، وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ، 9وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ". أى أنهم حين يسيئون للأنبياء إنما يجرون على السُّنّة التى كان أسلافهم يجرون عليها. وغنى عن الذكر أننا نحن المسلمين لا نقول فى الأنبياء والرسل إلا خيرا، وإلا كفرنا.
حتى العذراء الطاهرة مريم لم تسلم من رجس الأوباش محرفى الكلم عن مواضعه. إنهم كالدبة الغبية التى قتلت صاحبها بغبائها لأنها دبة لا عقل لها ولا فهم ولا إحساس ولاضمير، بل دبة، مجرد دبة. وماذا يمكن أن ننتظر من دبة؟ قال الأوباش: "وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ كُسّها فَنَفَخْنَا فِيهِ (في كُسّها) مِنْ رُوحِنَا". أتدرى، أيها القارئ الكريم، ماذا تمثل مريم عندهم؟ إنها أم إلههم. ومع ذلك يتحدثون عن "كسها". نعم "كسها" دون تورية أو تلميح، بل بتلك اللفظة الفظة الفجة العارية، ظنا من الأوغاد أنهم يكيدون للمسلمين، غير دارين أنهم إنما يفضحون أنفسهم ويجدفون فى حق إلههم وأم إلههم. ألم أقل لكم إنهم أوباش؟
كما أنهم قد أَبَوْا إلا أن يسجلوا خزيهم بأيديهم فأضافوا إلى النص القرآنى العظيم فى صورة "الفاتحة" ما يفيد أنهم هم الضالون، وأن اليهود هم المغضوب عليهم رغم أن القرآن لم يحددهم ولا حدد اليهود، بل اكتفى بذكر ابتهال المسلمين إلى الله أن يهديهم وأن يسلك بهم سبيل الذين أنعم سبحانه وتعالى عليهم لا سبيل المغضوب عليهم ولا الضالين، فكتب المدلسون محرفو الكلم عن مواضعه إنهم هم اليهود والنصارى. لقد أََبَوْا إلا أن يسيروا سيرة أسلافهم المناكيد فى تحريف كلام الله، إذ الطبع غلاب، ومهما تكن عند خنزير من خليقة، وإنْ خالها تخفى على الناس فإن الله لا بد فاضحه فى العالمين ولو لاذ بجوف المحار فى أعمق أعماق البحار. قال الأوباش: "اهْدِنَا الطريق الْمُسْتَقِيمَ (6) طريق الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ كالمسلمين غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من اليهود وَلا الضَّالِّينَ من المسيحين (7)".
وكذلك الأمر فى الإنجيل، فهو، حسبما كتبوا، منزل من عند اللات: "الم (1) اللات لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ". والواقع أن ما كتبه الأوباش إنما يعبر رغم هذا عن واقع كتبهم، إذ التوراة والإنجيل الموجودان الآن ليسا هما التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله على رسوليه الكريمين: موسى وعيسى عليهماالسلام، بل توراة وإنجيل كتبهما بشرٌ وجاء البهائم فزعموا أنهما من عند الله، على حين أنهما من وحى الشيطان، فحق عليهما القول بأنهما قد نزلا من لدن اللات كما قال الأوباش. خلاصة القول أن القرآن يتحدث عن التوراة والإنجيل غير المزيفين فيقول إنهما تنزيل من رب العالمين، أما الأوباش ذوو الأظلاف فلمعرفتهم أن أسلافهم قد عبثوا بهذين الكتابين قد أقروا هنا أنهما وحى من اللات. فهنيئا لكم يا أوباش!
* * *
ثمة أمر آخر هو البذاءة السادة فيما يسمى بــ"القرآن الشعبى"، وهى الألفاظ والعبارات والمعانى التى أدخلها الأوباش إلى نص القرآن الكريم: إما على سبيل التفسير لكلامه الطاهر العفيف الشريف النظيف الذى لم يتعود أمثالهم على مثله، مثل المومس التى نشأت فى وسط كله قذارة ودعارة، فهى لا تستطيع مهما حاولت وتصنعت أن تتطهر من تأثيرات ذلك الوسط، سواء فى سلوكها وتصرفاتها أو فى ألفاظها وأفكارها، وإما على سبيل تغيير الألفاظ والعبارات والمعانى القرآنية بألفاظ وعبارات أخرى سوقية منحطة مما لايعرف الأوباش سواه. ووجه العجب فى ذلك أن مرتكبى هذه البذاءة المرتكسين فى حمأتها يكذبون فيتهمون الإسلام بأنه دين العرى والفجاجة والاهتمام بالجنس، ظنا منهم أن بمستطاعهم إيهام الناس بأن الجنس شىء مستقذر فى حد ذاته وليس غريزة عامة فى كل الكائنات الحية لا بد من إشباعها حتى تستمر الحياة من جهة، وحتى تستمر على نحو نظيف من جهة أخرى لأنه إذا لم يتم إشباع الغريزة على نحو شرعى فلسوف يتم فى الحرام رغما عن أنف الجميع. أما البذاءة فإن القرآن الكريم ماثل أمامنا، وليس فيه لفظة أو فكرة واحدة يمكن أن توصف بأنها خارجة، ودعك من أن تكون بذيئة، على عكس الكتاب المقدس، الذى سوف نورد للقارئ بعض ألطافه التى يطفح بها فى هذا السبيل. وهو دليل على أن هؤلاء الأوباش حين يبذؤون ويستفرغون قىء بذاءتهم لتلويث القرآن إنما يمارسون شيئا مألوفا لديهم، وكل إناء إنما ينضح بما فيه.
فهناك مثلا سِفْرٌ فى الكتاب المقدس اسمه سفر "أستير"، وهو اسم فتاة يهودية جُهِّزَتْ لإرواء شهوة ملك فارس أحشويرش ودُلِّكَتْ وطُيِّبَتْ سنة كاملة لا تنقص شهرا ولا أسبوعا ولا يوما كيما تحظى فى عينيه بالرضا، وماأدراك ما رضا الملوك فى مثل هذه الظروف؟ ما علينا. تعالوا نقرأ ونَعِشْ لبعض الوقت مع هذا الدنس. لقد أراد الملك من زوجته أن تظهر فى حفل ملوكى دعا له الشعوب والرؤساء رغبة منه فى استعراض مفاتنها أمامهم والمباهاة بجمالها وكأننا فى سوق للنخاسة أو فى بيت من بيوت القِوَادة والدعارة لا فى قصر ملكى، وقصر ملكى شرقى. لكن الملكة لم ترض أن تعامَل على هذا النحو ورفضت الظهور فى الحفل احتراما منها لنفسها واستمساكا بكرامتها، فما كان من الملك إلا أن أراد إذلالها والاستعاضة عنها بجميلات فتيات المملكة بعد أن يتولى أمرهن الخصيان الموكلون بأمثال هذه المهمات البائسة. ولنقرأ: "10فِي الْيَوْمِ السَّابعِ لَمَّا طَابَ قَلْبُ الْمَلِكِ بِالْخَمْرِ، قَالَ لِمَهُومَانَ وَبِزْثَا وَحَرْبُونَا وَبِغْثَا وَأَبَغْثَا وَزِيثَارَ وَكَرْكَسَ، الْخِصْيَانِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَخْدِمُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ، 11أَنْ يَأْتُوا بِوَشْتِي الْمَلِكَةِ إِلَى أَمَامِ الْمَلِكِ بِتَاجِ الْمُلْكِ، لِيُرِيَ الشُّعُوبَ وَالرُّؤَسَاءَ جَمَالَهَا، لأَنَّهَا كَانَتْ حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ. 12فَأَبَتِ الْمَلِكَةُ وَشْتِي أَنْ تَأْتِيَ حَسَبَ أَمْرِ الْمَلِكِ عَنْ يَدِ الْخِصْيَانِ، فَاغْتَاظَ الْمَلِكُ جِدًّا وَاشْتَعَلَ غَضَبُهُ فِيهِ. 13وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْحُكَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالأَزْمِنَةِ، لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ أَمْرُ الْمَلِكِ نَحْوَ جَمِيعِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْقَضَاءِ، 14وَكَانَ الْمُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ كَرْشَنَا وَشِيثَارَ وَأَدْمَاثَا وَتَرْشِيشَ وَمَرَسَ وَمَرْسَنَا وَمَمُوكَانَ، سَبْعَةَ رُؤَسَاءِ فَارِسَ وَمَادِي الَّذِينَ يَرَوْنَ وَجْهَ الْمَلِكِ وَيَجْلِسُونَ أَوَّلاً فِي الْمُلْكِ: 15«حَسَبَ السُّنَّةِ، مَاذَا يُعْمَلُ بِالْمَلِكَةِ وَشْتِي لأَنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ كَقَوْلِ الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ عَنْ يَدِ الْخِصْيَانِ؟» 16فَقَالَ مَمُوكَانُ أَمَامَ الْمَلِكِ وَالرُّؤَسَاءِ: «لَيْسَ إِلَى الْمَلِكِ وَحْدَهُ أَذْنَبَتْ وَشْتِي الْمَلِكَةُ، بَلْ إِلَى جَمِيعِ الرُّؤَسَاءِ وَجَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ فِي كُلِّ بُلْدَانِ الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ. 17لأَنَّهُ سَوْفَ يَبْلُغُ خَبَرُ الْمَلِكَةِ إِلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ، حَتَّى يُحْتَقَرَ أَزْوَاجُهُنَّ فِي أَعْيُنِهِنَّ عِنْدَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ أَحَشْوِيرُوشَ أَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِوَشْتِي الْمَلِكَةِ إِلَى أَمَامِهِ فَلَمْ تَأْتِ. 18وَفِي هذَا الْيَوْمِ تَقُولُهُ رَئِيسَاتُ فَارِسَ وَمَادِي اللَّوَاتِي سَمِعْنَ خَبَرَ الْمَلِكَةِ لِجَمِيعِ رُؤَسَاءِ الْمَلِكِ. وَمِثْلُ ذلِكَ احْتِقَارٌ وَغَضَبٌ. 19فَإِذَا حَسُنَ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَلْيَخْرُجْ أَمْرٌ مَلِكِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَلْيُكْتَبْ فِي سُنَنِ فَارِسَ وَمَادِي فَلاَ يَتَغَيَّرَ، أَنْ لاَ تَأْتِ وَشْتِي إِلَى أَمَامِ الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ، وَلْيُعْطِ الْمَلِكُ مُلْكَهَا لِمَنْ هِيَ أَحْسَنُ مِنْهَا. 20فَيُسْمَعُ أَمْرُ الْمَلِكِ الَّذِي يُخْرِجُهُ فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ لأَنَّهَا عَظِيمَةٌ، فَتُعْطِي جَمِيعُ النِّسَاءِ الْوَقَارَ لأَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْكَبِيرِ إِلَى الصَّغِيرِ». 21فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي أَعْيُنِ الْمَلِكِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَعَمِلَ الْمَلِكُ حَسَبَ قَوْلِ مَمُوكَانَ. 22وَأَرْسَلَ كُتُبًا إِلَى كُلِّ بُلْدَانِ الْمَلِكِ، إِلَى كُلِّ بِلاَدٍ حَسَبَ كِتَابَتِهَا، وَإِلَى كُلِّ شَعْبٍ حَسَبَ لِسَانِهِ، لِيَكُونَ كُلُّ رَجُل مُتَسَلِّطًا فِي بَيْتِهِ، وَيُتَكَلَّمَ بِذلِكَ بِلِسَانِ شَعْبِهِ. 1بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ لَمَّا خَمِدَ غَضَبُ الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ، ذَكَرَ وَشْتِي وَمَا عَمِلَتْهُ وَمَا حُتِمَ بِهِ عَلَيْهَا. 2فَقَالَ غِلْمَانُ الْمَلِكِ الَّذِينَ يَخْدِمُونَهُ: «لِيُطْلَبْ لِلْمَلِكِ فَتَيَاتٌ عَذَارَى حَسَنَاتُ الْمَنْظَرِ، 3وَلْيُوَكِّلِ الْمَلِكُ وُكَلاَءَ فِي كُلِّ بِلاَدِ مَمْلَكَتِهِ لِيَجْمَعُوا كُلَّ الْفَتَيَاتِ الْعَذَارَى الْحَسَنَاتِ الْمَنْظَرِ إِلَى شُوشَنَ الْقَصْرِ، إِلَى بَيْتِ النِّسَاءِ، إِلَى يَدِ هَيْجَايَ خَصِيِّ الْمَلِكِ حَارِسِ النِّسَاءِ، وَلْيُعْطَيْنَ أَدْهَانَ عِطْرِهِنَّ. 4وَالْفَتَاةُ الَّتِي تَحْسُنُ فِي عَيْنَيِ الْمَلِكِ، فَلْتَمْلُكْ مَكَانَ وَشْتِي». فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيِ الْمَلِكِ، فَعَمِلَ هكَذَا.
5كَانَ فِي شُوشَنَ الْقَصْرِ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ اسْمُهُ مُرْدَخَايُ بْنُ يَائِيرَ بْنِ شَمْعِي بْنِ قَيْسٍ، رَجُلٌ يَمِينِيٌّ، 6قَدْ سُبِيَ مِنْ أُورُشَلِيمَ مَعَ السَّبْيِ الَّذِي سُبِيَ مَعَ يَكُنْيَا مَلِكِ يَهُوذَا الَّذِي سَبَاهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ مَلِكُ بَابَِلَ. 7وَكَانَ مُرَبِّيًا لِهَدَسَّةَ أَيْ أَسْتِيرَ بِنْتِ عَمِّهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلاَ أُمٌّ. وَكَانَتِ الْفَتَاةُ جَمِيلَةَ الصُّورَةِ وَحَسَنَةَ الْمَنْظَرِ، وَعِنْدَ مَوْتِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا اتَّخَذَهَا مُرْدَخَايُ لِنَفْسِهِ ابْنَةً. 8فَلَمَّا سُمِعَ كَلاَمُ الْمَلِكِ وَأَمْرُهُ، وَجُمِعَتْ فَتَيَاتٌ كَثِيرَاتٌ إِلَى شُوشَنَ الْقَصْرِ إِلَى يَدِ هَيْجَايَ، أُخِذَتْ أَسْتِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَلِكِ إِلَى يَدِ هَيْجَايَ حَارِسِ النِّسَاءِ. 9وَحَسُنَتِ الْفَتَاةُ فِي عَيْنَيْهِ وَنَالَتْ نِعْمَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَادَرَ بِأَدْهَانِ عِطْرِهَا وَأَنْصِبَتِهَا لِيَعْطِيَهَا إِيَّاهَا مَعَ السَّبْعِ الْفَتَيَاتِ الْمُخْتَارَاتِ لِتُعْطَى لَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَنَقَلَهَا مَعَ فَتَيَاتِهَا إِلَى أَحْسَنِ مَكَانٍ فِي بَيْتِ النِّسَاءِ. 10وَلَمْ تُخْبِرْ أَسْتِيرُ عَنْ شَعْبِهَا وَجِنْسِهَا لأَنَّ مُرْدَخَايَ أَوْصَاهَا أَنْ لاَ تُخْبِرَ. 11وَكَانَ مُرْدَخَايُ يَتَمَشَّى يَوْمًا فَيَوْمًا أَمَامَ دَارِ بَيْتِ النِّسَاءِ، لِيَسْتَعْلِمَ عَنْ سَلاَمَةِ أَسْتِيرَ وَعَمَّا يُصْنَعُ بِهَا. 12وَلَمَّا بَلَغَتْ نَوْبَةُ فَتَاةٍ فَفَتَاةٍ لِلدُّخُولِ إِلَى الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَسَبَ سُنَّةِ النِّسَاءِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، لأَنَّهُ هكَذَا كَانَتْ تُكْمَلُ أَيَّامُ تَعَطُّرِهِنَّ، سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِزَيْتِ الْمُرِّ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ بِالأَطْيَابِ وَأَدْهَانِ تَعَطُّرِ النِّسَاءِ. 13وَهكَذَا كَانَتَ كُلُّ فَتَاةٍ تَدْخُلُ إِلَى الْمَلِكِ. وَكُلُّ مَا قَالَتْ عَنْهُ أُعْطِيَ لَهَا لِلدُّخُولِ مَعَهَا مِنْ بَيْتِ النِّسَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَلِكِ. 14فِي الْمَسَاءِ دَخَلَتْ وَفِي الصَّبَاحِ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِ النِّسَاءِ الثَّانِي إِلَى يَدِ شَعَشْغَازَ خَصِيِّ الْمَلِكِ حَارِسِ السَّرَارِيِّ. لَمْ تَعُدْ تَدْخُلْ إِلَى الْمَلِكِ إِلاَّ إِذَا سُرَّ بِهَا الْمَلِكُ وَدُعِيَتْ بِاسْمِهَا.
15وَلَمَّا بَلَغَتْ نَوْبَةُ أَسْتِيرَ ابْنَةِ أَبَيِحَائِلَ عَمِّ مُرْدَخَايَ الَّذِي اتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ ابْنَةً لِلدُّخُولِ إِلَى الْمَلِكِ، لَمْ تَطْلُبْ شَيْئًا إِلاَّ مَا قَالَ عَنْهُ هَيْجَايُ خَصِيُّ الْمَلِكِ حَارِسُ النِّسَاءِ. وَكَانَتْ أَسْتِيرُ تَنَالُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْ كُلِّ مَنْ رَآهَا. 16وَأُخِذَتْ أَسْتِيرُ إِلَى الْمَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ إِلَى بَيْتِ مُلْكِهِ فِي الشَّهْرِ الْعَاشِرِ، هُوَ شَهْرُ طِيبِيتَ، فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِمُلْكِهِ. 17فَأَحَبَّ الْمَلِكُ أَسْتِيرَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ، وَوَجَدَتْ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا قُدَّامَهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الْعَذَارَى، فَوَضَعَ تَاجَ الْمُلْكِ عَلَى رَأْسِهَا وَمَلَّكَهَا مَكَانَ وَشْتِي. 18وَعَمِلَ الْمَلِكُ وَلِيمَةً عَظِيمَةً لِجَمِيعِ رُؤَسَائِهِ وَعَبِيدِهِ، وَلِيمَةَ أَسْتِيرَ. وَعَمِلَ رَاحَةً لِلْبِلاَدِ وَأَعْطَى عَطَايَا حَسَبَ كَرَمِ الْمَلِكِ. 19وَلَمَّا جُمِعَتِ الْعَذَارَى ثَانِيَةً كَانَ مُرْدَخَايُ جَالِسًا بِبَابِ الْمَلِكِ. 20وَلَمْ تَكُنْ أَسْتِيرُ أَخْبَرَتْ عَنْ جِنْسِهَا وَشَعْبِهَا كَمَا أَوْصَاهَا مُرْدَخَايُ. وَكَانَتْ أَسْتِيرُ تَعْمَلُ حَسَبَ قَوْلِ مُرْدَخَايَ كَمَا كَانَتْ فِي تَرْبِيَتِهَا عِنْدَهُ... إلخ". وللقارئ أن يتخيل ماذا يمكن أن تفعله فتاة يهودية رُبِّيَتْ بهذه الطريقة لمثل ذلك اليوم وجاء الآن وقت تقديمها للملك وليمة ساخنة تُسِيل اللعاب وتفغر الأفواه وتجعل العيون تخرج من محاجرها. وبالمناسبة فاليهود يعدونها من بطلاتهم، وكذلك الكتاب المقدس. أنعم وأكرم! هكذا تكون قصص الكتب المقدسة، وإلا فلا!
أما ما يقوله الرب نفسه لحزقيال النبى فى السِّفْر المسمى باسمه فهو أشنع. يقول ذلك النبى: "1وَكَانَتْ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلَةً: 2«يَا ابْنَ آدَمَ، عَرِّفْ أُورُشَلِيمَ بِرَجَاسَاتِهَا، 3وَقُلْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لأُورُشَلِيمَ: مَخْرَجُكِ وَمَوْلِدُكِ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ. أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ. 4أَمَّا مِيلاَدُكِ يَوْمَ وُلِدْتِ فَلَمْ تُقْطَعْ سُرَّتُكِ، وَلَمْ تُغْسَلِي بِالْمَاءِ لِلتَّنَظُّفِ، وَلَمْ تُمَلَّحِي تَمْلِيحًا، وَلَمْ تُقَمَّطِي تَقْمِيطًا. 5لَمْ تَشْفُقْ عَلَيْكِ عَيْنٌ لِتَصْنَعَ لَكِ وَاحِدَةً مِنْ هذِهِ لِتَرِقَّ لَكِ، بَلْ طُرِحْتِ عَلَى وَجْهِ الْحَقْلِ بِكَرَاهَةِ نَفْسِكِ يَوْمَ وُلِدْتِ. 6فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ، فَقُلْتُ لَكِ: بِدَمِكِ عِيشِي، قُلْتُ لَكِ: بِدَمِكِ عِيشِي. 7جَعَلْتُكِ رَبْوَةً كَنَبَاتِ الْحَقْلِ، فَرَبَوْتِ وَكَبُرْتِ، وَبَلَغْتِ زِينَةَ الأَزْيَانِ. نَهَدَ ثَدْيَاكِ، وَنَبَتَ شَعْرُكِ وَقَدْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 8فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ، وَحَلَفْتُ لَكِ، وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِي. 9فَحَمَّمْتُكِ بِالْمَاءِ، وَغَسَلْتُ عَنْكِ دِمَاءَكِ، وَمَسَحْتُكِ بِالزَّيْتِ، 10وَأَلْبَسْتُكِ مُطَرَّزَةً، وَنَعَلْتُكِ بِالتُّخَسِ، وَأَزَّرْتُكِ بِالْكَتَّانِ، وَكَسَوْتُكِ بَزًّا، 11وَحَلَّيْتُكِ بِالْحُلِيِّ، فَوَضَعْتُ أَسْوِرَةً فِي يَدَيْكِ وَطَوْقًا فِي عُنُقِكِ. 12وَوَضَعْتُ خِزَامَةً فِي أَنْفِكِ وَأَقْرَاطًا فِي أُذُنَيْكِ وَتَاجَ جَمَال عَلَى رَأْسِكِ. 13فَتَحَلَّيْتِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِبَاسُكِ الْكَتَّانُ وَالْبَزُّ وَالْمُطَرَّزُ. وَأَكَلْتِ السَّمِيذَ وَالْعَسَلَ وَالزَّيْتَ، وَجَمُلْتِ جِدًّا جِدًّا، فَصَلُحْتِ لِمَمْلَكَةٍ. 14وَخَرَجَ لَكِ اسْمٌ فِي الأُمَمِ لِجَمَالِكِ، لأَنَّهُ كَانَ كَامِلاً بِبَهَائِي الَّذِي جَعَلْتُهُ عَلَيْكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ.
15«فَاتَّكَلْتِ عَلَى جَمَالِكِ، وَزَنَيْتِ عَلَى اسْمِكِ، وَسَكَبْتِ زِنَاكِ عَلَى كُلِّ عَابِرٍ فَكَانَ لَهُ. 16وَأَخَذْتِ مِنْ ثِيَابِكِ وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَاتٍ مُوَشَّاةٍ، وَزَنَيْتِ عَلَيْهَا. أَمْرٌ لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يَكُنْ. 17وَأَخَذْتِ أَمْتِعَةَ زِينَتِكِ مِنْ ذَهَبِي وَمِنْ فِضَّتِي الَّتِي أَعْطَيْتُكِ، وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ صُوَرَ ذُكُورٍ وَزَنَيْتِ بِهَا. 18وَأَخَذْتِ ثِيَابَكِ الْمُطَرَّزَةَ وَغَطَّيْتِهَا بِهَا، وَوَضَعْتِ أَمَامَهَا زَيْتِي وَبَخُورِي. 19وَخُبْزِي الَّذِي أَعْطَيْتُكِ، السَّمِيذَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ الَّذِي أَطْعَمْتُكِ، وَضَعْتِهَا أَمَامَهَا رَائِحَةَ سُرُورٍ. وَهكَذَا كَانَ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ.
20«أَخَذْتِ بَنِيكِ وَبَنَاتِكِ الَّذِينَ وَلَدْتِهِمْ لِي، وَذَبَحْتِهِمْ لَهَا طَعَامًا. أَهُوَ قَلِيلٌ مِنْ زِنَاكِ 21أَنَّكِ ذَبَحْتِ بَنِيَّ وَجَعَلْتِهِمْ يَجُوزُونَ فِي النَّارِ لَهَا؟ 22وَفِي كُلِّ رَجَاسَاتِكِ وَزِنَاكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ، إِذْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً وَكُنْتِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ. 23وَكَانَ بَعْدَ كُلِّ شَرِّكِ. وَيْلٌ، وَيْلٌ لَكِ! يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، 24أَنَّكِ بَنَيْتِ لِنَفْسِكِ قُبَّةً وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَةً فِي كُلِّ شَارِعٍ. 25فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ، وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ. 26وَزَنَيْتِ مَعَ جِيرَانِكِ بَنِي مِصْرَ الْغِلاَظِ اللَّحْمِ، وَزِدْتِ فِي زِنَاكِ لإِغَاظَتِي.
27«فَهأَنَذَا قَدْ مَدَدْتُ يَدِي عَلَيْكِ، وَمَنَعْتُ عَنْكِ فَرِيضَتَكِ، وَأَسْلَمْتُكِ لِمَرَامِ مُبْغِضَاتِكِ، بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، اللَّوَاتِي يَخْجَلْنَ مِنْ طَرِيقِكِ الرَّذِيلَةِ. 28وَزَنَيْتِ مَعَ بَنِي أَشُّورَ، إِذْ كُنْتِ لَمْ تَشْبَعِي فَزَنَيْتِ بِهِمْ، وَلَمْ تَشْبَعِي أَيْضًا. 29وَكَثَّرْتِ زِنَاكِ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَى أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَبِهذَا أَيْضًا لَمْ تَشْبَعِي. 30مَا أَمْرَضَ قَلْبَكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، إِذْ فَعَلْتِ كُلَّ هذَا فِعْلَ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ سَلِيطَةٍ، 31بِبِنَائِكِ قُبَّتَكِ فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق، وَصُنْعِكِ مُرْتَفَعَتَكِ فِي كُلِّ شَارِعٍ. وَلَمْ تَكُونِي كَزَانِيَةٍ، بَلْ مُحْتَقَرةً الأُجْرَةَ. 32أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ الْفَاسِقَةُ، تَأْخُذُ أَجْنَبِيِّينَ مَكَانَ زَوْجِهَا. 33لِكُلِّ الزَّوَانِي يُعْطُونَ هَدِيَّةً، أَمَّا أَنْتِ فَقَدْ أَعْطَيْتِ كُلَّ مُحِبِّيكِ هَدَايَاكِ، وَرَشَيْتِهِمْ لِيَأْتُوكِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلزِّنَا بِكِ. 34وَصَارَ فِيكِ عَكْسُ عَادَةِ النِّسَاءِ فِي زِنَاكِ، إِذْ لَمْ يُزْنَ وَرَاءَكِ، بَلْ أَنْتِ تُعْطِينَ أُجْرَةً وَلاَ أُجْرَةَ تُعْطَى لَكِ، فَصِرْتِ بِالْعَكْسِ.
35«فَلِذلِكَ يَا زَانِيَةُ اسْمَعِي كَلاَمَ الرَّبِّ: 36هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ أُنْفِقَ نُحَاسُكِ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُكِ بِزِنَاكِ بِمُحِبِّيكِ وَبِكُلِّ أَصْنَامِ رَجَاسَاتِكِ، وَلِدِمَاءِ بَنِيكِ الَّذِينَ بَذَلْتِهِمْ لَهَا، 37لِذلِكَ هأَنَذَا أَجْمَعُ جَمِيعَ مُحِبِّيكِ الَّذِينَ لَذَذْتِ لَهُمْ، وَكُلَّ الَّذِينَ أَحْبَبْتِهِمْ مَعَ كُلِّ الَّذِينَ أَبْغَضْتِهِمْ، فَأَجْمَعُهُمْ عَلَيْكِ مِنْ حَوْلِكِ، وَأَكْشِفُ عَوْرَتَكِ لَهُمْ لِيَنْظُرُوا كُلَّ عَوْرَتِكِ. 38وَأَحْكُمُ عَلَيْكِ أَحْكَامَ الْفَاسِقَاتِ السَّافِكَاتِ الدَّمِ، وَأَجْعَلُكِ دَمَ السَّخْطِ وَالْغَيْرَةِ. 39وَأُسَلِّمُكِ لِيَدِهِمْ فَيَهْدِمُونَ قُبَّتَكِ وَيُهَدِّمُونَ مُرْتَفَعَاتِكِ، وَيَنْزِعُونَ عَنْكِ ثِيَابَكِ، وَيَأْخُذُونَ أَدَوَاتِ زِينَتِكِ، وَيَتْرُكُونَكِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 40وَيُصْعِدُونَ عَلَيْكِ جَمَاعَةً، وَيَرْجُمُونَكِ بِالْحِجَارَةِ وَيَقْطَعُونَكِ بِسُيُوفِهِمْ، 41وَيُحْرِقُونَ بُيُوتَكِ بِالنَّارِ، وَيُجْرُونَ عَلَيْكِ أَحْكَامًا قُدَّامَ عُيُونِ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ. وَأَكُفُّكِ عَنِ الزِّنَا، وَأَيْضًا لاَ تُعْطِينَ أُجْرَةً بَعْدُ. 42وَأُحِلُّ غَضَبِي بِكِ فَتَنْصَرِفُ غَيْرَتِي عَنْكِ، فَأَسْكُنُ وَلاَ أَغْضَبُ بَعْدُ. 43مِنْ أَجْلِ أَنَّكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ، بَلْ أَسْخَطْتِنِي فِي كُلِّ هذِهِ، فَهأَنَذَا أَيْضًا أَجْلِبُ طَرِيقَكِ عَلَى رَأْسِكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَلاَ تَفْعَلِينَ هذِهِ الرَّذِيلَةَ فَوْقَ رَجَاسَاتِكِ كُلِّهَا...
1وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: 2«يَا ابْنَ آدَمَ، كَانَ امْرَأَتَانِ ابْنَتَا أُمٍّ وَاحِدَةٍ، 3وَزَنَتَا بِمِصْرَ. فِي صِبَاهُمَا زَنَتَا. هُنَاكَ دُغْدِغَتْ ثُدِيُّهُمَا، وَهُنَاكَ تَزَغْزَغَتْ تَرَائِبُ عُذْرَتِهِمَا. 4وَاسْمُهُمَا: أُهُولَةُ الْكَبِيرَةُ، وَأُهُولِيبَةُ أُخْتُهَا. وَكَانَتَا لِي، وَوَلَدَتَا بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَاسْمَاهُمَا: السَّامِرَةُ «أُهُولَةُ»، وَأُورُشَلِيمُ «أُهُولِيبَةُ». 5وَزَنَتْ أُهُولَةُ مِنْ تَحْتِي وَعَشِقَتْ مُحِبِّيهَا، أَشُّورَ الأَبْطَالَ 6اللاَّبِسِينَ الأَسْمَانْجُونِيَّ وُلاَةً وَشِحَنًا، كُلُّهُمْ شُبَّانُ شَهْوَةٍ، فُرْسَانٌ رَاكِبُونَ الْخَيْلَ. 7فَدَفَعَتْ لَهُمْ عُقْرَهَا لِمُخْتَارِي بَنِي أَشُّورَ كُلِّهِمْ، وَتَنَجَّسَتْ بِكُلِّ مَنْ عَشِقَتْهُمْ بِكُلِّ أَصْنَامِهِمْ. 8وَلَمْ تَتْرُكْ زِنَاهَا مِنْ مِصْرَ أَيْضًا، لأَنَّهُمْ ضَاجَعُوهَا فِي صِبَاهَا، وَزَغْزَغُوا تَرَائِبَ عِذْرَتِهَا وَسَكَبُوا عَلَيْهَا زِنَاهُمْ. 9لِذلِكَ سَلَّمْتُهَا لِيَدِ عُشَّاقِهَا، لِيَدِ بَنِي أَشُّورَ الَّذِينَ عَشِقَتْهُمْ. 10هُمْ كَشَفُوا عَوْرَتَهَا. أَخَذُوا بَنِيهَا وَبَنَاتِهَا، وَذَبَحُوهَا بِالسَّيْفِ، فَصَارَتْ عِبْرَةً لِلنِّسَاءِ. وَأَجْرَوْا عَلَيْهَا حُكْمًا.
11«فَلَمَّا رَأَتْ أُخْتُهَا أُهُولِيبَةُ ذلِكَ أَفْسَدَتْ فِي عِشْقِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، وَفِي زِنَاهَا أَكْثَرَ مِنْ زِنَا أُخْتِهَا. 12عَشِقَتْ بَنِي أَشُّورَ الْوُلاَةَ وَالشِّحَنَ الأَبْطَالَ اللاَّبِسِينَ أَفْخَرَ لِبَاسٍ، فُرْسَانًا رَاكِبِينَ الْخَيْلَ كُلُّهُمْ شُبَّانُ شَهْوَةٍ. 13فَرَأَيْتُ أَنَّهَا قَدْ تَنَجَّسَتْ، وَلِكِلْتَيْهِمَا طَرِيقٌ وَاحِدَةٌ. 14وَزَادَتْ زِنَاهَا. وَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَى رِجَال مُصَوَّرِينَ عَلَى الْحَائِطِ، صُوَرُ الْكَلْدَانِيِّينَ مُصَوَّرَةًٍ بِمُغْرَةٍ، 15مُنَطَّقِينَ بِمَنَاطِقَ عَلَى أَحْقَائِهِمْ، عَمَائِمُهُمْ مَسْدُولَةٌ عَلَى رُؤُوسِهِمْ. كُلُّهُمْ فِي الْمَنْظَرِ رُؤَسَاءُ مَرْكَبَاتٍ شِبْهُ بَنِي بَابِلَ الْكَلْدَانِيِّينَ أَرْضُ مِيلاَدِهِمْ، 16عَشِقَتْهُمْ عِنْدَ لَمْحِ عَيْنَيْهَا إِيَّاهُمْ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ رُسُلاً إِلَى أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ. 17فَأَتَاهَا بَنُو بَابِلَ فِي مَضْجَعِ الْحُبِّ وَنَجَّسُوهَا بِزِنَاهُمْ، فَتَنَجَّسَتْ بِهِمْ، وجَفَتْهُمْ نَفْسُهَا. 18وَكَشَفَتْ زِنَاهَا وَكَشَفَتْ عَوْرَتَهَا، فَجَفَتْهَا نَفْسِي، كَمَا جَفَتْ نَفْسِي أُخْتَهَا. 19وَأَكْثَرَتْ زِنَاهَا بِذِكْرِهَا أَيَّامَ صِبَاهَا الَّتِي فِيهَا زَنَتْ بِأَرْضِ مِصْرَ. 20وَعَشِقَتْ مَعْشُوقِيهِمِ الَّذِينَ لَحْمُهُمْ كَلَحْمِ الْحَمِيرِ وَمَنِيُّهُمْ كَمَنِيِّ الْخَيْلِ. 21وَافْتَقَدْتِ رَذِيلَةَ صِبَاكِ بِزَغْزَغَةِ الْمِصْرِيِّينَ تَرَائِبَكِ لأَجْلِ ثَدْيِ صِبَاكِ".
بالله أهذا إله؟ يا له إذن من إله مسكين مرغت زوجته شرفه فى الرَّغَام، وهو لا يستطيع إزاءها شيئا إلا أن ينهال عليها، والزَّبَد يتطاير من فمه، بالشتائم البذيئة التى لا تقدم ولا تؤخر لأنها فعلت وتفعل وسوف تفعل كل ما يحلو لها رغم هذا الغضب الذى لا يصلح لشىء إلا أن يبله صاحبه فى كوب من الماء ويشربه على الريق. وعلى رأى المثل العربى: "أوسعتُهم شتما وفازوا بالإبل"! أما البذاءات والشتائم المنتقاة وهتك الأستار عن السُّرَر والأثداء والأفخاذ والكلام عن العشاق ومَنِىّ الخيول والزغزغات والقرصات والوشوشات والتأوهات ومناظر الإستربتيز المخجلة فهو كلام العاجز الذى لا يجنى شيئا من وراء ذلك إلا فضح نفسه وأهل بيته وتسميع الدنيا كلها بما حصل، وما حصل قد وصل، والحكاية كلها بَصَل!
وإ ذا كان هذا هو كلام الرب فما الذى يُنْتَظَر أن يكون عليه كلام أحد أنبياء ذلك الرب؟ الحق أنه ما من موقف كهذا الموقف يصدق عليه قول الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا* فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ
والواقع أنه ليس رقصا فحسب، بل أشياء تتجاوز الرقص بأزمان. على أية حال فلنقرأ بعضا مما ينسبونه إلى نبى الله الكريم عليه الصلاة والسلام، وهو من مفتتح سفر "نشيد الأنشاد" خبط لزق: "1نَشِيدُ الأَنْشَادِ الَّذِي لِسُلَيْمَانَ: 2لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ. 3لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى. 4اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ. أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ. نَذْكُرُ حُبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ. بِالْحَقِّ يُحِبُّونَكَ.
5أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، كَخِيَامِ قِيدَارَ، كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ. 6لاَ تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ، لأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي. بَنُو أُمِّي غَضِبُوا عَلَيَّ. جَعَلُونِي نَاطُورَةَ الْكُرُومِ. أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ. 7أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى، أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ. لِمَاذَا أَنَا أَكُونُ كَمُقَنَّعَةٍ عِنْدَ قُطْعَانِ أَصْحَابِكَ؟
8إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ.
9لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي بِفَرَسٍ فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ. 10مَا أَجْمَلَ خَدَّيْكِ بِسُمُوطٍ، وَعُنُقَكِ بِقَلاَئِدَ! 11نَصْنَعُ لَكِ سَلاَسِلَ مِنْ ذَهَبٍ مَعَ جُمَانٍ مِنْ فِضَّةٍ.
12مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ. 13صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي لِي. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ. 14طَاقَةُ فَاغِيَةٍ حَبِيبِي لِي فِي كُرُومِ عَيْنِ جَدْيٍ.
15هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ. عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ.
16هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ، وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ.
17جَوَائِزُ بَيْتِنَا أَرْزٌ، وَرَوَافِدُنَا سَرْوٌ.
1أَنَا نَرْجِسُ شَارُونَ، سَوْسَنَةُ الأَوْدِيَةِ.
2كَالسَّوْسَنَةِ بَيْنَ الشَّوْكِ كَذلِكَ حَبِيبَتِي بَيْنَ الْبَنَاتِ.
3كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ، وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي. 4أَدْخَلَنِي إِلَى بَيْتِ الْخَمْرِ، وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ. 5أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ. أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا. 6شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي. 7أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحُقُولِ، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ.
8صَوْتُ حَبِيبِي. هُوَذَا آتٍ طَافِرًا عَلَى الْجِبَالِ، قَافِزًا عَلَى التِّلاَلِ. 9حَبِيبِي هُوَ شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِغُفْرِ الأَيَائِلِ. هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا، يَتَطَلَّعُ مِنَ الْكُوَى، يُوَصْوِصُ مِنَ الشَّبَابِيكِ.
10أَجَابَ حَبِيبِي وَقَالَ لِي: «قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ. 11لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى، وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ. 12الزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي الأَرْضِ. بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ ، وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا. 13التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا، وَقُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا. قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ.
14يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ، فِي سِتْرِ الْمَعَاقِلِ، أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ، لأَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ.
15خُذُوا لَنَا الثَّعَالِبَ، الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ، لأَنَّ كُرُومَنَا قَدْ أَقْعَلَتْ.
16حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ. 17إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، ارْجعْ وَأَشْبِهْ يَا حَبِيبِي الظَّبْيَ أَوْ غُفْرَ الأَيَائِلِ عَلَى الْجِبَالِ الْمُشَعَّبَةِ.
1فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. 2إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ، فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ، أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. 3وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ، فَقُلْتُ: «أَرَأَيْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي؟» 4فَمَا جَاوَزْتُهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، فَأَمْسَكْتُهُ وَلَمْ أَرْخِهِ، حَتَّى أَدْخَلْتُهُ بَيْتَ أُمِّي وَحُجْرَةَ مَنْ حَبِلَتْ بِي. 5أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحَقْلِ، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ... إلخ".
والعجيب أن النصارى يقولون إن هذا العهر هو خطاب من السيد المسيح للكنيسة. فأين المسيح من سليمان؟ وأين الكنيسة من تلك العاهرة الشبقة المغتلمة التى لا تستطيع البقاء فى بيتها حتى يأتيها حبيبها فيخطبها من أبيها، وبعدها فلتفعل ساعتها معه ما تشاء، بل تدور وراءه على حَلّ شعرها تعرض عليه نفسها وجسدها بوقاحة تخطت وقاحة العاهرات المومسات؟ كذلك أين العهد القديم من الأناجيل التى ألفها بعضهم فى سيرة السيد المسيح؟ إن بين هذا وذاك مسيرة طويلة تقاس بالقرون، إذ لم يكن هناك وقتها لا مسيح ولا كنيسة ولا أناجيل ولا يحزنون. وأصحاب العهد القديم الذى فيه "نشيد الأنشاد"، وهم اليهود، يضحكون ملء أشداقهم وأكمامهم حين يسمعون هذا التفسير البزرميط الذى لا يخطر لعاقل، ولا حتى لمجنون، على بال!
على أن البذاءة فى الكتاب المقدس ليست مقصورة على اللفظ فقط، بل تتعداه إلى سلوك أبطاله. ولقد رأينا نبى الله لوطا يمارس زناالمحارم مع بنتيه، ورأينا نبى الله داود يمارس الزنا والخيانة مع بَتْشَبَع زوجة جاره وقائده الوفى الهمام الذى لم يشفع له عنده وفاؤه ولا شجاعته ولا حرصه عليه وعلى مملكته، فأقدم بكل خسة على انتهاك عرضه، ثم ثنى بالتآمرعليه وقتله حتى يخلو له وجه بتشبع، وهى بالمناسبة أم سليمان صاحب "نشيد الأنشاد"، ومن شابه أمه فما ظلم! وهناك أيضا زنا يهوذا بن يعقوب وأخى يوسف بامرأة ابنه، يا للنذالة والفسق: "1وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ يَهُوذَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ إِخْوَتِهِ، وَمَالَ إِلَى رَجُل عَدُلاَّمِيٍّ اسْمُهُ حِيرَةُ. 2وَنَظَرَ يَهُوذَا هُنَاكَ ابْنَةَ رَجُل كَنْعَانِيٍّ اسْمُهُ شُوعٌ، فَأَخَذَهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا، 3فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَا اسْمَهُ «عِيرًا». 4ثُمَّ حَبِلَتْ أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «أُونَانَ». 5ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَيْضًا ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «شِيلَةَ». وَكَانَ فِي كَزِيبَ حِينَ وَلَدَتْهُ.
6وَأَخَذَ يَهُوذَا زَوْجَةً لِعِيرٍ بِكْرِهِ اسْمُهَا ثَامَارُ. 7وَكَانَ عِيرٌ بِكْرُ يَهُوذَا شِرِّيرًا فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَأَمَاتَهُ الرَّبُّ. 8فَقَالَ يَهُوذَا لأُونَانَ: «ادْخُلْ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيكَ وَتَزَوَّجْ بِهَا، وَأَقِمْ نَسْلاً لأَخِيكَ». 9فَعَلِمَ أُونَانُ أَنَّ النَّسْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ، فَكَانَ إِذْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ، لِكَيْ لاَ يُعْطِيَ نَسْلاً لأَخِيهِ. 10فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَا فَعَلَهُ، فَأَمَاتَهُ أَيْضًا. 11فَقَالَ يَهُوذَا لِثَامَارَ كَنَّتِهِ: «اقْعُدِي أَرْمَلَةً فِي بَيْتِ أَبِيكِ حَتَّى يَكْبُرَ شِيلَةُ ابْنِي». لأَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّهُ يَمُوتُ هُوَ أَيْضًا كَأَخَوَيْهِ». فَمَضَتْ ثَامَارُ وَقَعَدَتْ فِي بَيْتِ أَبِيهَا.
12وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ مَاتَتِ ابْنَةُ شُوعٍ امْرَأَةُ يَهُوذَا. ثُمَّ تَعَزَّى يَهُوذَا فَصَعِدَ إِلَى جُزَّازِ غَنَمِهِ إِلَى تِمْنَةَ، هُوَ وَحِيرَةُ صَاحِبُهُ الْعَدُلاَّمِيُّ. 13فَأُخْبِرَتْ ثَامَارُ وَقِيلَ لَهَا: «هُوَذَا حَمُوكِ صَاعِدٌ إِلَى تِمْنَةَ لِيَجُزَّ غَنَمَهُ». 14فَخَلَعَتْ عَنْهَا ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا، وَتَغَطَّتْ بِبُرْقُعٍ وَتَلَفَّفَتْ، وَجَلَسَتْ فِي مَدْخَلِ عَيْنَايِمَ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ تِمْنَةَ، لأَنَّهَا رَأَتْ أَنَّ شِيلَةَ قَدْ كَبُرَ وَهِيَ لَمْ تُعْطَ لَهُ زَوْجَةً. 15فَنَظَرَهَا يَهُوذَا وَحَسِبَهَا زَانِيَةً، لأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ غَطَّتْ وَجْهَهَا. 16فَمَالَ إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: «هَاتِي أَدْخُلْ عَلَيْكِ». لأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا كَنَّتُهُ. فَقَالَتْ: «مَاذَا تُعْطِينِي لِكَيْ تَدْخُلَ عَلَيَّ؟» 17فَقَالَ: «إِنِّي أُرْسِلُ جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الْغَنَمِ». فَقَالَتْ: «هَلْ تُعْطِينِي رَهْنًا حَتَّى تُرْسِلَهُ؟». 18فَقَالَ: «مَا الرَّهْنُ الَّذِي أُعْطِيكِ؟» فَقَالَتْ: «خَاتِمُكَ وَعِصَابَتُكَ وَعَصَاكَ الَّتِي فِي يَدِكَ». فَأَعْطَاهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَحَبِلَتْ مِنْهُ. 19ثُمَّ قَامَتْ وَمَضَتْ وَخَلَعَتْ عَنْهَا بُرْقُعَهَا وَلَبِسَتْ ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا.
20فَأَرْسَلَ يَهُوذَا جَدْيَ الْمِعْزَى بِيَدِ صَاحِبِهِ الْعَدُلاَّمِيِّ لِيَأْخُذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَجِدْهَا. 21فَسَأَلَ أَهْلَ مَكَانِهَا قَائِلاً: «أَيْنَ الزَّانِيَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي عَيْنَايِمَ عَلَى الطَّرِيقِ؟» فَقَالُوا: «لَمْ تَكُنْ ههُنَا زَانِيَةٌ». 22فَرَجَعَ إِلَى يَهُوذَا وَقَالَ: «لَمْ أَجِدْهَا. وَأَهْلُ الْمَكَانِ أَيْضًا قَالُوا: لَمْ تَكُنْ ههُنَا زَانِيَةٌ». 23فَقَالَ يَهُوذَا: «لِتَأْخُذْ لِنَفْسِهَا، لِئَلاَّ نَصِيرَ إِهَانَةً. إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ هذَا الْجَدْيَ وَأَنْتَ لَمْ تَجِدْهَا».
24وَلَمَّا كَانَ نَحْوُ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، أُخْبِرَ يَهُوذَا وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ زَنَتْ ثَامَارُ كَنَّتُكَ، وَهَا هِيَ حُبْلَى أَيْضًا مِنَ الزِّنَا». فَقَالَ يَهُوذَا: «أَخْرِجُوهَا فَتُحْرَقَ». 25أَمَّا هِيَ فَلَمَّا أُخْرِجَتْ أَرْسَلَتْ إِلَى حَمِيهَا قَائِلَةً: «مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي هذِهِ لَهُ أَنَا حُبْلَى!» وَقَالَتْ: «حَقِّقْ لِمَنِ الْخَاتِمُ وَالْعِصَابَةُ وَالْعَصَا هذِهِ». 26فَتَحَقَّقَهَا يَهُوذَا وَقَالَ: «هِيَ أَبَرُّ مِنِّي، لأَنِّي لَمْ أُعْطِهَا لِشِيلَةَ ابْنِي». فَلَمْ يَعُدْ يَعْرِفُهَا أَيْضًا".
وإذا كنا قد قرأنا فيما مضى من هذه الدراسة كيف خان داود حق الجيرة وبادل قائده المتفانى فى حبه إخلاصًا بخيانة، ووفاءً بغدر ونذالة، فها هو ذا ابن داود يرتكس فيما هو أشنع، إذ يزنى بأخته، نَعَمْ أخته ابنة داود، وفى بيت داود. اللهم، صَلِّ على حضرة النبى المصطفى: "1وَجَرَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَبْشَالُومَ بْنِ دَاوُدَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا ثَامَارُ، فَأَحَبَّهَا أَمْنُونُ بْنُ دَاوُدَ. 2وَأُحْصِرَ أَمْنُونُ لِلسُّقْمِ مِنْ أَجْلِ ثَامَارَ أُخْتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَذْرَاءَ، وَعَسُرَ فِي عَيْنَيْ أَمْنُونَ أَنْ يَفْعَلَ لَهَا شَيْئًا. 3وَكَانَ لأَمْنُونَ صَاحِبٌ اسْمُهُ يُونَادَابُ بْنُ شِمْعَى أَخِي دَاوُدَ. وَكَانَ يُونَادَابُ رَجُلاً حَكِيمًا جِدًّا. 4فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا يَا ابْنَ الْمَلِكِ أَنْتَ ضَعِيفٌ هكَذَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَى صَبَاحٍ؟ أَمَا تُخْبِرُنِي؟» فَقَالَ لَهُ أَمْنُونُ: «إِنِّي أُحِبُّ ثَامَارَ أُخْتَ أَبْشَالُومَ أَخِي». 5فَقَالَ يُونَادَابُ: «اضْطَجعْ عَلَى سَرِيرِكَ وَتَمَارَضْ. وَإِذَا جَاءَ أَبُوكَ لِيَرَاكَ فَقُلْ لَهُ: دَعْ ثَامَارَ أُخْتِي فَتَأْتِيَ وَتُطْعِمَنِي خُبْزًا، وَتَعْمَلَ أَمَامِي الطَّعَامَ لأَرَى فَآكُلَ مِنْ يَدِهَا». 6فَاضْطَجَعَ أَمْنُونُ وَتَمَارَضَ، فَجَاءَ الْمَلِكُ لِيَرَاهُ. فَقَالَ أَمْنُونُ لِلْمَلِكِ: «دَعْ ثَامَارَ أُخْتِي فَتَأْتِيَ وَتَصْنَعَ أَمَامِي كَعْكَتَيْنِ فَآكُلَ مِنْ يَدِهَا». 7فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى ثَامَارَ إِلَى الْبَيْتِ قَائِلاً: «اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيكِ وَاعْمَلِي لَهُ طَعَامًا». 8فَذَهَبَتْ ثَامَارُ إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيهَا وَهُوَ مُضْطَجِعٌ. وَأَخَذَتِ الْعَجِينَ وَعَجَنَتْ وَعَمِلَتْ كَعْكًا أَمَامَهُ وَخَبَزَتِ الْكَعْكَ، 9وَأَخَذَتِ الْمِقْلاَةَ وَسَكَبَتْ أَمَامَهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ. وَقَالَ أَمْنُونُ: «أَخْرِجُوا كُلَّ إِنْسَانٍ عَنِّي». فَخَرَجَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْهُ. 10ثُمَّ قَالَ أَمْنُونُ لِثَامَارَ: «ايتِي بِالطَّعَامِ إِلَى الْمِخْدَعِ فَآكُلَ مِنْ يَدِكِ». فَأَخَذَتْ ثَامَارُ الْكَعْكَ الَّذِي عَمِلَتْهُ وَأَتَتْ بِهِ أَمْنُونَ أَخَاهَا إِلَى الْمِخْدَعِ. 11وَقَدَّمَتْ لَهُ لِيَأْكُلَ، فَأَمْسَكَهَا وَقَالَ لَهَا: «تَعَالَيِ اضْطَجِعِي مَعِي يَا أُخْتِي». 12فَقَالَتْ لَهُ: «لاَ يَا أَخِي، لاَ تُذِلَّنِي لأَنَّهُ لاَ يُفْعَلُ هكَذَا فِي إِسْرَائِيلَ. لاَ تَعْمَلْ هذِهِ الْقَبَاحَةَ. 13أَمَّا أَنَا فَأَيْنَ أَذْهَبُ بِعَارِي؟ وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنَ السُّفَهَاءِ فِي إِسْرَائِيلَ! وَالآنَ كَلِّمِ الْمَلِكَ لأَنَّهُ لاَ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». 14فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْمَعَ لِصَوْتِهَا، بَلْ تَمَكَّنَ مِنْهَا وَقَهَرَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا. 15ثُمَّ أَبْغَضَهَا أَمْنُونُ بُغْضَةً شَدِيدَةً جِدًّا، حَتَّى إِنَّ الْبُغْضَةَ الَّتِي أَبْغَضَهَا إِيَّاهَا كَانَتْ أَشَدَّ مِنَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَحَبَّهَا إِيَّاهَا. وَقَالَ لَهَا أَمْنُونُ: «قُومِي انْطَلِقِي». 16فَقَالَتْ لَهُ: «لاَ سَبَبَ! هذَا الشَّرُّ بِطَرْدِكَ إِيَّايَ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ بِي». فَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا، 17بَلْ دَعَا غُلاَمَهُ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُهُ وَقَالَ: «اطْرُدْ هذِهِ عَنِّي خَارِجًا وَأَقْفِلِ الْبَابَ وَرَاءَهَا». 18وَكَانَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مُلوَّنٌ، لأَنَّ بَنَاتِ الْمَلِكِ الْعَذَارَى كُنَّ يَلْبَسْنَ جُبَّاتٍ مِثْلَ هذِهِ. فَأَخْرَجَهَا خَادِمُهُ إِلَى الْخَارِجِ وَأَقْفَلَ الْبَابَ وَرَاءَهَا. 19فَجَعَلَتْ ثَامَارُ رَمَادًا عَلَى رَأْسِهَا، وَمَزَّقَتِ الثَّوْبَ الْمُلَوَّنَ الَّذِي عَلَيْهَا، وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَكَانَتْ تَذْهَبُ صَارِخَةً. 20فَقَالَ لَهَا أَبْشَالُومُ أَخُوهَا: «هَلْ كَانَ أَمْنُونُ أَخُوكِ مَعَكِ؟ فَالآنَ يَا أُخْتِي اسْكُتِي. أَخُوكِ هُوَ. لاَ تَضَعِي قَلْبَكِ عَلَى هذَا الأَمْرِ». فَأَقَامَتْ ثَامَارُ مُسْتَوْحِشَةً فِي بَيْتِ أَبْشَالُومَ أَخِيهَا. 21وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ دَاوُدُ بِجَمِيعِ هذِهِ الأُمُورِ اغْتَاظَ جِدًّا. 22وَلَمْ يُكَلِّمْ أَبْشَالُومُ أَمْنُونَ بِشَرّ وَلاَ بِخَيْرٍ، لأَنَّ أَبْشَالُومَ أَبْغَضَ أَمْنُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ ثَامَارَ أُخْتَهُ". وهكذا تكون الكتب المقدسة، وإلا فلا لا كما يقول عمنا المتنبى! ولنلاحظ أن اسمها هى يضا ثامارا. ما كل هذا الهناء الذى نحن فيه؟ ثامارا مرتين حتة واحدة، وفى كل مرة بطلة فى زنا المحارم، وفى كتاب مقدس؟ حكمتك يا ربّ!َ
وعلى هذا فحين نسمع بولس يوصى على الدوام زملائه وتلاميذه رجالاً ونساءً أن يحوّلوا الأمر فيما بينهم إلى "مَبْوَسَةٍ" فيقبّل كل واحد سائر زملائه وزميلاته، وكل واحدة سائر زميلاتها وزملائها فلا غرو ولا عجب. والحمد لله أنها وقفت عند البَوْس، على الأقل أمامنا، ولا يهم ما حصل بعد ذلك فى الواقع، فالله حليم ستار، ونحن غير موكلين بالتفتيش عما يحدث بين الناس فى السر. كما أن تلك القبلات، وهذا ما لا ينبغى أبدا أن ننساه، هى قبلات مقدسة، وليست من القبلات التى بالى بالك. وقد سألنى أحد المكّارين: أتعرف "البغاء المقدس" الذى يمارسونه فى المعابد الوثنية؟ قلت له: أعرف. فعاد يسألنى: فهل تختلف القبلات المقدسة عن ذلك؟ أجبته قائلا: أما هذه فلا أستطيع أن أفتيك فيها!
من كل ما تقدم لا بد أن يعرف القارئ أن ما صنعه الأوباش بنصوص القرآن الكريم شىء غير مستغرب. وكيف يُسْتَغْرَب، والعيب من أهل العيب السافلين المنحطين ليس بعيب؟ وهل يُنْتَظَر من مومسٍ قحبةٍ إلا أن تعمل بكل جهدها على جرجرة الطاهرات الشريفات إلى طريق الدنس والنجاسة التى تسير فيها؟ إنها لا تريد أن تكون وحدها الموصومة بذلك العار، بل تريد أن يَشْرَكها الجميع، ومن ثم لا يكون هناك خيار وفقوس، بل الكل فى العهر والدنس شىء واحد. ذلك أن أولئك الأوباش يقولون لأنفسهم: إن كِتَابنا قد حُرِّف وزُيِّف وعبثت به الأيدى من كل جنس ولون، فلماذا ينبغى أن يظل كتاب المسلمين بمنأى عن التحريف والتدنيس والتزييف؟ وما دام المسلمون قد حافظوا على كتابهم فلنعبث نحن به حتى لا يكون أحد أحسن من أحد. نفس منطق المومس التى تريد أن تكون النساء كلهن مومسات مثلها، وإلا فلسانها يستطيع أن ينجّس المحيط بأكمله، وهات يا شائعات واتهامات. والآن تعالَوْا نقرأ ما كتبته أيدى المومسات فى عبثهن بكتاب الله. ولسوف نكتفى ببعض الأمثلة وحسب.
يقول القرآن عما ينبغى ان يلتزم به المسلم وزوجته فى ليالى الصيام بالنسبة: "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ"، فيأتى الأوباش ويمارسون مع النص القرآنى ما فعله أسلافهم من قَبْلُ من تحريف وتزييف وبذاءات ونجاسات حتى حولوا الكتاب المقدس إلى كتاب عهر وفحش: "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ (النيك) إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللات أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ (نيكهن) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللات لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ (تنيكهن) وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ". والمضحك أن الأوباش لايستطيعون أن يكتبوا كلمة واحدة من كلامهم البذىء صحيحة لا من الناحية النحوية ولا من الناحية الإملائية. يعنى: بهائم كاملة البهيمية!
ويقول الله تعالى عن جواز مواصلة العمرة مع الحج بحيث لا يخلع المحرم ملابس الإحرام بينهما: "فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ"، فيقول الأوباش: "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للات فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ (مقمل) فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (اللي يحب ينيك) فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللات وَاعْلَمُوا أَنَّ اللات شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ (نيك) وَلا فُسُوقَ (شرمطة) وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ".
ويقول القرآن عن اجتناب مواقعة الزوج لزوجته فى فترة الحيض: "وَلا تنكحوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَالله يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ"، فيقول الأوباش الأنجاس الذين لا يعرفون ولا تعرف نساؤهم شيئا اسمه التطهر من الحيض، بل كله عندهم سواء لأنهم بهائم: "وَلا تنيكوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تنيكوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللات يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ (نيكهن) مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللات إِنَّ اللات يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (نيكوا نسوانكم في أي زمان وأي حتة تعجبكم من الطيز أو الكس) وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللات وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللات عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللات سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)". ترى هل مِنْ حَرَجٍ على من رسَّموا اللوطية المآبين أساقفة؟ ترى هل مِنْ حَرَجٍ على من يعتدى القساوسة عليهم وعليهن فى الظلام فى قلب الكنيسة أثناء ممارسة طقوس الاعتراف؟ واضح أن غفران الذنوب عندهم لا يتم ولا يصح إلا إذا دشّن القسيس أطفالهم ونساءهم ودشدشهم بهذه الطريقة! فهكذا هم يفهمون البركة. أليسوا خرفانا يعبدون خروفا مثلهم؟ فهل على الخرفان من لوم أو عتاب؟ هل رأيتم أوسمعتم بعاقل يلوم خروفا أو يعاتبه؟ فما بالكم لو لم يكن خروفا وحسب، بل خروفا يعبد خروفا؟ إنه لعريق إذن فى الخِرْفَانيّة!
والله سبحانه وتعالى يقول: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع"، أما هم فيغيرون هذا القول الإلهى الكريم تبعا لوساوسهم القهرية التى لازمتهم منذ أن اعتدى القسيس عليهم فى ظلام الكنيسة وهم أطفال، فيقولون بنفس الأخطاء الإملائية التى تدل على مستواهم العقلى العامى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَنيكو مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع".
كما يقول عز وجل: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ ينكح المحصنات الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالله أعلم بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)" فيأتى الأوباش الذين يصدعوننا بالكلام عن تسامح النصارى وتهذيبهم وأدبهم على عكس المسلمين الذين يزعمون أنهم يفتقرون إلى الذوق واللياقة، فيقولون: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً (يملك المال) أَنْ ينيك المتزوجات الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللات أعرف بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَنيكوهن بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (نيك وادفع) متزوجات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى نيك المتزوجات مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللات غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)". ونحن لا نشاح فى وجود نصارى كثير ين مهذبين نحبهم ويحبوننا، ونجاملهم ويجاملوننا، ونعيش معهم على الحلوة والمرة جيرانا وزملاء وأصدقاء، وهؤلاء على العين وعلى الرأس. إلا أن كلامنا الآن مع صنف آخر نجس يتسم بالصفاقة والجلافة وقلة الأدب، وهو فوق ذلك صنف عامى غير مصقول وجاهل. فليعذرنا القراء، فإن لكل صنف من البشر أسلوبا من التعامل يلائمه ولا يصلح له سواه.
وبالمثل يقول ربنا عز شأنه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43)"، لكن الأوباش يقلبون الآية على النحو التالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً (ضاربين عشرات) إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الخرى أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللات كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43)"... وعلى ذلك فقس سائر ما صنعوه مع كتاب الله الذى لا يضره هذا الذى اقترفوه ولا مليار شىء مثله، إذ هو كتاب طاهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يعلق به شىء من هذا الدنس. أما الأوباش فيذكّروننى بقول بشّار بن بُرْد لإنسان تطاول عليه، ففكر أن يرد تطاوله بمثله لكنه لم يجد شيئا فى عِرْضه يمكنه أن يناله لأن كل ما فى عِرْضه دنس نجس، فتركه وهو يقول: "اذهب، فأنت عتيق لؤمك". أى أنك قليل الأصل لا يصح أن أنزل إلى مستواك فأبادلك سبابا بسباب، إذ إن عرضك كله وسخ قد بلغ الغاية التى ليس بعدها غاية فى الوساخة، ومن ثم لا يزيدك السباب وساخة أخرى. وعلى هذا فنحن لا نبادل عملهم هذا بعمل مثله فلا نفكر فى التعامل مع كتابهم بذات الأسلوب، لأن كتابهم ممزق العِرْض على الآخر، وغير أهل للثقة، ومملوء بالتحريف والتزييف، فما الذى يمكننا أن نزيده من هذا الجانب؟ لقد سبق أن قلت إنهم خراف يعبدون خروفا، فهم عريقون فى الخِرْفَانيّة. وهذا يكفى، ولا يحتاج إلى مزيد!
* * *
وكثير من العبارات التى استبدلها الأوباش بعبارات القرآن أو فسروها بها تدل على جهل مدقع وذهنية عامية غليظة: فعلى سبيل المثال نراهم قد غيروا قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينّك قبلة ترضاها" إلى "قَدْ نَرَى تغيير وجهة نظرك فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا". وتقليب الوجه فى السماء دعاء وابتهالا إلى الله شىء، وتغيير وجهة النظر شىءآخر، لكن العوام من البهائم لا يفقهون! كذلك فإن كلمة "المحصنات" فى الآية التالية لا تعنى أبدا "المتزوجات"، إذ الإسلام لا يبيح ما يبيحه القساوسة من الاعتداء على أعراض المتزوجات عند مجيئهن إليهم فى ظلام الكنيسة للاعتراف لهم بذنوبهن. يقول الله تعالى: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ َوالمحصنات مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ والمحصنات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ"، فيقول الأوباش الجهلة: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَنيك المتزوجات مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَنيك المتزوجات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ". ومثل هذا فى الجهل والعامية تصوُّرهم أن كلمة "الأعراف" فى السورة التى تحمل هذه التسمية معناها، كما كتبوا تفسيرا لها، "العادات والتقاليد"، وهو خطأ فاحش، إذ معناها فى السورة هو المكان الذى يفصل بين الجنة والنار، ويستطيع الموجود فوقه أن يعاين أهل كل منهما. ومن ذلك أيضا تفسيرهم "الحِِجْر" فى السورة المسماة بهذا الاسم بــ"الحضن"، مع أنه لا علاقة بين الكلمتين، إذ "الحجر" فى السورة موضع من المواضع فى بلاد العرب، أما "الحضن" فشىء آخر. ولعلهم بجهلهم يظنون أن الحِجْر هنا هو حِجْر الإنسان، وهو الموضع المعروف من الجلباب. وحتى هذا لا علاقة له بالحضن كما هو بين. لكن ماذا نقول فى الأوباش الذين يُقْدِمُون على أمر دون أن يستعدوا له ويدرسوه كما ينبغى؟ إن للقرآن بركاته التى أعيت المؤسسات العالمية الراعية لما يسمى بــ"الفرقان الحق"، فكان ما كان من فضيحة مدوية عَفَّتْ على ذلك الضلال المبين وجعلته أثرا بعد عين. ولقد كان الأوغاد الذين لفقوا ما يسمى بــ"الفرقان الحق" أذكى بكثير من خرفاننا الحاليين، ومع هذا لم يشفع لهم ذكاؤهم وخبثهم وما تلقَّوْه من مساعدات هائلة من الاستخبارات الصليبية والصهيونية بشىء فى مواجهة بركات القرآن، فكيف يمكن أن ينجح هؤلاء الأوباش فيما فشل فيه من يفوقونهم ذكاء ودهاء بمراحل؟ وفى سورة "التكاثر" نراهم يشرحون هذه الكلمة بــ"النيك"، ولا أدرى لماذا، إذ لا علاقة بين الأمرين، إلا من فرط انشغال ذهنهم بتلك الكلمة لأنهم مآبين مغتلمون، فهى ملتصقة على الدوام بلسانهم لا يستطيعون عنها فكاكا.
بل إن تركيبا لغويا بسيطا كالذى فى قوله تعالى فى سورة"الأعراف": "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ؟" نجد الأوباش يغيرونه إلى "فَأظلم واحد مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللات كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ"، محولين بذلك الجملة الاستفهامية التامة إلى نصف جملة خبرية غير تامة لأن المبتدأ فيها ليس له خبر، ومن ثم فليس لكلام هؤلاء البهائم معنى. وواضح أنهم يعانون من جهل مبين صارخ. ولكن ما العجب فى أن يكون هؤلاء الخرفان على هذه الدرجة المفحشة من الجهل؟ وإلا فكيف سَمَّوْهم: "خرفانا" إذن بالله عليكم؟ ولأنهم خرفان نراهم يرتكبون هذا الخطأ فى كل مرة يعبثون فيها بهذه العبارة القرآنية.
وهم، لجهلهم وغبائهم، لا يستطيعون أن يفهموا أن الكلام فى قوله تعالى عن المؤمنين فى أول السورة التى تسمى بهذا الاسم قد جاء بصيغة المذكر، فتجدهم يظنون أن الفروج فى الآية التالية: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)" معناها "الأكساس"، إذ بدلوها إلى "وَالَّذِينَ هُمْ لأكساسهِمْ حَافِظُونَ"، متصورين أن الرجال عندنا كالرجال عندهم لهم "..." مثل "القمص المشلوح"! كذلك نجدهم لا يستطيعون فهم التركيب فى قوله سبحانه: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4)"، فيغيرونه إلى "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ نيك المتزوجات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4)"، وهو خزى لو يعلمون عظيم. ولكن أَنَّى للخرفان عابدى الخروف أن تدرك معنى "الخزى"، فضلا عن أن تخجل منه؟ كذلك لا تقدر الخرفان على التفرقة بين "نَكَحَ" و"أَنْكَحَ": فالأولى بمعنى "تزوَّج"، والثانية معناها: "زَوَّجَ". ومن هنا غيروا قوله تعالى: "وأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ" إلى "وَنيكو الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ"، فضلا عن عجزهم عن الكتابة الإملائية السليمة حتى فى أبسط الأشياء. نعوذ بالله من الخرفانية وعبادة الخرفان. إنها لضلال مبين يطمس على العقل والفهم، وهؤلاء الأوباش أكبر دليل على ما نقول. ومن جهلهم الخرفانى تغييرهم كلمة "الرِّجْز" فى كل المواضع التى وردت فيها من القرآن الكريم إلى "وساخة" كما فى الآية التالية من سورة "العنكبوت": "إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)" التى غيروها إلى "إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وساخة مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)"، مع أن المعنى واضح، وهو العذاب الأليم. لكن ماذا نقول للخرفان عُبّاد الخروف؟
* * *
وفى كثير من الأحيان يُرْدِف الأوباشُ اسمَ السورة القرآنية بشرح أو بتعليق بين قوسين كما فى الأمثلة التالية: "سورة المائدة (الترابيزة)/ سورة الأنعام (البهايم)/ سورة يونس (يونس شلبى)/ سورة هود (روبن هود)/ سورة الرعد (النشرة الجوية)/ سورة إبراهيم (أبو خليل)/ سورة النحل: اللسع/ سورة الإسراء (بساط الريح)/ سورة الكهف (علي بابا)/ سورة مريم (المرأة المجهولة)/ سورة طـه (فساها)/ سورة الأنبياء (البؤساء)/ سورة الحـج (الحـــك)/ سورة المؤمنون (المرتزقة)/ سورة الفرقان (التختة)/ سورة الشعراء (الفنانين)/ سورة النمل (سكر هانم)/ سورة القَصَص (حكاوي القهاوي)/ سورة العنكبوت (سبايدر مان)/ سورة الروم ( الديك الشركسي)/ سورة لقمان (لقمة القاضي)/ سورة السجدة (الانبطاح)/ سورة سبأ (اليمن)/ سورة فاطر (الواكل)/ سورة الصافات (طوابير الجمعية)/ سورة ص ( الحرف اللي بعد السين)/ سورة الزمر (الزمارة)/ سورة غافر (مسامح)/ سورة فصلت (الترزي)/ سورة الشورى (الإخوان)/ سورة الدخان (الجوزة)/ سورة الحجرات (غرفتين وصالة)/ سورة المنافقون (مجلس الشعب)/ سورة الماعون (الجردل)". وليس فى الأمر ما يبعث على تعليق أو شرح، فأسماء السور لا صعوبة فى فهمها، بل إن الأوباش قد أخطأوا فى بعض الحالات ففسروا الكلمة تفسيرا خاطئا كتفسيرهم "فاطر" بــ"الواكل"، مع أنه لاعلاقة بين الكلمتين، إذ الفاطر هو الخالق سبحانه، أما "الواكل" فهى "الآكل"، ولا علاقة بين الخلق والأكل. كذلك ليس فى أى شرح أو تعليق مما أردفوه باسم السورة شىء يدفع إلى الابتسام، بل كله سخف مبين. ليس ذلك فقط، إذ نجدهم فى سورة "مريم" قد سموها: "المرأة المجهولة"، ومعروفٌ فِلْم "المرأة المجهولة" وما يرتبط ببطلته من معانٍ وإيحاءاتٍ ربطها الأوغاد السفهاء باسم السيدة مريم عليها السلام، وهى أم الإله عندهم. فليتأمل القارئ العمى الحيسى الذى يَصِم هؤلاء الأوباش وكيف أن الله خاذلهم فى كل ما يصنعون. أما قولهم عن سورة "ص": "الحرف اللى بعد السين" فيدل على أن الأبعدين، كما قلت مرارا، إنما هم مجموعة من الخرفان تعبد خروفا. ذلك أنه ليس هناك أحد من البشر يجهل أن الصاد لا تتلو السين بل تتلو الشين يا أيها الأوباش! أما إذا كانوا يظنون أن فى شرحهم لكلمة "السجدة" بأنها "الانبطاح" ما يسىء إلى المسلمين فنحب أن نذكر الأوباش أن المسيح والأنبياء كلهم فى كتابهم المقدس كثيرا ما سجدوا. فإذا قالوا إنهم كانوا ينبطحون فهنيئا للاوباش إيمانهم بأنبياء من هذا النوع، أما نحن فنُجِلّ المسيح وسائر الأنبياء عن أن نقول فيهم مثل ذلك القول الذى يقوله الأوباش! وبالنسبة لسخريتهم من سورة "يونس" وسورة "القَصَص" وقولهم بين قوسين: "يونس شلبى" و"حكاوى القهاوى" فمعروف أن فى العهد القديم كلاما كثيرا عن يونس (يونان) وعن موسى، الذى تقص سورة "القصص" هذه جوانب من سيرته. فهم إذن يسخرون مما يقصه كتابهم، فهنيئا لهم سخريتهم من كتابهم!
كذلك رأينا سخريتهم من سورة "لإسراء" فى تسميتهم لها: "بساط الريح". ولست أفهم وجه السخرية هنا. إنما السخرية حقا فيما كتبه مؤلف إنجيل متى الذى لا يعرف أحد من هو، إذ يقول عن اختبار إبليس للمسيح عليه السلام: "6أخذَهُ إبليسُ إلى المدينةِ المُقَدَّسَةِ، فأوْقَفَهُ على شُرفَةِ الهَيكل وقالَ لَه: "إنْ كُنتَ اَبنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إلى الأسفَلِ، لأنَّ الكِتابَ يقولُ: يُوصي ملائِكَتَهُ بكَ، فيَحمِلونَكَ على أيديهِم لئلاَّ تَصدِمَ رِجلُكَ بِحجرٍ".7فأجابَهُ يَسوعُ: "يقولُ الكِتابُ أيضًا: لا تُجرَّبِ الرَّبَّ إلهَكَ". فها هنا يقر المسيح عليه السلام أن العلاقة بينه وبين الله هى علاقة العبد بإلهه، لا جدال فى ذلك! لكن ليست هذه هى المشكلة، بل المشكلة فى قول مؤلف القصة إن إبليس أخذ المسيح وأوقفه على شرفة الهيكل... إلخ، إذ السؤال هو: أين كان الناس يا ترى، والمسيح يعتلى شرفة الهيكل ويدور بينه وبين إبليس ذلك الحوار المُسَلِّى؟ من المؤكد أنه كان سيكون منظرا مثيرا يخفف من جهامة الواقع اليومى الكئيب آنذاك حيث لم يكن هناك تلفاز ولا مذياع ولا دور خيالة ولا كاتوب ولا... ولا... فكيف لم نسمع بأن الناس قد اجتمعوا يشاهدون هذا المنظر الفريد، منظر إبليس (وهل كلَّ يوم يرى الناس إبليس؟) وهو يحاول إغراء المسيح بالقفز فى الهواء؟ لا شك أنها كانت ستكون نِمْرَة ساحرة من نِمَر السيرك الإبليسى تساوى أن يقطع الناس لها تذكرة بالشىء الفلانى! ثم ما الذى كان يجبر المسيح على طاعة الشيطان طول ذلك الوقت ويصبر على قلة أدبه معه إلى هذا الحد؟ إن القصة تريد أن تقول إنه، لعنه الله، لم تكن له على عيسى عليه السلام أية سلطة. آمَنّا وصَدَّقْنا! لكن ألا يقول المنطق إنه كان ينبغى أن يشخط فيه سيدنا عيسى منذ أول لحظة شخطة عنترية تجعل رُكَبه تسيب ويبول على نفسه، ومن ثم لا يعطيه فرصة للتساخف كما يتساخف أوغاد المهجر ويُقِلّون أدبهم على سيد الأنبياء، بل يسكعه قلمين على صُدْغه تعيد له رشده المفقود وتجعله يمشى على العجين فلا يلخبطه؟
وهناك موضوع ينبغى أن أقول فيه كلمة، إذ ألفيت الأوباش فى كل مرة تتحدث آية من الآيات عن التسامح والصبر والرد بالتى هى أحسن يقولون فى تعليق داخل قوسين إنها (منسوخة بأية السيف) كما قى الأمثلة التالية، وكلها من سورة "الأنعام": "وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (منسوخة بأية السيف) (66)… وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (منسوخة بأية السيف) (68)… وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللات وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (منسوخة بأية السيف)... وَمَا قَدَرُوا اللات حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللات عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللات ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (منسوخة بأية السيف) (91)... قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (منسوخة بأية السيف) (104)… اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (منسوخة بأية السيف) (106) وَلَوْ شَاءَ اللات مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (منسوخة بأية السيف) (107)… وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (منسوخة بأية السيف)... قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (منسوخة بأية السيف) (135) وَجَعَلُوا للات مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا للات بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللات وَمَا كَانَ للات فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللات مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (منسوخة بأية السيف) (137)... إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللات ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (منسوخة بأية السيف) (159)". ولاحظ الخطأ الإملائى فى كلمة "آية"، التى يكتبها الأوباش دائما بهمزة لا بمدة. يقصدون أن التسامح والعفو إنما كان خطة مؤقتة عُدِل عنها بعد الهجرة. وبالمناسبة فقد وجدت د. سامى ديب أبو ساحلية فى ترجمته الفرنسية للقرآن المجيد يتبع ذات الخطة، إذ علق مثلا على كل من الآيتين رقم 20 و189 من سورة "آل عمران": "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"، "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"، وكذلك على كل من الآيتين رقم 39 و75 من سورة"مريم": "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ"، "قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا"، قائلا إنها نُسِخَتْ بآية السيف، يقصد الآية الخامسة من سورة"التوبة": "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". والحق أن الإسلام يأمر بالصبر والعفو فى كل الأحوال ما لم يؤد الأمر إلى مزيد من الشر والأذى، وإلا فالشر بالشر ينحسم. كذلك فإنه إذا كان الصبر والتسامح مفهوما على المستوى الفردى فإنه لا يُقْبَل على مستوى الدولة والأمة، وإلا تأكلها الدول المعادية أكلاً فلا تقوم لها قائمة بعدها أبدا. ثم لقد صبر المسلمون وغفروا على مدار ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة فقدوا فيها كثيرا من أحبابهم قتلا وتعذيبا، واغتُصِبَتْ أموالهم وأُخْرِجوا ظلما وعدوانا من ديارهم، ورُوِّعوا أيما ترويع، وأُوذِىَ كثير منهم أذى شديدا، وضُرِبوا وشُتِموا وأهينوا، ورغم هذا لم يأت الصبر والغفران مع جبابرة المشركين بشىء، فما الذى كان ينبغى على المسلمين أن يفعلوه؟ أكان عليهم أن يستمروا فى تحمل كل تلك الإهانات والترويعات والخسارات فى النفس والأموال دون أن ينبسوا ببنت شفة؟ ألا إن ذلك للؤم ممن يقول به. والله سبحانه وتعالى لايرضى أبدا بهذا الظلم ولا يقر الرضا به. وما دام المسلمون بعد كل ذلك الصبر والتسامح يستطيعون أن يردوا العدوان بما يردعه ويوقف صاحبه عند حده فلماذا لا يفعلون؟
والأوباش، إذ ينتقدون الإسلام فى هذه النقطة، يحاجوننا بالمشهور عن تسامح المسيح وقوله: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر... أى أن المسيح جاء بالتسامح، أما محمد فجاء بالسيف: هكذا يصورون المسألة. إلا أنه تصوير زائف، فقد قال المسيح هذا الكلام المنمق الجميل أثناء فترة دعوته، التى لم تتعدّ الثلاثة الأعوام، ولا ندرى ماذا كان يكون كلامه لو استمرت دعوته أطول من ذلك، وإن كانت الإرهاصات تقول بلسان واضح مبين إنه كان قمينا أن يغير موقفه لو استمر العناد وقلة الأدب والاضطهاد والتآمر من اليهود، إذ أُثِر عنه قوله أيضا إنه ما جاء ليُلْقِىَ سلاما بل سيفا، فضلا عن إثارة أفراد البيت الواحد بعضهم على بعض. كما أنه، رغم الكلام المنمق الجميل المنسوب إليه صلى الله عليه وسلم، كان ينزل كالصواعق على رؤوس اليهود لاعنا إياهم واصفا لهم بأنهم أولادُ أفاعٍ منافقون قتالون للأنبياء راجمون للمرسلين، مبشرا إياهم بالخراب والدمار والعبودية. ليس ذلك فقط، بل إنه قد وصف غير الإسرائيليين بأنهم كلاب لا ينبغى أن يؤخذ الخبز من أمام الأبناء ويطرح لهم. ومرة أخرى ليس ذلك فقط، فمعروف أنه لم يكن يُعْفِى حوارييه من التقريع القارص الذى يصل إلى حد اتهامهم بالنفاق وقلة الإيمان، كما وصف كبيرَهم بطرس بأنه شيطان يعوق عمل الخير. فإذا كان كل هذا وغيره قد وقع منه طوال الثلاث السنوات التى قضاها يدعو قومه إلى الدين الذى أتاهم به، فما الذى يمكن أن نتوقعه منه لو كان كُتِب له أن تمتد دعوته ولا تُغْتَضَر فى طفولتها الباكرة على النحو الذى نعرف؟
لقد نهى عليه السلام عن شتم الآخرين ولو بكلمة "يا أحمق" وذكر أن عقابها عند الله كبير، ومع ذلك فما أكثر المرات التى كال فيها، كما قلنا، السباب لليهود من فريسيين وصدوقيين وكهنة، وكذلك لتلاميذه الحواريين، وأَسْمَعَ المدنَ التى لم تُصِخْ له قارص القول: "38وقالَ لَه بعضُ مُعلَّمي الشَّريعَةِ والفَرّيسيـّينَ: "يا مُعلَّمُ، نُريدُ أنْ نرى مِنكَ آيَة. 39فأجابَهُم: "جِيلٌ شرّيرٌ فاسِقٌ يَطلُبُ آيةً" ، "وقََبْلَ الفَجرِ جاءَ يَسوعُ إلى تلاميذِهِ ماشيًا على البَحرِ. 26فلمّا رآهُ التَّلاميذُ ماشيًا على البَحرِ اَرتَعبوا وقالوا: "هذا شَبَحٌ!" وصَرَخوا مِنْ شِدَّةِ الخَوفِ. 27فقالَ لهُم يَسوعُ في الحالِ: "تَشجَّعوا. أنا هوَ، لا تخافوا!" 28فقالَ لَه بُطرُسُ: "إنْ كُنتَ أنتَ هوَ يا سيَّدُ، فَمُرْني أنْ أجيءَ إلَيكَ على الماءِ". 29فأجابَهُ يَسوعُ: "تعالَ". فنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ القارِبِ ومشَى على الماءِ نحوَ يَسوعَ. 30ولكنَّهُ خافَ عِندَما رأى الرَّيحَ شديدةً فأخَذَ يَغرَقُ، فَصرَخ: "نَجَّني يا سيَّدُ!" 31فمَدَّ يَسوعُ يدَهُ في الحالِ وأمسكَهُ وقالَ لَه: "يا قليلَ الإيمانِ، لِماذا شكَكْتَ؟"، "5ولمّا عبَرَ التَّلاميذُ إلى الشَّاطئِ المُقابِلِ، نَسوا أنْ يَتزَوَّدوا خُبزًا، 6فقالَ لهُم يَسوعُ: "اَنتبِهوا، إيّاكُم وخَميرَ الفَرَّيسيـّينَ والصَدٌّوقيـّينَ". 7فقالوا في أنفُسِهِم: "يقولُ هذا لأنَّنا ما تَزوَّدنا خُبزًا".8فعَرَفَ يَسوعُ وقالَ لهُم: "يا قليلي الإيمانِ، كيفَ تَقولونَ في أنفُسِكُم: لا خُبزَ مَعنا؟ 9أما فهِمتُم بَعدُ؟"، "سألُوهُ (أى الحواريون): "لِماذا عَجِزْنا نَحنُ عَنْ أنْ نَطرُدَهُ؟" 20فأجابَهُم: "لِقِلَّةِ إيمانِكُم! الحقَّ أقولُ لكُم: لو كانَ لكُم إيمانٌ بِمقدارِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ لَقُلتُم لِهذا الجبَلِ: اَنتَقِلْ مِنْ هُنا إلى هُناكَ فَينتَقِلُ، ولَمَا عَجِزتُم عَنْ شَيءٍ"، "21مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. 22فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً:«حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» 23فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ»"، "14وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِيًا لَهُ 15وَقَائِلاً:«يَا سَيِّدُ، ارْحَمِ ابْني فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيدًا، وَيَقَعُ كَثِيرًا فِي النَّارِ وَكَثِيرًا فِي الْمَاءِ. 16وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ». 17فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ:«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، الْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟"، "20وأخَذَ يَسوعُ يُؤَنَّبُ المُدُنَ التي أجرى فيها أكثرَ مُعجزاتِهِ وما تابَ أهلُها، 21فقالَ: "الويلُ لكِ يا كورَزينَ! الويلُ لكِ يا بـيتَ صيدا! فلو كانتِ المُعجزاتُ التي جرَتْ فيكما جرَتْ في صورَ وصيدا لتابَ أهلُها من زمنٍ بعيدٍ ولبِسوا المسوحَ وقعَدوا على الرمادِ. 22لكنّي أقولُ لكم: سيكونُ مصيرُ صورَ وصيدا يومَ الحِسابِ أكثرَ احتمالاً من مصيرِكُما. 23وأنتِ يا كَفْرَ ناحومُ! أتَرتَفعينَ إلى السَّماءِ؟ لا، إلى الجَحيمِ سَتهبُطينَ. فَلو جرَى في سَدومَ ما جرَى فيكِ مِنَ المُعجِزات لبَقِـيَتْ إلى اليومِ. 24لكنّي أقولُ لكُم: سيكونُ مصيرُ سدومَ يومَ الحِسابِ أكثرَ اَحتِمالاً مِنْ مَصيرِكِ"، "13الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تُغلِقونَ مَلكوتَ السَّماواتِ في وُجوهِ النّاسِ، فلا أنتُم تَدخُلونَ، ولا تَترُكونَ الدّاخلينَ يَدخُلونَ. 14[الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تأكُلونَ بُيوتَ الأرامِلِ وأنتُمْ تُظهِرونَ أنَّـكُم تُطيلونَ الصَّلاةَ، سيَنـالُكُم أشدٌّ العِقابِ]. 15الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تَقطَعونَ البحرَ والبَـرَّ لتكسِبوا واحدًا إلى دِيانَتِكُم، فإذا نَجَحتُم، جَعَلْتموهُ يستَحِقٌّ جَهنَّمَ ضِعفَ ما أنتُم تَستَحِقٌّونَ! 16الوَيلُ لكُم أيٌّها القادَةُ العُميانُ! تَقولونَ: مَنْ حَلفَ بالهَيكلِ لا يَلتزِمُ بـيَمينِهِ، ولكنْ مَنْ حَلَفَ بذَهَبِ الهَيكَلِ يَلتَزِمُ بـيَمينِهِ. 17فأيٌّما أعظمُ، أيٌّها الجُهّالُ العُميانُ؟ الذهَبُ أمِ الهَيكَلُ الَّذي قَدَّسَ الذهَبَ؟ 18وتَقولونَ: مَنْ حلَفَ بالمَذبحِ لا يلتَزمُ بـيمينِهِ، ولكِنْ من حَلفَ بالقُربانِ الَّذي على المذبَحِ يَلتَزِمُ بـيَمينِهِ. 19فأيٌّما أعظمُ، أيٌّها العُميانُ؟ القُربانُ أمِ المَذبحُ الَّذي يُقدَّسُ القُربانَ؟ 20أما ترَوْن أنَّ الَّذي يَحلِفُ بالمذبَحِ يَحلِف بِه وبِكُلٌ ما علَيهِ، 21والَّذي يَحلِفُ بالهَيكَلِ يَحلِفُ بِه وبالله السَّاكنِ فيهِ، 22والَّذي يحلِفُ بالسَّماءِ يحلِفُ بعَرشِ الله وبالجالِسِ علَيهِ؟ 23الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تُعطُونَ العُشْرَ مِنَ النَعْنعِ والصَعتَرِ والكَمّونِ، ولكنَّـكُم تُهمِلونَ أهمَّ ما في الشَّريعةِ: العَدلَ والرَّحمةَ والصَّدقَ، وهذا ما كانَ يَجبُ علَيكُم أنْ تَعمَلوا بِه مِنْ دونِ أن تُهمِلوا ذاكَ. 24أيٌّها القادَةُ العُميانُ! تُصَفّونَ الماءَ مِنَ البَعوضَةِ، ولكنَّـكُم تَبتَلِعونَ الجمَلَ. 25الويلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! تُطَهَّرونَ ظاهِرَ الكأسِ والصَّحنِ، وباطنُهُما مُمتلِـئ بِما حصَلتُم علَيهِ بالنَّهبِ والطَمَعِ. 26أيٌّها الفَرَّيسيٌّ الأعمى! طَهَّرْ أوَّلاً باطنَ الوِعاءِ، فيَصيرَ الظَّاهِرُ مِثلَهُ طاهرًا. 27الويلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ! أنتُم كالقُبورِ المبـيَضَّةِ، ظاهرُها جميلٌ وباطِنُها مُمتَلئ بعِظامِ الموتى وبكُلٌ فسادٍ. 28وأنتُم كذلِكَ، تَظهَرونَ لِلنّاسِ صالحينَ وباطِنُكُم كُلٌّهُ رِياءٌ وشَرٌّ. 29الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تَبْنونُ قُبورَ الأنبـياءِ وتُـزَيَّنونَ مدافِنَ الأتقياءِ، 30وتَقولونَ: لو عِشنا في زَمَنِ آبائِنا، لما شارَكْناهُم في سَفْكِ دَمِ الأنبـياءِ. 31فتَشهَدونَ على أنفُسِكُم بأنَّـكُم أبناءُ الَّذينَ قَتلوا الأنبـياءَ. 32فتَمَّموا أنتُم ما بَدأَ بِه آباؤُكُم. 33أيٌّها الحيّاتُ أولادَ الأفاعي! كيفَ ستَهرُبونَ مِنْ عِقابِ جَهنَّمَ؟ 34لذلِكَ سأُرسِلُ إلَيكُم أنبـياءَ وحُكَماءَ ومُعَلَّمينَ، فمِنهُم مَنْ تَقتُلونَ وتَصلِبونَ، ومِنهُم مَنْ تَجلِدونَ في مجامِعِكُم وتُطارِدونَ مِنْ مدينةٍ إلى مدينةٍ، 35حتَّى يَنزِلَ بِكُم العِقابُ على سَفكِ كُلٌ دمِ بريءٍ على الأرضِ، مِنْ دمِ هابـيلَ الصَّدّيقِ إلى دمِ زكريّا بنِ بَرَخِيّا الَّذي قتَلتُموهُ بَينَ المَذبحِ وبَيتِ الله. 36الحقُّ أقولُ لكُم: هذا كُلٌّهُ سيَقَعُ على هذا الجِيلِ. 37يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! 38هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا. 39لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَني مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!"، "21وخرَجَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ وجاءَ إلى نواحي صورَ وصيدا. 22فأَقبلَتْ إلَيهِ اَمرأةٌ كَنْعانِـيّةٌ مِنْ تِلكَ البلادِ وصاحَتِ: "اَرْحَمني، يا سيَّدي، يا اَبن داودَ! اَبنتي فيها شَيطانٌ، ويُعذَّبُها كثيرًا". 23فما أجابَها يَسوعُ بكَلِمَةٍ. فَدنا تلاميذُهُ وتَوَسَّلوا إلَيهِ بقولِهِم: "اَصرِفْها عنّا، لأنَّها تَتبَعُنا بِصياحِها!" 24فأجابَهُم يَسوعُ: "ما أرسلَني الله إلاّ إلى الخِرافِ الضّالَّةِ مِنْ بَني إِسرائيلَ". 25ولكنَّ المرأةَ جاءَتْ فسَجَدَتْ لَه وقالَت: "ساعِدْني، يا سيَّدي!" 26فأجابَها: "لا يَجوزُ أنْ يُؤخذَ خُبزُ البَنينَ ويُرمى إلى الكِلابِ". 27فقالَت لَه المَرأةُ: "نَعم، يا سيَّدي! حتَّى الكلابُ تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الذي يَتَساقَطُ عَنْ موائدِ أصحابِها". وإن الإنسان ليتساءل: أهذا هو عيسى الذى تُضْرَب به الأمثال فى الوداعة والطيبة وحب السلام؟ فما بالنا لو عرفنا بم رد على أحدهم حين أخبره أن أمه مريم وإخوته يريدون أن يَرَوْه بالخارج؟ لنسمع: "46وبَينَما يَسوعُ يُكلَّمُ الجُموعَ جاءَتْ أمٌّهُ وإخوَتُهُ ووقَفوا في خارِجِ الدّارِ يَطلُبونَ أن يُكلَّموهُ. 47فقالَ لَه أحَدُ الحاضِرينَ: "أُمٌّكَ وإخوتُكَ واقفونَ في خارجِ الدّارِ يُريدونَ أنْ يُكلَّموكَ".48فأجابَهُ يَسوعُ: "مَنْ هيَ أُمّي؟ ومَنْ هُمْ إخْوَتي؟" 49وأشارَ بـيدِهِ إلى تلاميذِهِ وقالَ: "هؤُلاءِ هُمْ أُمّي وإخوَتي. 50لأنَّ مَنْ يعمَلُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ هوَ أخي وأُختي وأُمّي"، وهو ما يعنى أن أمه وإخوته لا يعملون ما يريده الله منهم. وما بالنا لو عرفنا ما قاله عندما ظن الناس أنه قد أتى بدعوة السلم والسكينة فأكد لهم أنه لم يأت ليلقى سلاما على الأرض بل نارا وسيفا وأنه إنما جاء ليفرّق بين أفراد الأسرة الواحدة ويبث بينهم العداوة والبغضاء؟ وهذا نص كلامه: "34لا تَظُنّوا أنيَّ جِئتُ لأحمِلَ السَّلامَ إلى العالَمِ، ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا. 35جِئتُ لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها، والكَنَّةِ وحماتِها. 36ويكونُ أعداءَ الإنسانِ أهلُ بـيتِهِ".
هذا عن السيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه، أما النبى محمد فقد انتهج سياسة التسامح لا ثلاث سنوات فحسب، بل ثلاثا فوق العشر، علاوة على أن صبره وتحمله للأذى كان أكبر. أما حين فاض الكيل ولم يعد هناك مجال للتسامح بعد أن أغلق الأعداء كل طرق الصبر فكان لا بد من رد العدوان بمثله، وإلا فقد تكرر الأمر بالصبر حتى فى العهد المدنى، أى بعد أن أُذِن للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، كما فى الآيات الأخيرة من سورة "النحل" مثلا، وقد نزلت بعد غزوة أحد: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (18)". هذا، وإن دعوة النبى محمد لأشد مؤونة من دعوة أخيه عيسى: فقد كان عيسى فى سن الشباب حين نهض بدعوته، فيما كان محمد كهلا أوانئذ. كما أن ميدان الدعوة المحمدية أوسع كثيرا وأرحب، إذ بينما كانت دعوة عيسى تنحصر، بعد التوحيد والصلاة، فى بعض الوصايا الأخلاقية المثالية غير القابلة للتطبيق فى دنيا البشر كانت دعوة سيد الخلق تشمل كل شىء فى الدنيا من عقيدة وعبادة وسياسة واقتصاد واجتماع وأخلاق وسلوك وعلم وذوق... وبالمثل كانت دعوة عيسى محلية قبلية، إذ كانت مقصورة على قومه بنى إسرائيل، بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، الذى أتى بدعوة عالمية تشمل الناس جميعا والجن أيضا. وفوق هذا كانت دعوة عيسى مؤقتة بمجىء محمد صلى الله عليه وسلم، أما دعوة نبينا فأبدية. من هذا يتضح لنا أن صبر محمد وتسامحه وطول باله كان أشد كثيرا.
والآن إلى "آية السيف المظلومة". والمقصود بها قوله تعالى فى سورة "التوبة": "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)"، الذى يظن بعض علمائنا القدامى أنه يعنى اطّراح سياسة التسامح، وانتهاج العنف والقتال والإكراه بديلا عنها حتى لو لم يعتد علينا معتد. وهو فهم خاطئ، إذ القتال فى الإسلام مشروط بوقوع العدوان علينا كما هو معروف. وحتى حين يكون قتال ثم يجنح العدو إلى السلام فعلى المسلمين أن يجنحوا هم أيضا نحوه، إلا إذا شعروا أن هناك نية غدر مبيته. وفى هذه الحالة عليهم أن يعلنوا موقفهم واضحا وأن يبينوا أنهم لا يقبلون مثل ذلك السلام الخادع الغادر. ولا أدرى ماذا فى آية سورة"التوبة" بالذات حتى يقال إنها ترسم سياسة جديدة للمسلمين فى تعاملهم مع الأمم الأخرى. إن الأمر بالقتل والقتال غير مقصور على تلك الآية، بل إنها ليست أول آية حملت ذلك الأمر، فلدينا مثلا: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194: البقرة)"، "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91: النساء)"، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15: التوبة)"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123: التوبة)".
أما إذا قيل إن الآية الخامسة من سورة"التوبة" تقول بقتل المشركين دون سبب سوى أنهم غير مسلمين ولا بد من إدخالهم الإسلام أو فرض الجزية عليهم، فالرد هو أن الأمر بقتل المشركين فى الآية المذكورة مقصور على الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود ثم خاسوا فيها وغدروا بالمسلمين وتكرر ذلك منهم، ولا تشمل كل المشركين فى جميع الظروف والأوقات. وهذا واضح من السياق الذى وردت فيه الآية: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)". وجَلِىٌّ أن الحكم إنما ينصبّ على الخائنين الغادرين من المشركين، وهو ما يصدق أيضاعلى النصوص الأخرى كما هو واضح، أما من أوفى بعهده فهؤلاء تُحْتَرَم عهودهم. بل إن الأعداء المحاربين إذا أعلنوا عن رغبتهم للسلم فلا بد من الإنصات لهم والقبول بعرضهم ما لم نحس أن هناك غدرا مبيتا. وبالمثل فإننا مأمورون بألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا. وفوق ذلك فإن من يقع من الأعداء أسيرا فى يد المسلمين فله، حسبما تذكر الآية الرابعة من سورة "محمد"، حَلاّن: إما الفداء لقاء بعض المال، وإما الفداء دون مال. ومعنى هذا أنه سوف يطلق سراحه على كل حال. أما القول بأن الآية إنما تعنى وجوب مقاتلة غير المسلمين فى كل الظروف وفى كل الأوقات فهو قول يجافى سياق الآية والظروف التى نزلت فيها، علاوة على مجافاته نصوص القرآن الأخرى، وكلها تقيّد إيجاب القتال علينا بقتال الأعداء لنا. وكيف يصحّ اتهام القرآن بأنه يحارب غير المسلمين دون أى سبب سوى الرغبة فى إكراههم على الدخول فى الإسلام تحت سيف التهديد والترويع، والقرآن يقول بصريح العبارة: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9: الممتحنة)"؟
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
"المستشرقون الجُدُد"
دانيال بايِبْس وبقية أفراد العصابة
د. إبراهيم عوض
(إلى روح المرحوم مجدى محرم)
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
صدر هذا العام (2007م) عن الدار المصرية اللبنانية للدكتور مصطفى عبد الغنى (المحرر الأدبى بجريدة "الأهرام" المصرية) كتاب بعنوان "المستشرقون الجدد- دراسة فى مراكز الأبحاث الغربية" يقع فى نحو 150 صفحة بما فيها الملاحق الإنجليزية التى نشرها فى نهايته، واستغرقت حَوَالَىْ خمسٍ وأربعين من تلك الصفحات. وفى هذا الكتاب يتناول الدكتور عبد الغنى ما يراه ظاهرة طارئة فى عالم الاستشراق، ألا وهى تحول المستشرق التقليدى إلى خبير فى مراكز البحث التى تعتمد عليها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فى رسم سياساتها تجاه العالم العربى والإسلامى. والمقصود بـ"مركز البحث" ما تكررت إشارة المؤلف إليه باسمه فى الإنجليزية: "a think tank"، وهو مصطلح كان يعنى فى أوائل القرن الماضى: "الذهن"، ثم تطور معناه منذ أواسط ذلك القرن فأصبح يعنى ما يمكن أن نسميه بـ"صهاريج الفكر"، على أساس أن معنى "tank" هو الصهريج أو الخزان الكبير الذى نودع فيه ما نحتاج إليه من ماء أو نفط أو ما إلى ذلك. والمقصود "مؤسسات البحث"، أو "المراكز البحثية" كما ورد فى كتاب الأستاذ المؤلف حسبما نوّهنا قبل قليل، وهى مؤسسات تلجأ إليها بعض الحكومات والهيئات للاسترشاد بما يمكن أن تمدها به من أفكار وأبحاث وتحليلات وتوقعات واقتراحات فى حل ما يواجهها من مشاكل أو فى رسم ما يتعين عليها انتهاجه من سياسات وخطط فى المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الهامة، وإن كان المؤلف قد ترجم ذلك المصطلح أحيانا بـ"دبابات الفكر" لـَمْحًا منه لدور تلك المراكز المدمر بالنسبة للدول الصغيرة التى كُتِب عليها الاكتواء بنار السياسة المبنية فى ضوء ما يبديه العاملون فيها من أفكار واقتراحات مجرمة ظالمة. ومعروف أن كلمة "tank" تعنى، فيما تعنيه، "الدبابة"، وإن كان الأصل فيها هو المعنى الأول. وإلى القارئ حصادَ ما تقوله خمسة من المعاجم الإنجليزية شرحا لمعنى ذلك التعبير، الذى قد يُسْتَعْمَل بدلا منه تعبير مشابه هو: "a think factory":
1- a research institute or organization employed to solve complex problems or predict or plan future developments, as in military, political, or social areas. Also called think factory (Dictionary.com Unabridged).
2- A group or an institution organized for intensive research and solving of problems, especially in the areas of technology, social or political strategy, or armament (American Heritage Dictionary).
3- a company that does research for hire and issues reports on the implications (WordNet).
4- or organization dedicated to problem-solving and research, especially in such areas as technology, social or political strategy, and the military. For example, The congressional leaders rely too heavily on that conservative think tank. This term originated about 1900 as a facetious colloquialism for brain and was given its new meaning about 1950 (American Heritage Dictionary of Idioms by Christine Ammer).
5- An institution in which scholars pursue research in public policy. Largely funded by endowments and grants, think tanks work to improve public awareness of policy issues (through publications) and to influence the government to act upon issues of national importance (American Heritage New Dictionary of Cultural Literacy, Third Edition).
وفى دائرة المعارف المشباكية: "الويكيبيديا: wikipaedia" نقرأ تحت ذات العنوان:
"A think tank is an organization, institute, corporation, or group that conducts research, typically funded by governmental and commercial clients, in the areas of social or political strategy, technology, and armament.
History of think tanks:
Since "think tank" is a term that has only found use since the 1950s, there is still some debate over what constitutes the first think tank. One candidate is the Fabian Society of Britain, founded in 1884 to promote gradual social change. The Brookings Institution, founded in the US in 1916 is another candidate for the first think tank. The term think tank itself, however, was originally used in reference to organizations that offered military advice, most notably the RAND Corporation, formed originally in 1946 as an offshoot of Douglas Aircraft and which became an independent corporation in 1948.
Until around 1970, there were no more than several dozen think tanks, mostly focused on offering non-partisan policy and military advice to the United States government, and generally with large staffs and research budgets. After 1970, the number of think tanks exploded, as many smaller new think tanks were formed to express various partisan, political, and ideological views.
Etymology and usage:
Until the 1940s, most think tanks were known only by the name of the institution. During the Second World War, think tanks were referred to as "brain boxes" after the slang term for the skull. The phrase "think tank" in wartime American slang referred to rooms in which strategists discussed war planning. The first recorded use of the phrase to refer to modern think tanks was in 1959, and by the 1960s the term was commonly used to describe RAND and other groups assisting the armed forces. In recent times, the phrase "think tank" has become applied to a wide range of institutions, and there are no precise definitions of the term. Marketing or public relations organizations, especially of an international character, sometimes refer to themselves as think tanks, for example".
وقد تعرض كاتب المادة إلى أهم المراكز البحثية فى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان وروسيا وبولندا وسويسرا والسويد والدانمارك والصين وهونج كونج وتركيا وإيران والبرازيل، ولكنه لم يتطرق إلى ذكر أى مركز عربى رغم وجود مثل تلك المراكز فى بلاد العرب بطبيعة الحال. لكن السؤال هو: هل يهتم صناع القرار السياسى والعسكرى والاقتصادى عندنا بالرجوع إلى تلك المراكز لاستطلاع آرائها والأخذ بما تقدمه من دراسات ومقترحات وحلول؟ أم هل ينظرون إليها نظرهم إلى قطعة أثاث جىء بها لمجرد الزينة والاستعراض ومجاراة الآخرين حتى لا يقال إننا متخلفون عنهم، بغض النظر عن إدراكنا لقيمتها واستفادتنا منها أو لا؟ وأغلب الظن من شواهد الحال أن الاحتمال الثانى هو الأقرب إلى الصواب، وهى ظاهرة مؤسفة، إذ معنى ذلك أن حكامنا لا يكتفون بإهمال رأى شعوبهم، بل لا يَرَوْن فى أنفسهم حاجة إلى استشارة العقول الكبيرة فى البلاد المنكوبة بهم، طبعا لاعتقادهم العميق فى أنهم مُلْهَمون يُوحَى إليهم بما ينبغى لرعاياهم من حلول وسياسات. وهذا هو السر فى أن الوزراء والمسؤولين الحكوميين فى بلادنا يقولون دائما، كلما نوَوْا أو تظاهروا بأنهم يهمون أن ينجزوا شيئا، إنهم يفعلون ذلك "بتوجيهات جلالة الملك أو سيادة الرئيس". ذلك أن حكامنا إنما خُلِقوا ليوجِّهوا شعوبهم ولا يحتاجون إلى من يستشيرونه فى شىء، إذ ما الحكمة من مثل تلك الاستشارة ما داموا يَتَلَقَّوْن الوحى من السماء مباشرة رغم أن النبى محمدا المتصل بالسماء حقا وصدقا كان حريصا على استشارة من حوله فى كل صغيرة وكبيرة؟ بل ما جدوى تلك الاستشارة إذا كان الشعب نفسه لا يهتم بشىء من ذلك، بل هو لا يقدّر أصلا هؤلاء الحكماء الذين ينبغى لحكّامه استشارتهم، لكنهم لا يفعلون، ولا يشعر لهم بأية قيمة أو فائدة؟ إن شعوبنا بوجه عام إنما تعيش فى مستوى غرائزها ولا تتطلع إلى ما هو أعلى من ذلك!
ولعله من المستحسن فى هذا السياق أن نورد ما قاله الكاتب الصحفى الأستاذ سلامة أحمد سلامة فى "أهرام" الخميس 3/ 5/ 2007م فى عموده اليومى: "من قريب" تحت عنوان "فساد البيزنس والسياسة"، إذ بعد أن تكلم عن تدخل رجال الأعمال بغشم وجهل فى أمور السياسة وتأثيرهم السئ فى إصدار القرارات قال: "غير أن تحالف السلطة والمال ليس هو الوحيد، فهناك تحالف يسانده بين السلطة وفريق من المثقفين والبيروقراط من الخبراء وأساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث يوظفون خبراتهم في تطويع القوانين وتقديم الأفكار، ليس لتحقيق التقدم والدفع إلى الأمام، ولكن لتبرير وتمرير القوانين ووضع الخطط الكفيلة بالانتقال من التدبير في الخفاء إلى العلن والمواجهة، ومن طور البحث والطهي في الغرف المغلقة إلى طور العرض علي اللجان البرلمانية والقنوات الرسمية والإعلامية. أين يقف المثقف والمفكر من هذه المعضلة؟ وهل يستطيع أن يؤدي دوره في مجتمعه, محتفظا بصفاء عقله وضميره واستقلاليته، يقول رأيه ويمضي دون انتظار لمكافأة أو ثناء؟ أم يخضع رأيه وموقفه لحساب المكسب والخسارة، وما تمليه عليه ضرورات الرزق والأمان الفردي والاجتماعي، وما يلقاه من تقدير أو ازدراء، خصوصا في مناخ القلق الاجتماعي والسياسي الراهن؟ هذه المعضلة ظلت تؤرق مضاجع المثقفين منذ أجيال. وفي كل مرحلة من مراحل التحول السياسي والاجتماعي تتجدد المشكلة ويعاد طرح السؤال من جديد. وفي المرحلة الحالية ازدادت الفجوة ودخلت إلى الحلبة فئات اعتادت أن تنأي بنفسها عن السياسة مثل القضاة والأطباء وأصحاب المهن الحرة وبدرجة أكبر أساتذة الجامعات. وأصبح من الضروري أن يقرر كل فرد لنفسه ما يختار: هل ينضم إلى منظومة السلطة ليصبح جزءا منها يركب الموج ويتخلي عن قناعاته، أم يترك نفسه للذوبان في تشكيلات لا يملك فيها من أمره شيئا، أم يحافظ علي استقلالية رأيه ويحاول التأثير والتغيير في النظام والمجتمع دون أن ينعزل عن الواقع؟".
وعلى أية حال فالمعروف أن عددا من حكام العرب والمسلمين أميون أو يكادون أن يفكوا الخط فى أحسن الأحوال، وفى كل الأحوال لا يُعْرَف عن أى منهم أنه يقرأ شيئا. وعلى أية حال أيضا فإنهم لا يُدْنون منهم فى العادة إلا من يُسْمِعونهم الكلام المعسول وينافقونهم ولا يصدّعون أدمغتهم بالحقائق المرة التى تفقأ عين كل من عنده عين! ثم إنهم ضعفاء عاجزون أو شبه عاجزين أمام القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى هذا فحتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إنهم يريدون الاستفادة من تلك المراكز وما فيها من خبراء فإن تلك القوى تجبرهم على نبذ هذه النية وتئدها لهم فى ضمائرهم قبل أن ترى النور، وتأمرهم بعمل ما تريد هى فيأتمرون دون أن يتنحنحوا مجرد نحنحة! وقد ذكر الدكتور مصطفى عبد الغنى من هذه المراكز مركز الشيخ زايد فى الإمارات، ذلك المركز الذى كان تابعا للجامعة العربية وأثار منذ قريب ضجة عالمية حين اتهمته الدوائر الغربية بتشجيع الإرهاب.
ولكى يكون القارئ معى فى الصورة سأنقل له ثلاثة نصوص لا غير مما عثرت عليه وأنا بصدد إعداد هذه السطور: فأما أولها فهذا البيان الذى وجدته فى واجهة موقع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الرئبس الراحل لدولة الإمارات العربية المتحدة: "http://www.alshamsi.net/zayed/zayed_human.html"، وهو بعنوان "زايد وحقوق الإنسان": "اختصر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كافة القوانين والدساتير المتعلقة بحقوق الإنسان وتجاوزها فعلا بقرارات حكيمة ومبادرات طيبة وضعها من خلال نظرته الثاقبة وفكره المتوقد للحفاظ على أغلى ثروة يمتلكها الوطن. كما قال سموه دائما إن الإنسان هو أغلى ثروة يمتلكها الوطن. ومنذ البداية قطعت دولة الإمارات العربية المتحدة العهد على نفسها بألا تنمية بدون تنمية الإنسان أولا، ومن هنا كان مسعاها نحو العمل بكل جهد وإخلاص من أجل كفالة حقوق الإنسان وصيانة حريته ورفاهيته وتوفير كل السبل الممكنة للنهوض بقدراته نحو الأفضل، وهيأت كل المستلزمات التي تمكن من أن يكون هذا الإنسان في مقدمة خططها الآنية والمستقبلية، وسنت لهذا الغرض العديد من القوانين الدستورية والقوانين ذات الاختصاص من أجل ذلك الهدف.
وكان الهاجس الأول لصاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله هو تنمية الإنسان، فكان دستور حمايته ورفاهيته وصيانة مكتسباته حاضرا في ذهنه منذ زمن بعيد، وقبل أن يوضع دستور مكتوب. فقد عمل وبكل تفان وإخلاص من أجل أن ينهض بهذا الشعب نحو العزة والوحدة، وكان إيمانه بالوحدة والسعي نحو تحقيقها هو الهدف الذي من أجله قاد الكفاح من أجل الإنسان لأنه أدرك منذ زمن بعيد بأن الوحدة قوة، والإنسان هو هدفها وغايتها. فالإنسان عند صاحب السمو رئيس الدولة هو أساس أي عملية حضارية حيث يقول إن الاهتمام بالإنسان ضروري لأنه محور كل تقدم حقيقي مستمر، فمهما أقمنا من مبانٍ ومنشآت ومدارس ومستشفيات، ومهما مددنا من جسور وأقمنا من زينات، فإن ذلك كله يظل كيانا ماديا لا روح فيه وغير قادر على الاستمرار. إن روح كل ذلك هو الإنسان القادر بفكره وفنه وإمكانياته على صيانة كل هذه المكتسبات والتقدم بها والنمو معها.
وأوضحت إحدى الدراسات الصادرة عن مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي من الدول التي آمنت أن أساس التنمية هو الإنسان، وبناء عليه سعت إلى كفالة حقوقه وحرياته وصاغت في سبيل ذلك العديد من القوانين الدستورية المشرعة لكل الحقوق والحريات، ودعمتها بالقوانين الوزارية، وسعت بكل ما تملك إلى وضع القوانين التي تحقق المصلحة العامة حيث سعى صاحب السمو رئيس الدولة منذ قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أن يضع لهذه البلاد دستورا يعبر عن إيمانه بهذا الشعب ويعبر كذلك عن طموحاته الهائلة من أجل هذا الشعب وتأمين حقوقه المدنية والسياسية، ولم يغفل ذهنه المتوقد أي جانب من جوانب هذه الحقوق.
وقد جاء دستور دولة الإمارات العربية المتحدة معبرا حقيقيا عن كرامة هذا الإنسان، فقد حرم التعذيب والمعاملة القاسية احتراما لكيان هذا الإنسان، ورفض الاستعباد وفرض العمل بالقوة وحق الحرية والسلامة الشخصية والإقامة والانتقال وحق المساواة أمام القضاء وفق القانون. وأنصف دستور دولة الإمارات الإنسان أيما إنصاف، فقد كفل حريته الخاصة في المنزل والمراسلات والفكر والضمير والديانة والحق في الرأي والتعبير وحق العائلة في التمتع بالحماية في المجتمع والدولة والمساواة المطلقة أمام القانون، وحظر استبعاده عن بلاده ومصادرة أمواله وحقه في الجنسية والعقوبة الشخصية وحرية المسكن.
ومن أبرز ما جاء به دستور الإمارات في صيانة حقوق الإنسان استقلال القضاء وحق المواطن في مخاطبة السلطات العامة وحق تشكيل الجمعيات واحترام الملكية وحق اللجوء السياسي، ولم يغفل الدستور حقوق الطفل والمرأة، وأكد على العنصرين الاساسيين في الأسرة، وهما المرأة والطفل، وصيانة حقوقهما، ووفر كل السبل من أجل رعايتهما من مستشفيات ومدارس ورياض أطفال ومراكز رعاية الأسرة، وكفل حقوقهما في القانون الدستوري للدولة احتراما لمكانتهما في المجتمع وحب القائد لهما. وشملت أكثر من 23 مادة في الدستور الحريات الشخصية للإنسان، فضلا عن الحريات الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. واعتبر الدستور أن المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين والمواطنات من دعامات المجتمع الأساسية. كما نص الدستور على أن الاسرة هي أساس المجتمع، ويكفل القانون كيانها ويصونها ويحميها. وقد استعرضت الدراسة ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومفهوم حقوق الإنسان عالميا وإسلاميا وعربيا، وكذلك الآليات الإقليمية والدولية لحماية حقوق الإنسان والموقف العربي من العالمية والخصوصية في حقوق الإنسان. وأوضحت هذه الدراسة بالجداول والأرقام مقارنة بين الحقوق المدنية والسياسية الواردة في الدستور المؤقت لدولة الإمارات والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تؤكد على أن تشريعات دولة الإمارات العربية المتحدة شاهدة على تقدم وتمدن هذه الدولة واحترامها لحقوق الإنسان وإطلاقها لهذه الحقوق والحريات وعدم تقييدها من خلال تبني وإقرار عدة ضمانات من أجل الإنسان وحقوقه وحرياته في مختلف المجالات وكافة الظروف. كما أكدت الدراسة على أن دولة الإمارات تعتبر من الدول العربية القليلة الملتزمة بتقديم تقرير سنوي لاجتماعات الاتفاقية الدولية المتعلقة بإزالة جميع أنواع التمييز العنصري والتفرقة العنصرية. وأكملت دولة الإمارات انضمامها الرسمي للعديد من الاتفاقيات الدولية كان آخرها الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل مطلع العام 1997، وشاركت بفعالية وإيجابية في الحوار الدولي لحقوق الإنسان من خلال المؤتمرات الدولية التي نظمتها الأمم المتحدة.
كما أنه لم تسجل تقارير المنظمات الدولية العربية والعالمية أي انتهاكات لحقوق الإنسان بالإمارات، ووثقت الدراسة لعدد من الاتفاقيات والعهود والوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، ومنها وثيقة انضمام حكومة دولة الإمارات إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.
ومن الجدير بالذكر أن الدراسات التي يقدمها مركز زايد للتنسيق والمتابعة عن الإنسان وحقوقه في القانون الدولي تناولت عناوين بارزة هي على صلة بالواقع الدولي لحقوق الإنسان من أبرزها: حقوق الإنسان- ثوابت المبدأ ومتغيرات الزمن، والميثاق العربي لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان في الإسلام، وأيضا المصادر الحقيقية لحقوق الإنسان، وكذلك القانون الأساسي لمنظمة العفو الدولية، والاتفاقيات الدولية التخصصية في حقوق الإنسان، وكذلك الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، وغيرها من الدراسات العظيمة التي قدمها هذا المركز ومازال يقدمها في خدمة الإنسان والإنسانية (من دراسة أعدها مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة ونقلاً عن موقع جريدة الإتحاد على الإنترنت بتصرف)".
ولا يسع المرء حين ينتهى من ذلك الكلام إلا أن يتساءل: ترى ما جدوى إنشاء مثل ذلك المركز إذا كان الحاكم من حكامنا لا يحتاجه ولا يحتاج شيئا آخر غير ما تثمره عبقريته التى لم تلدها ولادة، أكرر: لم تلدها ولادة، نعم لم تلدها ولادة، لأنه ببساطة لا وجود لمثل تلك العبقرية ولا لأية موهبة بالمرة؟ ولا أظن أنه قد نُسِىَ بَعْدُ ذلك الحاكم العربى الذى أنفق واقفا فى واحد من مؤتمرات حرب الخليج الأولى (كأى تلميذ غبى بليد ثخين العقل غليظ الإحساس لا أمل فى أن يتطور من المرحلة الديناصورية إلى المرحلة الإنسانية) دقائق عصيبة بل قاتلة مرت كأنها دهر، وهو يحاول أن يتهجى بضع كلمات لا راحت ولا جاءت كتبوها له بحروف فى ضخامة الفيل كى يقرأها فى ذلك المؤتمر أمام عدسات التصوير التى يشاهدها العالم كله، وهو يتهته ويفأفئ ويبأبئ ويتأتئ ويمأمئ ويفسفس ويبسبس ويمسمس، ولا يتتعتع (رغم كل هذه التأتآت والبأبآت والمأمآت والفأفآت والفسفسات والبسبسات والمسمسات) من موضعه ولا فيمتو مليمتر واحد فى الساعة، وكانت فضيحة مدوية! وكنت، والله العظيم، وأنا أشاهد ما يجرى، أتمنى لو انشقت الأرض وبلعتنى، تعاطفا مع المسكين. وتساءلت: ألم يكن الرجل، بدلا من هذه الشحططة والمرمطة، قادرا على ارتجال كلمة من تلك الكلمات السخيفة التى يزعجنا بها حكامنا فى الفاضية والملآنة ويظل المذياع والمرناء يحرق بها أعصابنا أياما وليالى ويفقع مصاريننا ومرارتنا أيضا بالحديث عن اهتمام العالم كله: العلوى منه والسفلى، والظاهر والخفى، وعالم الجن وعالم الإنس وعالم الملائكة، وعالم الحيوانات والطيور والحشرات والزواحف والديناصورات المنقرضة من قبل أن نصطبح بخلقة هؤلاء العباقرة بملايين السنين، إن كان لنا أن نصدق علماء الأحياء وطبقات الأرض فى موضوع عمر الأرض، وكيف أن العالم أجمع لا يهنأ له نوم ولا يروق له بال، ولا يهدأ له بلبال، إلا إذا شنّف آذانه كل يوم عدة مرات لعدة أسابيع بسماع الكلمة العبقرية التى لم يمر لها مثيل من قبل ولن يجود الدهر بهذا المثيل مستقبلا؟ لكن يبدو أن المسكين أراد أن يثبت للغرب أنه واحد من أولئك الذين يستطيعون فك الخط، فلم ينجح للأسف فى ادعائه، بل لم يقيض له الله أن يحصل ولو على ملحق. ثم يقولون: مراكز بحثية فى العالم العربى! شىء لله يا مراكز!
نعم هناك مراكز بحثية فى العالم العربى، لكن الذى يستفيد منها هو الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص، وهذه هى الحقيقة الناصعة، بل الحقيقة الوسخة التى لا يفلح فيها أومو ولا بِرْسِيل ولا أى منظف كَحْيان عَدْمان من منظفاتنا التى كُتِب عليها السوء والرداءة كأى عمل نمارسه وأية صناعة ننتجها، أما حكامنا فهم فى الغالب يديرون أمور حياتنا كما كان يفعل أى فلاحٍ فى كفر من الكفور المصرية أيام زمان حين يتربع على المصطبة، وهات يا فتاوى فى كل أمور الحياة، وهو لا يعرف الألف من كوز الذرة. ألم يقولوا فى المثل: سكة أبو زيد كلها مسالك؟ فحكامنا، والحمد لله، سالكون تمام التمام و"جِدْعان آخر مجدعة"، ويعجبونك جدا، ومقطِّعون السمكة وذيلها، ويفهمونها وهى طائرة، ولا يحتاجون لشىء اسمه المراكز البحثية التى لو كان لدينا ذرة صدق وإنصاف لبللناها وشربنا عصيرها على الريق كى نستفيد شيئا مما أنفقناه عليها ولا نخرج من المولد بلا حمّص.
وأحب، قبل أن أترك هذه النقطة، أن أقول لمن سينخرط الآن فى فاصل من النقد للرجل وأمثاله: إنه ليس وحده هكذا، بل معظمنا كذلك بدرجات متفاوتة، وما المدارس والمعاهد والجامعات وما يُنْفَق عليها من مليارات سوى واجهات زائفة لا تخفى وراءها علمًا ولا جِدًّا ولا اهتماما بشىء، وإنما هو الوقت نضيعه دون تحصيل علمٍ جِدّىٍّ أو تطهير عقلٍ حقيقىٍّ أو اكتساب مهارة جديدة. وكلنا نعرف هذا، لكننا لا نريد أن نُقِرّ به رسميا، فهنيئا لنا! وقس على التعليم الانتخابات والمجالس النيابية والتأمين الصحى... وهلم جرا.
وهنا أجد لزاما علىّ رغم هذا أن أشير إلى ما نبّه إليه الدكتور مصطفى عبد الغنى من أهمية مثل تلك المراكز بما تمثله من سمة إيجابية "لأية دولة تسعى إلى النهوض وتحافظ على مكتسباتها القومية بأدوات البحث ورموزه، خاصة فى بلادنا العربية بكل ما تواجهه الآن من مخاطر. ففى هذا القرن من الزمان الذى شهد تطورا هائلا فى مختلف الميادين والحقول عُرِفَتْ عمليات الاهتمام المعرفى وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطارٍ مؤسَّسِىٍّ دائم هو ما نطلق عليه اليوم: "مراكز البحوث والدراسات"، فأصبحت الشعوب والأمم والحضارات تتبادل معارفها وتحافظ على مميزاتها وخصائصها انطلاقا من وِرَش العلم البحثية المنتشرة فى أرجاء المجتمعات المتحضرة. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فُضْلَى لعرض الـمُنْجَز الفكرى والعلمى والحضارى لأية أمة من الأمم. ويمكن أن تلعب فى حالتنا، حالة الصراع العربى الإسرائيلى، دورا إيجابيا إذا أحسنّا التعامل معها وبها" (ص 10). وهذا كلام طيب، بيد أنه يتعلق بما ينبغى أن يكون لا بما هو كائن فى بلادنا فعلا، اللهم إلا إذا كان قصده استفادة المثقفين لا الحكام، إذ لا أظن أن حكامنا بحاجة إلى مثل تلك المراكز أصلا للسببين اللذين سبق ذكرهما.
أما النص الثانى الذى عثرت عليه وأنا أعد هذه الفقرات، وأحببت أن أقدمه للقارئ هنا، فهو المقال الذى قرأته منذ عدة ليالٍ فى صحيفة "المصريون" الضوئية، وهو عن مواعيد امتحانات الثانوية العامة فى آخر هذا العام. و سوف يتسم الكلام هذه المرة بالتواضع لأننا لن نتناول فيه حاكما عظيما ممن يفهمونها وهى طائرة ويأتون بالذئب والثعلب أيضا فوق البيعة، ومعه الأسد (نعم الأسد الذى يغنى له الأطفال: ملك الغابة، يا ملك الغابة. تلاعبنى ملك والاّ كتابة؟)، بل وزيرًا "كُلّشِنْكَانًا" لا يهشّ ولا ينشّ من "العشرة بمليم" كالليمون فى الأيام الخوالى، أيام أن كان الليمون بعد العصر لا ينباع، وعنوان المقال هو "بلد عشوائيات"، وتاريخه 25 إبريل 2007م، وكاتبه جمال سلطان. يقول المقال، أو كاتبه إذا أردتَ الدقة: "بابتسامته العفوية الجميلة ظهر لنا الدكتور يسري الجمل وزير التعليم قبل أسابيع وهو يزف لنا بشرى أن جدول امتحانات الثانوية العامة هذا العام سيكون وفق اختيار أولياء الأمور والطلاب وبما يناسب الجميع، وبالتالي تم طرح صيغة مقترحة للجدول لتلقي المقترحات. ثم بعد أن تم الحصول على الملاحظات والمقترحات خرج علينا الدكتور يسري بنفس الصورة الحلوة المبتسمة وهو يعلن بسعادة وفخر عن إصدار جدول امتحانات الثانوية العامة الجديد. وعمم الخبر مع صورته الجميلة على الصحف القومية والمستقلة، لكن يبدو أن "الحلو" لا يكتمل، فبعد أن تأهل الطلاب والطالبات نفسيا للجدول الجديد، حيث تتم عملية رياضية ذهنية مثيرة جدا للفروق الوقتية بين المادة وأختها، إذا بنا نفاجأ بمعالي الدكتور يسري يعلن بشكل عاجل إلغاء الجدول الذي تم اعتماده، وذلك، حسب قوله، بناءً على شكاوى من بعض أولياء الأمور. طبعا ليس أي أولياء أمور، وإنما هم من أولياء الأمور الذين يملكون حق "الفيتو" في هذا البلد المغلوب على أمره. ثم أكد معالي الوزير على أن الجدول "المعدل" تم تعديله بعد حوار عبر "الفيديو كونفرانس" بحيث يأخذ صيغته الأخيرة. ثم خرج الدكتور يسري بنفس صورته الحلوة المبتسمة ليزف بشرى صدور الجدول، وبالتالي تعميمه على مديريات التعليم التي وزعته على المدارس التي قامت بطبعه، ومن ثم توزيعه على الطلاب. وما إن بدأ الطلاب يستقرون نفسيا بعد هذا القلق والتوتر حتى فاجأ الدكتور يسري الجميع أمس بنفس صورته الحلوة المبتسمة وهي تعلن أنه، بكل أسف، أن الجدول "المعدَّل" الذي تم اعتماده لامتحانات الثانوية العامة وتعميمه على المديريات والمدارس والطلاب لن يصلح وتم إلغاؤه، حيث خرج عباقرة الوزارة، بدون مشورة أولياء الأمور هذه المرة، بجدول جديد، يا رب يكون الأخير، خلطوا فيه المواعيد وأربكوا ما استقر في وعي الطلاب وذهنهم من ترتيبات. وقالوا إن الجدول الجديد "المطور" تم وضعه بناء على ظروف انتخابات مجلس الشورى المقبلة، وكأن جهابذة الوزارة وجيش مستشاريها لم يكونوا يعرفون أن انتخابات الشورى ستكون في هذا التوقيت. والحقيقة أن الناس ما زالت في حيرة: هل هذا آخر كلام الوزير أم أنه سوف يخرج بعد عدة أيام لكي يفتح الباب من جديد للحوار و"الفيديو كونفرانس" أو أن يأتيه الوحي في النهاية من قيادة نافذة تطلب منه تعديل الجدول من جديد فيظهر لنا الجدول "المحسَّن"؟ هذا الذي حدث يكشف عن مدى العشوائية التي تدار بها البلد. موضوع الثانوية العامة مسألة ذات حضور طاغٍ في الأسرة المصرية، ولها أولوية قصوى على كثير من شؤون الحياة. وهذا في تصوري خطأ، وأسبابه متراكمة، والمسؤول عنه أكثر من طرف، سواء في الجهاز الإداري والتعليمي أو التوظيف السياسي الفِجّ للعملية التعليمية أو في وعي المجتمع نفسه. فإذا كان العبث يتم في مسألة بهذا القدر من الخطر والحساسية، وإذا كانت هذه العشوائية تتم في قضية لا تحتمل عشوائية أصلا لأن المناهج والسياسات لم تتغير من عدة سنوات فيما يخص الثانوية العامة، فكيف بنا في تعاملنا مع بقية شؤون البلد؟ أو بمعنى آخر: كيف يذهب خيالنا إلى مدى العشوائية التي تتم في الأمور الأخرى التي لا نراها ولا نتابعها إلا صدفة وبدون قصد؟ لك الله يا شعب مصر".
هذا، ولى تعليق سريع وتافه على المقال ملخَّصُه أننا كلنا تقريبا ذلك الوزير، فلا ينبغى أن نتصور أننا طاهرون بُرَءَاءُ وأنه هو وحده المعيب، بل الكل يتصرف عشوائيا كالوزير وأَزْفَت منه. كما أن الميت لا يستحق كل هذه الجنازة الحارة، فالطلبة فى الجامعة على سبيل المثال لا يتعلمون شيئا يستأهل، بل كل ما هنالك أنهم يحفظون بعض الملخصات آخر العام يُسْقَوْنَها سقيا بملعقة ملوثة من كوز قذر لينسَوْها تَوَّ خروجهم من الامتحان، ثم هم لا يعرفون كيف يكتبون جملة واحدة، لا أقول: سليمة، بل جملة لها معنى، أما الخط فحدث ولا حرج، فهو فى غالب الأحيان شىءٌ مقئٌّ لا يمت إلى الكتابة بصلة، ولا أدرى من أين تعلمه هؤلاء المعاتيه الرسميون. وبالمناسبة فالملخصات يكتبها لهم واحد منهم أو طالب فاشل عنده كَمٌّ من الجرأة بل الوقاحة يخيِّل له أنه قادر على تلخيص مواد ومقررات لا يفقه فيها شيئا لأنه من نفس العينة والسلالة التى منها سائر الطلاب، فمن أين يأتيه الفهم والتحصيل؟ إن هو إلا عَتَهٌ رسمى بشهادة مختومة بخاتم النسر، الذى اقترح أن يستعيضوا عنه بأبى فصادة حتى يوافق شَنٌّ طبقة، وكان الله يحب المحسنين، ويكره الكسالى الثرثارين! ووضْع الطلاب هنا كوضْع من تدعوه إلى أكلة نظيفة شهية فى مطعم فخم فيؤثر عليها شطائر الفول والبطاطس من عربة فى الشارع مربوطة إلى حمار يغسل صاحبها أطباقه فى جردل موضوع تحت فم الحمار وأنفه، فهو (أى الحمار، أو صاحب الحمار: لا فرق) يشمه ويعطس فيه ويشرب منه، فضلا عن أسراب الذباب والغبار والهباب الذى يحط على الطعام ويغرم بها صاحبنا غراما وانتقاما! ولكن ماذا تقول فى الذوق الفاسد والطبع المعوجّ؟ مرة أخرى: هنيئا لنا!
وأخيرا هذا هو النص الثالث الذى وعدت القراء به، وهو يعطينا فكرة عن أحد المستشارين المقربين إلى رئيس أكبر دولة عربية. يقول د. عماد عبد الرازق تحت هذا العنوان الجانبى: "أسامة الباز متلعثما تليفزيونيا- أول وآخر مرة!" من مقال منشور بجريدة "القدس العربى" اللندنية يوم السبت 30 مارس 2007م بعنوان "الأعمال الكاملة لانتحاري إرهابي مسيحي، والمتلعثم الرسمي باسم الحكومة المصرية يتلعثم": "لو كنت من رئاسة الجمهورية المصرية لاستصدرت حكما قضائيا بالحجر على د. أسامة الباز ومنعه منعا باتا من الظهور على شاشة التليفزيون، أي تليفزيون، محلي أو عربي أو حتي يبث في كوكب عطارد. من أجل هذا الرجل المخضرم في عالم السياسة يجب استحداث منصب جديد خصيصا أقترح تسميته: "المتلعثم الرسمي"، وهو تنويع على وظيفة المتحدث الرسمي. لقد شاهدت الدكتور الباز ضيفا على برنامج "اليوم السابع" وكادت الدموع أن تفر من عيني حزنا وكمدا عليه. فما رأيت رجلا قط في مثل هذا الحيص بيص وهو يرد علي أسئلة محمود سعد. واحد من أكثر المذيعين المصريين لزوجة ومطاطية، فهو المترفق دوما، الحنون للغاية علي ضيوفه، تأخذه الشفقة بهم حتي تخاله سيركع أمامهم ويقبل أياديهم طلبا للصفح والمغفرة إذا ما تسبب أحد أسئلته في إحراجهم أو إزعاجهم أو أي شبهة من هذا القبيل. ولهذا أيضا تجده يسبغ عليهم من كرم الضيافة أطنانا من عبارات المديح والإطراء. يتحسس طريقه نحو الأسئلة بعد أن يخففها ويهندمها ويهذبها ويقلمها ويشذبها، ويطعمها بجمل وعبارات اعتراضية واستطرادية من قبيل: "علي سبيل المثال" أو "لنفترض جدلا أو لنتخيل، و أنا لا أقول إنك قلت كذا أو فعلت كيت"... وهكذا إلى أن يبعد جميع الشبهات والشكوك والايحاءات عن فحوى السؤال حتي يصير مائعا ساقعا لا طعم له ولا لون ولا رائحة. مع كل هذا كان د. أسامة الباز كارثة تليفزيونية بكل المقاييس. نعم كان الرجل أشبه ببطل تراجيدي في إحدى المآسي اليونانية العظيمة الخالدة، البطل الذي كان نبيلا حتي سقط سقطته التراجيدية نتيجة علة أو خلل في شخصيته، فحلت عليه لعنة الآلهة وسقط من عليائه مضرجا في أهواله التي صنعها مزيج من قدره الغشوم وحمقه أو النقيصة الأخلاقية المتأصلة فيه. على الرغم من أن د. الباز لم يكن في يوم من الأيام بطلا ولا يحزنون، لكن هكذا على الأقل كان الناس يحسنون الظن به، وأنا واحد منهم مع كل هذه المناصب التي شغلها في قمة الهرم السلطوي لأكثر من ثلاثين عاما، إلى أن شاهدته متحدثا تليفزيونيا. نعم أحسست بالشفقة كما نحس بالشفقة على أوديب الذي فقأ عينيه أو هاملت غارقا في جحيم شكوكه وهلوساته وانجرافه نحو هاوية الجنون، يطارده شبح أبيه المغدور بالتآمر بين أمه وعمه الخؤون، أو الملك لير وقد استبد به الجنون والخرف. أشفقت علي الدكتور الباز ولعنت من نصحه بالموافقة على الظهور في البرنامج ليدلي بهذه الإجابات المهترئة، والتبريرات المهلهلة لسياسات لا يجرؤ حتى على تبنيها أو ادعاء أنه كان من صانعيها، وحين ينبري للدفاع عنها (كلمة "ينبري" كبيرة إلى حد ما)، حين تساوره نفسه الأمارة بالسوء أن يدافع عنها، تكون الطامة الكبرى وينكشف المستور. كان الرجل يتلعثم تلعثم من ضبط متلبسا كما ولدته أمه في وضع مخل بالآداب، يهرف بكلمات وعبارات لا تعني شيئا البتة، ومضيفه المسكين يجاهد ويكابد في أن يستخرج المعاني من وسط ركام الهراء الذي ينسكب من فم الرجل الباز (وياللمفارقة في اسمٍ ليس علي مسمي بالمرة، فهو أبعد ما يكون عن "الأسامة" وعن "الباز"). وكلما شط الدكتور واشتط يعيده محمود سعد بأدبه المتصنع لدرجة التزلف إلى لب الموضوع ويعيد على مسامعه السؤال عينه بشحمه ولحمه ودمه، ولكن دون جدوى تذهب جهوده المضنية أدراج الرياح. إنه حتى لا يجيد التهرب من الأسئلة، ولم يدل بتعليق واحد تشتم منه رائحة الذكاء أو الألمعية. تتعقد منه الخطوط، ويتوه في الزحام وتخونه الكلمات وتضيع منه الأفكار، ونضيع معه ونحن نعتصر جباهنا لنتأكد أن البلاهة لم تحط علينا فجأة، ونفرك آذاننا لنتأكد أن الصمم لم يعترها بعد، ونحملق في الشاشة ونفرك عيوننا لنتأكد أن هذا هو د. أسامة الباز مستشار رئيس أكبر دولة عربية للشؤون السياسية بشحمه ولحمه ودمه وقده وقديده، حامل الدكتوراه من بلاد العم سام. ويا ميت ندامة ع الفرع العدل لو مال. كانت المناسبة مرور "عُشْرُمِيت" سنة علي مبادرة الرئيس السادات وزيارته للقدس".
كذلك أبرز كاتب مادة "think tank" فى "الويكيبيديا" ما يوجَّه إلى هذه المراكز البحثية من نقد، وهو ما لم يفت مؤلفنا فذكره فى كتابه ونبّه إلى الأخطار والمصائب التى تقع على رؤوسنا من وراء المراكز الأمريكية بالذات. ومن هذا النقد أن أعضاء تلك المراكز لن يمكنهم مقاومة الرغبة الطبيعية فى استمرار الدعم المالى الذى تقدمه هذه الجهة أو تلك ويدخل بطبيعة الحال جيوبهم، فنراهم يتخَلَّوْن بدرجة أو أخرى عن الحيادية المطلوبة منهم أو على الأقل: المفترضة فيهم، ويقدمون من النتائج ما يرضى أولئك المموِّلين محوِّلين من ثَمّ تلك الأجهزة إلى توابعَ أيدلوجيةٍ لمن يدفعون لهم، توابعَ تعمل على تشكيل الرأى العام وتوجيهه إلى الناحية التى يريدها هؤلاء حتى لو كان فيها مخالفة صريحة للعلم ونتائجه، كما هو الحال مثلا فى عمل بعض تلك المراكز على التشكيك فى أن يكون التدخين السلبى مؤذيا لصاحبه على عكس ما انتهت إليه الأبحاث العلمية فى هذا السبيل، وذلك خدمةً لشركات الدخان. يقول كاتب المادة:
"Critics such as Ralph Nader have suggested that because of the private nature of the funding of think tanks their results are biased to a varying degree. Some argue members will be inclined to promote or publish only those results that ensure the continued flow of funds from private donors. This risk of distortion similarly threatens the reputation and integrity of organizations such as universities, once considered to stand wholly within the public sector. Defenders state that think tanks arose to challenge the liberal orthodoxy of the universities in place starting in the 1970s.
Some critics go further to assert think tanks are little more than propaganda tools for promoting the ideological arguments of whatever group established them. They charge that most think tanks, which are usually headquartered in state or national seats of government, exist merely for large-scale lobbying to form opinion in favor of special private interests. They give examples such as organizations calling themselves think tanks having hosted lunches for politicians to present research that critics claim is merely in the political interest of major global interests such as Microsoft, but that the connections to these interests are never disclosed. They charge, as another example, that the RAND Corporation issues research reports on national missile defense that accelerate investment into the very military products being produced by the military manufacturers who control RAND. Critics assert that the status of most think-tanks as non-profit and tax exempt makes them an even more efficient tool to put special interest money to work.
In recent years, many think tanks have begun to promote causes which are contrary to established scientific opinion. For example, The Advancement of Sound Science Coalition was formed in the mid 1990s as part of the tobacco industry's attempt to cast doubt on EPA studies showing that secondhand smoke could cause cancer. According to an internal memo from Philip Morris, "the credibility of the EPA is defeatable, but not on the basis of ETS (environmental tobacco smoke) alone. It must be part of a larger mosaic that concentrates all the EPA's enemies against it at one time."
The Advancement of Sound Science Coalition has also worked to cast doubt on the scientific consensus regarding human-caused global warming, as have a number of conservative think tanks such as the American Enterprise Institute, the Heritage Foundation, the Cato Institute, the Hoover Institution, and the Competitive Enterprise Institute--all of whom receive large contributions from petroleum industry companies like ExxonMobil and the Charles G. Koch Charitable Foundation.
Finally, the Discovery Institute has been instrumental in putting the idea of Intelligent design into public debate, even though most biologists do not accept the theory as scientific".
وعن المراكز البحثية يقول د. مصطفى عبد الغنى إن "مراكز الأبحاث والمعاهد البحثية الواعية... سمة من السمات الإيجابية لأية دولة تسعى إلى النهوض وتحافظ على مكتسباتها القومية بأدوات البحث ورموزه، خاصة بلادنا العربية بكل ما تواجهه الآن من مختلف الميادين والحقول عرفت عمليات الاهتمام المعرفى وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطار مؤسسى دائم هو ما نطلق عليه اليوم: "مراكز البحوث والدراسات"، فأصبحت الشعوب والأمم والحضارات تتبادل معارفها وتحافظ على مميزاتها وخصائصها انطلاقا من وِرَش العمل البحثية المنتشرة فى أرجاء المجتمعات المتحضرة. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فضلى لعرض المنجز الفكرى والعلمى والحضارى لأية أمة من الأمم، ويمكن أن تلعب فى حالتنا، حالة الصراع العربى الإسرائيلى، دورا إيجابيا إذا أحسنّا التعامل معها وبها. ومراكز الأبحاث فى الجامعات أو المراكز العربية لها دلالة كبيرة فى هذا الصدد، وأبرز مثال لها ما عرفناه أخيرا: "مركز زايد" لهذا الدور الإيجابى الذى قام به، وكان يمكن أن يستمر صعوده لولا تآمر المراكز والجهات الصهيونية عليه، وفى مقدمتها "مركز ميمرى". ومع ذلك فإنه، على الرغم من كل شىء، ما زال المركز العربى باقيا من خلال إصداراته من إنتاجه الفكرى لا المؤسسى ونتاجه الذى تنوع كثيرا. هذا هو الوجه الأول المضىء للمراكز البحثية، وهو غير الوجه الآخر المظلم الذى يمثله الآن عدد كبير من المستشرقين الجدد، فقد استُبْدِل بالمستشرق التقليدى الآن: "الخبير الجديد"، الذى لعب دورا كبيرا فى هذه المراكز انطلاقا من بواعث تبشيرية واستعمارية قديمة. مراكزنا البحثية كانت واعية دفاعية، فى حين كانت المراكز الغربية عدوانية... معنى هذا أنه إذا كانت لدينا مراكز بحثية فهى لا تقوم بنفس الدور الاستعمارى، فضلا عن أن دورها العربى فى البحث والحضارة ومناوأة العقل الاستعمارى أو الصهيونى يجعلها تختلف عن هذه المراكز العربية، خاصة بعد 11 سبتمبر، وهو ما يجعلنا نتمهل هنا عند هذه المراكز البحثية الغربية التى لعبت دورًا مغايرًا إبّان صعود المستشرق الجديد (الخبير) كما سنرى فى الحقبة الأخيرة". وممن توقف إزاءهم من هؤلاء الخبراء الخطرين فى المراكز البحثية فى أمريكا برنارد لِوِيس ودانيال بايِبْس وكريمر وفوكوياما وهانتنجتون، مبرزا الدور الشيطانى الذى قاموا ويقومون به منذ تسعينات القرن الماضى حتى الآن من خلال عملهم فى مثل تلك المراكز وتعاونهم الآثم مع المخابرات الأمريكية فى سبيل إخضاع الأمة العربية والإسلامية واحتلال بلادنا وسرقة ثرواتنا وإقحام أصابعهم الدنسة فى مقرراتنا الدراسية وفهمنا لديننا (ص 9- 11).
ومن المناسب لهذا الذى نقلناه عن المؤلف هنا بخصوص المراكز البحثية فى بلادنا ومثيلاتها فى الغرب، وبالذات فى الولايات المتحدة، وتآمر القوى الصليبهيونية على مركز الشيخ زايد المشار إليه، أن نشير إلى مقال منشور فى مجلة "العالم الإسلامى" الأسبوعية بتاريخ يوم الاثنين 4 رجب 1424هـ- أول سبتمبر 2003م عنوانه "إغلاق مركز الشيخ زايد لن يكون آخر مطالبهم!" بقلم منير حسن منير، يجرى على النحو التالى: "أسفت كغيرى من المتابعين لخبر إغلاق "مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة"، وذلك لأن هذا المركز كاد خلال فترة وجيزة من تأسيسه أن يكون أهم مركز للدراسات والمتابعة على امتداد الدول العربية، إذ ظل مواكبا لكل ما يحدث على جميع الأصعدة بدقة وموضوعية نفتقدها في معظم جامعاتنا ودُورنا الأكاديمية والبحثية. وتعود خلفية إغلاق المركز وتصفيته لاحتجاج مجموعة صغيرة من الطلاب ذوى الأصول اليهودية في جامعة أمريكية كانت قد قبلت تبرعا من سمو رئيس دولة الإمارات، وادعت هذه المجموعة والتي قادتها طالبة يهودية أن الشيخ زايد يموّل المركز الذى يعتبر، حسب ادعائهم، معاديا للسامية لمجرد أن باحثا كان قد شكك في محاضرة له نظمها المركز في حدوث محارق لليهود في عهد النازية (الهولوكوست)! وهكذا فقد تطور الاحتجاج ليأخذ شكل حملة ضد منظمة المركز ونشاطاته وانتهى الأمر بتصفيته وإغلاقه! ورغم أن واشنطن نفت أنها أمرت بإغلاق المركز، إلا أن قضية إغلاقه وتصفية نشاطه لا شك مرتبطة بالتهمة السالفة والباطلة.
إن في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية مئاتِ مراكز البحوث والدراسات، وآلافَ الجامعات والمعاهد العلمية والاكاديمية، ومئاتِ الآلاف من الصحف والمطبوعات التي "تنفث" كل يوم جديد سموما وتهما باطلة ضد العرب والمسلمين، تتهمهم بكل سئٍّ ومشين، فلم يطالب أحد في العالمين العربى والإسلامي بإغلاق هذه المراكز والجامعات، ولا بتصفية نشاطاتها أو حتى بمساءلتها، وذلك لأن أمريكا تطلق حرية كاملة لمثل هذه الدور. أما صحافة أمريكا وإعلامها من تلفزيون ومؤسسات سينمائية فإنها تتسابق دوما في نشر كل ما يسيء للعرب والمسلمين معا حتى أنهم أصبحوا مادة للسخرية و"التنكيت" والإساءة والاستهزاء دون أن يفتح الله على أحد منا حكوماتٍ ومسؤولين لكى يثور لكرامة هذه الأمة التى تُهْدَر جهارا نهارا! إن الإعلام الأمريكي لا يزال يصور العرب مجموعة من المتخلفين والأوباش، في حين يكيل للمسلمين اتهامات وأوصافا أقلها أنهم إرهابيون، ولديننا أنه دين دموى يقوم على الإرهاب، ويسيء بعضه لعقيدتنا ولرسولنا الكريم بدعوى حرية الإعلام. أما مراكز بحوثهم ودراساتهم فإنها لا تنفك تدرس سبل زعزعة أنظمة الحكم في بلادنا، وتأليب الشعوب على حكامها وتأليب الإدارة الأمريكية لتأمر بتعديل مناهجنا الدراسية، وللضغط لتغيير خطابنا الديني، وأخيرا لمعاقبة كل من لا يلتزم بكل هذا! وآخرون نادَوْا ونشروا دعوات لـ"هدم" الكعبة المشرفة، ولدكّها بالقنابل النووية، ولمهاجمة مكة، أو لاحتلال بلد أو تغيير نظام ما.
إن الرضوخ لضغوط إغلاق مركز زايد إنما هو رضوخ لمطالب قوى الضغط الصهيوني داخل الإدارة الأمريكية، واستجابة لمشيئة اللوبى اليهودي داخل أروقة هذه الإدارة. وهي، في النهاية، مطالب لن تنتهى، وهي حلقة في سلسلة طويلة قادمة من المطالب المجحفة لن تتوقف عند مركز بحث علمي، ولكنها ستطال أشياء كثيرة ربما وصلت إلى ضرورة عرض قائمة طعامنا وبرنامج تحركنا اليومي على سادة البيت الأبيض وسادتهم من أساطين اللوبي الصهيوني!".
والآن إلى كلمة عن كل من برنارد لِوِيس ودانيال بايِبْس ومارتن كِريمر وصامويل هَنْتِنْجتُون وفرانسيس فوكوياما، أولئك الخبراء الشيطانيين الذين يضعون أنفسهم فى خدمة المشروع الاستعمارى بل الاستئصالى الأمريكى الذى يتغيا العرب والمسلمين والذين صوب الدكتور مصطفى عبد الغنى إصبع الاتهام فى وجوههم. ونبدأ ببرنارد لِوِيس (Bernard Lewis)، وهو يهودى بريطانى الأصل وُلِد فى لندن سنة 1916م، وإن كان قد اكتسب الجنسية الأمريكية فيما بعد عام 1982م، وتخرج من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن (SOAS) عام 1936م حيث دَرَس تاريخ الإسلام فيها وحصل على الدكتورية منها فى نفس الموضوع وأصبح من أساتذتها. ثم انتقل فى 1974م إلى العمل بجامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم أربع سنوات فى جامعة كُرْنوِيل قبل أن يعتزل. وهو مقرَّب من الحكومة الأمريكية الحالية ورجالها، إذ يعتمدون على آرائه ومشورته. ولم لا، والمتحكمون فى أمريكا الآن هم الصهيوصليبيون الكارهون للعرب والإسلام والمنحازون قلبـًا وقالبـًا وكُلاًّ وجزءًا إلى اليهود والذين قد تكون نهاية أمريكا كقوة عظمى على أيديهم إن شاء الله بتوريطهم لها فى كل مكان على ظهر الأرض وإغرائهم إياها باستثارة عداء المسلمين والعرب ضدها والدخول فى حروب ومعارك لا تنتهى اغترارا بقوة الولايات المتحدة واقتصادها وتقدمها العسكرى والصناعى، غير دارين صحة المثل البلدى القائل: "خذ من التلّ يختلّ". وأمريكا بما تنفقه على الدوام من جهود وأموال وبما يُقْتَل من جنودها وضباطها وما تفقده من طياراتها وصواريخها ومدافعها فى أثناء ذلك وما يترتب عليه من تشتيت الانتباه وإثارة السخط فى قلوب آباء الجنود والضباط وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم وأبنائهم إنما تحفر قبرها بيدها، ولو على المدى الطويل، وإن كنا نرجو ألا يطول الانتظار. والمهم أن يكون العرب والمسلمون مستعدين لذلك اليوم ولا أخال، إذ كل المؤشرات تقول بصوتٍ بَيِّنٍ فصيحٍ إنهم لا يزالون نياما فى كهوف التخلف والجهل والضلال ولا يظهر حتى الآن ما يدل على أنهم عما قريبٍ مُفِيقون.
وفى كتابات لِوِيس نجده يتهم المسلمين بأنهم وحدهم سبب التخلف الذى هم فيه، وذلك لشعور الغطرسة الذى يعانون منه ويمنعهم من التعلم مما فى يد الآخرين ويحرمهم مما تستلزمه هذه العملية من مرونة كما يقول، وأنْ ليس للغرب أى يد فى هذا الذى يقاسونه. وهذا المنطق مغلوط إلى حد بعيد، لا لأننى أنكر أن العرب والمسلمين مسؤولون عما هم فيه، بل لأنه من غير المنطقى ولا الإنسانى تبرئة الغرب من مسؤوليته هو أيضا عن هذا التخلف وتلك المعاناة بعد هاتيك القرون التعيسة التى احتل فيها بلادهم ونزح ثرواتهم واستعبدهم ودمر ثقافتهم وأنزل بأحرارهم العسف والتنكيل وساعد حكامهم المستبدين ضدهم ومكّن لهم من رقابهم كى يقوموا على مصالحه ويسهروا على رعايتها، وبَذَر بذور الشقاق والفتن فى كل مكان فى بلادهم ومسح شيئا اسمه فلسطين وجلب شذاذ اليهود من كل صقع وأفق وأسكنهم فيها وأقام لهم دولة يحميها وينصرها فى الحروب والمحافل الدولية... إلى آخر ذلك كله إن كان له آخر، ثم يأتى برنارد لِوِيس فيمحوه بجرة قلم سخيفة، ويريدنا أن نصدق تحليلاته!
نعم، المسلمون والعرب هم المسؤولون رقم واحد عما هم فيه من مأزق حضارى لأنهم استكانوا إلى الشكلانية فى الدين واستناموا إلى البلادة والخمول والكسل وكرهوا بذل المجهود فى تحصيل العلم وفى الإبداع وفى إتقان ما يعملونه وينتجونه على قلته وتفاهته غالبا، ووهموا أنهم يحسنون بذلك صنعا، فأضحت حياتهم تعيسة ذليلة خانعة خاضعة، ولم يفكروا لحظة فيما سيقولونه لربهم يوم القيامة أو فى الألم الذى يسببونه لرسولهم رغم الجهود الهائلة التى بذلها فى تبليغ رسالته وتطبيقها وتبيينها والتحذير من مغبة التهاون فى الأخذ بها مما يحصدون الآن ومنذ قرون ثماره المرة بل فى الحقيقة: ثماره السامة، وسمحوا لهؤلاء الغربيين أن يدخلوا بلادهم ويسودوهم ويركبوهم كما تُرْكَب الحمير والبغال ويسوموهم سوء الهوان والعذاب، وفوّتوا على أنفسهم الفرصة تلو الفرصة للتخلص من هذا العار دون أن يفترصوها، وأحسنوا الظن بأعدائهم الملاعين وصدّق فريق منهم أنهم يريدون بهم خيرا فتعاونوا معهم ضد أمتهم وانحازوا لهم وكانوا لهم إلبا. لكن هذا وغير هذا لا يمكن أن يغطى على الإجرام الذى ارتكبه الغربيون وما زالوا يرتكبونه فى حقنا. كل ما هنالك أن المجادلة مع الغرب لن تؤتى أية ثمرة، بل القوة والتقدم والسلاح الذى ينبغى أن نصنعه بأيدينا والقوت الذى يجب أن نزرعه فى أرضنا ونكتفى به فلا نمد أيدينا إلى ذلك العدو ليَمُنّ علينا ويستذلنا ويفرض برغم أنوفنا فى الوحل والطين شروطه المجحفة المذلة فلا نجد بدا من الرضى الذليل بها رغم أننا نقدم له فى مقابلها ما هو أكثر بكثير من الفتات الذى يمن ويشمخ به علينا.
ويبذل لِوِيس كل ما لديه من وسع فى تأريث نار العداوة بين الغرب والعالم الإسلامى قائلا إنها طويلة طول تاريخ الإسلام، إذ ترجع إلى بداية ظهور ذلك الدين منذ أربعة عشر قرنا وأنها تزداد التهابا الآن. كذلك فهو صاحب المصطلح الذى انتشر بعد ذلك حين تبناه صمويل هانتنجتون وتوسع فى الكلام فيه وجعله عنوانا لكتابه الشهير: "صدام الحضارات: Clash of Civilizations". وبالمناسبة فقد نبه الدكتور مصطفى عبد الغنى بحق إلى أن اللفظة الإنجليزية هى "صدام" لا "صراع" الحضارات، وهأنذا أكتشف أن المصطلح هو من صياغة لِوِيس لا هانتنجتون، وذلك فى مقاله: "The Roots of Muslim Rage "، الذى نشره عام 1990م. وهو كذلك دائم التحريض على إيران زاعما أنها، فى أنثاء إعدادها الرد المنتظر على مطالبة الدول الغربية لها بالتوقف عن أنشطتها النووية، إنما تخطط لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود، وربما العالم كله على بكرة أبيه أيضا.
ولا يطيق لِوِيس أن يمس أحد إسرائيل أو ممارساتها العنصرية الإجرامية بكلمة، ومن هنا ألفيناه يؤلف كتابا عن معاداة السامية يحمل فيه على كل من تسول له نفسه بانتقاد أى توحُّشٍ تقترفه إسرائيل فى حق الفلسطينيين المساكين الذين شردهم اليهود بمساعدة الغرب عن بلادهم وصادروا أراضيهم وهدموا بيوتهم على رؤوسهم واغتصبوا نساءهم وقتلوا أطفالهم وروّعوا كل إنسان هناك، مطبّقين بهمة إبليسية تعاليم توراتهم المحرَّفة القاضية بمحو كل شىء يخص أعداءهم من الوجود ولا يتركوا نَفْسًا تتنفس، بشرا كانت هذه النفس أو حيوانا.
والطريف أنه يلجأ فى دفاعه عما قامت وتقوم به إسرائيل من عدوان على العرب والمسلمين فى فلسطين وخارج فلسطين إلى القول بأن المسلمين يقاسون من ويلات أخرى لا تقل عن تلك التى تنزلها العصابات الصهيونية على رؤوسهم كالغزو السوفييتى لأفغانستان والحرب العراقية الإيرانية وما إلى ذلك. جميل! لكن من قال له إننا نرحب بتلك الويلات ولا نعمل على القضاء عليها؟ ثم إنه لأمر عجيب أن يحاججنا اللص بأننا لا ينبغى أن نعمل على استرداد ما سرقه منا بحجة أن آخرين سواه قد سرقونا أيضا! ولقد نجح المسلمون فى إخراج السوفييت من أفغانستان، فهل تركهم الأمريكان فى حالهم؟ كما أننا نعرف الدور الإبليسى الذى قام به الأمريكان فى الحرب العراقية الإيرانية وتأليبهم كل فريق على الآخر وتسهيل وصول السلاح لهم حتى لا يتوقفوا عن إفناء بعضهم بعضا، وإن كنا لا نبرئ المسلمين من المسؤولية أبدا، فلولا غباؤهم وقصر نظرهم وانخداعهم بأعدائهم ومسارعتهم إلى التقاتل فيما بينهم بدلا من اتحادهم على قلب رجل واحد لمقاتلة أمريكا وإسرائيل والقضاء على شرورهما كما قَضَوْا على شرور السوفييت فى أفغانستان ما حصل شىء من ذلك الذى يعايرنا به برنارد لِوِيس!
ولكل هذا يتهمه إدوارد سعيد وغيره من الأساتذة الأمريكان بالتحيز والتمركز حول الذات والجهل بالشرق الأوسط والعالم العربى، الذى لم يضع قدمه فى أى بلد منه منذ ما يزيد على أربعين عاما كما قال، وكذلك بمحاولة إشعال ما انطفأ من نيران الحروب الصليبية بحيث تستمر إلى ما لا نهاية، والعمل على وضع الإسلام والمسلمين على الدوام موضع الاتهام دون أمل فى النهوض مما هم فيه لأنهم معيبون طبيعة ودينا حسب اتهاماته لهم، وهو ما ليس هناك من أمل فى علاجه والتخلص منه طبقا لما يزعم! وبالمثل كان برنارد لويس وراء قرار الحرب ضد العراق فى أمريكا، وكان تسويغه الشيطانى لها بأنها السبيل لتحديث منطقة الشرق الأوسط إحدى الحجج التى تذرع بها المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة.
وبعد برنارد لِوِيس يأتى دانيال بايِبْس (Daniel Pipes) الصحفى والأستاذ الجامعى المتخصص فى التاريخ الإسلامى والمستشار المقرَّب من رئيس الولايات المتحدة ودوائر صنع القرار فيها. وهو أمريكى من مواليد 1947م، ويهودى صهيونى متعصب مثل لِوِيس يكره الإسلام والمسلمين ولا يترك فرصة تسنح إلا ويهتبلها لتهييج الرأى العام والمسؤولين فى أمريكا ضدنا ناشرا الكراهية فى كل سطر بل فى كل كلمة يحبرها قلمه، فإذا بها سم زعاف. وبلغ من بغضه للإسلام وأتباعه أنه يكرر فى مقالاته وكتبه أن الدين المحمدى النبيل لا يمكن أن يقوم بينه وبين الديمقراطية أى تفاهم، وأن اندماج المسلمين فى المجتمعات الأوربية والأمريكية أمر مستحيل مهما بُذِلت فى ذلك الجهود ووُضِعت المشروعات. كما أنه منحاز على طول الخط والوقت لإسرائيل، مصورا الفلسطينيين بأنهم شياطين لا يستحقون الرحمة، وزاعما أنه لا مكان فى الشرق الأوسط لدولتين: إحداهما إسرائيلية، والأخرى فلسطينية، وأنه لا سبيل إلى الأمن والسلام فى المنطقة وفى العالم إلا بمنع الفلسطينيين من إقامة دولة لهم وأخذ الطريق عليهم كيلا يتمكنوا من ذلك، وإلا فلو وقعت الفأس فى الرأس وسُمِح لهم بإنشاء دولة فلن يكون هناك إلا أحد أمرين اثنين لا ثالث لهما: فإما دمرت تلك الدولة نفسها، وإما دمرت إسرائيل. ومن هنا فلا حل إلا منعهم بتاتا من إنشاء مثل تلك الدولة حتى لا تدمر إسرائيل.
كذلك فهذا الرجل يحرض المسؤولين والرأى العام فى الولايات المتحدة على كل أستاذ جامعى أو كاتب أو مفكر لا يوافق على العسف والظلم والجبروت والإجرام الذى تقترفه إسرائيل فى كل لحظة من نهار أو ليل فى حق الفلسطينيين الذين استولت على بلادهم وشردتهم فى الآفاق وقتلتهم ودمرت بيوتهم وسرقت مزارعهم ونكلت بهم، وتُعَامِل من بقى منهم على أرضهم معاملة العبيد المسحوقين، فتراه ينشر أسماء أولئك الكتاب الشرفاء فى بعض المواقع المشباكية التى يسيطر عليها ويشوه سمعتهم ويفترى عليهم الأكاذيب متهما إياهم بمعاداة السامية، محاولا بذلك كله تكميم الأفواه إلا أفواه من يسبحون بحمد إسرائيل ليل نهار، وهو ما أثار عليه قطاعا من الأساتذة والمفكرين الأحرار مما اضطره إلى حذف القائمة السوداء التى كانت تحتوى على أسمائهم والتحريض عليهم من الموقع المذكور. وبسبب من تلك التصرفات الحاقدة المتعصبة التى لا ترى للآخر أى حق فى الحياة والكرامة فإن مؤسسة "كير: CAIR" الإسلامية الأمريكية لا تنى تنبه إلى ما فى مقالاته ومواقفه وتحريضاته من خطر داهم على جميع فئات الشعب الأمريكى بما فيهم المسلمون الأمريكان، أولئك الذين لا يقول بايبس فيهم ولا فى عاداتهم وتقاليدهم وتصرفاتهم كلمة طيبة، حتى إنه ليسخر من أطعمتهم وملابسهم ويصمها بالشذوذ متهكما عليهم ومحرضا الذوق العام ضدهم ومؤكدا أنه لا مكان لعاداتهم وتقاليدهم وأطعمتهم وملابسهم الغريبة الشاذة فى أمريكا ولا فى أوربا، وأنه لا بد من تشديد الخناق على المساجد والعمل على معرفة كل ما يدور بداخلها والتدخل فى الخُطَب التى تلقى فيها يوم الجمعة ومراقبة أئمتها باستمرار.
أما عمامة السيخى التى تثير السخرية والسارى الهندى الذى يكشف عن قبح بطن المرأة الهندية وظهرها وعُكَنها وبشرتها الزرقاء، وبخاصة إذا كانت امرأة كبيرة تجاوزت سن الجمال والنضارة، وأما الخنزير القذر المنتن رمرام الزبالة ذو المنظر الكريه والذى لا تطاق رائحة لحمه حين يطبخ، والدجاج المخنوق اللذان يأكلهما كثير من الأمريكيين والغربيين وينفر منهما اليهودى أشد نفور، وأما طاقية اليهودى السخيفة التى يلصقها بقعر رأسه والضفائر اللولبية التى تتدلى من خدوده إذا تدين وتبدو أكثر إغراقا فى السخافة، فهذا كله عسل وسكر على قلب بايبس المنافق، الذى سمعت الدكتور محمد السيد سعيد يصفه، فى الندوة التى نوقش فيها الكتاب الحالىّ بمبنى نقابة الصحفيين منذ أيام، بالجهل والضحالة والحقارة وممارسة البكش وما هو أشد من هذا مما أرى أنه يستحقه وأكثر منه. وبالمناسبة فقد فهمت من كلام د. سعيد أنه يعرف بايبس عن قرب، فهو إذن لا يلقى الكلام على عواهنه. وأنا، حين أقول ما أقول عن ملابس الهنود وبشرتهم، لا أقصد معاذ الله التنقص منهم، بل كل ما هنالك أننى أنظر بعين هذا البايبس الذى لا يعجبه العجب فى المسلمين وأسلوب حياتهم، وإلا فأنا،والحمد لله، من سعة الأفق بحيث أعرف أن كلا منا يرى فيما شب عليه وتعود على فعله الخير والذوق كله. كما أن الجمال والقبح الشكلى إنما هو إرادة الله، فلا يحق لى أنا المسلم أن أسخر من أحد لهذه الاعتبارات أو أقلل من شأنه، على الأقل: خشية أن يبتلنى الله بما أعيبه به!
وهذا البايبس دائم الزعم بأن المسلمين ينوون القضاء على الحضارة الغربية وأنه لو ظل باب الهجرة المسلمة إلى أمريكا مفتوحا لجاء يوم يصبح فيه النصارى أقلية من الماضى ويُنْظَر إلى كنائسهم كشىء من مخلفاته، إلى أن تأتى حكومة متعصبة فتحولها إلى مساجد أو تفجرها وتأتى عليها من القواعد. ولو كان المسلمون يفعلون هذا لما بقيت كنيسة أو معبد يهودى واحد فى أى بلد من بلادهم، وإنما غيرهم هم الذين يفعلون ذلك، وإلا فأين ذهبت المساجد التى تركها المسلمون خلفهم فى الأندلس؟ والمسلمون الأندلسيون، لمن لا يعرف، كانوا كلهم تقريبا أوربيين لا عربا كما يحاول المتعصبة الحاقدون أن يقنعوا عوام المسلمين وعوامهم هم بطلانا وبهتانا، إذ كان العرب هناك لا يمثلون إلا قطرة فى بحر لأن من دخل منهم تلك البلاد لا يزيد عن بضعة عشر ألفا على أكثر تقدير. أى أنهم لم يكونوا يمثلون سوى قطرة من بحر وسط سكانٍ يُعَدُّون بالملايين دخلوا طوعا دين محمد، لكنهم أُخْرِجوا منه بأساليب محاكم التفتيش التى يعرفها كل من له أدنى إلمام بالتاريخ، فكان عليهم بعد انتهاء الحكم الإسلامى هناك أن يتنصروا أو يتركوا البلد ويرحلوا، وإلا قُتِلوا أو سِيمُوا سوء التنكيل الرهيب الذى لا يمكن تصوره. ثم مع الأيام وتوالى التضييق والتعذيب لم يستطع من بقى منهم هناك بعد التظاهر باعتناق النصرانية خوفا ورعبا الاستمرار على هذا الوضع فترك دين محمد! كذلك فقد هدم الهنود المجانين أقدم مسجد بالهند فى عدة ساعات، فأين كانت أصوات بايبس وأشباهه؟
والواقع أن كلام بايبس عجيب غاية العجب، فاليهود الذين ينتمى إليهم ذلك الرجل يكذّبون بالسيد المسيح ويقولون فيه وفى أمه الطاهرة البتول ما يقولون مما يعرفه كل أحد، وينظرون إلى النصارى على أنهم كفار مارقون، ومن ثم فمعابدهم عندهم هى معابد الضلال، فأَنَّى له إذن تلك الغيرة الطارئة على كنائس النصارى، وهى ليست من شِنْشِنَة يهود؟ ألا يذكّر هذا الكلامُ السادةَ القراءَ بما صنعه اليهود اليثربيون حين هاجر رسول الله إلى المدينة وكتب صحيفة تساوى بين جميع الطوائف هناك دون أية تفرقة بين مسلم ويهودى، وقنّن التعاون على الخير بين الجميع حتى تمضى سفينة الدولة والمجتمع بسلام وأمان، فكان أنْ بدأوه بالعدوان والمؤامرات ومحاولة الاغتيال وتحريض القرشيين الوثنيين ضده والذهاب إليهم فى مكة ومنافقتهم كفرا وخبثا مؤكدين لهم أن وثنيتهم خير من التوحيد الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس هذا فحسب، بل يبدو الرجل ومن يسير فى خَطّه وكأنهم ممن كشف الله عنهم الحجاب، فهم يَرَوْن المستقبل قبل وقوعه ويطّلعون على أحداثه بالشَّمّ على ظهور أيديهم، إذ نجده قبل الحادى عشر من سبتمبر 2001م بأربعة أشهر فقط يتنبأ، فى صحيفة الـ"وول ستريت"، هو وصحفى آخر اسمه ستيفن إمرسن، يسير معه فى نفس الاتجاه ويشاركه ذات التعصب ضد العرب والمسلمين ويعمل مثله فى تحريض المسؤولين الأمريكان على كل ما هو مسلم وإسلامى، بأن تنظيم القاعدة يخطط لشن هجمات على أمريكا بتحريض إيران ومساعدتها يدمّر فيها عددا من المبانى الضخمة. الله أكبر! فمن أين لـ"بسلامته" معرفة الغيب؟ مجرد سؤال نرجو من بعض الباحثين أن يحاولوا الجواب عليه! وهذا الذى أقوله هنا تقوله المادة التى خصصتها موسوعة "الويكبيديا" المشباكية وأكثر منه، وإن كانت قد ذكرت فى ذات الوقت أسماء بعض من يرافئونه على آرائه ومواقفه، ومنهم أحمد صبحى منصور الشيخ الأزهرى الضال المضلّ الذى يكفّر المسلمين بدءا من صحابة رسول الله فنازلا، والذى يعقد دائما المقارنات بين المشايخ المسلمين والقساوسة فى كل مكان فتكون كفة الأخيرين هى الراجحة على الدوام، والذى لا يقتنع بالصلاة فى مساجد المسلمين ولا يجد أحدا يعاونه على إنشاء مسجد خاص يصلى فيه هناك إلا مجدى خليل النصرانى وأمثاله حسب كلامه، والذى انتهى به المطاف إلى أمريكا وتسخير قلمه وفكره لخدمة مشاريعها الإجرامية الإبليسية فى بلاد العرب والمسلمين زاعما أن بايِبْس يشاركه همومه الإصلاحية ويحارب مثله الإرهاب الإسلامى ويعمل على صيانة العالم من شروره. شىء لله يا هموم إصلاحية!
أما مارتن كريمر المولود فى واشنطن سنة 1954م فهو يهودى تلقى تعليمه بين الدولة العبرية ودولة رعاة البقر، وكان من تلاميذ برنارد لِوِيس المقربين وحصل على الدكتورية تحت إشرافه، واشتغل بعد ذلك أستاذا فى عدد من الجامعات الإسرائيلية والأمريكية، فضلا عن كتابة المقالات فى بعض الصحف والمواقع المشباكية. وهو من المنحازين فى فجاجةٍ عاريةٍ إلى إسرائيل ولا يطيق أن تتعرض لأى نقد مهما تكن بشاعة الجرائم التى ترتكبها فى حق الفلسطينين والعرب. كما أنه أحد الذين ساندوا بايِبْس فى المشروع الخاص بمراقبة أفكار الأساتذة الأمريكان وإعداد قائمة سوداء بأسماء من يخالفونهما وأمثالهما فى الرأى أو الموقف السياسى ونشرها فى أحد المواقع المشباكية تشنيعا عليهم وإرهابا لهم، بالإضافة إلى تعضيده طائفة المحافظين الجدد، وهو ما جلب عليه سخط عدد من الأساتذة والمفكرين وانتقاداتهم له واتهامهم إياه بالعمل على تسييس الجامعات وتكميم أفواه الجامعيين وخنق حرياتهم ومصادرة حقهم فى التفكير والتعبير عما يعتنقونه من آراء ويتخذونه من مواقف، فضلا عن الضحالة التى تتسم بها تحليلاته واستنتاجاته.
ونصل إلى صامويل فيليبس هانتنجتون (Samuel Phillips Huntington) المولود فى مينابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية سنة 1927م، وهو أستاذ فى العلوم السياسية بجامعة هارفارد تقوم شهرته على تحليل العلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وببحوثه الخاصة بانقلابات الدول ونظريته القائلة بأن الثقافات لا الدول القومية هى التى ستقوم بدور اللاعبين السياسيين المركزيين فى القرن الحالى الواحد والعشرين. كما أنه من المعارضين للهجرة اللاتينية إلى أمريكا والمحذرين من مخاطرها، ناسيا أن من يسمَّوْن بـ"الأمريكان" ليس لهم حق أصلا فى الوجود فى القارة الأمريكية وأن هؤلاء الذين يرى منعهم من الهجرة إليها هم أحق منه ومن أمثاله بالعيش فيها. وقد تعرض لتلك المسألة فى كتابه: "من نحن؟ التحديات التى تهدد هوية أمريكا القومية: Who Are We? The Challenges to America's National Identity" الصادر عام 2004م، فضلا عن أنه، بوصفه مستشارا للرئيس الأمريكى الأسبق ليندون جونسون أيام الحرب الفييتنامية التى محق فيها الأمريكان الأخضر واليابس فى فييتنام الشمالية وقتلوا الملايين من مواطنيها على عادتهم الإجرامية ووفق طبيعتهم الوحشية فى التعامل مع الآخرين، كان من المبرّرين لإمطار الريف فى جنوب فييتنام بالقنابل بغية إكراه الفلاحين الفييتناميين الموالين للفييت كونج على النزوح إلى المناطق الحضرية. فهو إذن من المفكرين المجرمين الخطرين على الإنسانية المنزوع من قلوبهم الرحمة رغم الشهادات التى حصل عليها والمناصب التى تبوأها والكتب والدراسات التى ألفها. ولا شك أن التهمة التى وُجِّهَتْ إليه بأنه يعانى من "رُهَاب الأجانب: xenophobia"، أى النفور والخوف المرضى منهم، أقل كثيرا جدا مما ينبغى أن يوجَّه إليه من انتقادات ومآخذ، فالمسألة أخطر من ذلك كما هو واضح، وما رُهَاب الأجانب (وهم ليسوا فى الحقيقة أجانب، بل هو وأمثاله) سوى عَرَضٍ لمرضٍ أخلاقىٍّ وإنسانىٍّ أبعدَ غورا فى نفسه وفى نفوس الأمريكان عموما وأخطرَ أثرا فى واقع الحياة من مجرد ذلك الشعور الشاذ.
لقد أتى من يُطْلَق عليهم الآن اسم "الأمريكان" إلى أمريكا منذ قرون قليلة فارّين من القارة العجوز يلتمسون ملجأ آمنا، سواء منهم من كانوا يتعرضون هناك للاضطهادات المذهبية أو الجشعون الذين تجحظ عيونهم ويسيل لعابهم تطلعا إلى الذهب فى الأرض البكر أو المجرمون الهاربون من قبضة العدالة على السواء، فإذا بهم لا يشكرون الله والسكان الأصليين من الهنود الحمر على أنهم رحّبوا بهم ولم يجدوا أية غضاضة فى أن يقاسموهم خيرات بلادهم ويزاحموهم على العيش فيها، بل يبدأون فى الحال فى تنفيذ خطة جهنمية منظمة لمحو أولئك المساكين حتى ينفردوا هم وحدهم بما فى البلاد من خيرات ونعم، وهو ما تم للمجرمين فعلا على نحو لم يكن إبليس ذاته يتوقعه، فضلا عن أن ينجح فيه، إذ قضوا على مئات الملايين منها، وأضحى الهنود الحمر أثرا بعد عين، اللهم إلا بقايا من بقاياهم يجدها الإنسان فى بعض المحميات كأنهم حيوانات تُعْرَض على السائحين للتسلية والمتعة ليس إلا. ثم إن المجرمين عديمى الإنسانية لم يكتفوا بذلك، بل صنعوا الأفلام والروايات التى تقلب الحقائق وتصور الهنود الحمر على أنهم غدارون معادون للحضارة والرقى والرحمة وأنهم هم الذين يعتدون على الأوربى الأبيض بَغْيًا وقسوةً بلا أى مسوغ. والعجيب أننا، ونحن صغار، كنا نصفق ونهلل فرحا وإعجابا كلما استطاع الرجل الأبيض فى أحد تلك الأفلام، وما كان أكثرها فى دور السينما المصرية آنذاك، أن يطلق الرصاص على الهندى ويعاجله بالقتل قبل أن يفوّق هذا سهمه إليه، وننفر من الريش الملون الذى كان الهندى يتحلى به رغم أنه أجمل وأروع من سحنة الأوربى المجرم وملابسه.
على أن أهم ما لفت الأنظار إلى هانتنجتون هو مقاله المطول الذى نشره عام 1993م فى مجلة "العلاقات الخارجية: Foreign Affairs" عنوانه "صدام الحضارات: The Clash of Civilisations" وسّعه بعد ذلك ونشره عام 1996م فى كتاب مستقل اسمه " صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى: The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order". وفى هذا الكتاب نراه يؤكد أن الصراعات فى القرن الواحد والعشرين سوف تقوم على أساس ثقافى وحضارى لا على أساس عقائدى كما كان الحال أيام الحرب الباردة بين المعسكرين: الرأسمالى والشيوعى. أى أن الحروب ستكون بين الحضارة الغرب والحضارة الإسلامية والحضارة الهندوسية والحضارة الصينية، وهو ما دفع منتقديه من بعض الغربيين أنفسهم إلى اتهامه بأنه يعمل على دفع الغرب بقيادة أمريكا إلى العدوان على الصين والعالم الإسلامى.
والواقع أن الصراعات والحروب بين الدول أعقد مما يتصور هانتنجتون، فهى لا ترجع إلى سبب واحد، بل تمتزج فيها عوامل متعددة. ثم إن الصراعات السابقة أو الحالية بين البشر لم تكن بمعزل يوما عن العامل الثقافية والحضارية. أوكانت الحروب الصليبية مجرد حروب دينية؟ فلماذا لم تقم مثل تلك الحروب بين الإسلام وبين كل الدول النصرانية فى العالم آنذاك؟ لماذا كانت الحروب محصورة بين المسلمين ونصارى أوربا وحدهم؟ أليس ذلك سببه تقارب الثقافة فى الدول الأوربية؟ ألم يكن الرجل الأبيض، فى شَنّه الحرب على الأمم غير الأوربية واحتلاله لبلادها، يزعم أنه إنما يفعل ذلك من أجل القيام برسالته فى تمدين الشعوب الأحرى؟ أليس هذا سببا ثقافيا بغض النظر عن صدقه أو كذبه؟ ثم هل تنفصل الثقافة عن الإيديولوجيات والأديان؟ أليس الدين والإيديولوجية جزءا من ثقافة أى مجتمع، بل فى كثير من الأحيان هو الجزء الرئيسى فيها؟ وإلا فإذا صح ما يقوله هانتنجتون من أن الثقافة شىء آخر غير الدين والإيديولوجيا، هل ينتهى الصراع بين العرب وبين دولة إسرائيل، التى قامت على أساس دينى وعنصرى فتفكك إسرائيل نفسها وتلتحق بأوربا وتصبح جزءا منها على اعتبار تقاربها الثقافى والجنسى مع الأوربيين أم ماذا؟ أم هل سينتهى الصراع بين الهند وباكستان على أساسه الدينى الذى يعود إلى تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين فى أواخر الأربعينات؟ أولن نشهد من الآن فصاعدا صراعات بين الدول التى تنتمى إلى ثقافة واحدة كما هو الوضع بين الفييتنامَيْن والكوريتَيْن، وبين إيران والعراق، بل بين العراق والكويت، وبين الجزائر والمغرب... إلخ؟ أولن نرى بعد ذلك صراعات داخل الوطن الواحد كما هو الحال فى الصراع بن الدولة والباسك فى إسبانيا، أو بين الجنوب والشمال فى السودان، أو بين السود والبيض فى الولايات المتحدة الأمريكية، أو بين المواطنين الأصلاء وبين المتجنسين والمهاجرين فى فرنسا، أو بين الكاثوليك والبروتستانت فى المملكة المتحدة البريطانية، أو بين المسلمين والنصارى فى الفيليبين، أو بين المتدينين والمستغربين فى بعض الدول العربية والإسلامية أو بين الشعب والحكومة فى الدول الاستبدادية أو بين اليمين واليسار داخل الأمة الواحدة؟ أولن تقوم من هنا إلى يوم القيامة صراعات وحروب بين الدول بسبب العوامل الاقتصادية كالحصول على البترول والمواد الخام الأخرى بأسعار زهيدة أو بلا أسعار على الإطلاق إن أمكن، وتصريف المنتجات الوطنية فى الأسواق العالمية؟ أونفهم من هذا أنه لن تكون هناك أطماع بشرية مالية فى الحال والمآل؟ أما أنا فلا أظن ذلك، ولا أظن أن الإنسان سوف يتغير كثيرا من هذه الناحية، ولسوف تظل الصراعات تشتعل بين الدول لأسباب مختلفة لا تقتصر على العامل الثقافى أو الحضارى وحده. ثم إن الصراعات الثقافية ليست شيئا مجردا، بل عناصر متعددة تتجسد فى تلك الأشياء التى ذكرتها هنا وأشباهها، أما القول بغير ذلك فلا أستطيع أن أفهمه، فضلا عن أن أقتنع به! كذلك فإن القول بالصراعات وحدها، أيا كان لونها، هو قول ناقص، إذ الحياة كما تقوم على الصراع حتى فى داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد، بل حتى داخل النفس البشرية الواحدة، فإنها تقوم أيضا على التعاون والتكامل الذى تشهد العلاقات بين الدول والأمم ضُرُوبًا كثيرةً ومتنوعةً منه. وليس شرطا أن يتم التعاون بين البشر بغية أهداف مثالية، بل قد يكون ذلك بحكم الضرورة والواقع: فدولة تنتج شيئا لا تنتجه غيرها، وهذه تملك شيئا لا تملكه تلك، فتتبادلان ما ليس عندهما بالذى عندهما. وفى القرآن الكريم حديث عن التدافع، ولكن فيه أيضا دعوة حارة إلى توخِّى التعاون على البر والتقوى. بل كثيرا ما تضطرنا دنيا الواقع اضطرارا إلى ذلك التعاون حتى لو لم نكن بررة أتقياء، وإلا توقفت الحياة أو صارت صعبة مُعْنِتة فى أقل الأحوال. ونحن الآن نرى بأم أعيننا ونسمع بأم آذاننا الدول الغربية تطالب الحكومات العربية والإسلامية بالتعاون معها على مكافحة ما يسمونه: "الإرهاب"، والمقصود به الجماعات والهيئات الإسلامية التى تنهص بأعمال الخير أو تقاوم المشروع الأمريكى فى استذلال المنطقة واستعبادها، وهى جماعات وهيئات تنتمى إلى نفس الثقافة التى تنتمى إليها حكوماتها، ومع هذا لم يمنع الحكوماتِ المذكورةَ الثقافةُ المشتركةُ بينها وبين تلك الجماعات والهيئات من الوقوف فى ذات الخندق الذى تقف فيه الدول الغربية ذات الثقافة المخالفة لثقافة أممها. فماذا يقول هانتنجتون فى هذا؟ ونحن حين نقول ذلك لا نسوغه ولا نرضى عنه، بل نرى أنه لا ينبغى أبدا لأية دولة عربية أو إسلامية أن تمد يد التعاون إلى أولئك المجرمين ضد من يخرجون على إجرامهم ويحاولون أن يدفعوا شرورهم عن أمتهم، بل نريد فقط أن نبين للقارئ تهافت منطق هانتنجتون ومن يوافقونه على ما كتب. ولنتصور للحظة أن الصلات بين الدول لا تعرف إلا الصراع ولا تقوم إلا عليه، فأية حياة تلك يا ترى؟ إنها الجحيم بعينه! وإذا كان البشر رغم ما فى الحياة من تعاون وتعاضد لا يكفون عن الشكوى من قساوتها وأهوالها، فماذا تكون الحال لو كانت كلها صراعا خالصا وحروبا لا يهدأ لها أُوَار؟ إن هذا لأمر يبعث على الجنون.
ونصل لفرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) الأمريكى ذى الأصل اليابانى الذى يوصف بـ"الفيلسوف" ضمن أشياء أخرى. "حاجة ببلاش كده" مثل أغطية "توبس" الواقية! وهو من مواليد شيكاغو 1954م، ومتخصص فى العلوم السياسية وحاصل على درجة الدكتورية فيها. وأهم كتبه، كما هو معلوم من الفلسفة بالضرورة، كتابه: "نهاية التاريخ وآخر البشر"، وهو الكتاب الذى أثار ضجيجا وعجيجا وغبارا كثيفا حين ظهر فى 1992م وزعم فيه أن التاريخ قد توقف عند الليبرالية الغربية ولن يبارحها إلى الأبد. لماذا يا مستر فوكوياما؟ لأن الاتحاد السوفييتى الذى كان يعارض المعسكر الرأسمالى الليبرالى قد انهار وانهار معه سور برلين وتوحدت الألمانيتين فى نظام واحد ليبرالى! بَيْدَ أن فوكوياما، ككل مخبول يعمى عن حجمه ويأخذه الغرور فيتأله، سرعان ما تراجع عن خيالاته المخبولة إلى القول بأن العلم مستمر لن يتوقف، ومن ثم فإن التاريخ سوف يستمر فى طريقه دون أن يتوقف هو أيضا. كتب هذا فى كتابه الآخر: "Our Posthuman Future: Consequences of the Biotechnology Revolution". أمَا كان من الأول؟ أليس من المضحك أن يسارع الفيلسوف (أم نقول بالأحرى: "المتفلسف"؟) بالتنبؤ بما يقول إنه سوف يظل سائدا إلى أبد الآبدين؟ إنه لا يقدم على هذا العبث إلا مخبول. ولقد رأيت صورته فى بعض المواقع المشباكية فكأنى قد لمحت فى عينيه خليطا من الخبث وشىء من التخلف الذهنى. كيف؟ الله وحده يعلم! واستغربت أن يفقد كثير من البشر عقولهم ويصدقوا بسهولةٍ هذا الهراء. ولكن ماذا نفعل، ولكل ساقطة لاقطة كما يقال؟ وكما نعرف فعلماء الطبيعة يقولون إن عمر الكون يقدر بملايين السنين، فكيف يتصور فوكوياما أن بمكنته الإحاطة بمستقبل البشر كله إلى آخر الزمان؟ أقصد: إلى ما لا نهاية، لأن أمثال فوكوياما لا يؤمنون بيوم آخر تنتهى عنده الدنيا، بل يعتقدون أن حياة الأرض سوف تستمر إلى الأبد! ألا يعرف هؤلاء شيئا اسمه التواضع والتأنى ومراجعة النفس والتشكك فيما يطقّ فى أدمغتهم من أفكار شاذة مضحكة؟ ومن قال له إن الليبرالية هى غاية الحياة التى لا غاية ولا تطور بعدها؟ وهل الليبرالية أصلا هى سبيل السعادة البشرية؟ فمن يشعل كل تلك الحروب وألوان الدمار فى العالم ويستعبد البشر ويقتلهم ويذلهم ويسرق ثرواتهم ويعمل على القضاء عليهم بالسلاح النووى؟ أليسوا هم الليبراليين؟ أليس هو، وهو الفيلسوف الليبرالى، من حَرّض على غزو العراق بذريعة أنه يمتلك أسلحة نووية، وألح على هذا الغزو فى كل الأحوال حتى لو لم يثبت أنه يمتلك تلك الأسلحة؟ فإذا كان، وهو الفيلسوف الليبرالى، بهذا الإجرام والتوحش، فكيف يريدنا أن نصدق بتخريفاته المجنونة المنفلتة من عقال الفكر والرحمة والإنسانية والمتسربلة بسربال الوحشية؟ صحيح أنه عاد وأدان غزو العراق، لكن بعد ماذا؟ بعد خراب بصرة، ومعها الكوفة وبغداد وغيرها من مدن العراق الأبىّ الذى نتمنى أن تكون "نهاية تاريخ الغطرسة الأمريكية" على أيدى أبطاله بمشية الله؟ ولكن لأن الزمار يموت وإصبعه يلعب، فما زلنا نرى فوكوياما لا يرفض التدخل الأمريكى العسكرى فى الدول الأخرى التى لا تريد أن تتصرف كما يتصرف الأولاد المهذبون الذين رباهم آباؤهم على الذل والطاعة وسماع الكلام وتنفيذه دون اعتراض، وتحاول التفلفص من قبضة القوى الغربية وتبدبدب برجلها فى الأرض رافضة أن تحتسى الديمقراطية التى تسقيهم أمريكا إياها بـ"الملعقة الصينى"، أو "اليابانى" بالأحرى! على أية حال فنحن لم نكد ننسى كارل ماركس ونبوءاته العلمية جدا التى ما إن قامت الثورات الشيوعية حتى استبان لكل ذى فهم أنها نبوءاتٌ فالصو، حتى هل علينا بطلعته غير البهية السيد فوكوياما، الذى لم يتعلم الدرس وقعد هو أيضا مقعد عالم الغيب والنجوى والسر وما هو أخفى و"تنحنح للفلسفة وحَكَّ اسْتَه وتمثل الأمثالا" حسبما يقول عمنا الكبير جرير الشاعر الأموى، الذى من حسن حظ فوكوياما أنه لم يكن يعيش فى عصره، وإلا لسلقه بما يستحقه من هجاء يفضحه فى العالمين ولَلَفَتَ إليه نظر الحجاج بن يوسف الثقفى فجاء به من قفاه وخبطه على وجهه زوجا من الأقلام التمام جزاءً وفاقًا لهذه الهلوسات الزائغة وعرَّفه أن الله حق وأعاد له عقله وجعله يمشى على العجين فلا يلخبطه! لكن فوكوياما، بكل أسف، يعيش فى أمريكا بلد التقاليع والجنون رغم كل ما فيها من علمٍ وجِدٍّ وإبداعٍ، وبخاصة إذا كان المجنونُ صاحبُ التقليعة يرى فى أمريكا جبل الأولمب الذى كانت تسكنه الآلهة فى سالف الدهر السحيق، ويرى فى الأمريكان أولئك الآلهة أنفسهم! وإذا كانت أمريكا قد رَسَّمت "المآبين" بطارقةً، فهل يُسْتَغْرَب أن تظهر فيها فكرةٌ شاذةٌ كهذه الفكرة الفوكويامية؟ وها هم حكام أمريكا الحاليّون ينقلبون على لُبّ لُبَاب الديمقراطية ويحاولون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فيأخذون الناس فى بلادهم بكثير من القيود والعنت معيدين ما عرفه الأمريكان من ترويعٍ مكارثىٍّ فى خمسينات القرن المنصرم. فإذا كان هذا يحدث بين الأمريكان أنفسهم، فكيف يضمن فوكوياما أن البشر من هنا إلى ما لا نهاية لن يزيغوا عن صراط الديمقراطية المستقيم؟ أم تراه يقول بأن الأمريكان والأوربيين بوجه عام سوف يتحكمون فى عقول الناس وقلوبهم وضمائرهم بحيث لا يفكر أحد من خلق الله فى غير الليبرالية؟ لكن من يضمن لنا ذلك؟ ومن يضمن بالذات أن غير الغربيين سوف يقبلون هذا الوضع وأنهم لن يثوروا عليه أو على الأقل: لن يتحمسوا له ببلادتهم المعهودة وكراهيتهم الفطرية (حسبما يظن الغربيون) للديمقراطية والليبرالية، ومن ثم لا ينجح؟ وهل الغربيون أنفسهم قد خَلَوْا من العيوب وتحولوا ملائكة أبرارا أطهارا لا يشغلهم ولا يؤرق بالهم فى يقظتهم ومنامهم إلا التفكير فى مصلحة عباد الله والعمل بكل وسيلة على دَمْقَرَتهم وعدم خروجهم على النص الليبرالى؟ يا سلام سَلِّمْ على شرباتك يا فوكوياما؟ أضحكتنى والله فى زمنٍ عَزّ فيه الضحك على العرب والمسلمين! وهذا الذى قلناه هنا عن هؤلاء الكتاب قد اعتمدنا فيه على المعلومات الموجودة فى المواد الخاصة بهم وبكتبهم فى "الويكيبيديا" وغيرها من الموسوعات والدراسات التى تعرضت لهم ويجدها القارئ منشورة فى المواقع المشاكية المختلفة، فيُرْجَع إليها لمزيد من التفصيل والتحليل.
على أن كلام الدكتور مصطفى عبد الغنى عن تحوّل المستشرق التقليدى إلى خبير إستراتيجى يتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية منها بالذات قد يُوهِم العجلان غير الملمّ بأطراف الموضوع أن المستشرق التقليدى كان رجلا طيبا ينصرف إلى العلم دون التورط فى مثل ذلك التعاون الشرير. بيد أن الواقع يقول شيئا آخر غير ذلك، إذ كان هناك مستشرقون كثيرون يقومون بنفس تلك الأدوار الدنسة. بل إن عمل المستشرقين التقليديين فى الحقيقة كان بوجه عام أخطر وأشد تدميرا، فقد كان همهم كلهم تقريبا إثارة التشكيك بكل طريق فى ماضينا وديننا ورموزنا وإنجازاتنا، وإفقادنا ثقتنا بأنفسنا تمهيدا لزعزعة بنائنا النفسى والاجتماعى والسياسى والعقيدى، حتى إذا حلت اللحظة المرتقَبة من جانبهم أَلْفَوْا كل شىء منهارا، أو على وشك الانهيار، فدخلوا الديار والأوطان دون جهد كبير أو خسائر ذات قيمة وعاثوا فيها الفساد كله. ولدينا "دائرة المعارف الإسلامية" التى تَضَافَر على كتابتها عُتَاة المستشرقين على مدى عشرات السنين وأودعوها خلاصة الفكر الاستشراقى فلم يَذَرُوا شيئا مما يخصنا إلا وشككوا فيه، باحثين فى الزوايا والأركان المظلمة عن أى شىء يستندون إليه لخلق تلك الشكوك، تاركين الروايات الوثيقة التى يعرفها كل إنسان إلى روايات شاذة لا يقول بها أحد يستحق الاطمئنان أو الاحترام، وفاصلين العبارات عن سياقها كى تعنى شيئا آخر غير ما تعنيه فى الحقيقة، ولاجئين إلى التخيلات والإيهامات الإبليسية بدلا من حقائق التاريخ التى لا يخر منها الماء، وهو ما أثبتُّه على مدار عدة مئات من الصفحات فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل". وهم فى هذا كله لا يتعففون عن الكذب إذا اقتضى الأمر كذبا، أو يلوون النصوص عن معناها المستقيم، أو يترجمونها بما يفيد هدفهم ويوصلهم لغايتهم. فكيف يمكن أن يتصور عاقل أن المستشرق التقليدى كان أكثر عدلا وإنصافا أو أكبر نصيبا من الإنسانية فى التعامل معنا والنظر إلى حضارتنا؟ لا نكران أنه كان هناك ولا يزال طائفة من المستشرقين لم تفقد الحس الإنسانى، بل تحترم العلم ومنهجه وتتعامل معنا برجولة وإخلاص، إلا أن نسبة هذا الصنف الرجولى منهم قليلة. ذلك أن الغربى، بوجه عام، لا يرى فى الوجود إلا نفسه وإلا الأمم التى ينتسب إليها. وقد كنت أقرأ منذ يومين كتاب "الحضارة" للدكتور حسين مؤنس، وكان رحمه الله متزوجا بالمناسبة من سيدة أوربية، فكان فى كل مناسبة يلح على هذا المعنى مبيّنا أنهم هكذا كانوا قديما، وهكذا هم حاليا، وأن كل ما ينادون به من قيم ومبادئ إنما هو للاستهلاك الداخلى، أى لهم هم أنفسهم ولا يصح تصديره إلى الخارج، فهم قوم أنانيون متكبرون، لا ينجو من هذا العيب إلا القليل منهم بما فيهم كبار مفكريهم وفلاسفتهم وعلمائهم ورجال دينهم (انظر مثلا ص 261- 262، 267، 295- 296، 298- 305 من طبعة "عالم المعرفة" من الكتاب المذكور).
وهذا الذى يقوله الدكتور مؤنس يقوله كل من احتك بالحضارة الغربية وبَشَرها وعرفهم واطلع على خباياهم رغم عدم نكراننا لما فيهم من فضائل، إلا أنها فى الغالب فضائل لا ينعم بها إلا هم، فهى فضائل غير قابلة للتصدير كما قلنا. ولا بأس أن نستشهد فى هذا السياق بكلمة لسيد قطب تدور فى ذات المدار وتقول نفس الكلام على رغم الشُّقّة الواسعة التى تفصل بين مؤنس وقطب. يقول المرحوم قطب، والكلمة منقولة عن مقال د. محمد عباس: "الإخوان المسلمون آخر سدٍّ عالٍ، وبانهياره تنهار الأمة" الموجود على موقعه المشباكى: "وكلهم سواء أولئك الغربيون: ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها "الديمقراطية" يؤمن بها المخدوعون! تلك كانت عقيدتي في الجميع، في الوقت الذي كان بعض الناس يحسن الظن بفريق ويسيء الظن بفريق، وكانت أمريكا في الغالب هي التي تتمتع بحسن الظن من الكثيرين. فها هي أمريكا تتكشف للجميع. هذا هو ترومان يكشف عن "الضمير الأمريكاني" في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن لا يثق به إلا المخدوعون! إنهم جميعًا يَصْدُرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس... يقول نبي الإسلام الكريم صلى الله علي وسلم: "لا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين"، وها نحن نُلْدَغ من الجحر الواحد مرات ثم نعود في كل مرة إلى هذا الجحر نفسه مغمضي الأعين نتطلب "الشهد" من جحور الأفاعي، ولا نجرب مرة واحدة أن نحطم هذه الجحور، وأن ندوس هذه الأفاعي، وأن ننفض عن نفوسنا ذلك الوهم الذي يقودنا المرة بعد المرة إلى تلك الجحور!".
على أن ما قلته هنا عن موقف الغربيين منا إنما هو كلام عام منا عن موقفهم العام منا، فلندلف إذن إلى أمثلة خاصة محددة يتعاون فيها المستشرق التقليدى مع القوى الاستعمارية الشريرة التى تعمل وما زالت على تحطيمنا بل إفنائنا إذا ما استطاعت، فنراه يستعمل أساليب الدعاية الباطلة ويكذب ويلجأ إلى كل وسيلة باطلة لتشتيت عقول الجماهير العربية والمسلمة ويتجسس وينخرط فى القوات العسكرية ويدل قومه على مواضع عوراتنا ويبصرهم بالوسيلة التى تكفل لهم تدميرنا وسحقنا: فمن ذلك على سبيل المثال شيخ الضلال والكفر، كبير المستشرقين الفرنسيس فى أيامه سلفستر دى ساسى، الذى كان يتعاون مع حكومة بلاده فى مشاريعها الاستعمارية ضد المسلمين، إذ رافق الحملة الفرنسية على مصر، وكان يترجم البيانات الفاجرة التى نشرتها عند دخولها أرض الكنانة عام 1797، وكذلك عند احتلال فرنسا للجزائر بعد ذلك ببضعة عقود (قاسم السامرائى/ الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية/ دار الرفاعى/ الرياض/ 1403 هـ). كما استعان به جاك مينو القائد الثالث والأخير لتلك الحملة حين عاد إلى فرنسا بعد فشلها نهائيا وخروجها مدحورة من أرض الكنانة، ومعه زبيدة زوجته المصرية الرشيدية المسلمة التى وضعت طفلهما بعد أيام من تلك العودة وأراد هو تعميده بوصفه طفلا نصرانيا بعد أن كان هو نفسه قد ارتد إلى الكفر مرة أخرى، والعياذ بالله، وظهر على حقيقته ورمى العمامة التى كان يلبسها فى مصر واستبدل بها القبعة، ونبذ اسمه الذى كان قد انتحله أيام إعلانه الإسلام فى مصر، وهو اسم "عبد الله"، ورجع إلى اسمه الأول: "جاك"، فأبت فى البداية، لكنه حاول أن يقنعها أن الأديان جميعا واحدة، وأن العبرة بالعمل الطيب، وأن هذا هو ما يقوله دينها نفسه، إلا أنها تشبثت بموقفها... إلى أن أرسل فى طلب دى ساسى، الذى جاء وخدعها مفهما إياها أن الإسلام يقول ذلك فعلا، والدليل هو قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة/ 62). وبهذا استغفلها ذلك الثعبان الأرقط وضحك على عقلها مستغلا قلة إلمامها بدينها، وظل وراءها بعد ذلك يخادعها حتى ليقال إنها خرجت هى أيضا من الإسلام وهى لا تدرى أن ما قاله لها ساسى كذب فى كذب وأن من يكفر بأى نبى من الأنبياء فهو كافر فى نظر الإسلام وتحرم عليه الجنة، فما بالنا بالكفر بمحمد والارتداد عن دينه إلى دين الصليب والتثليث مما حمل عليه القرآن وأحاديث النبى حملة شعواء لا تترك خرم إبرة لأى مخادع كى يزعم أن الأديان الأخرى بعد بزوغ شمس الإسلام تتساوى معه فى إدخال صاحبها الجنة؟ وحتى لو وافقناه جدلا على هذا السخف، فلم كان عليها أن تترك الإسلام وتدخل النصرانية ما دامت جميع الأديان واحدة؟ ثم لماذا انتحل هو الإسلام عندما كان فى مصر ورماه بعد أن عاد إلى بلاده إذا كان الأمر كما يقول؟ ولكن ماذا نقول فى خنازير الاستعمار والاستشراق وخبثهم وانحطاط أخلاقهم؟ (انظر رفاعة رافع الطهطاوى/ تخليص الإبريز فى تلخيص باريز/ وزارة الثقافة والإرشاد القومى/ القاهرة/ 1958م/ 101- 102 حيث يروى رفاعة قصتها وتغرير دى ساسى بها مع ألمه الشديد لما حصل، حاكما بالكفر على من يرتد عن الإسلام، ومؤكدا أن كل دين سواه هو دين باطل).
هذا، وأجب أن أفترص هذه الفرصة فأبين موقف الإسلام من أتباع الديانات الأخرى الذين زعم جاك مينو وسلفستر دى ساسى أنهم داخلون الجنة فأقول: أما قوله تعالى الذى استشهد به ذانك الكذابان المراوغان على أن اليهود والصابئين والنصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا يعنى أن أولئك الأقوام داخلون الجنة حتى لو بَقُوا على أديانهم المنحرفة، بل يعنى أن الباب فى الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعا للإيمان بدعوة محمد والنجاة من ثمّ فى الآخرة حتى لو لم يكونوا من العرب الذين آمنوا فى البداية بمحمد، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلا. ولهذا نجد أن الإسلام قد علَّق تلك النجاة على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات: "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (المائدة/ 69). وفى البقرة آية أخرى مشابهة لهذه هى الآية 62. والإيمان بالله واليوم الآخر لا يصحّ إلا إذا آمن الشخص بجميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم، بل وعلى رأسهم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك واضح من الآيات التالية: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينا" (النساء/ 150- 151)، "وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدِّقُ الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها. والذين يُؤْمِنون بالآخرة يُؤْمِنون به، وهم على صلاتهم يحافظون" (الأنعام/ 92)، "قال: عذابى أُصِيبُ به من أشاء، ورحمتى وسِعَتْ كل شىء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون* الذين يتَّبِعون الرسولَ النبىَّ الأُمّىَّ الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويُحَرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصَروه واتَّبَعوا النور الذى أُنْزِل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/ 156- 157)، وغير ذلك. وما من مرة أثنى القرآن على أحد من أهل الكتاب إلا كان بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء يَبْغُون منا أن نقرأ النصوص القرآنية بقلوب مريضة وعيون عمياء، لكن كيف يبصر الأعمى ومن فى قلبه مرض؟ وعلى هذا ينبغى أن نقرأ كتاب الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين. وإذا دقق القارئ فى الطريقة الترقيمية التى كُتِبَتْ بها الآية السابقة فسوف يتضح له ما أقصد. ونستطيع أن نعيد كتابتها بطريقة ترقيمية أخرى كى تزداد الأمور اتضاحًا: "إن الذين آمنوا (والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أى المسلمين، وهم الطائفة المذكورة فى بداية الكلام، إذ هم مؤمنون فعلا، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا قبلا من خلال آيات القرآن الكريم.
كذلك أذكر أنى قرأت فى نهاية سبعينات القرن الماضى فى أكسفورد كتابا من تأليف شاب فرنسى تظاهر بالإسلام ليقترب من خلاله إلى الأمير عبد القادر الجزائرى أيام جهاده ضد الاستعمار الفرنسى ويحصل منه على رسالة تزكية بغية تقديمها إلى علماء المسلمين فى بعض البلاد العربية من أجل الحصول على فتوى تفيد مجرمى المستعمرين الفرنسيس. حتى إذا حصل على ما يريد من الفتوى المنشودة ارتد إلى الكفر الذى كان عليه. وكان عنوان الكتاب، إذا كان لى أن أعتمد على ذاكرتى بعد كل تلك السنين، هو "Dix Ans dans L'Islam: عشرة أعوام فى الإسلام" أو شيئا من هذا القبيل.
ومن المستشرقين الذين وضعوا أيديهم مباشرة فى يد القوى الاستعمارية المجرمة أيضا المستشرق البريطانى إدوارد هنرى بالمر مترجم القرآن الكريم الذى كان يعيش فى القرن التاسع عشر والذى وضع نفسه، قبيل غزو الإنجليز لمصر فى أول ثمانينات ذلك القرن، تحت أمر الاستخبارات الإنجليزية لتجنيد البدو السينائيين وإغرائهم بخيانة عرابى والخروج عليه والانضمام إلى قوات الاحتلال البريطانى وتسهيل مهمة احتلالها أرض الكنانة، بوصفه خبيرا استشراقيا بسيناء وجغرافيتها وتاريخها وسكانها وصاحب علاقات واسعة مع الناس هناك. وقد استطاع ذلك المجرم فعلا أن يكسب إلى صفه بالمال السحت عددا من مشائخ القبائل الخونة، لكن انتهى به المطاف إلى أن اغتيل هو وعدد من أولئك الخائنين، لعنة الله عليه وعليهم وعلى كل خائن أمس واليوم وغدا، وألقيت جثثهم المنتنة من فوق الجبل إلى الوادى السحيق، سحق الله عظام كل كلب فى نار جهنم. ويجد القارئ حكاية هذا الخنزير النجس بشىء من التفصيل فى الترجمة الخاصة به فى "موسوعة المستشرقين" للدكتور عبد الرحمن بدوى، وقد نقلها بدوره عن كتاب "Oriental Essays: Portraits of Seven Scholars" للمستشرق البريطانى المعروف آرثر جون آربرى (A. J. Arberry)، الذى قال تعقيبا على نهاية مواطنه ورصيفه المجرم الغدار إنه يؤمن "بكل قوة ورسوخ أن المهمة الحقيقية للعالم هى العلم وليس السياسة"، ولذلك لم ير فيما حدث لبالمر شيئا غير مستحق حسبما ذكر بدوى فى نهاية ترجمة بالمر (انظر الحكاية كاملة ص 69- 71 من "موسوعة المستشرقين"/ ط3/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1993م). وبالمناسبة ففى مكتبتى الخاصة نسخة من ترجمته للقرآن، وكذلك نسخة من ترجمة آربرى أيضا، اشتريتهما وأنا أدرس فى أكسفورد للحصول على الدكتورية فى النصف الأخير من سبعينات القرن الماضى. وبالمناسبة أيضا هناك على المشباك جزء من كتاب آربرى الذى يترجم فيه لبالمر، ومنه صفحات غير قليلة من هذه الترجمة كنوع من الدعاية المغرية للقراء بشراء الكتاب، إلا أن الصفحات الأخيرة منها، وهى التى تهمنا هنا، للأسف غير موجودة.
والمضحك أن آربرى الذى ينتقد بالمر لنشاطه السياسى اشتغل هو أيضا فى ذلك المجال ولنفس الغاية، ألا وهى التمكين للاستعمار البريطانى فى بلاد الشرق العربى والإسلامى. وقائل هذا هو الدكتور بدوى نفسه فى ترجمته له بموسوعته التى نحن بصددها الآن، إذ قال: "لما قامت الحرب العالمية الثانية فى أول سبتمبر 1939 انتُزِع آربرى من أعماله العلمية المفيدة ونُقِل إلى قسم الرقابة على البريد التابع لوزارة الحرب فى ليفربول، فأمضى فيه ستة أشهر نُقِل بعدها إلى وزارة الإعلام فى لندن، فبقى فى هذا العمل طوال أربع سنوات يصدر بنفسه أو مع غيره منشورات لا نهاية لها للدعاية البريطانية فى الشرق الأوسط باللغتين العربية والفارسية. بل إنه ظهر فى فلم للدعاية البريطانية" (ص 6 من الموسوعة المذكورة). وإلى نشاطه هذا اكتفت "الموسوعة الإيرانية: Encyclopaedia Iranica" فى المادة التى خصصتها له بالإيماء مجرد إيماء دون أن تدخل فى أية تفاصيل، إذ كل ما قالته هو: "With the outbreak of war in 1939 he was transferred to the War Office and then to the Ministry of Information in London"، وهذا كل ما هنالك!
وممن ينبغى ذكرهم هنا فى هذا السياق العفن المستشرق الهولندى سنوك هرخرونيه، الذى حصل على الدكتورية فى 1879م برسالته عن شعائر الحج فى الإسلام زاعما أن تلك الشعيرة هى بقية من بقايا الوثنية الجاهلية، ثم اشتغل فى أندونيسيا بدءا من عام 1891م مستشارا للسلطات الاستعمارية الهولندية للشؤون الإسلامية باذلا كل جهده فى التمكين لتلك السلطات فى استغلال أهل البلاد ووضع الخطط التى تساعدها فى التنكيل الوحشى بمن يثور منهم طلبا للاستقلال، وهو مما ترتب عليه قَتْل ما بين خمسين ألفا ومائة ألف من الأندونيسيين وجَرْح نحو مليون منهم فى إحدى الحروب بينهم وبين المحتلين الهولنديين كما جاء فى المقال الخاص به فى "الويكبيديا" على النحو التالى:
"In 1889 he became professor of Malay at Leiden University and official advisor to the Dutch government on colonial affairs. He wrote more than 1,400 papers on the situation in Aceh and the position of Islam in the Dutch East Indies, as well as on the colonial civil service and nationalism. As the adviser of J. B. van Heutsz, he took an active part in the final part of the Aceh War. He used his knowledge of Islamic culture to devise strategies which significantly helped crush the resistance of the Aceh inhabitants and impose Dutch colonial rule on them, with the price variously estimated at between 50,000 and 100,000 inbitants dead and about a million wounded".
وهناك كذلك المأبون المسمَّى كذبا وبهتانا: "لورانس العرب"، بمعنى "صديقهم والعامل من أجل مصلحتهم"، ذلك الذى أشعل الثورة فى بلاد العرب ضد الأتراك موهما الزعماء والقبائل الذين التفوا حوله بأنه يسعى إلى تخليصهم من النير العثمانى وإعادة مجدهم التالد عن طريق إقامة دولة عربية يحكمون أنفسهم فيها بأنفسهم. وما إن نجحت الثورة فى القضاء على نفوذ الترك حتى ظهر المستور وقُسِّمت الدول العربية فى الشام ما بين الاحتلال البريطانى ونظيره الفرنسى، وشرب العرب مقلبا لم يشربوا مثله من قبل. وهم، بحمد الله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه، لم ينفطموا حتى الآن عن عادتهم فى شر المقالب رغم وضوح التآمر لكل من له عينان، وكذلك لكل من ليست له هاتان العينان.
ثم عندنا أيضا لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسى الذى انخدع وما زال ينخدع فيه البعض فيظنون أنه من محبى العرب والمسلمين، حتى إن الكاتب والمحامى المعروف محمد لطفى جمعة، الذى كان يعرفه معرفة شخصية ويتبادل معه الرسائل، ظن يوما أنه قريب جدا من الإسلام وأنه يبذل جهوده فى خدمة ذلك الدين، مما اضطرنى فى تقديمى لكتاب جمعة: "حوار المفكرين" (عالم الكتب/ 2000م/ 51- 54) أن أقول ما أعرفه عنه من أنه كان يشتغل فى الاستخبارات الفرنسية فى بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الثانية (كولونيلاً فيما أذكر) بغية تجنيد العرب هناك لنصرة الاستعمار الفرنسى موزِّعًا المال المسروق منهم فى إغواء خَوَنتهم المستعدين لبيع ضمائرهم المسوَّسة النخرة والتعاون مع أعداء بلادهم ودينهم لقاء عَرَضٍ من الدنيا تافهٍ حقيرٍ مثلهم. وهذا ما قاله الصحفى اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه المسمَّى: "رؤساء لبنان كما عرفتهم"، وهو مذكور فى فصل عنوانه: "الصندوقجى كان اسمه ماسينيون" (ص 211- 254 من الكتاب المذكور/ منشورات المكتب التجارى/ بيروت/ 1961م). كذلك جاء فى كتاب القس القبطى المسلم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد: "المستشرقون والمبشرون فى العالم العربى والإسلامى" (مكتبة الوعى العربى/ 73- 74) أن ماسينيون كان يشتغل مستشارا لوزارة المستعمرات الفرنسية فى شؤون شمال إفريقية والراعى الروحى للجمعيات التبشيرية الفرنسية فى مصر، وهو ما يقوله أيضا لطفى حداد كما سنرى بعد قليل، بالإضافة إلى ما ذكره الكاتب الجزائرى مالك بن نبى، من واقع تجربته الشخصية فى فرنسا أيام أن كان يطلب العلم هناك، وذلك فى كتابه: "مذكرات شاهد القرن" عن دور الرجل فى اصطياد الطلاب الجزائريين فى فرنسا.
هذا، وأحب أن أزجى إلى القارئ هذه الكلمة السريعة عن الرياشى، وهى لصاحب دار "أطلس للنشر والتوزيع" ناشر الطبعة الجديدة من كتاب "رؤساء لبنان" المذكور آنفا، ويجدها القارئ فى موقع "أدب وفن": "إسكندر رياشي "البلاي بوي" الأنيق، سمسار الفرنسيين وعميلهم باعترافه، لاعب القمار مع كبار السياسيين، والآكل على موائدهم، ومشاركهم في حفلاتهم "الرومانية" الصاخبة وصفقاتهم، والشاهد على فضائحهم الجنسية كان أفضل مؤرخ لتلك الحقبة من تاريخ لبنان الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى سنة 1958 وتبوُّء الرئيس الراحل فؤاد شهاب سدّة الحكم في لبنان. الفرق بين رياشي وسواه من أبناء عصره أنه كان حراميا "جنتلمان"، في حين كان معظم أترابه من سياسيين وصحافيين حراميين حاف". وواضح أن الرياشى كان متين الصلة بالفرنسيين ونشاطاتهم فى المنطقة، ومعنى ذلك أنه حين يتحدث عن ماسينيون وجهوده فى ميدان الاستخبارات والمؤامرات الاستعمارية وما إلى ذلك فإنما يتحدث حديث العارف المعايش لا حديث السامع من بعيد. وإنصافا لمحمد لطفى جمعة أرى من واجبى الإشارة إلى أنى وجدته بعد ذلك قد تراجع عما كان قاله فى ماسينيون وأبدى تحفظاته فيه.
ويقول لطفى حداد عنه فى مقال له بعنوان "لويس ماسينيون: مسلم على مذهب عيسى" المنشور بموقع "عشاق الله": "يُعْتَبَر لويس ماسينيون 1883 – 1962 من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم، وقد شغل عدة مناصب مهمة كمستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر"، ثم يضيف قائلا إن "ارتباطاته الفرنسية قد جعلته موضع شبهة، فهناك الكثير من الآراء السلبية عنه وعن تصرفاته وأقواله... أما ارتباطه بالاستعمار الفرنسي للشرق العربي وكذلك حملات التطهير للبسطاء والأميين فهو مثار جدل، وقد يكون حقيقيا".
والغريب أننا، بعد هذا كله، لا نزال نجد كلاما كالكلام الآتى عن الرجل، وصاحبه هو أحمد عبد الحليم عطية، الذى ألقاه ضمن بحث له فى ندوة عقدتها كلية الآداب بجامعة القاهرة بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون والجمعية الفلسفية المصرية في الأيام من 13-15 آذار 1999م، والذى يقول فيه عن ذلك المستشرق إنه "ليس مجرد مستشرق منصف فحسب، محب للعرب والمسلمين مدافعا عنهم مناصرا لقضاياهم، بل هو الصوفي الروحاني. ويمكن القول، ربما مع شيء من التجاوز، إن صورته لدى غالبية الأساتذة العرب المعاصرين في مجال الدراسات الإسلامية، هي صورة الباحث المتوحد بموضوعه المخلص له. والموضوع الذي أخلص له هو الإسلام وتجلياته المختلفة وصولاً إلى الواقع الإسلامي المعاش الذي جاب معظم بلدانه وأتقن عددا من لغاته: العبرية والفارسية والتركية، وصادق الكثير من علمائه. ارتبط ماسينيون بعلاقات واسعة مع عدد من العلماء والباحثين العرب والمسلمين، وقد ملك قدرة كبيرة جدا وجذبهم إليه وتحول حبهم وعونهم له إلى علم ومعرفة. وكان الدين الإسلامي الإبراهيمي هو الموضوع الذي عاش به ومن أجله دارسا منقبا وباحثا متحريا بل وصوفيا عاشقا، فهو العاشق لتجلي المطلق عبر ديانات التوحيد، ومنها الإسلام. إن هذا الحب الصادق الذي عاش به ومن أجله للإسلام جعل كثيرا من الباحثين يصلون إلى قناعة في صدق حبه للإسلام، فقال أحد الباحثين بأنه يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك وأثبته مرات متعددة في كتبه، ويؤمن بالوحي والقرآن حتى أذاع عنه بعض عارفيه أنه اعتنق الإسلام. ولكن الحقيقة أنه لم يفعل ذلك جهارا، ولكن أحاديثه تدل على كثرة اشتغاله بأدق مسائل الإسلام" (نقلا عن مقال "ماسينيون والشيبي: اقتلوني ياثقاتي، إن قتلي حياتي: يوميات متأخرة للشيخ الفرنسي في بغداد" لطالب مهدي الخفاجي، والمقال منشور بمجلة "ألف ياء" المشباكية).
ويمكننا أيضا أن نذكر فى هذا السياق باول كراوس المستشرق اليهودى التشيكوسلوفاكى الأصل الذى هاجر إلى فلسطين وعاش فى إحدى المستوطنات المبكرة هناك وتعلم فى المدرسة والجامعة فيها مشاركا فى اغتصاب الأرض المقدسة من أصحابها العرب والمسلمين بإجرام وتوحش ونذالة، والذى عُيِّن رغم ذلك كله أستاذا فى الجامعة المصرية فى 1936م بفضل طه حسين، الذى كان عميدا لكلية الآداب آنذاك! وهى "مأثرة" من "مآثر" الدكتور طه حبيب الصهاينة والصليبيين الحميم تسجَّل له فى صحائف العار والشنار الخالدة! وقد انتهت حياة هذا المجرم قتلاً فى سبتمبر 1944م: انتحارا حسبما يقول أحد المقربين إليه آنذاك، وهو د. عبد الرحمن بدوى، الذى فسر وجوده مشنوقا بشقته فى الزمالك بالقاهرة بأنه كان، فيما يبدو، عضوا بعصابة شتيرن اليهودية الإرهابية التى كانت تشيع الرعب فى قلوب الفلسطينيين وتغتالهم وتدمر مزارعهم وبيوتهم كى تكرههم على النزوح من ديارهم فيخلو الجو لليهود المغتصبين ويقيموا دولتهم على تراب مسرى نبينا محمد، وأنه قد كُلِّف باغتيال اللورد موين، الذى كان اليهود يَرَوْن فيه حجر عثرة فى سبيل أطماعهم فى فلسطين فصمموا على اغتياله وأسندوا تلك المهمة إلى كراوس، إلا أنه آثر أن ينتحر على أن ينفذ عملية الاغتيال فيُعْدَم كما هو متوقع. هذا تفسير الدكتور بدوى، وهو تفسير غير مقنع بالمرة، إذ إن القبض على كراوس إذا قام بعملية الاغتيال وإعدامه ليس إلا مجرد احتمال مهما تكن قوته، بخلاف الانتحار، فإنه موت أكيد. كما كان من الممكن لكراوس أن يقوم باغتيال موين ثم ينتحر إذا صح تفسير بدوى، وبهذا يكون قد جمع بين الحُسْنَيَيْن، أو بوجهٍ أَحْرَى: بين السُّوأَيَيْن، لعنة الله على الجميع من مجرمين عتاة لا يرقبون فى العرب والسلمين إلاًّ ولا ذمّة. وأيا ما يكن الأمر فقد كان الرجل، على ما تفيد شواهد الحال وتفسير صديقه عبد الرحمن بدوى، الذى كان تلميذا من تلاميذه فى الجامعة المصرية آنذاك، مرتبطا بالعصابات الصهيونية الإجرامية القاتلة ومنغمسا فى النشاطات السياسية والعمل السرى القذر خدمةً لقومه بنى صهيون (انظر "موسوعة المستشرقين"/ 466- 467 فى آخر الصفحات المخصصة لترجمته).
ويؤكد د. مازن بن صلاح مطبقاني، فى مقال له منشور على المشباك بموقع "www.zawag.tv/islam_ma3arf" عنوانه: "الاستشراق"، كل ما سبق ذكره عن المستشرقين بعامّةٍ قائلا: "لقد خدم الاستشراق الأهداف السياسية التوسعية للدول الغربية، فقد سار المستشرقون في ركاب الاحتلال. وهم، كما أطلق عليهم الأستاذ محمود شاكر رحمه الله، "حملة هموم الشمال المسيحي، فقدموا معلومات موسعة ومفصلة عن الدول التي رغبت الدول الغربية في استعمـارها والاستيلاء على ثرواتها وخيراتها. وقد اختلط الأمر في وقت من الأوقات بين المحتل والمستشرق، فقد كان كثير من موظفي الاحتلال على دراية بالشرق لغةً وتاريخًا وسياسةً واقتصـادًا. وقد أصدر، على سبيل المثال، مستشرق بريطاني كتابا من أربعة عشر مجلدا بعنوان "دليل الخليج الجغرافي والتاريخي". وكان موظف الحكومات المحتلة لا يحصل على الوظيفة في إدارة الاحتلال ما لم يكن على دراية بالمنطقة التي سيعمل بها.
واستمر الارتباط بين الدراسات العربية الإسلامية وبين الحكومات الغربية حتى يومنا هذا بالرغـم من أنه قد يوجد عدد محدد جدا من الباحثين الغربيين دفعهم حب العلم لدراسة الشرق أو العالم الإسلامي. ومن الأدلة على هذا الارتباط أن تأسيس مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجـامعة لندن قد أُسِّسَت بناءً على اقتراح من أحد النواب في البرلمان البريطاني. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رأت الحكومة البريطانية أن نفوذها في العالم الإسلامي بدأ ينحسر، فكان لا بد من الاهتمام بالدراسات العربية الإسلامية، فكلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية برئاسة الإيرل سكاربورو (Scarbrough) لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية. ووضعت اللجنة تقريرها حول هذه الدراسات وقدمت فيه مقترحاتها لتطوير هذه الدراسات واستمرارها. وفي عام 1961 كونت الحكومة البريطانية لجنة أخرى برئاسة السير وليام هايتر (Sir William Hayter) لدراسة هذا المجال المعرفي، وقامت اللجنة باستجواب عدد كبير من المتخصصين في هذا المجال، كما زارت أقسام الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وفي عشر جامعات أمـريكية وجامعتين كنديتين. وكانت زيارتها للولايات المتحدة بقصد التعرف على التطورات التي أحدثها الأمريكيون في هذا المجال، وكان ذلك بتموين من مؤسستي روكفللر وفورد.
ومما يؤكد ارتباط الدراسات العربية الإسلامية بالأهداف السياسية الاحتلالية رغم انحسار الاحتلال العسكري أن الحكومة الأمريكية موّلت عددا من المراكز للدراسات العربية الإسلامية في العديد من الجامعات الأمريكية، وما زالت تمول بعضها إما تمويلاً كاملاً أو تمويلاً جزئيًّا وفقا لمدى ارتباط الدراسة بأهداف الحكومة الأمريكية وسياستها. كما يستضيف الكونجرس، وبخاصة لجنة الشؤون الخارجية، أساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية لتقديم نتائج بحوثهم وإلقاء محاضرات على أعضاء اللجنة. كما ينشر الكونجرس هذه المحاضرات والاستجوابات نشرا محدودا لفائدة رجال السياسة الأمريكيين".
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
HOME
مع جعِيط وزعِيط ومعِيط ونطّاط الحيط!
هل كان اسم الرسول قُثَم؟ أم هل كان اسمه محمّدا؟
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.net.tf
قرأت بأُخَرَة فى موقع "إسلام أون لاين.نت" مقالا للأستاذ محمد الحمروني بعنوان "باحث تونسي يزعم: الاسم الحقيقي لمحمد ‘قُثَم‘!"جاء فيه ما يلى: "لم يستبعد الباحث والمفكر التونسي الدكتور هشام جعيط في كتابه الأخير "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة" أن تكون بعض العبارات والآيات زيدت في النص القرآني عند تدوينه، واعتبر أن التأثيرات المسيحية على القرآن لا يمكن إنكارها. وعن محمد صلى الله عليه وسلم قال إنه ولد في حدود سنة 580م، وإنه كان يُدْعَى "قُثَم" قبل بعثته، وتزوج وهو في الثالثة والعشرين وبُعِث في الثلاثين، وإنه لم يكن أبدا أميّا. وفي ندوة عُقِدت في تونس نهاية الأسبوع الماضي وعرض فيها لكتابه شدّد الكاتب على أن ما توصل إليه من نتائج هو ثمرة "عشرات السنوات من البحث والدراسة وفق مناهج علمية صارمة"، وأنه إذ ينشرها فلأنه على يقين بأن ما يورده من "حقائق ينشر لأول مرة". غير أن باحثا تونسيا أشار في معرض تعقيبه على الكتاب إلى أن الرؤى التي يطرحها سبق أن طرح معظمها مستشرق ألماني في القرن الـ19 الميلادى". ويمضى الكاتب قائلا إن جعيط قد أكد أن اسم والد النبى عليه الصلاة والسلام لم يكن "عبد الله"، بل الأرجح، حسب زعمه، أنه صلى الله عليه وسلم هو الذى أطلق عليه هذا الاسم. أما عن اسم النبى ذاته فنراه يدعى أنه لم يكن "محمدا" فى البداية، مستشهدا في ذلك بأن القرآن لم يسمّه باسم "محمد" إلا في السور المدنية: "محمد رسول الله والذين معه" (الفتح)، "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (آل عمران). ويزعم الكاتب أن اسم "محمد" هو واحد من التأثيرات المسيحية فى الإسلام، وأنه نُقِل إلى العربية عن السريانية وأنه يعني في تلك اللغة "الأشهر والأمجد"، وأن صيغته الأولى هى "محمدان". أما الاسم الحقيقي للرسول فهو "قُثَم"، وقد سُمِّىَ به لأن أحد أبناء عبد المطلب كان اسمه "قُثَم" ومات على صِغَرٍ فسُمِّىَ النبي على اسم عمه المتوفَّى. كما زعم أن والده لم يكن يُدْعَى: "عبد الله"، بل الأرجح، حسبما ورد فى كلامه، أن النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى أطلق عليه هذا الاسم.
كما وجدتُ فى مجلة "كلمة تونس: Kalima Tunisie" المشباكية (العدد 52) كلمة للأمين محمد بعنوان "هشام جعيط يقدّم كتابه الجديد عن السيرة النبويّة" جاء فيها: "احتضن مدرج ابن خلدون بكلية 9 أفريل بتونس يوم 29 نوفمبر 2006م محاضرة قدم فيها الأستاذ هشام جعيط كتابه الجديد عن تاريخ الدعوة النبوية في إطار أبحاث في السيرة النبوية. وهو الجزء الثاني من مشروع ابتدأه بكتاب عن الوحي والنبوّة.
وكانت المحاضرة مناسبة لعرض الجزء الأوّل من كتابه الجديد "تاريخية الدعوة النبويّة في مكة" سيتلوه لقاء آخر يوم 13 ديسمبر لعرض الجزء الثاني عن "تاريخية الدعوة النبويّة في المدينة". ولاحظ المحاضر أنّ بعض الأحداث التي تعرضها كتب السيرة تتناقض مع المنطق التاريخي وذلك للتفاوت بين زمن الأحداث وزمن التداول. واعتبر في هذا السياق أنّ النص القرآني وثيقة يمكن اعتمادها من قبل المؤرخ لمحايثة سيرة الرسول. وقال في هذا الشأن: "نحن محظوظون لوجود هذا النص الذي يمكن أن يلجأ إليه المؤرخ كمصدر تاريخي مهمّ يثبّت الوقائع. لكنّه اعتبر في نفس الوقت أنّ قراءة المؤمن لا زمنيّة وأنّ المؤرّخ مطالب بمقاربة موضوعية. واعتبر أنّه لا قيمة لما يحيل عليه بعض الباحثين من وجود نصوص قرآنية موازية: "المصاحف الضائعة" مثل "مصحف صنعاء" الذي يشتغل على تحقيقه فريق بحث تونسي بإشراف المنصف عبد الجليل وعبد المجيد الشرفي ورجاء بن سلامة. واعتبر أن لا قيمة علمية لذلك وأنّ الدراسات النقدية في هذا الشأن "من باب السخافة"، إذ لم يثبت وجود مسافة زمنية بين النطق بالقرآن وتدوينه كما لم يثبت أنّ القرآن تعرض لتبديل أو تغيير على مستوى نصوصه أثناء تدوينه أو جمعه. كما أشار إلى أنّ منطق القرآن ومعجمه وأسلوبه خاص به ولا يقارن بأيّ نصّ لاحق شعرا أو نثرا. وفي دراسته النقدية لكتب السيرة ذكر أنّ نصوص السيرة الأولى اقتبست منهج التأليف من إنجيل يوحنّا، إذ اطّلع ابن إسحاق على هذا الإنجيل بالسريانية. فالسيرة، حسب تعبيره، هي أناجيل المسلمين، وتقدّم تصوّرا لشخص النبيّ ينتمي بعضه إلى الخيال وإن حافظ على النسق التاريخي العام. وفي سياق آخر اعتبر جعيط أنّ لفظة "محمّد" كنية للرسول وليس اسما وأنّ أصلها سرياني: محمّدان، ورجّح أن يكون اسمه التاريخي "قُثَم"، فوالده كان يسمّى: أبو قثم. ولكنّ القرآن أضفى عليه لقبا دينيّا هو محمد الذي يتسمّى به العرب. وتساءل جعيط: لماذا محمد؟ ولماذا في ذلك الزمن؟ واعتبر أنّ هذا السؤال أنثروبولوجي. لذلك اختار المقاربة الأنثروبولوجية لينتهي إلى أنّ الرسول كان يتحرك في قلب الثقافة القديمة، وبحسّ سياسيّ متميّز. لم يكن فيه عالة على قبيلته بني هاشم، الذين كانوا فرعا خاملا وكان دورهم هامشيّا ضخّم منه كتّاب السير في العصر العباسي. وقد حافظ الرسول على الكثير من الطقوس والأعراف القديمة مع تغيير معناها. وفي آخر محاضرته نبّه هشام جعيط إلى أنّه يتعامل مع نصوص إخبارية ضمن منطق علميّ تاريخي موضوعي وأنّه حسب قوله ليس ‘مع الإسلاميين أو العلمانيين ولا مع التقاة أو الكفّار‘".
وأهم ما يلفت النظر فى هذا الكلام المجعَّط الممخَّط هو دعوى المنهجية العلمية الصارمة. وأرجو أن يتنبه القارئ إلى هذه الدعوى، فهى ليست "المنهجية" فقط، ولا "المنهجية العلمية" فحسب، بل "المنهجية العلمية الصارمة" بتعطيش الجيم وتغليظ الصاد من فضلك إلى أقصى مدى. بل إنه ليزعم أنه أنفق فى الوصول إلى هذه النتائج عشرات السنين. يا ساتر، استر! ولا أدرى ماذا كان يفعل أثناء تلك السنين التى تعد بالعشرات، إذ إن السطو على آراء المستشرقين وأذنابهم ممن قالوا قبله هذا الكلام واتبعوا ذات "المنهجية العلمية الصارمة" (والمصرومة أيضا، أو المشرومة: لا فرق) لا يمكن أن يستغرق كل هذا الوقت. ولكن ما على الكلام ضريبة، فليقل الرجل ما يريد، وليس عليه من بأس، فهذا عصر الهجوم على الإسلام بكل وسيلة وبكل طريق وبكل كلام وبكل سطو وبكل بجاحة، ومن فاته الهجوم الآن فلربما لا تتاح له الفرصة مرة أخرى.
وسوف نتناول فى هذه الدراسة الدعوى المتعلقة باسم النبى وأبيه دون بقية الدعاوى الأخرى التى سبق أن عالجناها وعالجها غيرنا فى كتب ودراسات كثيرة. ونبدأ أولا بالموضوع الخاص باسم الرسول وهل كان فعلا "قُثَم" كما يقول جعيط، الذى يذكرنى اسمه بــ"زعِيط ومعِيط ونطّاط الحِيط"، فنقول وبالله التوفيق، وخيبة الله على كل تافه فارغ العقل والقلب والضمير يظن أنه بترديد كلام أعداء الدين الذى ينتمى إليه رسميا من شأنه أن يجعل منه شيئا ذا قيمة، وهيهات، اللهم إلا إذا استطاع أن يرى قفاه أو حتى حلمة أذنه، نقول إن كلام جعيط فى الشقشقة بالمنهجية العلمية الصارمة لا يساوى بصلة، حتى لو كانت بصلة مصنّنة. كيف؟ إن هذا السخف الذى يدعى جنابه أنه استنفد منه عشرات السنين، ولا أدرى كيف، اللهم إلا إذا كان قد ضُرِب على أذنيه فى كهف الضياع وفقدان الذاكرة والعقل سنين عددا، هذا السخف قد تكررت إثارته من قبل مرات حتى أصبح ماسخًا مَسَاخَةَ من يقولونه، فضلا عمن يكررونه من أحلاس الاستشراق والتبشير من كل منتفخ تافه فارغ من العلم ومن الكرامة ومن المنهجية على السواء.
وجعيط يعرف جيدا أنه يخرّف، وهو يفعل هذا عن عمد، وغايته إشاعة الاضطراب فى كل شىء حتى يشك المسلم فى كل أمور دينه ولا يطمئن إلى أى منها ويسلم مفاتيح عقله وضميره إلى سادة جعيط المتربصين وراء الستار. وهذه خطة قديمة جرى عليها كثير من المستشرقين والمبشرين وأذنابهم، وقد فضحتُ عددا من هؤلاء وأكاذيبهم فى كتبى، وكل ما قاله جعيط قاله هؤلاء قبله، وهو يقلدهم بأمر منهم لا اتباعا لمنهج علمى صارم ولا يحزنون، وكلهم يقول هذا عن منهجه، مع أن كل ما يكتبون هو كلامٌ بزرميط لا أصل له ولا فصل. والمقصود أن يتولى كِبْرَ التشكيك فى الإسلام وكتابه وسيرة نبيه ناسٌ من بين أَظْهُرنا من بنى جلدتنا. ذلك أنه إذا كان اسم الرسول الأصلى هو "قُثَم"، فلماذا غيّره يا ترى، وهو اسم يدل على الكرم وكثرة العطاء، ومن ثم فهو مدح لا ذم؟ ولماذا لم نسمع أحدا من المشركين فى مكة أو من اليهود والمنافقين فى المدينة أو من المرتدين بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أو من نصارى العرب أو من الروم أو الفرس يذكر هذا؟ لقد اتهمه المشركون بكل نقيصة فقالوا عنه: ساحر ومجنون وكذاب ويكتتب أساطير الأولين، وحاولوا النيل من قدره بقولهم: لقد كان ينبغى أن ينزل القرآن على رجل من مكة أو الطائف عظيم (أى غنى ذى سلطان وسطوة) لا على محمد، كما كانوا يسمونه على سبيل التنقص بــ"ابن أبى كبشة" إشارةً إلى أحد أجداده الأولين، وكان ينكر عبادة الأصنام ويعيبها ويطعن على أهلها، وكان يكنى: "أبا كبشة"، فشبهوا النبي صلى الله عليه وسلم به على ما ذكره البلاذرى عند ترجمته لعبد الله بن عبد المطلب والد الرسول عليه السلام فى "أنساب الأشراف". وفى المدينة رأينا المنافقين يقولون عن الرسول والمهاجرين من أتباعه المخلصين: سَمِّنْ كلبك يأكلْك! وأشاعوا الإفك على زوجته الشريفة العفيفة الكريمة، وتآمروا على قتله. كما كان اليهود يعترضون على كل شىء فى دينه، حتى لقد كانوا يتهكمون بالصلاة والأذان ويتخذونهما هُزُوًا ولَعِبًا، ويسخرون من دعوة القرآن إلى إقراض الله قرضا حسنا قائلين: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، ويجدّفون فى حقه سبحانه واصفين إياه بأن يده مغلولة. بل لقد ذهبوا أبعد من ذلك فقالوا لأهل مكة المشركين إن وثنيتهم خير من التوحيد الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهل تراهم كانوا يسكتون لو أن الرسول غير اسمه من "قُثَم" إلى "محمد" كما يهرف "جعيطنا"، وبخاصة أن من يقولون هذا إنما يرمون إلى الزعم بأنه قد فعله كى يطابق اسمُه الاسمَ المبشَّر به فى الإنجيل؟ بل لماذا لم يذكر هو نفسه أنه يسمَّى أيضا: "قُثَم" إلى جانب تسميته: "محمدا"، على الأقل من باب الاستكثار من الأسماء المدحية، وقد ذكر عن نفسه ألقابا أخرى متعددة كالحاشر والماحى والعاقب وما إلى ذلك؟ صحيح أن هناك رواية تقول بأن "قثم" صفة من الصفات التى كان يتسمى بها عليه السلام، بَيْدَ أنها رواية غير وثيقة، إذ لا وجود لها بين الأحاديث الصحيحة. وحتى لو كانت رواية صحيحة إن الأسماء التى وردت فيها إنما هى ألقاب مدحية عُرِف صلى الله عليه وسلم بها بعد النبوة، بل بعد الهجرة، ولم يُعْرَف بشىء منها قبل أن يبعثه الله رسولا، اللهم إلا لقب "الأمين" على ما هو معروف. وهناك شاعر وصفه عليه السلام بأنه "قُثَم" بهذا المعنى المدحى، أى بأنه معطاء كريم لا بمعنى أن هذا هو اسمه، بدليل أنه ساقه فى سياق صفات مدحية أخرى لا علاقة لها بالتسميات، وهو الصرصرى الشاعر البغدادى الأعمى الذى قتله التتار يوم دخولهم بغداد (عام 656هـ):
هُوَ أَحمَدُ الهادي البَشيرُ مُحَمَّد* قَتّالُ أَهلِ الشِّركِ وَالطُّغيانِ
هُوَ شاهِدٌ مُتَوَكِّلٌ هُوَ مُنذِرٌ * وَمُبَشِّرُ الأَبرارِ بِالرّضوانِ
هُوَ فاتِحٌ هُوَ خاتَمٌ هُوَ حاشِر* هُوَ عاقِبٌ هُوَ شافِعٌ لِلجاني
قُثمٌ ضَحوكٌ سَيِّدٌ ماحٍ مَحى* بِالنورِ ظُلمَةَ عابِدي الأَوثانِ
وَهوَ المُقَفّى وَالأَمينُ المُصطَفى الـــــ أُمِّيُّ أَكرَمُ مُرسَلٍ بِبَيانِ
وَهوَ الَّذي يُدعى نَبِيّ مَلاحِمٍ* وَمَراحِمٍ وَمَثاب ذي عِصيانِ
وَهوَ اِبنُ عَبدِ اللَهِ صَفوَة شَيْبَة الــــــحَمْدِ بن هاشِمٍ الذَبيح الثاني
أَصلُ الدِياتِ فِداؤُهُ مِن ذَبحِهِ الـــــــمَنذورِ إِذا هُوَ عاشِرُ الأخوانِ
وَالأَبيَضُ البَضُّ المُعَظَّمُ جَدُّهُ* شَيخُ الأَباطِحِ سَيِّدُ الحمسانِ
وهناك أيضا أبيات يمدح بها صاحبها (الشاعر سليمانُ بن قتة أو داودُ بن سلم) قُثَمَ بن العباس، ولو كان اسم الرسول "قثم" لكانت هذه فرصة ليمدحه كذلك بأنه سميّه عليه السلام:
نَجَوْتِ مِن حِلٍّ ومِن رِحْلَةٍ* يا ناقَ إِنْ قَرّبْتِنِي مِن قُثَمْ
إِنَّكِ إِنْ بَلَّغْتِنِيهِ غدا* عاشَ لنا اليُسْرُ وماتَ العَدَمْ
في باعِهِ طُولٌ، وفي وَجْهِهِ* نُورٌ، وفي العِرْنِين مِنْه شَمَمْ
لَمْ يَدْرِ مالاً، و"بَلَى" قد دَرَى* فَعافَها، واعْتاضَ عَنْها "نَعَمْ"
أَصَمُّ عن ذِكْرِ الخَنا سَمْعُهُ* وما عن الخبر بهِ مِن صَمَمْ
ثم إن الموجود فى كتب التاريخ والسيرة والأشعار والقرآن والأحاديث العربية والأجنبية أنه "محمد"، وأنه كان يستعمل هذا الاسم فى معاهداته مع أعدائه من المشركين واليهود. ألم يوقع معاهدة الصحيفة مع هؤلاء غِبَّ هجرته مباشرة إلى يثرب بهذا الاسم؟ وهذه هى السطور الأولى من تلك الصحيفة كما نقلها ابن هشام عن ابن إسحاق: "قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس: المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل...". ولنلاحظ أن النبى، حسب الزعم السخيف التافه بأنه غيّر اسمه فى القرآن المدنى، لم يفعل هذا إلا بعد سنوات من هجرته إلى المدينة، إذ إن الوحى المشار إليه فى هذا الصدد ينتمى إلى تاريخ متأخر عن ذلك، فآية "آل عمران": "وما محمد إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل..."، وهى أقدم نص قرآنى يذكر اسم "محمد"، إنما نزلت بعد غزوة أُحُد، ومعلوم أن هذه الغزوة لم تقع إلا بعد ثلاث سنوات من الهجرة، على حين أن معاهدة الصحيفة قد كُتِبَتْ تَوّ هجرته صلى الله عليه وسلم على ما نعرف جميعا. ودعنا من آية سورة "الفتح": "محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماءُ بينهم..."، التى لم تنزل إلا بعد الحُدَيْبِيَة، وهى متأخرة عن أُحُد كثيرا. وبمناسبة الحديبية ألم يوقع عليه السلام معاهدتها مع كفار قريش بذلك الاسم أيضا على ما هو معروف؟ جاء مثلا فى "المغازى النبوية" لابن شهاب الزهرى أن رسول الله لما أملى على كاتب المعاهدة كلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" اعترض سهيل بن عمرو مفاوض المكيين واقترح أن يكتب بدلا من ذلك "باسمك اللهم"، مثلما اقترح صيغة "محمد بن عبد الله" بدلا من "محمد رسول الله" ("المغازى النبوية" لابن شهاب الزهرى/ تحقيق د. سهيل زكار/ دار الفكر بدمشق/ 1401هـ- 1981م/ 54- 55، وغيرها من كتب السيرة). فلو كان اسم الرسول "قثم" لكانت فرصة لسُهَيْل كى يلقن النبى والمسلمين درسا لا ينساه الناس مدى الدهر ولأصر على أن تكون الصيغة التى ينبغى إثباتها فى الاتفاقية هى "قُثَم بن عبد الله"، لا بل "قُثَم بن عبد اللات" حسب الكلام الذى يقوله علماء آخر زمن!
وبالمثل كان يستعمل اسم "محمد" فى رسائله إلى الملوك والزعماء من حوله قائلا فى ديباجة الخطاب: "من محمد رسول الله إلى قيصر مثلا أو كسرى..."، فكيف لم يعترض أى من هؤلاء على ذلك التغيير، وبخاصة أنه إنما بعث لهم بتلك الرسائل كى يدعوهم إلى دينه؟ يقينا لو أن الأمر على ما يدَّعى هذا الجعيط لما سكت أولئك الملوك والزعماء ولأشبعوه تهكما وتشنيعا! ولقد كان أبو سفيان حاضرا مجلس العاهل البيزنطى الذى نوقشت فيه رسالة النبى له يدعوه إلى الإسلام، تلك الرسالة التى تبدأ كالعادة بقوله: "من محمد رسول الله...". فلو كان اسمه صلى الله عليه وسلم "قُثَم" لاهتبلها الزعيم القرشى الذى كانت بينه وبين الرسول فى ذلك الوقت ثارات وحروب وكان قلبه يتلظى نحوه بالأحقاد الشنيعة، ولفضحه قائلا: إنه لا يُدْعَى: "محمدا" حسبما يزعم فى رسالته لك، بل "قُثَم"، ولكانت تلك حقا لمحمد قاصمة الدهر. فكيف نتنكب هذا كله ونذهب فنسميه: "قُثَم" دون أى أساس يقوم عليه؟ أهذا هو المنهج العلمى الصارم؟ طيب فماذا كنت فاعلا لو لم تتبع منهجا علميا صارما؟
وهذا هو الخبر كما رواه البخارى، والكلام فيه لأبى سفيان نفسه: "انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبينا أنا بالشأم إذ جيء بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل. قال: وكان دِحْيَة الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. قال: فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقالوا: نعم. قال: فدُعِيتُ في نفر من قريش فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي. ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذَبني فكذِّبوه. قال أبو سفيان: وَايْمِ الله لولا أن يُؤْثِروا عليّ الكذب لكَذَبْت. ثم قال لترجمانه: سَلْه كيف حَسَبُه فيكم. قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سِخْطَةً له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا: يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: والله ما أمكنني من كلمة أُدْخِل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال لترجمانه: قل له إني سألتك عن حَسَبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبْعَث في أحساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمتَ أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلتُ: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطةً له فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تُبْتَلَى ثم تكون لهم العاقبة. وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله فزعمت أن لا فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله قلتُ: رجلٌ ائتمّ بقولٍ قيل قبله. قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قال: قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إنْ يَكُ ما تقول فيه حقا فإنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أَكُ أظنّه منكم. ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. وليبلغنّ ملكه ما تحت قدمي. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتّبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وأَسْلِمْ يُؤْتِك الله أجرك مرتين. فإن توليتَ فإن عليك إثم الأريسيين. و"يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله... إلى قوله: اشهدوا بأنا مسلمون". فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأُخْرِجْنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أَمِرَ أمر ابن أبي كبشة. إنه ليخافه مَلِك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام. قال الزهري: فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد وأن يثبت لكم ملككم؟ قال: فحاصُوا حَيْصَةَ حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقَتْ. فقال:عليَّ بهم. فدعا بهم فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببتُ. فسجدوا له ورَضُوا عنه".وهذه القصة موجودة أيضا فى كتاب "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير (جمع وتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى/ مكتب التربية العربى لدول الخليج/ الرياض/ 1401هـ- 1981م/ 196- 197) وكتاب "المغازى النبوية" لابن شهاب الزهرى (ص 58- 61) وغيرها من كتب السيرة.
كذلك ففى "الفاضل فى اللغة والأدب" مثلا للمبرد: "حدثني علي بن القاسم الهاشمي قال: كانت سمات أربعة من ولد العباس: عبد الله الحَبْر، وعبيد الله الجواد، ومَعبد الشهيد، وقُثَم الشبيه. وتأويل ذلك أن قُثَم بن العباس كان كثير المشابهة برسول الله صلى الله عليه، وكان العباس يُرقِّصه ويقول:
أيا قُثَمْ أيا قُثَم* أيا شبيهَ ذي الكرمْ
شبيه ذي الأنف الأشمّ
صلى الله عليه"، فلو كان اسم النبى الأصلى "قُثَم" لقد كانت هذه فرصة لذكر مزيد من أوجه الشبه بين قُثَم الصغير والنبى الكريم. وفى "الكشكول" لبهاء الدين العاملى هذا النص الذى يدل على أن قُثَم بن العباس كان يشبه النبى صلى الله عليه وسلم: "للشيخ فتح الدين بن سيد الناس الحافظ في جماعة كانوا شبيهين بالنبي صلى الله عليه وسلم:
لخمسة شبه المختار من مضر* يا حسن ما خولوا من شبه الحسن
كجعفر وابن عم المصطفى قثم* وسائب وأبي سفيان والحسن"
ثم ما وجه الغرابة فى أن يكون اسم النبى هو فعلا "محمدا" كما نعرف جميعا وكما تقول الروايات ويقول الناس كلهم ويقول القرآن ويقول الرسول نفسه؟ إن مثل هذه الأمور لا ينبغى أن تخضع لنزوة كل نازٍ، بل ينبغى أن تحكمها المنهجية العلمية الصارمة كما يزعم جعيط كذبا وادعاء أنه فعل. أما استناده إلى أن القرآن لم يسمه: "محمدا" إلا فى السور المدنية، فالرد عليه بأن القرآن لم يسمه: "قثما" لا فى المدنية ولا فى المكية، بل لم يسمه أى اسم آخر فيهما غير "محمد" (و"أحمد" فى بشارة عيسى به عليهما السلام)، أما الباقى فصفات مثل "المزمل" و"المدثر" و"النبى" و"الرسول"، فماذا هو قائل إذن؟ ألا يرى القارئ معى تهافت منطق هذا الجعيط؟ ألا يرى أنه لا فرق بين منطقه ومنطق نطاط الحيط؟ بلى، فكلاهما يتقافز موهما إيانا أنه يأتى عملا مفيدا، على حين أنه لا يعرف إلا حركات البهلوانات "النِّصْف كُمّ"، وهى حركات لا تقدم ولا تؤخر، وليس لها أى تأثير فى عالم الواقع سوى أنها تضحكنا على من يأتونها!
جاء فى "الوافى بالوفيات" لصلاح الدين الصفدى، فى "باب محمد" وتحت عنوان "الـمُسَمَّوْن بمحمد في الجاهلية": " كان النصارى وبعض العرب يخبرون بظهور نبي اسمه "محمد" من العرب وكانوا يسمون أبناءهم: "محمدا" رجاء أن تكون النبوة فيه: فمنهم محمد بن سفين بن مجاشع بن دارم التميمي، ومحمد بن وثر أخو بني عوارة من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومحمد بن أُحَيْحَة بن الجلاح الأوسي أخو بني جحجبا، ومحمد بن خزاعي السامي، ومحمد بن حمران بن مالك الجعفي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري أخو بني حارثة". ثم يمضى الصفدى قائلا إن "أول من سُمِّىَ: "محمدا" من أبناء المهاجرين محمد بن جعفر بن طالب، وُلِدَ بالحبشة في الهجرة الأولى، ثم محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ثم محمد بن عبيدة الله التيمي، ثم محمد بن أبي بكر الصديق، ثم محمد بن علي بن أبي طالب، ووُلِد من الأنصار محمد بن الحرّ بن قيس من الخزرج، ثم محمد بن ثابت بن قيس بن شماس من الخزرج، ثم محمد بن عمرو بن حزم من بني النّجار، ثم محمد بن فضالة، وُلِدَ عام حّجة الوداع". فإذا كان اسم "محمد" معروفا للعرب فى الجاهلية، فما وجه الغرابة، ولا نقول: ما وجه الاستحالة، فى أن يكون اسم النبى "محمدا"؟ ولقد كان هذا أساسا ارتكن إليه كاتب مادة "محمد" فى "دائرة المعارف الإسلامية" الاستشراقية فى طبعتها الأولى، وهو المستشرق الدانماركى بوهل المبغض للإسلام، فى الرد على من يزعمون أن اسمه عليه السلام فى البداية كان شيئا آخر غير "محمد"، إذ كان رأيه أن هذا الاسم قد ورد عند العرب من قبل كما جاء عند ابن دُرَيْدٍ وابن سعد، وعلى ذلك فليس من الضرورى القول بأن اسم "محمد" هو لقب اتخذه النبى فى فترة متأخرة من حياته صلى الله عليه وسلم (Shorter Encyclopaedia of Islam, Edited by Gibb & Kramers, Brill, Leiden, 1953, P. 391 left column). كذلك فإن حرص جعفر بن أبى طالب مثلا أثناء مُقَامه بالحبشة فى المرة الأولى على تسمية ابنه الذى وُلِد له هناك: "محمدا" يمكن أن يكون دليلا إضافيا على أن النبى كان معروفا بهذا الاسم قبل هجرته إلى المدينة، فأغلب الظن أن جعفرا قد فعل ما فعل حبا منه للنبى وتشرفا باسمه الكريم، ومعروف أن الهجرة الحبشية كانت قبل الهجرة اليثربية.
ويمضى الصفدى فيذكر بعد قليل أسماءه صلى الله عليه وسلم فيقول: "روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون "مُذَمَّمًا"، ويلعنون "مذمما"، وأنا "محمد". قال السخاوي في "سفر السعادة": قيل لعبد المطلب: بم أسميت ابنك؟ فقال: بــ"محمد". فقالوا له: ما هذا من أسماء آبائك! فقال: أردت أن يُحْمَد في السماء والأرض. و"أحمد" أبلغ من "محمَّد"، كما أن "أحمر" و"أصفر" أبلغ من "محمر" و"مصفر". وروى البخاري ومسلم والترمذي عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على قدمي، وأنا العاقب. والعاقب الذي ليس بعده نبيّ. وقد سماه الله: رؤوفا رحيما... وقد قال حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
فشَقَّ له من اسمـه لـيُجِـّلـه* فذو العرش محمودٌ، وهذا محمَّدُ
ومن أسمائه المقفى، ونبي التوبة، ونبي المرحمة. وفي صحيح مسلم: ونبي الملحمة. ومن أسمائه طه، ويس، والمزَّمِّل، والمدَّثِّر، وعَبْدٌ في قوله تعالى: "بعبده ليلاً"، و"عبد الله" في قوله تعالى: "وأنه لما قام عبد الله يدعوه"، و"مُذَكِّر" في قوله تعالى: "إنما أنت مذكِّر". وقد ذكر غير ذلك".
وقد كتب النويرى صاحب "نهاية الأرب" تحت عنوان "أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُنَاه" ما نصه: "وأسماؤه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها ما جاء بنص القران، ومنها ما نُقِل إلينا من الكتب السالفة والصحف المنزلة، ومنها ما جاء في الأحاديث الصحيحة، ومنها ما اشتهر على ألسنة الأئمة من الأمة رضوان الله عليهم. روى عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب. قيل: لأنه عَقَبَ غيره من الأنبياء. وروى عنه عليه السلام: لي عشرة أسماء، فذكر الخمسة هذه، قال: وأنا رسول الرحمة، ورسول الراحة، ورسول الملاحم، وأنا المقفى: قفيت النبيين، وأنا قَيِّم. قال القاضي عياض: والقيِّم: الجامع الكامل. قال: كذا وجدته ولم أروه، وأرى صوابه: "قُثَم" بالثاء. وروى النقاش عنه عليه الصلاة والسلام: لي في القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويس، وطه، والمدَّثِّر، والمزَّمِّل، وعبد الله. وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان عليه السلام يسمى لنا نفسه أسماء فيقول: أنا محمد، وأحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، ويروى المرحمة، والرحمة... وقد جاءت من ألقابه وأسمائه صلى الله عليه وسلم في القرآن عدةٌ كثيرةٌ سوى ما ذكرناه، منها "النور" لقوله تعالى: "قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وكتابٌ مُبِينٌ"، و"السراج المنير"، و"الشاهد"، و"المبشر"، و"النذير"، و"داعي الله". قال الله تعالى "يأيُّهَا النَّبيّ إنا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا ودَاعِيًا إلى الله بإذْنِهِ وسِرَاجًا مُنِيرًا"، و"البشير" لقوله تعالى: "وبَشِّر المُؤْمِنِين"، و"المنذر" لقوله: "إِنَّمَا انتَ مُنِذْرُ مَنْ يَخْشَاهَا"، و"المذكِّر" لقوله تعالى: "إِنمَا أنتَ مُذَكِّرٌ"، و"الشهيد" لقوله: "وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا"، و"الخبير" لقوله تعالى: "الرَّحْمنُ فأسْألْ بِه خَبِيرًا". قال القاضي بكر بن العلاء: المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم، والمسؤول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم. و"الحق المبين" لقوله تعالى: "حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ"، وقوله: "وقُلْ إِني أنا النَّذِير المبينُ"، وقوله: "قَدْ جَاءَكُم الْحَقُّ مِن رَّبِّكُم"، وقوله: "فَقَد كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُم". قيل: محمد، وقيل: القرآن. و"الرءوف الرحيم" لقوله تعالى: "بالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ"، و"الكريم"، و"المكين"، و"الأمين" لقوله تعالى: "إِنهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أمِين"، و"الرسول"، و"النبيّ الأميّ" لقوله: "الذينَ يَتَّبِعُون الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيِّ"، و"الوليّ" لقوله تعالى: "إنمَا وَلِيُّكُم اللَهُ وَرَسُولُه"، و"الفاتح" لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء عن ربه تعالى: "وجعلتُك فاتِحا وخاتِما"، و"قدم الصدق"، قال الله تعالى: "وَبَشِّر الذيِنَ آمَنُو أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِم". قال قتادة والحسن وزيد بن أسلم: "قَدَم صِدْق" هو محمد صلى الله عليه وسلم. و"العروة الوثقى"، قيل: محمد، وقيل: القران. و"الهادي" لقوله تعالى: "وَإنكَ لتَهْدِى إلى صِراطٍ مُسْتَقِيم".
كما كتب تحت عنوان "تسميته محمدا وأحمد، ومن تسمى بمحمد قبله صلى الله عليه وسلم من العرب، واشتقاق ذلك" ما يلى: "أما اشتقاق هذه التسمية، فـ"محمد" اسمٌ علم، وهو منقول من صفةٍ، من قولهم: رجلٌ محمَّد، وهو الكثير الخصال المحمودة. و"المحمَّد" في لغة العرب: هو الذي يُحْمَد حمدا بعد حمد مرةً بعد مرة. قال السهيلي: لم يكن "محمَّد" حتى كان "أحمد". حمد ربه فنبّأه وشرّفه، فلذلك تقدم اسم "أحمد" على الاسم الذي هو "محمد" فذكره عيسى عليه السلام باسمه: "أحمد". وهو صلى الله عليه وسلم أول من سُمِّىَ بـ"أحمد"، ولم يُسَمَّ به أحد قبله من سائر الناس. وفي هذا حكمة عظيمة باهرة لأن عيسى عليه السلام قال: "ومبشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد"، فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمَّى أحدٌ به ولا يُدْعَى به مَدْعُوٌّ قبله، حتى لا يدخل لَبْسٌ على ضعيف القلب. وأما "محمد" فالله تعالى حمى أن يسمَّى به أحدٌ من العرب ولا من غيرهم إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده صلى الله عليه وسلم أن نبيًّا يُبْعَث اسمه "محمد" قد قرب مولده، فسمَّى قوم من العرب أبناءهم. قال أبو جعفر محمد بن حبيب: وهم ستة لا سابع لهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر، وهو أول من سُمِّىَ: محمدا، ومحمد بن أُحَيْحَة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن حسان الجعفي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن خزاعي السلمي، وذكر فيهم أيضا محمد بن اليحمدي من الأزد، واليمن تقول: انه أول من تسمى بمحمد. وذكر أبو الخطاب بن دحية فيهم: محمد بن عتوارة الليثي الكناني، ومحمد بن حرماز بن مالك التميمي المعمري. وقال أبو بكر بن فورك: لا يُعْرَف في العرب من تسمى قبله بمحمد سوى محمد بن سفيان، ومحمد بن أحيحة، ومحمد بن حمران. وآباء هؤلاء الثلاثة وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحدٍ منهم قد خلّف امرأته حاملا، فطمع في ذلك فنذر كل واحد منهم إذا وُلِد له ولد ذكر أن يسميه: محمدا. وذكر ابن سعد فيهم محمد الجشمي. وقال ابن الأثير: محمد بن عدي بن ربيعة بن سعد بن سواد بن جشم بن سعد، عداده في أهل المدينة. وروى عبد الملك بن أبي سويد المنقري عن جد أبيه خليفة، قال: سألت محمد بن عدي: كيف سماك أبوك: محمدا؟ فضحك ثم قال: أخبرني أبي عدي بن ربيعة، قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص بن مازن، وأسامة بن مالك بن العنبر نريد ابن جفنة، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير، فأشرف علينا ديراني فقال: إني لأسمع لغة ليست لغة أهل هذه البلاد. فقلنا: نعم ! نحن من مُضَر. فقال: أي الـمُضَرَيْن؟ قلنا: خندف. فقال: إنه يبعث وشيكًا نبي منكم، فخذوا نصيبكم منه تسعدوا. قلنا: ما اسمه؟ قال: محمد. فأتينا ابن جفنة، فلما انصرفنا وُلِد لكل منا ابن فسماه: محمدا. وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن علي عن مسلمة عن علقمة عن قتادة بن السكن، قال: كان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد الجشمي في بني سواد، ومحمد الأسيدي، ومحمد الفقيمي، سمَّوْهم طمعًا في النبوة. ثم حمى الله تعالى كل من تسمى بمحمد أن يدَّعى النبوة، أو يدَّعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره، حتى تحقق ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع. ومن أسمائه في الكتب المنزلة "العظيم": وقع في أول سِفْرٍ من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمة عظيمة. و"الجبار": سُمِّىَ بذلك في كتاب داود عليه السلام، فقال: تقلَّد أيها الجبار سيفك، فناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك. قالوا: ومعناه في حق النبي صلى الله عليه وسلم: إما لإصلاحه الأمة بالهداية والتعليم، أو لقهره أعداءه، أو لعلوّ منزلته على البشر وعظيم خطره. ونفى الله عز وجل عنه جبرية التكبر في القرآن فقال: "وما أنتَ عليهمْ بجبّار". ومن أسمائه فيها: المتوكل، والمختار، ومقيم السنة، والمقدس، وروح الحق، وهو معنى "البارقليط" في الإنجيل. وقال ثعلب: "البارقليط" الذي يفرق بين الحق والباطل. ومنها ماذ ماذ، ومعناه طيب طيب، وحمطايا، والخاتم. حكاه كعب الأخبار. قلت: فالخاتم الذي خُتِم به الأنبياء، والخاتم أحسن الأنبياء خُلُقًا وخَلْقًا، ويسمى بالسريانية: مشفج والمنحمنا. واسمه أيضا في التوراة: "أحيد". وروى ذلك عن ابن سيرين رحمه الله".
ثم يستمر قائلا: "ومن أسمائه ونعوته عليه لسلام التي جرت على ألسنة أئمة الأمة: المصطفى، والمجتبي، والحبيب، ورسول رب العالمين، والشفيع المشفع، والمتقي، والمصلح، والطاهر، والمهيمن، والصادق، والضحوك، والقتال، وسيد ولد آدم، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغُرّ المحجَّلين، وحبيب الله، وخليل الرحمن، وصاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والشفاعة والمقام المحمود، وصاحب الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وصاحب التاج والمعراج والقضيب، وراكب البراق والناقة والنجيب، وصاحب الحجة والسلطان، والخاتم والعلامة والبرهان، وصاحب الهراوة والنعلين صلى الله عليه وسلم. قالوا: ومعنى صاحب القضيب: السيف. وقع ذلك مفسرا في الإنجيل، قال: معه قضيب من حديدٍ يقاتل به، وأمته كذلك. وأما الهراوة التي وُصِف بها فهي في اللغة: العصا، ولعلها القضيب الممشوق الذي انتقل إلى الخلفاء. وأما صاحب التاج، فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذٍ إلا للعرب. وكانت كنيته المشهورة أبا القاسم. وعن أنسٍ أنه لما وُلِد له إبراهيم جاءه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم". ومن الواضح أن الكلام يطول فى باب أسمائه صلى الله عليه وسلم وأنها كلها، ما عدا "محمدا" و"أحمد"، ألقاب شرفية نص الحديث على عددٍ جِدّ قليلٍ منها، ثم أضاف المسلمون إليها الكثير مما لم يُسْمَع من النبى عليه السلام حتى لقد بلغ بها بعضهم ألفا. وهذه خلاصة الحقيقة فى الموضوع ليس غير! أما اسم والده صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن "عبد الله" فلسنا نفهم على أى أساس نفى جعيط أن يكون "عبد الله"، ولا على أى أساس آخر رجّح أن يكون النبى هو الذى سماه بهذا الاسم. إن كانت هذه هى المنهجية العلمية الصارمة فقل: على الدنيا العفاء! إذ معنى ذلك أن أى إنسان يستطيع أن يقول أى كلام يطقّ فى رأسه دون أن يخشى شيئا ما دامت المسائل تعالج بهذه الطريقة المضحكة! وعلى أية حال سوف نعالج هذه النقطة بالتفصيل لاحقا.
وممن ذهب أيضا مذهب جعيط وقال ذلك الكلام الذى لا معنى له فى دنيا العلم والفكر، وإن كان له فى دُنًا أخرى معانٍ كثيرة، د. يوسف زيدان، الذى كتب مقالا بصحيفة "الوفد" فى الحادى والثلاثين من أكتوبر لعام 2006م عنوانه: "قُثَم" قال فيه: "صاح صاحبي غاضبا، ونفض ذراعيه في الهواء اعتراضا علي ما ذكرتُه خلال كلامي معه عن الأسماء العربية من أن نبينا كان اسمه "قثم بن عبد اللات" قبل محمد وأحمد ومحمود، وأنه حمل هذا الاسم: "قثم" إلى أن بلغ من عمره ما يزيد علي الأربعين عاما. زعق صاحبي بما معناه أن كلامي غير صحيح، لأنه لم يسمع بذلك من قبل، وبالتالي فهو غير صحيح. فسألته إن كان قد سمع من قبل أن النبي له عم كان اسمه هو الآخر "قثم"، وهي كلمة عربية قديمة تعني "المعطي"، وتعني "الجَمُوع للخير"، كما أنها اسم الذَّكَر من الضِّبَاع. فاحتقن وجه صاحبي غيظا، واتهمني بأن كل ما قلته غير صحيح، وأنه لا يوجد أصل يؤكده ولا أي مرجع. تناولت من رفوف مكتبتي كتاب الإمام الجليل أبو الفرج بن الجوزى الذي عنوانه "المدهش"، وفتحت لصاحبي الصفحات ليرى أن ما قلته له مذكور قبل تسعة قرون من الزمان، وشرحت له أن ابن الجوزي هو أحد أهم العلماء في تاريخ الإسلام، وأنه فقيه حنبلي لم يكن في زمانه مثله، ومؤرخ مشهور وخطيب كان الخليفة يحرص علي سماع دروسه. حار صاحبي لدقائق، ثم اهتدي لفكرة ملخصها أنه لن يقبل كلام ابن الجوزي أيضا، وأنه لن يقتنع إلا بأول كتاب وأقدم كتاب في سيرة النبى. فأخبرته أنه يطلب كتاب "السيرة لابن إسحاق"، وهو كتاب مفقود منذ أمد بعيد، ولم نعثر له علي أي مخطوطة حتى الآن في أي مكان في العالم. تنهد صاحبي مرتاحا، وهو يقول ما معناه: إذن، فلا شيء مما تقوله صحيح! راح صاحبي لينام، ورحت أفكر فينا وفي هذا العنف الكامن بداخلنا، وفي تلك الثورة الجاهزة للإعلان عن نفسها، وللتصدير أيضا لأتفه الأسباب، خاصة تلك التي لم نعتد عليها. وتذكرت ابن النفيس، وحزنت عليه وعلينا، فقد قال لنا هذا الرجل، وهو أيضا عالم وفقيه شافعي لم يكن في زمانه مثله، قبل ثمانية قرون من الزمان هذه العبارة التي لم نلتفت أبدا إليها. وهي بالمناسبة، ولكي لا يكذبني أحد، موجودة في كتابه الذي لم يزل مخطوطا لم ينشر: "شرح معاني القانون". تقول العبارة التي أرجو أن نقرأها بهدوء: "وربما أوجب استقصاؤنا النظر عُدولاً عن المشهور والمتعارَف، فمن قَرَع سمعَه خلافُ ما عَهِده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيش. فرب شُنْعٍ حقٌّ، ومألوفٍ محمودٍ كاذبٌ، والحق حق في نفسه، لا لقول الناس له". ولنذكر دوما قولهم: إذا تساوت الأذهان والهمم، فمتأخر كل صناعة خير من متقدمها".
والناظر فى هذا الكلام يجد الدكتور زيدان يتمحك هو كذلك فى المنهجية العلمية ويستشهد بكلام لابن النفيس يشهد عليه لا له لأن ابن النفيس يريد منا أن نتحرز تمام التحرز قبل قبول أية فكرة أو رفضها وألا نبالى بمن قالها ولا بكثرة تكرارها بل بصحتها فى نفسها، وأين ذلك أو شىء من ذلك فى كلام زيدان؟ لقد نسب إلى ابن الجوزى كلاما لم يقله الرجل البتة، بل كل ما قاله رحمه الله، ولا رحم من يفترى الباطل على العلماء الكرام المخلصين، أن من بين أسماء النبى اسم "قثم"، بل إنه قد ذكره آخِرًا، ولم يقل قط إن اسمه الشريف عليه الصلاة والسلام كان "قُثَم" ثم تغير إلى "محمد" أو "أحمد"، فضلا عن أن يَكْذِب ابن الجوزى هذا الكذب الفاجر فيزعم أن اسم والد الرسول كان "عبد اللات". وهذا نص ما قاله ابن الجوزى فى تسميات الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أورده تحت عنوان "ذكر أسمائه": "هو محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم، والشاهد، والبشير، والنذير، والضحوك، والقتال، والمتوكل، والفاتح، والخاتم، والمصطفى، والرسول، والنبي، والأمي، والقثم. فـ"العاقب" آخر الأنبياء، و"المقفي" تبع الأنبياء، و"الضحوك" صفته في التوراة لأنه كان طيب النفس فكها، و"القُثَم" من "القَثْم"، وهو الإعطاء". أما أن ابن الجوزى العالم الجليل الذى لا يعرف الكذب ولا شغل الثلاث ورقات قد قال إن والد الرسول كان يسمى: "عبد اللات" فكلاّ ثم كلاّ. والكتاب بين أيدينا فليرنا زيدان أين نجد هذا الذى يتقوله على عالمنا الجليل، فقد بحثت عن هذا الاسم عنده فلم أعثر عليه، بل إن كلمة "اللات" ذاتها لا وجود لها فى كتابه. أما الموجود فيه فهو أن والد الرسول كان اسمه "عبد الله"، وهذا هو النص الذى ورد فيه ذلك الاسم، ويجده القارئ فى الباب الثالث فى أول الفصل الذى عنوانه: "في ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم- ذكر نسبه": "هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن زيد بن يقدر بن يقدم بن الهميسع بن النبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن سارغ بن أرغوة بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يزد بن مهلايل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم. وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب".
وعندنا أبو عبد الله، وهو عبد المطلب جد الرسول، وكان اسمه الأصلى: "عامرا" أو "شَيْبَة الحمد" على ما جاء فى "السيرة الحلبية"، ولم يمنع هذا المؤرخين وكتاب السيرة من أن ينصوا على اسمه الذى اشتهر به، وهو "عبد المطلب" على ما فى هذه التسمية مما يسىء إليه، فلماذا يستنكفون أن يذكروا الاسم الأصلى لوالد الرسول؟ يقول الحلبى: "وقيل له: عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه، وكان بهيئةٍ رَثّةٍ، أي ثيابٍ خَلِقة، فصار كل من يسأل عنه ويقول: من هذا؟ يقول: عبدي، أي حياءً أن يقول: ابن أخي. فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبد المطلب: ويحكم! إنما هو شيبة ابن أخي هاشم. لكنْ غلب عليه الوصف المذكور فقيل له: عبد المطلب. أي وقيل: لأنه تربى في حجر عمه المطلب، وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد: هو عبده... وقيل: إنما سمي شيبةُ الحمد: "عبدَ المطلب" لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك، يعني "شيبة الحمد" بيثرب". وبالمثل لم يمنعهم إجلالهم الرسول عليه الصلاة والسلام من ذكر نذر جده هذا أن يضحى بابنه عبد الله (الذى سيصبح والد الرسول) إنْ نرزقه الله عشرة أبناء يكبرون ويقومون على حمايته، واحتكامه فى ذلك إلى الكهان حين وجب عليه أن يضحى به وفاء لذلك النذر. كما كان لعبد الله والد النبى أخوان أحدهما يسمى: "عبد العُزَّى"، وهو أبو لهب، والآخر "عبد مناف"، وهو أبو طالب، فهل منعت عمومتُهما للنبى عليه السلام كتّابَ السيرة من أن يذكروا اسميهما الوثنيين؟ أم هل منعهم تبجيلهم للرسول من النص على أن اسم جد أبيه هو "عبد مناف" أيضا؟ أم هل منعت عمومةُ أبى طالب له وحمايتُه إياه من الاضطهاد القرشى معظمَ علماء المسلمين من القول بأنه مات دون أن يؤمن بدين ابن أخيه رغم وقوفه معه إلى آخر المدى فى وجه ذلك الاضطهاد حتى إنه لما مات سُمِّىَ عام موته: "عام الحزن"؟ فهذا مثل هذا، لكن بعض الناس يغرمون غراما مرضيا بالعكّ الأزلى المثير للغثيان، ويؤثرونه على منطق العقل والعلم والتفكير المستقيم!
ولا أدرى كيف جرؤ الدكتور زيدان على التقول على ذلك العالم الجليل بهذا الشكل؟ أيظن أن أحدا لن يكتشف هذا العبث؟ ثم من ذلك الصاحب المناكف ذو الرأس المتحجرة الذى لم يشأ أن يصدقه فيما نقله عن ابن الجوزى، والذى هو محق تماما فى هذا التكذيب؟ كنت أرجو أن يذكر اسمه لنا الدكتور زيدان، فهو (أى ذلك الصاحب ذو الدماغ الناشفة الذى لا أظن أن له أى وجود فى عالم الوقائع والحقائق) رجل عاقل تمام العقل حقا وصدقا وعين اليقين، ويستأهل لا بوسة واحدة بل مليون بوسة على يده وعلى خده أيضا، إذ ليس من المعقول أن يقول ابن الجوزى شيئا من ذلك، كما لا يمكن أن يستبدل ابن النفيس باسمه الكريم الشريف اسم "ابن الخسيس" ويذهب فيبارك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم تشويها له وتلطيخا لخلقه واتهاما له وللقرآن بتغيير الحقائق لغرض فى نفس يعقوب! ثم لماذا يفتح زيدان هذا الموضوع الآن؟ وما أهمية ابن الجوزى فى مثل هذا الأمر، وهو المتأخر عن عصر النبى قرونا، إن كان قد قال فعلا ذلك الكلام السفيه؟ ولقد رأينا بأم أعيننا أنه رحمه الله لم يقله بتاتا، بل كل ما قاله أن "قثم" هو مجرد اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه صفة من صفاته، كما ذكره آخر شىء من تلك الصفات! أما لو أصر الدكتور زيدان رغم ذلك كله على ما زعم فليقل لنا: أين نجد فى كتاب "المدهش" أن أباه صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى: "عبد اللات" وأنه هو كان يُدْعَى: "قُثَم" لمدة أربعين سنة حتى بُعِث؟ ومن الذى غيّر اسمه يا ترى؟ وما العلة فى ذلك، وبخاصة أنه قد تم بعد المبعث؟ نعم نرجو أن يتكرم الدكتور زيدان بالإجابة على هذه الاستفسارات، فلربما فاتنا التنبه إلى ذلك فى كتاب "المدهش". ونحن لا ندعى لأنفسنا عصمة ولا عبقرية ولا يقظة دائمة، بل نقبل أن ينبهنا أى إنسان إلى ما يكون قد فاتنا! ومن هنا فإننا ننتظر من يوسف زيدان أن يوافينا بما يدل على أن ما قاله ليس زعما من بنيّات خياله لأمر ما من الأمور، بل هو كلام ابن الجوزى فعلا.
وإننا لمنتظرون! على أن المسرحية لما تنته فصولا، فقد أكد زيدان أن كتاب ابن إسحاق هو أول كتاب فى السيرة النبوية، وطبعا هذا عند الدكتور كلام علمى تمام العلمية، ومنهجى إلى أقصى حدود المنهجية، مع أن الحقيقة التى تفقأ عين كل مكابر جهول تقول بملء فيها إنّ هناك كتّاب سيرة قبل ابن إسحاق ( ت 151هـ)، منهم أبان بن عثمان بن عفان (ت 110هـ)، وعروة بن الزبير بن العوام (ت 94هـ)، وعامر بن شراحيل الشعبى (ت 103هـ)، وله كتاب "المغازى"، وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 119هـ)، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهرى (ت 124هـ)، وموسـى بـن عقبـة (ت 140هـ)، وكلهم محدِّثُون ثِقَات. وبعض ما خلّفه هؤلاء فى السيرة قد طُبِعَ، مثل كتاب عروة بن الزبير وكتاب الزهرى. كما أنّ كتاب ابن إسحاق نفسه مطبوعٌ نحو نصفه خالصًا غير مَشُوب، فضلا عن أنه موجود كاملاً فيما يسمى بــ"سيرة ابن هشام"، مع بعض التغييرات الطفيفة التى أحدثها فيه ابن هشام كحذف قصيدة أو إسقاط عدد من أبياتها، وإضافة بعض التعليقات هنا وهناك تنبيها إلى ما كان يتركه أحيانا مما لا صلة له بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه كل مشتغل بالعلم على سُنّة ابن النفيس لا سنة ابن الخسيس. فلم يا ترى كل هذا التنفج منا بالعلم والمنهج العلمى، مع أن بضاعتنا من هذا وذاك محدودة؟
وبالمناسبة فابن إسحاق، الذى يعده الدكتور زيدان أول من كتب فى السيرة النبوية ويلمح إلى أن كتابه هو الكتاب المعتمد فى ذلك المجال لولا فقدانه قد صرح أن الرسول سُمِّىَ من قبل مولده: "محمدا" وأن السماء هى التى ألهمت أمه أن تسميه بهذا الاسم. أى أنه لا "قُثَم" ولا يحزنون كما يزعم زيدان، بغض النظر عن مدى مصداقية التفاصيل الأخرى المصاحبة لتلك الرواية أو لا. وهذا نص كلام ابن إسحاق: "كانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أُتِيَتْ حين حملت محمدا صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعـيذه بـالــواحـــد، من شـر كـل حـاسـد، في كـل بـر عـابـــد، وكـل عــبـــد رائد، نزول غــــــير زائد، فإنه عبد الحميد المـاجـد، حتى أراه قد أتى المشاهد. فإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام. فإذا وقع فسميه: "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد"، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الفرقان "محمد"، فسميه بذلك. فلما وضعته، بعثت إلى عبد المطلب جاريتها (وقد هلك أبوه عبد الله وهي حبلى، ويقال إن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهرا، فالله أعلم أي ذلك كان)، فقالت: قد ولد لك الليلة غلام فانظر إليه، فلما جاءها، أخبرته خبره، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه... إلخ". وهذا غير الأشعار الكثيرة التى أوردها ابن إسحاق فى كتابه وسُمِّىَ فيها النبى: "محمدا". كما عَدَّ رحمه الله أيضا أبناء عبد المطلب (عند كلامه عن نذره التضحية بأحد أولاده ورغبته فى الوفاء بذلك النذر) على النحو التالى: "الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله"، ذاكرا أن اسم والد الرسول، كما نلاحظ فى آخر القائمة، هو "عبد الله" لا "عبد اللات". كذلك يورد ابن إسحاق، أثناء روايته خبر الطعام الذى صنعه بحيرا للقافلة القرشية التى كان فيها الرسول، قول أحد القرشيين حين رأى زملاءه قد أهملوا محمدا فلم يصطحبوه إلى طعام الراهب: "واللات والعزى إن هذا للؤم بنا! يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا؟"، فسماه: "ابن عبد الله". وبالمثل نسمع جبريل ينادى رسول الله أول ما ظهر له فى الأفق بـ"يا محمد". وهذه مجرد أمثلة ثلاثة لا غير! أَوَلاَ يرى القارئ الخزى الذى يسربل تلك المزاعم الماسخة الطعم؟
وهناك دليل صاعق لكل مشكك فى تاريخ محمد وذمته ودينه، ألا وهو الأشعار التى نظمها المشركون المعادون لسيد البشر عليه الصلاة والسلام، تلك الأشعار التى يذكرون فيها اسمه صلى الله عليه وسلم فإذا به دائما "محمد"! شف يا أخى الفصول الباردة التى يعملها الشعراء لإحباط سخف السخفاء! عجائب! ففى "السيرة النبوية" لابن هشام نقرأ: "قال ابن إسحاق: وقالت قتيلة بنت الحارث أخت النضر بن الحارث تبكيه:
يا راكباً إن الأثيل مظنّةٌ* من صبح خامسةٍ، وأنتَ موفَّقُ
أبلغ بها مَيْتًا بأن تحيةً* ما إنْ تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعَبْرَةٌ مسفوحةٌ* جادت بواكفها، وأخرى تخنق
هل يسمعنّي النضر إن ناديته* أم كيف يسمع ميت لا ينطق؟
أمحمدٌ يا خير ضِنْءِ كريمةٍ* في قومها، والفحل فحلٌ مُعْرِقُ
ما كان ضَرَّك لو مننتَ، وربما* مَنَّ الفتى وهو المغيظ المـُحْنَقُ
أو كنت قابلَ فديةٍ فلينفقنْ* بأعزّ ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أَسَرْتَ قرابة* وأحقّهم إن كان عتقٌ يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشُه* لله أرحامٌ هناك تَشَقَّقُ
صبرًا يقاد إلى المنية متعَبًا* رَسْفَ المقيد وهو عانٍ موثَقُ
قال ابن هشام: فيقال والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه. قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب شهر رمضان أو في شوال".
وفى "طبقات فحول الشعراء" لابن سلامٍ الـجُمَحِىّ:
"وكان أبو عزة شاعرا، وكان مُمْلِقًا ذا عيال، فأُسِر يوم بدر كافرا، فقال: يا رسول الله، إني ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامْنُنْ علىَّ، صلى الله عليك. فقال: على أن لا تعين على! (يريد شعره). قال: نعم. فعاهده وأطلقه، فقال:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّي النبيَّ مُحَّمدا* بأَنَّك حَقٌ، والمَلِيكَ حَمِيدُ
وأنْتَ اُمْرُؤٌ تَدْعُو إلى الرُّشْد والتُّقَى* عَلَيْكَ من الّلهِ الكَرِيم شَهِيدُ
وأنتَ امرُؤٌ بُوِّئْتَ فينا مَبَاءَةً* لها دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وصُعُودُ
وإنّك مَنْ حَارَبْتَهُ لَمُحَارَبٌ* شَقِيٌّ، ومَنْ سَالَمْتَهُ لسَعِيُد
ولكنْ إذا ذُكِّرْتُ بَدْراً وأَهْلَها* تَأَوَّبُ ما بي حسرةٌ وتَعُودُ
فلما كان يوم أُحُد، دعاه صفوان بن أمية بن خلف الجُمَحِيّ، وهو سيدهم يومئذ، إلى الخروج، فقال: إن محمدا قد منّ على وعاهدته أن لا أعين عليه. فلم يزل به، وكان محتاجا، فأطعمه، والمحتاج يطمع. فخرج فسار في بني كنانة فحرضهم، فقال:
يَا بَني عَبْدِ مَنَاةَ الرُّزَّامْ * أَنْتُمْ حُمَاةٌ وأبُوكمْ حامْ
لا تَعِدُوني نَصْرَكم بَعْدَ العَامْ* لاَ تُسْلِمُوني لاَ يَحل إسْلامْ
أنا أبو خليفة، أنا ابن سلام، قال، حدثني أبان بن عثمان، وهو قول ابن إسحاق، أن أبا عزة أسر يوم أحد، فقال: يا رسول الله من على! فقال النبي عليه السلام: لا يُلْسَع المؤمن من جحرٍ مرتين. وقال أبان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين! فقتله".
ويقول ابن هشام أيضا فى "السيرة النبوية" عن أبى سفيان بن الحارث حين أسلم عام الفتح: "وأنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه واعتذر إليه مما كان مضى منه فقال:
لعمرك إني يوم أحمل راية* لتغلب خيلُ اللات خيلَ محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليله* فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
هدانيَ هادٍ غير نفسي ونالني* مع الله من طَرَّدْتُ كل مُطَرَّد
أصد وأنأى جاهدا عن محمد* وأُدْعَى وإن لم أنتسب من محمد
همُ ما همُ من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأي يُلَمْ ويُفَنَّدِ
أريد لأُرْضِيَهم ولست بلائطٍ* مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف: لا أريد قتالها* وقل لثقيف تلك: غَيْرِيَ أَوْعِدِي
فما كنت في الجيش الذي نال عامرا* وما كان عن جَرّا لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة* نزائع جاءت من سهامٍ وسردد
... قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين انشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ونالني مع الله من طَرّدْتُ كلّ مُطَرَّد" ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: أنت طرّدْتَني كل مُطَرَّد؟".
وهناك كتاب "نسب قريش"، وفيه يقول مؤلفه مصعب الزبيرى عن هُبَيْرَة بن أبى وَهْب الشاعر والفارس القرشى المشهور: "كان من فرسان قريش وشعرائهم، ومات كافرا هاربا بنجران. وكانت عنده أم هانئ ابنة أبي طالب، فأسلمت عام الفتح. وهرب هبيرة من الإسلام إلى نجران، حتى مات بها كافرا. وقال حين بلغه إسلام أم هانئ:
أشاقتك هند أم نآك سؤالها؟* كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرِقَتْ في رأس حصن ممنَّعٍ* بنجرانَ يسري بعد نومٍ خيالها
فإن كنتِ قد تابعتِ دين محمد* وعطّفت الأرحامَ منك حبالُها
فكوني على أعلى سَحُوقٍ بهضبة* ممنَّعة لا يستطاع بلالها
وإن كلام المرء في غير كنهه* لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها".
ويمكننا أيضا الاستشهاد بالأبيات التالية التى قالها عبد الله بن الحارث السهمى أثناء إقامته بالحبشة مهاجرا مع غيره من المسلمين، وتكمن أهميتها فى أنها نُظِمت قبل الهجرة إلى المدينة، أى قبل تغيير النبى الكريم اسمه من "قثم" إلى "محمد" حسب الادعاء الرقيع الذى تحول إلى موضة هذه الأيام:
فتلك قريش تجـحـد الـلـهَ حقـَّه* كما جَحَدَتْ عادٌ ومدينُ والحِجـْرُ
فـإن أنا لم أبـرق فـلا يسـعـنني* من الأرض بَرٌّ ذو فضـاءٍ ولا بحـرُ
بأرضٍ بها عبـد الإلـه مـحـمـد* أبيّن ما في النفس إذ بلغ الثغر
وهذا الشعر منقول عن "سيرة ابن إسحاق" بالمناسبة.
وأخيرا لقد كنا نحب أن نعرف مظاهر ذلك "العنف الكامن بداخلنا، وتلك الثورة الجاهزة للإعلان عن نفسها، وللتصدير أيضا لأتفه الأسباب" اللذين تحدث عنهما الدكتور زيدان واتهم محدثه المسكين بهما، والرجل (الذى لا أظن أن له وجودا حقيقيا على الإطلاق!) لم يفعل شيئا بشهادة زيدان نفسه سوى أنه نفض ذراعيه فى الهواء وصاح معترضا على الكلام العجيب الذى زعمه ثم تنهد مرتاحا لأنه لم يستطع أن يأتيه بدليل على ما يقول! ترى أهذا تعريف للإرهاب جديد؟ أما يكفينا تعريف الأمريكان له؟ إن الأمريكان لم يقولوا يوما إن "نفض الذراعين والمطالبة بالدليل والتنهد بارتياح" هو مظهر من مظاهر العنف والثورة، فكيف تواتى زيدان نفسه على القول بهذا؟ أَمَا إن هذا لغريب! ومع ذلك فإنى أرجو القراء، من باب الاحتياط وسد الذرائع، أن يتنبهوا جيدا وهم يتحدثون مع الآخرين، وبالذات إذا كان هؤلاء الأخيرون من عينة الدكتور زيدان، فلا يلوحوا بأذرعهم ولا يتنهدوا ببنت شفة ولا بابنها حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون الزيدانى وتصبح طامّتهم أسود من قرن الخروب! والأفضل أن يضعوا أيديهم فى جيوبهم أو يشبكوها خلف ظهورهم، ويا حبذا لو ربطوها أيضا بحبلٍ أو غُلٍّ حتى لا يسهوا فيلوّحوا بها فى الهواء دون قصد فتكون الكارثة الكبرى!
وحتى يتيقن القراء الكرام إلى أن كل ما يقال من هذا السخف الساخف الخاص باسم "قثم" هو كلام ينبغى سحقه تحت الحذاء أن أيًّا من أعداء الإسلام ورسوله الكريم من الرومان المعاصرين له عليه الصلاة والسلام أو الآتين بعده بقليل لم يُشِرْ قط إلى حكاية "قُثَم" تلك التى تحولت فى أيامنا هذه إلى "موضة" وصار كل من هب ودب يدعى أنه مكتشفها وأنه قد اكتشفها بــ"منهجية علمية صارمة"، اسم النبى حارسه وصائنه، وخمسة وخميسة فى عين العدو! وهذا نص ما كتبه فى هذا الصدد، فى دراسة له منشورة على المشباك بعنوان "The Quest of the Historical Muhammad"، المستشرق الأمريكى آرثر جفرى (Arthur Jeffery) المعروف بكراهيته لدين محمد والباحث دوما فى الأركان والزوايا المظلمة التى يخيم عليها العنكبوت عن أى شىء يمكن اتخذاه متكأ للتشكيك فيه، وقد وضعه تحت عنوان جانبى هو "EARLY CHRISTIAN ACCOUNTS": "The earliest reference to Muhammad in Christian literature is apparently that in the Armenian "Chronicle of Sebeos," written in the seventh century, and which says little more than that he was an Ishmaelite, who claimed to be a Prophet and taught his fellow countrymen to return to the religion of Abraham. In the Byzantine writers we have little of any value, though it must be admitted that this source has not been thoroughly examined by Islamic scholars. Nicetas, of Byzantium, wrote a "Refutatio Mohammadis" (Migne P.G. cv), and Bartholomew, of Edessa, a treatise "Contra Mohammadem" (Migne P.G. civ), which may be taken as samples of this work, which grew out of the contact with Islamic power in the wars that robbed the Byzantine Empire of one after . another of its fair Eastern Provinces"
والحديث فيه عن "الرِّوايات المسِّيحيّةُ المبكِّرة"، وترجمته: "إن أقدم إشارة إلى مُحَمَّدٍ في الكتابات المسِّيحيّة هى، فيما يبدو، تلك المتمثلة في "تاريخ سيبوس" الأرمنى الذى تم تأليفه في القرن السّابع الميّلادي، وفيه أن مُحَمَّدًا رجلٌ إسماعيليٌّ ادّعى النُّبوَّة وعلّم مواطنيه العودة إلى دين إبراهيم. إنّ قيمة ما كتبه الكُتَّاب البيزنطيون ضيئلة، لكن لا بد من الاعتراف بأنَّ هذا المصدر لم يُفْحَص كما ينبغى من قِبَل دارسي الإسلام. كما وضع نيسيتاس البيزنطي كتابًا اسمه: "تخطئة محمد: "Refutatio Mohammadis"، (Migne P.G. cv)، وبالمثل كتب أرتولوميو الإيديسى رسالة بعنوان "الرد على محمد: "Contra Mohammadem"، وهاتان الرسالتان يمكن النظر إليهما بوصفهما عملين ناشئين عن الاحتكاك بالقوة الإسلامية في الحروب التي انتزعت من الإمبراطوريّة البيزنطيّة أقاليمها الشّرقيّة الجميلة الواحدة تلو الأخرى". وهناك أيضا وثائق سريانية تعود إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين تذكر اسم النبى "محمد" دون أى تلجلج: (هكذا: "ماهومت، مؤامد"). ويجد القارئ إشارة إلى تلك الوثائق فى دراسة لنبيل فياض ملحقة بنص عنوانه: "في ذلك اليوم" من تحرير برنارد لويس، وهو النص الثانى من نصين منشورين معا على المشباك بعنوان "نصان يهوديان حول بدايات الإسلام" . فمن الواضح تماما من هذه النصوص أن اسمه عليه السلام فى أقدم المصادر النصرانية، وبعضها معاصر له، هو "محمد" لا "قثم"، ولو كان اسمه الأصلى "قُثَم" ثم غيّره عليه السلام ليطابق ما جاء فى الإنجيل من بشارة بمحمد لما سكت هؤلاء الأعداء الألداء ولشنعوا عليه وجعلوه أضحوكة الأضاحيك وكانت فضيحة بجلاجل لا يتوقف صليلها أبد الدهر. ولم تتوقف الحملة على الإسلام قط منذ بزوغ نوره، فرأينا أعداءه يدأبون على وضع الكتب والرسائل فى حربه وتخطتئه والتشنيع على رسوله والعمل على إيهام الناس بأنه صلى الله عليه وسلم نبى زائف. ومن هؤلاء ابن النغريلة وابن كمونة وعبد المسيح بن إسحاق الكندى وريموند لل ومراتشى وسيل وهاشم العربى... إلخ إن كان لهذا من آخر، ومع ذلك كله لم يقل أحد من هؤلاء يومًا إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان اسمه "قُثَم"، على شدة ما كان فى قلوبهم من ضغنٍ عليه وعلى دينه ورغبةٍ حارقةٍ فى طمس نور الإسلام وتشويه صورة النبى الذى حمل رسالته العظيمة إلى العالم! ببساطة لأنه عليه السلام لم يكن اسمه "قُثَم"، وإلا لما فاتهم ذلك الأمر. وهذا برهان ساطع على تهافت الموضة الجديدة التى يزعجنا بها كل من هب ودب وأمسك قلما فى يده!
ويا فرحة المتخلف صاحب الموقع المتخلف مثله "عزت أندراوس" بهذا الكلام، إذ سرعان ما نقله فى موسوعته المتخلفة المحشوة بالخرافات ظنا منه أنه وقع على صيد ثمين، غير دارٍ أن ما نقله ليس له أية قيمة علمية على الإطلاق وأنه لا يزيد عن كلام المصاطب الذى كان فلاحو قريتنا وكل القرى المصرية قبل أن تُلْغَى المصاطب فيها يَهْرِفون به ساعة العصارى، وهم متسلطنون منتشون، على حين أنهم فى الواقع مساكينُ جِدُّ مساكين ليس لديهم أية فكرة عن التمرهندى! كتب هذا المعتوه، فَضَّ الله فاه، وجعل وجهه محل قفاه، "أن محمد ليس هو الإسم الحقيقى لصاحب الشريعة ألإسلامية لأن أولاً: أن أسم محمد لم يكن شائعا بين العرب. وثانيًا: محمد غير أسماء الناس والأماكن، أنه ما أن قويت شوكته حتى قام بتغيير كثير من أسماء الناس والأماكن مثل يثرب غيرها إلى المدينة. وقد أورد الشيخ خليل عبد الكريم كثير من الأسماء والأماكن فى "الجذور التاريخية"، وليس لنا بحاجة لذكرها هنا. وقد قام صاحب الشريعة الإسلامية أيضا بتغير أسمه وقد كان "قثم". وأسم صاحب الشريعة الإسلامية الحقيقيى الذى أطلقته عليه أمه هو "قثــــم"، وقد ظل يعرف بإسم "قُثَـــم" أكثـــر من 40 سنة حتى أدعى أنه رأى وحيا فقام بتغيير أسمه... وقام صاحب الشريعة الإسلامية بتغيير أسمه "قثــم"، الذى أطلقته عليه أمه وعُرِف به لمدة أربعين سنة إلى أسماء عديدة وإتخذ لنفسه صفات حميدة حتى يحسّن صورته بعد أن ذموه أهل قريش لأعماله كأسم له. والأسماء التالية هى أسمائه بما فيهم أسمه الحقيقى "قثم": أحمد، ومحمد، ومصطفى، ومحمود، وطه، يس، الحاشر، الحافظ، الحاكم، الحاتم، حامد، حامل لواء الحمد، حبيب الرحمن، حبنطى (يقول المسلمون بدون دليل أن هذا الأسم في الإنجيل، وتفسيره: الذي يفرق بين الحق والباطل)، الحجة، الحجازي، الرحيم، حرز الأميين، الحريص، الحسيب، قثــم، القرشى، الأمين، الهاشمى، والضحوك، القتال... وغيرها. ولكن كل هذه الأسماء ليست أسم صاحب الشريعة الإسلامية الحقيقى إلا أسم "قثم"، والباقى اسماء مستعارة. فمثلاً من المعروف أن فيل أبرهة الذى كان يركبه للهجوم على مكة عندما قابله الطير الأسطورى أبابيل كان اسم هذا الفيل "محمود" فأطلقة صاحب الشريعة الإسلامية على نفسه. كان محمد أسمه "قثم" أو "قوثامة" أي (أبي قوثامة = 666)، ثم أبدل من بعد وصار "محمد" ليتسني وضع الآية: "ومبشِّرًا برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد" إشارة إلي ما جاء في الإنجيل عن النبي الذي يجئ بعد عيسي (راجع كتاب حياة محمد – الدكتور محمد حسين هيكل ص39). وفى جريدة الوفد بتاريخ الثلاثاء 31 أكتوبر 2006 م كتب يوسف زيدان أن اسم محمد الذى أطلق عليه بعد ولادته كان "قثم" فقال : "صاح صاحبي غاضبا، ونفض ذراعيه في الهواء اعتراضا علي ما ذكرته خلال كلامي معه عن الأسماء العربية من أن نبينا كان اسمه "قثم بن عبد اللات" قبل محمد وأحمد ومحمود، وأنه حمل هذا الاسم "قثم" إلى أن بلغ من عمره ما يزيد علي الأربعين عاما. زعق صاحبي بما معناه أن كلامي غير صحيح، لأنه لم يسمع بذلك من قبل، وبالتالي فهو غير صحيح. فسألته إن كان قد سمع من قبل أن النبي له عم كان اسمه هو الآخر "قثم"، وهي كلمة عربية قديمة تعني "المعطي"، وتعني "الجموع للخير"، كما أنها اسم الذكر من الضِّبَاع. فاحتقن وجه صاحبي غيظا، واتهمني بأن كل ما قلته غير صحيح، وأنه لا يوجد أصل يؤكده ولا أي مرجع. تناولت من رفوف مكتبتي كتاب الإمام الجليل أبو الفرج بن الجوزى الذي عنوانه "المدهش" وفتحت لصاحبي الصفحات ليرى أن ما قلته له مذكور قبل تسعة قرون من الزمان، وشرحت له أن ابن الجوزي هو أحد أهم العلماء في تاريخ الإسلام، وأنه فقيه حنبلي لم يكن في زمانه مثله، ومؤرخ مشهور وخطيب كان الخليفة يحرص علي سماع دروسه. حار صاحبي لدقائق، ثم اهتدي لفكرة ملخصها أنه لن يقبل كلام ابن الجوزي أيضا، وأنه لن يقتنع إلا بأول كتاب وأقدم كتاب في سيرة النبى. فأخبرته أنه يطلب كتاب "السيرة لابن إسحاق"، وهو كتاب مفقود منذ أمد بعيد، ولم نعثر له علي أي مخطوطة حتى الآن في أي مكان في العالم. تنهد صاحبي مرتاحا، وهو يقول ما معناه: إذن، فلا شيء مما تقوله صحيح". وذكرت مجلة "الخليج" الأماراتية أسماء صاحب الشريعة الأسلامية وقالت أنه من ضمن أسمائة "قثم"، وذكرت تحتها أن "يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني ملك فقال: أنت قُثَم، وخلقك قُثَم، ونفسك مطمئنة". و"قثم" أي مجتمع الخلق، وله معنيان: احدهما من القثم، وهو الاعطاء، فسمي بذلك لجوده وعطائه. والثاني من القثم وهو الجمع. يقال للرجل الجموع للخير: قَثُوم وقُثَم. وكان صلى الله عليه وسلم جامعا لخصال الخير والفضائل والمناقب كلها". وجاء فى كتاب "غريب الحديث في بحار الانوار"، باب القاف مع الثاء: "قثم: من أسمائه (ص): "القُثَم"، وله معنيان: أحدهما من القَثْم، وهو الإعطاء، لأنّه كان أجود بالخير من الريح الهابّة... والوجه الآخر أنّه من القثم، وهو الجمع. يقال للرجل الجموع للخير: قَثُوْم وقُثَم... قال ابن فارس: والأوّل أصحّ وأقرب: 16/118. ومنه عن عمر بن الخطّاب في أمير المؤمنين (ع): "الهِزَبْر القُثَم ابن القُثَم": 20/52، أي الكثير العطاء، والجموع للخير (المجلسي: 20/67). وينسب المسلمين نبى الأسلام إلى عبد المطلب وقُصَىّ هكذا: "هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النظر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان". ويقول المسلمون عن عبد الله بن عبد المطلب: هو والد الرسول، ويكنى: أبا قثم. ولقد خرج أبوه عبد المطلب يريد تزويجه حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذ سيد بني زهرة، فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش. وكان تزويج عبد الله من آمنة بعد حفر بئر زمزم بعشر سنين. ولم يولد لعيد الله وآمنه غير رسول الله محمد. ولم يتزوج عبد الله غير آمنة، ولم تتزوج هي غيره. وبعد زواجه من آمنة بقليل خرج من مكة قاصدا الشام في تجارة، ثم لما أقبل من الشام نزل في المدينة وهو مريض، وفيها أخواله بني النجار، فأقام عندهم شهرا وهو مريض، وتوفي لشهرين من الحمل بابنه محمد، ودفن في دار النابغة وله خمس وعشرون. (و) عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أبو قُثَم الهاشمي القرشي، الملقب بـ"الذبيح" هو والد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولد بمكة، وهو أصغر أبناء عبد المطلب. وكان أبوه قد نذر لئن وُلِد له عشرة أبناء وشبوا في حياته لينحرن أحدهم عند الكعبة، فشبَّ له عشرة، فذهب بهم إلى هُبَل (أكبر أصنام الكعبة في الجاهلية) فضُرِبت القداح بينهم، فخرجت على عبد الله، وكان أحبهم إليه ففداه بمئة من الإبل، فكان يُعْرَف بالذبيح. وزوّجه آمنة بنت وهب، فحملت بالنبي صلى الله عليه وسلم ورحل في تجارة إلى غزة، وعاد يريد مكة، فلما وصل إلى المدينة مرض ومات بها. وقيل: مات بالأبواء بين مكة والمدينة. راجع سورة "المسد" آية رقم 1 تفسير القرطبى: "فلما سمعت امرأة أبى لهب ما نزل في زوجها وفيها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة . فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني. والله لو وجدته لضربت بهذا الفِهْر فاه. والله إني لشاعرة: مُذَمَّمًا عصينا، وأَمْرَه أَبَيْنا، ودينَه قَلَيْنا. ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتني. لقد أخذ الله بصرها عني. وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مذمَّما"، يسبّونه. وكان يقول: ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش؟ يسبون ويهجون مذمما، وأنا محمد...". ومما يثبت أن اسمه الحقيقى "قثم" أن أهل مكة أستقبلوا محمد صاحب الشريعة الأسلامية قائلين: "طلع القمر علينا"، و"قثم" أسم من أسماء القمر. وهناك أيضا أسم من أسماء القمر أطلقة على نفسه، وهو "يس". ويقول أهل الشام أن أسمه كان "محمل" أو"معمد". وقد يكون رأيهم هو الأرجح، وقد يكون هو الأسم الذى أطلق عليه بعد تنصره لأنهم ينسجون حول أسمه قصة أخرى لولادته غير القصة التى ذكرتها الأحاديث وإنتسابه لعبد الله وعلاقة محمد ببحيرة الراهب. إلا أنه ليست لقصتهم مراجع تاريخية ولكنها لا تخلوا فى نفس الوقت من دلائل قوية تجبر سامعها من تصديقها. ولكننا نجد فى نفس الوقت أنه من الأقوال المتواترة التى يسلمها الاباء إلى الأبناء فى جميع البلاد العربية أن أبو محمد الحقيقى هو بحيرة الراهب بدليل انه عرفه من وحمة الميلاد التى على كتفه والتى يقول المسلمون أنها ختم النبوة. وقد ذكرناها للعلم بالشئ فقط لا غير".
هذا ما قاله المعتوه "عزت أندراوس"، وواضح أن المكان الطبيعى لأمثاله هو مستشفى العباسية. وبالمناسبة لقد بحثت عن الحديث التالى المنسوب للنبى عليه السلام: "أتاني ملك فقال: أنت قُثَم، وخلقك قُثَم، ونفسك مطمئنة" فلم أجده لا فى الأحاديث الصحاح ولا فى الأحاديث الضعاف. إنه حديث موضوع ركيك ليس عليه سيما الأسلوب النبوى البليغ. كما أن عضّ الكلب المدعوّ: "أندراوس" بأنيابه على ما يقال زورا وبهتانا من أن كُنْيَة والد الرسول هى "أبو قثم" برهان إضافى على عتهه، إذ كيف يكنَّى أبو الرسول باسم طفل له لم يكن قد ولد بعد، بل لم يكتب له أن يولد فى حياته، بل لم يكن يُعْرَف أهو ولد أم بنت؟ أترك هذه الفزورة للقراء ليتَسَلَّوْا بحلها ولَعْن ذلك الوثنى المتخلف أعمى القلب والبصر! ثم ما معنى ما يهرف به عبد الخارئ من أن "المسلمين" (المسلمين: هكذا بإطلاق) يقولون كذا أو كذا عن الرسول وعن أبيه؟ ترى من هم أولئك المسلمون؟ إن المعتوه الأبله يضع الكلام بين علامتى تنصيص، ومع هذا لا يذكر المرجع الذى أخذ منه هذا الكلام. بل لقد بلغت به البجاحة والكذب أن ينسب إلى الدكتور محمد حسين هيكل أنه يقول فى كتابه: "حياة محمد" إن "قثم" هو اسم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، مع أن هيكلا إنما ينفى تماما ذلك السخف ويرمى به تحت حذائه كما سنرى بعد قليل! وهذه شنشنة أندراوس، إذ ضبطتُه من قبل يزعم أن ماركو بولو وألفرد بتلر وسميكة باشا يؤكدون طيران جبل المقطم بسبب صلاة النصارى، فلما رجعتُ إلى ما قاله الثلاثة تيقنت أننى وقعت على كذابٍ وقحٍ قرارىٍّ لا يعرف الخجل ولا الخوف من الله، فماركو بولو إنما يتحدث عن بغداد لا عن مصر، وبتلر إنما يروى القصة كما سمعها فقط، أما رأيه فيها فقد ذكر مرات متعددة أنها قصة خرافية، وسميكة باشا يعلن بملء فمه فى صحيفة "الأهرام" أنه لا يصدق حرفا واحدا منها. كما أن الجاهل المتخلف يكذب بغشمٍ أبله زاعما أن معنى "القثم" هو القمر، ولا أدرى من أى جانب من جوانب استه المتقيحة المنتنة نتانةَ اسْت القمص المشلوح ذى الدبر المقروح قد استمد ذلك الكلام، مثلما لا أدرى من أى جانب آخر من جوانب تلك الاست الكريهة المنظر والرائحة والتى ذابت من كثرة ما اعتدى عليه فيها رهبان الظلام وهو غلام، قد حصل على ما قاله من أن الدليل الذى يثبت أن اسم الرسول الحقيقى "قثم" هو "أن أهل مكة استقبلوا محمد صاحب الشريعة الأسلامية قائلين: "طلع القمر علينا"!". ترى متى وأين استقبل المكيون النبى قائلين: "طلع القمر علينا"، وهم الذين أخرجوه من دياره وتآمروا على قتله فكانت الهجرة الشريفة إلى المدينة؟ إن أهل يثرب هم الذين فعلوا ذلك حسبما تقول بعض الروايات، لكنهم لم يكونوا بلهاء جهلاء كأندراوس فيقولوا: "طلع القمر علينا"، بل تقول جميع الروايات التى وردت فى هذا الصدد: "طلع البدر علينا". كما أن "ثنية الوداع"، حسبما جاء فى "الروض المعطار في خبر الأقطار" لعبد المنعم الحميرى، تقع "عن يمين المدينة. أحسب أنه كان الخارج من المدينة يودعه المشيع من هناك. ولما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الهجرة لقيته نساء الأنصار يقلن:
طلع البدر علينا* من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا* ما دعا للـه داع".
وفى "معجم ما استعجم" لأبى عبيد البكرى أن "ثَنِيَّةُ الوَدَاع، بفتح أوله، عن يمين المدينة أو دونها. والثنيّة: طريق في الجبل مخلوق، فاذا عولج وسل فهو نقب. قال الشاعر:
طَلَع البدْرُ علينا* من ثَنِياتِ الوَدَاع
وَجَبَ الشكْرُ علينا* ما دَعَا الله داع".
وفى "معجم البلدان" لياقوت الحموى أنها "ثنيّة مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة، وقيل: "الوداع" وادٍ بالمدينة". وفى "آثار المدينة المنورة" لعبد القدوس الأنصارى أن "في المدينة ثَنِيَّتَيْ وداع". والواقع أن ما يقوله أندراوس يذكرنى بالجهل المضحك الذى تحتوى عليه دعوى جمال الغيطانى فى روايته التافهة: "الزينى بركات" من أن اليهود قد استقبلوا النبى عليه الصلاة والسلام بالحجارة يرمونه بها من فوق أسوار الطائف. الله أكبر! هذا هو العلم، وإلا بلاش! علاوة على المقدار الهائل من الأخطاء الإملائية واللغوية والتركيبية التى تدل على تخلف أندراوس الشنيع وعتهه البشيع حتى فى استعمال اللغة والتى قمت بتصحيح عدد منها غير قليل مع ذلك، مع ترقيم النص كى أسهل مطالعته على القارئ، ودعنا من نطاعته وإطلاقه الاتهامات والتدليسات ذات اليمين وذات الشمال، من مثل زعمه أن عَلَم مصر، الذى ظل يستعمل رسميا من سنة 1923م حتى 1953م وظل يستعمل شعبيا حتى سنة 1958م كما يقول، إنما يمثل الله إله القمر الوثنى وبناته الثلاث: اللات والعزى ومناة ، وأن علم مصر الحالى يشتمل على صورة "صقر قريش والقمر والنجوم الثلاثة"، يريد أن يقول إن علم مصر الآن هو أيضا علم وثنى. بل إنه ليمضى أبعد من ذلك حين يشير إلى أن رمز "الهلال" الذى ظهر مع صورة الرئيس مبارك أيام الانتخابات الرئاسية هو كذلك رمز وثنى... وما إلى ذلك من مخزون عقله المتخلف المعتوه.
أما اسم "مُذَمَّم"، الذى كتبه ذلك الأبله المتخلف بالزاى وصححته له مع كثير من التصحيحات الأخرى التى لم تستطع أن تعمل شيئا مع خِلْقَته العَكِرة فظلت سطوره مفعمة بالأخطاء الرهيبة التى تدل على تخلف عقلى وفكرى ميؤوس من صلاحه، فهو دليل على عكس ما يريد، إذ ذكر المستشرق البريطانى ألفرد جِيُّوم فى أحد هوامشه على ترجمته لسيرة ابن هشام، فيما أذكر اعتمادا على رجوعى لتلك الترجمة منذ سنوات، ما معناه أن الشعراء الكفار الذين كانوا يهجون الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا يستعملون له اسم "مذمَّم" فيأتى المسلمون إلى الصيغة المحرفة ويعيدونها إلى أصلها كرة أخرى قائلين: "محمد". كما أنه قد علق على عبارة "يا أهل الجباجب، هل لكم في مذمَّم والصُّبَاة معه قد اجتمعوا على حربكم؟" (وهى العبارة التى قيل إن الشيطان قد صرخ بها ليلة العقبة كى يلفت انتباه المشركين إلى ما كان يدور بين الرسول واليثربيين من اتفاق حول هجرته إلى بلادهم فيُفْشِلوه) بأن كلمة "مذمَّم" من الممكن أن تكون قد استعملت هنا باعتبارها طِبَاقًا لاسم النبى "محمَّد" (The Life of Muhammad: A translation of Ibn Ishaq's Sirat Rasul Allah, by A. Guillaume, Oxford University Press, 1980, 205, n.1). وواضح أن الكفار لم يكونوا يقولون له: "مُذَمَّم" (وهو نفس الاسم الذى استعملته له أيضا أم جميل زوجة عمه أبى لهب كما نقل هذا الحمار الحساوى المسمى: "أندراوس" دون فهم) إلا لأنه على نفس الوزن الذى عليه اسم "محمد" مع مناقضته لمعناه تماما، مما يدل على أن اسمه الذى لم يكن له اسم عندهم سواه هو "مُحَمَّد". ثم إن المتخلف يقول إن أبا الرسول الحقيقى هو بحيرا (الذى يكتبه بطريقته المعتوهة مثله: "بحيرة") الراهب، وكأن الرهبان يتزوجون، وكأن من الممكن، لو كان محمد هو ابنه فعلا (ولا أدرى فى هذه الحالة من أية امرأة أنجبه)، أن يأخذه بنو هاشم عَنْوَة أو يسرقوه منه فى زحمة سوق الخميس فلا يحرك ساكنا، وحين يتعرف على الوحمة التى كانت فى ظهره فإنه يكفأ على الخبر ماجورا ولا يكلف نفسه حتى أن يأخذه فى حضنه يبل به شوق السنين وينزل عليه قبلات ونهنهات ودموعا وتمخّطات كما تفعل الآباء والأمهات فى مثل تلك الحالات فى السينما المصرية فى الأربعينات والخمسينات.
إننى لا أرد على هذا الهراء، بل ألفت النظر فقط إلى العته الحيسى الذى يُشِلّ عقل هذا الحيوان ويطمس عليه فلا يترك له شيئا يمارس به وظيفة التفكير! وطبعا يريد منا هذا المعتوه الأبله أن نصدق بأن العرب، تلك الأمة التى كانت تقدس الأنساب ولا تقبل أن يأتى أولادها من مواقعة المعترفات فى ظلام المعابد وأمام الآلهة الحجرية العمياء الصماء البكماء كما يحدث لأتباع بعض الديانات، يمكن أن تترك مثل هذا "الولد" يرفع رأسه بينها، فضلا عن أن يدعوها إلى دين جديد ويسفه عقولها وعقول آبائها ويحتقر آلهتها! أما قوله إن أمه قد سمته: "قثم" فلا أقبله إلا إذا أثبت لنا أندراوس أن أمه هو كانت داية تشرف على توليد نساء العرب وتسمية أولادهن وأنها من ثم عرفت أن اسمه عليه السلام كان قثم وأخبرت ذلك الحيوان بذلك. فهل هو فاعلٌ، ذلك المفعول به وفيه؟
تقول الموسوعة البريطانية فى مادة "The Life of Muhammad" عن موضوع الأنساب عند العرب قديما، وعن نسب النبى محمد عليه السلام بوجه خاص: "Both before the rise of Islam and during the Islamic period, Arab tribes paid great attention to genealogyand guarded their knowledge of it with meticulous care. In fact, during Islamic history a whole science of genealogy ('ilm al-ansab) developed that is of much historical significance. In the pre-Islamic period, however, this knowledge remained unwritten, and for that very reason it has not been taken seriously by Western historians relying only on written records. For Muslims, however, the genealogy of Muhammad has always been certain. They trace his ancestry to Isma'il (Ishmael) and hence to the prophet Abraham. This fact was accepted even by medieval European opponents of Islam but has been questioned by modern historians. "
أما قول الكلب العضاض أندراوس إن النبى عليه الصلاة والسلام قد غير اسمه إلى "محمد" لكى يطابق بينه وبين البشارة التى فى الإنجيل عن رسول يُبْعَث من العرب، فهو قول يدل على أن قائله معتوه بالثلث. كيف؟ إن ذلك الحيوان الأبله المتخلف يجهل، مثل كل حيوان أبله متخلف مثله ممن يزعمون المزاعم على سيدنا رسول الله، أن القرآن المكى الذى يتخذون من خُلُوّه من اسم "محمد" دليلا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن اسمه فى البداية "محمدا" بل "قثم"، هذا القرآن المكى قد تحدث عن ورود البشارة به لا فى الإنجيل فحسب، بل فى الإنجيل والتوراة جميعا، إذ نقرأ فى سورة "الأعراف" المكية قوله تعالى: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)". أى أن الرسول عليه السلام لم ينتظر إلى أن يهاجر للمدينة حتى يعلن أنه مبشَّر به عند أهل الكتاب! كذلك لست أفهم كيف أن كلمة "يس" تعنى "القمر"، وهى فى الحقيقة مجرد حرفين مقطعين من الحروف التى تبدأ بها بعض السور القرآنية مثل "طس" و"طه" و"حم"، ولا كيف يقول الوغد المتخلف إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد تنصَّر، وهو الذى قصمت دعوته ديانة النصرانية فتحول أتباعها بمئات الملايين إلى توحيده النقى الكريم، فكان هذا البغض السام الذى يتلظى أندراوس فى جحيمه ويهترئ به قلبه هو ومن على شاكلته. وأخيرا وليس آخرا فإن ذلك الحيوان الأمى المتخلف المسمَّى: "أندراوس" لا يستطيع أن يكتب "قثامة"، بل يحرفها إلى "قوثامة"، وقد أخطأ فيها مرتين اثنتين لا مرة واحدة، وفى جملةٍ قصيرةٍ جِدّ قصيرة!
وعودةً إلى موضوعنا نقول: وممن ردد قبل جعيط أيضا هذا الكلام الممخَّط عن أن اسم النبى الكريم هو "قثم": المنتحر المغرور التافه إسماعيل أدهم. نعم التافه رغم كل الطنطنات التى كان يطنطنها عن نفسه ويطنطنها عنه من صنعوه ولمعوه! لقد زعم هذا المغرور غير المأسوف على انتحاره، فى مقدمة كتابه: "من مصادر التاريخ الإسلامى"، أنه عكف لمدة غير يسيرة على السيرة النبوية وأحاديث الرسول عليه السلام وتاريخ تلك الفترة وما يليها وتتبع تقريبا كل ما كُتِب عنها فى التراث وفى دراسات المستشرقين بكل اللغات وفى كل المدن الأوربية والأفريقية والآسيوية، وأنه انتهى من كتابة خمسمائة صفحة فى هذا الموضوع، وقدّر أن بإمكانه الوصول بهذه الصفحات إلى رقم الثلاثة الآلاف. ثم ننظر فيما نشره من هذا كله فنجده لا يزيد على خمسين صفحة! فتأمل أيها القارئ الكريم مدى الفرق الشاسع بين شطحات الرجل المحلقة فى سماوات الخيالات والخبالات والأوهام وبين واقعه البائس التعبان. مسكين! علاوة على أن دعواه قراءة كل ما كتب عن السيرة بكل اللغات وفى كل المدن الأفريقية والآسيوية والأوروبية هى دعوى منفلتة من كل قيود العقل والمنطق، وليس ثَمّ من باب يسعها إلا باب الجنون المطبق. ثم نأخذ فيما قاله فى تلك الدراسة فنسمعه يشكك فى أن يكون اسم النبى هو "محمد"، مؤكّدًا، على الضد من ذلك، أنه كان يسمَّى: "قُثَم" أو "قُثَامة" (من مصادر التاريخ الإسلامى/ مطبعة صلاح الدين الكبرى/ القاهرة/ 7)، وهى بالضبط طريقة المستشرقين والمبشرين المداورة التى تشكك فى كل ما لا يعجبها فتذهب وراء الفروض الغريبة التى ينكرها العقل إنكارا وتتعارض مع النصوص الوثيقة تعارضا شديدا. ومن حق كل واهم أو موهوم، وكل خائل أو مختال، أن يقول ما يشاء فيما يشاء على النحو الذى يشاء، لكنْ عليه أيضا، إذا أراد منا أن نلقى بالا إلى ما يقول، أن يكون هذا الذى يقوله متسقا، على الأقل، بعضه مع بعض لا متناقضا من سطر إلى سطر، ومن جملة إلى أخرى، وإلا افتقر الكلام إلى المنهجية العلمية. كيف ذلك؟
لقد صدّعَنا أدهم فى ذلك الكتاب بتأكيده أن القرآن هو وحده المصدر الإسلامى الذى يمكن الاطمئنان له من جهة التاريخ، أما الحديث وأما السيرة فلا يصلحان على الإطلاق لاعتماد المؤرخين والدارسين عليهما. عظيم جدا جدا، فتعال إذن يا سُمْعَة يا أبا السباع وأعطنى أذنك وعقلك: فأنت تقول إن القرآن هو المصدر الوحيد الذى يمكن الاستناد إليه والتصديق بما جاء فيه عن حوادث التاريخ الإسلامى الأول، أليس كذلك؟ فكيف فاتك إذن يا نابغة الدهر الأول والأخير، بل يا نابغة كل الدهور والعصور، أن القرآن الذى لا تطمئن إلا له قد ذكر أن اسمه عليه الصلاة والسلام هو "محمد" لا "قثم" ولا "قثامة"؟ ألم يكن العقل والمنطق وسلامة المنهج تقتضيك أن تصدّق بما أتى فى القرآن وترفض ما عداه من الروايات التى تقول إن اسمه لم يكن "محمدا" بل "قثم" أو "قثامة"؟ أم أنت ممن يحُلِوّنه عاما ويُحَرّمونه عاما على مقتضى نزواتهم وشهواتهم؟ ألا بئس هذا منهجا وتفكيرا! أما إذا كنت قد رجَعْتَ عن رفضك لما عدا القرآن من مصادر التاريخ الإسلامى (وهو ما لا يمكن أن يكون، لأنك قلت ما قلت عن اسم رسول الله عقب إعلانك مباشرة أنك لا تثق بغير القرآن أىّ مقدار من الثقة)، فكيف تترك الاسم الذى تضافرت عليه الروايات ولا يعرف المسلمون سواه؟ وهذا كله لو لم يكن هناك قرآن ينص على أن اسمه هو "محمد". وبطبيعة الحال لا يمكن أن يقال إن القرآن قد لفّقَ له ذلك الاسم، لأنه لو كان هذا صحيحا ما سكت الكفار ولا المنافقون ولا اليهود ولا النصارى ولا حتى الصحابة، ولشنّع الأربعة الأولون على القرآن والرسول، وأبدى الأخيرون دهشتهم واستغرابهم وكان بينهم وبينه سِينٌ وجِيمٌ، ولسَجَّلَتْ ذلك كلَّه الرواياتُ كالعادة. علاوة على أنك قد أعلنت وثوقك بالقرآن، وبالقرآن وحده، وثوقا مطلقا، فلا فكاك لك من أن تسلّم بما قاله فى هذا السبيل! من هنا يتجلى لكل ذى عقل أن صاحبنا لا يحسن التفكير واستنباط النتائج من المقدمات، ولا يستطيع أن يكون متسقًا مع المبدإ الذى وضعه هو بنفسه لنفسه.
وفى مقدمة الطبعة الثانية من كتابه: "حياة محمد" يقول الدكتور محمد حسين هيكل رحمه الله إنه قد وردت إليه ملاحظات من هنا وههنا على ما قاله فى الطبعة الأولى من ذلك الكتاب، ومن بينها رسالة أتته من كاتب مصرى مسلم ذكر أنها ترجمة عربية لمقال بعث به إلى مجلة المستشرقين الألمانية نقدا لكتابه هذا، وخلاصتها أن كتابه عن "حياة محمد" ليس بحثا علميا بالمعنى الحديث لأنه رجع فيه، كما يقول، إلى المصادر العربية وحدها ولم يراجع ما كتبه المستشرقون أو يأخذ بالنتائج التى وصلوا إليها، بل عد القرآن وثيقة تاريخية لا تقبل الريب رغم أنه خضع للتحريف والتبديل بعد وفاة النبى عليه الصلاة والسلام... إلخ. ومن بين ما قاله صاحب الرسالة الذى لم يذكر الدكتور هيكل اسمه للأسف أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن اسمه فى الاصل "محمدا" بل "قثم" أو "قثامة"، ثم أُبْدِل من بعد ذلك ليتسنى وضع الآية التى تقول: "ومبشرا برسول من بعدى اسمه أحمد" (انظر "حياة محمد" للدكتور هيكل/ مكتبة الأسرة/ 1997م/ 38)، وهو ما يعنى أن القرآن من وضع النبى عليه السلام وأنه صلى الله عليه وسلم كان كذابا، أو فى أحسن الأحوال: واهما مخدوعا فى أمره كله، وهذا كلام خطير. لا أقصد أنه ليس من حق أحد أن يقوله، فكل إنسان حر فيما يقول وفيما يعتقد، والمهم أن يقدم الدليل، أما الهلس والهجس فكل حيوان بشرى يحسنه لا مشقة فى ذلك! بل أقصد أن مثل هذه الطريقة فى الزعم ورمى الكلام على عواهنه تهدد المنهجية العلمية وتطعنها فى الصميم وتملى لكل جهول سخيف العقل والتفكير أن يجرى مع نزواته على راحته ويتقايأ بما فى نفسه المشوهة دون حسيب أو رقيب ودون أن يأخذ فى اعتباره أى مبدإ أو قيمة. ويغلب على ظنى أن صاحب الرسالة هو إسماعيل أدهم، الذى كان متصلا بدوائر المستشرقين ودائم المباهاة بعلاقته بهم وترديد مقولاتهم والكتابة عندهم، فضلا عن أنه كان يعرف الألمانية، ويزعم أن اسم النبى عليه السلام هو "قُثَم" حسبما رأينا. لكن صاحب الرسالة، حسبما يقول هيكل، قد أنكر عليه أن يتخذ من القرآن وثيقة يُطْمَأَنّ إليها، وهو ما يختلف فيه مع أدهم، الذى رأينا قبل قليل أنه لا يعترف بمصدر وثيق للسيرة إلا القرآن الكريم، وإن كان من الميسور الرد على هذا بأن أدهم لم يكن متسق الفكر كما شاهدنا بأنفسنا أيضا، وبالذات فى مسألة تسميته صلى الله عليه وسلم بــ"قُثَم". فمن الممكن أن يقول الشىء ونقيضه طبقا لما يعنّ له فى اللحظة التى يكون فيها دون أى اعتبار لمنطق أو منهج رغم كثرة تشدقه بذلك. وعلى أية حال فسواء كان أدهم هو صاحب الرسالة أو لم يكن، فالمهم أن القول بأن الاسم الحقيقى للنبى عليه الصلاة والسلام "قُثَم" لا "محمد" ليس بالأمر الجديد الذى يخوّل لجعيط أو زعيط أو معيط أو أى نطاط للحيط الزعم بأنه ابن بَجْدَته، إذ هو كلام من كلام أحلاس المصاطب الاستشراقية والتبشيرية مما يعرفه كل أحد منهم ويتلقاه الخالف عن السالف، ومن ثم فلا معنى للجعجعة الجعيطية الزعيطية المعيطية عن المهلبية العلمية التى ليست صارمة بل مصرومة، ومشرومة فوق ذلك مخرومة!
وإذا كان مَنْ عَرَضْنا لهم حتى الآن قد أنكروا أن يكون اسمه عليه السلام هو "محمدا"، وأكدوا بدلا من ذلك أنه كان يُدْعَى: "قُثَم"، فإن فيليب حِتِّى قد اكتفى بالتشكيك فى قدرتنا على معرفة الاسم الذى سمته به أمه عند ولادته، قائلا إن هذا الاسم قد يظل غير متيقَّنٍ منه إلى أبد الآبدين، مضيفا مع ذلك أن قومه قد لقبوه بـ"الأمين" على سبيل التشريف فيما يبدو، أما الصيغة التى عُرِف بها فى القرآن فهى: "محمد"، إلى جانب "أحمد" مرة واحدة، وأما فى الاستعمال الشعبى فهو "محمد". هكذا قال حِتِّى، ومن الجَلِىّ البيّن أنه لا يستند إلى أى أساس، اللهم إلا الرغبة فى بذر بذور الريبة حول هذه المسألة التى ترتبط بها مسائل أخرى كثيرة، مجافيا بهذا المنهج العلمى الذى يفرض علينا ألا نرفض شيئا هكذا من الباب للطاق دون أن يكون هناك ما يبعث على الاسترابة فيه، أو يثير فينا عدم الاطمئنان إليه على الأقل، وهو ما لا يتوفر فى قضيتنا التى بين أيدينا، وإلا فلماذا لم يعرض بواعث الشك الذى عنده إن كان لديه مثل هذه البواعث؟ وفى الهامش رقم 2 من ذات الصفحة نجده يكتب أن اسم "محمد" قد تم العثور عليه فى أحد النقوش اليمنية. "History of the Arabs, Macmillan & Co. Ltd, London , 1963, P. 111". طيب يا دكتور حِتِّى، ما دام اسم "محمد" كان موجودا لدى عرب الجاهلية، فلماذا التشكيك فى أن يكون هو اسم النبى المصطفى؟ وقد رد على تشكيكات الدكتور حِتِّى التعسفية التى لا معنى لها، المرحوم محمد جميل بيهم مؤكدا أن الذى سماه: "محمدا" إنما هو جده عبد المطلب، وكان ذلك فى اليوم السابع كعادة العرب حينذاك حسبما قال (فلسفة تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم/ تقديم د. حسان حلاق/ الدار الجامعية للطباعة والنشر/ بيروت/ 110). وسواء كان جده هو الذى سماه كما كتب بيهم أو كانت أمه هى التى فعلت ذلك حسبما يقول بعض كتاب السيرة الآخرين كابن إسحاق فى "السيرة النبوية" وعلى بن برهان الدين الحلبى فى "إنسان العيون" مثلا، فالمهم أنه سُمِّىَ: "محمدا" منذ اللحظة الأولى، لا ريب فى هذا.
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.net.tf
"المرأة والدين والأخلاق" بين نوال السعداوي وهبة رؤوف
د. إبراهيم عوض
وقع في يدي منذ فترة كتاب صادر عن "دار الفكر" بدمشق عام 2000 م اشتركت فى تأليفه د. نوال السعداوي ود. هبة عزت رؤوف، إذ كتبت كل منهما ـ بطلب من الدار المذكورة ـ دراسة تحت ذلك العنوان. ثم عادت فسجلت ملاحظاتها على ما كتبته شريكتها، ليكون بين أيدينا أربعة فصول، فضلا عن ملحق فى نهاية الكتاب قام بإعداده أ. محمد الصهيب الشريف للتعريف بالمصطلحات التي وردت في الفصول الأربعة المشار إليها.
والمعروف أن د. نوال السعداوي طبيبة، ولها اتجاه فكري خاص يرفض الأديان ويعدها نتاجا اجتماعيا محضا لا علاقة له بالسماء، وينظر إلى عقائد الإسلام وتشريعاته وأخلاقه على أنها من صنع الرجل أراد بها تثبيت مركزه في مواجهة المرأة وقهرها وتحطيم إنسانيتها، إذ هي ترى أن العلاقة بين الجنسين كانت وستظل علاقة صراع لا يعرف هوادة ولا رحمة. أما د. هبة رؤوف فتنطلق من الإيمان بالإسلام والعقائد والتشريعات والأخلاق التي جاء بها. وهي ـ لمن لم يسمع بها من قبل ـ خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وتعمل بها منذ أن عينت فيها معيدة عام 1987 م، وهي الكلية التي لم أستطع أن أصبر على مقرراتها أكثر من ثلاثة أيام في سبتمبر 1966 م فتركتها إلى كلية الآداب غير آسف، حيث وجدت نفسي بعد أن كدت أضيع.
ويمثل الكتاب حلقة في سلسلة عنوانها "حوارات لقرن جديد"، وهو اتجاه يحمد للدار وللقائمين بها، إذ يعطي القراء الفرصة لمعرفة الرأي والرأي المضاد، و من ثم الموازنة بين الرأيين، وهذا من شأنه تيسير الوصول إلى الحق لمن يريد. كما أنه يعلمنا كيف نستمع إلى الأصوات المخالفة ونفتح لها آذاننا وعقولنا، ونتعايش مع أصحابها مؤمنين بأن لهم الحق في اعتناق ما يشاؤون من أفكار وعقائد والدفاع عنها، وبأنه لا يحق لنا إكراههم على نبذ ما يؤمنون به مهما تكن درجة مصادمته لما نراه أنه هو الصواب، بالضبط مثلما نرفض أن يحاول غيرنا إجبارنا على متابعته فيما يقول به. وهذا مبدأ أخلاقي يعبر عنه القول المأثور: "أحب لأخيك ما تحب لنفسك"، ويؤصله الإسلام في قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: من الآية256)، وقوله جل شأنه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: من الآية29)، وقوله عز من قائل: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية:22)، وأمره سبحانه لرسوله الكريم أن يقول لخصومه من كفار قريش وغيرهم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ: من الآية24) . ذلك أنه ما من أحد يتحمل مسؤولية غيره، بل كل إنسان مؤاخذ بعمله ليس إلا: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الاسراء: من الآية13)، " (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: من الآية164). (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سـبأ:25) .
على أن ليس معنى ذلك أن ندير ظهورنا لما يقوله الآخرون فلا نهتم به أو ندرسه أو نحلله أو نناقشه ونكتب عنه موافقين أو مخالفين أو مستدركين أو ملاحظين... إلخ. ذلك أن كل إنسان يعتقد أن ما يؤمن به هو الصواب. ومن هنا نراه يحاول إذاعته بين الناس ويدعوهم إلى الدخول فيه، وإذا وجد من يعارضه انبرى له ورد عليه. وهى ظاهرة صحية؛ بل هي ظاهرة طبيعية قبل أن تكون ظاهرة صحية. ولولا تلاقح الأفكار وتدافع الآراء لركدت حركة الفكر الإنساني وأسِنت وران عليها الجمود. وحسبنا ما وقع بنا من مصائب وكوارث جراء الاستبداد السياسي والفكري الذي ساد حياتنا أزمانا طوالا. ثم إن الاختلاف بين البشر؛ بل بين الكائنات جميعا، هو أحد وجهي الحياة ليس منه بد، مثلما لا مناص من التشابه بين البشر، بل بين الكائنات جميعا، وهذا هو وجه الحياة الآخر.
في ضوء ذلك نطالع قوله عز وجل: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (الشعراء:4)، " (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود: من الآية119)، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99) . ومن رحمة الإسلام وعظمته ما يقرره من أن مناط التكليف هو قدرة الشخص على فعل ما يطلب منه: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286)، بل إن الإنسان متى اجتهد وسعى مخلصا لبلوغ الحقيقة فإنه يؤجر حتى لو أخطأها؛ إذ يكفيه الإخلاص والسعي الجاد الدؤوب، وهو ما لا نجد له مثيلا في أي دين أو مذهب أو فلسفة. وطبعي أن يكون أمر الخطأ هنا مختلفا عنه في حال المعاند الذي تحركه بواعث أخرى غير إرادة الحق، كالعصبية الغبية التي لا تطيق أن تسمع أو تبصر شيئا غير ما عندها، أو المصالح الأنانية الضيقة، أو الحقد القتال على أصحاب الدعوات المخالفة... إلى آخر ما هنالك من عوامل تدفع بالأفراد والجماعات والأمم إلى الرفض من أجل الرفض، والتمرد لوجه التمرد. وبوجه عام فإن كلا منا بمقدوره أن يعرف أي البواعث تحركه , وإلى أي مدى هو مخلص لضميره وللحقيقة فيما يعلن إيمانه به واعتناقه إياه.
فإذا عدنا إلى الكتاب الذي نحن بصدده فإننا نلاحظ أن النسبة بين طول الدراستين اللتين يتضمنهما تفتقر إلى التوازن افتقارا واضحا لاأعرف له سببا، إذ بينما يبلغ ما كتبته نوال السعداوي نحو مئة وخمس وعشرين صفحة، إذ بنا نفاجأ بأن بحث هبة رؤوف لا يتجاوز نصف عدد هذه الصفحات. وقد كان حريا بالمشرفين على السلسلة أن يحددوا لطرفي الحوار ـ ولو على سبيل التقريب ـ عدد الصفحات التي ينبغي على كل منهما أن يكتبها، على الأقل حتى تكون الفرصة متساوية بالنسبة لهما.
والآن إذا أردنا أن نقارن بين الكاتبتين فماذا يمكن أن نقول؟ إن أول ما يواجه القارئ منذ أن يتوكل على مولاه ويشرع في قراءة ما خطه قلم د. السعداوي هو هذا السيل من اليقينيات والقطعيات التي تبني عليها أحكامها ولا ترى لها نقضا ولا إبراما، مع أنها لا تستند فيها إلى شيء ثابت إطلاقا، إذ كل عمادها مجرد أقوال مرسلة من عندها تذكر فيها أن العلماء يقولون ذلك. ولكن أي علماء يا ترى؟ وفي أي دراسة نجد هذا؟
لا جواب البتة. بل إنها تهاجم البحوث العلمية التي تتناول مثل هذه الموضوعات تحت شبهة أنها مملة وجافة ولا تقنع أحدا، ومن ثم لا تأتي بأي نتيجة. وعلى هذا فمن العبث الذي لا طائل من ورائه أن يبحث القارئ عن مراجع لبحثها، وكل ما يجده في آخر البحث قائمة بعدد هزيل من الكتب ليس فيها ما يخبرنا إلى أي مدى اعتمدت على هذا المرجع أو ذاك، ولا كيف، و لا إلى أي حد يمكن الوثوق فيه أو في صاحبه. ليس ذلك فحسب، بل إن هذه الكتب كلها تقريبا لها هي نفسها، وهو ما يصدق عليه قولهم: "إن فلانا يغني ويرد على نفسه"، إشارة إلى ضرب من المغنين لا يستسيغ أحد الاستماع إلى أصواتهم النشاز ولا يجدون من ثم من يصفق لهم ويقول: "أحسنت! أعد مرة أخرى"، فهو المغني والجوقة والجمهور في آن واحد، وسبحان من جمع العالم في واحد (أو بالأحرى: "في واحدة" رغم معرفتنا أن الدكتورة تضيق صدرا بمثل هذه التفرقة بين المذكر والمؤنث !). أما د. هبة رؤوف فنراها، على العكس من نظيرتها، تهتم بتوثيق كلامها وذكر مراجعها مع تحديد الطبعة والصفحة وما إلى ذلك مما هو معروف في كتابة البحوث العلمية.
وهذا غريب من عدة وجوه: فالدكتورة هبة أصغر من د. نوال كثيرا جدا حتى إنها لتعد من ناحية السن من تلميذاتها أو من بناتها، بل ربما من حفيداتها. ومن ناحية أخرى فإنها لا تقعقع قعقعة د. السعداوي عن العلم والادعاءات العلمية. أضف إلى ذلك أنها تعلن تمسكها بالإسلام، الذي تدعي نوال السعداوي وأشباهها أنه لا علاقة له بالعلم ولا بالمنهج العلمي. فانظر بالله عليك ـ أيها القارئ ـ إلى هذه المفارقة المضحكة! ورابعا: فإن تمسك د. هبة بالإسلام لا يمنعها أن تستشهد بالباحثين الغربيين وتنظر في أقوالهم وتحللها فتقبل ما يقنعها وترد ما لا تقتنع به, بخلاف د. السعداوي، التي لا تعرف إلا فكرة واحدة ترددها من أول البحث إلى آخره رغم أن كثيرا من حقائق الحياة تعارضها وتكذبها، ولكنها لا تعبأ بشيء من ذلك أو تبالي به، جريا على المثل القائل: " نقول له: ثور. يقول: احلبوه! ". إنها من أول البحث إلى آخره تظل تردد أن المجتمعات قديما كانت أموية، أي أن رئاسة الأسرة أو القبيلة مثلا كانت للأم دون الأب. هكذا هو الأمر، والسلام. أما متى كان ذلك بالضبط؟ وما الوثائق التي تقول به؟ ولم يا ترى تغيرت الحال وأزيحت الأمهات من فوق عروش سلطانهن؟ وكيف؟ لا جواب إطلاقا، اللهم إلا أن بعض علماء "الأنثروبولوجيا" قالوا بذلك؟ وفاتها أن الأمر في أحسن أحواله هو مجرد اجتهاد ظني لا يستند إلا إلى قول هؤلاء الأنثروبولوجيين أنفسهم أن بعض المجتمعات الإفريقية التي تسكن الغابات كانت تسير على هذا النظام، مع أنه حتى لو صح ذلك لما خرجت المسألة عن أن تكون شذوذا على القاعدة التي لم يذكر التاريخ غيرها. ومن هنا نراها أيضا على طول البحث ترجع كل شيء تقريبا إلى رغبة الرجل في قهر المرأة، ناسية أن المرأة ليست كلها شيئا واحدا، إذ قد تكون أماً، وقد تكون بنتا أو أختا أو زوجة أو... إلخ، ولا يقول عاقل أبدا إن الرجل يعامل هؤلاء جميعا نفس المعاملة مع افتراضنا صحة ذلك الكلام. ومن هذا المنطق الهستيري ـ أيضا ـ نسبتها ختان النساء إلى نفس الرغبة الذكورية في قهر الإناث والتسلط عليهن، ناسية أن الرجال أيضا يختتنون. فهل يا ترى نقول إن النساء هن اللائي فرضن عليهم ذلك لكي يستبددن هن أيضا بهم؟ الغريب أنها تعزو ذلك إلى رغبة الحاكمين في التسلط على الشعوب، ناسية هنا أيضا (ويا لها من نساءة كبيرة ! ) أن الحاكم يختتن هو أيضا! ثم ما وجه الصلة بين الختان والعبودية؟ إن الرغبة فى قمع الآخرين وظلمهم واضطهادهم موجودة في كل طوائف المجتمع وطبقاته، يستوي في ذلك المجتمعات التي تمارس الختان وتلك التي لا تمارسه، فهي ليست مقصورة إذن على المجتمعات الختانية ولا على الحكومات وحدها. هذه حقيقة لا يمكن أن ينتطح فيها عنزان (أم نقول: " عنزتان " كيلا تغضب د. نوال وتصوب إلينا الاتهامات؟) ، ورغم ذلك تظل الكاتبة تمطرنا بهذه الأراجيف بثقة مطلقة تحسد ـ أو بالأحرى ـ لا تحسد عليها. فما العمل إذن؟ لا عمل إلا أن نقول نحن ما نعتقد أنه هو الصواب، تاركين الباقي للقراء وللتاريخ ليفصل فيه. فهذا كل ما نستطيعه، أما أن نتدخل بين المرء وعقله فليس من اختصاصنا ولا في طاقتنا ولا مما يحمده الدين لنا كما أشرنا قبلا.
ومع هذا كله نجد د.نوال تهاجم د.هبة متهمة إياها بأنها لا تتبع المنهج العلمي رغم ما قلناه وما يلمسه القارئ بيده لمسا من أن الدكتورة الصغيرة أعرف من الكبيرة بذلك المنهج وأقدر على الالتصاق به واحترام قواعده، فوق أن د. نوال قد هاجمت البحوث العلمية كما أومأنا سلفا. ومما أخذته الكبيرة على الصغيرة أيضا أنها لم تبدأ بالارتياب فيما عندها، وكأنها هي قد راعت ذلك! إنها على الضد تماما قد انطلقت كالإعصار الهائج منذ أول سطر في فصلها لا تعرف توقفا ولا تثبتا ولا ترى إلا شيئا واحدا تفسر به كل شيء، ألا وهو رغبة الرجال في قهر النساء، ورغبة الحكومات في قهر الشعوب. فكأن القهر قد استحال لديها إلى إله؛ فهو يفسر كل ظاهرة، ويقف خلف كل حادثة... وهلم جرا.
وقد نبهت د. هبة إلى عدد من الأخطاء الشنيعة التي سقطت فيها د. السعداوي سقوطا مدويا لا يليق بمن تتصدى لمثل هذه المسائل، كنسبة حديث نبوي إلى القرآن الكريم، واقتطاع بعض الآيات القرآنية من سياقها بما يحرف معناها، وقولها إن الإله في الأديان جميعا ينظر إليه على أنه ذكر، حيفا من المجتمع على الأنثى. ومما ردت به د. هبة أن الإله ليس ذكرا ولا أنثى، بل ليس كمثله شيء، وهذا يعرفه كل إنسان في رأسه عقل يفكر. كما ردت على زعمها تحيز الإسلام للرجل في قوله إن الله قد تاب على آدم وغفر له معصيته، في حين لم يذكر توبته على حواء، إذ يقول القرآن: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)، فنبهتها إلى أن قراءتها القرآن بهذا الأسلوب خاطئة، وأن القرآن الذي قال ذلك هو نفسه الذي ذكر في موضع آخر أن الاثنين قد اشتركا في المعصية وفي الابتهال أيضا إلى الله أن يغفر لهما. وأضيف ـ أنا ـ أن القرآن لم ينسب المعصية في هذا السياق صريحة إلا لآدم: ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(طـه: من الآية121)
فمن الطبيعي أن يذكر أيضا أن الله قد تاب على آدم. وليس في هذا أدنى افتئات على المرأة، إذ المقصود بآدم هنا هو مطلق الإنسان، رجلا كان أو امرأة. وبعض الآيات القرآنية لا يمكن أن يستقيم فهمها إلا على هذا الأساس. لنأخذ مثلا قوله جل شأنه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة: من الآية31) إلخ.. إذ الخلافة في الأرض ليست مقصورة على آدم الذكر بل تشركه فيها المرأة. كما أن الله سبحانه لم يهب الرجل وحده اللغة والعلم، بل الرجل والمرأة جميعا. وها هما تان الدكتورتان تتناقشان كأي رجلين لا تقلان عنهما في شيء، بل من المؤكد أنهما تتفوقان على كثير جدا من الرجال، لا من الجهلاء وحدهم أو أنصاف المتعلمين، بل من أكابر المثقفين، وإن اللغة التي تكتبان بها تتمتع بالسلاسة والصحة إلى حد بعيد. أما أنني أرى في كلام د. نوال كثيرا من السفسطة والانحراف عن العقل والمنطق فهذا شيء يوجد عند كثير من الرجال أيضا.
ومما تخطئ فيه د. نوال كذلك وبينت لها د. هبة وجه الحق مهاجمتها للأديان وتمردها على أحكام الشريعة الإسلامية ودعوتها إلى أن يكون الإنسان هو مقياس الصواب والخطأ. ويتلخص رد باحثة العلوم السياسية في أنه لا بد أن تكون هناك مرجعية مطلقة تكون فوق اختلافات الأفراد والطوائف والطبقات والشعوب بحيث لا تحابى أحدا على أحد، وهذه المرجعية هي الله جل وعلا. وهذا كلام حق، فما من أمر إلا ولا بد أن يشرف عليه من يستطيع أن ينتشل نفسه من غمار التفاصيل بعد أن يكون قد ألم بها. ومن بالله يمكن أن يتوفر له العلم المحيط بالأوضاع البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها ولا يقدم في ذات الوقت أحدا على أحد إلا الله سبحانه؟ أليس هو الذي خلق البشر ويعرف طبائعهم وقدراتهم؟ أليس هو صاحب العدل المطلق والرحمة الشاملة؟
هل معنى ذلك أن د. السعداوي لم تقل ما يمكننا أن نوافقها عليه؟ الواقع أن أيا من المنصفين لا يستطيع أن ينكر أن هناك إجحافا في كثير من الأحوال بالمرأة وحقوقها، وأنه ليس من المروءة ولا العدالة بل ولا الإنسانية السكوت على مثل هذا الظلم. بيد أن معظم المظالم التي تذكرها الكاتبة في هذا السبيل هي مما يحرمه الإسلام ولا يرضاه على أي وجه من الوجوه، لكنها للأسف تنسبه إلى الشريعة. من ذلك أنها تظن، أو ربما تريد لغاية في نفسها أن توهم القراء، أن الدين يفرق بين المرأة والرجل عند ارتكابهما فاحشة الزنا، فهو لذلك يعاقب المرأة ولا يرى على الرجل أي تثريب. وهذا محض اختلاق وزور قبيح! إن ذلك من فعل التقاليد المنافقة المنحرفة، أما الدين فهو يأخذ الطرفين بنفس الجزاء، بل هو يؤثر الستر في هذه الحالة والتوبة فيما بين العبد وربه كما هو معروف من مواقف الرسول الكريم وأحاديثه التي أثرت عنه في هذا السبيل. فلماذا نزيف الحقائق ونحمل على الدين أوزار التقاليد الجاهلية؟ ومن السهل فهم البواعث التي حدت بهذه التقاليد إلى إفراد الأنثى بالعقاب في هذه الحالة، فالأنثى لا الرجل هي التي يظهر عليها آثار الجريمة، ولو كان الرجل هو الذي يظهر عليه هذه الآثار لعوقب هو وتركت هي دون أن يمسها سوء. ومع ذلك فلا بد أن نضيف أن القانون الوضعي نفسه في بلاد المسلمين لا يفرق في هذه النقطة بين رجل وامرأة! أي أن غلط د. نوال هنا غلط لا عذر لها فيه بأي وجه. ولذلك قلت مستدركا إن هذا ليس ظنا منها بل قد يكون رغبة متعمدة في التزييف والإيهام.
وبعد فقد كان مقررا منذ سنوات أن ألتقي مع د. نوال السعداوي في برنامج حواري في القناة الثقافية في التلفاز المصري، إذ عرض عليَّ معد البرنامج هذا الاقتراح فوافقت، إلا أنه عاد بعد فترة فقال إن الدكتورة لا تريد أن يحاورها أحد، وتفضل أن يقتصر البرنامج عليها هي ومقدمته، وإن كان قد بلغني أنها ظهرت بعد ذلك في برنامج مشابه مع د. محمد عمارة. الشاهد في هذا الكلام أن الزمان قد دار دورته، وهأنذا أجد نفسي مرة أخرى إزاء الدكتورة، إذ وقع في يدي الكتاب الحالي منذ أيام فخطر لي أن أفكر مع السادة القراء بصوت عال كما يقولون!
HOME
شىء من الدفء والحميمية
فى الكتابة عن د. مصطفى محمود
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
http://ibrahimawad.net.tf
حين اتصل بى الأستاذ فيصل أكرم الكاتب بجريدة "الجزيرة" السعودية للمشاركة بكلمة فى الملف الخاص الذى كانت الجريدة المذكورة تنوى أن تخصصه للدكتور مصطفى محمود، شفاه الله وأطال عمره وأسعده وهنّاه، والذى صدر فعلا مع عدد الاثنين الرابع من رجب 1429هـ، الموافق للسابع من يونيه 2008م، لم أستطع أن أمنع نفسى من الحزن بسبب طبيعتنا غير المتحضرة القائمة على إهمال العلماء والمفكرين وكل من ينفعنا من كبار الرجال، وإن كنت لا أبالى أن يحدث هذا لى عندما يحين دورى، ولسوف يحدث بكل يقين، مع فرق هام هو أننى لم أكن فى يوم من الأيام مشهورا شهرة الدكتور مصطفى محمود ولا غير الدكتور مصطفى محمود. إلا أننى قد دعوت الله منذ وقت بعيد أن يصرف عنى الرغبة فى الشهرة أو انتظار المكافأة على ما أفعل من أحد من البشر، وهو دعاء أحس أن الله تعالى جَدُّه قد استجابه لى. وهذه منة عظيمة لولا هى لكانت حياة الإنسان مرة مرارة لا تطاق. فالحمد لله. إلا أن لموقفى من حالة الدكتور مصطفى محمود وضعا آخر.
ولقد فكرت فى طبيعة الكلمة التى أُسْهِم بها فى الملف المذكور، واحترت لمدة يومين، وأنا لا أدرى ماذا أصنع... إلى أن انفرجت الحيرة بُعَيْد مغرب الجمعة الثامن من جمادى الآخرة لعام 1429هـ الموافق للثانى عشر من يونيه من عام 2008م، إذ برقت خاطرة فى ذهنى وأنا أتوضأ للصلاة مؤداها أن أنظر فى بعض أحداث حياة كاتبنا اللافتة للنظر ثم أحاول استلهام الدروس منها، فوجدت نفسى بعد الانتهاء من الفريضة أتجه إلى الكاتوب وأجلس إليه وأبدأ الرقن، فكانت تلك الكلمة التى انتهيت منها فى شوط واحد تقريبا لم أقطعه إلا لأداء بعض الأمور البسيطة.
والآن إلى بعض ما شدنى فى حياة الدكتور مصطفى محمود: لقد لفتتنى بقوة فى حياة الرجل ذلك التبرع الذى قدمه له أحد رجال الأعمال فى صورة "صَكٍّ على بَيَاض" كما يقولون كى ينفق منه على إعداد حلقات برنامجه الشهير: "العلم والإيمان". وكان التلفاز المصرى قد قرر لكل حلقة مبلغ ثلاثين جنيها لا غير، فى الوقت الذى تتكلف فيه الحلقة أضعاف أضعاف ذلك المبلغ، مما وقف الدكتور مصطفى أمامه حائرا يائسا لا يدرى ماذا يصنع، فجاءت مبادرة رجل الأعمال الشهم الكريم لتنقذ الموقف. والحق أن ذلك الشخص الذى تحمل كل تلك النفقات الطائلة هو عندى أفضل ممن يبنى مسجدا مثلا، إذ إننا لا نشكو، والحمد لله، من قلة المساجد فى بلادنا، بل من انتشار الجهل وعدم اهتمام الأغنياء بنشر الثقافة والعمل على إيصالها لمن يحتاجها ولا يستطيع القيام بنفقاتها. وأنا أنتهز هذه الفرصة وأدعو أغنياء العرب والمسلمين إلى تبنى هذا المشروع، مشروع نشر الثقافة بين جماهير المسلمين المغيبة العقل، تاركا لهم الاستعانة بالمختصين كى يرسموا لهم الطرق الموصلة إلى هذا الهدف، وإن كان من الممكن أن أشير هنا إلى ما أكرره دائما من أن معظم أغنيائنا للأسف (وكذلك الحال مع الفقراء وأوساط الناس أيضا حتى لا يغضب أحد) لا يفكرون أبدا فى شراء كتاب ولا فى قراءته. ورأيى أنهم إذا كانوا لا يقرأون ولا يريدون أن يقرأوا، وهذا بلا أدنى ريب عيب، وعيب قبيح، فلا ينبغى لهم أيدا أن يضيفوا إلى هذا العيب القبيح عيبا آخر، وهو عدم تشجيع من يريد القراءة ولكنه يعجز عن تدبير المال اللازم لها، وكذلك عدم تشجيع المؤلفين، الذين يستطيعون أن يكتبوا ويبدعوا ويخدموا أمتهم ودينهم وشعوبهم، إلا أنهم تنقصهم نفقات طبع الكتب التى يؤلفونها فيتوقفون يائسين مكروبين، على حين يستطيع الأغنياء أن يتقربوا إلى الله بشراء مثل هذه الكتب وإهدائها حسبةً إلى القارئين غير القادرين فينفعوا بذلك الطرفين: المؤلفين والقارئين على السواء، ويكسبوا بذلك أجرين لا أجرا واحدا، والله يضاعف لمن يشاء.
وأنا من هذا المنبر أرفع يدى إلى السماء وأبتهل إلى الله أن يكرم ذلك الغنىّ الذى قدم الصك المفتوح إلى الدكتور مصطفى وقال له: أنفق على حلقاتك كل ما يحتاجه هذا المشروع، ولا تشغل بالك من هذه الناحية، وأدعوه سبحانه أن يكتب له الفردوس الأعلى. فهذا الرجل هو مثال للمسلم الغنى المتحضر الذى يفهم الإسلام فهما عميقا ولا يكتفى بذلك بل يطبق هذا الفهم أحسن تطبيق. اللهم آمين. أما التلفاز المصرى الذى أوقف إذاعة تلك الحلقات بعد أن نجحت نجاحا هائلا واستولت على ألباب المشاهدين، وكانوا يجنون منها شهدا علميا صافيا، فليس له عندى إلا أن أقول: أنت بهذه الطريقة لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل. وهنيئا لك اهتمامك بالتفاهات والمضار الكثيرة التى أفسدت عقول الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، وإن لم تكن أنت وحدك الذى تصنع هذا، بل كل التلفازات العربية تفعل نفس الشىء. روحوا، منكم لله!
ومما له دلالته هنا أن د. مصطفى محمود قد جمع بين الخيرين: العبادة والعلم، إذ بنى من أموال أهل الخير والصلاح مسجدا، وألحق به أربعة مراصد ومتحفا تلقى فيه المحاضرات العلمية، ثم زاد فأنشأ مستشفى لمعالجة المرضى بأجر رمزى. ولو أنه أضاف إلى هذا تشجيع الكتاب المبتدئين الذين يُشَام منهم الخير، من خلال طبع ما يؤلفون من كتب ودراسات فى المجالات التى لا تجد من يقبل عليها من الباحثين والعلماء، لكان قد بلغ سماء عالية من سماوات الخير والنفع الجزيل، وبخاصة أن هذا العمل لو تم لاجتذب الانتباه وحذا حذوه كثير من الناس. ومع هذا فيحمد له ما فعل، وعلى غيره أن يواصل الطريق ويكمل المشروع.
أقول هذا لأن للعلم والثقافة فى الإسلام مكانة لا تدانيها مكانة حتى لقد فضل الرسول الكريم العلماء على العابدين تفضيلا كبيرا، وأكد صلوات الله عليه أن سبيل العلم توصل صاحبها إلى الجنة. كذلك فالله سبحانه وتعالى لم يأمر رسوله بالاستزادة من شىء سوى العلم: "وقل: رب، زدنى علما"، وبيَّن عز شأنه أنه لا يمكن أن يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ومع هذا فإن المسلمين، فى هذه الفترة التاعسة البائسة من تاريخهم، يبغضون القراءة وأمور الفكر والثقافة بغضا شديدا كأنها سمٌّ ذُعَافٌ رغم أن الإسلام لا يصلح دون علم، إذ هو عنصر جوهرى فى بنائه لا يتم إلا به، فضلا عن أنه لا مستقبل للمسلمين إلا بالعلم والثقافة مهما ظن العوام والقاصرون منهم خلاف ذلك.
ومما لفت نظرى أيضا بقوة فى حياة الدكتور مصطفى محمود ما قرأته من أن الرئيس السادات قد طلبه ذات يوم ليكلفه بمهام وزارة من الوزارات، بَيْدَ أنه اعتذر قائلاً: لقد فشلت في إدارة أصغر مؤسسة، وهي مؤسسة الزواج، فقد تزوجت وطلقت مرتين، فكيف أستطيع أن أنهض بأعباء وزارة من الوزارات؟ وفوق ذلك فإنى أرفض ممارسة السلطة بكل أشكالها. ولأنى أنا مثله لا أحب الأعمال الإدارية فقد أحببت هذا الموقف منه حبا عظيما. وإنى لأستغرب تهافت كثير من المفكرين وأساتذة الجامعة على أن يتولَّوْا منصبا وزاريا، مع أن مكانة المفكر والمبدع والأستاذ الجامعى لا يعادلها، فى رأيى، أى منصب وزارى مهما علا شأنه، وبخاصة أن الوزراء فى بلادنا لا قيمة لهم فى كثير من الأحيان ولا يتمتعون بأية حرية، بل هم أقرب إلى الخدم، إذ عليهم أن يصدعوا بالأمر دون أن يتنفسوا. أو هكذا نفهم الأمر. وأنا دائما ما أقارن بين رجلين فى العصر العباسى: أحدهما هو الجاحظ الأديب المفكر المبدع العظيم الذى عُيِّنَ كاتبا فى ديوان الخليفة العباسى المأمون بن الرشيد فتردد عليه لمدة ثلاثة أيام، ثم لم يطق الاستمرار بعد ذلك فاستعفى فأُعْفِى. والثانى هو سهل بن هارون، الذى كان يتولى شؤون بيت الحكمة فى عهد المأمون أيضا، وهى مؤسسة تشبه هيئة الكتاب المصرية الآن. ومن كلام سهل فى هذا الموضوع أن الجاحظ لو كان بقى فى الديوان لأفل نجم الكتاب جميعا. ومع هذا فقد رفض الجاحظ الاستمرار فى ذلك العمل الإدارى لما فيه من تضييق على حريته. ورغم أن سهلا لم يكن شخصًا عاديًّا ولا كان الإداريون بوجه عام فى ذلك العصر أشخاصا عاديّين، بل كان كثير منهم من كبار المثقفين، كما كان عدد غير قليل منهم كتابا وأدباء يشار لهم بالبنان، فإن أعباء العمل الإدارى لم تترك له من الفراغ وروقان البال ما كان يتمتع به الجاحظ. وهذا سبب من الأسباب التى تكمن وراء الفرق الهائل بين ما خلّفه الجاحظ وما خلّفه سهل من الإبداعات كمًّا وكيفًا. وأنا أوثر الجاحظ على سهل إيثارا شديدا لهذا، ويكفينى أنه قد أمتع ويمتع وسيظل يمتع العقول الكبيرة والأذواق الراقية على مدى الدهور إلى يوم يبعثون، ويأخذ بأيديهم إلى الأعالى دائما أبدا. وهذا عندى أفضل وأعظم وأكرم من وزارات الدنيا جميعا.
لفتنى كذلك فى أمر الدكتور مصطفى أنه كان فى بداية حياته الفكرية شاكًّا، وبعضهم يقول: بل كان ملحدا. ورغم أنى لم أمر بمثل تلك الفترة فى مسيرة حياتى، وإن كنت أتوقف بين الحين والحين لأقلب الفكر فيما أومن به، وأفعل ذلك دون خوف أو تحرج، ودائما ما أخرج من المعاودة أقوى اعتقادا وأعمق فهما وأصلب موقفا وأبصر بأبعاد جديدة فى أمور الحياة والدين والإيمان، فإنى لا أجد شيئا فى أن يشك الإنسان، لكن المهم أن يكون الشك نابعا من داخله هو لا تقليدا لأحد آخر. فكثير من الملاحدة بين المسلمين الحاليين ليسوا ملاحدة عن اقتناع وتفكير بل عن تقليد لما يَرَوْنَه فى الغرب أو بين زملاءَ لهم يخشون أن يخالفوا لهم عن أمر. وكنت أعرف فى شبابى بعض هؤلاء، كما كان معنا من طلاب الجامعة من ألحدوا لحساب الشيوعية والاتحاد السوفيتى، ثم فوجئنا بهم ينقلبون على وجوههم مع انقلاب الأحوال فى بلادنا وييممون وجوههم وعقولهم شطر العم سام، مع احتفاظهم بإلحادهم القديم بعد إعطائه نكهة ورائحة أمريكية، ولله فى خلقه شؤون. وعلى أية حال فالفيصل بين شك وشك هو الفيصل بين شخص يريد بلوغ بر اليقين والاطمئنان الروحى وبين شخص يستزيد من الكفر ويوغل فيه لأن هذا الكفر يطلق له الحبل على الغارب فيصنع ما يشاء ويجرى وراء شهواته وانحرافاته وشذوذاته ملء عنانه دون رقيب ودون تفكير فى حساب أو عقاب. ومصطفى محمود لم يترك الشك يغتال عقله، بل ظل يفكر ويعاود النظر والتأمل حتى هُدِىَ إلى الإيمان وسجل هذه التجربة الغنية فى كتاب من أهم كتبه، بل من أهم الكتب فى ميدانه، وهو "رحلتى من الشك إلى الإيمان"، الذى قرأناه له بعد صدوره بقليل واستمتعنا بقراءته ورأينا الحرب التى أُعْلِنَتْ عليه من رفاق الأمس الذين ساءهم أن يهتدى واحد منهم من ضلاله القديم. بالضبط مثلما استاء رفقاء الدكتور محمد حسين هيكل الذين كانوا يسيرون معه على نفس درب الإعجاب بالغرب والتبعية له والثقة به عندما ألف كتابه فى سيرة المصطفى، واجدا نفسه بعد الضياع الذى ضاعه أيام بعثته إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتورية فى الاقتصاد السياسى والذى سجل بداياته بكثير من التفصيل فى كتابه: "مذكرات الشباب"، ذلك المخطوط الذى ظل حبيس الظلام أكثر من ثمانين عاما ورأى نور النشر لأول مرة فى منتصف تسعينات القرن الماضى وتناولتُه بالدراسة التحليلية فى فصل كامل من كتابى عن "الدكتور هيكل ناقدا وأديبا ومفكرا إسلاميا".
كذلك قرأت ذات مرة فى إحدى الصحف تحت عنوان "عاش طويلا في التابوت" أن الدكتور مصطفى محمود كان، قبل أن يداهمه المرض الحالى، يقيم معظم الوقت في غرفة فوق مسجده يسميها: "التابوت"، وأن الموت لم يكن يبارح مخيلته. وسبب التفاتى إلى هذه المعلومة أننى أنا أيضا دائم التفكر فى الموت منذ أعوام غير قليلة لا يكاد يغيب عن بالى بعد أن كنت أفزع من فكرته وأحس بالحزن لأننى بعد كل تلك السنين سوف أغادر الدنيا وأُطْرَح فى التراب وحيدا لا حول لى ولا طول ولا قوة، ويأكلنى الدود ويصبح جسدى رميما كأنْ لم يكن، مع أنى كنت ولا أزال قوى الإيمان بالله وباليوم الآخر، لكن ماذا يستطيع الواحد منا أن يعمله أمام مثل تلك المشاعر؟ إلا أن الأمر انقلب تماما منذ مدة ليست بالقريبة وأضحيت أتكلم عن الموت وما أرجوه من كرم المولى الرحيم عز شأنه كما أتكلم عن رحلة أنوى القيام بها. والطريف أن كل من يسمعنى أتحدث عن موتى يسارع بالرد قائلا: بعد الشر! فأقول: أوتظن يا فلان أن كلامى هذا سوف يقرّب الموت منى أسرع مما قدر الله لى منذ الأزل؟ لكن الناس يتشاءمون عموما بالحديث عن الموت، وكأن الموت رجل نائم، ومن شأن الكلام عنه أن يوقظه من غفوته. وعادة ما أضحك وأنا أتذكر الموت فى حوارى مع معارفى، وهذا الضحك علامة قوية على قوة التفاهم الذى أصبح يربطنى به.
وبالمناسبة كان علىّ منذ يومين أن أعمل أشعة بجهاز الرنين المغناطيسى على رقبتى، التى تبين بحمد الله أنه ليس فيها إلا بعض الخشونة، وهو أمر عادى تماما فى مثل سنى. وفى البداية لم أكن مرتاحا إلى الدخول فى الجهاز الذى أشبّهه ضاحكا بكبسولة الفضاء مما أضحك الطبيبة صاحبة اقتراح الأشعة. وكدت أقوم من رقدتى حين وضعت الممرضة شيئا يشبه نظارة بلا زجاج على وجهى وأذنى لتخفيف وقع صوت الجهاز العنيف على سمعى لولا أن قلت لنفسى: عيب يا أبا خليل، فقد خرجَتْ قبلك مباشرة سيدة بسيطة دون أن تحدث ما سوف تحدثه أنت من ضجة وإرباك. فهل تعجز، وأنت الرجل، وإن لم تكن لك شوارب يقف عليها الصقر ولا حتى أبو فصادة، أن تتحمل الشعور بأنك محصور داخل هذا الأنبوب لمدة عشرين دقيقة؟ ثم توكلت على الله وتركت الممرضة تدفعنى إلى داخل الأنبوب بعد أن أغمضت عينى وشرعت أركز تفكيرى كله فى ربى سبحانه وتعالى، وظللت أجرى حوارا طوال الوقت من جانبى أقرأ فيه الآيات القرآنية التى تتحدث عن يونس وهو فى بطن الحوت فأجد لذة غريبة. ولم أعد أشعر بأنى محصور ولا مقيد، بل كنت أتخيل أن سقف الأنبوب هو نفسه سقف الغرفة. كما كان الهواء بالداخل فى غاية الإنعاش، وأحسست أننى قريب من الله تمام القرب، ولم أكف عن الابتهال له من أجل أولادى. ودعوتُه، إذا ما قُدِّر لى أن تكون نهاية عمرى فى تلك الكبسولة، أن يسامحنى فلا يعذبنى على ذنب اجترحته. وكنت أسأل نفسى وأنا ممدد هناك: ماذا لو حدث شىء أدى إلى موتك وأنت بداخل هذا الأنبوب؟ فأجبت قائلا: وماذا فى ذلك؟ وهل أنا استثناء من البشر؟ ألم يمت الرسل أنفسهم، فما بالى أنا؟ ثم إن فى العالم مليارات من البشر، ولن يضيرهم أن ينقصوا واحدا لا يقدم ولا يؤخر. فسكنتْ نفسى عندئذ أيما سكينة. وكانت تجربة روحية عميقة خرجت منها فى منتهى السعادة. وحين غادرت المستشفى إلى الشارع كانت الدنيا أجمل وأبهج.
هذا، ولا يصح أن يفوتنى التنويه بأن الدكتور مصطفى، شفاه الله، قد نشأ فى طنطا قريبا من مسجد السيد البدوى، وهو المسجد الذى كنت أتردد عليه بعد انتهاء اليوم الدراسى فى المرحلة الإعدادية حيث كنت أستذكر دروسى وأصلى الأوقات كلها مع المصلين، وحيث كنت ألعب الكرة أحيانا حوله ليلا مع بعض أبناء قريتى الذين يتلقون العلم مثلى فى طنطا. بل لقد سكنت ذات مرة فى غرفة بإحدى الحارات المطلة على المسجد الأحمدى وأنا فى السنة الأولى الثانوية. أى أننا نشأنا فى نفس الجو تقريبا، وإن كان هو أكبر منى بسبعة وعشرين عاما. وهذا مما يشعرنى الآن بأن كلينا قريب من الآخر، وهو ما أضفى على هذه الكلمة شيئا من الدفء والحميمية، إلى جانب ما أعدانى به الأستاذ فيصل أكرم الكاتب بجريدة "الجزيرة" السعودية والمشرف على الملف الحالى، فقد اتصل بى برسالة مشباكية على غير معرفة بيننا وطلب منى مشكورا أن أساهم بكلمة فى الكتابة عن الدكتور مصطفى محمود لافتا نظرى إلى أن من حق الرجل أن يشعر بنا حوله فى ظروفه الحالية، فخلق عندى بهذا الطلب إحساسا بالقرب من العالم الجليل قبل أن أتذكر أنه قد نشأ كما نشأت فى طنطا، تلك المدينة التى تلقيت فيها تعليمى فى أثناء المرحلتين الإعدادية والثانوية والتى لى فيها كثير من الذكريات والأفراح والأشجان، وكنت أحلم بها فى أكسفورد وأنا متغرب أدرس للحصول على درجة الدكتورية فى النقد الأدبى فى النصف الثانى من سبعينات القرن الماضى.
ولا يفوتنى أن أشرح للقارئ أنه لم تكن لى صلة مباشرة بالدكتور مصطفى فى أى وقت، ولم يحدث فوق ذلك أن رأيته مواجهة، بل تقتصر معرفتى به عن طريق كتبه ومقالاته وبرنامجه عن "العلم والإيمان". ومع هذا فقد أرسلت له ذات يوم من عام 1984م أستسمحه فى نقل ما كان قد كتبه فى بعض مؤلفاته عن النتائج التى توصل إليها رشاد خليفة بخصوص الرقم 19 فى القرآن الكريم ودلالته على إعجازه ومصدره الإلهى. وكنت أيامها حديث عهد بالعودة من بريطانيا، ولا أزال أتذكر التحقيق الذى كنت قرأته قبل سفرى إليها فى أواسط السبعينات من القرن المنصرم عن ذلك الموضوع. فعندما أردت آنئذ أن أصدر كتابى: "المستشرقون والقرآن" خطر لى أن ألحق به الفصل الذى كتبه الدكتور مصطفى فى تلك القضية، فكتبت له رسالة بذلك وبعثت بها طالبا من طلابى الذين يعرفون مسجده ويترددون عليه للصلاة فيه، فوافق الرجل بخط يده مشكورا، ونشرت الفصل المذكور فى آخر الطبعة الأولى من ذلك الكتاب. إلا أن الطلاب سرعان ما نبهونى مشكورين إلى ما كنت أجهله جَرّاء غيبتى عن البلاد طوال ست سنين فى بلاد جون بول، وهو أن عددا من العلماء والباحثين قد ردوا على ما قاله رشاد خليفة وبينوا أنه لا يصمد أمام البحث العلمى، فطلبت منهم أن يوافونى بذلك فأحضروا بعض تلك الردود، فقرأتها لأجد نفسى وقد حاكت فيها أشياء بعد أن كنت مطمئنا إلى ما قرأته عن ذلك الموضوع من قبل. ولهذا يجدنى القارئ قد حذفت هذا الملحق من كتابى السابق ذكره فى طبعته الثانية. ليس ذلك فقط، بل زادت معرفتى بفكر رشاد خليفة ابن قرية شبرا النملة، التى تبعد عن طنطا فى اتجاه مدينة كفر الزيات بضعة كيلومترات والتى لعبت فيها ذات عصرية مع بعض زملائى مباراة ضد فريقها فى أواسط الستينات حين كنت طالبا فى المرحلة الثانوية. وكانت ثمرة هذه المعرفة، وهى مستمدة من الموقع الذى يحمل اسمه ومن ترجمته البهلوانية للقرآن العزيز، أن كتبت عنه دراستين مطولتين فضحت فيهما انحرافاته وضلالاته والشذوذ الذى تتسم به تلك الترجمة، مما يجده القارئ مع عشرات الكتب والدراسات الأخرى فى موقعى المشباكى، وعنوانه: http://awad.phpnet.us/.
وفى النهاية أحب أن أقول إننى لا أتفق مع كل ما كتبه الدكتور مصطفى، وهذا أمر طبيعى، فليس هناك كاتب أو مفكر يتفق معه جميع الناس فى كل ما كتب، بل الطبيعى أن يكون هناك ولو بعض الاختلاف فى الآراء والأفكار ووجهات النظر. ومن ذلك مثلا ما كتبه عن الشفاعة وتصوُّره أنها تناقض العدل الإلهى وأن القرآن لم يقل بها، مع أن القرآن الكريم قد تحدث عنها فى مواضع متعددة منه، وإن لم ينص بصريح القول على شفاعة النبى عليه السلام بالذات، وهو ما لا يصلح رغم هذا أن نتخذه متكأ لنفى شفاعته صلى الله عليه وسلم لأنه ما دام القرآن قد قرر مبدأ الشفاعة، وإن كان قد علقها على مشيئة الله وإذنه، فهل هناك من يَفْضُله صلى الله عليه وسلم ممن يمكن أن يأذن الله له فيشفع فى بنى البشر ويحرمه هو؟ كما أن الشفاعة لا تناقض العدل الإلهى، إذ لا أظنها ستكون لكل من هب ودب، بل أتصورها ستقوم على قواعد دقيقة. ولعلنى لا أكون مخطئا إذا شبهتها، من باب التقريب ليس إلا، بقواعد الرأفة فى الامتحانات المدرسية والجامعية، إذ لهذه الرأفة قواعد تنظمها، فهى فقط للطلاب الذين اقتربوا من درجة النجاح، لكنهم قصروا قليلا فلم يبلغوها. ويريد المولى سبحانه أن يتم عفوه عن المقصرين على يد خاتم الأنبياء وأكبرهم شأنا، إذ هو صاحب الدين العالمى الوحيد الذى وضع الأسس لحضارة إنسانية تقوم على الإيمان السليم وعلى الخلق الكريم وعلى العلم والتفكير وعلى الذوق الراقى الجميل وعلى السلوك اللائق ببنى الإنسان جميعا، ولا يقتصر على بعض المواعظ التى لا تبنى حضارة ولا تنشئ مجتمعا. ثم ماذا نفعل بالأحاديث النبوية التى تؤكد شفاعته عليه الصلاة والسلام؟ وحتى لو قلنا إن أحاديث الشفاعة لم يصح منها شىء لدى الدكتور مصطفى فإن آيات القرآن تقررها كما قلنا، ولا معنى لاستثناء سيد الرسل بالذات منها. وهذا لو قبلنا أن تكون كل الأحاديث فى هذا الصدد غير صحيحة، وهو أمر مستبعد أشد الاستبعاد. وهناك أمثلة أخرى نكتفى عنها بهذا المثال لأن السياق ليس سياق اختلاف بقدر ما هو سياق تعاطف وتشارك وجدانى، فكلنا نستقل زورقا واحدا فى بحر الحياة اللجى المتلاطم، والزمن دوار، ولسوف يسعدنا إذا ما قُدِّر لنا الوقوع تحت وطأة التعب أن نجد الآخرين يهتمون بنا ويظهرون مشاعرهم الطيبة نحونا. شفى الله الدكتور مصطفى محمود وأسعده. ولقد قلت ذات مرة فى رسالة بعثت بها من الطائف إلى الدكتور صفاء خلوصى حملها له الدكتور يوسف عز الدين حين سافر فى أحد الأصياف من تسعينات القرن الماضى إلى بريطانيا حيث كان يعيش الدكتور خلوصى، الذى بلغنى وقتها أنه مريض: لو كانت لى دعوة مستجابة عند الله لرجوته عز شأنه أن يمحو المرض بكل أنواعه من قاموس الحياة!
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
http://ibrahimawad.net.tf
HOME
الفرقــان الحـــق
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
د. إبراهيم عوض
1425هـ - 2004 م
كلمة سريعة
فى الصفحات التالية دراسة وتفنيد لما يسمَّى بـ " الفرقان الحق " ، وهو عبارة عن مجموعة من السُّوَر تتجاوز الخمسين لفَّقَتْها ، فى الفترة الأخيرة على غرار القرآن الكريم ، بعضُ الجهات التبشيرية المتعاونة مع الصهيونية العالمية بتخطيط أمريكى بغية أن تحلّ مع الأيام فى نفوس المسلمين محل القرآن المجيد. وفى هذه السُّوَر هجومٌ كله إقذاع وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين ، واتهامٌ بذىء بالكفر والضلال والنفاق لـه عليه الصلاة والسلام ، وتسفيهٌ لكل شىء جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ … ، وادِّعاءٌ بأن كتاب الله إنما هو وحىُ شيطانٍ إلى شيطان ، وتمجيدٌ للتثليث النصرانى ومداعبةٌ من طَرْفٍ خفى لليهود …
وقد نبَّه عدد من الصحف العربية مؤخرا لهذا الكتاب ، وقدَّم بعضُها عرضًا سريعا لـه أبرز فيه الغايات التى يهدف ملفقوه إليها. لكن ْ لم يصل إلى علمى أن أحدًا قد حاول أن يدرس دراسةً تحليليةً هذه السُّوَر التى يقدمها ملفقوها إلى القراء بوصفها وحيا إلهيا ، وهذا ما حَفَزنى للقيام بهذه المهمة تبصرةً للأمة بالأخطار التى تتهدد عقيدتها كى تكون على حذرٍ مما يُخَطَّط لها وتأهُّبٍ يقظٍ لما يمكن أن تتمخض عنه الأيام من مصائب ومؤامرات .
وقد استبان لى بعد الدراسة التى قمت بها لتلك النصوص أن أصحابها لم يكونوا بالذكاء الذى تتطلبه مثل هذه المؤامرة ، إذ إن الثقوب فيها كثيرة وشنيعة . وهذا من شأنه أن يؤكد لنا أن الأعداء ، رغم تفوقهم العلمى والاقتصادى والعسكرى ، ليسوا معصومين بل كثيرا ما يقعون فى الأخطاء المضحكة ، وأننا نستطيع أن نضع أيدينا على جوانب ضعفهم وأن نستفيد منها ونحوِّلها إلى نقاط قوة لنا لو صحَّتْ منّا العزيمة وتسلَّحنا بالإخلاص والدأب والصبر والإيمان بالله والثقة بأنفسنا والغيرة على حاضر أمتنا ومستقبلها… كما يؤكد أيضا أن دين الله لا يمكن أن يغلبه غالب مهما تآمر المتآمرون ومهما خطّطوا ومهما رصدوا الإمكانات والجهود . بيد أن هذا لا يعنى أن نغطّ فى نوم عميق ونَنْكِل عن أداء الواجب المَنُوط بنا ، وإلا وَكَلَنا الله للذلة والمهانة واستبدل بنا قومًا غيرنا للتشرف بحفظ دينه والعمل بما فيه من خيرٍ كفيلٍ بإبلاغ من يحرص عليه إلى قمم الذُّرَى العوالى فى القوة والتحضر !
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
قرأت فى بعض الصحف العربية بأُخَرة عن ظهور كتاب بعنوان " الفرقان الحق " يهاجم القرآنَ هجوما شرسا، ويسبّ الرسولَ عليه السلام وأتباعَه أجمعين ، وعلى رأسهم الصحابة الكرام ، مع أن رقبةَ أىّ عِلْج من هؤلاء الذين لفقوا الكتاب لا تساوى قُلامةَ ظُفْر مما يطيِّره المقص من أظافر أرجلهم . وجاء فى بعض ما قرأناه من مقالات عن هذا الموضوع أن جهات تبشيرية وصهيونية محترقة تشرف عليها بعض الدوائر الأمريكية وراء هذا العمل الذى يجسد التعاون الوثيق بين هاتين الجهتين الحاقدتين على سيد الأنبياء عليه السلام والتوحيد النقى الذى جاء به فقَشَع العقائد الوثنية للهمجيين المغرمين بدماء البشر وتقريبها لأربابهم المتوحشين ، وكذلك العُنْجُهيّات القبلية اليهودية التى سوَّلَتْ لبنى إسرائيل ولا تزال أن الله ليس إلا ربًّا خاصًّا بهم دون سائر البشر . وكدَيْدَنِى فى مثل هذه الأحوال أخذتُ أسأل هنا وههنا عن السبيل إلى الحصول على نسخة من ذلك الكتاب كى أفهم الموضوع من مصدره الأصلى ، حتى ألهمنى الله أن أبحث عنه فى المِشــْباك ( النِّتْ ) حيث وجــدتــه فى موقــع تابــع لمركــــز تبشيرى اســمه : " American Center of Divine Love ".
قلت لنفسى : أقرأ كى ألم بالموضوع قبل أن أكتب عنه حسبما اقترح علىّ بعض من يُولُوننى ظنهم الحَسَن ممن يعرفون اهتماماتى بدراسة مثل هذه الكتب والنشرات ، وقرأت فألفيت أصحاب الموقع يعرضونه على أنه وحى سماوى . أُوحِىَ إلى من ؟ لا أحد يعرف ! متى أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! فى أية ظروف أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! كما وجدته يفيض بالبذاءات فى حق رسولنا الطاهر النبيل الذى لم تنجب الأرض نظيره فى العبقرية والحنان والرحمة والفهم للطبيعة البشرية والحنو على ضعفها والرقة للمستضعفين والمكسورين والمحتاجين والتحمس لبناء حياة إنسانية مجيدة يسودها العمل والإنتاج والابتكار والعدل والمساواة دون تشنجات صبيانية عاجزة أو تهويمات خيالية فارغة أو أحقاد مريضة أو ادعاءات فارغة . باختصار : حياة إنسانية تنهض على دعامتين من المثالية والواقعية على نحو لم تعرف البشرية ولن تعرف لـه مثيلا ! فمحمد صلى الله عليه سلم ، فى هذا الوحى الشيطانى البذىء ، كافر ومنافق وضال مُضِلّ يفتري الكذب على الله وسارقٌ قاتلٌ زان ٍ، ومصيره جهنم هو ومن آمن به ، وبئس المصير ! وأتباعه كَفَرَةٌ منافقون ضالون لصوصٌ قَتَلَةٌ مثله ، وصلاتهم وصيامهم نفاق ما بعده نفاق ، وحجهم وثنية ، وجنتهم جنة الزنى والخنا والفجور ، والوحى القرآنى ليس وحيا إلهيا ، بل هو وحى تنزّلت به الشياطين الكاذبون على شيطان كاذب مثلهم ! ولم يكد الذين وضعوا هذا الكتاب السفيه ونسبوه تدليسا وافتراء إلى الله يتركون شيئا فى الإسلام إلا خصصوا للهجوم الحاقد البذىء السفيه عليه سورة أو أكثر أرادوا أن يحاكوا بها السور القرآنية ، وهيهات ، رغم أن كل شىء فى ذلك الكتاب تقريبا مسروق من القرآن الكريم بطريقة القص واللزق كما سنوضح لاحقا ، فضلا عن أن مصطلح " السورة " نفسه مسروق من كتابنا المجيد . والانطباع الذى يخرج به على الفور من يقرأ هذا الكتاب هو أن ملفِّقيه مجرمون عُتَاة فى السفالة وقلة الأدب وأنهم تربية شوارع ، ولا يمكن أن يكون كلامهم هذا وحيا إلهيا بحال لأن الألوهية لا يمكن أن تنحدر إلى لغة الصِّيَاعة التى لا يحسنها إلا أرباب السجون المارقون وعصابات الحوارى والمآبين .
وقبل أن نمضى أبعد من ذلك يحسن أن نعرض على القارئ عينة من هذا الوحى المراحيضى كى يستطيع أن يتابعنا فيما يلى عن بينة . تقول مثلا السطور التى سمَّوْها " سورة الأنبياء " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولا لَغْوًا ما كان شعرا ولا نثرا ولا قولا سديدا ( المقصود بذلك هو القرآن ) * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدا * يرغِّب التابعين ترغيبا ويهدد المعرضين تهديدا * حَسُنَ وقعا فى نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ فى دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدا * وحذرنا عبادنا المؤمنين من الرسل الأفاكين ( يقصدون سيد الرسل والنبيين ) فمن ثمارهم يُعْرَفون . فهل يُجْنَى من الشوكِ العنبُ أو من الَحسَكِ التين * أقوال يرتعد منها عبادنا المؤمنون هَلَعًا من التقتيل ونفورًا من الغزو وأَنَفًا من جنة الزنى والفجور * فإذا سمعوها اقشعرت أبدانهم فَرَقًا واستعاذوا بنا من الشيطان الرجيم * وما دَخَلَ الجنةَ من كرر الصلاة لغوا وأما الذين عملوا بمشيئتنا فأولئك هم عباده المفلحون لهم مقام فى الملكوت ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * إن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وما السلام كالقتال وليس من يَلْقَى أخاه المؤمن بغصن الزيتون كمن يُشْرِع عليه سيفا فيقتله ذلك أنه من الكافرين * ونسختم بلَغْوكم قول التوراة والإنجيل الحق فألبستم الحق باطلا وافتريتم أقوالا ما أنزلنا بها من سلطان * وانتحل الوسواس الخناس اسمنا ووسوس فى صدور أوليائه بما ألقى فى رُوعهم من بهت وكفر وهم مصدّقوه فكان بعضهم لبعض ظهيرا * وأَمَرَهم بالمعروف مكرًا منه ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبَغْى قَوْلا إفكًا وحلله لهم تحليلا فكان فعلا مفعولا * وأغوى الجاهلين من عبادنا فاتَّبَعوه وأَبَى الجاهلون إلا ضلالا وكُفُورا * وقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه إذ اتبعوه وأما المؤمنون من عبادنا فما كان له عليهم من سلطان فما أغواهم ولا بدَّد لهم شملا فهم بما أنزلنا موقنون وبحبلنا معتصمون * وما بشرنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا لـه نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون * ولو بشرناهم لما كذّبوا وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. فأَنَّى نبشِّر بنى إسرائيل برسول ليس منهم وما لسانه بلسانهم وعندهم موسى والأنبياء والمرسلون وقفَّينا على آثارهم بكلمتنا بالحق المبين * وحذّرْنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبيَّنوه من ثمار أفعاله وأقواله وكشفوا إفكه وسحره المبين فهو شيطان رجيم لقوم كافرين " .
هذا هو الكلام الذى تفتقت عنه أذهان بل أستاه هؤلاء المآبين ، وزعموا كفرا أنه وحى من لدن رب العالمين ! على أن لى كلمة فى هذا المقام لا أحب أن تفوتنى ، ألا وهى أن بعض المنتسبين إلى الإسلام يتساءلون فى براءة زائفة : لماذا يصف المسلمون غير المسلمين بأنهم كافرون ؟ ألا يُعَدّ ذلك نفيــا للآخر وعـدوانـا عليـه وإهانــة لـه ؟ شـُفْ يـا أخى الرقـة والبـراءة ورهافة الشعور التى لا تظهر إلا حين يحاول المسلمون أن يدافعوا بعض دفاع عن دينهم ضد بعض ما يوجَّه لهم ولكتابهم ورسولهم من سباب وشتائم ! وواقع الأمر أن ذلك ليس نفيا للآخر ولا عدوانا عليه ولا إهانة له بحال من الأحوال ، فكل أهل دين يعتقدون أنهم على حق ، وبطبيعة الحال فمن لا يؤمن بدينهم يسمَّى عندهم كافرا دون أن يكون فى هذا افتئات على أحد. ذلك أن هذه هى مصطلحات أصحاب الأديان : مؤمن وكافر ومنافق ... إلخ ، بالضبط مثلما كان الشيوعيون يقولون : تقدمى ورجعى ، وطليعى شريف ورأسمالى متعفن ، ومثلما يقول الحداثيون الآن : التنويرية والظلامية ، والفكر المتحضر والفكر المتخلف ... وهَلُمَّ جَرًّا . وهاهم أولاء مزيِّفو هذه السُّخَامات والسَّخَافات يقولون عن نبينا عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات : أفاك وضال وكافر وكذاب وغير ذلك من الشتائم التى وردت فى النص الذى بين أيدينا وفى غيره من النصوص المشابهة الأخرى ، وما خفى مما لا يجرؤون على ترديده على الملإ ويصلنا رغم ذلك بعضُه لهو أشنع وأبشع ! فيا أيها المؤمنون لا يوسوسنّ لكم الشياطين المنتشرون كالوباء بين أظهركم ممن يحملون أسماء مثل أسمائكم ، ولهم سِحَنٌ كسِحَنكم ، ومكتوبٌ فى هويّاتهم الرسمية أنهم مسلمون مثلكم ، بأضاليلهم التى يجهدون بها أن يَحْرِفوكم عن دينكم ويخوفوكم من التمسك بهَدْى نبيكم بشبهة أنه لا ينبغى فى هذا العصر التنويرى الذى يأخذ على عاتقه الدعوة إلى احترام حقوق الآخر أن نسمى هذا الآخر كافرا! ذلك أنهم يسموننا كفرة ، ولن يَرْعَوُوا عن هذا أبدا حتى لو مزّق الله قلوبهم تمزيقا وبدّلهم قلوبا غيرها. إننا لا نحجر على أحد أن يعتقد فينا ما يشاء ، فهذا حقه ، وليس من حقنا ولا من حق غيرنا أن نتدخل فيما بين المرء وضميره أو نعتدى عليه أو نُكْرِهه على ما لا يحب من عقيدة أو رأى ، لكننا أيضا لا نريد من أحد أن يحجر علينا فى الرد على التهم والشتائم التى توجَّه إلى رسولنا العظيم وأن نبين وجه الوقاحة والبذاءة والبطلان والزيف فيها . ترى هل فى هذا الكلام صعوبة تَعْسُر على الفهم ؟ هم أحرار، ونحن أحرار ، وللناس آذان تسمع ، وأذهان تفكر ، وعقول تميّز وتحكم ، ولهم وحدهم الحق فى اتباع هذا أو ذاك مما نقوله نحن أو يقوله الآخرون .
وقبل أن ندخل فى تحليل هذا الوحى الشيطانى ونبين ما يقوم عليه ويغَصّ به من تفاهة وقلة عقل وتناقض وتكذيب للكتاب المقدس نفسه الذى زيَّف الشياطين هذا الوحى لتعضيده وإقناع المسلمين بصحته وبطلان الكتاب الذى نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه دهر الداهرين ، قبل هذا نرى أنه لا بد من إعطاء القراء الكرام فكرة عن ذلك الوحى المسمى زورا وزيفا بـ " الفرقان الحق " ، وما هو فى الواقع سوى " الضلال المبين " بقَضِّه وقَضِيضه ! إن هذا " الضلال المبين " ( وسيكون هذا هو اسمه هنا من الآن فصاعدا ) يشتمل ، حسبما هو موجود فى الموقع المشار إليه آنفا ، على نحو خمسة وأربعين نصًّا يُطْلَق على الواحد منها " سُورَة " تقليدا مفضوحا للقرآن ، وكل من هذه السُّوَر يتكون من عدد من الآيات يتفاوت ما بين عدد أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين والقدمين لا يزيد عن ذلك . إلا أننى قد لاحظت أن ترقيم هذه السُّوَر غير متسلسل دائما حتى إن أول سورة ، وهى " سورة المحبة " ، قد أخذت الرقم ( 2 ) ، كما أن ترقيم السورة الأخيرة ، واسمها " سورة البهتان " ، هو ( 59 ) ، ومعنى ذلك أن هناك فجوة فى بعض الأحيان بين السورة والتى تليها ، فهل ينبغى أن نفهم من هذا أن هناك سُوَرًا ناقصة ؟ لكن لماذا ؟ وما هى هذه السُّوَر ؟ وأين ذهبت ؟ لا أدرى . كذلك يلاحظ أن أسماء طائفة من سور " الضلال المبين " قد أُخِذَتْ من أسماء سور القرآن الكريم ، مثل " النور والنساء والمنافقين والطلاق " . أى أن من افْترَوْا هذا " الضلال المبين " لم يَسْطُوا فقط على نصوص آيات القرآن ليصنعوا منها هذا الترقيع الرقيع بل سَطَوْا على أسماء بعض سوره الكريمة ، وإن كانوا قد نقلوها من محلها الطاهر الشريف إلى ذلك الكنيف ! أما الأسماء الأخرى التى لم يأخذوها من أسماء سور القرآن الكريم فمنها " الأساطير والغرانيق والجنة والمحرّضين والكبائر والرُّعاة والشهادة والإنجيل "، وإن كانت كلها رغم ذلك فى الهجوم على القرآن : فـفى " سورة الأساطير " مثلا يزعمون أن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين كما كان وثنيو العرب يقولون قبل أن يكذّبوا أنفسهم بأنفسهم ويؤمنوا به ، وفى " سورة الغرانيق " يدّعون أنه كان فى القرآن آيتان تمجدان الغرانيق ، أى اللات والعُزَّى ومَنَاة ، ثم حُذِفتا فيما بعد. أما "سورة الرعاة " فهى هجاء للصحابة والعرب الأوائل الذين حملوا الإسلام إلى العالمين والذين يحاول أولئك اللصوص السُّطَاة أن ينالوا منهم بالقول بأنهم لم يكونوا متحضرين ولا أغنياء بل كانوا مجرد رعاة ، وكأن التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول المسيح كانوا من أصحاب القصور ومن خريجى الجامعات ، ولم يكونوا من صيادى السمك والعُرْج والبُرْص والعُمْى والمخلَّعين والممسوسين والعشّارين والخطاة على حسب ما جاء فى الأناجيل نفسها ! إننا بطبيعة الحال لا نبغى أن ننال من الفقراء والمساكين والمسحوقين ، فنحن لسنا من أغنياء القوم ولا من السادة ، لكننا أردنا فقط أن ننبه هؤلاء المأفونين إلى مدى السخف والسفالة التى ينساقون إليها فى العدوان على ديننا ورسولنا وصحابته الكرام . وبالمناسبة فلم يكن الصحابة جميعا من الرعاة ، بل كان فيهم التجار والزراع والصناع والعلماء والقادة العسكريون ، وكان منهم الأفراد العاديون والرؤساء ، وكان منهم العرب وغير العرب ، كما كان فيهم كثير ممن كانوا هودا أو نصارى ثم أسلموا... وهكذا يستمر هؤلاء الأفاكون المجرمون إلى آخر السُّوَر الشيطانية المفتراة كذبًا على الله .
وأول ما ينبغى التصدى لـه فى هذا الوحى الإبليسىّ هو المشاكل الغبية غباء مزيِّفيه التى لا يمكن العثور على مخرج من أىٍّ منها ، بل كلما حاول مخترعوه التخلص من بعض ما جرَّتْهم إليه وجدوا أنفسهم يزدادون تورطا ، شأن البقرة الغبية التى تحاول الانعتاق من الحبل الملتف حول رقبتها ، لكنها بدلا من ذلك تدور فى الاتجاه المعاكس فتجده قد ازداد التفافا حتى خنقها وأودى بحياتها. فكيف كان ذلك ؟ المعروف أولا أن النصارى لا يؤمنون بنبىٍّ بعد المسيح لأنهم يَرَوْن أنه قد أنهى فصول المأساة البشرية بموته على الصليب وتكفيره من ثَمَّ عن الخطيئة البشرية الأولى ، وأنه لم يعد هناك مجال لأى شىء إلا لمجيئه فى آخر الزمان ، هذا المجىء الذى سيكون بداية لألفيَّةٍ سعيدةٍ يعيش فيها الناس فى هناءة وسلام ، فلا خصومات ولا عداوات حتى ولا بين الحيوانات العجماوات ، حتى إن الذئب والحمل ، كما يقال ، سوف تقوم بينهما صداقة ومودة فيلعبان معا ويأكلان معا فى غاية الانسجام والتفاهم ! أما اليهود فهم أصلا فى انتظار المسيح الأول لا يزالون لأنهم لا يؤمنون بأن عيسى بن مريم هو المسيح الذى أتى ذكره فى كتبهم . وهذا الكتاب الذى نحن بصدده ليس هو الكتاب الذى ينتظره اليهود مع مسيحهم المنتظر ، فهم يريدون مسيحا من بيت داود يعيد إليهم مجدهم ويبنى لهم مملكتهم ، أما كتاب " الضلال المبين " فـلا يؤدى إلى هـذه الغـايـة على الإطلاق ولا نعرف لـه صاحبا ، فهو كطفل السِّفَاح الذى لا تجرؤ أمه العاهرة أن تُقِرّ به وتنسبه إلى نفسها . كذلك لا يخفى على القارئ أن غرض كل من الفريقين اللذين اشتركا فى تزييف هذا " البهتان الباطل " يتناقض مع غرض الفريق الآخر . وهكذا يأبى الله العلىّ العظيم إلا أن يوقعهم فى شر أعمالهم . وهذه أولى بركات محمد ودين محمد! وعلى كل حال فها هم أولاء المؤلفون الأغبياء يكذّبون أنفسهم بأنفسهم إذ يعلنون بملء أفواههم فى القىء المنتن الذى وَسَمُوه بـ " سورة الأنبياء " ( ومن أفواههم النجسة ندينهم ) قائلين على لسان رب العزة إننا "ما بشَّرْنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق من بعدى وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا لـه نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون " . إذن فليس هناك نبى يمكن أن يجىء بعد عيسى عندهم ، وإلا للزمهم أن يؤمنوا بمحمد ، الذى زعموا أنه لم تأت به أية بشارة لا فى التوراة ولا فى الإنجيل . ليس هذا فحسب ، بل إن كلمة " الفرقان" نفسها مسروقة من القرآن ، لأن كتابهم المقدس بعهديه العتيق والجديد لم ترد فيه هذه الكلمة ، وإلا لذكرها " فهرس الموضوعات الكتابية " . فكيف إذن يزعمون أن الله قد أنزل هذا الوحى مع أنه لم يأت به نبى ، إذ الوحى لا ينزل هكذا من السماء على غير أحد ، اللهم إلا على سُنّة أنبياء آخر زمن من صنف أولئك الأساقفة الذين شرعت أمريكا أم التقاليع والغرائب ترسِّمهم من اللُّوطِيِّين !
لكن ما هى سُنّة أنبياء آخر زمن هؤلاء ؟ هى سنّة المومس التى تحمل سفاحا ( والمومس لا تحمل بالطبع إلا سفاحا ) ، ولا تريد أن يطّلع الناس على ورطتها وخــزيها ، فعندما يَئِين الأوان ويحلّ موعد الوضع تراها تلف الطفـــل المسكين الذى لا ذنب لـه فيما اقترفته يدهــا الأثيمة فى خـرقة وتأتى به فى ظلام الليل الدامس إلى باب معبد من المعابد فتتركه هناك أو تلقيه قرب أحد صناديق القمامة ، ثم تنصرف وترقب الموقف من بعيد دون أن يعرف أحد أنها هى صاحبة هذا العار ! إنه شُغْل مومسات كما أقول فى بعض كتبى التى أرد فيها على أمثال هؤلاء النُّغُول ! إن الأنبياء كانوا دائما ما يأتون فى ضحوة النهار ولا يستترون هكذا فى ألفاف الظلمات المتراكبة المتكاثفة المريبة شأن محترفى اللصوص والقتلة الذين يَلْبِدُون للفريسة المسكينة فى حقل من حقول القصب أو الذرة حتى يأخذوها غيلة وغدرا ، ثم بعد أن يرتكبوا جريمتهم الوحشية الخسيسة يعودون لبيوتهم فيمارسون حياتهم لا تُثْقِل ضمائرَهم أيّةٌ من خوالج الندم ، إذ قد ماتت قلوبهم وسَوّسَتْ ضمائرهم. ثم إن الوحى الذى ينزل على الأنبياء لا ينزل دفعة واحدة هكذا بل يتتابع مصاحبا للحوادث والمناسبات التى تجدّ ، مما يجعله تجسيدا للتجارب التى خاضها النبى مع قومه ، أما هذا " الضلال " فقد صيغ مرة واحدة ثم لُفَّ فى خرقة قذرة نجسة وأُلْقِىَ به عند صندوق قمامة فى سكون الليل البهيم مع انقطاع رِجْل السابلة .
ثم إن ذلك الرِّجْس مخالف فى الواقع لطريقة أهل الكتاب فى تسمية كثير من أسفارهم باسم الأنبياء الذين تُعْزَى إليهم : فهذا سِفْر يشوع ، وهذا نشيد الأناشيد لسليمان ، وهذه نبوة أَشَعْيا ، وهذا إنجيل متى ، وهذه رسالة القديس يعقوب ، وهذه رؤيا القديس يوحنا... وهكذا. وعلى ذلك فإننا نتساءل : أين النبى الذى أتى بهذا الضلال ؟ ما اسمه يا ترى ؟ من أى بلد جاء؟ إلى أى أسرة ينتمى ؟ ما صنعته ؟ ما سيرته ؟ ما أوصافه ؟ ما أخلاقه ؟ ما رأى الناس فيه ؟ ما الذى دار بينه وبين قومه من أخذ ورد ؟ ماذا كانت استجابتهم لما أتاهم به أولا ثم آخرا ؟ ... ترى أية نبوة هذه يا إلهى ؟ إن القوم لا يحسنون التدليس ، وهم برغم ذلك يتصدَّوْن لحرب القرآن ظانّين أنهم قادرون على محوه من النفوس والصحائف على السواء ! يا لهم من مجانين مسعورين ! وللتفكُّه أذكر أن بعض إخواننا الساخرين أجاب على سؤالى الخاص بشخصية هذا النبى المزعوم قائلا : أتريد أن تعرف مَنْ ذلك النبى ؟ قلت : نعم . قال : ولم لا يكون هو الابن الثانى لله ؟ قلت : لقد قالوا إنه ليس لـه إلا ابن وحيد مات على الصليب . قال : هذا كان من ألفى سنة . أتظن ذلك الإله لم تشتقْ نفسه للذرية مرة ثانية طوال هذه المدة فأراد أن ينجب ابنا آخر ؟ أم تراه ، حتى لو كان قد حدَّد النسل ، واتخذ الاحتياطات اللازمة لعدم الإنجاب ، لم يحدث أن اخترق طفل جديد هذا الحظر وأفسد تلك الاحتياطات كما يحدث لكثير منا فى مثل هذه الظروف ؟ قلت : وهل يصح أن تقيس الآلهة على أوضاع البشر ؟ قال : لست أنا الذى قاسهم ، بل إلههم هو الذى فعل ذلك . أليس هو الذى أنجب مثلما ننجب ؟ فما الذى يمنع أن يكون لـه ولد ثان وثالث ورابع ... إلى ماشاء الله ؟ إلى جانب بعض البنات أيضا إرضاءً للسِّتّ التى لا بد أن تتطلع إلى أن يكون لها بنت أو أكثر كى يساعدنها فى أعمال المنزل ... ومضى الصديق الساخر كلما حاولت أن أغلق عليه السبيل فتح بدل الباب أبوابا، حتى وجدت أنه لا بد من غلق هذا الحوار الذى لا يؤذِن بنهاية .
ثم إن أولئك النُّغُول يرددون ما جاء فى كتابنا العزيز من أنه ما من نبى أُرْسِل إلا بلسان قومه ، فما معنى نزول هذا " الضلال المبين " بالعربية ، بل بالعربية المسجوعة ؟ معناه أنه نزل للعرب ، لأنهم هم الذين يتكلمون العربية . أليس هذا هو ما تقتضيه العبارة التى قالها النغول والتى سرقوها بنصها من القرآن المجيد ووضعوها فى هذا الموضع الدنس ؟ بَيْدَ أننا قد سمعناهم يقولون بلسانهم ( الذى ستقطعه زبانية الجحيم يوم القيامة إن شاء الله ثم تشويه أمام أعينهم وتحشره فى حلوقهم طعامًا نجسًا لأفواهٍ نجسة ) إن النبوة لا تكون إلا فى بنى إسرائيل ، فليس للعرب فيها إذن أى نصيب ( حقدا منهم على إسماعيل وأمه هاجر ، التى يقولون إنها أَمَة ، وابن الأمَة لا نصيب لـه عندهم فى البركة النبوية ). وبطبيعة الحال فالعرب لا يمكن أن يكونوا قوم نبىّ من بنى إسرائيل ، إذ إن بنى إسرائيل هم ذرية يعقوب ، أما العرب فهم ذرية إسماعيل كما هو معروف . وهذا إن غضضنا الطرف عن تأكيدهم أن باب النبوة مغلق إلى ما قبل يوم القيامة حسب اعتقاد النصارى، ، وإلى مجىء مسيح اليهود حسب اعتقاد بنى إسرائيل ، وهو فى الواقع ما لا يمكن غض الطرف عنه أبدا ، لكنها طبيعة الجدل المفحم التى أتبعها عادة مع هؤلاء المتاعيس حتى أبين للقارئ الكريم كيف أن الأسداد قد ضُرِبَت عليهم أَنَّى اتجهوا وأَنَّى ارتدُّوا . وهذه ثانية بركات محمد ودين محمد !
وثالثة هذه البركات المحمدية أن هؤلاء الأبالسة الأغبياء ( وهذه أول مرة يقابل الواحد فى حياته أبالسة أغبياء! لكن ما العمل ، وكل من يقصد دين محمد بِشَرٍّ فإنه لا يُفْلِح أبدا حتى لو كان أبا الأبالسة جميعا ؟ ) ، هؤلاء الأغبياء يَسْطُون على آيات القرآن فى مفارقة غريبة غرابةَ أمرِهم كله وشذوذه ، إذ يتهمونه بأنه وسوسة شيطان إلى شيطان . فإذا كان الأمر كما يقولون فكيف لم يجدوا فى الأرض العريضة كلها ( ولا أقول : فى السماء ، لأن مثل هذا الإجرام لا يمكن أن تصله بالسماء أية آصرة ) إلا هذا الوحى المحمدى الذى يزعمون أنه وحى شيطانى كى يتخذوه وحيا لهم ؟ بالله عليكم أيها القراء مَنِ الشيطانُ هنا ؟ إن المؤمن لينفر من الشيطان ومن كل ما لـه صلة بالشيطان ولا يفكر مجرد تفكير فى الاقتراب منه أو المرور من الطريق الذى يمكن أن يلقاه فيه . لكن هؤلاء الأبالسة الأغبياء لم يجدوا إلا الوحى القرآنى ليسرقوه ويدّعوه لأنفسهم زاعمين أنه أُنْزِل عليهم من السماء ، مع أن السماء لا يمكن أن ترضى هذا العمل الخسيس . والغريب أن عملهم هــذا يزعــق بعــلوّ حســّه شاهــدا عليهــم بالسرقــة والسطــو ، ولكن متى كان لدى هؤلاء المجرمين حياء أو خشية من التى يتحلى بها الآدميون حتى ننتظر منهم أن يستحوا أو يختشوا ؟ إنهم من نفس الطينة التى جُبِل منها أمثالهم سارقو فلسطين والعراق وأفغانستان فى عز الظهر الأحمر ، الذين يزعمون مع ذلك أننا نحن الذين نريد أن نقتلهم وندمر حضارتهم ! والمصيبة أنهم بعد ذلك كله يقولون إن هذا " الضلال المبين " هو من عند الله ، أى أن ربهم لص وكذاب متنفِّج ، وأدنى من الشيطان قدرة على صياغة الكلام والمعانى ، ولذلك يسطو على ما كان هذا الشيطان قد أوحاه ، حسب زعمهم ، إلى محمد ثم يدّعيه لنفسه . ثم إنه مُلْقِيه رغم هذا كله فى قعر الجحيم يوم القيامة لقاء ما استعان به ، وذلك على طريقة الأمريكان ، إذ يظلون يعصرون الحاكم من حكام العالم الثالث حتى يستنزفوه لآخر قطرة فيه ثم ينقلبون عليه آخر الأمر ويجزونه جزاء سِنِمّار ! وهذا دليل آخر على أن مزيفى هذا " الضلال " إنما هم الأمريكان ! إنها نفس الأخلاق المنحطة ، وإن كان الشىء من معدنه غير مُسْتَغْرَب !
ولكن ما مغزى عمل هؤلاء الشياطين ؟ إنه دليل لا يُنْقَض على أنهم يَرَوْن فى أعماق قلوبهم أن أسلوب القرآن معجز ، وإن أنكروا هذا بألسنتهم النجسة ، ولذلك استعانوا به رغم اتهامهم للقرآن كله بأنه من وسوسة الشيطان ! وهنا أيضا لن أفعل شيئا آخر غير الاقتباس من كلامهم ، إذ نجدهم فى الفقرة الأولى من " سورة السلام " يدّعون لبهتانهم هذا أنه وحى معجز . إذن فالقرآن معجز فى رأيهم رغم كل الكذب الذى اقترفوه ضد كتاب الله فى نصوصهم المسروقة كلها تقريبا منه ، وهذا نص ما قالوه : " إنا أنزلناه فرقانًا حقًّا بلسانٍ عربىٍّ بيّن الإعجاز لتتبينوا الضلال من الهدى وتعلموا سوء ما كنتم تفعلون " . ترى ما رأى القارئ الكريم فى ألاعيب هؤلاء النغول الخائبة ؟ إن المسلمين يقولون ، حسبما يقرأون فى كتاب ربهم وحسبما أكده العلماء الأثبات منا ومنهم ، إن أهل الكتاب أساتذة فى العبث بالوحى الإلهى الذى نزل على رسلهم وتحريفه عن مواضعه ، لكنهم دائما ما يتهموننا بأننا نردد كلاما غير صحيح . فهل ، بعد أن بيّنّا ما صنعوه فى هذا " الضلال المبين " ، يمكن لأحد أن يتمارى فيما يتهمهم به القرآن والمسلمون ؟ هل يحتاج بعد اليوم أحد إلى برهان آخر على ذلك العبث والتزييف والتدليس والانتحال ؟ والغريب بعد هذا كله أنهم قد زيَّفوا ، فيما زيفوا من سُوَر ٍ، سورةً بعنوان " الأساطير " تقول أول آية منها للمسلمين : " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين " ! لا بل إنهم يتهمون الرسول بأنه قد حرّف الإنجيل نفسه ! إى والله ، الإنجيل نفسه دون أدنى مبالغة ! وهذا ما قالوه فى الفقرة الأولى من "سورة الإيمان " بالحرف الواحد : " وحرَّفْتُم آيات الإنجيل الحق وكتمتم كلمتنا واتبعتم صراطا ذا عِوَج وأوهمتم أتباعكم أنكم على صراط مستقيم " . ولا أدرى بالضبط ما الذى جرى لعقول القوم فأقدموا على هذه الهلاوس التى ليس لها من حل إلا أخذ صاحبها على الفور لمستشفى المجانين خَبْطَ لَزْق ! وصدق المثل القائل : "رمتْنى بدائها وانسلَّتِ" ! الحقّ أن هؤلاء الناس ( هذا إذا تجاوزنا وألحقناهم بالبشر ) لا يعرفون ما يسمَّى فى اللغات بـ " الحياء " !
على أن سرقتهم لكلمات القرآن وعباراته وتركيباته وصوره وفواصله لا تجعل مع ذلك من " بهتانهم " كلاما معجزا . لماذا ؟ لأنهم يفعلون ما يفعله الخياط الغبى الذى يأتى إلى أفخم الحُلَل والملابس فيقتطع من كل منها مِزْعة ثم يشبك هذه المِزَع بعضها مع بعض . وبطبيعة الحال لن ينتج عن ذلك إلا مرقّعة كمرقّعات الدراويش تبعث على السخرية أو على الرثاء أو عليهما معا! ذلك أن هؤلاء الأوغاد لم ينجحوا قط فى أن يضعوا ما يسرقونه من نصوص القرآن فى مواضعها وسياقاتها ، بل يضعونها فى إطار يختلف عن إطارها الذى نُقِلَت منه ، علاوة على أن أولئك اللصوص لا يحسنون عملية لزق النصوص المسطوّ عليها ، إذ كثيرا ما تأتى متنافرة لا انسجام بينها ، فضلا عن أن الفواصل ( أى نهايات الآيات ) ، التى يسرقونها هى أيضا من القرآن ، لم يتصادف أن جاءت ولو مرة واحدة كما ينبغى أن تأتى الفاصلة الجيدة قارَّةً فى مكانها حاسمةً فى موسيقيتها ومعناها ، بل يشعر القارئ أنهم قد اجتلبوها اجتلابا لا لشىء غير أن يُنْهُوا الآية بسجعة والسلام . كذلك فإنهم إذا أضافوا شيئا من عندهم كما يقع أحيانا لم يجيئوا إلا بكلام ركيك ثقيل الظل وخيم الأنفاس ! والسورة التى أوردتُها فيما مضى من صفحات تشهد على ما أقول . زد على ذلك ما تقوم عليه المسألة كلها من سماجة ليس لها من مثيل ، إذ هم يسطون على القرآن ألفاظا وعبارات وتراكيب وصُوَرا وفواصل وينتحلونه لأنفسهم ثم يستديرون لـه بعد ذلك كله مُزْرِين عليه زاعمين أنه من وسوسة الشيطان ! فالأمر ، كما تَرَوْنَ ، يجرى على أسلوب " حسنة وأنا سيدك ! " . إنهم أشبه بخادمة لِصَّة دنيئة حقيرة قبيحة سليطة اللسان تسرق من سيدتها بعض ملابسها التى لا تستطيع مع هذا أن ترتديها على ما يقتضيه الذوق الراقى أو حتى الذوق السليم ثم تفتعل مشكلة وتترك العمل عندها ، لتأتى بعد ذلك إلى هذه السيدة نفسها وقد ارتدت ما سرقته منها من ملابس فتختال بها أمام عينيها بُغْية إغاظتها غير واعية بما تثيره فى نفوس الناس المحترمين أهل الذوق الراقى الكريم من تهكم بغبائها وجلافتها ودناءتها فى التصرف واللبس والكلام ، وأنها مهما فعلت واستعرضت وحاولت أن تغيظ سيدتها ليست فى نهاية المطاف غير خادمة لصة حقيرة قبيحة سليطة اللسان ذات ذوقٍ فِجّ متخلف ! ترى هل يفيق هؤلاء اللصوص السفلة إلى مدى الفظاعة التى ارتكسوا فيها حين سرقوا القرآن وانثنَوْا بعد ذلك للمسلمين يشمخون عليهم بفعلتهم الشيطانية ؟ أما أنا فمن معرفتى بهم وبطبائعهم وأساليبهم الساقطة لا أعلّق عليهم أملا ولا أتوقع منهم خيرا ، إذ العاقل لا ينتظر من المرحاض أن يُثْمِر تفاحا وخَوْخا أو أن يُزْهِر وردًا وآسًا ورَيْحَانا !
على أن المسألة لم تنته فصولا بعد ، بل ما زال فى جراب الحاوى مفاجآت مضحكة ... مضحكة من الغم لا من السعادة ! تعالَوْا نَرَ مثلا كيف يبدأ اللصوص السارقون معظم سُوَر " ضلالهم المبين ". هل رأيتم أحدا قَطّ يبدأ كلاما جديدا لـه بواو العطف ؟ إن هذه الواو إنما تعنى أن هناك كلاما سابقا وأن الكلام الحالىّ هو امتداد لفظى ومعنوى لـه ، وهو ما لا وجود لـه هنا لأن هذه هى بداية السورة . وهل قبل البداية شىء؟ وعلى رغم وضوح المسألة بل نصاعتها فإن هؤلاء اللصوص لا يراعون هذه البديهية فى عالم النحو والكتابة والأساليب ، فتجدهم يقولون مثلا فى مطلع " سورة الطهر " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ودعانا الشيطان ( يقصدون الرسول عليه السلام ) بأسماءٍ قُبْحَى غيّبها بأسماء حسنى مكرًا منه ... إلخ " ، وفى مطلع " سورة الرعاة " نقرأ : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ومَثَلُ الرسول الصالح كمَثَل راع أورد رعيته وِرْدا طهورا ... " ، وفى" سورة المحرِّضين " نطالع : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ونَهَيْنا عبادنا عن القتل ووصَّيناهم بالرحمة والمحبة والسلام ... " . وعلى نفس الشاكلة تجرى بدايات سُوَر " الإيمان والحق والطهر والزنى والمائدة والمعجزات والضالين والصيام والماكرين والأمّيِّين والصلاة والملوك والهدى " وغيرها . ترى علام يدل هذا ؟ إنه يدل على أن الأمريكان والصهاينة رغم كل تقدمهم العلمىّ والتقنىّ والعسكرىّ والسياسىّ والتخطيطىّ لا يستطيعون أن يحبكوا تآمرهم على القرآن الكريم الذى يُضْرَب بهوان أتباعه وتخلفهم فى العصر الحالىّ الأمثالُ والحكمُ والمواعظ . فعلام يدل هذا مرة أخرى يا ترى ؟ يدل على أنهم فى حربهم للقرآن إنما يحاربون الله ، والله غالب على أمره . ولو كانت حربهم للقرآن حربا لنا نحن العرب والمسلمين لكان القرآن الآن فى خبر " كان " بعد كل تلك الحروب والمعارك الطاحنة التى لم يكفّوا يوما عن شنها عليه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية وجنّدوا لها أعتى العقول عندهم من مبشرين ومستشرقين وسياسيين وعسكريين وكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بالك من صنوف العلماء والمتنفذين لديهم . لكن هاهو ذا واحد مثلى لا فى العير ولا فى النفير وليس بين يديه ولا واحد على الألف مما يتصرف فيه أى مستشرقٍ من الكتب والمراجع والمعاجم والموسوعات والدوريات والمعاونين ، هاهو ذا واحد مثلى منقطع عن بلده ومكتبته الخاصة التى كان من الممكن أن تمده على الأقل بالأساسيات التى يحتاجها كـ " فهرس الموضوعات الكتابية " أو " دائرة المعارف الكتابية " أو حتى " الكتاب المقدس " نفسه الذى استغرق الأمر منى وقتا طويلا واتصالات متعددة كى أحصل على نسخة منه ، أما " فهرس الموضوعات الكتابية " فقد كَلَّفْتُ بموافاتى بما أحتاجه منه بعضَ من أعرف فى أرض الكنانة من خلال نظام الرسائل الفورية بالمِشْباك ، الذى لا أعرف منه أكثر مما يعرف الجاهل بالسباحة عندما يقعد على الشط مكتفيا بغمس قدمه فى الماء ثم يقول إنه قد نزل البحر وعام فيه مع العائمين ! أقول : ها هو ذا واحد مثلى فى هذه الظروف الشحيحة وبهذه الإمكانات الشديدة الضآلة يكرّ على هذا " الضلال " فيُظْهِر عوراته وسوآته بكل بساطة وسهولة . والسبب ؟ السبب هو أننى حين أفعل ذلك إنما أدافع عن القرآن ، أى عن قضية موفَّقة مباركة يسندنى فيها ويقينى من العِثار ربُّ القرآن الذى ابتهلتُ إليه أن يسهّل مهمتى فاستجاب بكرم منه وفضل ، وهو سبحانه أهل الكرم والبر والتوفيق . أما الأمريكان والصهاينة ومن لَفَّ لفَّهم وحذا حَذْوَهم فنبشّرهم بخذلان من الله مبين : " إن الذين كفروا يُنْفِقون أَمْوالَهم ليصُدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون . والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرون * ليَمِيز اللهُ الخبيثَ من الطيّب ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ فيَرْكُمَه جميعا فيجعلَه فى جَهَنَّمَ . أولئك هم الخاسرون " . صدق الله العظيم ! إن الإله الذى لا يعرف كيف يصوغ الكلام ولا يدرى أهو فى أوله أم فى وسطه أم فى آخره لهو إلهٌ سكرانُ أو قد أصابه الخَرَف ! نعوذ بالله من الخرف وآلهة الخَرَف ! لقد كنا نسمع بإله الحرب وبإله الفنون وبإله الحب مثلا ، لكن هذه أول مرة نعرف أن هناك إلها للخَرَف ! ومن يَعِشْ يَرَ! إن مثل هذا الإله لو كان يعيش بين قبائل أفريقيا المتوحشة قديما لقتلوه لانتهاء عمره الافتراضى ، وربما أكلوا لحمه أيضا رغم أنه لحمٌ عجوز لا ينضج بسرعة وليس لـه حلاوة مذاق اللحم العَجَّالى ، لكن الأمريكان والصهاينة لا يتنبهون لهذا الأمر على وضوحه البالغ فيُبْقُون على هذا الإله المضطرب الذاكرة والعقل الذى يوقعهم فى مآزق محرجة ليس لها من مخرج ! ألم أقل لكم إن من يتصدى للقرآن فإن مصيره إلى البوار ، وبئس القرار ؟
على أن خيبة هذا الإله لا تقف عند هذا الحد بل تتعداه إلى الوقوع فى الأخطاء اللغوية المزرية! قد يجيبنى بعضهم : وماذا تريد من إله أمريكانى خواجة من أصحاب : " مُشْ فِخِمْتُو يا خبيبى "؟ لكننى أستطيع أن أرد عليهم بأن هذا الإله الخواجة لا بد أنه استعان ببعض العرب فى اختراع هذا الوحى الدنس ، وإلا فهذا دليل آخر على أنه ، رغم كل علمه وقوته وتقدمه ، تفوته أشياء مما تفوت عباد الله اللاأمريكيين كما حدث فى حكاية البلح الأصفر الذى كان لا يزال على شماريخ النخل فى عز الخريف فى صور القبض على صدام حسين الشهيرة . وأما إن كان قد استعان ببعض العرب ، وهو ما أنا موقن منه إيقانا ، فمعناه أن بركة القرآن قد آتت أُكُلَها وسطعت ( كما يسطع العبيرُ وضياءُ الشمس جميعا ) نتائجُها الطيبةُ الطاهرةُ فأفشلت هذا التآمر الخسيس ، وانقلب السحر على الساحر الخائب الموكوس ، رغم كل ما معه من خبث وسلاح وفلوس !
وبعد ، فهذه عينة من الأخطاء اللغوية التى سقط فيها سقوطَ الجرادل صاحبُنا الإلهُ الخواجة وأذيالُه من بنى جلدتنا الذين أخجلونا وشمّتوا الدنيا فينا بجهلهم بلغة القرآن المجيد الجديرة بالحب بل بالعشق بل بالوَلَه حتى ممن يكره كتابَها العزيزَ والرسولَ الذى أُنْزِل عليه هذا الكتاب ضياءً وهدًى للعالمين : " وما كان النجسُ والطمثُ والمحيضُ والغائطُ والتيممُ والنكاحُ والهجرُ والضربُ والطلاقُ إلا كومةُ رِكْسٍ لفظها الشيطان بلسانكم " ( الطهر/ 6 )، وصوابها : " كومةَ ركس " بفتح التاء لأنها خبر " كان" ) ، و" كى يَشْهَدهم الناسَ " ( الصلاة / 3 ، بفتح سين " الناس " رغم أنها فاعلٌ حقُّه الرفعُ بالضمة ) ، و" ذلكم هم المنافقون " ( نفس السورة والفقرة ، وهى غلطة لا يمكن أن يقع فيها إلا إله أمريكانى من الذين يقولون : " يا خبيبى ! يا خَبّة إينى " ، أما لو كان رب العالمين هو الذى أنزل هذا الكتاب لقال : " أولئ ك / أولئكم هم المنافقون " ، إذ إن الكاف التى فى آخر اسم الإشارة لا علاقة لها بالمشار إليه ، الذى هو هنا " الكافرون " ، بل تتغير حسب طبيعة من نخاطبه : إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا، أما الذى يتغير حسب تغير المشار إليه فهو اسم الإشارة نفسه . ومادام " المنافقون " جمعا فينبغى استخدام " أولئك " لهم . ترى أَفَهِم الأوباشُ أم نُعِيد الكلام من البداية ؟ ولا بأس عندنا من الإعادة ، ففى التكرار للحمير إفادة ! ) ، و" خلقناكم ذكرا وأنثى يتحدان زوجًا فردا " ( الزواج / 3 ، وهو كلام ركيك من كلام الخواجات ) ، و" الإنتقام " ( الإخاء / 11 ، بهمزة تحت الألف ، وهو خطأ شنيع صحته " الانتقام " دون التلفّظ بالهمزة لأنها همزة وصل لا تُنْطَق ) ، و" وصَّيناكم بألا تَدِنُوا " ( الماكرين / 6 ، يقصد " بألا تدينوا " ، وهذا أيضا كلامٌ خواجاتى ) ، و " سلبتم أقواتِهم " ( الماكرين / 7 ، وهو جهلٌ مُدْقِع أستغرب كيف يقع فيه شيطان ، والشياطين ، رغم شِرّيرِيّتهم ، لا يخطئون مثل هذه الأخطاء البدائية . لكن يبدو أنه من أولئك الشياطين الفاشلين الذين منهم أحمد الشلبى مورّط أمريكا فى العراق . على كل حال فالصواب هو فتح تاء " أقواتَهم " لأنها ليست جمع مؤنث سالما كما يظن الأغبياء بل جمع تكسير ، فلذلك تُنْصَب بالفتحة لا بالكسرة )، و" بإسمنا " ( الماكرين / 15 ، وهى مثل الهمزة فى " الانتقام " لا ينبغى أن تُلْفَظ ) ، و " زَنُوا " ( الماكرين / 17 ، من " الزنى " ، وهو خطأ لا يليق صوابه " زَنَوْا " ) ، و "حضيرة " ( مرتين : الرعاة / 13 ، والمحرّضين / 10 ، والصواب ، كما لا يخفى إلا على جاهل قد طمس الله على عينه وجعل على عقله غشاوة ، هو "حظيرة " ، وهو المكان الذى ينبغى أن يوضَع فيه أمام مذْوَدٍ مملوءٍ تبنًا وبرسيمًا هؤلاء الطَّغَامُ الذين يحاولون بغبائهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم النَّتِنَة ) ، و " نقول لـه : كن ، فيكونَ " ( النسخ / 10 ، بفتح نون " يكون " من غير أى داع ، والواجب ضمّها لأن الفعل المضارع لم يسبقه ناصب من أى نوع ) ، و" أشرك بنا من يشاركنا وِلائِنا لعبادنـــا " (المشركين / 12 ، بكسر همزة " ولاء " ، وحقها الفتح لأن الكلمة مفعول ثان للفعل " يشاركنا ". وهى ، كما يرى القارئ ، غلطة لا يقع فيهـا إلا جاهــل لــه فى الجهل تاريخ عريق مؤثَّل ) ، و" مؤمنين منافقين " ( الكبائر / 9 ، ولا أدرى كيف يُوصَف المؤمن بأنه منافق ، اللهم إلا إذا جاز لنا أن نقول : فلان قصير طويل ، وطيب شرير ، وذكى غبى ... إلخ ، أو إلا إذا احتُجَّ علينا بأن قائل هذا هو الله ، الذى لا تُرَد لـه مشيئة ، فهو لا يُسْأل عما يفعل . لكن فات ذلك المجادلَ الشَّكِسَ أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات وأنها فوق السخافات والسفسطات . أما إذا قبل إنه إله أمريكى يحق لـه أن يفعل أى شىء دون أدنى حرج ، فإننا نبادر بالموافقة ما دام فاعل هذا من ذلك الصنف من الناس الذين وصف رسولنا الكريم واحدا منهم قديما بـ " الأحمق المطاع " ) ، و" وزعمتم أنكم آمنتم بالكتاب وبأهـل الكتاب الذين هادوا والنصارى " ( الكبائر / 9 ، والمخاطَبون هنا هم المسلمون . وفى الكلام ركاكة لا يمكن بلعها ولا هضمها، علاوة على أن المسلمين لا يقولون أبدا إنهم آمنوا باليهود والنصارى ، إذ ليس اليهود والنصارى كتابا سماويا ولا نبيا من الأنبياء حتى يكونوا موضوعا للإيمان ، فضلا عن أننا ، على العكس من ذلك ، نؤمن بأنهم حرّفوا كتبهم وعبثوا بها وأنهم ما زالوا مقيمين على العبث والتحريف حتى هذه اللحظة باختراعهم هذا " الضلال المبين " وزَعْمهم أنه كتاب من عند رب العالمين ، ناسين أن الكتب السماوية لا تنزل على أهل الأُبْنَة اللوطيين ، حتى لو رأت أمريكا أن ترسّمهم أساقفةً وقِسّيسِين ) ، و " إنْ هو ( أى القرآن ) إلا خير شِرْعة أُخْرِجَت للكافــــــرين " ( البهتان / 9 ، وهو وحىٌ حلمنتيشىٌّ خَدِيجٌ لا رأس لـه ولا ذَنَب ، ولا يمكن أن يدور إلا فى اسْت أحد الممرورين المضطربين . لا شفاه الله من دائه بل أخــزاه وجعله عبرة لغيره من الكافــرين المخبولين ! آمين يا رب العـــالمين . ومن الواضح أن الجهلاء يريدون أن يقولوا إنه " شرّ شرعةٍ أُخْرِجت للكافرين " ).
وكما ثبت أن الإله الذى أوحى بهذا " الضلال المبين " هو إله جاهل باللغة التى لفَّق بها كتابه ، فسأثبت للقراء الآن أنه إله جاهل أيضا بالكتب التى يقول إنه أوحى بها قبل هذا ، وأنه إله لا منطق عنده ولا عقل ، وأنه نسّاء كذلك ، إذ لا يستطيع أن يتذكر ما جاء فى القرآن الكريم فينقل الآيات التى فيه خطأً ، مع أنه ، كما قيل لى ، كان يفتح المصحف وهو يفعل ذلك . فهل نقول إنه لا يعرف الكتابة والقراءة جيدا ؟ أم هل نقول إنه يستعــين بمن يقـرأون لـه ، لكنـهم للأسف يستغلون جهله وأميته فيخدعونه ولا يعطونه المعلومات الصحيحة التى يطلبها منهم ؟ يقول بعد البسملة التثليثية فى أول ما يسمّى بـ " سورة الحق " ، والحق منها ومن مزيفيها براء : " وأنزلنا الفرقان الحق نورًا على نور محقًّا للحق ومبطلا للباطل وإن كره المبطلون * ففضح مكر الشيطان الرجيم ولو تنزَّل بوحى مَلَكٍ رحيم " . بالله هل هذا إله يدرى ما يقول ؟ ما معنى أنه سيفضح مكر الشيطان الرجيم حتى لو جاء به ملاك رحيم ؟ تُرَى كيف يمكن أن يأتى بالوحى الشيطانى ملاك رحيم ؟ هل الملائكة تتصرف من تلقاء نفسها ؟ بل هل يمكن أن يقع منها أى عصيان لأوامر الله ؟ ومثلُ ذلك رقاعةً وسخفًا قولُهم فى الفقرة الثانية من " سورة الطهر " : " ولو كنتم أنبياءَ وأُوتيتُم الحكمة واطلَّعتم على الغيب وأتيتم بالمعجزات دون محبة فلا حول لكم ولا منّة وإنما أنتم مفترون ". كيف بالله يمكن أن يكون إنسانٌ ما نبيًّا مؤيَّدًا بالحكمة وعلم الغيب والمعجزات جميعا ثم يرفض الله تعالى أن يعترف به نبيا؟ فمن الذى أرسله إذن وجعله نبيا وأيده بكل هذه المواهب الإعجازية ؟ إن القوم إنما يصدرون هنا عن الفكر الوثنى ، إذ يتصورون أن هناك إلها آخر يمكن أن يرسل نبيا من لدنه على غير هوى الله فيرفض الله من ثم أن يعترف بنبوته . وفى أول " سورة العطاء " نطالع الآتى : " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا ، لقد قيل لكم : النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ... " ، ليعود الإله الغافل فى الفقرة السادسة فيقول بخصوص هذه الآية نفسها : " ورحتم تُضِلّون المهتدين وتفترون علينا الكذب إنه لا يفلح المفترون ". والآن أيدرى القارئ الكريم من أين أتى القرآن بعبارة " النفس بالنفس ... إلخ " ؟ إنها من التوراة ، ونص القرآن هو : " وكتبنا عليهم فيها ( أى على بنى إسرائيل فى التوراة ) أن النفسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعيِن ، والأنفَ بالأنفِ ، والأذنَ بالأذنِ ، والسنَّ بالسنِّ ... " ( المائدة / 45 ) ، ولا أحد فى اليهودية أو النصرانية إلا ويؤمن بأن التوراة هى من عند الله . والقرآن لم يقل شيئا آخر غير هذا ، فما معنى كل ذلك ؟ معناه ببساطة أن الإله الذى أوحى هذا الكتاب المسمى بـ " الضلال المبين " هو إله لا عقل لديه ولا ذاكرة ! وقد بلغ به فقدان العقل والذاكرة أَنْ وصف هذا التشريع بأنه " حكم الجاهلية " ، فضلا عن أنه لم يحسن نقل الآية كالعادة كما لا بد أن القراء قد لاحظوا ، إذ نَسِىَ ثلاث جمل كاملة هى : " والعَيْنَ بالعين ، والأَنْفَ بالأنف ، والأُذُنَ بالأُذُنِ " ، وهكذا ينبغى أن يكون الإله والوحى الإلهى ، وإلا فلا . تصوَّروا! تصوروا أن يعيب إلهٌ شريعته التى أنزلها فى كتاب لـه أرسل به رسولا من رسله أولى العزم هو موسى عليه السلام بأنها " حكم الجاهلية " ؟ جاء ذلك فيما يسمَّى : " سورة الحكم " ، ونص كلام هذا الهَرِم الفاقد الذاكرة كما جاء فى الفقرة العاشرة من السورة المذكورة هو : " أَفَحُكْمَ الجاهلية تبتغون بأن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن إنْ هو إلا سُنَّة الأولين وقد خَلَتْ شِرْعة الغابرين " . ثم يمضى الإله المسكين فى تخبطاته بصورة تدعو إلى الرثاء قائلا فى الفقرة التى تلى ذلك مباشرة : " فلا تنتقموا وتَصَدَّقوا به فهو كفارة لكم إن كنتم مؤمنين " ، جاهلا فى غمرة نسيانه وخَرَفه أن هذا هو ما يقوله القرآن الكريم فى آية سورة " المائدة " التى سبق الاستشهاد بها قبل قليل ، مع فارق مهم هو أن القرآن لا يوجب هذا كما يريد منا مزيفو كتاب " الضلال " بل يكتفى بالحث عليه لمن أراد أن يحرز أجرا عند الله ينفعه يوم القيامة ، وهو ما يتمشى مع أوضاع المجتمعات البشرية التى لا تستطيع أن تُمْضِىَ أمرها دون محاكم وعقوبات ، وإلا لفسد الأمر وعاث المجرمون من أمثال هؤلاء الملفقين بغيا ونهبا وتقتيلا ، إذ ما الذى يردع المجرم عن عدوانه وغَيّه لو أُلْغِيَت العقوبات ؟ إن هذا ما يتمناه كل مجرم لـه فى الإجرام تاريخ عريق . أما المبالغة فى الأمر بالتسامح والتظاهر به وتصوُّر أن البشر قادرون عليه فى كل الأحوال فهو نفاق رخيص . وليست العبرة بمثل هذه المبالغة ، بل العبرة أن يكون هناك تشريع يحقق العدل ويأخذ لكل ذى حق حقه مع دعوة الناس إلى الصفح ما أمكن ، وهو ما فعله القرآن . أما الكلام الساذج عن إدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن فهو سذاجة بل بلاهة بل تنطع . وأتحداكم أن تأتوا لى بمن يدعو إلى هذا لأصفعه وأرى ماذا سيفعل ! إنه ما من دولة نصرانية تخلو من المحاكم والعقوبات والسجون ... إلخ مما هو موجود فى كل البلاد ! بل إن الله نفسه يعاقب الأشرار فى الدنيا والآخرة . وعلى اعتقادكم فإنه سبحانه لم يسامح البشرَ إلا بعد أن عاقب ابنه عقابا لم نسمع أن أبا طبيعيا عاقبه ابنه ، بله أن يكون هذا الابن ابنًا بريئًا بارًّا لم يرتكب ذنبا فى حق أحد ! ترى لماذا لم يجر الله على سنة التسامح التى تدعون إليها وتظنون أنكم تتفوقون بها علينا ، مع أننا، مهما صدقنا ادعاءاتكم فينا، لم نقترف عشر معشار ما اقترفتموه فى حقنا وفى حق الآخرين من جرائم وفظاعات وحشية ؟ فلماذا التساخف إذن لمكايدة المسلمين ؟ أما إذا كان الأمر مجرد تنطُّع للمباهاة والسلام ، فإنى على استعداد لعظة الأوباش بألا يكتفوا بإدارة الخد الأيسر لمن يصفعهم على الأيمن بل لا بد من إدارة القفا أيضا ليتلقَّوْا عليه ما لذ وطاب من الضرب واللَّطْس ثم إدارة الأرداف كذلك للاستمتاع ببعض الركلات ، مع كم لكمةً من اللكمات المنتقاة وكم بَصْقَةً من البَصْق الذى يعجبك كى يكون أجرهم عند الله عظيما فى ملكوت السماوات ! وسلِّم لى على التسامح . لو أنكم كنتم صادقين فى هذه المثالية المتنطعة ، فلماذا لا تنسَوْن ما تدَّعون أننا آذيناكم به ولا تزالون حتى الآن تتخذونه ذريعة لسحقنا وسحق أية محاولة منا للنهوض من تخلفنا؟ هذا ، ولم ندخل بعد فى حكاية " من أخذ منك رداءك فأعطه أيضا إزارك " ، وامش بعد ذلك " بلبوصا " تستعرض على الناس فى الشوارع والمجامع سوأتك وأعضاءك التناسلية والإخراجية ، ثم تعال فقابلنى يوم القيامة ! لقد كان من الممكن أن يجوز علينا هذا الكلام لو أننا لم نَخْبُرْكم ونَخْبُر سلوككم وأخلاقكم ! أمّا ، وقد عرفناكم وكان ماضيكم معنا على مدى قرون زفتًا وقَطِرانا ، فكيف يدور فى وهمكم أننا يمكن أن نصدق حرفا مما تقولون ؟ وعلى كل حال فهذا هو نَصّ سورة " المائدة " الذى سلف الحديث عنه قبل قليل : " فمن تصدَّقَ به فهو كفّارة لـه ". أستغفر الله العظيم! رضينا بالله ربًّا، وبالإسلا م دينًا ، وبمحمد نبيًّا ورسولا ، وتبرَّأْنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام !
ليس ذلك فقط ، فالواقع أن هذا الإله إلهٌ هجّاصٌ أيضا . ذلك أنه يزعم أنه قد أيّد هذا " الضلال المبين " بالمعجزات حسبما جاء فى الفقرتين الرابعة والخامسة من " سورة المعجزات " . فأين تلك المعجزات يا ترى ؟ أفتونى بعلم أيها العقلاء ! إن النبى الكذاب الضَّلاِلىّ صاحب هذا الكتاب لم يجرؤ على الظهور للناس الذين يزعم أنه أُرسل إليهم ، فكيف يمكن أن يكون قد أتى بمعجزات أراناها فصدّقْنا به وبها ، ونحن لم نتشرف أصلا بطلعته الغبية ؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو فقد عقله وأرانا خلقته فليس لـه عندنا إلا البراطيش ننهال بها على وجهه السمج حتى تتورم خدود العِلْج الزنيم فى عَلْقَة لم يأكل مثلَها حمارٌ فى مَطْلع أو حرامىٌّ فى جامع !
وفى تلك السورة نفسها نقرأ هذا الكلام العجيب الذى لا يمكن أن يصدر عن أمّىّ ، بله رب العالمين الذى خلق العقل والبيان ، فلا يُعْقَل من ثم أن يَتَدَهْدَى لهذا الدَّرْك الأسفل من العِىّ والفَهَاهة واللامنطق ، إذ جاء فى الفقرة الثامنة منها وصفًا لـ " الضلال المبين " الذى يسمونه كذبًا ومَيْنًا بـ " الفرقان الحق " : " صِنْو الإنجيل ورَجْع الصَّدَى وبيان للناس كافة وتذكرة للكافرين ونور ورحمة وبشير ونذير وهدى للضالين لعلهم يتذكرون ويهتدون ". ترى كيف يكون بشيرا للضالين ؟ إن البشارة إنما تكون للمهتدين لا للضالين . لكن من أين يأتى لمخترع هذا " الضلالِ " المنطقُ والبيانُ " وقد طمس الله على بصيرة المزيِّف الدجال ؟ ثم إنه ، بسلامته ، قد حسم الأمر بالنسبة لنا نحن المسلمين ورمانا ، فى الفقرة الثالثة من " سورة المنافقين " ، فى سَقَر ، إذ قال : " وأوردكم جهنم جميعا وإنْ منكم إلا واردها وكان عليه أمرا مقضيا " ، كما أنه يقول فى الفقرة السادسة منها عنا : " وطبع الشيطان على قلوبكم وسمعكم وأبصاركم فأنتم قوم لا تفقهون . لا جَرَمَ أنكم فى الآخرة أنتم الخاسرون " . فكيف يجىء بعد ذلك ويتكلم عن الهداية ؟ والعجيب أنه رغم هذا يعود فى هذه السورة ذاتها فى الفقرة الثامنة قائلا : " يُلْقِى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم يهتدون كلما أوقدوا نار الكفر أطفأناها ويسعَوْن فى الأرض فسادًا فوَيْلٌ للمفسدين " ، مشيرا إلى أنه سوف يأتى علينا يوم نهتدى فيه ، أى نتخلى عن توحيدنا لصالح التثليث الوثنى الذى نفض معظم الناس عندهم فى الغرب أيديهم منه . فكيف يريد هؤلاء المجانين منا أن نأكل ما رماه الغربيون فى صندوق القمامة منذ قرون ؟ إن المجرمين يتخبطون فى المصيدة التى ساقهم بغضهم وكيدهم لمحمد إليها غير مستطيعين التخلص من ورطتهم .
وتعالَوْا ننظر أيضا فى هذا الاضطراب العقلى الذى تعكسه الفقرة حيث نقرأ أننا نحن المسلمين كلما أوقدنا نار الكفر أطفأها الله سبحانه . فها نحن أولاء ، من وجهة نظر هذا الإله المخبول ، نشعل نار الكفر منذ أربعة عشر قرنا ، فلِمَ لَمْ يطفئها ؟ أم سيقال إن عمال المطافئ الذين يشتغلون عنده كانوا مضربين طوال هاتيك القرون عن العمل أو إن أمريكا ضاربةٌ من يومها على مملكته حصارا اقتصاديا يشمل قطع الغيار الخاصة بعربات المطافئ ، فلذلك لا يستطيع تشغيلها بل تقف فى مكانها لا تَرِيم كقطعة الخردة ؟ ثم إنه فى الآية الثالثة عشرة من نفس السورة يعود فيقول : " يا أيها الذين آمنوا من عبادنا ( المقصود هنا النصارى ، وربما اليهود أيضا ) إذا رُفِع لنا دعاء فإنه يستجاب لكم فيهم ولا يستجاب لهم فيكم فأنتم المقسطون وهم المبطلون " . وإننا لنسأل هؤلاء الأوغاد : لماذا ، بدلا من هذه الخَوْتَة ووجع الدماغ وتزييف الكتب الذى تشغلون أنفسكم به ، لا تَدْعُون أنتم وبقية المغفلين أمثالكم لنا بالهداية وتفضونها سيرة وتنصرفون إلى ما يصلح حالكم ، لا أصلح الله لكم حالا ما دمتم تصرون على الكفر والتآمر على عباد الله الموحدين تريدون أن ترجعوهم كفارا بعد أن أنعم الله عليهم بدين التوحيد؟ ألستم تقولون إن الله أوحى لكم هذا الهباب الذى تسمونه " الفرقان الحق " وأكد لكم فيه أن دعاءكم فينا مستجاب ؟ ألستم تريدون لنا أن نؤمن بتثليثكم ؟ بسيطة ! إن الأمر لا يحتاج لأكثر من دعوة ( أو دعوتين إذا لزم الأمر وكان إلهكم نائما نومة القيلولة مثلا أو كان مشغولا بملاعبة ابنه أو مداعبة زوجته ويحتاج من ثَمّ إلى مزيد من التنبيه ) ، وبعدها تجدوننا قد دخلنا فى دينكم وأصبحنا وثنيين مثلكم ، ويرتاح بالكم وتريحوننا من هذه الشتائم التى لا تأتى معنا بنتيجة ؟ صحيح : لم لا تفعلون ذلك ؟ ولكن لا تنسَوْا أن تعطونى الحلاوة إن وفقكم الله ، ولن يوفقكم أبدا لا فى الدنيا ولا فى الآخرة بمشيئته تعالى وحوله وقوته !
كذلك فهذا الإله الضالّ الُمضِلّ لا يستطيع تذكُّر الآيات القرآنية على وجهها الصحيح فتراه يخطئ فى الاستشهاد بها فى معظم الأحيان رغم حرصه على وضعها بين علامتَىْ تنصيص جريا على أسلوب الباحثين حين يريدون أن يؤكدوا أنهم قد نقلوا النص حرفيا: خذ مثلا قوله فى الاستشهاد ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة القتل " عندهم ، بالآية السابعة عشرة مــن ســورة " الأنفــال " : " ولَمْ تقتــلوهم ولكــن الله قتلـــهم "، مع أن بدايتها فى القرآن الكريم بالفاء لا بالواو . كما أنه فى أول " سورة الضالين " يستشهد بسورة " الصَّمَد " القرآنية على غير ما جاءت عليه فى القرآن ، إذ يقول بعد البسملة الوثنية : " وألبس الشيطانُ الباطلَ ثوبَ الحق وأضفى على الظلم جلباب العدل وقال لأوليائه : أنا ربكم الأحد لم أَلِد ولم أُولَد ولم يكن لى بينكم كُفُوًا أحد " . وليس هذا نَصَّ سورة "الصمد" كما نعرفها فى القرآن منذ أُنْزِلت على خير البرية . ثم ما الذى يغيظ أى إله فى قولنا عنه إنه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن لـه كفوا أحد ، اللهم إلا إذا كان إلها أحمق ؟ فلنتركه لحماقته يهنأ بها كما يحلو لـه هو ومن يرافئونه على هذا الجنون !
أما فيما يسمى : " سورة الطاغوت " فإنه ، عند مهاجمته لشريعة الجهاد التى يتهمها زورا بالعدوانية والظلم وتقتيل الأبرياء ، ينقل على نحو محرف ما جاء فى سورة " التوبة " من أن " الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون فى سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعدًا عليه حقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " ، إذ يقول : " وافترَوْا على لساننا الكذب : بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيلنا وعدا علينا حقا فى الإنجيل . ألا إن المفترين كاذبون ... " . وواضح أن الأفاكين قد أسقطوا عدة كلمات من الآية القرآنية الكريمة عمْدًا حتى لا يُضْطَّروا إلى الإقرار بأن فى التوراة أمرا ، لا بالقتال دفاعا عن النفس والعِرْض فقط كما فى الإسلام ، بل بالقتل بدافع الكراهية للأمم الأخرى وإبادتها لمجرد الإبادة . وهو ما يعضد قول من قال إن هذا " الضلال المبين " هو ثمرة التعاون الأثيم بين الصهيونية والصليبية ، فلذلك يعملون على إظهار اليهود فى صورة المسالم البرىء. والنص الصحيح لآية سورة التوبة هو : " وَعْدًا عليه حَقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " . ولم يقتصر الأمر فى السورة على هذا الخطإ ، بل هناك خطأ آخر فى الفقرة العاشرة حيث أوردوا فى وحيهم الشيطانى الآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " التى تبدأ بقوله تعالى : " فلَمْ تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم " على النحو التالى : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم " .
كذلك نجد فى "سورة النسخ " خطأ آخر من ذات النوع ، إذ يقول إلههم المسطول فى الفقرة الثانية عشرة : " وإذا قيل : " هو قولٌ افتراه ( أى الرسول ) " قلتم : " فَأْتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مثله مفتريات إن كنتم صادقين ". وتعليقا على هذا نقول : أوَّلا ليس فى القرآن عبارة " هو قول افتراه ". ثانيا : لم يتخذ ردُّ القرآن على دعوى الكفار بافتراء النبى للقرآن صيغةً واحدةً فى كل مرة ، بل كان يختلف من موضع إلى آخر . ثالثا: العبارة التى أوردها هذا الإله المائق المأفون لم ترد فى القرآن على هذا النحو ، بل نصها فى الآية الثالثة عشرة من سورة " هود " هو : " فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " . وفى " سورة الوعيد " نقرأ فى الفقرة الأولى قولهم : " يا أيها الذين ضلّوا من عبادنا ( والمقصود نحن المسلمين ورسولنا ) : لقد توعدتم عبادنا المؤمنين بلساننا افتراءً فقلتم : " يا أيها الذين أُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نزَّلْنا مصدِّقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها ونلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت لَعْنًا " ، مع أن النص القرآنى يقول : " أو نلعنهم " ( بـ " أو " لا بالواو ) ، كما أنه يخلو من المفعول المطلق : " لَعْنًا ". وفوق ذلك فإن هذه الآية موجهة إلى اليهود ، فما معنى تسميتهم فى " الضلال المبين " بـ " عبادنا المؤمنين " ، والنصارى يعدون اليهود كَفَرَةً كُفْرًا لا كفر بعده ولا قبله ؟ أترك المخابيل مع هذه المسألة وحدها يحاولون أن يجدوا لها حلا ، وهيهات ! وإلا لكانوا مكذِّبين بالمسيح وبالأناجيل . ولعل القارئ لم ينس أيضا ما نبّهْنا إليه قبل قليل من إسقاط هذا الإله الخَرِف للجمل الثلاث من آية سورة " المائدة " التى تتحدث عن القصاص فى التوراة . ونكتفى بهذه الأمثلة ، ومن يُرِدْ غيرها فليرجع بنفسه إلى هذه النصوص الكفرية المتهافتة السخيفة ! ومرة أخرى أرى أن هذا الإسقاط لبعض كلمات الآية القرآنية هو تعضيد لمن يقولون عن تزييف هذا " الضلال المبين " إنه نتيجة الجهود والمؤامرات المشتركة من جانب اليهود والنصارى فى أمريكا مع الاستعانة بطائفة من العرب الأرجاس الأنجاس !
والطريف المضحك أن كتاب " الضلال المبين " يدور كله من أوله لآخره على المسلمين ونبيهم والكتاب الذى أنزله الله عليه : لا يشتم غيرهم ، ولا يحاول أن يَخْتِل أحدا عن دينه سواهم ، ولا يترك شيئا أىّ شىء فى دينهم دون أن يسفِّهه ويُزْرِىَ به مناديا إياهم فى مفتتح كل سورة تقريبا من سور "ضلالهم المبين" بـ " يا أهل الجهل " أو " يا أهل الظلم من عبادنا " أو " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا " أو " يا أيها الذين أشركوا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المفترون من عبادنا الضالين " أو " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين "، وكأن الله سبحانه وتعالى لم تعد لـه شُغْلَة ولا مَشْغَلَة إلا المسلمون . ولكن لم يا ترى ؟ السبب هو أن المسلمين يوحّدونه ولا ينسبون لـه ولدا ، سبحانه ! ولأنهم يصلّون لـه وحده لا يشركون فى عبادتهم لـه أحدا من خلقه . باختصار : لأنهم لا يتبعون سُنّة الوثنيين فى أىٍّ من عقائدهم أو عباداتهم أو تشريعاتهم . فهذا التوحيد النقى المطلق هو الذى يغيظ ... يغيظ من ؟ لا ، لا يمكن أن يغيظ هذا الإيمانُ الناصعُ الصافى اللهَ سبحانه وتعالى بل إلها أحمق مغفَّلا كهؤلاء الذين يعبدونه وهم يحسبون ، بعقولهم الزَّنِخَة العَطِنة وقلوبهم السوداء العَفِنة ، أنهم يُحْسِنون صنعا! هذا إلهٌ متخلفٌ ينبغى أن يُعْهَد به إلى من يُفَهِّمه ويرشده ويُحَضِّره ويُبَصِّره بمصلحته وما يصحّ وما لا يصحّ فى حقه ، بالضبط كما يفعلون بأولياء العهد فى الدُّوَل الملكية ، إذ يُحْضِرون لهم فى صغرهم أساتذة يعلّمونهم فنون البروتوكول ، حتى إذا جاء عليهم الدَّوْر ليحكموا البلاد كانوا جاهزين لتولى أمور المُلْك ولم يكونوا عارا على بلادهم وأُسَرهم . ولكن يبدو أن هذا الإله لم يجد فى صباه من يأخذ بيده ويعلّمه مقتضيات الألوهية على وجهها الصحيح ، فلذلك نراه يفضّل أن يشرك به عبادُه على أن يُفْرِدوه بالألوهية ويخصّوه بالعبادة والدعاء والتمجيد ! إن هؤلاء الأغبياء ما زالوا سادرين فى أوهامهم التى كانت تجوز على المتخلفين فى العصور الوسطى والتى تخلصت منها أوربا عندما أذَّن فيها المؤذن ببزوغ فجر النهضة ، ناسين أننا الآن فى القرن الواحد والعشرين ! صحّ النوم يا أيها المتخلفون !
أو لم تجدوا فى طول الأرض وعرضها على رُحْبها واتساعها من يحتاج إلى الهداية إلا المسلمين ؟ أولم يأتكم نبأ عُبّاد البقر أو عُبّاد النار أو عُبّاد الشيطان أو الشيوعيين مثلا ؟ أَوَقَدْ نَسِيتم ما كنتم تقولونه فى اليهود الذين تتهمونهم بقتل ربكم ؟ ألا يحتاج أىٌّ من هؤلاء أن تُولُوه شيئا من هذا الحنان الزائف الذى تغدقونه علينا بالإكراه والذى تسمونه : " المحبة " ؟ فلنفترض أننا نحن المسلمين ضالون فعلا كما تزعمون كذبًا ومَيْنًا ، أليس ضلالنا هذا أنظف من ضلال هؤلاء الذين ذكرتُهم آنفا؟ إننا على الأقل نعبد الله ونوحّده ولا نشرك به شيئا ، فضلا عن أننا لم نقتل المسيح ولم نطعن أمه فى عِرْضها مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد ، بل نؤمن به نبيًّا من أنبياء الله ونحترمه ونكرّم أمه تكريما لا يكرِّمها إياه أحد من العالمين . فنحن إذن ، على أسوإ الفروض ، أفضل من غيرنا، فلماذا كل هذه البذاءة والسفالة والوقاحة مع رسولنا ومعنا دون الناس أجمعين ؟ ثم تقولون لنا بعد ذلك إن دينكم هو دين المحبة !
أية محبة تلك التى تسوِّل لكم التطاول علينا واتهامنا مع ذلك كله بأننا نحن المعتدون القاتلون اللصوص السارقون ، فى الوقت الذى تهجمون فيه على بلادنا وتدمرونها تدميرا ، وتقتّلون رجالنا ونساءنا وأطفالنا ، وتسرقون بترولنا ، وتحتلون بلادنا ، وتعذّبوننا وتهينوننا وتنتهكون أعراض نسائنا ، وتضربوننا بالقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج ... إلخ ؟ إن جنودكم اللوطيين ومجنَّداتكم السحاقيات يعتدون على إخواننا وأخواتنا فى السجون والمعتقلات فى أرض الرافدين ( وهذا مجرد مثال ) بكسر عظامهم ، وإبقائهم عرايا فى صَبَارَّة الشتاء مع غمر الزنازين بالماء الوسخ حتى لا يستطيع المساكين النوم ، وتسليط الكلاب المتوحشة عليهم تنهش خُصَاهم وغراميلهم فينزفون حتى الموت ، فضلا عن إكراههم للأب أن يمارس اللواط مع ابنه والعكس بالعكس ، واغتصاب النساء والفتيات العفيفات اللاتى يفضلن الموت بعد خروجهن من المعتقل على الحياة مع هذا العار ، طالبين منهم ومنهن أن يشتموا الله ورسوله ويرددوا أنهم يؤمنون بالصليب وبيسوع ابن الله ، قائلين إنهم جاؤوا إليهم يحملون رسالة المحبة ، وهم لم يحملوا إلا رسالة اللواط والسحاق والتعذيب والتقتيل والتدمير البربرى الذى لا يترك شيئا يمرّ عليه إلا جعله أنقاضًا وأحجارًا لا يُعْفِى من ذلك مدرسة ولا مصنعا ولا متحفا ولا بيتا ولا مسجدا ؟ أية محبة جئتمونا بها أيها الوحوش ؟ لعنة الله عليكم وعلى ما جئتمونا به ! اغربوا عن وجوهنا ، لا نريد أن نراكم ! أىّ جنون ذلك الذى طوّع لكم أننا يمكن أن نترك توحيدنا الطاهر العظيم وندخل معكم فى تثليثكم وتصليبكم ؟ فلتحتفظوا بهذه المحبة لأنفسكم بدلا من اللهاث وراء إضلال من هداهم الله وعافاهم من هذا الرجس وذلك البلاء ، والعياذ بالله ! لماذا لا توجهون دعوتكم هذه إلى من تركوا منكم دينهم واتخذوا الإلحاد دينا بديلا ، وهم الأغلبية الساحقة فيكم ؟ أنتم تقولون فى " ضلالكم المبين " إننا ذاهبون إلى الجحيم ! ماشٍ ، فلتريحوا إذن أنفسكم ولتوفروا جهودكم وأموالكم وأوقاتكم ، ولتنصرفوا عنا ما دام الأمل فينا مقطوعا. أليس هذا ما يقول به العقل يا من عدمتم العقل ؟
والآن إلى بعض ما يقوله هؤلاء الأوساخ فينا وفى رسولنا وديننا عقيدةً وعبادةً وتشريعًا : " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين : أَنَّى تشهدون بما لم تشهدوا وترددون ما لا تفقهون . لقد شهدتم إفكا وقلتم بَهْتًا ونُكْرا * وبلَّغتم الناس ما ليس لكم به علم . وأنفذتم جاهليتكم على الراسخين فى العلم والدين القويم فأثقلتم كواهلهم وزرا * وشُبِّه لكم الحق فما فهمتم للتجسد معنى وما فهمتم للبنوة مغزى وما أدركتم للفداء مرمى وما علمتم من أمور الروح أمرا * وعلَّم الأميين أمِّىٌّ كافر فزادهم جهلا وكفرا * وأخرجهم من النور إلى الظلمات وأضلهم قسرا " ( الشهادة/ 1- 6 ) ، " إن الذين يُقِيمون الصلاة فى زوايا الشوارع والمساجد رياءً كى يشهدهم الناس ذلكم هم المنافقون وهم فى الحقيقة لا يُصَلّون * فمن نوى أن يصلى فليدخل داره وليغلق بابه ويصلِّ خفيةً نجزيه علانية بعين العالمين * تكررون الكلام لغوا كعَبَدَة أوثان تظنون أنكم بالتكرار تُسْتَجَابون * إننا نعلم سُؤْلكم قبلما تَسْألون * وترددون الدعاء طمعًا بدخول الجنة فلن تُفْتَح أبواب الجنة للمنافقين . أما الذين يعملون بمشيئتنا فهم الذين يدخلون " ( الصلاة / 3 – 7 ) ، " يا أيها المنافقون من عبادنا : إن صيامكم غير مقبول لدينا وغير ممنون * فما كان الصوم تضوُّرًا لأجَلٍ معلوم * تتخمون صُوَّما أكثر منكم مفاطر وكالأنعام تَطْعَمون * ترهقون أجسادكم ونفوسكم نهما فكأنكم ما طَعِمْتم من قبل ولن تكونوا من بعد طاعمين * وتأكلون السنة فى شهرٍ جشعا لضَعَتكم وتضوُّركم فخيرٌ لكم ألا تصوموا فإنه لا أجر للضعاء والمتضورين * وتكلِّحون وجوهكم وتصعِّرون خدودكم للناس لتَظْهَروا صائمين إنما يفعل ذلك القوم المنافقون " ( الصيام / 3 - 8 ) ، " يا أهل العدوان من عبادنا الضالين : تسفكون دماء البهائم أضحيات تبتغون مغفرة ورحمة من لدُنّا عما اقترفت أيديكم من قتل وزنى وإثم وعدوان * إنما أضحية الحق قلبٌ طهيرٌ يتفجر رحمة ومحبة وسلاما لعبادنا ورفقا بالبهائم فلن ينالنا لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالنا تقوى المتقين " ( الأضحى/ 7 – 8 ) ، " وهبط الذين اتبعوا الطاغوت إلى دركٍ سحيقٍ فاشْتَرَوُا الحربَ بالسلام والسلبَ بالإحسان والزنى بالعفة والكفرَ بالإيمان فخسرت تجارتهم وكسبوا عذابا وبيلا * واقترفوا الفحشاء والمنكر والبغى سعيًا وراء جنة الزنى يوعَدونها وَعْدًا غَرورًا وثوابًا إفكًا من الشيطان ، ألا بُعْدًا لجَنّة الكافرين وتَعْسًا لمن بها يُوعَدون * وافترَوْا على لساننا الكذب : " بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الحنة يقاتلون فى سبيلنا وعدًا علينا حَقًّا فى الإنجيل " . ألا إن المفترين كاذبون . فإنا لا نشترى نفوس المجرمين إنما اشتراها الشيطان اللعين * وأشركونا فى عصبة تقتل وتسلب عبادنا وفرضوا لنا فى خمس ما يغنم الغزاة المجرمون * وبرّأهم المنافقون فقالوا : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم ". ألا إنا لا نقتل عيالنا لنغنم مع القتلة والمعتدين " ( الطاغوت / 6 – 1 ) ، " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين : لقد جعلتم من جناتنا مواخر للزناة ومغاور للقتلة ومخادع رِجْس للزانيات ونُزُل دعارة للسُّكارَى والمجرمين " ( الكبائر / 1 ) ... إلخ .
ومن الواضح أن مَثَلهم حين يتظاهرون بالعيب على دين رب العالمين كَمَثَل المومس التى لا يعجبها عفة الحرائر الشريفات فتذهب تعيبهن قائلةً فى تباهٍ وتشامخٍ كاذبٍ داعرٍ إنها عشيقة لفلان وفلان من أكابر القوم وليست زوجة لرجل لا هو صاحب شهرة ولا ذو منصب كبير من السفلة المجرمين ! ماذا فى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والصلاة والصيام ؟ وماذا فى الصلاة فى المساجد بحيث يُزْرِى عليها الكَفَرَة المارقون ؟ ألا يصلون فى الكنائس ؟ أكل من صلى منهم يذهب إلى مخدعه فيصلِّى؟ إن الصلاة فى الإسلام تجوز فى أى مكان : فى الشارع ، وفى الحقل ، وفى المصنع ، وفى ميدان القتال ، وفى السَّفَر ، وفى الحَضَر... ذلك أن الله سبحانه فى كل مكان ، ولا بد من عبادته فى كل حين ، وإلا فلو انتظر الإنسان حتى يعود إلى كِسْر داره ويدخل مخدعه فلن يصلى ركعة واحدة إن شاء الله ، وهذا ما حدث فى بلادكم ، حيث لا تذكرون الله إلا كل أسبوعٍ مـرة . وهذا بالنسبة للعجائز وأمثالهم ، أما الشبان والشابات فإنهم لم يعودوا يعبدون الله ولا مرة كل مائة عـام ، فقَسَتْ قلوبهم ، فبئس الاقتراح اللعين من القوم الملاعين ! والعبرة فى كل حال بإخلاص النية وتطهير القلب من الرياء ، أما اتهام الآخرين بالنفاق زورا وبهتانا عاطلا مع باطل ، واحتقار عبادة الموحدين وإظهار التنطُّس والاشمئزاز منها ، فهو بعينه الكِبْر وجمود القلب الذى أَصْلَى المسيحُ عليه السلام اليهودَ بسببه قوارصَ الكلمات وقوارضَ اللعنات ! ثم ماذا فى الصيام ؟ أليس فى دينكم صيام أيضا ؟ وماذا فى الأضاحى ؟ إنكم تُظْهِرون الشفقة عليها ، فهل نفهم من هذا أنكم لا تذبحون الحيوانات ولا تتسمَّمون بها ؟ وهل يكره الله من عباده أن يُطْعِموا من أضاحيهم الفقراء والمساكين ؟ فأين المحبة والرحمة التى تصدِّعون رؤوسنا بها ليل نهار ؟ أم إن اللحم لا يصلح إلا إذا كان من جسد المسيح تأكلونه كما يفعل الوثنيون ؟ كيف يا إلهى يأكل الإنسان جسد ربه ويشرب دمه ؟ ومن غبائكم وجهلكم تسمّونه " الخروف " كما أفهمكم يوحنا فى هلاويسه ( رؤيا / 5 / 6 فصاعدا . وفى إنجيل يوحنا أنه " حَمَل " / 1 / 29 ، 36 ) ، فيا لكم من خرفان غبية بليدة تسمِّى ربَّها خروفا يا أكلة الخنزير الذى حرّمته السماء وحلّله لكم ، تقرُّبًا إلى الوثنيين ، بولس اللعين ( كورنتوس 1 / 6 / 12– 13 ، 9 / 19 – 29 ، وكولُسِّى/ 2 كله ) ، ومهّد لـه الطريقَ قبلا بطرسُ ذو العقل الثخين ( أعمال الرسل / 9 – 16، و 11/ 2 – 10 ) ، والذى يجعلكم تبغضوننا وتحقدون علينا إلى يوم الدين ! إننا حين نذبح الأضاحى إنما نذبحها ليَطْعَم معنا منها المحتاجون والجائعون لا ليتمتع برائحتها الله رب العالمين ، وكأنه إله من آلهة الوثنيين حسبما صورتموه فى " الكتاب المقدس " لديكم ، ولذلك تُتْرَك فلا يأكل منها أحد. وهذا معنى قوله تعالى : " لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، ولكنْ يناله التقوى منكم " ( الحج / 37 ) ، الذى سرقتموه كعادتكم ونقلتموه إلى " ضلالكم المبين " دون فهم كالحمار الذى يجلس إلى مكتب ويمسك كتابا بحوافره يظن أنه بذلك سيكون من الآدميين الذين يفهمون ، ثم جئتم تَشْغَبون به علينا فى عنادٍ حَرُون . وهذه أول مرة أسمع بإله يضيق صدره بإطعام الفقراء والمساكين . أىّ إله هذا يا ترى ؟ ومن أية جِبِلَّةٍ جُعِل ؟ هذا إلهٌ قاسٍ غليظ القلب والوجدان ، نعوذ بالله منه وممن صنعوه وعبدوه !
على أن ثمة شيئا خطيرا فات هؤلاء الأوغاد ، ألا وهو أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد كتابه لمريم عليها السلام بالعفة ، فهل من العقل أن يأتى إنسان إلى الشاهد الوحيد الذى يملكه فيسبّه ويتطاول ويتسافه عليه ويكذِّبه ويفترى ضدَّه الأكاذيب ؟ إن ذلك لهو الحماقة بل هو الجنون بعينه ، فضلا عما فيه من قلة أدب ووغادة ! ومعروف ما يقوله ، عن عيسى وأمه ، اليهود الذين يضع الأوغاد الآن أيديهم فى أيديهم ليكونوا علينا إِلْبًا واحدا . إنه عندهم ابن سِفَاح ، وكانوا يعرّضون به قائلين فى وجهه : " لسنا مولودين من زِنًى " ( يوحنا / 8 / 42 ). وبطبيعة الحال لا يمكن إبطال هذه التهمة بأدلة قانونية ، إذ المعروف أن المرأة لا تحمل ولا تلد إلا إذا اتصلت برجل : عن طريق الزواج أو من خلال علاقة غير شرعية . ولم تكن مريم قد تزوجت بعد ، فلم يبق أمام الناس إلا الباب الثانى ، اللهم إلا إذا ثبت بدليل غير عادى أنها لم تَزْنِ ، وأين هذا الدليل إلا فى القرآن الكريم ، الذى يتطاول عليه بَغْيًا وعَدْوًا أغبى من عرفت الأرض من المخلوقات ؟ لقد ذكر المولى فى كتابه أن جبريل عليه السلام قد أتاها رسولا من الله ونفخ فى جيبها فحملت بعيسى . لكن أحدا لم يَرَ جبريلَ وهو يفعل ذلك ، فلم يبق إذن إلا تبرئة القرآن الكريم لها ، فضلا عما حكاه عن كلام عيسى فى المهد دليلا على عفتها! والغريب أن هذا الدليل الذى يقول به القرآن لتبرئة مريم غير موجود فى الأناجيل الموجودة فى أيدى النصارى ! فما معنى هذا ؟ معناه أن هؤلاء الحمقى المغفلين يتركون الدنيا كلها ويتفرغون للتطاول والتباذُؤ والتسافُه وإقلال الأدب والحياء على المسلمين ، الذين يمثلون المخرج الوحيد لهؤلاء البهائم من ورطتهم ! وهذا دليل على الخبال الذى هم فيه ، وهو أمر طبيعى جدا ، إذ ما الذى ننتظره لمثل هؤلاء الأباليس ؟ أننتظر أن يوفقهم الله جزاء كفرهم وبغيهم على رسوله والكتاب الذى أنزله عليه نورًا للعيون وهُدًى للقلوب ؟
ولم يكن اليهود هم الوحيدين الذين ينسبون عيسى عليه السلام إلى أب من البشر ، بل كان الناس جميعا يقولون إن أباه هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى ، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة ! لقد كتب يوحنا فى إنجيله ( 1 / 5 ) أن الناس كانت تسميه " ابن يوسف " ، وهو نفس ما قاله متى ( 1 / 55 ) ولوقا ( 3 / 23 ، و 4 / 22 ) ، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم . بل إن لوقا نفسه ( 2 / 27 ، 33 ، 41 ، 42 ) قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما " أبواه " أو " أبوه وأمه ". كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه ( لوقا / 2 / 48 ). ليس ذلك فحسب ، بل إن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم ، وهو إنجيل متى ، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ( " رجل مريم " كما سماه مؤلف هذا الإنجيل ) ثم تتوقف عنده . فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة ...؟ لقد توقعتُ ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى ، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس لـه أب من البشر ، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا ، فعرفت أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا . ثم إنهم بعد ذلك ، ويا للغرابة ، يجدون فى أنفسهم النَّتِنة الجرأةَ على التَّسَافُه على رب العالمين وإيذاء رسوله الكريم فى صحائفَ ملفقة زاعمين أنها وحى من لدن رب العالمين ، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يجد فى كونه الواسع العريض غير المآبين الموكوسين ليتخذ منهم أنبياءه وينزّل عليهم وحيه الشريف !
لكن خيبة هؤلاء السفهاء لا تنتهى عند هذا الحد ، إذ هم يُصِرّون على أنه عليه السلام قد صُلِب ، ويخطِّئون القرآن لنفيه واقعة الصَّلْب ، بل يكفّروننا نحن ورسولنا لهذا السبب ، مع أنهم لو عقلوا لقبلوا أيديهم ظهرًا لبطن ، ثم عادوا فقبلوها بطنًا لظهر ... وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية . لماذا ؟ لأن العهد العتيق الذى لا يصح لهم إيمان إلا به يؤكد أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون من الله ( تثنية الاشتراع / 21 / 22 ) ، وعيسى ، بنَصّ ما جاء فى " أعمال الرسل " ، قد عُلِّق على خشبة ( 5 / 30 ، و10 / 39 ) ، أى صُلِب . ولقد شعر اللعين بولس بالوكسة التى وقع فيها محرِّفو الأناجيل ومزيِّفوها حين قالوا بصلبه عليه السلام فأقرّ ، فى رسالته إلى أهل غلاطية ( 3 / 13 ) ، باللعنة التى وقعت على رأس المسيح بتعليقه على الخشبة ، بَيْدَ أنه سارع إلى لىّ الكلام عن معناه مدَّعِيًا أن تحمُّل ذلك النبى الكريم للّعنة إنما كان من أجل البشر. وبطبيعة الحال هو لم يقل عنه إنه نبى بل إله ! إذن فهم أنفسهم يقرون بأن إلههم ملعون ، وهذا يكفينا ، ولا يهم بعد ذلك أن نعرف السبب الذى صار ملعونا لأجله ، فهو لا يقدم فى الأمر ولا يؤخر! أليس من العار أن يعتقد إنسان أن الرب الذى يؤمن به ويعبده ويبتهل إليه ويطلب منه البركة والخير هو نفسه ملعون ؟ فكيف يطلب منه إذن ما لا يملكه بل ما يحتاج من غيره أن يوفّره لـه ؟ على رأى المثل : جئتك يا عبد المعين تُعِيننى ، فإذا بك يا عبد المعين تُعَان ! والله إنها لمهزلة ! إنها أول مرة يسمع الواحد فيها بإله ملعون ! ولكن لم لا ، وقد جعلوه خروفا ، كما روَوْا فى أناجيلهم المزيَّفة أنه قد مات على الصليب بعد أن أُهين وضُرِب وشُتِم وبُصِق عليه ووُضِع الشوك على رأسه وسُخِر منه وسُمِّرَت يداه ورجلاه فى الخشب وطُعِن فى خاصرته بالرمح وجعلوا من لا يشترى يتفرّج ، وهو فى حال من العجز تامة لا يستطيع أن يصنع هو ولا أبوه شيئا رغم الآلام التى كانت تعذّبه والصرخات التى كان يرسلها فى الفضاء فى مسامع ذلك الأب القاسى الغبى ؟ أما نحن المسلمين فإننا نرفض الصَّلْب أصلا من جذوره ، ومن ثَمَّ فلا لعنة ولا يحزنون ! وبهذا يتبين للقراء البؤس العقلى الضارب بأطنابه على أولئك الطَّغَام الذين يزعمون أنهم أَتَوْا لهدايتنا ، وهم أضلّ خلق الله ! أترى أحدا قد سمع بمثل هذا البؤس من قبل ؟ ألم أقل إن من يغضب الله عليه لا يفلح أبدا ؟
ومع العَمَى الحَيْسِىّ الذى يسدّ السبيل على هؤلاء الأغبياء نمضى ، فماذا نجد ؟ لقد وردت ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة الزنى " فى " ضلالهم المبين " ، الكلمة التالية : " ووصينا عبادنا ألا يحلفوا باسمنا أبدا وجوابهم نَعَمْ أَوْ لا . فقلتم بأن من كان حالفا فليحلف باسم الإله أو يصمت . وهذا قول الكفرة المارقين " . وأول شىء نحب أن نقوله هو : ما علاقة الحلف بالله بالكفر ؟ وإذا لم نحلف بالله إذا أردنا أو أُرِيدَ منا أن نُطَمْئِن الآخرين فبأى شىء نحلف ؟ أنحلف بسيدى سِحْلِف ، الذى يأكل ويَحْلِف ؟ أنا لا أضحك ، ولكنى أحاول تجنب انفقاع مرارتى ! وطبعا مفهومٌ من الذى يقصده الأوباش بالكفرة المارقين ! إنه نبينا وسيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم . نعم سيدهم وتاج رؤوسهم ، وإن كانوا لا يستحقون شرف سيادته عليهم . إن الحَلِف موجود فى كل المجتمعات والعصور والديانات بما فيها شريعة موسى التى أكد المسيح ، حسبما تروى عنه الأناجيل ، أنه ما جاء لينقض أحكامها بل ليتمّمها والتى تنظّم عملية الحلف بتشريعات خاصة به جوازا ووجوبا وحرمة ( تكوين / 25 / 3 ، وخروج / 22 / 1، وعدد / 30 / 2 ). فمن أين جاءت المشكلة إذن ؟ إن المسيح فى نفس العبارة التى يؤكد فيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أى شريعة موسى ) بل ليتمّمه يسارع فى التو واللحظة بنقض كل ما أكده فى هذا الصدد قائلا إنه إذا كان قد قيل للقدماء كذا فإنه هو يغيّره إلى كذا . وكان من بين ما غَيَّرَ حُكْمَه القَسَمُ ، وهذا نَصّ ما قاله فى هذا الصدد : " قد سمعتم أيضا أنه قيل للأولين : لا تحنث بل أَوْفِ للرب بأقسامك ، أما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة : لا بالسماء لأنها عرش الله ، ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك الأعظم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء . ولكن ليكن كلامكم : " نَعَمْ نَعَمْ ، ولا لا " ، وما زاد على ذلك فهو من الشرير " ( متى / 5 / 33 – 37 ). وجاء فى "رسالة يعقوب " ( 5 / 12) : " يا إخوتى ، لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقَسَمٍ آخر، ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ، ولا لا ، لئلا تقعوا فى الدينونة ". وهذا كل ما هنالك . فهل فى هذا الكلام ما يفهم منه أن القسم كفر؟ بطبيعة الحال لا يوجد شىء من هذا لا من قريب ولا من بعيد.
هذه واحدة ، والثانية هى أن الله نفسه قد صدر عنه القَسَم حسبما روى لنا العهد الجديد نفسه ، فما القول إذن ؟ جاء على سبيل المثال فى " لوقا " ( 1 / 73 - 74 ) : " ... القَسَمَ الذى حلف ( الله ) لأبينا إبراهيم أن يُنْعِم علينا * بأن نَنْجُوَ من أيدى أعدائنا ... " ، ويقول كاتب " أعمال الرسل " ( 2 / 31 ) : " كان ( داود ) نبيا وعلم أن الله أقسم لـه بيمينٍ أن واحدا من نسل صلبه يجلس على عرشه ... ". بل إننا نقرأ فى " رسالة القديس بولس إلى العبرانيين " ( 6 / 13 – 17 ) : " لأن الله عند وعده لإبراهيم ، إذ لم يمكن أن يُقْسِم بما هو أعظم منه ، أقسم بنفسه * ... * وإنما الناس يُقْسِمون بما هو أعظم منهم وتنقضى كل مشاجرة بينهم بالقَسَم للتثبيت * فلذلك لمّا شاء الله أن يزيد وَرَثَة الموعد بيانا لعدم تحوُّل عزمه أقسم بنفسه " . وهذا ما قلناه قبل قليل ، فلماذا إذن التنطع الكاذب وقلة الأدب والسفاهة مع سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ؟ كذلك فالملاك ، بنص كلام يوحنا فى " رؤياه " ( 1 / 6 ) ، يقسم بالله " الحى إلى دهر الدهور خالق السماء وما فيها والأرض وما فيها والبحر وما فيه " . ليس ذلك فقط ، بل هذا هو بطرس ، خليفة السيد المسيح كما يقولون وأكبر حوارييه ومؤسس كنيسة روما ، يحلف كذبا ، فى آخر حياة سيده أمام الجمع الذى جاء للقبض عليه ، ثلاث مرات متتالية إنه لا يعرفه ولا علاقة لـه به قائلا : " إنى لا أعرف الرجل ! " ، رغم أن المسيح كان قد نبَّهه إلى أنه سينكره فى تلك الليلة ثلاثًا قبل أن يصيح الديك ، ومع ذلك وقع كالجردل فى الإثم الذى نبَّهه إليه نبيُّه! ( متى / 26 / 72 – 73 ، ومرقس / 14 / 71 ) مستحقا بأثرٍ رجعىٍّ وَسْم السيد المسيح لـه قبلا بأنه " شيطان " وأنه لا يفطن إلا لما للناس ولا يفطن لما لله ( مرقس / 8 / 32 ) . فماذا يقول الأوغاد فى هذه أيضا؟ ثم إننا نسألهم : ألا تحلفون كلكم فى حياتكم اليومية وفى المحاكم وعند ممارسة الأطباء منكم الطب وتَوَلِّى الحكّام حُكْم بلادهم ... إلخ ؟ ألا يُقْسِم النصارى فى كل لحظة أمامنا بـ " المسيح الحى " و" العذراء " و " الإنجيل " ؟
وبعد ، فهل يشجِّع الإسلام على القَسَم كما يوحى كلام هؤلاء المآبين فى " ضلالهم المبين " ؟ كلا على الإطلاق ، ففى القرآن نقرأ قوله تعالى : " ولا تجعلوا الله عُرْضَةً لأيمانكم " ( البقرة / 225 ) ، " واحفظوا أيمانكم " ( المائدة / 89 ) ، " ولا تُطِعْ كلَّ حَلاّف مَهِين " ( القلم / 10 ) ، وفى الحديث مثلا أن الحَلِف إذا كان مَنْفَقَةً للسلعة ، فهو َممْحَقَةٌ للبركة . إذن فما قاله هؤلاء الفجرة التافهون المتنطعون لا يعدو أن يكون زوبعة فى فنجان ! أما نَهْى الرسول عليه السلام الذى ذكره الأوغاد الفَجَرة فى سورتهم المفتراة المزيَّفة عن الحَلِف بالآباء وأَمْره عليه السلام لمن يريد الحَلِف أن يحلف بالله بدلا من ذلك أو فلْيصمت ، فمعناه بكل وضوح لمن يريد أن يعرف الحقيقة لا مجرد الشَّغَب على سيد المرسلين هو محاربة العصبية القبلية التى كانت متفشية بين العرب أوانذاك وما يرتبط بها من التعظُّم بالآباء والأحساب والأنساب ، فأراد الرسول الكريم أن يبين لهم أن البشر جميعا هم خلق الله وعياله وأنه لا فضل لأحد على أحد بنسب أو حسب ، وأن توجُّه المؤمن ينبغى أن يكون لله وحده بوصفه عبدا لـه ينبغى أن يكون دائما على ذكْرٍ منه . وهذا هو المعنى الذى أراده الرسول عليه السلام ، وهو معنى إنسانى عظيم لمن لم يطمس الله على بصيرته ويريد أن يفهم . وبداية الحديث وختامه يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبِّذ الحَلِف ، وهذا واضح من استخدام جملة الشرط ، التى تعنى أنه إذا كان لا بد من الحَلِف فليكن باسم الله لا بأسماء الآباء التى من شأنها إحياء النوازع والنعرات الجاهلية لا أن الحلف فى ذاته مرغوب! ولنفترض أن المسيح قد نسخ حكم التوراة فى الأيمان ، فلم لا يكون من حق سيدنا رسول الله أن ينسخ بدوره ما قاله المسيح ؟ وأغلب الظن أن عيسى عليه السلام ، إن صحّ ما ترويه عنه الأناجيل فى هذا الصدد ، قد لاحظ كثرة لجوء اليهود إلى الحَلِف لأكل حقوق الناس بالباطل ، فأراد أن يضع حدا لهذه الظاهرة ، وإن كان فى عبارته ، كما هى العادة فى الكلام المنسوب إليه فى الأناجيل ، مغالاةٌ أراد أن يوازن بها مغالاة اليهود فى المسارعة إلى استغلال اسم الله فى خداع الآخرين ! فكلا النبيين الكريمين أراد أن يعالج ظاهرة نفسية وخلقية ذميمة رآها منتشرة بين معاصريه . وبالمناسبة فإنهم يعيبون محمدا عليه الصلاة والسلام بأنه أتى بالنسخ ويكفّرونه من أجل ذلك ( سورة الرعاة / 8 – 10 ) ، مع أن المسيح ، حسبما ورد فى الأناجيل كما رأينا ، هو الذى ابتكره رغم أنه أنكر أن يكون قد أتى لينقض الشريعة أو يَحُلّ الناموس ! وهكذا نرى أنه ما من شىء يقوله هؤلاء الأغبياء زورًا وبهتانًا إلا فضحهم الله فيه ! وبالمناسبة فعلماء الإسلام لا يقولون كلهم بوقوع النسخ فى القرآن .
وأخيرا نود أن نجلِّىَ جانبا من جوانب العبقرية الإسلامية فى مجال القَسَم ، فعلى عادة الإسلام نراه ينتهز هذه السانحة لاستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها من فوائد ، إذ يفرض كفارة على من يُقْسِم ثم يحنث بيمينه ، إذ يُوجِب عليه عتق أحد الأرقاء أو إطعام عشرة مساكين أو كساءهم ... وهَلُمَّ جَرًّا ، نافعا بذلك المجتمعَ ومساكينَه وفقراءه بأيسر سبيل . فانظر إلى هذه العبقرية الخلاقة التى تنجز أضخم الإنجازات بأقل الإمكانات ، بدلا من التوقف عند لطم الخدود وشق الجيوب على قلة الإمكانات وعدم الفرص كما يفعل كثير من العرب والمسلمين اليوم حتى فى ميدان الكرة كما هو معلوم . والنتيجة هى هذا التخلف الشامل الذى نعانى منه على كل المستويات وفى كل المجالات !
فهذا عن القَسَم ، ثم ننتقل إلى تعدد الزوجات ، الذى يعده أهل اللواط والسحاق زِنًى وإشراكا بالله ، فكأنهم يؤلهون المرأة ويعدّون من يأخذ معها زوجة أخرى مشركا . ولو أنهم قالوا إن الأفضل الاقتصار على زوجة واحدة ما لم تكن هناك ضرورة لما وجدوا من يخالفهم ، وهذا هو موقف الإسلام ، أما الزعم بأن الزواج بأكثر من واحدة هو زنى وشِرْكٌ فَجُنونٌ مُطْبِقٌ ليس لصاحبه موضع إلا فى مستشفيات الصحة العقلية والنفسية ! ألا يدرك هؤلاء الأغبياء أنهم بهذا يكفّرون أنبياءهم ويَقْرِفونهم بالفحشاء ؟ ألا يعرف هؤلاء المخابيل أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد ، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء ؟ ألا يعى هؤلاء المناكيد أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه ، الذى ينتمى إلى داود وسليمان ، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا ؟ لكنْ مَتَى كان عند أولئك البلهاء عقل يميّزون به ؟ ألا يذكر كتابهم المقدس " فوق البيعة " أن داود قد رأى زوجة قائده العسكرى أوريّا وهى تستحم عارية فى فناء بيتها المجاور لقصره حين صعد ذات يوم إلى سطح هذا القصر ( ولا أدرى لماذا ، إلا أن يكون من أولئك العَهَرة العرابيد الذين يتجسسون على نساء الجيران ، وبالذات اللاتى ليس فى بيوتهن حمّامات فيُضْطَرَرْن إلى الاستحمام عاريات فى فناء البيت " على عينك يا تاجر " ، وكأننا فى فلم من أفلام البورنو والإستربتيز ! ومن يدرى ؟ فربما كان معه منظار مقرِّب حتى تتم المتعة على أصولها ! ) . المهم أنها وقعت فى عينه وقلبه كما لا أحتاج أن أقول ، فأرسل فأحضرها وزنى بها ( بارك الله فيه ! ) ، ثم لم يكتف بهذا العمل الإجرامى الذى يليق تماما بجدّ الرب الذى يعبده هؤلاء المتاعيس المناحيس ، بل كلف رجاله فى ميدان المعركة أن يخلّصوه من الزوج المسكين بوضعه على خط التَّماسّ مع العدو فى قلب المعمعة ، ونجحت مؤامرته الخسيسة وقَتَل العدوُّ أوريّا ، فألحق داود زوجته بحريمه بعد أن تزوجها وبعد أن مرت أيام المناحة والحداد طبعا ( سفر الملوك الثانى / 16 كله ) . انظروا إلى حرصه الجميل على التقاليد! والله فيه الخير ! وبَتْشاَبَع هذه بالمناسبة هى أم سليمان النبى الملك ! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهذا النسب الملكى النبوى الإلهى الشريف ! أى أن نسب المسيح ، حسبما يقول كتابهم ، هو نسبٌ عريقٌ فى الفُحْش والإجرام . أما نحن فننزّهه عن ذلك تمام التنزيه لأن أنبياء الله لا يكونون إلا من ذؤابات قومهم شرفًا وفضلا ونبلا . ولعل هذا هو السبب فى أن السيد المسيح ، كما جاء فى " متى " ( 22 / 45 ) ، قد نفى أن يكون من ذرية داود ! والله معه حق ، فإن مثل هذا النسب لا يشرّف أحدا ، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق حرفا من هذه الحكايات وأمثالها مما سطرته أيدى اليهود الفَسَقة الفَجَرة لتشويه كل قيمة نبيلة وشريفة فى الحياة ! ثم هم بعد هذا يتهموننا نحن بالكفر والشرك والضلال ! عجبى ! لو كنت من أصحاب الأصوات الجميلة لفَقَعْتُ بالموّال وقلت : " خسيس قال للأصيل : ...! " ، لكنى للأسف لست حَسَن الصوت .
ومن المهازل التى لها صلة بقضية تعدد الزوجات نسبةُ كتابهم المقدس إلى الله أولادا من أمهات شتى ، فضلا بطبيعة الحال عن آدم ، الذى لم تكن لـه أم . ومن هذا الوادى تسمية العهد العتيق للرجال فى بدء الخليقة بـ " بَنِى الله " فى مقابل تسمية النساء بـ " بنات الناس " ( تكوين / 6 / 2 ) ، وقول الله لبنى إسرائيل : " أنتم بنو الرب إلهكم " ( تثنية الاشتراع / 14 / 1 )، وقوله سبحانه لداود : " أنت ابنى . أنا اليوم ولدتك " ( مزامير / 1 / 7 ) . ليس هذا فقط ، بل يجعله بِكْره ( مزامير / 88 / 27 ) ، ليعود بعد ذلك فيقول إن إبراهيم هو بكره ( إرميا / 31 / 9 ) ، ناسيا أنه قد جعل البكورية فى موضع سابق على هذين الموضعين لإسرائيل ( خروج / 4 / 2 )! يا لـه من إله مسكين ! إنه يذكِّرنا بخَرَاش الذى تكاثرت الظباء عليه فلم يعد يدرى من كثرتها ماذا يصيد منها وماذا يدع . لقد كثر أبناء الله حتى لم يعد يتذكر مَنِ البِكْر منهم ومن ليس كذلك ! معذور يا ناس ! كان " الله " فى عونه ! فإذا كان الإله ، كما يقول كتابهم ، لـه كل هؤلاء الأولاد الذين جاء بهم من أمهات شتى ، فمعنى هذا أنه هو أيضا كان من المعدّدين مثل من ذكرنا من الأنبياء السابقين ـ فكيف يجرؤون إذن أن يرموا المسلمين ورسولهم وحدهم بالكفر والزنى لنفس السبب ؟ أإلى هذا الحد ينغِّص حقدُكم على سيد الأنبياء والمرسلين ودينه النقى البرىء من الشرك والوثنيات حياتَكم ويخرجكم عن طوركم فلا تستطيعون تفكيرا ولا تحسنون تعبيرا ، بل يأخذكم البِرْسام فتَهْذُون وتَبْذُؤون متصورين أنكم تقدرون على تلطيخ صورته ؟ هيهات ثم هيهات ثم هيهات ... إلى آخر الهياهيت التى فى الدنيا جميعا ! ثم إنكم بعد ذلك لصائرون إلى المكان الذى يليق بأمثالكم ، وأنتم تعرفونه جيدا . ألا وهو مراحيض الغِسْلِين فى قاع سَقَر !
لقد كان التعدد هو شريعة الأنبياء إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم وابتدعوا أناجيل ما أنزل الله بها من سلطان ونسبوا للسيد المسيح ، عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة السلام ، أقوالا وتشريعات ينقض هو فى بعضها أحكام التوراة ويفسِّرون هم بعضها الآخر بما ينقض التوراة ، ثم جاء بولس الكذاب اللعين فبَرْجَلَ النصرانية وشَقْلَبَ حالها . لقد ابتدأ حياته فى النصرانية بكذبة بائسة مثله وابتلعها القوم بما يدل على خلوّ رؤوسهم من العقل ، وإلا فهل يصدّق أى شخص عنده مُسْكَة من هذا العقل أنــه ، عندما شاهد نورا فى السماء قبل تحوله إلى النصرانية مباشرة وسمع صوتا يسأله لماذا يضطهده ، كان سؤاله لهذا الصوت : من أنت يا رب ؟ ( أعمال الرسل / 9 / 3 – 5 ، و 26 / 14 - 15) . أأنا فى حُلْمٍ أم فى عِلْمٍ يا إلهى ؟ أهذا سؤال يُسْأَل ؟ إن هذا الكذاب قد أجاب فى السؤال على السؤال ، وإذن فما معنى السؤال ؟ لكننا لا ينبغى أن نطرح مثل هذا السؤال ، لأن الأباعد لا يدركون معنى لمثل هذا الجواب أو ذاك السؤال ، وإلا لكانوا قد تركوا النصرانية كلها بسبب بولس وما افتراه من جواب فى هيئة سؤال ! حلوة " من أنت يا رب ؟ " هذه ! دمّها مثل الشربات : شربات الطُّرْشِى ، بل شربات الفسيخ !
لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء كما قلنا ، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد ، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط ، بل فى الطلاق ! يقول متى ( 19 / 3 – 12 ) : " ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين : هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة ؟ * فأجابهم قائلا : أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال : * لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا ؟ * فليسا هما اثنين بعد ، ولكنهما جسدٌ واحد . وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان * فقالوا له : فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى ؟ * فقال لهم : إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم ، ولم يكن من البدء هكذا * وأنا أقول لكم : من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى * فقال له تلاميذه : إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ لـه ألا يتزوج * فقال لهم : ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم * لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم ، ومنهم من خصاهم الناس ، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات . فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل " . هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا . ومن الواضح أن عيسى عليه السلام ( إن صدّقنا أنه هو قائل هذا النص ) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد ، إذ كان الكلام كله عن الطلاق . وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج ، فهذا أيضا لا علاقة لـه بالتعدد من قريب أو بعيد . أما قوله : " ذكرًا وأنثى خلقهم " فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو ، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها ، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور ، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة ، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية . ولا ننس بالذات الحروب ، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء .
ثم جاء بولس ، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب ، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس ( 7 / 1 – 2 ) : " أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة * ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته ، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ لـه أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة ( تيموتاوس / 1 / 12 ). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية : فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى ، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى ، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها ، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف . ولو أن نصائح بولس الغبية هذه قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة ! إن هذه النصائح المجنونة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية ورجال الكنيسة إلى المرأة والجسد الإنسانى ، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء لـه بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل ( تكوين / 3 / 6 – 24 ) ، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا ، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط ، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد( الروم / 21 ) لا علاقة العداوة والبغضاء. ولقد كانت النتيجة ، وهنا وجه المفارقة ، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية . ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء . لكن من الممكن ، ومن المطلوب أيضا ، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن ، وهذا ما يفعله الإسلام . ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة ، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور . وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض ! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين ، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة .
وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة ، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان ؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى ، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة ، فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية ؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء ، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا ، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم ، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق مَثَله مثَل أى شىء آخر . ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة ؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط ، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء . وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام ، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية . فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما ، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط ؟ إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون ، لكنْ طلاقًا غير رسمى ، وهم يسمونه : " انفصالا " . وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين ، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة ، تحت ضغط الغرائز ، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام ، فلماذا كل هذا الإعنات ؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق ؟ إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله ، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى . ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا ، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية .
كذلك يسىء الأوغادُ الأدبَ مع سيدنا رسول الله ، إذ يتهمونه بالكفر والقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم . افترَوْا ذلك عليه فى أكثر من سورة من سورهم المزيفة الكاذبة التى أوحى بها الشيطان إليهم فى أدبارهم كـ " سورة القتل " و" سورة الماكرين " و" سورة الطاغوت " و" سورة المحرِّضين " و" سورة الملوك " ، زاعمين أن دينهم يقوم على المحبة والسلام ! وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح لم يمض عليه فى النبوة أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا ، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم . كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة ، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام ، وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد المسيح ، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا ، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم . فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا ، من مثل قوله لأحد اليهود : " يا مُرَائى " ( متى / 7 / 5 ) ، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته : " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم " ( متى / 7 / 6 ) ، وقوله لبعض الفَرّيسيّين : " يا أولاد الأفاعى " ( متى / 12 / 3 ) ، وقوله لأهل كورزين وصيدا : " الويل لك يا كورزين ! الويل لك يا بيت صيدا ! " ( متى /11 / 21 ، ولوقا / 10 / 13 ) ، وقوله لمن طلبوا منه آية : " إن الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية " ( متى / 12 / 38 ، و 16 / 4 ) ، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها : " ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب " ( متى/ 15 / 26 ) ، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه حسبما أشرنا من قبل : " اذهب خلفى يا شيطان " ( متى / 16 / 23 ، ومرقس / 8 / 33 ) ، وقوله لحوارييه : " أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون ؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء ؟ * لكم أعين ، أفلا تبصرون ؟ ولكم آذان ، أفلا تسمعون ولا تذكرون ؟ " ( مرقس/ 8 / 17 ) ، وقوله لبعض الفَرِّيسِيّين : " أيها الجهال ... ويل لكم أيها الفريسيون " ( لوقا / 11 / 39 – 50 ) ، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر : " هذا الثعلب " ( لوقا/ 13 / 32 ). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد ( مرقس/ 12 / 15 – 17 ) ، وكذلك قوله لحوارييه : " أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا * أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه ، والابنة عن أمها ، والكَنَّة عن حماتها " ( متى / 10 / 34 – 35 ) ، وقوله أيضا فى نفس المعنى : " إنى جئت لألقى على الأرض نارا ، وما أريد إلا اضطرامها " ( لوقا / 12 / 44 ) .
من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية ، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها . ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام ، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به ، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين ، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين ، وربما غير المجرمين أيضا، مع أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثا لا غير . بل إنهم ، فى سِيَره التى ألفوها وأطلقوا عليها : " الأناجيل " ، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام : من ذلك أنه ، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم ، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام ، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا : " إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها " ( لوقا / 8 / 19 – 20 ) ، وحين دعت لـه امرأة بأنْ " طُوبَى للبطن الذى حملك وللثديين اللذين رضعتهما " ردَّ فى جفاء : " بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها " ( لوقا / 11 / 27 – 28 ) . وليس لهذا من معنى ، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا ، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها ! وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل ، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك ، فأجابها فى غلظة : " ما لى ولك يا امرأة ؟ " ( يوحنا / 2 / 1- 3 ). إننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك ، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ ( مريم / 32 ) ، فكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته ! على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب ، بل إنهم ليصورونه ، عقب مقتل النبى يحيى ( الذى كان أبوه زكريا يكفل مريم عليها السلام ، والذى تعمّد هو على يديه فى نهر الأردن ) ، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر ، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل ، وكأن شيئا لم يقع ( متى/ 14 / 12 وما بعدها ، ومرقس / 6 / 28 وما بعدها ) ، وهو ما يدل على تحجر الإحساس ، أستغفر الله ! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع ، ورأى شجرة تين هناك ، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله ، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا ، فيبست التينة لوقتها ، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان ( متى / 21 / 19 وما بعدها ، ومرقس / 11 / 12 وما بعدها ) . وإن الإنسان ليتساءل : كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان ؟ وما ذنب التينة يا ترى ؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها ؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحلم والوداعة ؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة ، وخلاصته أن رجلا كانت لـه شجرة تين مغروسة فى كَرْمه ظلت لا تثمر ثلاث سنين ، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها ، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر ، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته ( لوقا / 13 / 6 – 9 ). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم . فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة ، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته ؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم ، عليه وعلى ابن مريم السلام ، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا ، وظل هكذا ، لا ثلاث سنوات فقط مثله ، بل ثلاثة وعشرين عاما !
أما فى المدينة فقد كانت هناك دولة ، ومن ثم كان لا بد أن تجد نفسها منغمسةً فى حروب عاجلا أو آجلا شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة . أما حكاية " من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر " فهذا كلام لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول ، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء ، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد ! ثم أين هذا الصنف الأبله من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة كيلا يشكو أحد الخدين من التفرقة بينه وبين أخيه ؟ أَرُونِى نصرانيا واحدا يفعل ذلك ! هذه تشنجات لفظية لا أكثر ! بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا ! حتى الصَّلْب ، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة ، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن ، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى . بل إنه ، وهو فوق الصليب ، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة . وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم !
وعلى كل حال فإن المقارنة بينه وبين الرسول لا تصح إلا على مستوى الحياة الفردية الشخصية ، أما على مستوى الحُكْم فلا ، لأن عيسى عليه السلام ، كما سبق أن وضّحت ، لم يعش بعد النبوة أكثر من ثلاثة أعوام ، ولم يتولَّ أى منصب إدارى ، فضلا عن أن يكون حاكما يرأس دولة ويدبِّر شؤونها ويمارس الحرب والسياسة ويشرّع للناس ويقضى بينهم كرسولنا الكريم . ترى هل يمكن أن تقوم دولة دون محاكم وقضاة وسجون ؟ وبالمناسبة فقد أخطأ الأغبياء هنا غلطة سخيفة سخافة عقولهم ، إذ ظنوا أن قوله تعالى لرسوله الكريم : " فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ( النساء / 59 ) يتناقض مع قوله جل شأنه : " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " ( الزمر/ 39 ) ، إذ يتساءلون : كيف يأمر الله رسوله فى موضع بالحكم بين الناس ، ثم يقول فى موضع آخر إن الله هو الذى يحكم بين العباد ؟ ومن هنا اتهموا الرسول بأنه قد نسخ بالآية الثانية ما سبق أن قاله فى الآية الأولى ، وسخروا منه وتطاولوا عليه ( سورة المشركين/ 5 – 6 ). وفات هؤلاء الأغبياء أن الحكم فى آية " النساء " هو الحكم فى خصومات الدنيا ، وهو من مهمة النبى عليه السلام ، بخلاف الحكم فى آية " الزمر " ، التى تتحدث عن الحساب الأخروى ، وهو من اختصاص الله لا يشاركه فيه أحد . فهذان موضوعان مختلفان تماما كما يرى القراء ، بيد أن البهائم لا يفهمون !
كلام السخفاء إذن فى تفضيل المسيح على النبى العربى هو كلام تافه لا قيمة لـه عند كل من لـه أدنى فهم للحياة والتاريخ والطبيعة البشرية والمجتمعات الإنسانية ! ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة ، فماذا نجد؟ لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما . وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد ، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا . ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم ورقاعتهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك . لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية : حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بكرة أبيهم تقريبا ، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر ، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه ! وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت ! ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب ، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية ، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا ، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله . والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة لا غير ، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى عند اللزوم من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو ... أو ... أو ... ! فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض ، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية ، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا! إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف ، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا .
ولا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة ، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد ، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان . وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم ، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب . وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة ، ودون شقشقة لفظية أيضا ، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن : " تحرُّج الضمير " ، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة . وفضلا عن هذا فإن المسلمين ، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة ، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية ، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم .
ومع ذلك كله يُبْدِئ الشياطين مزيفو " الضلال المبين " ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية : " وحَمَل الذين كفروا على عبادنا بالسيف فمنهم من استسلم للكفر خوفَ السيف والرَّدَى فآمن بالطاغوت مُكْرَهًا فسَلِم وضلَّ سبيلا * ومنهم من اشترى دين الحق بالجزية عن يدٍ صاغرًا ذليلا * ... * وزعمتم بأننا قلنا : قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون صُغْرا " ( سورة الجزية / 5 – 6 ، 12 ) . والملاحظ أن الشياطين يخلطون عن عمد بين القتال والقتل ، فالآية تقول : " قاتلوا " لا " اقتلوا " ، والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى . ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم ، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتدخلون فى شؤون الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا ، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة ، وإلا ضاع كل شىء . كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاجتياح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب ! وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا " الجزية " ( هكذا بالنص ) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، حسبما قال لهم المسيح حرفيا ( متى / 22 / 17 – 21 ، و 12 / 24 – 25 ، ومرقس / 12 / 14 – 17 ) . كما أن بولس ، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه ، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن ، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم ، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها ، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر : " لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله * فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله ، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم * لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير . أفتبتغى ألا تخاف من السلطان ؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا * لأنه خادمُ الله لك للخير . فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر * فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا * فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا ، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه * أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية ، والجباية لمن يريد الجباية ، والمهابة لمن لـه المهابة ، والكرامة لمن لـه الكرامة " ( رسالة القديس بولس إلى أهل رومية / 13 / 1 – 7 ) . وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية ، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم ؟ أَكُلُّ هذه الضجة لبغضكم القتّال لدين محمد بسبب فضحه لوثنياتكم وتثليثكم وبسبب كَسْبه القلوبَ المتعطشةَ لنور التوحيد واستقامة العقل والضمير ؟
وربما يسأل أحدٌ نفسَه : ولكن لماذا كان حكم النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك ؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية ، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح ، الذى رأيناه هو وحوارييه ، على العكس من ذلك ، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء . وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا . وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل ، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير . وهذا أمر طبيعى لأنها مؤسسة على التفكير الخرافى ، إذا صح وصف الخرافات بأنها تفكير ، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه . ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه . فهذا هذا ! ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية . ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب . جاء فى " سفر تثنية الاشتراع " : " وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم * فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك * وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها * وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف * وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك ، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك * هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا * وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة * بل أَبْسِلْهم إبسالا ... " ( 20 / 10 – 17 ) . هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص ( والمحبة والتسامح والتواضع أيضا من فضلك ! ) متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا ، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا ، وكما حدث كذلك فى فلسطين ، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات . على يد من ؟ على يد النصارى أنفسهم ، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين ! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق ؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم ، وليس بحجة أن الله قد أعطانا بلاد الآخرين والسلام ، استلطافا منه لنا ! أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله ، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل ، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم . أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال لـه فى الإسلام ! ومع ذلك كله يظل هؤلاء المناكيد يرددون أكاذيبهم عنا وعن قسوتنا وإكراهنا غيرنا على الدخول فى ديننا ... إلى آخر تلك المفتريات اللعينة . ولكن ما وجه الغرابة فى هذا ، وقد اجترأوا على الله نفسه فصنعوا كلاما سمجا كله كفر وقلة أدب وسفاهة وتطاول على رسول الله ، ثم ادَّعَوْا أنه من عند رب العالمين ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يطمئن له عاقل ذو ضمير ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يكون فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ؟ وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية" الجزية " فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا ، فإنها تكذِّب الأوغاد المجرمين مخترعى الوحى المزيف وناسبيه لرب العالمين كفرًا منهم وإلحادا ، إذ يزعمون أن الرسول هو الذى اخترع " الجزية " من عنده وأنها لم تنزل من السماء!
وكما يُبْدِئ الأوغاد المجرمون ويُعِيدون فى الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف رغم أنهم هم الذين نشروا دينهم بالسيف والكذب والخداع واستغلال السذاجة عند الشعوب البدائية ... إلخ ، فكذلك نراهم يُبْدِئون ويُعِيدون فى الإزراء على الجنة ونعيمها كما صورها القرآن الكريم ، مدَّعين أنها جنة مادية شهوانية لا تليق بالناس المتحضرين أمثالهم من أصحاب الروحانيات والخلق السامى الكريم ! عجيبٌ أمر هؤلاء الأوغاد عجيبٌ عجيب ! أية روحانيات يتحدثون عنها ، وقد نزلوا بربهم من عليائه إلى دنيا البشر المادية فتجسَّد وأكل وشرب وتجرع الخمر وصنعها آية لضيوف حفل قانا الجليل وتبول وتغوَّط وتألم وحزن ولُعِن وشُتِم وضُرِب وأُهِين وحُوكِم وصُلِب ، ثم مات أيضا " فوق البيعة " كيلا يكون أحدٌ أحسن من أحد ؟ أَوَبَعْد أن جسَّدتم الله تواتيكم نفوسكم على التظاهر بالاشمئزاز من جنة المسلمين قائلين إنها جنة مادية ؟ وماذا فى الجنة المادية ؟ ألا تحبون الأكل ؟ ألا تحبون الشرب ؟ ألا تحبون الجنس ؟ ألا تحبون التمتع بالظلال والجمال والهدوء ؟ ألا تحبون أن تستمعوا إلى الأصوات العذبة الجميلة ؟ ألا تحبون راحة البال وسكينة النفس بعد كل هذا القلق الذى اصطليناه فى الدنيا ؟ إن من يقول : " لا " لأى من هذه الأسئلة لهو ثُعْلُبَانٌ كذابٌ أَشِرٌ عريقٌ فى النفاق والدجل ! فما الحال إذا عرفنا أن هذه المتع الفردوسية ستكون متعا صافية مبرَّأة من كل ما كان يتلبَّس بها على الأرض من نقصان ونفاد وملل أو كِظَّة وغثيان أو قلق وآلام وأوجاع وإفرازات وعلل وتعب وكدح وصراع وخوف ، وكذلك من كل ما كان يعقبها من إخراج وتجشؤ وفتور وإرهاق ونوم ومرض ... إلخ ؟ لقد ذكر القرآن المجيد أنه فى العالم الآخر سوف " تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرض والسماواتُ " ( إبراهيم / 48 ) ، وأن أهل الجنة " لا يَمَسّهم فيها نَصَبٌ ، وما هم منها بمُخْرَجين " (الحجر/ 48) ، وأنهم سيَبْقَوْن " خالدين فيها لا يَبْغُون عنها حِوَلا " ( الكهف / 108 ) ، وزاد الرسول الكريم فى أحاديثه الأمر بيانا فأوضح أن هذه المتع ستكون متعا خالصة تماما لا يكدّرها مكدِّر عضوىّ أو نفسىّ . فما وجه التنطع والاشمئزاز الكاذب إذن ؟ لقد لاحظتُ أن الذين يُزْرُون على جنة القرآن هم من أشد الناس طلبا للدنيا وتطلعا إليها وانخراطا فيها وسعارا محموما خلف لذائذها ، ومنهم هؤلاء المبشرون الفَسَقَة العَهَرَة الذين كانوا ولا يزالون يمثلون طلائع الاستعمار والاحتلال الغربى لبلادنا وبلاد كل الشعوب المستضعفة ، ذلك الاستعمار الذى يريد أن يستمتع بطيبات الحياة دوننا ويترك لنا الجوع والفقر والجهل والمرض والقذارة والذلة والتخلف والشقاء ! أليس مضحكا أن يأتى هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفور من تلك اللذائذ ؟ فمن هم إذن يا تُرَى الذين سُعِروا بحب الجنس على النحو الذى نعرفه فى بلاد الغرب واقعًا مَعِيشًا وأدبا مكتوبا ولوحاتٍ مصوَّرَةً وأفلاما عارية ومسرحياتٍ عاهرة ؟ أفإن جاء الرسول الكريم وقال لنا إنكم ستستمتعون بهذه الطيبات فى الجنة ، لكنْ مصفَّاةً مما يحفّها هنا على الأرض من أكدار وشوائب ، ومصحوبةً بالمحبة بين أهل الجنة ومشاهدتهم لوجه ربهم العظيم ذى الجلال والإكرام وتمتعهم بالرضا الإلهى السامى عنهم وانتشائهم بالتسبيحات الملائكية حولهم ، نَلْوِى عنه عِطْفنا ونشمخ بأنوفنا ونُبْدِى التأفف والتنطُّس ؟ إن هذا ، وَايْمِ الحق ، لَنِفاقٌ أثيم !
سنسمع المنافقين المنغمسين فى شهوات الجسد يتحدثون بتأفف عن هذه اللذائذ التى لا تليق فى نظرهم ببنى الإنسان ، وهم الذين يمارسون اللِّواط والسِّحاق مما ينزل بهذا الجسد وصاحبه أسفل سافلين . وعلى أية حال ما وجه النفور من الجسد وإشباع غرائزه فى اعتدال ؟ أليس هذا الجسد هو أحد الوجهين اللذين تتكون منهما الشخصية الإنسانية ؟ فما الذى يمكن أن يكون فى ذلك من عيب ؟ ترى أمن الممكن أن تقوم الحياة البشرية بعيدا عن الجسد؟ كنت أستطيع أن أفهم وجه الاعتراض لو كنا نقول إن المتع الجسدية هى وحدها المتع التى نريدها ، لأن هذا من شأنه أن يُلْغِىَ الجانب الروحى من الإنسان أو على الأقل يتجاهله بما يسىء إلى هذا الإنسان نفسه . أمّا ، ونحن لا نقول بهذا ، فلست أجد أىّ مسوِّغ للاعتراض إلا العناد الأحمق والنفاق البغيض ! وعلى كل حال فالقرآن والأحاديث يلحّان صراحةً على أن أطايب النعيم هى مما لم تره عين أو تسمع به أذن أو خطر على قلب بشر . ثم يستوى بعد ذلك أن تكون هذه المتع الفردوسية متعا جسدية روحية معا أو روحية خالصة الروحانية . ونصوص القرآن والسنة تحتمل هذا وذاك لمن يريد ، وإن كان العبد الفقير يرى أنها ستجمع بين الحسنيين بالمعنى الذى شرحتُه ، أى أنها ستكون متعا جسدية روحية ، لكنْ على نحو غير الذى نعرفه فى هذه الدنيا . المهم أنها ستكون متعا خالصة والسلام !
لقد استند الثعالب المنافقون فى إنكارهم هذا إلى ما نُسِب للسيد المسيح من رده على اليهود الذين أرادوا أن يضيّعوا وقته فى الأسئلة السخيفة فقال لهم إن الناس " فى القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوجون " ( متى / 22 / 23 – 30 ) ، إذ كان سؤالهم عن امرأة مات عنها زوجها فتزوجها من بعده إخوته الستة واحدا بعد موت الآخر ، فلِمَنْ من هؤلاء السبعة ستكون زوجةً فى القيامة ؟ والسؤال ، كما هو جلىٌّ بيِّن ، سؤال سمج سخيف لا يمكن أن يقع إلا فى خيالات المهاويس ولا يراد به إلا التعنت والرغبة فى أن يمسكوا شيئا يتعللون به للتشكيك فى القيامة التى لم يكونوا ، كما جاء فى القصة ، يؤمنون بها لأنهم من طائفة الصَّدُوقِيِّين المنكرين للبعث . وهو أسلوب يبرع فيه أحلاس المجالس والمجامع الذين يعشقون الظهور والرواج عند العامة ، فأراد المسيح أن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم الفرصة للمضى مع هذا الجدال العقيم ! وبطبيعة الحال لن يكون هناك زواج ولا تزويج ، فنحن لسنا فى الدنيا ، ومن ثم لن نحتاج إلى مأذون أو مسجّل مدنى وشهادات رسمية وما إلى ذلك مما هو معروف هنا فى هذه الحياة الأرضية . وهذا مثل قولنا مثلا إنه لن تكون هناك مطاعم ولا مطابخ فى الآخرة . فهذا شىء ، والخروج من ذلك القول بأنه لن يكون هناك طعام وشراب شىء آخر . وعلى نفس القاعدة فإن قول المسيح إنه لن يكون زواجٌ أو تزويجٌ يوم القيامة لا يعنى أنه لن يكون هناك متع مما يحصِّله الإنسان من الاتصال بالجنس الآخر ، فهذه المتع قد تتم من خلال الزواج ، وقد تتم دون زواج . ومتع الجنة ، كما أشرنا آنفا ، لن يكون فيها شىء من وجع الدماغ الذى شبعنا منه فى الدنيا ، ومن ثم فلا خِطْبة ولا مهر ولا زواج بما يعنيه كل هذا من استعدادات وتكاليف ، فضلا عن أن تكون هناك صراعات بين عدة رجال مثلا على الفوز بامرأة جميلة كل منهم واقع فى غرامها ولا يهنأ لـه عيش إلا بالزواج منها ، أو بين عدة نساء على الفوز برجل غنى وسيم كلهن مدلَّهات فى هواه فلا تروق لهن الدنيا إلا بالاقتران به .
ومما يؤيد كلامى أن المسيح نفسه فى الفقرات التى سبقت جوابه على سؤال اليهود ، حين أراد أن يوضح ملكوت السماوات ، وهو ما يقابل الجنة عندنا ، ضرب لمستمعيه مثلا من عُرْسٍ أقامه أحد الملوك لابنه أَوْلَمَ فيه وليمةً " على كيفك " قُدِّمَتْ فيها الذبائح والمسمَّنات ، وحضرها المدعوُّون وقد لبسوا الحلل التى تليق بهذه المناسبة السعيدة . فعلام يدل هذا ؟ وهل يختلف يا ترى عما نقوله نحن عن الجنة ؟ أَوَلَمْ يقل المسيح ( مرقس / 14 / 25 ، ولوقا / 22 / 18) إنه سيشرب عصير الكرمة فى ملكوت الله جديدا ، أى على نحو آخر غير ما كان عليه فى الدنيا ، وهو ما يقوله الإسلام ؟ أولم يقل لتلاميذه إنهم سيأكلون ويشربون معه على مائدته فى الملكوت ( لوقا / 22 / 29 – 30 ) ؟ فما الفرق بين الشراب والطعام وبين الجنس ؟ أليست كلها متعا من متع هذه الدنيا التى تتأففون منها نفاقا ورياء ، وأنتم غارقون فيها ، لا إلى أذقانكم فقط كما يقول التعبير المشهور ، بل إلى شُوشَة رؤوسكم ؟ ثم إننا لا ينبغى أن ننسى أن السيد المسيح ، مَثَلُه فى هذا مَثَلُ النبى يحيى ، كان عزوفا عن النساء لأسباب خاصة به قد يمكن أن نجد لها إيماء فى كلامه عليه السلام عن أولئك الذين خصاهم الناس أو خَصَوْا هم أنفسَهم أو كانوا مَخْصِيِّين خِلْقَةً مما مَرَّ بنا من قبل . ثم أين كان آدم وحواء فى بدء أمرهما ؟ ألم يكونا فى الجنة ؟ فماذا كانا يفعلان هناك ؟ يقول كتابكم المقدس إن هذه الجنة كان فيها أشجار حسنة المنظر طيبة المأكل ، وإن الرجل يترك أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران جسدا واحدا ، وإن آدم وزوجه كانا عريانين لا يشعران بخجل ، وإن الله قد ضمن لهما الخلود فيها... إلخ ( تكوين / 2 / 8 – 9 ، 24 ) . فما معنى كل هذا ؟ وماذا كان أبوانا الأوَّلان يعملان فى الجنة ؟ أكانا يكتفيان بتمضية وقتهما فى التأملات الروحانية واضعَيْن أيديهما على خدودهما ليلا ونهارا ؟ كذلك يتحدث بولس فى رسالته الأولى لأهل كورنتس ( 15 / 35 فصاعدا ) عن " الأجساد الأخروية " التى لا تعرف الفساد ولا التحلل والتى يسميها أيضا بـ " الأجساد السماوية " و" الأجساد الروحانية " . وفى السِّفْر المسمَّى بـ " رؤيا القديس يوحنا " وَصْفٌ مفصَّلٌ لكثير من متع الفردوس وعذابات الجحيم ، وكلها مادية كالمتع والعذابات التى نعرفها فى دنيانا هذه ، مع التنبيه بين الحين والحين إلى أن كل شىء من هذه الأشياء سيكون جديدا ولا يجرى عليه ما كان يجرى على نظيره فى الأرض من فساد ونقصان ، وهو ما لا يختلف عما قلناه ، فلم التعنت إذن ومهاجمة الإسلام نفاقا وحقدا ؟
وأَصِل الآن إلى آخر قضية أنوى أن أتناولها فى هذه الدراسة ، وهى التهمة التى وجهها هؤلاء المآفين إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " ، إشارةً إلى ما يقال من أن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم لـه ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه . وهم بهذا يظنون أن محمدا يشبه بولس ، الذى كان يفتخر بأنه يتلون حسب الظروف من أجل إدخال الناس إلى النصرانية بكل سبيل والذى أقدم على إلغاء السبت والختان وأَحَلَّ الخنزير حين رأى أن هذه الأحكام تقوم عقبةً كأداءَ فى طريق الدخول إلى المسيحية ! ونَسُوا أن محمدا نبى من عند رب العالمين ، على عكس بولس ، الذى ما إن دخل المسيحية بكذبته تلك الكبيرة التى لا تدخل العقل ولا تجوز إلا على البُلْه والمعاتيه حتى انطلق كالثور الهائج يقلب كل شىء فيها تقريبا رأسًا على عقب !
وعلى أية حال فهذه بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإمّا ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .
وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة ، مع أن أقل نظرة فى سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة " النجم " بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما .
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية . والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره ! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !
هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة . كيف ذلك ؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه . ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى " ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : " وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ، يملك " .
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(فـ)ـرأيتم ...؟ " ، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ " .
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) إلا مع زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم السفهاء / إنه هو التواب الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب الرحيم / إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون / وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام . وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .
ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحـــديث إلى المـدح بـدلا من الــذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ / 26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب . ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه ! ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة ، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن " وراء كل عظيم امرأة " ، يجيبهن مرة : " طبعا وراءه لا أمامه ، فهو صاحب الصدارة والتفوق ، أما هى فتابعة لـه "، ومرة : " فعلا وراءه ، والزمان طويل " ، ومرة : " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا .
ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه . ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها لـه يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " ( 12 / 11 – 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان لـه ما أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟ مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التواء هؤلاء المخابيل وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَ هؤلاء المخابيل أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية !
وهنا أحب أن أشير إلى مفارقة غاية فى العجب والغرابة والشذوذ ، فانطلاقا من المفهوم الطاهر للنبوة فى ديننا والإيمان بأن الأنبياء لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الجرائم التى لا تقع إلا من عتاة المجرمين نقوم نحن المسلمين بالدفاع عن أنبياء الكتاب المقدس ضد التهم التى يلصقها هذا الكتاب المحرَّف بهم ، لكن النصارى يردون على هذا الدفاع بالتخطئة مؤكِّدين أن هؤلاء الأنبياء قد ارتكبوا فعلا الخطايا التى تُنْسَب إليهم . ومع ذلك فإنهم عند تناولهم للشبهات الباطلة التى يتعلقون بها للنيل من أخلاق الرسول الأعظم نراهم وقد أخذتهم الحميَّة للأخلاق الكريمة فلا يُبْدُون أى تسامح أو تساهل مع هذه التهم الكاذبة ! أليست هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة تحليلية لذلك الالتواء النفسى ؟ ويمكن القارئ أن يرجع مثلا إلى موقع " النور " النصرانى ، ولسوف يجد مقالا بعنوان " عصمة الوحى وخطايا الأنبياء " يتحدث فيه صاحبه عن الخطايا التى اجترحها كل من آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وإخوة يوسف وداود وسليمان وغيرهم مما أشرنا لبعضه آنفا ، مع تسويغ هذه الخطايا بشبهة أنهم بشر ، لكنه عندما يتناول ما يظنه أخطاءً لسيد الأنبياء والمرسلين يحاسبه حسابا عسيرا ، ولا يرضى أبدا بغض البصر أو التسامح تحت أى بند من البنود !
إننى حين أدافع عن سيد النبيين والمرسلين لا أفعل ذلك لمجرد انتمائى لدينه ، بل أفعله إيمانا منى بعظمته وعبقريته وشموخ شخصيته : فقد أتى بمبادئ لا ترقى إليها أية مبادئ فى أى دين أو فلسفة أو مذهب من مذاهب السياسة والتربية والأخلاق . ثم إنه قد وضع تلك المبادئ موضع التطبيق ، وكان توفيقه فى هذا المجال مذهلا ، ولم يقتصر الأمر معه على مجرد الدعوة لها كما هو الحال مع عيسى عليه السلام ، الذى لم يأت ، حسب ما هو مسطور فى سيرته ، إلا ببعض المواعظ والنصائح المغرقة فى الخيال مما لا يؤكِّل عيشا! والواقع أنه لو أخذت البشرية مأخذ الجِدّ ما دعا إليه السيد المسيح حسبما جاء فى الأناجيل لما كانت هناك حضارة ولا تقدُّم ولا تمتُّع بأى من خيرات الحياة ، فكل الكلام المنسوب لـه عليه السلام تنفير من الغنى والقوة والدفاع عن النفس وتبغيض فى الدنيا وطيباتها ، وهو يقول بصراحة لا تحتمل أى تأويل إن مملكته ليست من هذا العالم . كما ينظر إلى الغرائز البشرية نظرة التوجس بل الكراهية ، مع أن هذه الغرائز هى وقود سفينة الحياة ، ولولا هى لما رامت هذه السفينة موضعَها إلى الأبد! كذلك لم يترك المسيح أية تشريعات تقريبا ، وبالذات فى مجال السياسة والحكم وتنظيم المجتمع . ومن ثم فإننا إذا أردنا أن نقيم دولة على المبادئ التى خلَّفها لم نجد ما يمكن أن يساعد فى هذا المجال ! ولكن لا ينبغى فى ذات الوقت أن ننسى أنه عليه السلام لم يُكْتَب لـه أن يعيش بعد اختياره نبيًّا إلا لسنوات ثلاث ، وهى فترة غير كافية لإنجاز أى مشروع على الإطلاق ! ومن هنا كان من الظلم البين لـه مقارنة عمله بما أنجزه الرسول الأعظم رغم احترامنا لـه وحبنا إياه وإيماننا بنبوته .
لكن صورة المسيح التى تعرضها علينا الأناجيل هى للأسف صورة ظالمة ، إذ تظهره عصبيًّا جافى الطبع لا يستقر فى مكان ، ولا عَمَلَ لـه إلا إبراءُ المرضى الذين يلهثون خلفه هنا وههنا فى فوضى مزعجة ، وإلا لَعْنُ اليهود وسبُّهم ومخالفتهم فى كل ما يتمسكون به من تشريعات ، مع الزعم فى ذات الوقت بأنه ما جاء لينقض الناموس الذى أتى به موسى عليه السلام ، ثم لا شىء وراء ذلك ! طبعا سيقول النصارى إنه قد أتى إلى العالم ليفتدى البشرية من خطيئتها الأولى ، لكن أحدا من غير السذَّج لا يمكن أن يأخذ هذه المزاعم المصنوعة على غرار وثنيات القدماء وخرافاتهم مأخذ الجِدّ! ومع ذلك فكلُّ إنسانٍ وما يؤمن ! ونحن لا نتدخل فى عقائد غيرنا ، بيد أننا فى الوقت ذاته لا يمكن أن نتسامح مع من يَمَسُّ سيدنا رسول الله بسوء ! أنتم أحرار فى كفركم به يا من لا تؤمنون برسالته ، فهذا اختياركم ، ونحن لا نصادر حق أى إنسان فى الاختيار . لكن هذا شىء ، والتطاول على شخص الرسول الأكرم والقرآن الذى جاء به شىء آخر مختلف تماما . وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت !
فهرس مفصل لمحتويات الكتاب
_______________________
* كلمة سريعة عن موضوع الدراسة / 3
* " الضلال المبين " المسمى زورا بـ " الفرقان الحق " والجهة التى تقف وراءه زاعمة أنه وحى سماوى / 5
* البـذاءات الشنيعـة الموجهـة إلى سيــد الأنبيـاء وصحابتـه الكـرام ودينــه العظيم فى ذلك الكتاب / 6
* عينة من الوحى المراحيضى / 8
* ضيق بعض المنتسبين للإسلام بالدفاع عن ديننا ضد من يتطاولون عليه / 10
* أسماء سور " الضلال المبين " ومضمونها والمصدر الذى أُخِذَتْ منه آياته / 13
* المشاكل الغبية التى يثيرها الوحى الإبليسى لملفقيه / 15
* لماذا لا يمكن أن يكون من جاء بهذا " الضلال الملبين " نبيا من عند رب العالمين ؟ / 16
* أسلوب المومسات الذى جرى عليه من زيفوا هذا الوحى الشيطانى / 17
* النبى الكذاب الذى جاء بهذا الكتاب مجهول الهوية والاسم والنسب والبلد والصنعة / 18
* كيف ينزل وحى إلهى باللغة العربية فى أمريكا التى تتحدث الإنجليزية ؟ / 20
* الأبالسة الأغبياء يسرقون آيات القرآن ويزعمون لكتابهم الملفق الإعجاز ، ثم ينقلبون على كتاب الله المجيد نافين عنه إعجازه وزاعمين أنه وحى من الشيطان / 21
* هذا " الضلال المبين " دليل دامغ على أن القوم ما زالوا ماضين على سنتهم فى تزييف الوحى / 23
* سرقتهم لآيات القرآن لا تجعل من " ضلالهم المبين " مع ذلك كلاما معجزا / 24
* أخطاء فاضحة وقع فيها ملفقو الوحى الشيطانى تدل على أنه لا يمكن أن يكون سماوى المصدر / 26
* الظروف الصعبة التى ألفتُ فيها هذه الدراسة / 28
* الأخطاء والتناقضات المزرية فى " الضلال المبين " / 36
* الإله المزعوم الذى أوحى هذا " الضلال " إله كذاب / 40
* معانٍ تجافى المنطق / 41
* الإله المزعوم لا يتذكر الآيات القرآنية التى يستشهد بها على وجهها الصحيح / 44
* " الضلال المبين " ليس لـه شغلة إلا المسلمين ولا يحتوى إلا على تسفيههم وشتم نبيهم ودينهم / 47
* أصحاب " الضلال المبين " لم يأتونا برسالة المحبة بل برسالة القتل والتدمير واللواط والسحاق / 50
* بعض من النصوص التى تحتوى على سبابنا وتحاول تلطيخ ديننا ورسولنا الكريم / 51
* الرد على تلك السفالات / 54
* الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد لمريم بالعفة / 56
* آيات من الأناجيل تنسب عيسى ليوسف النجار / 58
* الصَّلْب يدين عيسى عليه السلام بحسب الكتاب المقدس نفسه / 59
* تطاول الأوغاد على سيد الأنبياء والمرسلين بسبب جواز القَسَم فى الإسلام ، والرد على هذا الغباء من الكتاب المقدس نفسه ، مع إبراز عبقرية الإسلام فى تشريع كفارة اليمين / 61
* تعدد الزوجات بين الإسلام والنصرانية / 67
* لو كان تعدد الزوجات زنى وشركا كما يدّعون لأساء هذا إلى عيسى عليه السلام / 68
* تعدد الزوجات هو شرعة الأنبياء جميعا إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم / 71
* تحليل نصوص العهد الجديد التى يزعم النصارى أنها تحرم تعدد الزوجات / 73
* النظرة العدائية التى تنظر بها بها الكنيسة إلى المرأة وأسبابها / 75
* القيود المعنتة التى تفرضها النصرانية على الطلاق ونتائجها البائسة / 76
* اتهام ملفقى " الضلال المبين " لسيد الأنبياء والمرسلين بالكفر والقتل وإكراه الناس بالسيف على الدخول فى دينه ، وتفنيد هذه الفرية / 78
* صورة المسيح فى الأناجيل ليست صورة الرجل الوديع / 79
* التسامح المطلق مستحيل ويؤدى إلى كوارث أخلاقية وحضارية / 80
* الأسباب التى حملت الرسول على خوض المعارك والحروب / 83
* مثال من جهل ملفقى " الضلال المبين " بمعانى القرآن الكريم /85
* حروب النصارى ضد الأمم الأخرى حروب عدوان واستئصال / 86
* مزوّرو " الضلال المبين " يهاجمون تشريع الجزية رغم أمر المسيح وبولس للنصارى بأدائها دون تذمر / 88
* لماذا كان النصارى فى حروبهم وحكمهم لغيرهم من الأمم شديدى القسوة ؟ / 91
* مقارنة بين تشريعات الحرب فى الإسلام وفى العهد العتيق / 92
* إزراء مزيّفى " الضلال المبين " على الجنة ونعيمها عند المسلمين ، وتخطئة شبهاتهم تلك من العهد الجديد ذاته / 94
* حملة المنافقين الكذابين على مطالب الجسد ، والرد على نفاقهم / 97
* نعيم الجنة سيكون شيئا جديدا يختلف عما نعرفه فى الدنيا / 99
* قصة الغرانيق وإثبات زيفها بالتحليل المنطقى والتاريخى والأسلوبى / 102
* النصارى يدّعون على الأنبياء ارتكاب الفواحش والخطايا ولا يرَوْن بأسا فى ذلك ، ثم يتنطعون مع النبى عليه السلام رغم أنه لم يرتكب أية خطيئة فى حياته / 109
* لماذا أدافع عن محمد؟ / 112
تهويد السيرة النبوية
د. إبراهيم عوض
فى قائمة "المفضَّلة" عندى فى المشباك موقع يحمل اسم "JewishEncyclopedia.com" (الموسوعة اليهودية) كنت أرجع إليه بين الحين والآخر أستطلع وجهة النظر اليهودية فيما أكون بصدد البحث فيه من الموضوعات. وقبل أيام خطر لى أن أفتح الموسوعة على مادة "Mohammed" لأرى ما الذى لدى اليهود ليقولوه عن نبينا الكريم، فراعنى أن كاتب المادة ينظر إلى السيرة النبوية من منظارٍ يهودىٍّ ضيقٍ ومتعصبٍ يقوم على التدليس والكذب ولَىّ الحقائق والزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استفاد فى تشريعاته من اليهود حين هاجر إلى المدينة وأصبح على علم بما فيها بعد أن كان لا يعرف عنها قبل وصوله إلى المدينة إلا معلومات غامضة مضطربة التقطها من هنا ومن ههنا. ثم إن الكاتب قد ركَّز معظم المادة للحديث عن اليهود وما وقع بينهم وبينه عليه السلام بطريقة توحى أنه لم يكن هناك تقريبا شىء آخر ذو أهمية فى حياته سواهم!
يقول الكاتب مثلاً إن الرسول لم يكن فى بداية هجرته إلى المدينة ينظر إلى اليهود على أنهم أصحاب دين مختلف عن دينه. ولا أدرى على أى أساس ولا بأية أمارة يقول ذلك. أم ترى الأمر لا يزيد على أن يتوهم الإنسان الشىء، أو بالأحرى يزعمه زعما، فيكون الأمر كما أراد أن يتوهم أو يزعم؟ لكن العلم والحقيقة لا يرتاحان لمثل هذه الألاعيب ولا يعترفان بها حتى لو سُجِّلَتْ فى موسوعة عالمية لها موقعٌ على المشباك يزوره القراء من كل أرجاء الدنيا! هل يستطيع الكاتب أن يقدم لنا شاهدًا أو دليلاً واحدًا يتيمًا على ما يقول؟ هل صدر عن الرسول ما يفيد أنه كان ينظر إلى اليهود على أن دينهم لا يختلف فى شىء عن دينه؟ فلم جاء برسالة جديدة إذن؟ بل لم قال القرآن منذ وقت مبكر، وقبل أن يهاجر الرسول الكريم إلى يثرب ويصطبح بخلقة اليهود هناك، إن رسالته عالمية تخاطب البشر جميعا ولا تقتصر على بنى إسرائيل (أو غير بنى إسرائيل) وحدهم؟ وهذا إن أمكن أصلاً أن يكون، وهو العربى، نبيًّا لبنى إسرائيل؟ لقد ظهر النبىُّ فى محيطٍ عربىٍّ هو مكة، ولم يحاول أن يتصل باليهود أو يبحث عنهم، ولا أثنى عليهم ولا قال القرآن أى شىء يُفْهمَ منه ولو من بعيد أنه يرى أن دينهم هو دين محمد ولا أفردهم بما يميزهم عن غيرهم ويجعل لهم خصوصية فى دعوته دون مَنْ قَصّ أخبارهم من الأمم السابقة! بالعكس لقد حمل القرآن عليهم فى الوحى المكى مرارا، وذكر جحودهم وارتدادهم فى كل سانحة إلى الكفر والعصيان، مما يدل على أن الدعوة الجديدة لم تكن ترى فيهم منذ البداية صديقًا بَلْهَ مثيلا على أى نحو من الأنحاء! ومن الممكن أن يرجع القارئ الكريم إلى "الأنعام/ 146" و"الأعراف/ 139- 171" و"الإسراء/ 4- 8" و"طه/ 83- 98" على سبيل المثال حيث تكلم القرآن عن ظلمهم وبغيهم، وعبادتهم العجل الذهبى الذى كادوا أن يقتلوا هارون بسببه، وإلحاحهم على موسى أن يصنع لهم صنما يعبدونه كأصنام القوم الذين أَتَوْا عليهم عقب انشقاق البحر لهم وعبورهم إياه، وكذلك عن الإفساد الذى سيفسدونه فى الأرض مرتين حين يَعْلُون علوًّا كبيرا قبل أن يسلط الله عليهم من ينتقم منهم. فهل يمكن أن يُفْهَم من هذه الآيات القرآنية أنه عليه السلام لم يكن فى بداية هجرته للمدينة يرى فى ديانة اليهود شيئا مختلفا عما جاء به؟ ليس ذلك فقط، بل معروفٌ أنه عليه السلام، عند مهاجَره للمدينة، قد كتب معاهدة بين طوائف سكانها يتضح منها أن اليهود شىء، والمسلمين شىء آخر، وأن دين هؤلاء غير دين أولئك. وهذا نص الكلام: "كتاب من محمد النبى رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة من دون الناس. وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصَرٍ عليهم. وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم". فما الرأى فى هذا الكلام؟ من البيّن الجلىّ أن كاتب المقال يهرف باطلاً، ويتنفس كذبًا ومَيْنًا. إنه يريد أن يقرر فى عقول القراء أن الرسول الكريم كان يتخبط فى دعوته ولا يدرى ماذا يفعل، وأنه لم يكن مرسلا من ربه، بل اخترع الإسلام اختراعا، وأنه لم يكن يعرف شيئا عن اليهود، بل كانت المعلومات تأتيه من تجاربه الشخصية وما يسمعه من الناس من حوله لا من الوحى، شأنه فى ذلك شأن أى إنسان آخر لا علاقة له بالسماءـ
كذلك يَكْذِب الكاتبُ حين يزعم أن الرسول والمسلمين قد استعاروا من اليهود بعض شعائرهم كالصلاة الجماعية فى أوقات منتظمة، والصيام، والقِبْلة، ومحرَّمات الطعام. ولنتأمل قوله إن استعارة هذه الشعائر قد تمت من قِبَل الرسول والمسلمين، وهو ما يفيد أن الإسلام ليس صناعة محمدية فحسب على ما فى ذلك من طامّة ثقيلة، بل يدخل معه فى الصناعة والاختراع المسلمون أيضا. وكأن الإسلام لعبة يعبث بها كل من هب ودب، ولا يقتصر أمرها على يد واحدة. ولنبدأ بالدعوى الأولى الخاصة بالصلاة الجماعية: لقد كان المسلمون يؤدون الصلاة جماعة منذ وقتٍ جِدِّ مبكرٍ فى مكة. يتضح ذلك من الأخبار التالية: جاء فى "الروض الأُتُف" للقاضى عياض: "قال ابن إسحاق: ذكر بعضُ أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شِعَاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك إلى ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: "أَيْ عَمِّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم (أو كما قال صلى الله عليه وسلم)، بعثني الله به رسولا إلى العباد. وأنت، أَيْ عَمِّ، أحقُّ مَنْ بذلتُ له النصيحة ودعوتُه إلى الهدى، وأحقّ مَنْ أجابني إليه وأعانني عليه"، أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكنْ والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيتُ. وذكروا أنه قال لعلي: أَيْ بُنَيَّ، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنتُ بالله وبرسول الله وصدَّقْتُه بما جاء به وصلّيتُ معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أَمَا إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فالزمه". وفى سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّوْا ذهبوا في الشِّعاب فاسْتَخْفَوْا بصلاتهم من قومهم. فبَيْنَا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعْبٍ من شِعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم. فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلَحْي بعير فشجَّه، فكان أول دم أُهْرِيق في الإسلام".
بل إن المسلمين قد أدَّوْا شعيرة الجمعة قبل أن يصل النبى عليه السلام إلى المدينة ويرى وجه اليهود أو حتى قَفَاهم. وننقل هنا ما جاء فى "زاد الميعاد" لابن الجوزى: "قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين كُفَّ بصره، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة فسمع الأذان بها استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة. فمكث حينًا على ذلك، فقلت: إن هذا لَعَجْزٌ ألا أسأله عن هذا. فخرجت به كما كنت أخرج ، فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له فقلت: يا أبتاه، أرأيتَ استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعتَ الأذان يوم الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ، كان أسعد أول من جمَّع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هزم النبيت من حَرَّة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. قلت: فكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا. قال البيهقي ومحمد بن إسحاق: إذا ذكر سماعه من الراوي وكان الراوي ثقة استقام الإسناد، وهذا حديث حسن صحيح الإسناد. انتهى. قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام بقباء في بني عمرو بن عوف كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده. قال ابن إسحاق: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يقل) أنه قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد أيها الناس، فقدِّموا لأنفسكم. تَعْلَمُنَّ والله ليصعقنَّ أحدكم، ثم ليَدَعَنَّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلَّغك وآتيتُك مالا وأفضلتُ عليك؟ فما قَدَّمْتَ لنفسك؟ فلَيَنْظُرَنَّ يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لَيَنْظُرَنَّ قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشِقٍّ من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تُجْزَى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله. قد أفلح من زيَّنه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وأبلغه. أَحِبّوا ما أَحَبَّ الله. أَحِبّوا الله من كل قلوبكم، ولا تملُّوا كلام الله وذِكْره، ولا تَقْسُ عنه قلوبكم، فإنه مِنْ كل ما يخلق الله يختار ويصطفي. قد سماه الله خِيرَته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالحَ من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تُقَاتِه، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابُّوا بروح الله بينكم. إن الله يغضب أن يُنْكَث عهده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
ولا ينبغى أن ننسى أن الصلاة الأسبوعية عندنا إنما تُؤدَّى يوم الجمعة لا السبت، وأنه ورد عن الرسول الكريم أن اليهود والنصارى قد ضيَّعوا الجمعة: فاختار الأولون السبت، والآخَرون الأحد حسبما ورد فى الحديث التالى: "روى الدارقطني عن عثمان بن أحمد بن السماك قال: نا أحمد بن محمد بن غالب الباهلي قال: نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني قال: نا المغيرة بن عبد قال: حدثني مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: أَذِن النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمِّع بمكة ولا يبدي لهم، فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تَجْهَر فيه اليهود بالزَّبُور لِسَبْتهم فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقرَّبوا إلى الله بركعتين. قال: فأوَّلُ من جَمَّع مصعب بن عمير، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجمَّع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك". وفى ضوء هذا ينبغى أن نفهم قول النبى للمسلمين عن يوم الجمعة: "أضلَّتْه اليهود والنصارى، وهداكم الله إليه". وكذلك من المعروف أن النبى لم يستحبّ أن يكون بوق اليهود (أو ناقوس النصارى) هو أداة نداء المسلمين للصلاة. بل إنه لم يكن مستريحا للاتجاه إلى بيت المقدس بعد مهاجَره إلى المدينة وظل يبتهل إلى الله أن يأذن له فى التوجه إلى البيت الحرام حتى أنزل سبحانه وتعالى عليه الآيات التى تعطيه الإذن بذلك. ولتوضيح هذه النقطة لا بد أن نعرف أنه عليه السلام كان إذا صلَّى وهو بمكة يقوم جنوب الكعبة مُوَلِّيًا وجهه نحو الشَّمال، فتكون قبلته الكعبة وبيت المقدس جميعا، ثم لما هاجر لم يعد من الممكن استقبال القبلتين جميعًا معا، إذ لم يعد موجودا فى الشمال الآن إلا بيت المقدس. وكان عليه السلام يريد أن تكون قبلته إلى الكعبة لا إلى بيت المقدس حتى لا يشترك فى نفس القبلة مع اليهود. ولم تكن الأمور قد ساءت بَعْدُ بين الفريقين حتى يقال، كما يزعم بعض المستشرقين كذبًا، إنه عليه السلام قد جاملهم فى البداية بالصلاة إلى قبلتهم كى يكسبهم فى دينه، ثم لما عجز عن أن يجعلهم من أتباعه قام بتغيير القبلة بعد أن لم يعد للمجاملة معنى! ذلك أن القِبْلَة قد حُوِّلَت قبل غزوة بدر، أى قبل وقوع أىٍّ من المصادمات أو حتى الخلافات الأولية بين اليهود والمسلمين، فلا معنى إذن لمثل هذه التفسيرات السخيفة المتنطعة التى يراد من ورائها الإيهام بأن الإسلام ما هو إلا تعبير عن مواقف الرسول وآرائه، ولا وشيجة تصله بالسماء! فحقيقة الأمر إذن أن مسألة القِبْلَة قد جَرَتْ على خلاف ما ادَّعَى الكاتب، إذ كان المسلمون قبل الهجرة يصلّون إلى الشمال ميمِّمين وجوههم حيال بيت المقدس (وحيال الكعبة فى نفس الوقت)، ثم لما هاجر الرسول لم يرتح إلى الصلاة إلى قبلة اليهود، لكنه لم يتحول عنها رغم هذا إلا بعد أن استجابت السماء ونزل الوحى بالإذن له بذلك! وإلى القارئ ما جاء فى "الدُّرَر فى اختصار المَغَازِى والسِّيَر" لابن عبد البر عن هذا الموضوع: "وصُرِفَت القِبْلة عن بيت المقدس إلى الكعبة في السنة الثانية على رأس ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر شهرا، من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلك قبل بدر بشهرين". وفوق هذا فصلاة الجماعة فى الإسلام لا تحتاج لكهنوت كما هو الحال فى اليهودية، التى توجب أن يرأس طقوسها كاهن من سلالة هارون عليه السلام حسبما ينص العهد القديم، بل يصح أن يؤمها أى فرد من المسلمين. وفضلا عن ذلك فمفردات الصلاة فى الإسلام من أفعال وأقوال تختلف تمام الاختلاف عن مثيلاتها فى صلاة اليهود. وهذا كله مما يؤكد أن الإسلام حريص على تمايز المسلمين عن اليهود وغير اليهود، فكيف يزعم زاعم أنه، صلى الله عليه وسلم، قد استعار من اليهود شعائر العبادات الإسلامية؟
ثم هل يُعْقَل، لو كان الإسلام قد استعار من اليهود شعيرة الصلاة الجماعية، أن يسخر هؤلاء اليهود أنفسهم من تلك الشعيرة نفسها فيتخذوها هُزُوًا ولَعِبًا كلما سمعوا النداء إليها؟ قال تعالى: "وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هُزُوًا ولَعِبًا. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" (المائدة/ 58). وأدهى من ذلك وأمرّ أن يلجأوا إلى أساليب التآمر الخبيث فى حربهم لدين محمد، وليس هذا أسلوب الواثق من نفسه تجاه من يستمدون منه شعائرهم ويقتدون به، بل أسلوب الحاقد الذى يؤرّقه ما فى يد الآخرين من الجواهر الأصيلة النفيسة، والملتوى الذى لا يعرف المواجهة الصريحة واحترام النفس. وفى فضح هذه الأساليب المجرمة يقول لله عز وجل: "وإذا جاؤوكم قالو: آمنّا. وقد دخلوا بالكفر، وهم قد خرجوا به. والله أعلم بما كانوا يكتمون" (المائدة/ 61). فلماذا ينافقون المسلمين لو كانوا يَرَوْن أن المسلمين يستعيرون منهم عباداتهم وأساليب تنظيمها؟ بل لقد كانوا يتواصَوْن بالتظاهر بالدخول فى دين أولئك المسلمين أنفسهم أول النهار ثم إعلان الخروج منه آخر اليوم بغيةَ تشكيكهم فى دينهم، إذ كانوا يتصورون أن الصحابة سوف يرتابون عندئذ فى الإسلام ويتوهمون أن به عيوبًا فاتتهم وتنبَّه اليهودُ لها فدفعتهم إلى تركه بعدما خبروه عن قرب؟ قال جل جلاله: "وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنُوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون" (آل عمران/ 72). لا، لا. لا يمكن أن يكون هذا هو أسلوب المطمئن إلى نفسه الواثق بما فى يده الذى يرى الآخرين ينقلون عنه عباداتهم وصور أدائها! بل إنهم هم أنفسهم قد لاحظوا مع الغيظ المر الشديد أن الرسول عليه السلام لا يترك شيئا مما يفعلونه إلا خالفهم فيه، فما معنى هذه الافتراءات الرخيصة؟ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : "كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبي رسولَ الله عن ذلك، فأنزل الله: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيض.ِ قُل:ْ هُوَ أَذًى، فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض"ِ (البقرة/ 222)، فقال : "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهودَ فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفَنا فيه". رواه مسلم في صحيحه.
وبالمناسبة فقد ترجم بلاشير المستشرقُ الفرنسىُّ الآيةَ الأخيرةَ على النحو التالى: "وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنُوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون عن ضلالهم"، مضيفا إلى النص القرآنى الكريم هذه الكلمات الثلاث الدنيئة السامة: "de leur erreur: عن ضلالهم"، التى يريد أن يقول من خلالها إن اليهود كانوا يعتقدون فى ضمائرهم أن المسلمين على ضلال، وإنهم كانوا يعملون على هدايتهم من ضلالهم (انظر كتابى: "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه"/ ط2/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 59). لكن هذا لا يمكن أن يكون، فالذى يعتقد أنه على حق ويريد أن يهدى الآخرين من ضلالهم لا يلجأ لمثل هذه الأساليب التآمرية الوضيعة، وبخاصة فى مجال الضمائر والإصلاح والأديان! ثم ما الذى كان اليهود يبغونه من وراء هذا؟ أكانوا يريدون هداية المسلمين إلى اليهودية؟ أبدا، لأن اليهود لا يَدْعُون أحدا إلى دينهم كما هو معروف، إذ يزعمون أن الله هو إلههم الخاص بهم يراعيهم من دون العالمين! أم كانوا يقصدون أن الوثنية الجاهلية أفضل من دين التوحيد كما قالوا للمشركين حين سألوهم: أىُّ الدينين أفضل: الإسلام أم الوثنية؟ فما كان جواب الضلاليين (الذين يزعم بلاشير العريق فى الضلالة مثلهم أنهم كانوا يريدون هداية المسلمين من ضلالهم) إلا أن قالوا إن دين الشرك خير من دين التوحيد: "ألم تر إلى الذين أُوتُوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجِبْت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا؟* أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن اللهُ فلن تجد له نصيرا" (النساء/ 51- 52)؟ نعم بكل تأكيد هذا ما كانوا يريدونه، فهل أمثال هؤلاء يمكن أن يدور فى عقولِهم النجسةِ العملُ على هداية أحد من ضلاله؟ إن هذا التفسير لا يمكن أن يدور فى ذهن أى شخص يحترم الحقيقة ولا يعرف الخبث ولا التواء الضمير. وهذا يدل على أن المؤامرة على الإسلام لا تزال ماضية فى طريقها على أشُدّها لا تعرف الهدوء ولا التوقف ولا التراجع إلى الحق المبين! وبالمناسبة أيضا فبلاشير هذا كان من أصدقاء طه حسين المقربين، وطه حسين (كما نعرف) كان يتعاون مع اليهود ثقافيا وأكاديميا ويعاونهم على الخروج من مصر إلى فلسطين أيام الصراع العربى الصهيونى على مَسْرَى النبى الكريم قبل أن تُحْسَم جولته الأولى بامتلاخ الأمم المتحدة والقوى الكبرى المجرمة لتلك الأرض المباركة من أيدى العرب والمسلمين وإعطائها لليهود، كما كان يزعم أن القرآن يعمل على التقرب منهم ويستعين بالأساطير الخرافية لهذا الغرض حسبما بَيَّنّا فى كتابنا "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكذلك فى عدد من الدراسات التى نُشِرَتْ فى بعض المواقع المشباكية. فالأمر، كما يشاهد القارئ، مثل شبكة الأوانى المستطرقة: كل إناء منها يوصل إلى كل إناء آخر، ويساويه فى مدى ارتفاع السائل الذى يحويه وفى نوعيته وفى كل خَصِيصَةٍ أخرى من خصائصه!
أما بالنسبة لما قاله كاتب الموسوعة عن استعارة الرسول المزعومة لشعيرة الصوم من اليهود فإنى أحيل القارئ إلى ما كتبته ذات الموسوعة فى مادة "Fasting and Fast- Days"، إذ قالت إن الصوم موجود فى كل الأديان رغم اختلاف أشكاله. أى أن اليهودية ليست وحدها التى تعرف الصوم، حتى إذا شرعه الإسلام كان ذلك بالضرورة متابَعَةً لليهودية بالذات. يقول القرآن فى هذا الصدد: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم الصيام كما كُتِب على الذين مِنْ قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة/ 183). ونضيف إلى هذا أن المسلمين كانوا يصومون، مثل العرب، يوم عاشوراء فى مكة قبل أن يهاجروا إلى يثرب ويلتقوا باليهود هناك. وهذا يتعارض مع ما قاله كاتب المادة من أن الرسول حينما هاجر ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء صامه تقليدا لهم. صحيح أنه وجدهم يصومونه كما جاء فى بعض الروايات، لكنه كان يصومه هو والمسلمون قبل الهجرة كسائر العرب كما قلنا لتونا. كل ما هنالك أنه سأل عن السبب الذى يصومه من أجله اليهود، فلما أُخْبِر أنهم يصومونه ابتهاجا بانفلاق البحر لموسى ونجاته هو وقومه من مطاردة فرعون ردَّ بأن المسلمين أجدر بصيامه ابتهاجا بنجاة ذلك النبى الكريم وحصول المعجزة الإلهية على يديه بوصفه أخًا له فى الرسالة. ولا بد أن نعرف أن يوم عاشوراء عند المسلمين يختلف عنه عند اليهود: فهو عندنا العاشر من المحرم، وهو شهر قمرى، على حين أنه عندهم يقع يوم الكفارة، الذى يتبع التوقيت العبرى، إذ هو العاشر من شهر تسرى، فهما توقيتان مختلفان تماما كما نرى. والملاحظ أن كاتب المادة الخاصة بالصيام فى "الموسوعة اليهودية" قد أهمل ما قاله صاحب مادة "Muhammad" من أن امتداد الصيام فى الإسلام لمدة شهر كامل مأخوذ من النصارى، إذ نراه بدلا من ذلك يقول بأن الرسول قد استعار صوم رمضان من اليهودية أيضا. وهو، كما ترى، تناقضٌ فِجّ، علاوة على أن مدة أى نوع من الصوم عند النصارى ليست شهرًا كما هو معروف، كما أن توقيت الصيام عندهم يختلف عن توقيتنا!
ليس ذلك فحسب، فصيام اليهود ينحصر فى الامتناع عن الأكل والشرب كما يقول واضع مادة "الصيام" فى الموسوعة المذكورة، بل إن بعض الأصوام عندهم يجوز فيها الأكل والشرب أيضا ما عدا اللحم والخمر حسبما جاء فى المادة التى نحن بصددها، أما فى الإسلام فيمتنع الصائم عن الأكل والشرب، وكذلك النكاح أيضا، علاوة على ما لفت إليه الرسول الكريم من أن الصيام عن هذه الثلاثة لا يكفى، إذ لا بد أن يصوم المسلم معها عن الغِيبَة والنميمة وقول الزور والعمل به...إلخ. أى أن الصيام فى الإسلام ليس صياما بدنيا فقط بل أخلاقى أيضا. كذلك فالصيام الفرض عند اليهود متعدِّدٌ وموزَّعٌ على مدار العام، أما فى الإسلام فليس إلا رمضان. ولا ننس أن صومنا يجرى على التوقيت القمرى، بخلاف صيامهم. كما أنهم يبدأون الصيام من شروق الشمس، وينتهون منه حين تبدو أول نجوم المساء. أما فى ديننا فنصوم من الفجر (وليس من الشروق كما كتب واضع المادة)، ونُفْطِر مع الغروب. فكيف يقال بعد هذا كله إن الرسول قد استعار شعيرة الصوم من اليهود؟ ومع ذلك فينبغى أن نقول كلمة سريعة عن الصوم عند النصارى كى يتبين الحق من الباطل فى هذه النقطة، فهم ( كما جاء فى مادة "Fasting" فى "thefreedictionary.com" [تحرير Farlex]، و"The New Advent Catholic Encyclopedia") يصومون أصواما متعددة تختلف من مذهب لمذهب، ومن بلد لبلد، علاوة على أن الصيام عندهم متعدد وموزع على فصول السنة أيضا بخلافه فى دين سيد الرسل . أما عن كيفية الصوم فالكاثوليك يكتفون فى صيامهم بوجبة واحدة خالية من اللحوم وما إليها يتناولونها فى منتصف النهار، وقد يتناولون إلى جانبها وجبتين أُخْرَيَيْنِ خفيفتين فى أول اليوم وآخره، أما الأرثوذكس فيمتنعون عن جميع الأطعمة الحيوانية وزيت الزيتون، وربما باقى الزيوت الأخرى أيضا، إلى جانب الخمر والكحوليات. وفى البروتستانتية نراهم يختلفون ما بين الاعتقاد فى أهمية الصوم أو عدم أهميته فى الحصول على الخلاص. لكن النصارى على تباين مذاهبهم لا يمتنعون عن الجماع كما نفعل نحن. وهو ما يبين بكل جلاء أن صيامنا يختلف اختلافا شديدا عن صيام أهل الصليب أيضا.
وتبقى دعوى الكاتب بأن القرآن لم يأت فى مجال التشريعات الطعامية بشىء يخالف ما فى شريعة اليهود، وهذه دعوى يكذّبها الواقع الذى يفقأ عيون المدلّسين، فقارئ القرآن يعلم تمام العلم أنه لم يحرم من الأطعمة إلا "الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكَّيتم وما ذُبِح على النُّصُب"، مع السماح للمضطر أن يتناول من ذلك على قدر الضرورة لا يعدوها (المائدة/ 3). وكان سبحانه قد حرّم على اليهود جزاءَ بغيهم "كُلّ ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم" (الأنعام/ 146). وقد اعترض يهود المدينة على إباحة الإسلام لبعض الأطعمة التى يحرمونها هم، فرد القرآن عليهم قائلا: "كُلُّ الطعام كان حِلاًّ لبنى إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنَزَّل التوراة. قل: فأْتُوا بالتوراة فاتْلُوها إن كنتم صادقين* فمن افترى على الله الكذبَ من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون" (آل عمران/ 93- 94). ذلك أنهم لا يأكلون مثلا الجمل ولا الأرنب ولا الوَبْر ولا حيوان البحر عديم الزعانف والفلوس (تثنية/ 14/ 7، 11)، أما المسلمون فليس عليهم فى أكلها من حرج. كذلك فالإسلام يشدد فى تحريم الخمر تشديدا مطلقا حتى لَيُضْرَب بها المثل فى التحريم الذى لا تساهل فيه ولا مخرج منه، على عكس ما هو الأمر فى اليهودية، وكذلك النصرانية. فكيف بعد هذا كله يزعم الكاتب أن دين محمد لم يأت فى مجال الأطعمة إلا بما لدى اليهود؟ وبعد فإنه لا يضير الإسلامَ فى شىء أن تتشابه بعض شرائعه مع شرائع التوراة أو الإنجيل لأن المصدر واحد، وهو وحى السماء، إلا أن القول بأن الرسول الكريم قد استمد تشريعاته استمدادا من اليهود أو النصارى أنفسهم لا عن طريق الوحى هو شىء مختلف عما نحن بسبيله هنا كما لا يخفى على كل من له عينان للإبصار، وأذنان للسمع، وقلب للتفقه والاعتبار.
ويزعم الكاتب أيضا أن الإسلام، منذ بداية أمره حتى الفترة المكية المتأخرة، لم يكن يختلف فى شىء عن اليهودية والنصرانية، وأن الرسول لم يكن يوجه دعوته إلا إلى مشركى العرب، وأن اشتراط الإيمان بنبوته عليه السلام لم يُطْرَح على بساط الاعتقاد إلا فى المدينة، إذ لم تكن مهمته آنئذٍ إرساء القواعد اللاهوتية، بل الدعوة إلى القيم الخلقية ليس إلا، مع النص على أن ما جاء به حينذاك ليس شيئا غير ما عند "أهل الكتاب". ولست أدرى ماذا يمكن أن يقال لمثل هذا الكائن الذى يبدو وكأنه قد فقد عقله، وإن كان فى واقع الأمر لم يفقده، بل فَقَدَ، وبملء وعيه وتخطيطه وخبثه، خُلُقَ الصدق واحترام حقائق التاريخ ومراعاة نصوص الدين الذى يتحدث عنه، وكأنه يتحدث عن دينٍ ضاعت كتبه فى مراحل ما قبل التاريخ!
إن القرآن المكى يفيض بالنصوص التى تتحدث عن رسالة محمد، وتضعه مع الرسل والأنبياء السابقين فى نفس السياق، وتقيس ما يلقاه من قومه على ما كان نظراؤه من أنبياء الأمم الأخرى يَلْقَوْنه، وأن الله هو رب السماوات والأرضين وخالق الكون كله ومدبّر أمره، وهو الرازق المنعم، والرحمن الرحيم، والشديد العقاب ذو الطَّوْل، وأن القرآن هو وحى السماء، نزل به الروح الأمين جبريل على قلبه ليكون من المنذرين، وأن الله قد تكفل بحفظه، وأن هناك بعثا وحشرا وحسابا وثوابا وعقابا، وأن من يجحد بذلك فهو من أهل الجحيم حيث العذاب الدائم الذى لا يطاق. أليست هذه كلها أمورا اعتقادية؟ بطبيعة الحال كانت هناك توجيهات أخلاقية ودعوة إلى الإصلاح الاجتماعى، لكن كانت هناك أيضا مسائل اعتقادية تتعلق (كما قلت) بالله والرسل والملائكة والشياطين والجنة والنار، فبأى حق يَكْذِب الكاتب الصفيق ويَدَّعِى أن الإسلام فى المرحلة المكية لم يكن سوى مجموعة من التوجيهات الخلقية لا أكثر ولا أقل، وأن الإيمان بنبوة محمد لم يكن جزءا من هذا الدين حينذاك؟ إن هذا عبثٌ دونه عبثُ الأطفال السفهاء! وما هكذا تكون حروب الرجال لخصومهم! ولكن متى كان أمثال الكاتب يعرفون معنى للرجولة أو الشرف فى خصوماتهم مع الإسلام؟ إننا هنا إزاء نسخة أخرى من يهود المدينة، الذين لم يكن لهم قَطّ موقفٌ رجولىٌّ رغم كل الجعجعات والمؤامرات التى برعوا فيها، والتى كانت تقع مع هذا على رؤوسهم فى كل مرة وقوعَ الصواعق المدمرة، حتى انتهى أمرهم مع سيدنا رسول الله إلى ما انتهى إليه جَرّاءَ غدرهم وكفرهم وسفاهتهم وسفالتهم! ولن أقف الآن إلا عند النصوص القرآنية المكية التى تنصّ على نبوّة الرسول الكريم وتدعو إلى الإيمان به: "ألر كتابٌ أُحْكِمتْ آياته ثم فُصِّلتْ من لدُنْ حكيمٍ خبير* ألاّ تعبدوا إلا الله. إننى لكم منه نذير وبشير" (هود/ 1- 2)، "وبالحق أنزلناه، وبالحق نَزَل. وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا* وقرآنًا فَرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْثٍ، ونزَّلناه تنزيلا" (الإسراء/ 105- 106)، "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قومهم منذرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابًا أُنْزِل من بعد موسى يَهْدِى إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوابه يغفرْ لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يُجِبْ داعِىَ الله فليس بُمْعجِزٍ فى الأرض، وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلالٍ مبين" (الأحقاف/ 29- 32)، "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل..." (الأحقاف/ 35)، "الذين يتّبعون الرسولَ النبىّ الأُمِّىّ..." (الأعراف/ 157)، "قل: إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحَى إلىَّ أنما إلهكم إلهٌ واحدٌ، فاستقيموا إليه واستغفِروه، وويلٌ للمشركين" (فصلت/ 6)، "قل: يا أيها الناس، إنى رسول الله إليكم جميعا" (الأعراف/ 158)، "فآمِنُوا بالله ورسوله النبىّ الأُمِّىّ الذى يؤمن بالله وكلماته" (الأعراف/ 158)، "وقال الرسول: يا رب، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا" (الفرقان/ 57)، "قل: سبحان ربى! هل كنتُ إلا بشرًا رسولا؟" (الإسراء/ 93)، "إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعونَ رسولا* فعصى فرعونُ الرسولَ فأخذناه أَخْذًا وبيلاً* فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الوِلْدان شِيبًا؟" (المزمل/ 15- 16)، "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا" (الجن/ 23)، "وكذلك جعلنا لكل نبىٍّ عدوًّا شياطينَ الإنس والجن" (الأنعام/ 112)، "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (الأنبياء/ 107)، "وما أرسلناك إلا كافَّةً للناس بشيرًا ونذيرًا" (سبأ/ 28)...إلخ. بل إن هناك (كما نرى) آيات تنص نصًّا على أن رسالته عليه الصلاة والسلام موجهة إلى الناس جميعا لا إلى قومه فحسب، فضلا عن الآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف"، التى تشير إلى أنه لم يكن رسولا إلى الإنس وحدهم بل إلى الجن أيضا، كما أن آيات سورة "الأعراف" موجهة إلى العالمين وكذلك اليهود أنفسهم، وهو ما يفضح بكل قوةٍ مزاعم هذا الأفاك! وقد انصب تكذيب المشركين من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام على إنكارهم لنبوته واشتراطهم أن ترسل السماء نبيًّا من الملائكة لا من البشر وأن يأتيهم بما يقترحونه عليه من آيات: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم" (يوسف/ 109)، "بل هو شاعر. فليأتنا بآية كما أُرْسِل الأولون" (الأنبياء/ 5)، "وقالوا: لن نؤمن لك حتى تَفْجُر لنا من الأرض ينبوعا* أو تكون لك جنة من نخيلٍ وعنبٍ فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيرا* أو تُسْقِط السماء كما زعمت علينا كِسَفًا أو تأتىَ بالله والملائكة قبيلا* أو يكون لك بيتٌ من زُخْرُف أو تَرْقَى فى السماء، ولن نؤمن لرقيّك حتى تُنَزِّل علنا كتابًا نقرؤه" (الإسراء/ 90- 93) "وما منع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهُدَى إلا أن قالوا: أًبَعَثَ اللهُ بشرًا رسولا؟* قل: لو كان فى الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنين لنَزَّلْنا عليهم من السماء مَلَكًا رسولا" (الإسراء/ 94- 95)، فكيف يقال بعد هذا كله إن دعوة محمد فى مرحلتها المكية كانت تخلو من الكلام عن نبوته ولا تشترط الإيمان به صلى الله عليه وسلم؟
أما عن زعم كاتبنا بأن الآيات المكية المتأخرة ذاتها تنص على أن ما جاء به الرسول الكريم ليس شيئا آخر سوى ما عند "أهل الكتاب: men of the revelation"، أى اليهود والنصارى كما يقول، فلسوف أفاجئ القارئ بما يجعله يفغر فاه دهشا لجرأة الكاتب العجيبة وقدرته الفذة على الاختراع والتدليس دون أن يطرف له جفن، وأقول له إن القرآن إذا ذكر "أهل الكتاب" فإنما يذكرهم فى مقام المجادلة لهم والزراية عليهم وتخطتئتهم واتهامهم بالعناد والكفر، اللهم إلا عندما يعلن أحد منهم إيمانه بمحمد ويعتنق الإسلام مثلما هو الأمر فى الآية قبل الأخيرة من سورة "آل عمران" مثلا، وإن المواضع الإحدى والثلاثين التى ورد ذكرهم فيها فى كتاب الله كلها آيات مدنية ما عدا مرة واحدة يتيمة هى قوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن..." (العنكبوت/ 46)، وهى (كما ترى) فى الجدال والخلاف أيضا لا فى الإشارة إلى تناغم الدعوة المحمدية مع ما عندهم كما يزعم مؤلف المادة! أما كلمة "يهودى" (مرة واحدة)، وكلمة "يهود" (8 مرات)، وكلمة "نصرانى" (مرة واحدة)، وكلمة "نصارى" (14 مرة) فلم يرد منها شىء البتة فى الوحى المكى، كما أن السياقات التى وردت فيها هى كلها سياقات اتهام وتهديد بمصيرٍ أليم، اللهم إلا حين تقول إن باب النجاة مفتوح لهم كما هو مفتوح للمسلمين بشرط أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر، أى يعتنقوا دعوة محمد ويدخلوا الإسلام، أو إنهم قد أسلموا فعلا كما هو الحال فى آيات سورة "المائدة" المشهورة التى يظن بعض الناس أنها تُثْنِى على النصارى بما هم نصارى، مع أنها تقول بصريح اللسان إن القساوسة والرهبان الذين ورد ذكرهم فيها قد سمعوا ما أُنْزِل إلى الرسول ففاضت أعينهم من الدمع تأثرا بآيات الله وأعلنوا إيمانهم بمحمد عليه السلام! عجبى من هذا الكذب الوقح الوجه، السميك الجلد! على أن القرآن مع هذا قد يشير، فى خطابه للنبى عليه السلام فى المرحلة المكية، إلى "الذين يقرأون الكتاب من قبلك" أو إلى "أهل الذكر"، لكن هذه الإشارات إنما تتحدث عن الذين كانوا يتوقعون منهم مجيئه أو أولئك الذين صدَّقوا فعلا برسالته بعد أن أعلن بها، وتستشهد بهم على أن ما جاء به هو الحق الذى لا ريب فيه، كما فى حالة ورقة بن نوفل مثلا. أما "أهل الكتاب" أو "اليهود والنصارى" فكَلاّ ثم كَلاّ، وهذه آيات القرآن موجودة لمن يريد أن يرجع إليها.
وكذلك هى موجودة لمن يريد أن يتحقق من كذب المؤلف فى زعمه أيضا أن الإسلام فى مكة لم يأت بشىء يختلف عما عند اليهود والنصارى: فالمعروف أن القرآن المكىّ يؤكد أنه سبحانه وتعالى "لا تدركه الأبصار" وأنه "ليس كمثله شىء" وأنه "على كل شىء قدير"، وأنه "هو القوىّ المتين"، وهذا يتعارض مع ما يقوله العهد القديم مثلا من أن يعقوب قد ظل يصارعه، عزَّتْ قدرته، طوال الليل ممسكا به بطريقة يصعب معها أن يفلت منه مما لم يجد الله معه بُدًّا من أن يضربه ضربة مؤلمة على حُقّ فخذه، وباركه فوق البيعة ربما إعجابا بمهارته فى المصارعة، تلك المهارة التى تفوّق فيها على الله، إذ أمسك بتلابيبه إمساكة لم يستطع أن يتفلفص منها إلا بعد أن نزل على شرطه وأعطاه البركة، وكأننا فى مصارعة بين "فتوَّتَيْن" فى "مولد" أحد الأولياء، "شىء لله يا سيدنا الولىّ"! ولا أدرى كيف فاتت هذه صلاح جاهين فلم يضمّنها رائعته "الليلة الكبيرة" حتى تكمل وتحلو وتبقى ليلة فُلَّلِيّة! (تكوين/ 32/ 25- 31، و35/ 109)، كما يتعارض مع ما يقوله العهد القديم أيضا من أن موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعين رجلا من قومه قد رأَوُا الله "وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ الشَّفَّافِ وَكَذَاتِ السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ. 11... فَرَأُوا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا" (خروج/ 24/ 10- 11). الله أكبر! ما هذا الهنا الذى نحن فيه؟ وبالمثل ينفى القرآن عن رب العزة أنه يمكن أن يلحقه تعب فيحتاج من ثم إلى شىء من الراحة بعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض (ق/ 38)، على عكس ما نقرأ فى سفر "التكوين" (2/ 1- 3) من أنه سبحانه، بعد أن انتهى من خلقهما فى ستة أيام، "استراح فى اليوم السابع". كما أن القرآن منذ وقت مبكر فى مكة قد حمل على من يجعلون لله ولدا بما فيهم النصارى، الذين خطّأهم فى قولهم ببنوة عيسى عليه السلام لله مؤكدا فى نصوص عنيفة أنه ليس إلا عبدا له سبحانه أنعم الله عليه وجعله نبيا لبنى إسرائيل (الأنعام/ 101، والإسراء/ 111، والكهف/ 4- 5، ومريم/ 30- 40، 88- 95، والأنبياء/ 22، والمؤمنون/ 91، والفرقان/ 2، والزخرف/ 57- 65 مثلا). ونحن نعلم أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد وجدوا أنفسهم فى موقفٍ حَرِجٍ لا يُحْسَدون عليه حينما سألهم القساوسة فى مجلس النجاشى بتحريضٍ من رسولَىْ قريش عن عقيدتهم فى عيسى عليه السلام، لكنهم رغم ذلك لم يجمجموا ولم يجاملوا، بل صَدَعوا بما تقوله سورة "مريم" من أنه عليه السلام ليس إلا عبدًا نبيًّا، وهو ما لَقِىَ القبولَ من العاهل الحبشى الذى فتح الله قلبه لنور الحق وأعلن أن ما قالوه لا يختلف عما يؤمن هو به فى ذلك النبى الكريم أدنى اختلاف! ومعروف أيضا أن النصارى يؤمنون بتوارث البشر عن أبيهم آدم وأمهم حواء ما يسمونه: "الخطيئة الأصلية"، كما أن اليهود يؤمنون بامتداد العقاب للجيل الثالث والرابع من ذرية المخطئ لا لشىءٍ سوى أنهم من سلالته (خروج/ 20/ 5، و34/ 7، وتثنية/ 5/ 10)، فجاء القرآن يحطم هذا الاعتقاد الذى لا معنى له ولا عدل فيه، مكررا بعبارات متنوعة وفى مواضع مختلفة من آياته "أن لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى* وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم/ 38- 39). ومن عجب، وأمور القرآنِ كلها عجب فى عجب، أن النص القرآنى الحالى يستبق الأمر ويرد مقدما على كل من تسوّل له نفسُه الهجومَ الكاذبَ عليه، فنراه فى الآيتين السابقتين على آيتينا هاتين يلفت الأنظار إلى أن هذا المبدأ قد نُصَّ عليه نَصًّا فى صحف موسى، على خلاف ما هو مثبت الآن فى العهد القديم من أن العقاب على الخطإ يطول الجيل الثالث والرابع من ذرية المخطئين! ثم يقول الكذاب إن الإسلام لم يأت فى مكة بشىء جديد ليس عند اليهود النصارى! الحق أن القرآن المكىّ لم يأت فقط بأشياء ليست فى يد اليهود والنصارى، بل يخطّئهم أيضا ويعلّمهم الصواب الذى كان عندهم يوما لكنهم أَخْفَوْه أو مَحَوْه! ونكتفى بهذه الخطوط العامة، وفى ميدان العقيدة فقط، فلا ندخل فى أخطاء الكتاب المقدس التى ترشدنا إليها المقارنة بينه وبين القرآن الكريم أو الاختلافات الموجودة بين الكتابين فى مسائل العبادات والمواريث والنجاسات والمعاملات أو الطريقة البشعة التى صوَّر بها مؤلفو الكتاب المقدس رسلَ الله وأنبياءه فجعلوهم قتلةً مجرمين، وزناةً متهتكين، وللجنس مع المحارم ممارسين، وشِرِّيبى خمرٍ سكّيرين، وبعبادة الأوثان راضين، فجاء القرآن وعدل الصورة بحيث تليق بمن اصطفاهم الله وجعلهم نبيين مصلحين، وإلا فلن ننتهى! على أن الكاتب قد تجاهل أن العكس فى مسألة التأثر التشريعى هو الصحيح، إذ نقل اليهودُ الذين كانوا يعيشون فى المجتمع الإسلامى غَيْرَ قليل من تشريعات الإسلام وجعلوها جزءا لا يتجزأ من عباداتهم وأحوالهم الشخصية. ولأترك أحد المتخصصين فى لغة اليهود وآدابهم، وهو د. محمد جلاء إدريس، يُلْقِى بعض الضوء على هذه النقطة، إذ جاء ردُّه على سؤالٍ سُئِلَه عن مدى تأثير الفقه الإسلامى على نظيره اليهودى على النحو التالى: " عاش اليهود في بيئة عربية إسلامية على مدى 1400 سنة، فمن الطبيعي أن ينقل هؤلاء معهم بعد هجرتهم إلى إسرائيل التراث العربي والإسلامي والمصري على وجه الخصوص، وهذا التأثير كان له عدة مظاهر منها حفظهم للقرآن واستشهاداتهم بآياته، وكذلك الحديث وبعض الجمل الشعبية الأخرى مثل "عليّ الطلاق"، "والله العظيم" و "أقسم بالله". ومن اللافت للنظر أيضاً نقل الأفكار الإسلامية مثل التأثر بالجبرية والجبريين، وبعضهم تأثر بالفقه الإسلامي والمهدي المنتظر والفكر الشيعي. فقد أخذت طائفة القرائين (من اليهود) عن الفقه الإسلامي تحريم زوجة الأب، وقد اعترف علماؤهم اعترافًا صريحًا في ذلك بالأخذ عن مذاهب المسلمين، وتأثيرات إسلامية في مجال العبادات اليهودية كثيرة مثل غسل الرجلين والذراعين ومسح الأذنين والمسح على الرأس، كما اشترطوا ضرورة اغتسال المحتلم للصلاة، وأبطل موسى بن ميمون سرية الصلاة وجعلها جهرًا مخالفًا بذلك شرائع التلمود ومقلدًا للمسلمين، فظهر ما أُطْلِق عليه: "الإسلاميات" في العقيدة اليهودية، وكتب الفقه لدى اليهود على غرار الفقه الإسلامي" (من حوار أجراه معه منير أديب بعنوان "الاستشراق الصليبي" فى مجلة "المنار" المشباكية).
وفى العلاقة بين الرسول واليهود فى يثرب يقول الكاتب إنهم لم يعودوا قادرين مع الأيام على السكوت إزاء ما كان القرآن يحرّفه من روايات الكتاب المقدس عن شخصياتهم التاريخية مثل إبراهيم، الذى يزعم صاحبنا أن القرآن قد صيّره عربيا ونسب إليه بناء الكعبة. وبالمثل يزعم أن الرسول لم يكن يطيق أن يصحح له أحد شيئا من معلوماته المضطربة، ومن ثم أخذ يمطر اليهود بشتائمه العنيفة بعد أن كان يكتفى فى بداية أمره معهم بالهمز واللمز. وحين كانوا يستشهدون بالتوراة على صحة ما يقولون كان رده عليهم أنهم "كالحمار يحمل أسفارا". ولأن معرفته بالتوراة كانت معرفة غير مباشرة حسبما يقول الأفاك، فقد اتهمهم بأنهم لا يفهمونها كما ينبغى أو أنهم يتعمدون إخفاء معناها الحقيقى. ثم يضيف الكاتب بالباطل أنه كان واضحا من سياق الأحداث أن عدوانه عليهم قادم لا محالة، لولا أن كراهيته كانت متجهة فى ذلك الوقت إلى القرشيين، الذين كان ينظر إلى تأبّيهم عليه وموقفهم من أتباعه على أنه إهانة شخصية له ليس من سبيل إلى محوها غير شن الحرب عليهم، ومن ثم نزلت النصوص القرآنية تترى فى الحض على الجهاد وتدمير الحياة نفسها بوصفه جزءا لا يتجزأ من الإيمان. صحيح أن النصوص القرآنية الأولى فى هذا الصدد كانت تحصر دوافع القتال فى رد العدوان، إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك حسبما يزعم الكاتب، فرأينا الآيات تحض على المبادرة بالهجوم على الآخرين: فإما اعتنقوا الإسلام، وإما استحقوا القتل.
ويمضى الرجل فى كذبه وتدليسه فى وقائع التاريخ وحقائق الأخبار فيتهم النبى الكريم بأنه كان يحقد على اليهود لأنهم كشفوا جهله بالتوراة ولم يَرْضَوْا أن يدخلوا فى دينه الزائف. وفاته أن التاريخ مسجَّل لم يضع أو يعبث بحقائقه أحد كما ضاعت التوراة فزيَّفها اليهود ولعبت أيديهم النجسة فيها، ثم ادّعَوْا أن عُزَيْرًا قد استعادها كلمةً كلمةً من الذاكرة لم يخرم منها حرفا واحدا. والذين يقرأون كلام صاحبنا من الأوربيين دون أن يكون لديهم علم بما حدث بين النبى واليهود سوف يصدقون كذب الرجل، فيظنون أن النبى فعلا كان صاحب اليد السفلى فى العلم بالتوراة! لكن ماذا يكون الحال يا ترى لو عرفوا أن بعض أحبار اليهود فى المدينة قد أسلموا نزولا على صوت الحق النابع من أعماق ضمائرهم، وأن الذين عاندوا فلم يدخلوا فى دين الرسول قد فضحهم الله على ألسنة أقاربهم ممن كُتِب لهم شرف اعتناق الإسلام؟ لننظر فى قصة عبد الله بن سلام ومُخَيْرِيق وحُيَىّ بن أخطب مثلا لنرى أين الحقيقة وأين الباطل.
يقول ابن هشام فى "السيرة النبوية" عن عبد الله بن سلام وظروف اعتناقه دين محمد: "قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حَبْرًا عالما، قال: لما سمعتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له، فكنت مُسِرًّا لذلك صامتًا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجلٌ حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة. فلما سمعتُ الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرْتُ فقالت لي عمتي حين سمعتْ تكبيري: خيَّبَك الله! والله لو كنتَ سمعتَ بموسى بن عمران قادما ما زدت. قال: فقلت لها: أَيْ عَمَّة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعِث بما بُعِث به. فقالت: أي ابن اخي، أهو النبي الذي كنا نُخْبَر أنه يُبْعَث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذا. قال: ثم خرجتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ، ثم رجعتُ إلى أهل بيتي فأمرتُهم فأسلموا. قال: وكتمتُ إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، إن يهود قومٌ ُبهْت، وإني أُحِبّ أن تُدْخِلني في بعض بيوتك وتغيِّبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني. قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: أيُّ رجلٍ الحُصَيْنُ بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحَبْرنا وعالِمنا. قال: فلما فرغوا من قولهم خرجتُ عليهم فقلتُ لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومن به وأصدّقه وأعرفه. فقالوا: كذبت، ثم واقعوا بي. قال: فقلت: يا لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قومٌ بُهْت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: فأظهرتُ إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحَسُنَ إسلامها".
وعن مُخَيْرِيق يقول ابن هشام أيضا: "قال ابن إسحاق: وكان من حديث مخيريق، وكان حَبْرًا عَالِمًا، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في عِلْمه، وغَلَبَ عليه إِلْفُ دِينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أُحُد، وكان يوم أُحُد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون إنّ نصر محمد عليكم لحقّ. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سَبْتَ لكم! ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وعهد إلي من وراءه من قومه: إن قُتِلْتُ هذا اليوم فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قُتِل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يقول: مخيريق خَيْرُ يهود. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها".
وأخيرا هذا حيث صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، فلننصت جيدا إلى ما يرويه كذلك ابن هشام لنعرف ما كان يدور خلف الستار: "قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حُدِّثْتُ عن صفية بنت حُيَيّ بن أخطب أنها قالت: كنتُ أَحَبَّ وَلَدِ أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قَطّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قُبَاء في بني عمرو بن عوف غَدَا عليه أبي حُيَيّ بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسَيْن. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى. قالت: فهَشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعتُ عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حُيَيّ بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله. قال: أتَعْرِفه وتُثْبِته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوتُه والله ما بَقِيتُ!".
فأما أن القرآن أو حتى المسلمين يقولون إن إبراهيم كان عربيا فلا أدرى من أين للكاتب بهذا الكلام؟ إن كل ما يقولونه هو أنه أبو إسماعيل، الذى تربى بين أَظْهُر العرب وتزوج منهم، فصارت ذريته جزءا من هؤلاء العرب. فإبراهيم إذن هو جدهم (أو "أبوهم" بتعبير القرآن)، لكنه هو نفسه لم يكن عربيا. وهذا كلام يعرفه كل إنسان، فكان أحرى بالكاتب (لو كان ممن يحترمون أنفسهم وينزلون على كلمة التاريخ وأخلاق العلماء فى عدم كتمان الحقيقة والبعد عن التلاعب بها تبعا لأهواء الباحث وعصبيته الدينية أو القومية أو القبلية) أن يراعيه فيما يخطه قلمه! وبالنسبة لذهاب إبراهيم إلى الحجاز وبنائه هو وإسماعيل الكعبة لا بد أن ننبه القارئ إلى أن هذه الرواية ليست من ابتداع القرآن، بل كان العرب يرددونها طوال تاريخهم قبل الإسلام، ولا نعرف أن اليهود قد أنكروها عليهم يوما، بل لم يحدث أَنْ كذّبوا النبى بشأنها رغم كثرة اعتراضاتهم السخيفة التى كانوا يشغبون بها عليه، فما الذى جَدَّ الآن حتى يتهم الكاتبُ رسولَ الله بأنه يستقى معلوماته التاريخية عن اليهود من مصادر غير موثوقة من هنا وههنا؟ لو أن إبراهيم عليه السلام لم يذهب إلى الحجاز، أكان اليهود قد سكتوا كل هذه المدة المتطاولة فلم يردوا على العرب ما كانوا يقولون؟ إن اليهود لا ينكرون أن العرب إسماعيليون، فما وجه الصعوبة إذن، أو ما وجه الاستحالة فى أن يذهب إبراهيم إلى البلد الذى يقيم فيه ابنه والذى أصهر إلى أهله وتزوج امرأة من نسائه؟ ثم لماذا يخترع العرب هذه القصة؟ لقد كانوا يستطيعون أن ينسبوا بناء الكعبة إلى نبى عربى مثل هُودٍ أو صالحٍ مثلا حتى يكون الشرف الحاصل من هذا الإنجاز عربيا، فلماذا لم يفعلوا واختاروا إبراهيم بدلا من ذلك؟ هل كانوا يريدون التقرب من اليهود؟ لكن أين فى تصرفاتهم أو أشعارهم أو أمثالهم ما يدل على أنهم كانوا يعملون على هذا التقرب؟ وما الذى كان يمثله اليهود فى ذلك الوقت عالميا أو محليا حتى يفكر العرب قى التقرب منهم؟ لقد كان اليهود غرباء طارئين على بلاد العرب لجأوا إليها هروبا من الاضطهاد الذى أنزله الرومان بهم فى بيت المقدس، وكان الأوس والخزرج فى يثرب يجيرونهم. وناسٌ مثلهم لا يمكن أن يشكِّلوا لأهل الديار أية أهمية، فضلا عن أن أخلاق اليهود ونفسيتهم الملتوية وجشعهم وحبهم الجارف للمال وحقدهم على البشر جميعا ليست مما يبعث العرب على التفكير فى التشرف بهم! ثم إن العلاقة بين اليثربيين واليهود لم تكن علاقة مودة حتى يقال إن أهل يثرب كانوا حريصين على التقرب منهم. والنص التالى من "السيرة الحلبية"، وهو متعلق بالآية 90 من سورة "البقرة"، يلقى الضوء على طبيعة تلك العلاقة التى لا يمكن أبدا أن ترشِّح لظهور مثل تلك الرغبة المزعومة عند العرب فى التقرب من يهود والابتهاج بالانتساب إليهم: "من ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهُدَاه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أَهْلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثان، وكانوا أهل كتابٍ عندهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمانُ نبيٍّ يُبْعَث الآن يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإِرَم، أي يستأصلكم بالقتل. فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا. ففي ذلك نزلت هذه الآية في "البقرة": "ولمّا جاءهم كتابٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم وكانوا من قَبْلُ يستفتِحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به! فلعنة الله على الكافرين!". وعلى أية حال فلم يكن سائر العرب خارج يثرب يهتمون باليهود، بل ربما لم يكونوا على علم بوجودهم هناك، إذ لم تكن ليثرب فى نظر العرب آنذاك أية أهمية، على عكس ما حدث بعد الهجرة النبوية إليها حيث اقتربت مكانتها فى الضمير الإسلامى من مكانة أم القرى.
ولنفترض أن هذه المسألة مما لا يمكن البت فيها تاريخيا، فهل الكتاب المقدس من العصمة بحيث لا يمكن أيةَ روايةٍ تخالف ما جاء فيه، أو على الأقل لم يذكرها بين ما ذكر من أحداث ووقائع، إلا أن تكون كاذبة أو خاطئة؟ تعالَوْا ننظر فى بعض ما رواه ذلك الكتاب لنرى مدى ما فيه من منطق أو سخف لا يقبله العقل، ومدى ما فيه من التاريخية أو الأسطورية والخرافة، ومدى ما فيه من التلاؤم أو التناقض بين أجزائه. ولنكن من الآن على ذُكْرٍ من أن الشك يحيط بالكتاب المقدس من كل أطرافه، سواء من جهة مؤلفى أسفاره أو من جهة سلامته من العبث والتحريف أو من جهة المعلومات التاريخية والعلمية التى يحتوى عليها أو من جهة الأرقام التى يذكرها...إلخ، وهذا ما يقوله علماؤهم أيضا لا علماؤنا وحدهم، ودَعُونا من العوامّ واعتقادات العوامّ، فليس لهؤلاء نكتب ما نكتبه هنا. والآن مع بعض نصوص الكتاب المقدس نوردها شواهد على ما نقول فى حق هذا الكتاب من أنه لا يصمد للعقل ولا للبحث العلمى، وأنه يناقض الحقائق التاريخية والطبيعية والرياضية:
"10وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: 11اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. 12وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. 13وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. 14وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ. وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابِعُ الْفُرَاتُ" (تكوين/ 2). أرأيت، أيها القارئ العزيز، هذه الدُّرر الجغرافية والجيولوجية الحلمنتيشية التى يتقاصر دونها كل ما فى كتب علماء الجغرافيا والجيولوجيا؟
"6فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ. 7فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. 8وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلَهِ مَاشِياً فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ»" (تكوين/ 3). ترى أهذا إله أم عُمْدَة من عُمَد الريف عندنا فى مصر خرج لتفقد حقوله بعد غفوة القيلولة وهبوب نسمة العصارى؟ ثم أى إله هذا الذى يختبئ منه عباده فلا يستطيع أن يعرف أين اختبأوا فيُضْطَرّ إلى رفع صوته يسألهم أين يختبئون؟
"1وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ 2أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأُوا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ هُوَ بَشَرٌ وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً». 4كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضاً إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَداً - هَؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ. 5وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. 6فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ: الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»"(تكوين/ 6). هل سمع أحد من عقلاء البشر أو حتى مجانينه أن لله أولادا؟ فمَنْ أمُّهم يا ترى؟ ثم عندما ذهب أولاد الله ليخطبوا بنات الناس، هل أخذوه معهم ليفاتح آباءهن ويتفق معهم على الشبكة والمهر والشقة والأثاث والذى منه؟ ثم أى إله ذلك الذى يأسف ويندم على ما فعل؟ هذا ليس هو الله رب العالمين بل إله من آلهة الوثنيين البدائيين بلغ من غضبه وندمه أنْ تَشَوَّش عقله فلم يعد يستطيع أن يقوم بأتفه العمليات الحسابية، فمرة يقول لنوح: خذ من كل كائنٍ حىٍّ اثنين اثنين ذكرًا وأنثى، ثم ينسى ما قاله بعد قليل فيجعل العدد من الحيوانات الطاهرة ومن طير السماء سبعةً سبعةً ذكورًا وإناثًا، ليعود مرة أخرى إلى عدد الاثنين (تكوين/ 6/ 19- 20، و7/ 2- 3، 15- 16).
وبمناسبة الحديث عن أبناء الله نحب أن ننبه القارئ أن الكتاب المقدس لا يكتفى بهؤلاء الأبناء المذكورين هنا، بل يذكر له سبحانه أبناءً آخرين كآدم وإبراهيم وإسرائيل وداود وبنى إسرائيل جميعا. وفى هذا يقول القرآن الكريم: "وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناءُ اللهِ وأحبّاؤه. قل: فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشرٌ ممن خَلَق. يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء..." (المائدة/ )، "قل: يا أيها الذين هادوا، إنْ زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتمنَّوُا الموتَ إن كنتم صادقين* ولا يتمنَّونْه أبدا بما قدَّمت أيديهم، والله عليمٌ بالظالمين* قل: إن الموت الذى تفرّون منه فإنه ملاقيكم، ثم تُرَدّون إلى عالِم الغيب والشهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون" (الجمعة/ 6- 8). وطبعا يستطيع أى عاقل لم يتلوث فكرُه أو ضميرُه أو تأخذه العصبية عن رؤية الحق والشهادة به أن يدرك الفرق الرهيب بين النظرة الإسلامية الإنسانية التى تسوِّى بين البشر جميعا فى صلتها بالله وبين هذه الرؤية الأنانية المتعصبة المجنونة التى تزعم أن الله يفرّق بين عباده فيقرِّب بعضهم ويُقْصِى بعضهم لا على أساس من إيمانهم وعملهم، بل محاباةً عمياءَ هوجاءَ لا تليق بأى إنسان حكيم، بَلْهَ إلهًا عظيمًا رحيمًا عادلاً كريمًا يعلو فوق العصبيات القبلية والوطنية والقومية والعرقية واللونية، ببساطة لأنه خالق الكلّ ويرحم الكلّ ويرزق الكلّ ويريد الخير والهداية للكلّ، ولا مقياس عنده للتفاضل غير النية الطيبة والإيمان المستقيم والعمل الصالح والطاعة والإخبات! ومرة أخرى لا يكتفى الكتاب المقدس بهذا، بل يجعل له سبحانه زوجة. ولم لا، والأولاد لا يأتون (كما نعرف) من أكمام الحاوى، بل لا بد من زوج وزوجة! جاء فى "المزامير" على لسان داود مخاطبًا الله تعالى: "وقفتْ زوجتُك عن يمينك، وعِقَاصُها من ذهب. أيتها الابنة، اسمعى وميلى بأذنيك، وأبصرى وانْسَىْ عشيرتك وبيت أبيك فيهواك الملِك، وهو الربّ والله، فاسجدى له طوعا". كان هذا فى النسخة التى فى يد ابن حزم رضى الله عنه، ثم غيَّر مترجمو البروتستانت فى العصر الحديث ذلك فحذفوا كلمة "زوجتك" ووضعوا مكانها لفظة "المَلِكة"، كما استبدلوا بعبارة "وهو الرب والإله" قولهم: "لأنه هو سيدك"! (انظر المزمور 45/ 9- 11، وقارن بالترجمة القديمة الموجودة فى "الفِصَل فى الملل والأهواء والنِّحَل" لابن حزم/ تحقيق د. محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة/ مكتبات عكاظ/ 1402هــ- 1982م/ 1/ 307- 308).
ولعل هنا المكان المناسب لنعرِّف القارئ الطيب القلب بطبيعة العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وزوجته كما يصورها مؤلفو الكتاب المقدس. إنه زوج مسكين (أستغفره سبحانه وأبرأ إليه من هذا الرجس، ولكن ماذا نفعل؟ ما باليد حيلة، فإن الأحقاد تأكل قلوب القوم فلا يرتاحون إلا بالتطاول على سيد المرسلين، وهم لن يرتاحوا أبدا، فما كان الحقد يوما بمريحٍ صاحبه، فيضطروننا من ثم إلى الرد عليهم من واقع كتبهم التى يرفعونها فى وجه نبينا الكريم متصورين أنهم يمكن أن يُجْلِبوا على القارئ الطيب الذى ليس عنده فكرة عما يقولون فيظن، لسلامة طويته، أنهم لا يكذبون)، نعم إنهم يصورونه، تباركت أسماؤه، بصورة الزوج المسكين الذى تمرِّغ زوجته كل يوم شرفه فى الرَّغَام فيهدد ويتوعد ويملأ الدنيا بصراخه وشتائمه، ثم لا يفعل شيئا سوى العودة إليها صاغرًا راغمًا وتجرُّع كأس المذلة من جديد!: "2[يَا ابْنَ آدَمَ, عَرِّفْ أُورُشَلِيمَ بِرَجَاسَاتِهَا 3وَقُلْ: هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لأُورُشَلِيمَ: مَخْرَجُكِ وَمَوْلِدُكِ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ. أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ. 4أَمَّا مِيلاَدُكِ يَوْمَ وُلِدْتِ فَلَمْ تُقْطَعْ سُرَّتُكِ, وَلَمْ تُغْسَلِي بِـالْمَاءِ لِلتَّنَظُّفِ, وَلَمْ تُمَلَّحِي تَمْلِيحاً, وَلَمْ تُقَمَّطِي تَقْمِيطاً. 5لَمْ تُشْفِقْ عَلَيْكِ عَيْنٌ لِتَصْنَعَ لَكِ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ لِتَرِقَّ لَكِ. بَلْ طُرِحْتِ عَلَى وَجْهِ الْحَقْلِ بِكَرَاهَةِ نَفْسِكِ يَوْمَ وُلِدْتِ. 6فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ, فَقُلْتُ لَكِ: بِدَمِكِ عِيشِي. قُلْتُ لَكِ بِدَمِكِ عِيشِي. 7جَعَلْتُكِ رَبْوَةً كَنَبَاتِ الْحَقْلِ, فَرَبَوْتِ وَكَبِرْتِ وَبَلَغْتِ زِينَةَ الأَزْيَانِ. نَهَدَ ثَدْيَاكِ وَنَبَتَ شَعْرُكِ وَقَدْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 8فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ, وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ, وَحَلَفْتُ لَكِ وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, فَصِرْتِ لِي. 9فَحَمَّمْتُكِ بِـالْمَاءِ وَغَسَلْتُ عَنْكِ دِمَاءَكِ وَمَسَحْتُكِ بِـالزَّيْتِ, 10وَأَلْبَسْتُكِ مُطَرَّزَةً, وَنَعَلْتُكِ بِـالتُّخَسِ, وَأَزَّرْتُكِ بِـالْكَتَّانِ وَكَسَوْتُكِ بَزّاً, 11وَحَلَّيْتُكِ بِـالْحُلِيِّ, فَوَضَعْتُ أَسْوِرَةً فِي يَدَيْكِ وَطَوْقاً فِي عُنُقِكِ. 12وَوَضَعْتُ خِزَامَةً فِي أَنْفِكِ وَأَقْرَاطاً فِي أُذُنَيْكِ وَتَاجَ جَمَالٍ عَلَى رَأْسِكِ. 13فَتَحَلَّيْتِ بِـالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِبَاسُكِ الْكَتَّانُ وَالْبَزُّ وَالْمُطَرَّزُ. وَأَكَلْتِ السَّمِيذَ وَالْعَسَلَ وَالزَّيْتَ, وَجَمُلْتِ جِدّاً جِدّاً فَصَلُحْتِ لِمَمْلَكَةٍ. 14وَخَرَجَ لَكِ اسْمٌ فِي الأُمَمِ لِجَمَالِكِ, لأَنَّهُ كَـانَ كَـامِلاً بِبَهَائِي الَّذِي جَعَلْتُهُ عَلَيْكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 15[فَـاتَّكَلْتِ عَلَى جَمَالِكِ وَزَنَيْتِ عَلَى اسْمِكِ, وَسَكَبْتِ زِنَاكِ عَلَى كُلِّ عَابِرٍ فَكَانَ لَهُ. 16وَأَخَذْتِ مِنْ ثِيَابِكِ وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَاتٍ مُوَشَّاةٍ وَزَنَيْتِ عَلَيْهَا. أَمْرٌ لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يَكُنْ. 17وَأَخَذْتِ أَمْتِعَةَ زِينَتِكِ مِنْ ذَهَبِي وَمِنْ فِضَّتِي الَّتِي أَعْطَيْتُكِ, وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ صُوَرَ ذُكُورٍ وَزَنَيْتِ بِهَا. 18وَأَخَذْتِ ثِيَابَكِ الْمُطَرَّزَةَ وَغَطَّيْتِهَا بِهَا وَوَضَعْتِ أَمَامَهَا زَيْتِي وَبَخُورِي. 19وَخُبْزِي الَّذِي أَعْطَيْتُكِ, السَّمِيذَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ الَّذِي أَطْعَمْتُكِ, وَضَعْتِهَا أَمَامَهَا رَائِحَةَ سُرُورٍ. وَهَكَذَا كَـانَ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 20[أَخَذْتِ بَنِيكِ وَبَنَاتِكِ الَّذِينَ وَلَدْتِهِمْ لِي وَذَبَحْتِهِمْ لَهَا طَعَاماً. أَهُوَ قَلِيلٌ مِنْ زِنَاكِ 21أَنَّكِ ذَبَحْتِ بَنِيَّ وَجَعَلْتِهِمْ يَجُوزُونَ فِي النَّارِ لَهَا؟ 22وَفِي كُلِّ رَجَاسَاتِكِ وَزِنَاكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ, إِذْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً وَكُنْتِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ. 23وَكَانَ بَعْدَ كُلِّ شَرِّكِ. وَيْلٌ وَيْلٌ لَكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, 24أَنَّكِ بَنَيْتِ لِنَفْسِكِ قُبَّةً وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَةً فِي كُلِّ شَارِعٍ. 25فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيقٍ بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ, وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ. 26وَزَنَيْتِ مَعَ جِيرَانِكِ بَنِي مِصْرَ الْغِلاَظِ اللَّحْمِ, وَزِدْتِ فِي زِنَاكِ لإِغَاظَتِي. 27فَهَئَنَذَا قَدْ مَدَدْتُ يَدِي عَلَيْكِ, وَمَنَعْتُ عَنْكِ فَرِيضَتَكِ, وَأَسْلَمْتُكِ لِمَرَامِ مُبْغِضَاتِكِ بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اللَّوَاتِي يَخْجَلْنَ مِنْ طَرِيقِكِ الرَّذِيلَةِ. 28وَزَنَيْتِ مَعَ بَنِي أَشُّورَ إِذْ كُنْتِ لَمْ تَشْبَعِي فَزَنَيْتِ بِهِمْ, وَلَمْ تَشْبَعِي أَيْضاً. 29وَكَثَّرْتِ زِنَاكِ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَى أَرْضِ الْكِلْدَانِيِّينَ, وَبِهَذَا أَيْضاً لَمْ تَشْبَعِي. 30مَا أَمْرَضَ قَلْبَكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, إِذْ فَعَلْتِ كُلَّ هَذَا فِعْلَ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ سَلِيطَةٍ! 31بِبِنَائِكِ قُبَّتَكِ فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيقٍ, وَصُنْعِكِ مُرْتَفَعَتَكِ فِي كُلِّ شَارِعٍ. وَلَمْ تَكُونِي كَزَانِيَةٍ, بَلْ مُحْتَقِرَةً الأُجْرَةَ. 32أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ الْفَاسِقَةُ, تَأْخُذُ أَجْنَبِيِّينَ مَكَانَ زَوْجِهَا. 33لِكُلِّ الزَّوَانِي يُعْطُونَ هَدِيَّةً, أَمَّا أَنْتِ فَقَدْ أَعْطَيْتِ كُلَّ مُحِبِّيكِ هَدَايَاكِ, وَرَشَيْتِهِمْ لِيَأْتُوكِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلزِّنَا بِكِ. 34وَصَارَ فِيكِ عَكْسُ عَادَةِ النِّسَاءِ فِي زِنَاكِ, إِذْ لَمْ يُزْنَ وَرَاءَكِ, بَلْ أَنْتِ تُعْطِينَ أُجْرَةً وَلاَ أُجْرَةَ تُعْطَى لَكِ, فَصِرْتِ بِـالْعَكْس! 35[فَلِذَلِكَ يَا زَانِيَةُ اسْمَعِي كَلاَمَ الرَّبِّ. 36هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ أُنْفِقَ نُحَاسُكِ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُكِ بِزِنَاكِ بِمُحِبِّيكِ وَبِكُلِّ أَصْنَامِ رَجَاسَاتِكِ, وَلِدِمَاءِ بَنِيكِ الَّذِينَ بَذَلْتِهِمْ لَهَا, 37لِذَلِكَ هَئَنَذَا أَجْمَعُ جَمِيعَ مُحِبِّيكِ الَّذِينَ لَذَذْتِ لَهُمْ, وَكُلَّ الَّذِينَ أَحْبَبْتِهِمْ مَعَ كُلِّ الَّذِينَ أَبْغَضْتِهِمْ, فَأَجْمَعُهُمْ عَلَيْكِ مِنْ حَوْلِكِ, وَأَكْشِفُ عَوْرَتَكِ لَهُمْ لِيَنْظُرُوا كُلَّ عَوْرَتِكِ. 38وَأَحْكُمُ عَلَيْكِ أَحْكَـامَ الْفَاسِقَاتِ السَّافِكَـاتِ الدَّمِ, وَأَجْعَلُكِ دَمَ السَّخَطِ وَالْغَيْرَةِ. 39وَأُسَلِّمُكِ لِيَدِهِمْ فَيَهْدِمُونَ قُبَّتَكِ وَيُهَدِّمُونَ مُرْتَفَعَاتِكِ وَيَنْزِعُونَ عَنْكِ ثِيَابَكِ وَيَأْخُذُونَ أَدَوَاتِ زِينَتِكِ, وَيَتْرُكُونَكِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 40وَيُصْعِدُونَ عَلَيْكِ جَمَاعَةً وَيَرْجُمُونَكِ بِـالْحِجَارَةِ وَيَقْطَعُونَكِ بِسُيُوفِهِمْ, 41وَيُحْرِقُونَ بُيُوتَكِ بِـالنَّارِ وَيُجْرُونَ عَلَيْكِ أَحْكَـاماً قُدَّامَ عُيُونِ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ. وَأَكُفُّكِ عَنِ الزِّنَا, وَأَيْضاً لاَ تُعْطِينَ أُجْرَةً بَعْدُ. 42وَأُحِلُّ غَضَبِي بِكِ فَتَنْصَرِفُ غَيْرَتِي عَنْكِ فَأَسْكُنُ وَلاَ أَغْضَبُ بَعْدُ. 43مِنْ أَجْلِ أَنَّكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ بَلْ أَسْخَطْتِنِي فِي كُلِّ هَذِهِ, فَهَئَنَذَا أَيْضاً أَجْلِبُ طَرِيقَكِ عَلَى رَأْسِكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. فَلاَ تَفْعَلِينَ هَذِهِ الرَّذِيلَةَ فَوْقَ رَجَاسَاتِكِ كُلِّهَا" (حزقيال/ 16).
"2حَاكِمُوا أُمَّكُمْ حَاكِمُوا لأَنَّهَا لَيْسَتِ امْرَأَتِي وَأَنَا لَسْتُ رَجُلَهَا لِتَعْزِلَ زِنَاهَا عَنْ وَجْهِهَا وَفِسْقَهَا مِنْ بَيْنِ ثَدْيَيْهَا 3لِئَلاَّ أُجَرِّدَهَا عُرْيَانَةً وَأَوْقِفَهَا كَيَوْمِ وِلاَدَتِهَا وَأَجْعَلَهَا كَقَفْرٍ وَأُصَيِّرَهَا كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ وَأُمِيتَهَا بِـ/لْعَطَشِ. 4وَلاَ أَرْحَمُ أَوْلاَدَهَا لأَنَّهُمْ أَوْلاَدُ زِنًى. 5«لأَنَّ أُمَّهُمْ قَدْ زَنَتِ. الَّتِي حَبِلَتْ بِهِمْ صَنَعَتْ خِزْياً. لأَنَّهَا قَالَتْ: أَذْهَبُ وَرَاءَ مُحِبِّيَّ الَّذِينَ يُعْطُونَ خُبْزِي وَمَائِي صُوفِي وَكَتَّانِي زَيْتِي وَأَشْرِبَتِي. 6لِذَلِكَ هَئَنَذَا أُسَيِّجُ طَرِيقَكِ بِـ/لشَّوْكِ وَأَبْنِي حَائِطَهَا حَتَّى لاَ تَجِدَ مَسَالِكَهَا. 7فَتَتْبَعُ مُحِبِّيهَا وَلاَ تُدْرِكُهُمْ وَتُفَتِّشُ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَجِدُهُمْ. فَتَقُولُ: أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ إِلَى رَجُلِي الأَوَّّلِ لأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ خَيْرٌ لِي مِنَ الآنَ. 8«وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ أَنِّي أَنَا أَعْطَيْتُهَا الْقَمْحَ وَالْمِسْطَارَ وَالزَّيْتَ وَكَثَّرْتُ لَهَا فِضَّةً وَذَهَباً جَعَلُوهُ لِبَعْلٍ. 9لِذَلِكَ أَرْجِعُ وَآخُذُ قَمْحِي فِي حِينِهِ وَمِسْطَارِي فِي وَقْتِهِ وَأَنْزِعُ صُوفِي وَكَتَّانِي اللَّذَيْنِ لِسَتْرِ عَوْرَتِهَا. 10وَالآنَ أَكْشِفُ عَوْرَتَهَا أَمَامَ عُيُونِ مُحِبِّيهَا وَلاَ يُنْقِذُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. 11وَأُبَطِّلُ كُلَّ أَفْرَاحِهَا: أَعْيَادَهَا وَرُؤُوسَ شُهُورِهَا وَسُبُوتَهَا وَجَمِيعَ مَوَاسِمِهَا. 12وَأُخَرِّبُ كَرْمَهَا وَتِينَهَا اللَّذَيْنِ قَالَتْ: هُمَا أُجْرَتِي الَّتِي أَعْطَانِيهَا مُحِبِّيَّ وَأَجْعَلُهُمَا وَعْراً فَيَأْكُلُهُمَا حَيَوَانُ الْبَرِّيَّةِ. 13وَأُعَاقِبُهَا عَلَى أَيَّامِ بَعْلِيمَ الَّتِي فِيهَا كَانَتْ تُبَخِّرُ لَهُمْ وَتَتَزَيَّنُ بِخَزَائِمِهَا وَحُلِيِّهَا وَتَذْهَبُ وَرَاءَ مُحِبِّيهَا وَتَنْسَانِي أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ. 14«لَكِنْ هَئَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَأُلاَطِفُهَا 15وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ وَوَادِي عَخُورَ بَاباً لِلرَّجَاءِ. وَهِيَ تُغَنِّي هُنَاكَ كَأَيَّامِ صِبَاهَا وَكَيَوْمِ صُعُودِهَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. 16وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ أَنَّكِ تَدْعِينَنِي «رَجُلِي» وَلاَ تَدْعِينَنِي بَعْدُ «بَعْلِي»" (هوشع/ 2)... ونكتفى بهذين النصين، وهناك نصوص أخرى غيرهما لمن يفتح الكتاب المقدس ويقرأ ولا يكتفى بثقافة الأذن كأذناب الغرب من بيننا الذين يحلو لهم، بسبب غبائهم وسلاطة ألسنتهم، أن يعيبوا "الإسلام" بأنه "ثقافة البعير". وفاتهم، لحماقتهم وسفالتهم، أن المشكلة ليست فى "ثقافة البعير"، بل فيما رُكِّب فى رؤوسهم من "عقول الحمير"!
أما فى النص التالى فإن كاتبه يرتكب التزييف بغباء ليس بعده من غباء، فقد رزق الله خليله إبراهيم بإسماعيل، ثم مكث عليه السلام بعد ذلك عدة أعوام قبل أن يرزقه أيضا بإسحاق، ومع هذا نقرأ فى الكتاب المسمى بـ"المقدس" أَمْرَ الله له بأن يأخذ ابنه "وحيده" ليقدمه له ضحية. ويقول المنطق والعقل ونصوص الكتاب المقدس ذاتها إن الكلام لا يمكن أن يكون إلا عن إسماعيل، لأنه هو الذى يمكن أن يطلَق عليه: "وحيد إبراهيم"، إذ مكث (كما قلنا) عدة أعوام قبل أن يلحق به إسحاق، أما إسحاق فلم يكن وحيد أبيه يوما! لكنْ مهلاً أيها القارئ، فأنت مع "الكتاب المقدس" ذى التفانين والتعاجيب، وعلى هذا فلا تستغرب أن يصادم مؤلفُ هذا السِّفْر المنطقَ والعقلَ والكلامَ الذى كتبه هو قبل ذلك بيده التى سيأكلها الدود فى القبر وتحرقها النار يوم القيامة، فيقول على لسان الله سبحانه: "خذ ابنك وحيدك الذى تحبه: إسحاق..." (تكوين/ 22/ 1- 13). فماذا كان إسماعيل إذن يا ترى؟ ألعلّه كان ابن الجيران؟ أم ترى نَسِىَ اللهُ عزّ وجلّ أنه كان قد وهب إبراهيمَ قبل عدة أعوام ابنًا اسمه إسماعيل؟ ثم يأتى فى آخر الزمان صُوَيْحِبُنا هذا ويجد فى نفسه الجرأة ليكذّب رسولنا بهذه الطريقة السفيهة!
وإذا قرأنا قصة ولادة موسى وما فعلته أمه بعد أن لم تستطع الاستمرار فى إخفائه عن عيون رجال فرعون الموكَّلين بقتل الرُّضَّع من بنى إسرائيل، نجد كاتب القصة يقول إنها أخذت سَفَطًا من البردى وطَلَتْه بالحُمَر والزفت وأرقدت فيه الطفل، ثم وضعته بين الحلفاء على حافة النهر حيث التقطته ابنة فرعون. وواضح أن التابوت، حسب هذه الرواية، لم يُلْقَ فى الماء. وإننا لنتساءل: فلم إذن طلتْه أم موسى بالحُمَر والزفت، وهما المادتان اللتان تُطْلَى بهما القوارب لمنع دخول الماء فيها حتى لا تغرق؟ فإذا مضينا فى القراءة فوجئنا بأن ابنة فرعون تسمى الطفل: "موسى" قائلة: "إنى انتشلتُه من الماء" (خروج/ 2/ 2- 4، 10). وهكذا يتبين لنا مما يقوله كاتب السفر نفسه أن السَّفَط كان قد أُلْقِىَ فى النهر ولم يوضع على الحلفاء فوق الشطّ. ومعنى هذا بكل بساطة ووضوح أن القصة تتناقض مع نفسها، أما القرآن فقد قال قولا واحدا إن الله سبحانه قد ألهم أم الرضيع أن تلقى به فى تابوت ثم تقذف به فى اليَمّ (طه/ 38- 39، والقصص/ 7).
وفى سفر "الخروج" (23/ 20) نقرأ قول الرب لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهى، لأن الإنسان لا يرانى ويعيش"، وإن قيل عقب ذلك إن من الممكن أن ينظر موسى وراء الله بعد أن يجتاز، وكأن لله خلفًا وقدامًا، وظَهْرًا ووجهًا بالمعنى المادى المألوف. ونسى كاتب السفر أنه قال فى موضعٍ آخرَ إن الله كان يكلم موسى "وجهًا لوجهٍ كما يكلم الرجلُ صاحبَه" (خروج/ 33/ 11)، وهو ما أكده سفر "العدد"، إذ جاء فيه (12/ 7- 8): "وأما عبدى موسى فليس هكذا، بل هو أمين فى كل بيتى. فمًا إلى فمٍ وعِياتًا أتكلم معه لا بالألغاز"، وقاله موسى نفسه حسبما جاء فى سفر "التثنية" (5/ 4): "وجهًا لوجهٍ تكلم الرب معنا من وسط النار". ليس ذلك فحسب، بل رأى اللهَ، مع موسى، هارونُ ونادابُ وأبيهو وسبعون من شيوخ بنى إسرائيل كما مرّ من قبل.
كذلك يجد القارئ الطيب فى الكتاب المقدس، لو أراد، قصصا عن الأنبياء تشيب لهولها الوِلْدان (والبنات أيضا، أليس لهن نفس؟): فهذا لوط تنام فى أحضانه ابنتاه بعد أن سقتاه خمرا وتمارسان الفحشاء معه بالدور، كل واحدة فى ليلة خاصة بها، حتى تحبلا ويكون لهما ذرية! وهذا إبراهيم يقدِّم زوجته للملك مقابل بعض الماشية، وكاد الملك أن يرتكب معها الفاحشة لولا رؤيا رآها فى المنام عرف منها أن المرأة ليست أختًا لإبراهيم، بل زوجته! وهذا داود يرى من فوق سطح قصره امرأة قائده العسكرى يوريا الحثى، وهى تستحم فى فناء بيتها عارية كما ولدتها أمها، فتقع طبعا فى نفسه ويرسل فيحضرها ويزنى بها، ثم لا يكتفى بهذا، بل يدبر بكل نذالةٍ مؤامرةً للتخلص من زوجها القائد العسكرى المخلص، ويتم له المراد فيُلْحِق المرأة بحريمه بعد أن تنتهى من مدة الحداد (والله فيه البركة!). وهذه المرأة هى أم سليمان عليه السلام حسبما يقول مزيفو الكتاب المقدس، أما سليمان ذاته فينظم نشيدا فى الغزل الشهوانى لا يستطيع نزار قبانى ولا ستون واحدا كنزار قبانى أن ينظمه، وكلّه فى الأعكان اللدنة والسُّرَر المدوَّرة والأثداء الممتلئة والأفخاذ الملفوفة والتنهدات الحارة والأحضان الملتهبة واللقاءات الليلية الدنسة! ولم لا؟ أليس ابنَ بَتْشَبَع، التى لم يكن فى قصر زوجها (يا حبّة عينى!) مكان تتوارى فيه عن الأنظار وهى تستحم، فكانت تغتسل فى الفناء على طريقة راقصات الإستربتيز؟ وهذا... وهذا... وهذا... وأستغفر الله على نقل هذا الكلام، ولكن ما العمل، وما باليد حيلةٌ إزاء السفالات التى يغادينا ويماسينا بها القوم بكل وقاحة، وكأنهم يمسكون على سيدنا رسول الله زلّة؟ فإذا جئت تكلمهم وتقول لهم إن أنبياءكم، حسب شهادتكم أنتم لا غيركم، فعلوا كذا وكذا كان ردُّهم: "إنهم بشر، والله قد غفر لهم"! طيب يا أولاد الأفاعى (كما قال فيكم السيد المسيح عليه السلام حسب روايات الأناجيل)، لم لا تنظرون بنفس العين إلى ما تدَّعونه على سيد البشر كذبا، وهو لا يبلغ واحدا على الألف مما تقولون أنتم بعظمة لسانكم إن أنبياءكم قد ارتكبوه؟ أم تراكم تقولون إن عفو الله حين بلغ محمدا قد نَفِد وانتهى، ولم يعد من الممكن التعاقد على "طلبيّة" أخرى منه لأن خطوط الإنتاج فى "مصانع العفو والمغفرة" قد أُغْلِقَتْ، وبيعت المصانع نفسها "خُرْدَة" لمقاول من مقاولى القطاع الخاص إياهم؟ غنى عن البيان أن القرآن لا يعترف بمثل هذه الحكايات المجرمة الكافرة، فالأنبياء فيه رجالٌ بلغوا الذروة فى الإيمان القويم والخلق الكريم، لأن الله قد اصطفاهم من خيرة خلقه وصَنَعهم على عينه، ولم يَلُمّهم من شُذّاذ الحوارى ومتشرِّدى الأزقة!
إن الكتاب المقدس مملوء بالعِبَر، ومن يقلّب صفحاته يجد العجب، ولو تركتُ لنفسى حبلها على غاربها فلن تتوقف، ولن يخذلها أيضا الكتاب المقدس المملوء بالخرافات والروايات التى تُضْحِك الثَّكْلَى إضحاكا. لكنى أستسمح القارئ أن أحكى له هذه الطُّرْفة وأَعِدُه أنها ستكون آخر طرفة فى هذا السياق: ففى سفر "أخبار الأيام الثانى" نجد أن يهورام الملك حين ارتقى سدة الحكم كان عمره اثنتين وثلاثين سنة، وظل يحكم ثمانى سنوات، ثم مات. فماذا كان عمره حينذاك؟ أربعين سنة طبعا. لكننا نفاجأ بكاتب السفر بعد ثلاثة أسطر يقول لنا إن ابنه أخزيا، الذى تولى الحكم بعده مباشرة، كان عمره اثنتين وأربعين سنة (21/ 20، و22/ 1- 2). وليس لهذا من معنى إلا أن الولد كان يكبر أباه بسنتين!!! انتهت النكتة!!!
إن صاحبنا يريد أن يوهم القارئَ بأن المشكلة إنما تكمن فى الرسول، فهو لم يكن مطلعا على التوراة، بل كانت معرفته بها شذرات من طريق العوام من هنا وههنا، ومن ثم كانت معلوماته عنها خاطئة، ولم يكن يطيق أن يصحح اليهود له أخطاءه، فكان ينقم عليهم ويشعر بالحقد تجاههم. عظيم! خلِّنا وراء الكذاب لحد باب الدار! فماذا يكون جوابه إذن لو بيَّنَّا للقارئ أن ما قاله القرآن والرسول فى حَقّ اليهود (كَسْر حُقِّهم!) أخفّ كثيرا جدا مما يقوله العهد القديم وأنبياؤهم هم أنفسهم فيهم؟ ولْنبدأ بالمسيح، الذى كان إسرائيليا مثلهم وتربى فى وسطهم وتعلم كتابهم وسمع أحبارهم وتردد على معبدهم، والذى كثيرًا ما صبَّ لعناته فوق رؤوسهم النجسة ودعا عليهم بالويل والثبور ووسمهم بــ"المرائين" و"قتلة الأنبياء وراجمى المرسلين" و"أولاد الأفاعى" و"خراف بنى إسرائيل الضالة" و"فاعلى الإثم" و"الشعب الصُّلْب الرقبة" و"الجيل الشرير" و"لصوص المغارة"... وهلمّ جرًّا مما لا يُعَدّ ما وصفهم القرآن به شيئا يُذْكَر! أم تراه سيعترض بأنهم لا يعترفون به عليه السلام نبيا؟ فلننتقل إذن إلى غيره، ولنأخذ زكريا وإرميا وعزرا وموسى على سبيل المثال، وسنختار النصوص التالية مجرَّد عيِّنة ليس إلا: " 1فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا بْنِ عِدُّو النَّبِيِّ: 2قَدْ غَضِبَ الرَّبُّ غَضَباً عَلَى آبَائِكُمْ. 3فَقُلْ لَهُمْ: [هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. 4لاَ تَكُونُوا كَآبَائِكُمُ الَّذِينَ نَادَاهُمُ الأَنْبِيَاءُ الأَوَّلُونَ: هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الشِّرِّيرَةِ وَعَنْ أَعْمَالِكُمُ الشِّرِّيرَةِ. فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا إِلَيَّ" (نبوءة زكريا/1)، "8وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا: 9[هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: اقْضُوا قَضَاءَ الْحَقِّ وَاعْمَلُوا إِحْسَاناً وَرَحْمَةً كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ. 10وَلاَ تَظْلِمُوا الأَرْمَلَةَ وَلاَ الْيَتِيمَ وَلاَ الْغَرِيبَ وَلاَ الْفَقِيرَ وَلاَ يُفَكِّرْ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَرّاً عَلَى أَخِيهِ فِي قَلْبِهِ. 11فَأَبُوا أَنْ يُصْغُوا وَأَعْطُوا كَتِفاً مُعَانِدَةً وَثَقَّلُوا آذَانَهُمْ عَنِ السَّمْعِ. 12بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاساً لِئَلاَّ يَسْمَعُوا الشَّرِيعَةَ وَالْكَلاَمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ الْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ. 13فَكَانَ كَمَا نَادَى هُوَ فَلَمْ يَسْمَعُوا كَذَلِكَ يُنَادُونَ هُمْ فَلاَ أَسْمَعُ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. 14وَأَعْصِفُهُمْ إِلَى كُلِّ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ. فَخَرِبَتِ الأَرْضُ وَرَاءَهُمْ لاَ ذَاهِبَ وَلاَ آئِبَ. فَجَعَلُوا الأَرْضَ الْبَهِجَةَ خَرَاباً]." (نبوءة زكريا/ 7).
"1كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّعْبِ؟ كَيْفَ صَارَتْ كَأَرْمَلَةٍ الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ؟ السَّيِّدَةُ في الْبُلْدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ! 2تَبْكِي في اللَّيْلِ بُكَاءً وَدُمُوعُهَا علَى خَدَّيْهَا. لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ مِن كُلِّ مُحِبِّيهَا. كُلُّ أَصْحَابِهَا غَدَرُوا بِهَا. صَارُوا لهَا أَعْدَاءً. 3قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا مِنَ الْمَذَلَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ. هِيَ تَسْكُنُ بَيْنَ الأُمَمِ. لاَ تَجِدُ رَاحَةً. قَدْ أَدْرَكَهَا كُلُّ طَارِدِيهَا بَيْنَ الضِّيقَاتِ. 4طُرُقُ صِهْيَوْنَ نَائِحَةٌ لِعَدَمِ الآتِينَ إِلَى الْعِيدِ. كُلُّ أَبْوَابِهَا خَرِبَةٌ. كَهَنَتُهَا يَتَنَهَّدُونَ. عَذَارَاهَا مُذَلَّلَةٌ وَهِيَ فِي مَرَارَةٍ. 5صَارَ مُضَايِقُوهَا رَأْساً. نَجَحَ أَعْدَاؤُهَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا. ذَهَبَ أَوْلاَدُهَا إِلَى السَّبْيِ قُدَّامَ الْعَدُوِّ. 6وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِنْتِ صِهْيَوْنَ كُلُّ بَهَائِهَا. صَارَتْ رُؤَسَاؤُهَا كَأَيَائِلَ لاَ تَجِدُ مَرْعًى فَيَسِيرُونَ بِلاَ قُوَّةٍ أَمَامَ الطَّارِدِ. 7قَدْ ذَكَرَتْ أُورُشَلِيمُ فِي أَيَّامِ مَذَلَّتِهَا وَتَطَوُّحِهَا كُلَّ مُشْتَهَيَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ. عِنْدَ سُقُوطِ شَعْبِهَا بِيَدِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ مَنْ يُسَاعِدُهَا. رَأَتْهَا الأَعْدَاءُ. ضَحِكُوا عَلَى هَلاَكِهَا. 8قَدْ أَخْطَأَتْ أُورُشَلِيمُ خَطِيَّةً مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَتْ رَجِسَةً. كُلُّ مُكَرِّمِيهَا يَحْتَقِرُونَهَا لأَنَّهُمْ رَأُوا عَوْرَتَهَا وَهِيَ أَيْضاً تَتَنَهَّدُ وَتَرْجِعُ إِلَى الْوَرَاءِ. 9نَجَاسَتُهَا فِي أَذْيَالِهَا. لَمْ تَذْكُرْ آخِرَتَهَا وَقَدِ انْحَطَّتِ انْحِطَاطاً عَجِيباً. لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ". (مراثى إرميا/ 1/ 8- 9).
"1وَلَمَّا كَمُلَتْ هَذِهِ تَقَدَّمَ إِلَيَّ الرُّؤَسَاءُ قَائِلِينَ: [لَمْ يَنْفَصِلْ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ وَالْكَهَنَةُ وَاللاَّوِيُّونَ مِنْ شُعُوبِ الأَرَاضِي حَسَبَ رَجَاسَاتِهِمْ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ وَالْعَمُّونِيِّينَ وَالْمُوآبِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ. 2لأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ وَلِبَنِيهِمْ وَاخْتَلَطَ الزَّرْعُ الْمُقَدَّسُ بِشُعُوبِ الأَرَاضِي. وَكَانَتْ يَدُ الرُّؤَسَاءِ وَالْوُلاَةِ فِي هَذِهِ الْخِيَانَةِ أَوَّلاً]. 3فَلَمَّا سَمِعْتُ بِهَذَا الأَمْرِ مَزَّقْتُ ثِيَابِي وَرِدَائِي وَنَتَّفْتُ شَعْرَ رَأْسِي وَذَقْنِي وَجَلَسْتُ مُتَحَيِّراً. 4فَاجْتَمَعَ إِلَيَّ كُلُّ مَنِ ارْتَعَدَ مِنْ كَلاَمِ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَجْلِ خِيَانَةِ الْمَسْبِيِّينَ وَأَنَا جَلَسْتُ مُتَحَيِّراً إِلَى تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ. 5وَعِنْدَ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ قُمْتُ مِنْ تَذَلُّلِي وَفِي ثِيَابِي وَرِدَائِي الْمُمَزَّقَةِ جَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَبَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِي 6وَقُلْتُ: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْجَلُ وَأَخْزَى مِنْ أَنْ أَرْفَعَ يَا إِلَهِي وَجْهِي نَحْوَكَ لأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ كَثُرَتْ فَوْقَ رُؤُوسِنَا وَآثَامَنَا تَعَاظَمَتْ إِلَى السَّمَاءِ. 7مُنْذُ أَيَّامِ آبَائِنَا نَحْنُ فِي إِثْمٍ عَظِيمٍ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَلأَجْلِ ذُنُوبِنَا قَدْ دُفِعْنَا نَحْنُ وَمُلُوكُنَا وَكَهَنَتُنَا لِيَدِ مُلُوكِ الأَرَاضِي لِلسَّيْفِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَخِزْيِ الْوُجُوهِ كَهَذَا الْيَوْمِ. 8وَالآنَ كَلُحَيْظَةٍ كَانَتْ رَأْفَةٌ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ إِلَهِنَا لِيُبْقِيَ لَنَا نَجَاةً وَيُعْطِيَنَا وَتَداً فِي مَكَانِ قُدْسِهِ لِيُنِيرَ إِلَهُنَا أَعْيُنَنَا وَيُعْطِيَنَا حَيَاةً قَلِيلَةً فِي عُبُودِيَّتِنَا. 9لأَنَّنَا عَبِيدٌ نَحْنُ وَفِي عُبُودِيَّتِنَا لَمْ يَتْرُكْنَا إِلَهُنَا بَلْ بَسَطَ عَلَيْنَا رَحْمَةً أَمَامَ مُلُوكِ فَارِسَ لِيُعْطِيَنَا حَيَاةً لِنَرْفَعَ بَيْتَ إِلَهِنَا وَنُقِيمَ خَرَائِبَهُ وَلْيُعْطِيَنَا حَائِطاً فِي يَهُوذَا وَفِي أُورُشَلِيمَ. 10وَالآنَ فَمَاذَا نَقُولُ يَا إِلَهَنَا بَعْدَ هَذَا لأَنَّنَا قَدْ تَرَكْنَا وَصَايَاكَ 11الَّتِي أَوْصَيْتَ بِهَا عَنْ يَدِ عَبِيدِكَ الأَنْبِيَاءِ قَائِلاً: إِنَّ الأَرْضَ الَّتِي تَدْخُلُونَ لِتَمْتَلِكُوهَا هِيَ أَرْضٌ مُتَنَجِّسَةٌ بِنَجَاسَةِ شُعُوبِ الأَرَاضِي بِرَجَاسَاتِهِمِ الَّتِي مَلَأُوهَا بِهَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ بِنَجَاسَتِهِمْ. 12وَالآنَ فَلاَ تُعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِبَنِيهِمْ وَلاَ تَأْخُذُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكُمْ وَلاَ تَطْلُبُوا سَلاَمَتَهُمْ وَخَيْرَهُمْ إِلَى الأَبَدِ لِتَتَشَدَّدُوا وَتَأْكُلُوا خَيْرَ الأَرْضِ وَتُورِثُوا بَنِيكُمْ إِيَّاهَا إِلَى الأَبَدِ. 13وَبَعْدَ كُلِّ مَا جَاءَ عَلَيْنَا لأَجْلِ أَعْمَالِنَا الرَّدِيئَةِ وَآثَامِنَا الْعَظِيمَةِ - لأَنَّكَ قَدْ جَازَيْتَنَا يَا إِلَهَنَا أَقَلَّ مِنْ آثَامِنَا وَأَعْطَيْتَنَا نَجَاةً كَهَذِهِ 14أَفَنَعُودُ وَنَتَعَدَّى وَصَايَاكَ وَنُصَاهِرُ شُعُوبَ هَذِهِ الرَّجَاسَاتِ؟ أَمَا تَسْخَطُ عَلَيْنَا حَتَّى تُفْنِيَنَا فَلاَ تَكُونُ بَقِيَّةٌ وَلاَ نَجَاةٌ؟ 15أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ أَنْتَ بَارٌّ لأَنَّنَا بَقِينَا نَاجِينَ كَهَذَا الْيَوْمِ. هَا نَحْنُ أَمَامَكَ فِي آثَامِنَا لأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَقِفَ أَمَامَكَ مِنْ أَجْلِ هَذَا]" (عزرا/ 9).
"1وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا لأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا». 3فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتُوا بِهَا إِلَى هَارُونَ. 4فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالْإِزْمِيلِ وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكاً. فَقَالُوا: «هَذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ!» 5فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحاً أَمَامَهُ وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: «غَداً عِيدٌ لِلرَّبِّ». 6فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اذْهَبِ انْزِلْ! لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. 8زَاغُوا سَرِيعاً عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ. صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلاً مَسْبُوكاً وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». 9وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «رَأَيْتُ هَذَا الشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. 10فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ فَأُصَيِّرَكَ شَعْباً عَظِيماً». 11فَتَضَرَّعَ مُوسَى أَمَامَ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَقَالَ: «لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ الَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ 12لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ؟ ارْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ. 13اُذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ الَّذِينَ حَلَفْتَ لَهُمْ بِنَفْسِكَ وَقُلْتَ لَهُمْ: أُكَثِّرُ نَسْلَكُمْ كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَأُعْطِي نَسْلَكُمْ كُلَّ هَذِهِ الأَرْضِ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَنْهَا فَيَمْلِكُونَهَا إِلَى الأَبَدِ». 14فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ. 15فَانْصَرَفَ مُوسَى وَنَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ وَلَوْحَا الشَّهَادَةِ فِي يَدِهِ: لَوْحَانِ مَكْتُوبَانِ عَلَى جَانِبَيْهِمَا. مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا كَانَا مَكْتُوبَيْنِ. 16وَاللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ اللهِ وَالْكِتَابَةُ كِتَابَةُ اللهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى اللَّوْحَيْنِ. 17وَسَمِعَ يَشُوعُ صَوْتَ الشَّعْبِ فِي هُتَافِهِ فَقَالَ لِمُوسَى: «صَوْتُ قِتَالٍ فِي الْمَحَلَّةِ». 18فَقَالَ: «لَيْسَ صَوْتَ صِيَاحِ النُّصْرَةِ وَلاَ صَوْتَ صِيَاحِ الْكَسْرَةِ. بَلْ صَوْتَ غِنَاءٍ أَنَا سَامِعٌ». 19وَكَانَ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ إِلَى الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ أَبْصَرَ الْعِجْلَ وَالرَّقْصَ. فَحَمِيَ غَضَبُ مُوسَى وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَّرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ 20ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِماً وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَسَقَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. 21وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ هَذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ خَطِيَّةً عَظِيمَةً؟» 22فَقَالَ هَارُونُ: «لاَ يَحْمَ غَضَبُ سَيِّدِي! أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّعْبَ أَنَّهُ شِرِّيرٌ. 23فَقَالُوا لِيَ: اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا. لأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ. 24فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ لَهُ ذَهَبٌ فَلْيَنْزِعْهُ وَيُعْطِنِي. فَطَرَحْتُهُ فِي النَّارِ فَخَرَجَ هَذَا الْعِجْلُ». 25وَلَمَّا رَأَى مُوسَى الشَّعْبَ أَنَّهُ مُعَرًّى (لأَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ عَرَّاهُ لِلْهُزْءِ بَيْنَ مُقَاوِمِيهِ) 26وَقَفَ مُوسَى فِي بَابِ الْمَحَلَّةِ وَقَالَ: «مَنْ لِلرَّبِّ فَإِلَيَّ!» فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ بَنِي لاَوِي. 27فَقَالَ لَهُمْ: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخِْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ». 28فَفَعَلَ بَنُو لاَوِي بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَوَقَعَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. 29وَقَالَ مُوسَى: «امْلَأُوا أَيْدِيَكُمُ الْيَوْمَ لِلرَّبِّ حَتَّى كُلُّ وَاحِدٍ بِابْنِهِ وَبِأَخِيهِ فَيُعْطِيَكُمُ الْيَوْمَ بَرَكَةً». 30وَكَانَ فِي الْغَدِ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلشَّعْبِ: «أَنْتُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ خَطِيَّةً عَظِيمَةً. فَأَصْعَدُ الآنَ إِلَى الرَّبِّ لَعَلِّي أُكَفِّرُ خَطِيَّتَكُمْ». 31فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «آهِ قَدْ أَخْطَأَ هَذَا الشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. 32وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ - وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ». 33فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مَنْ أَخْطَأَ إِلَيَّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي. 34وَالآنَ اذْهَبِ اهْدِ الشَّعْبَ إِلَى حَيْثُ كَلَّمْتُكَ. هُوَذَا مَلاَكِي يَسِيرُ أَمَامَكَ. وَلَكِنْ فِي يَوْمِ افْتِقَادِي أَفْتَقِدُ فِيهِمْ خَطِيَّتَهُمْ». 35فَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ لأَنَّهُمْ صَنَعُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ هَارُونُ" (خروج/ 32).
14وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «هُو َذَا أَيَّامُكَ قَدْ قَرُبَتْ لِتَمُوتَ. ادْعُ يَشُوعَ وَقِفَا فِي خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ لِكَيْ أُوصِيَهُ». فَانْطَلقَ مُوسَى وَيَشُوعُ وَوَقَفَا فِي خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ 15فَتَرَاءَى الرَّبُّ فِي الخَيْمَةِ فِي عَمُودِ سَحَابٍ وَوَقَفَ عَمُودُ السَّحَابِ عَلى بَابِ الخَيْمَةِ. 16وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «هَا أَنْتَ تَرْقُدُ مَعَ آبَائِكَ فَيَقُومُ هَذَا الشَّعْبُ وَيَفْجُرُ وَرَاءَ آلِهَةِ الأَجْنَبِيِّينَ فِي الأَرْضِ التِي هُوَ دَاخِلٌ إِليْهَا فِي مَا بَيْنَهُمْ وَيَتْرُكُنِي وَيَنْكُثُ عَهْدِي الذِي قَطَعْتُهُ مَعَهُ. 17فَيَشْتَعِلُ غَضَبِي عَليْهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ وَأَتْرُكُهُ وَأَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُ فَيَكُونُ مَأْكُلةً وَتُصِيبُهُ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ وَشَدَائِدُ حَتَّى يَقُول فِي ذَلِكَ اليَوْمِ: أَمَا لأَنَّ إِلهِي ليْسَ فِي وَسَطِي أَصَابَتْنِي هَذِهِ الشُّرُورُ!. 18وَأَنَا أَحْجُبُ وَجْهِي فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَجْلِ جَمِيعِ الشَّرِّ الذِي عَمِلهُ إِذِ التَفَتَ إِلى آلِهَةٍ أُخْرَى. 19فَالآنَ اكْتُبُوا لأَنْفُسِكُمْ هَذَا النَّشِيدَ وَعَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيل إِيَّاهُ. ضَعْهُ فِي أَفْوَاهِهِمْ لِيَكُونَ لِي هَذَا النَّشِيدُ شَاهِداً عَلى بَنِي إِسْرَائِيل. 20لأَنِّي أُدْخِلُهُمُ الأَرْضَ التِي أَقْسَمْتُ لآِبَائِهِمِ الفَائِضَةَ لبَناً وَعَسَلاً فَيَأْكُلُونَ وَيَشْبَعُونَ وَيَسْمَنُونَ ثُمَّ يَلتَفِتُونَ إِلى آلِهَةٍ أُخْرَى وَيَعْبُدُونَهَا وَيَزْدَرُونَ بِي وَيَنْكُثُونَ عَهْدِي. 21فَمَتَى أَصَابَتْهُ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ وَشَدَائِدُ يُجَاوِبُ هَذَا النَّشِيدُ أَمَامَهُ شَاهِداً لأَنَّهُ لا يُنْسَى مِنْ أَفْوَاهِ نَسْلِهِ. إِنِّي عَرَفْتُ فِكْرَهُ الذِي يُفَكِّرُ بِهِ اليَوْمَ قَبْل أَنْ أُدْخِلهُ إِلى الأَرْضِ كَمَا أَقْسَمْتُ». 22فَكَتَبَ مُوسَى هَذَا النَّشِيدَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ وَعَلمَ بَنِي إِسْرَائِيل إِيَّاهُ. 23وَأَوْصَى يَشُوعَ بْنَ نُونَ وَقَال: «تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لأَنَّكَ أَنْتَ تَدْخُلُ بِبَنِي إِسْرَائِيل الأَرْضَ التِي أَقْسَمْتُ لهُمْ عَنْهَا وَأَنَا أَكُونُ مَعَكَ». 24فَعِنْدَمَا كَمَّل مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلى تَمَامِهَا 25أَمَرَ مُوسَى اللاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ: 26«خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِداً عَليْكُمْ. 27لأَنِّي أَنَا عَارِفٌ تَمَرُّدَكُمْ وَرِقَابَكُمُ الصُّلبَةَ. هُوَذَا وَأَنَا بَعْدُ حَيٌّ مَعَكُمُ اليَوْمَ قَدْ صِرْتُمْ تُقَاوِمُونَ الرَّبَّ فَكَمْ بِالحَرِيِّ بَعْدَ مَوْتِي! 28اِجْمَعُوا إِليَّ كُل شُيُوخِ أَسْبَاطِكُمْ وَعُرَفَاءَكُمْ لأَنْطِقَ فِي مَسَامِعِهِمْ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ وَأُشْهِدَ عَليْهِمِ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. 29لأَنِّي عَارِفٌ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِي تَفْسِدُونَ وَتَزِيغُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الذِي أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَيُصِيبُكُمُ الشَّرُّ فِي آخِرِ الأَيَّامِ لأَنَّكُمْ تَعْمَلُونَ الشَّرَّ أَمَامَ الرَّبِّ حَتَّى تُغِيظُوهُ بِأَعْمَالِ أَيْدِيكُمْ" (تثنية/31).
والآن، وبَعْد ذلك كله، أيستكثر الكاتب أن يقول القرآن عن اليهود إنهم "كالحمار يحمل أسفارا"؟ على أن صاحبنا يكذب هنا أيضا، إذ يزعم أن اليهود كانوا إذا أظهروا للنبى خطأه بذكر ما قالته التوراة مما يتعارض مع ما يقوله هو عنها وعنهم حَنِقَ عليهم وشتمهم قائلاً إنهم "كالحمار يحمل أسفارا". ووجه الكذب فى هذا الكلام أنه لم يحدث قَطّ أَنْ حاكَمَ اليهودُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام إلى التوراة، بل هو الذى كان يحاكمهم إليها ويتحداهم أن يأتوا بها ويتلوا ما فيها مما يختلفون معهم حوله حتى يتبين مَنْ منهما على الحق، ومن على الباطل. وقد ذكر القرآن الكريم شيئا من ذلك حين اختلف الطرفان حول الحكم الإلهى فى بعض الأطعمة، إذ قال الرسول إن لحوم الإبل وألبانها حلال، بينما قال اليهود إنها حرام عندهم فى التوراة، فنزل قوله تعالى: "كُلُّ الطعام كان حِلاًّ لبنى إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسه من قبل أن تُنَزَّل التوراة. قل: فَأْتُوا بالتوراة فاتْلوها إن كنتم صادقين* فمن افترى على الله الكَذِبَ من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون* قل: صَدَقَ الله، فاتَّبِعوا ملةَ إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين" (آل عمران/ 93- 94).
فهذه حادثة تدل على أن الذى طلب مراجعة التوراة هو النبى عليه السلام لا اليهود. وثمة حادثة أخرى تدل على الأمر نفسه، وهى مأخوذة من تفسير الطبرى للآية الرابعة والأربعين من سورة "المائدة": "عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: زَنَى رَجُل مِنْ الْيَهُود بِامْرَأَةٍ, فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ: اِذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيّ، فَإِنَّهُ نَبِيّ بُعِثَ بِتَخْفِيفٍ, فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُون الرَّجْم قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْد اللَّه وَقُلْنَا: فُتْيَا نَبِيّ مِنْ أَنْبِيَائِك! قَالَ: فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد فِي أَصْحَابه, فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم، مَا تَقُول فِي رَجُل وَامْرَأَة مِنْهُمْ زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمهُمْ كَلِمَة حَتَّى أَتَى بَيْت الْمِدْرَاس, فَقَامَ عَلَى الْبَاب, فَقَالَ: "أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ؟" قَالُوا: يُحَمَّم وَيُجَبَّه وَيُجْلَد (وَالتَّجْبِيه: أَنْ يُحْمَل الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَار تُقَابَل أَقْفِيَتهمَا, وَيُطَاف بِهِمَا). وَسَكَتَ شَابّ, فَلَمَّا رَآهُ سَكَتَ أَلَظَّ بِهِ النِّشْدَة, فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا, فَإِنَّا نَجِد فِي التَّوْرَاة الرَّجْم. فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا أَوَّل مَا ارْتَخَصَ أَمْر اللَّه؟" قَالَ: زَنَى رَجُلٌ ذُو قَرَابَة مِنْ مَلِك مِنْ مُلُوكنَا فَأَخَّرَ عَنْهُ الرَّجْم, ثُمَّ زَنَى رَجُل فِي أُسْرَة مِنْ النَّاس, فَأَرَادَ رَجْمه, فَحَالَ قَوْمه دُونه وَقَالُوا: لا تَرْجُم صَاحِبنَا حَتَّى تَجِيء بِصَاحِبِك فَتَرْجُمه , فَاصْطَلَحُوا عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَة بَيْنهمْ. قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِّي أَحْكُم بِمَا فِي التَّوْرَاة". فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا". وهذا معنى قوله تعالى:"وكيف يُحَكِّمونك، وعندهم التوراة فيها حكم الله، ثم يتوَلَّوْن من بعد ذلك؟ وما أولئك بالمؤمنين". وفى سنن أبى داود مثلا أن اليهود حين أحضروا التوراة بناءً على طلب الرسول ليقرأوا ما فيها من عقوبة الزانى جَعَل أحدُهم يضع يده على النص كما يفعل الأولاد الصغار، ظنا منه أنه بهذا يستطيع أن يخفى الكلام الذى يفضح كذبهم. وهذا هو الحديث المقصود: "حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم! إن فيها الرجم. فأتَوْا بالتوراة فنشروها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يديك. فرفعها، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما".
ومثل ذلك رَدُّ القرآن عليهم هم والنصارى حين ادَّعَى كل منهما أن إبراهيم عليه السلام كان على دينه، فنزل قوله سبحانه يسخِّف عقل الفريقين جميعا ويحيلهم مرة أخرى إلى التوراة والإنجيل، متهمًا إياهم فى أصل وجههم بأنهم إنما يخوضون فيما ليس لهم به علم: "يا أهل الكتاب، لِمَ تُحَاجّون فى إبراهيم، وما أُنْزِلت التوراة والإنجيل إلا مِنْ بعده؟ أفلا تعقلون؟* ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به عِلْم، فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم؟ والله يعلم، وأنتم لا تعلمون* ماكان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مُسْلِمًا، وما كان من المشركين" (آل عمران/ 65- 67). ومثله أيضا هاتان الآيتان اللتان تقرّعان اليهود على أنهم، فى الوقت الذى يتشددون فى التمسك بحكم التوراة الخاص بمفاداة أمثالهم من اليهود إذا وقعوا فى الأَسْر، فإنهم لا يتحرّجون فى معاونة الآخرين من حلفائهم غير اليهود عليهم وإخراجهم من ديارهم رغم أن ذلك مما تحرّمه شريعتهم نفسها، ومن ثم تحيلهم الآيتان إلى التوراة لتذكيرهم بما يتجاهلونه من أحكامها: "وإذ أخذنا ميثاقكم: لا تسفكون دماءكم ولا تُخْرِجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون* ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخْرِجون فريقًا منكم من ديارهم، تَظَاهَرون عليهم بالإثم والعدوان. وإن يأتوكم أُسَارَى تُفادوهم، وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم. أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزىٌ فى الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُرَدّون إلى أشد العذاب. وما الله بغافلٍ عما تعملون" (البقرة/ 84- 85). فمن إذن الذى يخالف ما تقول به التوراة؟ ومن ذا الذى يحيل إليها ويستشهد بما جاء فيها ويتحدى الطرف الآخر به؟
أم ترى كان اليهود أوفياء لتوراتهم ويعرفونها أفضل من محمد ويتحاكمون إليها عندما جاءهم وثنيّو قريش يسألونهم أىّ الدينين هو الدين الحق: وثنيتهم أم الإسلام الذى جاء به محمد؟ فكان جوابهم أن الوثنية القرشية هى الدين الصحيح؟ يقول جل شأنه: "ألم تر إلى الذين أُوتُوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجِْبْت والطاغوت ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا؟* أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن اللهُ فلن تجد له نصيرا" (النساء/ 51- 52). إن الكاتب يعمِّى على حقائق التاريخ ويلتوى بها كعادة اليهود، لكن الحق أبلج، والباطل لجلج، والفضيحة له بالمرصاد مهما كذب ودلَّس وأطلق الاتهامات الباطلة ضد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أليس من الحق الذى لا يستطيع أن يجادل فيه من كان عنده ذرة من عقل وضمير أن الذين يجيبون هذا الجواب هم "كالحمار يحمل أسفارا"؟ هل يمكن أن يصل الحقد والحمق إلى هذا المدى عند بعض الناس فيَنْصُروا الوثنيةَ وعبدةَ الأصنام على الإسلام فى الوقت الذى يزعمون فيه أنهم القُوّام على التوحيد فى العالم وأنهم شعب الله المختار؟ لكن ماذا تقول فى اليهود، وهذه أسفار العهد القديم تدمدم بالغضب الإلهى عليهم وتفيض باللعنات المنصبة فوق رؤوسهم لكثرة ما نبذوا التوحيد وارتكسوا فى عبادة الأصنام والأوثان؟ بل إن تشتيت الله لهم فى الأرض وتسليطه الأمم الأخرى عليهم تسومهم الخسف والهوان والخزى هو، حسبما يقول الكتاب المقدس، نتيجة هذا الشرك الوثنى الذى لم تبرأ منه قلوبهم يومًا، فكانوا يرتدّون إليه كلما سنحت سانحة منذ العجل الذهبى الذى صنعوه، ولمّا تكن أقدامهم قد استراحت من عبور البحر بعد أن نجاهم الله منه وأغرق فيه فرعون وجنوده! إنها نفسيتهم وشخصيتهم الملتوية طوال العصور. ولقد شوهوا سيرة نبى الله هارون، إذ زعموا أنه هو الذى صنع العجل من حلىّ المصريين كى يعبده بنو إسرائيل أثناء غياب موسى فوق الجبل لتلقِّى الألواح، كما لطخوا بنفس الطريقة صورة نبى الله سليمان، الذى ادَّعَوْا عليه أنه تزوج من مئات النسوة الوثنيات وبنى لهن المذابح الوثنية فى بيته ليعبدنها على راحتهن دون أن يتجشمن مشقة الانتقال إليها، وعبدها هو أيضا مثلهن! لا عجب إذن أن يفعلوا ما فعلوه مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد فعلوا ما كانوا يفعلونه فى كل البلاد وبين كل الشعوب حتى لقد أصبحوا يمثلون مشكلة فى أى مكان يحلّون فيه وأى مجتمع يعيشون بين ظهرانَيْه، وصار هناك موضوع دائم مُلِحّ يطرقه المفكرون الذين يَخْبُرونهم اسمه: "المسألة اليهودية"!
أما الغزوات التى غزاها صلى الله عليه وسلم فيهم فلم تكن بسبب الحقد عليهم والطمع فى أموالهم كما قال الكاتب زورًا وبهتانًا، بل كانت بسبب غدرهم وانتقاضهم على ما كان بينهم وبينه عليه السلام من معاهدة على التعاون ضد من يريد أيًّا من الفريقين بشر: وكان أوّلَ من بدرت منه الخيانة بنو قينقاع، إذ ما إن انتصر المسلمون على المشركين فى بدر حتى دبت عقارب البغضاء فى قلوبهم فشرعوا يثيرون المشاكل ويلمزون الرسول والمسلمين ويحقّرون من شأن انتصارهم على الكفار ويتحدَّوْنهم قائلين إن القرشيين لا علم لهم بفن القتال، وإنه متى ما يشتبك المسلمون معهم فسوف يعلمون كيف تكون الحرب. ثم قَفَّوْا على ذلك بالتحرش بنساء المسلمين، إذ وفدت عليهم إحداهن فى سوقهم ببضاعةٍ تبيعها وجلست إلى صائغ منهم، فأرادوها على كشف وجهها لكنها أبت، فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى حيلةٍ مجرمةٍ غادرةٍ مثلهم كشفوا بها لا وجهها بل سوأتها نفسها، وأخذوا يضحكون ويقهقهون عليهم لعنات الله، وهى تشعر بالهوان والعار شأن كل حرة عفيفة ليست من فاجرات يهود، فلم يتمالك أحد المسلمين الذين تصادف وجودُهم آنذاك فى السوق نفسَه من غليان دم الكرامة والحميّة فى عروقه، وضرب اليهودى فى ثورة غضبه فقتله، فقتله اليهود بدورهم. أى أنهم، بدلا من أن يكونوا إلبا مع الرسول ضد الكفار حسبما تقضى بنود الصحيفة، انقلبوا عليه وعلى المسلمين وأخذوا يثيرون لهم المشاكل، ويعتدون منهم على من يوقعهم سوء حظهم تحت رحمتهم، ويتآمرون ويحرّضون ويكشفون عن مخططاتهم الخيانية. ومع ذلك لم يأخذهم الرسول بغتة، بل نبذ إليهم أولاً العهد الذى كان بينه وبينهم فى الصحيفة رغم أن غدرهم كان كافيا وأكثر من كافٍ لأخذهم مباغتة، وطلب منهم الخروج من المدينة تاركًا لهم أموالهم وأثقالهم وأسلحتهم الخفيفة يحملونها معهم. أولو كان طامعا فى أموالهم كما يدّعى المدّعون الكذّابون، أكان يتركهم يخرجون بهذه الأموال بتلك السهولة؟
ونأتى لبنى النضير، وقد كانوا مُلْزَمين بنص المعاهدة التى كانت بينهم وبين المسلمين أن يتعاونوا معهم فى الحرب والديات وما إلى ذلك، ومن ثم كان يجب عليهم أن يشتركوا فى القتال جنبًا إلى جنبٍ معهم فى أُحُد ضد مشركى مكة، الذين أَتَوْا لمهاجمة يثرب، لكنهم تعللوا نفاقا وجبنا وكذبا وغدرا بالسبت، وهى نفس الحجة التى طالما تعللوا بها عند المسيح كى يَنْكِلوا عن أداء الواجب، وتهكَّم بسببها عليهم وعلى نفاقهم الذى يريدون أن يُلْبِسوه كسوة الإيمان الصارم (متى/ 12/1، ولوقا /6 /2، و14/ 3)، اللهم إلا واحدا منهم يسمَّى مُخَيْرِيق أبت عليه رجولته أن يخنس فى عهده مع الرسول، فاشترك فى الحرب معه عليه السلام حيث مات كريما شريفا. ثم حدث بعد ذلك أيضًا أن ذهب النبى إليهم بعد أُحُد فى دية بعض القتلى يطلب منهم المساهمة فى دفعها، فأجلسوه بجوار حائط لهم وأوهموه أنهم سيُحْضِرون له المال المطلوب حالا. ثم كلَّفوا أحدهم أن يصعد إلى أعلى الجدار ويلقى برَحًى ثقيلة على رأسه صلى الله عليه وسلم فتهشِّمه، لكن المؤامرة انكشفت فقام النبى من مكانه مغادرا فى الحال، ثم أرسل إليهم أن اخرجوا من المدينة. بَيْدَ أن المنافقين نفثوا فى رُوعهم أن يَبْقَوْا حيث هم وأكدوا لهم أنهم سوف يقفون بجانبهم ولن يتركوهم يخرجون، وإلا فلسوف يخرجون هم أيضا تضامنًا معهم. فانخدع اليهود بكلام المنافقين الجبان وبَقُوا فى حصونهم، مما اضطر المسلمين لمحاصرتهم حتى نزلوا على ما كانوا رفضوه من قبل بسبب التحريض النفاقى. وكان من يهود بنى النَّضِير زعيمٌ شاعرٌ دَأَب على نظم القصائد فى التشبيب بنساء المسلمات، فضلاً عن ذهابه هو وأمثاله من القادة النَّضِيريّين إلى المشركين فى مكة وتحريضهم على مهاجمة يثرب...وما إلى ذلك، وهو ابن أبى الحُقَيْق، الذى لم يجد من أبناء قبيلته من يفكر فى كفّه عن هذه المؤامرات المدمّرة ويذكّره بالعهد الذى كان بينهم وبين المسلمين ويقول له: "إن هذا لا يصح"، بل وجد بدلا من ذلك من يعمل على تشجيعه ويتعاون معه فى التآمر والخيانة والوقاحة ومعالنة الرسول والمسلمين بالعداء والتحالف مع مشركى مكة فى حربهم السافرة ضد الدولة التى يعيشون فى كنفها وتبسط عليهم جناح حمايتها، فكان مصيره هو المصير الذى يستحقه أمثاله، كما أصبحت مجاورة النَّضِيريين للمسلمين فى المدينة أمرا غير معقول ولا محتمل، فكان الإجلاء مثلما حدث من قبل لبنى قينقاع. ومرة أخرى نرى الرسول عليه السلام يصبر عليهم لآخر المدى ويرأف بهم رغم تكرر الغدر والسفالة والتآمر منهم، كما تركهم يخرجون بأموالهم ومتاعهم لم يصادره منهم، مع أنهم لو كانوا ظفروا بالمسلمين لكان انتقامهم مروِّعا حسبما تقضى شريعة العهد القديم وطبيعتهم الحاقدة على البشرية والرغبة فى إيذاء الآخرين المتأصلة فى نفوسهم حبًّا فى الإيذاء! ويشكك الكاتب فى موضوع مؤامرة الرَّحَى قائلا إن محمدا إنما لجأ إلى القول بأن الوحى هو الذى كشف له أمرها كى يوجد لنفسه العذر فى الغدر بهم طمعا فى أموالهم رغم أنه لم تكن هناك مؤامرة ولا يحزنون حسبما يقول! وهذا، والحق يقال، كلام العهرة، فقد ترك الرسول بنى النضير أيضا يخرحون بأموالهم ومتاعهم حتى لقد خلعوا أبواب دورهم وحملوها معهم على الإبل. بل إنه لم يَمَسّهم بأذى رغم كل ما فعلوه، ولو كان قد جَزَرَ رقاب طائفة من هؤلاء الخنازير ما لامه أحد، فالأمر أمر مصير دولة وأمة، وليس شروة طماطم. وكان عليه الصلاة والسلام قد سمح لهم، قبل أن يشمسوا بتحريض من المنافقين، بأن يأخذوا معهم كل ما يريدون وأن يحتفظوا كذلك ببساتينهم مع إقامة وكلاء عنهم فيها، إلا أن تماديهم فى العصيان والتحدى وعدم انتهاز الفرصة المواتية ورفض تلك الشروط اللينة المتسامحة قد جعلته صلى الله عليه وسم يتشدد فى شروط خروجهم عند استسلامهم الجبان الذليل فى آخر المطاف فيصادر منهم بساتينهم. ثم إنهم لم يكونوا لِيَسْكُتوا لو كان الرسول هو الذى اخترع هذه المؤامرة من عند نفسه، إلا أنهم قد خنسوا تماما فلم يفتحوا أفواههم النجسة ببنت شفة اعتراضًا أو توضيحًا أو تظلمًا أو حتى لتشويه صورة النبى الكريم الذى كانوا يكرهونه كراهية العمى والموت.
ونبلغ غزوة بنى قُرَيْظَة، الذين لم يتعظوا مما وقع لبنى قينقاع ولا لبنى النضير. ويبدو أن اللين الذى عامل به النبى هاتين القبيلتين من قبل قد أغرى القُرَظِيّين بأن يجربوا هم أيضا حظهم من الخيانة والغدر، وبخاصة أنهم قد اتخذوا من الإجراءات والتخطيطات ما جعلهم يعتقدون أنهم يستطيعون توجيه ضربة قاتلة لمحمد ولدينه هذه المرة، إذ ذهب وفد من زعمائهم إلى مكة فحرضوا القرشيين على غزو المدينة والقضاء على المسلمين ودخلوا معهم فى حلف أقسموا عليه عند أوثان الكعبة. ثم لم يكتفوا بذلك، بل شفعوه بالذهاب إلى قبائل عربية أخرى وثنية أيضًا وحرضوها بنفس الطريقة ومَنَّوْها بثروات المدينة وتحالفوا معهم كذلك على هذا. ثم إنهم، حين بلغ النبىَّ ما فعلوه وما انْتَوَوْه وأراد التثبت منه فأرسل إليهم من يفاتحهم فى المسألة ليعلم حقيقة أمرهم، كان ردهم فى غاية الوقاحة والسوء، وأعلنوا موقفهم بصراحة لا تحتمل أى لبس، وهددوا وتوعّدوا وأنكروا أن يكون بينهم وبينه أية معاهدة، أى أن عليه أن يبلّ الصحيفة ويشرب ماءها كما نقول فى لغتنا العامية! ولم يكتف الخونة بهذا، بل بدأوا بالتحرك والاتصالات بالغزاة منذ اللحظة الأولى وظهرت منهم علائم الخيانة والغدر فى وقت كانت ظروف المسلمين فى منتهى الحرج والصعوبة والضيق! ولولا أن الأقدار هيأت للإسلام فى ذلك الوقت العصيب نعيم بن مسعود الغطفانى، الذى أسلم سرًّا وأتى رسولَ الله وعرض عليه خطته فى إيقاع الشكوك بين الأحزاب وبين بنى قُرِيْظَة ووُفِّق فى تنفيذها لكان المسلمون قد ذهبوا أدراج الرياح إلى الأبد، ولما كان هناك إسلام ولا يحزنون. ثم هبت الريح العاصفة التى أرسلها الله على خيام الأحزاب فأطارتها وأوقعت الرعب فى قلوبهم فهبّوا إلى إبلهم فارّين لا يلوون على شىء. وعندئذ كان لا بد من العقاب لهؤلاء الأوغاد الخونة الذين لا يتعلمون الدرس أبدا ولا يتعظون ولا يقدرون على النظر أبعد من أنوفهم، فإذا شامُوا شيئًا من القوة فى أنفسهم، وهى فى العادة قوة مستعارة من الآخرين، فَجَرُوا وانتفشوا كما يفعلون هذه الأيام مع العرب والمسلمين اغترارًا بقوة أمريكا والغرب، غافلين عن أن الأمريكان والأوربيين إذا كانوا أقوياء اليوم، وكان العرب ضعفاء أذلاء بُلَداء، فإن الأمور لا يمكن أن تستقيم على هذه الحال إلى الأبد! المهم أن الرسول قد غزاهم وحاصرهم حتى استسلموا كالنعاج، فحوكموا على يد رجل من حلفائهم فى الجاهلية هو سعد بن معاذ، فحكم عليهم بقَتْل محاربيهم الغَدَرة الفَجَرة الكَفَرة، وسَبْى نسائهم وذرياتهم. وهنا يولول الكاتب ويصرخ متهما الرسول والمسلمين بالقسوة، وكأن الرحمة تقتضى صاحبها أن يكون، كالمسلمين فى هذه الأيام النَّحِسَات، أبلهَ غبيًّا لا يعرف أمور الحياة، فيُلْدَغ من الجحر الواحد مرات ومرات! أىّ رحمة يتكلم عنها الكاتب، وهو يعلم تمام العلم أن أسلافه الخائنين لو كانوا ظفروا بما خططوا له لما تركوا على ظهرها من بَشَرٍ أو دابّةٍ ولأبادوا محمدا وأتباعه وحيواناتهم تمام الإبادة على ما تأمرهم به شريعتهم التى تقول فى مثل هذا الموقف: "10«حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا لِلصُّلحِ 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلى الصُّلحِ وَفَتَحَتْ لكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ المَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لكَ. 12وَإِنْ لمْ تُسَالِمْكَ بَل عَمِلتْ مَعَكَ حَرْباً فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي المَدِينَةِ كُلُّ غَنِيمَتِهَا فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ التِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هَكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ المُدُنِ البَعِيدَةِ مِنْكَ جِدّاً التِي ليْسَتْ مِنْ مُدُنِ هَؤُلاءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هَؤُلاءِ الشُّعُوبِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً فَلا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا 17بَل تُحَرِّمُهَا تَحْرِيماً... كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ" (تثنية/ 2/ 10- 16)، "15فالآن اذهب و اضرب عماليق و حرّموا كل ما له و لا تعف عنهم بل اقتل رجلا و امراة، طفلا ورضيعا، بقرا و غنما، جملا و حمارا" (صموئيل الأول/ 3).
فضلا عن أن ما اجترحه اليهود إنما هو الخيانة العظمى بلحمها وشحمها، وليس شيئًا أقل من ذلك. ثم من الذى كان يتطلع إلى أموال الآخر؟ إنهم ليسوا المسلمين بحال، بل اليهود الذين رأيناهم يمنّون المشركين بثروات المدينة قبل قليل! وتبقى غزوة خَيْبَر، هذه الواحة التى كانت قد أضحت معقلا للتآمر اليهودى بعد سقوط بنى قُرَيْظَة، كما كان زعماؤها ضمن اليهود الذين ذهبوا لتحزيب الأحزاب للهجوم على يثرب والقضاء النهائى على المسلمين ودينهم، فكان لا بد من كسر شوكتهم، وهو ما حدث. وقد أجلى الرسول الكريم الخطِرين منهم، وأقرّ الباقين فى ديارهم وأملاكهم على أن يدفعوا له نصف غلة أرضيهم وبساتينهم. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام ذات المعاملة الكريمة التى لا يستحقها الخونة الأوغاد الذين لو قُدِّر لهم الظَّفَر بالمسلمين لما رَعَوْا فيهم إلاًّ ولا ذمّة!
والغريب أن يصدّع الكاتب، كعامّة المستشرقين والمبشرين، أدمغتنا بالكلام عن القسوة التى عامل النبى الكريم بها اليهود، ناسيًا أن كتابهم يذكر عنهم وعن قوادهم، بفخرٍ مجلجل،ٍ ما يدل على ما كانوا يعاملون به الآخرين من قسوة مفرطة ليس فيها أدنى مراعاة لضميرٍ أو قانونٍ، فضلاً عن أنه يَعْزوه إلى بركة الله ورضاه عن بنى إسرائيل: من ذلك مثلا ما جاء فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "التكوين" على النحو التالى: "1وَخَرَجَتْ دِينَةُ ابْنَةُ لَيْئَةَ الَّتِي وَلَدَتْهَا لِيَعْقُوبَ لِتَنْظُرَ بَنَاتِ الأَرْضِ 2فَرَآهَا شَكِيمُ ابْنُ حَمُورَ الْحِوِّيِّ رَئِيسِ الأَرْضِ وَأَخَذَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَأَذَلَّهَا. 3وَتَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِدِينَةَ ابْنَةِ يَعْقُوبَ وَأَحَبَّ الْفَتَاةَ وَلاَطَفَها. 4فَقَالَ شَكِيمُ لِحَمُورَ أَبِيهِ: «خُذْ لِي هَذِهِ الصَّبِيَّةَ زَوْجَةً». 5وَسَمِعَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ نَجَّسَ دِينَةَ ابْنَتَهُ. وَأَمَّا بَنُوهُ فَكَانُوا مَعَ مَوَاشِيهِ فِي الْحَقْلِ فَسَكَتَ يَعْقُوبُ حَتَّى جَاءُوا. 6فَخَرَجَ حَمُورُ أَبُو شَكِيمَ إِلَى يَعْقُوبَ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ. 7وَأَتَى بَنُو يَعْقُوبَ مِنَ الْحَقْلِ حِينَ سَمِعُوا. وَغَضِبَ الرِّجَالُ وَاغْتَاظُوا جِدّاً لأَنَّهُ صَنَعَ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِمُضَاجَعَةِ ابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَ«هَكَذَا لاَ يُصْنَعُ». 8وَقَالَ لَهُمْ حَمُورُ: «شَكِيمُ ابْنِي قَدْ تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِابْنَتِكُمْ. أَعْطُوهُ إِيَّاهَا زَوْجَةً 9وَصَاهِرُونَا. تُعْطُونَنَا بَنَاتِكُمْ وَتَأْخُذُونَ لَكُمْ بَنَاتِنَا 10وَتَسْكُنُونَ مَعَنَا وَتَكُونُ الأَرْضُ قُدَّامَكُمُ. اسْكُنُوا وَاتَّجِرُوا فِيهَا وَتَمَلَّكُوا بِهَا». 11ثُمَّ قَالَ شَكِيمُ لأَبِيهَا وَلإِخْوَتِهَا: «دَعُونِي أَجِدْ نِعْمَةً فِي أَعْيُنِكُمْ. فَالَّذِي تَقُولُونَ لِي أُعْطِي. 12كَثِّرُوا عَلَيَّ جِدّاً مَهْراً وَعَطِيَّةً فَأُعْطِيَ كَمَا تَقُولُونَ لِي. وَأَعْطُونِي الْفَتَاةَ زَوْجَةً». 13فَأَجَابَ بَنُو يَعْقُوبَ شَكِيمَ وَحَمُورَ أَبَاهُ بِمَكْرٍ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَجَّسَ دِينَةَ أُخْتَهُمْ: 14«لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ هَذَا الأَمْرَ أَنْ نُعْطِيَ أُخْتَنَا لِرَجُلٍ أَغْلَفَ لأَنَّهُ عَارٌ لَنَا. 15غَيْرَ أَنَّنَا بِهَذَا نُواتِيكُمْ: إِنْ صِرْتُمْ مِثْلَنَا بِخَتْنِكُمْ كُلَّ ذَكَرٍ. 16نُعْطِيكُمْ بَنَاتِنَا وَنَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِكُمْ وَنَسْكُنُ مَعَكُمْ وَنَصِيرُ شَعْباً وَاحِداً. 17وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لَنَا أَنْ تَخْتَتِنُوا نَأْخُذُ ابْنَتَنَا وَنَمْضِي». 18فَحَسُنَ كَلاَمُهُمْ فِي عَيْنَيْ حَمُورَ وَفِي عَيْنَيْ شَكِيمَ بْنِ حَمُورَ. 19وَلَمْ يَتَأَخَّرِ الْغُلاَمُ أَنْ يَفْعَلَ الأَمْرَ لأَنَّهُ كَانَ مَسْرُوراً بِابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَكَانَ أَكْرَمَ جَمِيعِ بَيْتِ أَبِيهِ. 20فَأَتَى حَمُورُ وَشَكِيمُ ابْنُهُ إِلَى بَابِ مَدِينَتِهُِمَا وَقَالاَ لأَهْلَ مَدِينَتِهُِمَا: 21«هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ مُسَالِمُونَ لَنَا. فَلْيَسْكُنُوا فِي الأَرْضِ وَيَتَّجِرُوا فِيهَا. وَهُوَذَا الأَرْضُ وَاسِعَةُ الطَّرَفَيْنِ أَمَامَهُمْ. نَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِهِمْ زَوْجَاتٍ وَنُعْطِيهِمْ بَنَاتِنَا. 22غَيْرَ أَنَّهُ بِهَذَا فَقَطْ يُواتِينَا الْقَوْمُ عَلَى السَّكَنِ مَعَنَا لِنَصِيرَ شَعْباً وَاحِداً: بِخَتْنِنَا كُلَّ ذَكَرٍ كَمَا هُمْ مَخْتُونُونَ. 23أَلاَ تَكُونُ مَوَاشِيهِمْ وَمُقْتَنَاهُمْ وَكُلُّ بَهَائِمِهِمْ لَنَا؟ نُواتِيهِمْ فَقَطْ فَيَسْكُنُونَ مَعَنَا». 24فَسَمِعَ لِحَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنِهِ جَمِيعُ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. وَاخْتَتَنَ كُلُّ ذَكَرٍ - كُلُّ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. 25فَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذْ كَانُوا مُتَوَجِّعِينَ أَنَّ ابْنَيْ يَعْقُوبَ شِمْعُونَ وَلاَوِيَ أَخَوَيْ دِينَةَ أَخَذَا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ وَأَتَيَا عَلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْنٍ وَقَتَلاَ كُلَّ ذَكَرٍ. 26وَقَتَلاَ حَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَأَخَذَا دِينَةَ مِنْ بَيْتِ شَكِيمَ وَخَرَجَا. 27ثُمَّ أَتَى بَنُو يَعْقُوبَ عَلَى الْقَتْلَى وَنَهَبُوا الْمَدِينَةَ لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا أُخْتَهُمْ. 28غَنَمَهُمْ وَبَقَرَهُمْ وَحَمِيرَهُمْ وَكُلَُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا فِي الْحَقْلِ أَخَذُوهُ. 29وَسَبُوا وَنَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتِهِمْ وَكُلَّ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَاءَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي الْبُيُوتِ. 30فَقَالَ يَعْقُوبُ لِشَمْعُونَ وَلاَوِي: «كَدَّرْتُمَانِي بِتَكْرِيهِكُمَا إِيَّايَ عِنْدَ سُكَّانِ الأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِيِّينَ وَأَنَا نَفَرٌ قَلِيلٌ. فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ وَيَضْرِبُونَنِي فَأَبِيدُ أَنَا وَبَيْتِي». 31فَقَالاَ: «أَنَظِيرَ زَانِيَةٍ يَفْعَلُ بِأُخْتِنَا؟».
ومثله ما فعله كل من بنى بنيامين وبنى إسرائيل بالطرف الآخر رغم القرابة اللصيقة التى تربط بينهم، إذ أفنى كل منهم من خصمه عشرات الألوف، وأعمل السيف فى جميع سكان المدن التى دخلها، وكل ذلك بسبب اعتداء بضعة أشخاص من بنى بنيامين على سُرِّيَّة رجل من بنى إسرائيلِ (قضاة/ 19- 20). ولنقرأ فقط هذه الفقرة التى يختم بها المؤلف الرواية: "48 وَرَجَعَ رِجَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَنِي بَنْيَامِينَ وَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ مِنَ الْمَدِينَةِ بِأَسْرِهَا حَتَّى الْبَهَائِمَ حَتَّى كُلَّ مَا وُجِدَ وَأَيْضاً جَمِيعُ الْمُدُنِ الَّتِي وُجِدَتْ أَحْرَقُوهَا بِالنَّار". ومن ذلك الوادى ما فعله النبى إيليا حين ذبح كلَّ كهان البعل بالسيف، وعددهم أربعمائة وخمسون (كما جاء فى الفقرة 22 من الإصحاح التالى)، لم يُبْقِ منهم على أحد: "31ثُمَّ أَخَذَ إِيلِيَّا اثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً، بِعَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي يَعْقُوبَ (الَّذِي كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيْهِ: [إِسْرَائِيلَ يَكُونُ اسْمُكَ]) 32وَبَنَى الْحِجَارَةَ مَذْبَحاً بِاسْمِ الرَّبِّ، وَعَمِلَ قَنَاةً حَوْلَ الْمَذْبَحِ تَسَعُ كَيْلَتَيْنِ مِنَ الْبِزْرِ. 33ثُمَّ رَتَّبَ الْحَطَبَ وَقَطَّعَ الثَّوْرَ وَوَضَعَهُ عَلَى الْحَطَبِ وَقَالَ: [امْلأوا أَرْبَعَ جَرَّاتٍ مَاءً وَصُبُّوا عَلَى الْمُحْرَقَةِ وَعَلَى الْحَطَبِ]. 34ثُمَّ قَالَ: [ثَنُّوا] فَثَنَّوْا. وَقَالَ: [ثَلِّثُوا فَثَلَّثُوا. 35فَجَرَى الْمَاءُ حَوْلَ الْمَذْبَحِ وَامْتَلَأَتِ الْقَنَاةُ أَيْضاً مَاءً. 36وَكَانَ عِنْدَ إِصْعَادِ التَّقْدِمَةِ أَنَّ إِيلِيَّا النَّبِيَّ تَقَدَّمَ وَقَالَ: [أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هَذِهِ الأُمُورِ. 37اسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ اسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هَذَا الشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإِلَهُ، وَأَنَّكَ أَنْتَ حَوَّلْتَ قُلُوبَهُمْ رُجُوعاً]. 38فَسَقَطَتْ نَارُ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ. 39فَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ ذَلِكَ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: [الرَّبُّ هُوَ اللَّهُ! الرَّبُّ هُوَ اللَّهُ!]. 40فَقَالَ لَهُمْ إِيلِيَّا: [أَمْسِكُوا أَنْبِيَاءَ الْبَعْلِ وَلاَ يُفْلِتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ]. فَأَمْسَكُوهُمْ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِيلِيَّا إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ وَذَبَحَهُمْ هُنَاكَ" (الملوك الأول/ 18). ومثلما صنع إيليا صنع أيضًا ياهو بن شافاط، الذى أقامه النبى أليشاع ملكا على بنى إسرائيل وحرّضه عى استئصال بيت أحْآب على بكرة أبيه، فقام بالواجب، ثم زاد فأباد جميع عبّاد البعل وكهنته بعد أن خدعهم وجمعهم فى المعبد الوثنى متظاهرا أنه هو أيضا من عبّاده ثم قتلهم لم يُفْلِت منهم رجلا (الملوك الثانى/ 9). ومنه ما فعله بنو إسرائيل ببنى يهوذا إخوتهم فى النص التالى من الإصحاح الثامن والعشرين من سفر "الأيام الثانى": "1كَانَ آحَازُ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ وَمَلَكَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كَدَاوُدَ أَبِيهِ 2بَلْ سَارَ فِي طُرُقِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ وَعَمِلَ أَيْضاً تَمَاثِيلَ مَسْبُوكَةً لِلْبَعْلِيمِ. 3وَهُوَ أَوْقَدَ فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ وَأَحْرَقَ بَنِيهِ بِالنَّارِ حَسَبَ رَجَاسَاتِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 4وَذَبَحَ وَأَوْقَدَ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ وَعَلَى التِّلاَلِ وَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ. 5فَدَفَعَهُ الرَّبُّ إِلَهُهُ لِيَدِ مَلِكِ أَرَامَ فَضَرَبُوهُ وَسَبُوا مِنْهُ سَبْياً عَظِيماً وَأَتُوا بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ. وَدُفِعَ أَيْضاً لِيَدِ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَظِيمَةً. 6وَقَتَلَ فَقْحُ بْنُ رَمَلْيَا فِي يَهُوذَا مِئَةً وَعِشْرِينَ أَلْفاً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - الْجَمِيعُ بَنُو بَأْسٍ - لأَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ إِلَهَ آبَائِهِمْ. 7وَقَتَلَ زِكْرِي جَبَّارُ أَفْرَايِمَ مَعْسِيَّا ابْنَ الْمَلِكِ وَعَزْرِيقَامَ رَئِيسَ الْبَيْتِ وَأَلْقَانَةَ ثَانِيَ الْمَلِكِ. 8وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ إِخْوَتِهِمْ مِئَتَيْ أَلْفٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَنَهَبُوا أَيْضاً مِنْهُمْ غَنِيمَةً وَافِرَةً وَأَتُوا بِالْغَنِيمَةِ إِلَى السَّامِرَةِ". ومنه كذلك ما فعلته يهوديت الأرملة اليهودية الجميلة التى ذهبت إلى معسكر الأشوريين وعملت على إغراء قائدهم الحربى بما تغرى به الأنثى الرجال وسقته خمرا حتى فقد وعيه، ثم احتزَّت رأسه وهربت من المعسكر إلى قومها...إلخ. وبسببها انتصر بنو إسرائيل بعد أن كانوا قد أزمعوا الاستسلام لأولئك الأعداء كعادتهم فى كثير من الأحوال! (انظر سفر "يهوديت" فى النسخة الكاثوليكية من الكتاب المقدس). أَذْكُر هذا على عِلاّته بغض النظر عن تاريخية القصة أو خياليتها، فإن دارسى الكتاب المقدس يشكّون فى صحة هذه الواقعة ويَرَوْنها حكايةً مصنوعة (انظر مقدمة سفر "يهوديت" فى الترجمة الكاثوليكية للكتاب المقدس).
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك الأمنيات التى يتمنَّى بنو إسرائيل وقوعها بالأمم الأخرى، وهى أمنياتٌ بشعةٌ تكشف ما فى قلوبهم من أحقاد لا ينطفئ لها لَظًى. ولنأخذ فقط بعض ما ينوبنا نحن المصريين من هذا الحب، ولنقرأ ما جاء فى نبوءة أَشَعْيَا فى الإصحاح التاسع عشر: "1وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. 2وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ: مَدِينَةٌ مَدِينَةً وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً. 3وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالْعَازِفِينَ وَأَصْحَابَ التَّوَابِعِ وَالْعَرَّافِينَ. 4وَأُغْلِقُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ فِي يَدِ مَوْلىً قَاسٍ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ عَزِيزٌ يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ. 5«وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ. 6وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسَلُ. 7وَالرِّيَاضُ عَلَى حَافَةِ النِّيلِ وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلاَ تَكُونُ. 8وَالصَّيَّادُونَ يَئِنُّونَ وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصّاً فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ. وَالَّذِينَ يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ 9وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ. 10وَتَكُونُ عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ. 11«إِنَّ رُؤَسَاءَ صُوعَنَ أَغْبِيَاءَ! حُكَمَاءُ مُشِيرِي فِرْعَوْنَ مَشُورَتُهُمْ بَهِيمِيَّةٌ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِفِرْعَوْنَ: أَنَا ابْنُ حُكَمَاءَ ابْنُ مُلُوكٍ قُدَمَاءَ. 12فَأَيْنَ هُمْ حُكَمَاؤُكَ؟ فَلْيُخْبِرُوكَ. لِيَعْرِفُوا مَاذَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْجُنُودِ عَلَى مِصْرَ. 13رُؤَسَاءُ صُوعَنَ صَارُوا أَغْبِيَاءَ. رُؤَسَاءُ نُوفَ انْخَدَعُوا. وَأَضَلَّ مِصْرَ وُجُوهُ أَسْبَاطِهَا. 14مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا رُوحَ غَيٍّ فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ. 15فَلاَ يَكُونُ لِمِصْرَ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنَبٌ نَخْلَةٌ أَوْ أَسَلَةٌ. 16فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ مِصْرُ كَالنِّسَاءِ فَتَرْتَعِدُ وَتَرْجُفُ مِنْ هَزَّةِ يَدِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّتِي يَهُزُّهَا عَلَيْهَا. 17«وَتَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْباً لِمِصْرَ. كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا. 18«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ الْجُنُودِ يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ». 19فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا. 20فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ فَيُرْسِلُ لَهُمْ مُخَلِّصاً وَمُحَامِياً وَيُنْقِذُهُمْ. 21فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ وَيَعْرِفُ الْمِصْريُّونَ الرَّبَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْراً وَيُوفُونَ بِهِ. 22وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِباً فَشَافِياً فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ. 23«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ سِكَّةٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَشُّورَ فَيَجِيءُ الأَشُّورِيُّونَ إِلَى مِصْرَ وَالْمِصْرِيُّونَ إِلَى أَشُّورَ وَيَعْبُدُ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ الأَشُّورِيِّينَ. 24فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلْثاً لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ بَرَكَةً فِي الأَرْضِ 25بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ»".
(ملاحظة: هذه المادة اشترك فى كتابتها ثلاثة أشخاص، لكنى جريت على ما يجرى عليه الكلام فى مثل هذه الظروف عادة، إذ قلت: "الكاتب"، وليس "الكتّاب" على أساس أن كلا منهم استقلّ بجزء من المادة، فمناقشتى لأى شىء فيها إذن هو مناقشةٌ للكاتب الفرد الذى كتبه فقط لا لجميع من اشتركوا فى كتابة المادة كلها).
إعجاز قرآنى علمى أم مجرد ملاحظات ساذجة يعرفها كل أحد؟
د.إبراهيم عوض
كنتُ أَعِسّ (بتعبير ابنى) فى أرجاء المشباك منذ أيام فإذا بى أجد نفسى فى أحد المواقع وجهًا لوجهٍ أمام معجمٍ فرنسىٍّ عنوانه: "Dictionnaire des religions et des mouvements philosophiques associés"، فقلت: أَدْخُل وأُلْقِى نظرة لعلى أستفيد شيئا، فوجدت عنوانا جذبنى إليه هو: "Coran et Sience" بقلم كاتبٍ اسمه yohanfrais لم يسبق أن سمعت به، فوقفت أحملق قليلا فى العنوان، ثم استجمعت عزيمتى وتوكلت على الله وشرعت أقرأ، فألفيت أن الكاتب يتناول النصوص القرآنية التى يرى العلماءُ المسلمون أنها تتحدث عن موضوعات علمية، واقفا أمام كل نص من هذه النصوص محللا إياه لينتهى من التحليل إلى أنْ ليس فى القرآن أىّ نص مما يمكن أن يقال عنه بحق إنه يتحدث عن موضوعٍ علمى. وفكرتُ فى ترجمة أحد الموضوعات التى عالجها الكاتب تحت العنوان المذكور والتعليق عليه، واخترتُ الموضوع الخاص بما تتحدث عنه بعض آيات القرآن بشأن التقاء البحرين مع وجود برزخ يمنعهما أن يبغى أحدهما على الآخر. وهذه أولاً ترجمتى للنص المذكور:
"يتحدث القرآن فى ثلاثة مواضع منه عن حاجزٍ يفصل بين بحرين عَذْبٍ ومِلْحٍ يلتقيان دون أن يمتزج أحدهما بالآخر (الفرقان/ 53، وفاطر/ 12، والرحمن/ 19- 21). وهذه هى النصوص المذكورة: 1- "مَرَجَ البحرين يلتقيان* بينهما برزخٌ لا يبغيان* فبأىّ آلاء ربكما تكذّبان؟" (الرحمن/ 19- 21). وجدير بالذكر أن كلمة "برزخ" المترجمة هنا بــ"zone intermediaire" تعنى: "فاصلا، حاجزا، خندقا، مانعا، عائقا، بوغازا". 2- "وهو الذى مرج البحرين: هذا عذبٌ فراتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، وجعل بينهما برزخا وحِجْرًا محجورا" (الفرقان/ 53). 3- "وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ. ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا، وتستخرجون حِلْيَةً تلبسونها. وترى الفُلْك مواخرَ فيه، ولِتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون" (فاطر/ 12).
وحسبما يقول بعض المفسرين فإن هذه الآيات تكشف عن وجود مانع يحول دون اختلاط مياه الأنهار عند مصابها بمياه البحار، لأن هذا الاختلاط لا يتم فى حالاتٍ معينةٍ إلا فى عُرْض البحر بعيدا عن الشاطئ. ومن الممكن أن يكون هذا صحيحا، لكنْ أَلَسْنا هنا بإزاء ملاحظة بسيطة لظاهرة طبيعية يعرفها كل أحد، ألا وهى عدم اختلاط مياه دجلة والفرات بمياه البحر مباشرةً عند مصبهما فى الخليج الفارسى؟ ومن الممكن أن نلاحظ عند مدينة البصرة بالعراق كيف أن مياه دجلة العذبة تصبّ فى المحيط الهادى. وفى حالات المدّ العالى نشاهد طبقة مائية مالحة ذات لون أخضر تلامس طبقة من ماءٍ عذبٍ ضاربٍ إلى الحمرة دون أن يكون بينهما أدنى امتزاج. ولا شك أن القارئ يوافقنى على أن هذا المشهد المثير للاهتمام بالنسبة لنا اليوم لا بد أنه كان شيئا هائلا فى نظر أهل القرن السابع الميلادى!
والآن علينا أن ننظر فيما تقوله لنا الحكاية الأسطورية البابلية التالية التى يرجع تاريخها لما قبل القرآن بثلاثة آلاف من الأعوام: "فى البدء لم يكن هناك إلا "نامُّو" التى كانت تتخذ صورة البحر الأصلى، أو فلنقل: المحيط الكونى. وقد أنجبت "نامُّو" هذه "أَنْ" (السماء)، و"كِى" (الأرض)... وأخيرا "أونكى" الإله الخاص بالماء العذب الذى كان يناوئ الماء الملح فى نامّو (البحر الأصلى)، فكان لا بد أن يُنْقَل إلى السماء على هيئة مطر".
ومن هذه الحكاية يتبين أن القرآن لم يكشف لنا شيئا فى الواقع! وإذا كان بعض المسلمين يزعمون أن هذه الآيات القرآنية تكشف عن إحدى الحقائق العلمية، فينبغى حينئذ أن نتخذ نفس الموقف إزاء الأساطير البابلية، وأن نستخلص أن ثمة وحيًا كان ينزل على البابليين الوثنيين أيضا. إننى لا أتصور أنه ينبغى الوصول فى تفكيرنا إلى هذا المدى، بل كل ما علينا هو أن نكون شرفاء وأن نصرّ على القول بأن هذه الآيات لم تنبع إلا من ملاحظة بسيطة لظاهرة من الظواهر الطبيعية تحدَّث عنها ناس آخرون ينتمون لحضارات سابقة على محمد بآلاف السنين.
كذلك لا بد من التنبيه إلى أن هناك مفسِّرين آخرين قد ذهبوا أبعد من هذا وادّعَوْا أن القرآن يكشف لنا هنا عن وجود طبقات مائية يختلف بعضها عن بعض فى درجة حرارتها، وفى ملوحتها، وفى كائناتها الحية، وفى مدى ذوبان الأوكسيجين فيها...إلخ. والآن لنفحصْ ما قاله القرآن: إنه يتحدث هنا عن عدم اختلاط الماء الحلو (العذب الفُرَات السائغ شرابه) بالماء المِلْح (الأُجَاج)، بيد أنه لا يقول شيئا عن اختلاف درجات الحرارة أو الكائنات الحية أو ذوبان الأوكسيجين. إن هذا كلام لا أساس له فى القرآن فى الوقت الذى يصف نفسه فيه بأنه تبيان وتفصيل لكل شىء، وأنه ما من شىء إلا وهو موجود فى آياته.
إن القرآن إنما يتحدث عن ماء عذب سائغ شرابه، لكن هذا القول شىء، والقول بوجود بحار عذبة شىء آخر! ذلك أنه من الخطورة بمكان على البشر أن يعتقدوا فى مثل هذه الأشياء، فشرب الماء المالح فى الواقع من شأنه أن يجعل الشخص عرضة للجنون... ومما لا ريب فيه أن البحث فى القرآن عن الحقائق العلمية هو أمر ليس فى صالحه، وبخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار ما قلناه قبلا من أنه إذا استمر البعض فى الزعم مع ذلك بوجود إشارات علمية فى القرآن، فينبغى أن نقف ذات الموقف من الأسطورة البابلية، وهو ما يترتب عليه أن القرآن لم يُوحِ فى هذا المجال بشىء، وأنه لم يزد على أن ردّد ما قالته تلك الأسطورة قبله بما يزيد على ثلاثة آلاف عام! وهكذا نجد أنفسنا قد وصلنا إلى نفس النتيجة، ألا وهى أن الآيات القرآنية لا تقدم لنا شيئا آخر غير الملاحظة البسيطة لإحدى الظواهر الطبيعية.
وفى الختام نحب أن نؤكد أنه خلافا لما يؤكده بعض المفسرين المسلمين فإن قراءة تلك الآيات يترتب عليها جهل وتخليط من شأنه، إذا نظرنا إليه على أنه معجزة علمية، الإضرار حتى بحياة الإنسان (جرّاء الاعتقاد بوجود بحار ذات ماء عذب). ولكن إذا أصر البعض مع ذلك على أن يَرَوْا فى هذه الآيات كشفا علميا، فعليهم فى هذه الحالة أن ينظروا إلى الحكاية البابلية بنفس العين... وهكذا تُخْتَزَل المعجزة القرآنية الوحيدة فلا تعدو أن تكون تكرارا لما سبق أن قاله الآخرون من قبل...".
* * *
وأول كل شىء نفعله بعد أن ترجمنا ما قاله الكاتب هو أن نبين الأخطاء المعرفية والمنهجية التى وقع فيها: فقد ذكر أن فى كتاب الله ثلاثة مواضع تتحدث عن حاجز يفصل بين بحرين عذبٍ وملحٍ يلتقيان دون أن يقع بينهما مع ذلك أى تمازج، وهى: الفرقان/ 53، وفاطر/ 12، والرحمن/ 19-21. ونظرة سريعة إلى الآيات التى استشهد بها تدلنا على أنه لا توجد فى سورة "فاطر" أية إشارة إلى الحاجز المذكور، إذ الكلام فيها مقصور على الاختلاف الملاحَظ بين ماء البحر وماء النهر. ومع ذلك فهناك فعلا نص ثالث فى القرآن الكريم يشير إلى وجود مثل هذا الحاجز لم يذكره الكاتب، ألا وهو قوله تعالى فى الآية 61 من سورة "النمل": "أَمْ مَنْ جعل الأرضَ قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسىَ، وجعل بين البحرين حاجزا؟ أأله مع الله؟بل أكثرهم لا يعلمون"، فهذه واحدة.
أما الثانية فهى مقارنة الكاتب بين ما جاء فى الأسطورة البابلية وما ذكرته النصوص القرآنية، والخروج من ذلك بأن القرآن لم يأت بشىء جديد، فها هى ذى الأسطورة البابلية قد سبقته منذ بضعة آلاف من الأعوام إلى هذا الذى قال. والواقع أنه لا وجه للمقارنة بين النصين، فالحكاية الخرافية تتحدث عن خلاف بين الماء المالح والماء العذب استتبع رفع الماء العذب إلى طبقات الجو العليا وتحويله إلى أمطار. فأين فى القرآن ما يمكن أن نقارن به هذا الكلام؟ إن القرآن يتحدث عن إجرائه تعالى البحر والنهر بما يؤدى إلى التقائهما، ولكن دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وهذا شىء مغاير تماما لما جاء فى الخرافة البابلية، وهو من الوضوح بمكان، ولا أدرى كيف سقط الكاتب الهمام فى هذه الغلطة! ثم هل الماء العذب مقصور على طبقات الجو العليا؟ فماذا نقول فى الأنهار والجداول والآبار والعيون إذن؟
وهنا نأتى إلى الخطإ الثالث الذى ارتكبه المؤلف، وهو ما فهمه من أن الآيات القرآنية تتحدث عن التقاء بين النهر والبحر دون أن يتم بينهما امتزاج، وهذا الزعم أيضا لا وجود له فى القرآن. القرآن يقول إنه قد جعل بين البحرين (أى البحر والنهر) حاجزا أو برزخا يمنعهما من طغيان أى منهما على الآخر، لكنه لم يقل إنه لا يحدث بينهما امتزاج عند اللقاء. وسوف أوضح هذا المعنى فيما بعد، لكنى أحب أن أركز هنا على أن الكاتب قد نسب للقرآن ما لم يقله القرآن! لقد فهم النصَّ القرآنىَّ خطأً أو اعتمد على ترجمةٍ فهم صاحبُها ذلك النصّ فهمًا خاطئًا، فكان أَنْ خطّأ القرآن الكريم، والقرآن من الخطإ براء! وقد يكون تعمَّد هذا تعمُّدا!
وهناك خطأ رابع وقع فيه الكاتب أيضا، وهو محاسبة النص القرآنى على أساسٍ من فهم بعض المفسِّرين المسلمين كما قال. ولعله يقصد د. موريس بوكاى الطبيب الفرنسى المسلم الذى فسّر الآيات القرآنية المذكورة على أساس أن المقصود بالبحرين هما دجلة والفرات من جهة، والخليج العربى من جهة أخرى، وسوف أعود إلى هذه النقطة لاحقًا (انظر موريس بوكاى/ القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/ دار المعارف/القاهرة/ 1982م/ 205). وليس فى النصوص القرآنية ما يُفْهَم منه أن ذلك هو معنى البحرين الواردين فيها، ومن ثَمَّ فليس للكاتب أى عذر فى التهكم الذى وجَّهه للقرآن حين أكد أن ما يقوله الكتاب الكريم فى هذا الشأن لا يزيد عن ملاحظةٍ بسيطةٍ جدا لظاهرة طبيعية يمكن كلَّ من يقف عند مصب هذين النهرين فى الخليج العربى أن يلاحظها، وأن الخرافاتِ البابليةَ قد سبقت القرآنَ إلى هذه الملاحظة منذ آلاف السنين، فلا إعجاز إذن ولا يحزنون!
ثم خطأٌ خامس، وهو أن كاتبنا يشير إلى مسألة وجود طبقتين من الماء فى حالات المدّ العالى إحداهما طبقة مالحة خضراء اللون تلامس طبقة عذبة مائلة للحمرة دون أن تمتزج بها بوصفها أمرا يستطيع الرجل العادى أن يلاحظه بسهولة، وهو ما لا أظنه أبدًا صحيحا، وإلا لذكره كل إنسان، ودعنا من أنه كان من سكان البصرة فى أيام ازدهار الثقافة الإسلامية علماء أجلاء وشعراء وأدباء كمحمد بن سيرين (مولى أنس بن مالك) والحسن البصرى وعمرو بن عبيد والفرزدق وجرير وقَطَرِىّ بن الفُجَاءة ورؤبة بن العجّاج وبشار وأبى نُوَاس وابن المقفَّع والأصمعى والمفضَّل الضّبَّىّ والخليل بن أحمد وسيبويه والنظّام وواصل بن عطاء والجاحظ وابن سلام وابن قتيبة وابن دُرَيْد والباقلانى مثلا ممن لم يكن من الممكن أن تفوتهم ملاحظة مثل هذه الظاهرة لو كان إدراكها سهلا إلى هذا الحد الذى يصوره لنا الكاتب، وبخاصة أنها كانت بالنسبة للقدماء أمرا هائلا كما يقول. والحقيقة أن هذه الملاحظة لم يتنبه لها إلا العلماء فى العصر الحديث بعد رحلات وأبحاث ودراسات مضنية استعانوا فيها بآلات التصوير الحرارى التى لم يكن لها أى وجود قبل القرن العشرين حسبما كتب العلماء المسلمون فى هذه المسألة على ما سيأتى بيانه، ولولا الصورة المرفقة لحالة المدّ المشار إليها لما دار ذلك بخاطرى، أما بالنسبة للقدماء فلم تكن لتلفت أنظارهم لأنها ليست مما يُدْرَك بالعين المجردة على خلاف ما يحاول الكاتب أن يوهم قراءه. وحتى لو غالطنا أنفسنا كما يريد منا وقلنا إنها قد لفتت منهم الأنظار، فكيف يا ترى كان لهم أن يعرفوا أن اللونين المختلفين يمثلان طبقتين من الماء إحداهما حلوة، والأخرى مالحة؟ وعلى أية حال فلم يكن الرسول من سكان منطقة البصرة حيث كان من الممكن أن يشاهد هذه الظاهرة لو كانت مشاهدتها ممكنة بالنسبة للرجل العادى فعلا كما يزعم الكاتب، بل كان عليه السلام من سكان مكة آنذاك، ومن ثم فلا يمكن أن يقال إنه فى هذه النصوص القرآنية قد تكلم عن ملاحظة بسيطة لظاهرة طبيعية يعرفها كل أحد!
والواقع أنى لم أكتف بهذا، بل ذهبتُ فقلّبت كل ما أتيح لى من "معاجم البلدان" وقرأت ما كُتِب فيها عن "البصرة" ونَهْرَيْها لعلى أعثر على ما يمكن أن يُفْهَم منه، ولو على سبيل التأويل والتمحُّل البعيد، أن أجدادنا قد لاحظوا هذه الظاهرة التى يصرّ الكاتب فى جرأة عجيبة على أنها مما تراه العين العادية للرجل العادى، فلم أجد شيئا بالمرة. ومن الكتب التى راجعتُها لهذا الغرض: "المسالك والممالك" لابن خرداذبة (من أهل القرن الثالث الهجرى)، و"الأعلاق النفيسة" لابن رستة (من أهل القرن الثالث الهجرى أيضا)، و"معجم البلدان" لياقوت الحموى (من أهل القرنين الساس والسابع)، و"أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم" للمقدسى (من أهل القرن السابع)، و"آثار البلاد وأخبار العباد" للقزوينى (من أهل القرن السابع أيضا)، و"الروض المعطار فى خبر الأقطار" لمحمد بن عبد المنعم الحِمْيَرى (من أهل القرنين السابع والثامن)، و"مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار" لابن فضل الله العُمَرى (من أهل القرن الثامن الهجرى) و"Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia" لــJ. G. Lorimer (من أهل القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين). ولقد تناول كلامُ هؤلاء الكتاب عن البصرة موقعَها وتاريخَها وجوّها وأنهارَها وأطعمتها وسكانها ومشاهيرَها وحيوانها وطيورَها ومَدّها وجَزْرها وما قيل فى مدحها وذمها، لكنى لم أقرأ كلمة واحدة، كلمة واحدة يتيمة، عن تلك الظاهرة التى ادَّعى الكاتب أنها مما لوحظ من قديم الزمان قبل القرآن ببضعة آلاف من السنين، رغم أن بعض هؤلاء الكتاب قد أورد فى الحديث عن مدّها وجَزْرها الخرافات والأساطير مثل المقدسى، الذى نقل ما سمعه من أن ثمة مَلَكًا إذا وضع إصبعه فى النهر حدث المدّ، وإذا رفعه جاء الجَزْر، أو أن الحوت إذا أخذ نفَسا سحب الماء إلى منخريه فكان الجَزْر، فإذا أخرجه كان المدّ" (المقدسى/ أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم/ ط2/ بِرِيل/ 1906م/ 3)! بل لقد تحدث القزوينى عن ملوحة ماء البصرة قائلا: "وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماء البحر فيصير ملحا" (القزوينى/ آثار البلاد وأخبار العباد/ دار صادر ودار بيروت/ 1389هــ- 1969م/ 309)، أى أنه قد اقترب تماما من النقطة التى نتحدث عنها الآن، ورغم هذا فإنه لم ينبس بأى شىء مما يزعم الكاتب أنه ظاهرة طبيعية بسيطة لاحظها القدماء بكل سهولة، وليس فيها ما يمكن أن يُعَدّ إعجازا بحال! إن الزعم أمرٌ هيّن الشأن لا يكلف صاحبه شيئا، بخلاف البناء والتثبت، فإنه يتعب من يرومه ويجشّمه من أمره جهدا ومشقّة ونَصَبا. إن كاتبنا لم يكلف نفسه أكثر من أنه تركها تزعم ما يحلو لها دون أن تقدِّم على ما تقول أى برهان، وهو أمر لا يعجز عنه أى شخص مهما يكن حظه من العلم، أو فلنقل بالأحرى: مهما يكن حظه من الجهل. كل ما هنالك أنه ينبغى أن يتدرع بالاندفاع واللامبالاة، ثم لا عليه بعد ذلك من شىء! أما الذين يحرصون على سمعتهم ويلتزمون بقِيَم الدين والعلم والخلق الكريم فلا يستطيعون أن يخطّوا حرفا إلا بعد اللَّتَيّا والتى خشيةَ الخطإ وتحرُّزًا من الوقوع فى التدليس. وصدق المثل القائل إنّ رَمْى حجر فى بئر لا يحتاج إلى أكثر من مجنون واحد، أما إخراج الحَجَر من البئر فيحتاج إلى ألف عاقل!
ثم يضيف الكاتب أن من المسلمين من يقول بوجود بحارٍ ذات ماء عذب صالح للشرب ( eau de mer potable)، قائلا إن الاعتقاد بهذا والشرب بناء عليه من ماء البحر المالح يؤدى إلى الجنون. ولست أدرى من أين أتى الكاتب بهذا الكلام الذى ينسبه لبعض المفسرين المسلمين. لقد كان ينبغى أن يذكر لنا أسماء من قالوا بذلك ويحدد السياق الذى ورد كلامهم فيه، وعلى أى أساس قالوه. أما أن يتركنا فى عماية من الأمر متصورا أننا ينبغى أن نلقى إليه بمقاليد طاعتنا ونصغى إليه أسماعنا وأفئدتنا دون دليل أو توضيح فأمر لا يصحّ، ومن شأنه أن يدفعنا إلى تكذيبه فيما يقول نظرا لغرابته البالغة، إذ لا يعقل أن يكون بين المفسرين المسلمين فى العصر الحديث ولا فى أى عصر آخر من يُقْدِم على كتابة هذا الكلام المضحك مهما تبلغ قلة بضاعته من المعرفة. إن هذا الكلام يعرف كذبَه أىّ عامىٍّ فَدْم، فما بالنا بمن يتصدى لتفسير كتاب الله المجيد؟ ولقد رجعتُ إلى ما نشره "موقع الإيمان على شبكة الإنترنت" فى هذا الموضوع فوجدت ما أورده الكاتب المذكور وعمل على تفنيده من تفسير علماء المسلمين المعاصرين للآيات القرآنية التى نحن بصددها، لكنى لم أعثر البتة على أى شىء يومئ من قريب أو من بعيد ولو على سبيل التوهم إلى ما يمكن أن يُفْهَم منه أنهم يقولون بوجود بحارٍ (بحارٍ كالبحر المتوسط أو البحر الأحمر أو بحر قزوين أو خليج المكسيك أو المحيط الهندى أو الأطلسى مثلا) ذات مياه عذبة، بل الذى قالوه، وهو صحيح مائة فى المائة على ما سنوضّح لاحقا، هو أن كلمة "البحر" قد تُطْلَق فى لسان العرب على ما نسميه عادة: "النهر". وهذا غير ذاك كما هو واضح، لكن الكاتب إما أنه لم يفهم كلامهم، وهو ما أستبعده لأنه قد فهم بقية ما قالوه فهما سليما يدل على أنه يعرف ماذا قالوا بالضبط سواء اطّلع عليه مباشرة فى لغته الأصلية أو ترجمه له مترجم، وإما أنه فهم هذا الكلام لكنه أراد السخرية والتشكيك فيما قالوه برُمّته لينعكس ذلك على نظرة قارئى كلامه للقرآن أيضا، وهذا ما أرجّحه.
وقد استخدم القرآن كلمة "البحرين" للدلالة على ما نعرفه الآن بــ"النهر والبحر"، إذ "البحر" فى اللغة العربية "هو الماءُ الكثيرُ، مِلْحًا كان أو عَذْبًا، وهو خلافُ البَرِّ، أو هو المِلْحُ فَقَطْ، وقد غَلَب عليه حتى قَلَّ فى العَذْب" حسبما نقرأ فى "لسان العرب" و"تاج العروس" وغيرهما من المعاجم. وقد يكون الكتاب المجيد استخدمها على سبيل التغليب كقولنا مثلا: "العُمَران" لأبى بكر وعمر، و"الحَسَنان" للحسن والحسين، و"الأَبَوان" للأب والأم، و"القَمَران" للشمس والقمر، و"الأَسْوَدان" للتمر والماء. فقول علمائنا إن البحر قد يكون عذب الماء كما قد يكون مالحها هو كلام لا خطأ فيه، ولا يمكن أن يتوهم متوهم أنهم يقصدون أن الماء الملح يطفئ الظمأ حتى يخاف كاتبنا على البشر من هذا أن يصيبهم الجنون جرَّاءَ تصديقهم لذلك الكلام وكَرْعهم من ثَمّ من هذا الماء، بل المقصود هو ما نعرفه الآن بــ"النهر"، وهذا كل ما هنالك. ونحن فى مصر كثيرا ما نطلق على "النهر" اسم الــ"بحر" كقولنا: "بحر النيل"، وفى قريتنا "كتامة الغابة" بمحافظة الغربية نسمى الترعة الواصلة بين بلدنا وطنطا: "بحر عاص"، كما نسمى الترعة الأخرى التى تمر بالقرب من "شفاقرون" المجاورة لنا: "بحر شفاقرون". وبالمثل نسمع الناس يقولون لفرع النيل القريب من "بسيون": "بحر القُضّابة" على اسم قرية "القُضّابة" التى تقع عليه، ولفرع النيل المارّ بدسوق: "بحر سيدى إبراهيم" على اسم إبراهيم الدسوقى الولىّ المعروف المدفون بالمدينة المذكورة، وللترعة التى تقوم على شاطئها قرية "سديمة": "بحر سيدى أبو اليزيد" على اسم "أبو اليزيد البسطامى"، إذ فى اعتقاد أهل المنطقة أن الضريح الموجود فى تلك البلدة هو لذلك الصوفى المشهور. ويوجد فى القاهرة شارع اسمه "شارع البحر الأعظم"، كما يوجد فى طنطا شارع يسمَّى: "شارع البحر" إشارة إلى ما كان يوجد فى كل من المكانين من مجرًى للنيل. ولهذه الحكمة ذاتها كان العامة فى مصر يسمّون "البحر المتوسط": "البحر المالح"، وهو دليل آخر على أن هناك فى أذهانهم "بحرا عذبا" مثلما أن هناك "بحرا مالحا". بل لقد وجدت بدر الدين العينى يستخدم هذه التسمية فى كتابه: "عِقْد الجُمان فى تاريخ أهل الزمان" عدة مرات، ومرة واحدة على الأقل تسمية "البحر المِلْح". كذلك استعمل نشوان الحميرى هذه التسمية الأخيرة فى "الروض المعطار فى خير الأقطار" عند تعريفه بمدينة "الإسكندرية"، وذلك فى قوله: "مدينة عظيمة من ديار مصر بناها الإسكندر بن فيلبش فنسبت إليه، وهي على ساحل البحر الملح". وبالمثل نقرأ فى "ثمرات الأوراق" لابن حجة الحموى أن ملك بحر الأردن خاف على ابنته من أردشير حين أرسل يخطبها منه فــ" أرسلها إلى بعض الجزائر في البحر الملح". وهذه مجرد أمثلة قليلة. وإذا كانت كلمة "mer" الفرنسية لا تعنى إلا البحر الملح، فينبغى ألا نحمّل لغة الضاد هذه المسؤولية، فلكلّ لغةٍ أوضاعها التى كثيرا ما تختلف فيها وبها عن غيرها من اللغات كما هو معروف.
ومن الشواهد التى تجرى هذا المجرى قوله تعالى: "أُحِلَّ لكم صيدُ البحر وطعامُه متاعًا لكم وللسيارة، وحُرِّمَ عليكم صيد البر ما دمتم حُرُما" (المائدة/ 96)، ومعروف أن السمك يخرج من البحر والنهر كليهما لا من البحر فقط، وكذلك قوله عز شأنه: "قل: من ينجّيكم من ظلمات البر والبحر...؟" (الأنعام/ 63)، حيث وُضِع البحر مقابل البرّ مما يدل على أن المقصود به النهر والبحر معا. وقرأت فى "الحيوان" للجاحظ هذه العبارة: "ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ ومِدٍ، على باب داره في شروع نهر الجُوبار بأردية، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه". فانظر كيف ذكر أولا "النهر"، ثم كيف سماه بعد ذلك: ""بحرا". وجاء فى "كتاب الصناعتين" لأبى هلال العسكرى: "ولولا كراهةُ الإطالة وتخوف الإملال لَزِدْتُ من هذا النوع، ولكن يكفى من البحر جرعة". والبحر هنا لا يمكن أن يكون إلا الماء العذب، فالإنسان لا يجرع إلا من النهر. وفى "الفرج بعد الشدة" للقاضى التنوخى نقرأ هذه العبارة: "فلا شدة أعظم من أن يُبْتَلَى الناس بمَلِكٍ يذبّح أبناءهم، حتى ألقت أم موسى ابنها فى البحر مع طفوليته، ولا شدة أعظم من حصول طِفْل فى البحر". ويقول الشابشتى فى وصف دير القصير بمصر من كتاب "الدِّيَارات": "وهو مطل على القرية المعروفة بشهران وعلى الصحراء والبحر. وهذه القرية المذكورة قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى، صلى الله عليه، ولد فيها، ومنها ألقته أمه إلى البحر فى التابوت". ويقول أيضا عن "دير طمويه": "وطمويه في الغرب بإزاء حلوان. والدير راكب البحر، وحوله الكروم والبساتين والنخل والشجر. فهو نَزِهٌ عامرٌ آهل. وله في النيل منظر حسن. وحين تخضر الأرض، فإنه يكون بين بساطين من البحر والزرع". وفى "فوات الوَفَيَات" لابن شاكر الكتبى أن توران شاه لمّا حاصرته مماليك أبيه فى البرج عند المنصورة رمى بنفسه وهرب إلى النيل "ونزل فى البحر إلى حلقه" فقتلوه. والمقصود بــ"البحر" فى هذا كله: "النيل" كما هو واضح. وعندنا من الشواهد الشعرية الكثير، ومنها قول أبى الشيص الخزاعى:
بَحرٌ يَلوذ المُعتَفونَ بِنَيْله فَعْمُ الجَداول مُتْرَع الأَحواضِ
وقول ابن الرومى:
هو بحرٌ مِنَ البحورِ فُرَاتٌ ليس مِلْحًا وليس حاشاه ضَحْلا
وقول ابن حَيّوس:
وَمَنْ جادَ بِالآمالِ عَنكَ فَإِنَّني أَرى كُلَّ بَحرٍ مُذ رَأَيتُكَ جَدْوَلا
وقول ابن درّاج القسطلى:
وإِن أَرْفَهَتْ فِي بَحْرِ جُودِكَ شِرْبَها فَمِنْ ظِمْءِ عَشْرٍ فِي الهجيرِ إِلَى تِسْعِ
وقول البحترى:
بَحْرٌ مَتى تَقِف الظِماءُ بِمَورِدٍ مِنهُ يَطيبُ لَهُم جَداهُ وَيَعذُبِ
وقول الحيص بيص:
ولكنهُ بَحْرٌ يَلَذُّ لشارِبٍ ويُكرِمُ مَثْوىً من مُسِيفٍ ومُرْمِلِ
وقول ظافر الحداد الشاعر المصرى:
تأمَّلْتُ بحرَ النيلِ طولا، وخَلْفَه من البركةِ الغَنّاء شكلٌ مُدَوَّرُ
وقول البوصيرى:
وَكلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ
وقول المتنبى:
قَوَاصِدُ كافورٍ تَوَارِكُ غيره ومن قَصَدَ البحرَ استقلّ السواقيا
ثم كيف يمكن أن يتوهم متوهِّم هذا الذى يخشاه الكاتب (أو بالأحرى: هذا الذى يزعم أنه يخشاه)، ويذهب فيَعُبّ من الماء الملح عَبًّا؟ ويبقى تأكيده أن شرب هذا الماء يصيب الشخص بالجنون، ولا أعرف مدى صحة هذا الكلام من الناحية الطبية، وإن كنت أستغربه غاية الاستغراب، وبخاصة أنه من غير المعقول أو المتصوَّر أن يستمر أى إنسان فى شرب ذلك الماء بمجرَّد أن يذوقه ويحس ملوحته! لكن الذى أنا متأكد منه أن الذى يَعُبّ من الماء الملح يكون قد أُصِيبَ بالجنون فعلا، وانتهى أمره والعياذ بالله، لا أنه سيصاب به بعد الشرب، إذ لا يفعل ذلك عاقل بحال من الأحوال!
والآن نأتى لتفسير الآيات المذكورة لنرى أفيها ما لم تكن العرب بل ما لم تكن البشرية كلها تعرفه أو لا، ونبدأ بقوله تعالى: "وهو الذى مَرَج البحرين: هذا عذبٌ فراتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، وجعل بينهما برزخا وحِجْرًا محجورا" (الفرقان/ 53)، إذ هو من الوضوح بمكان بحيث لا يثير مشاكل وخلافات حول المقصود بالبحرين هنا: أهما بحران مِلْحان أم بحرٌ عَذْبٌ وآخر مِلْح؟ وقد فسره بوكاى قائلا: "معروفةٌ تلك الظاهرة التى كثيرا ما نشاهدها عند عدم الاختلاط الفورى لمياه البحر الملحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة. ويرى البعضُ أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصبّ نَهْرَىْ دجلة والفرات، اللذين يشكلان بالتقائهمابحرًا، إذا جاز القول، طوله 150 كم هو شط العرب. وفى الخليج ينتج تأثيرُ المدّ ظاهرةً طبيعيةً هى انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضى، وذلك يضمن رِيًّا طيبا" (موريس بوكاى/ القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/ 205).
والحق أن هذا التفسير، رغم احترامى الكامل للدكتور بوكاى، هو تفسير غير مقنع: فمن الناحية اللغوية يصعب علىّ أن أوافق العالم الفرنسى على أن أداة التعريف فى كلمة "البحرين" هنا للعهد، الذى قيل على أساسه إن "البحرين" المذكورين هما شط العرب والخليج الذى يصب فيه. ذلك أن الآيات السابقة تتحدث عن الظل والرياح والماء والأنعام والأناسىّ، وهى مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلٍّ بعينه ولا رياحٍ محدَّدة ولا أنعامٍ وأنَاسِىَّ مخصوصة، فلِمَ يقال إذن إن "البحرين" هنا هما بحران معينان (الخليج وشط العرب)؟ إن السياق الذى وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضى أن يكون "البحران" أيضا هنا هما "النهر والبحر" بإطلاق، أى أن "أل" فيهما هى "أل" الجنسية لا العهدية. وقد يظن قوم أن كلمة "فُرَات" الواردة فى النص القرآنى هنا تشير إلى نهر الفرات، ومن ثم يستغربون قولى بعدم وجود قرينة تدل على أن السياق هنا سياق خاص لا عام، لكن لا بد أن نعرف أن كلمة "فُرَات" فى النص ليست عَلَمًا على النهر المعروف فى بلاد الرافدين، بل صفة للبحر الأول من البحرين المذكورين معناها "الشديد العذوبة". كذلك فماء النهر، مهما توغَّل بقوة اندفاعه إلى مدًى بعيد فى داخل البحر أو المحيط واحتفظ أثناء ذلك بخصائصة وعذوبته، يختلط فى النهاية بمائهما ويتحول من ثم إلى ماءٍ ملحٍ أُجَاج. فظاهر الأمر إذن أن النهر يبغى فى البداية على البحر (حين يشق ماءه الملح ويزيحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغى فى النهاية عليه (حين يختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذى يُفْقِده خاصة العذوبة ويعطيه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ يا ترى والحِجْر المحجور؟
أما "المنتخب فى تفسير القرآن الكريم" فإنه يقول، فى هامش خصَّصه للتعليق على هذه الآية، إنها ربما "تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار فى الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تامّا، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق: يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بَغْىَ أحدهما على الآخر وحِجْرًا محجورا، أى حاجزا خفيّا مستورا لا نراه". لكن ثمة نقطة هامة يظهر أن كاتبَىْ هذا التعليق، رغم جدته وطرافته بالنسبة لى على الأقل، قد أغفلاها، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان فى الصخور على هذا النحو لا يمكن تسميتهما: "بحرين". ثم إذا كان الماءان فى هذه الظروف لا يلتقيان، فإنهما فى عُرْض البحر يلتقيان ويتمازجان ويصبحان فى النهاية ماءً واحدًا كما قلنا من قبل.
يبدو لى، والله أعلم، أن البرزخ المذكور فى الآية الكريمة هو القوانين التى بمقتضاها بَقِىَ كل من الماء العذب والماء الملح كلَّ هذه الدهور المتطاولة التى لايعلم مداها إلا الله، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما هو لا يتغير. فالأنهار تصب فى البحار والمحيطات، وكان المفروض، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد، أن يختلط الماءان اختلاطًا دائمًا فلا ينفصلا بعد ذلك أبدا، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض من ثَمَّ ماءً مِلْحًا. بَيْدَ أن التقدير الإلهى قد شاء أن يقوم البَخْر بحمل ماء البحار والمحيطات فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماءً عذبًا كما كان...وهكذا دواليك. وهكذا أيضا يبقى الماء العذب والماء الملح كما هما، ويتعايش البحران دون أن يبغى أحدهما على الآخر ويقضى عليه. فهذا هو البرزخ، وهذا هو الحِجْر المحجور فيما أفهم، والله أعلم. وهو، كما نرى، برزخٌ وحِجْرٌ غير مادى. إنه حاجز من قوانين لا من أحجار أو مسافات أو تضاريس. ومن الحزاجز المعنوية أيضا "برازخ الإيمان" التى جاء فى المعاجم أنها تفصل بين الشك واليقين أو التى تفصل ما بين أول الإيمان وآخره، والبرزخ الذى يفصل بين الدنيا والآخرة، و"الحِجْر" المذكور فى القرآن على لسان المشركين: "وقالوا: هذه أنعامٌ وحرثٌ حِجْرٌ لا يطعمها إلا من نشاء"، أى محرَّم أكلها حسبما نصت الآية الكريمة، والتحريم (كما هو معروف) حاجزٌ معنوى لا مادى. كما أن قوله تعالى فى الآية 22 من سورة "الفرقان": "حِجْرًا محجورًا" معناه: "حرامًا محَرَّمًا"... وهكذا. ولهذا قالت المعاجم وكتب التفاسير فى البرزخ الفاصل بين البحرين إنه حاجز خفىّ من قدرة الله. ولا ننس أن القرآن لم ينف التقاء البحرين رغم وجود البرزخ، بل قال بصريح اللفظ: "مَرَج البحرين يلتقيان* بينهما برزخٌ لا يَبْغِيان" كما جاء فى الآيتين 19- 20 من سورة "الرحمن". فالبرزخ موجود، ولكن الالتقاء حاصل أيضا لأن البرزخ فى النص القرآنى إنما يمنع بَغْى أحد البحرين على الآخر لكنه لا يمنع اللقاء بينهما.
وبنحو الذى قلناه فَسَّر الطبرى الآيتين المذكورتين فقال: "قَوْله: "هَذَا عَذْبٌ فُرَات"، الفُرَات : شَدِيد الْعُذُوبَة. يُقَال : هَذَا مَاءٌ فُرَات، أَيْ شَدِيد الْعُذُوبَة. وَقَوْله: "وَهَذَا مِلْح أُجَاج"، يَقُول: وَهَذَا مِلْحٌ مُرّ، يَعْنِي بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ مِيَاهَ الأَنْهَار وَالأَمْطَار، وَبِالْمِلْحِ الأُجَاجِ مِيَاهَ الْبِحَار. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ، مِنْ نِعْمَته عَلَى خَلْقه وَعَظِيم سُلْطَانه، يَخْلِط مَاء الْبَحْر الْعَذْب بِمَاءِ الْبَحْر الْمِلْح الأُجَاج، ثُمَّ يَمْنَع الْمِلْح مِنْ تَغْيِير الْعَذْب عَنْ عُذُوبَته وَإِفْسَاده إِيَّاهُ بِقَضَائِهِ وَقُدْرَته لِئَلاّ يَضُرّ إِفْسَاده إِيَّاهُ بِرُكْبَانِ الْمِلْح مِنْهُمَا فَلا يَجِدُوا مَاء يَشْرَبُونَهُ عِنْد حَاجَتهمْ إِلَى الْمَاء، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " وَجَعَلَ بَيْنهمَا بَرْزَخًا"، يَعْنِي حَاجِزًا يَمْنَع كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ إِفْسَاد الآخَر. "وَحِجْرًا مَحْجُورًا"، يَقُول : وَجَعَلَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَى صَاحِبه أَنْ يُغَيِّرهُ وَيُفْسِدهُ". على أن هذا التفسير لا يمنع أن يدخل فيه التقاء ماء دجلة والفرات بماء الخليج العربى بوصفه إحدى الحالات التى يتبدَّى فيها القانون الذى شرحتُه آنفا لا بوصفه الحالة الوحيدة المقصودة فى القرآن كما جاء فى كلام الدكتور بوكاى، فضلا عن أن التفسير الذى ذكره يختلف عن تفسيرى أنا حسبما وَضَّحْت.
وفى رأيى المتواضع أن آيات سورة "الرحمن" تدل على نفس هذا المعنى، لكن كاتب مقال "البرزخ المائي بين البحرين" فى "موقع الإيمان على شبكة الإنترنت" يرى أن "البحرين" هنا بحران مالحان. وهذا نَصّ كلامه: "قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن/ 19- 22)، وقال تعالى: "وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا" (النمل/61). لقد توصل علماء البحار، بعد تقدُّم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخًا يفصل بين كل بحرين ويتحرك بينهما، ويسميه علماء البحار: "الجبهة" تشبيهًا له بالجبهة التي تفصل بين جيشين. وبوجود هذا البرزخ يحافظ كلُّ بحرٍ على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة. ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطًا بطيئًا يجعل القَدْر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياه العابرة من بحرٍ إلى بحرٍ ليبقى كل بحرٍ محافظًا على خصائصه تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز:
اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافًا بين عيناتٍ مائيةٍ أُخِذَتْ من البحار المختلفة في عام 1284هـ- 1873م على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية. ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلةُ معلوماتٍ من 362 محطة مخصَّصة لدراسة خصائص المحيطات، وملأت تقاريرُ الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلدًا استغرق إكمالها 23 عاما. وإضافةً إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر.
بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عددا كبيرا من هذه المحطات تعطي معلوماتٍ موحَّدةً عن خصائص الماء في تلك المنطقة من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقيةُ المحطات معلوماتٍ موحَّدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.
وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض. لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوّتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية؟ ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام 1361هـ-1942م، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجزَ مائيةٍ تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة والأحياء المائية والحرارة وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام 1962م عُرِف دورُ الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والمِلْحة عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل مُلُوحة منها.
وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المِلْحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسمًا واحدًا، إلا أن هناك فروقًا كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة تظهر بألوانٍ مختلفة تبعًا لاختلافها في درجة الحرارة. وفي دراسة ميدانية للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيمائي تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما. وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة اشترك فيها المئات من الباحثين، واستُخْدِم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة، بينما جَلَّى القرآنُ الكريمُ هذه الحقيقةَ قبل أربعة عشر قرنا. قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن/ 19- 22)، وقال تعالى: "وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا" (النمل/61)".
هذا ما جاء فى المقال المنشور على موقع "الإيمان على شبكة الإنترنت". والواقع أننى أميل إلى تفسير "البحرين" فى سورتى "الفرقان" و"الرحمن" بأنهما بحران مختلفان، وأوثر هذا التفسير على القول بأن البحرين فى هذه السورة هما بحران مالحان كلاهما، وعلى هذا فإنى أرى أن البحرين فى آيات سورة "الرحمن" أيضا هما البحر العذب والبحر الملح. والسبب فى ذلك هو حرصى على أن يكون هناك انسجام بين آيات القرآن مراعاةً للسياق القرآنى العام، إذ القرآن يفسّر بعضُه بعضًا كما هو معروف، وعلى هذا أرى أن تكون النصوصُ التى حددت البحرين بأنهما البحر العذب والبحر الملح حاكمةً على النصوص التى لم تحددهما. ولكنى رغم ذلك لا أستطيع أن أخطّئ من يقولون بهذا التفسير مادامت الآية تقبله على وجه من الوجوه، إذ ليس فى النص الكريم ما يجعل التفسير الثانى مرفوضا، بل الأمرُ أمرُ تفضيلِ تفسيرٍ على تفسيرٍ كما أوضحت. أما الحجة التى استند إليها من فسَّروا "البحرين" فى النص الأخير بأنهما كليهما بحران مالحان، وهى أن المَرْجان قد ذُكِر فيه، وهو لا يُسْتَخْرَج إلا من المياه الملحة، فلست أراها حجة كافية، إذ المَرْجان عند معظم اللغويين والمفسرين القدماء هو صغار اللؤلؤ أو كباره، واللؤلؤ يُسْتَخْرَج من الأنهار أيضا مثلما يُسْتَخْرَج من البحار على ما سوف أُبَيِّن بعد قليل. لكنى مع ذلك لا أجد، كما قلت، مانعا أن يفسرها الآخرون بغير ما فسرتُها به ما دامت تقبل هذا التفسير. إنyohanfrais يشير إلى أن النص القرآنى لا يذكر اختلاف مياه البحار من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية، وكلامه صحيح بلا جدال، لكنْ صحيحٌ أيضا أن علماء المسلمين الذين يتحدثون عن هذه الفروق لا يقولون إن القرآن قد ذكر هذا، بل كلّ مقصدهم أن دلالة الآية تشمله، فلا داعى من ثم إلى اتهامهم بأنهم يُقَوِّلون النص القرآنى ما لم يقله.
هــذا، وقد اختتم كاتبُ المقــال المنشور على "موقــع الإيمان على شبكة الإنترنت" كلامه بالملاحظات التاليــة: "1- أن القرآن الكريم الذي أُنْزِل قبل أكثر من 1400سنة قد تضمَّن معلومات دقيقة عن ظواهرَ بحريةٍ لم تُكْتَشَف إلا حديثًا بواسطة الأجهزة المتطورة، ومن هذه المعلومات وجود حواجزَ مائيةٍ بين البحار. قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ" (الرحمن/ 19- 20). 2- يشهد التطور التاريخي في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار، وبخاصة قبل رحلة تشالنجر عام 1873م، فضلاً عن وقت نزول القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة الذي نزل على نبيٍّ أمِّيٍّ عاش في بيئة صحراوية ولم يركب البحر. 3- كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولا مخيفا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة. وما عرف الإنسان أن البحار المِلْحة بحارٌ مختلفةٌ إلا في الثلاثينات من هذا القرن بعد أن أقام الدارسون آلافَ المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسُوا في كلٍّ منها الفروقَ في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات فأدركوا بعدئذٍ أن البحار المِلْحَة متنوعة. 4- وما عرف الإنسانُ البرزخَ الذي يفصل بين البحار المِلْحَة إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها، وبعد أن قضى وقتًا طويلاً في تتبع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام. 5- وما عرف الإنسان أن ماءَيِ البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركةَ المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق. 6- وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض .
فهل كان يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة؟ وهل قام بعملية مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان، وخاصة في ميدان البحار؟ وهل تيسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه من أبحاثٍ وآلاتٍ ودراساتٍ ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟ إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمّن وصفًا لأدق الأسرار في زمنٍ يستحيل على البشر فيه معرفتها لَيَدُلّ على مصدره الإلهي كما قال تعالى: "قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا" (الفرقان/ 6). كما يدل على أن الذي أُنْزِل عليه الكتاب رسولٌ يُوحَى إليه. وصدق الله القائل: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟" (فصلت/ 53)".
والآن، وبعد أن نقلنا ما خرج به كاتب المقال المشار إليه من نتائج، نأتى إلى آية سورة "فاطر": "وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا ملحٌ أُجاج. ومِنْ كُلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا وتستخرجون حِلْيَةً تلبسونها". ولسوف أتناولها من زاوية أخرى لأنها، كما سبق القول، لا تذكر شيئا عن البرزخ أو الحِجْر المحجور الذى يمنع أحد البحرين من البغى على الآخر. لقد قرأتُ هذه الآية مرات لا تحصى، لكنى لم أكن ألتفت إلى ما تؤكده من أن الحلىّ تُسْتَخْرَج من البحر والنهر كليهما، بل كنت أتصور أن اللؤلؤ والمرجان لا يوجدان إلا فى البحار الِملْحة. ومنذ عدة سنوات كنت أقرأ هذه الآية، وفجأة تنبهتُ لما كان غائبا عنى، فتساءلت: هل توجد الحلىّ حقا فى مياه الأنهار كما هى موجودة فى البحار؟ وقد رجعتُ يومها إلى ترجمة عبد الله يوسف على للقرآن إلى الإنجليزية، فألفيتُه، فى تعليقه على هذه الاية فى الهامش، يذكر من أنواع الحلىّ النهرى العقيقَ وبرادةَ الذهب وغيرهما. ثم رجعتُ بعد ذلك إلى "Encyclopaedia Britannica" (الطبعة الرابعة عشرة) فقرأتُ فى مادة "Pearls" أن اللؤلؤ يوجد أيضا فى المياه العذبة. وبعد هذا وقع فى يدى "المنتخَب فى تفسير القرآن الكريم"، الذى أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، فقرأتُ فى التعليق العلمى الموجود بأسفل الصفحة على الآية المذكورة الكلام التالى الذى يبدو وكأنه كُتِب خصيصا لى: "قد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرًا للحلىّ، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك: أما اللؤلؤ فإنه، كما يُسْتَخْرَج من أنواع معينة من البحر، يُسْتَخْرَج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجَد اللآلئ فى المياه العذبة فى إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان...إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة. ويدخل فى ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس، الذى يُسْتَخْرَج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة. ويوجد الياقوت كذلك فى الرواسب النهرية فى موجوك بالقرب من بانالاس فى بورما العليا. أما فى سيام وفى سيلان فيوجد الياقوت غالبا فى الرواسب النهرية. ومن الأحجار شبه الكريمة التى تُسْتَعْمَل فى الزينة حجرُ التوباز، ويوجد فى الرواسب النهرية فى مواقعَ كثيرةٍ ومنتشرةٍ فى البرازيل وروسيا (الأورال وسيبريا)، وهو فلورسيليكات الألمونيوم، ويغلب أن يكون أصفرَ أو بُنّيًّا. والزيركون (circon) حَجَرٌ كريمٌ جذابٌ تتقارب خواصه من خواص الماس، ومعظم أنواعه الكريمة تُسْتَخْرَج من الرواسب النهرية".
ولكى يقدِّر القارئ رد فعلى الأول حق قدره أذكر أن بعض المترجمين الأوربيين أنفسهم فى العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرًا من مصادر الحلىّ. وقد تجلَّى هذا فى ترجمتهم لهذه الآية: فمثلا نرى رودويل الإنجليزى يترجم الجزء الخاص بالحلىّ منها هكذا: "yet from both ye eat fresh fish, and take forth ornaments to wear". فعبارة "from both" لا تعطى المعنى الموجود فى الآية، وهو أن كلا من البحرين فيه حلىّ لا أن الحلىّ تستخرج منهما معا بما يمكن أن يكون معناه أنه يخرج من مجموعهما حتى لو لم يخرج فى الواقع إلا من أحدهما، وهو ما قد يصلح لترجمة قوله تعالى فى سورة "الرحمن": "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" (لاحظ: "منهما" لا "من كل منهما"). كذلك ينقل رُودِى بارِيتْ المستشرق المعروف هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالى: "Aus beiden esst ihr frishes Fleish". إلى هنا والترجمة صحيحة، فهذه العبـارة تقابـل قوله تعالى: "ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا"، وإن استخـدم بارِيتْ فى مقابل "طريـًّا" كلمة "frishes "، ومعناها الدقيق "طازج". لكن فلْننتبه لترجمة الجزء التالى الذى يقول فيه: "und (aus dem Salzmeer) gewinnt ihr Schmuck...um ihn eukh anzulegen"، والذى تَرْجَمَته: "وتستخرجون (من البحر الملح) حلية تلبسونها". ويرى القارئ بوضوح كيف أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة "من البحر الملح: aus dem Salzmeer" ، وهو ما يوحى باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلىّ على ما تقول الآية الكريمة. أما ترجمتا جورج سِيلْ وبَالمَْرْ الإنجليزيتان وترجمتا كازيمريسكى وماسون الفرنسيتان، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين الألمانيتان على سبيل المثال، فقد ترجمت كلُّها النصَّ القرآنىّ كما هو، لكنها التزمت الصمت فلم تعلق بشىء.
ويرى القارئ من هذه الآية كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة علمية يستبعدها ناس مثلى ومثل المستشرق الإنجليزى رودويل ونظيره الألمانى رُودِى بارِيت ممن يعيشون فى هذا العصر التى بلغ فيه التقدم العلمى والتقنى آمادا مذهلة، فكيف عرفها الرسول الكريم إذن وأدّاها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن، وبخاصة أن الأنهار التى ذُكِر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تُسْتَخْرَج منها تقع فى بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم يُكْتَشَف إلا فى العصور الحديثة؟
ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن المفسرين القدامى، كالطبرى والقرطبى وابن كثير والجلالين على سبيل المثال، قد وقفوا حائرين إزاء هذه الآية وأمثالها حيث يقررون أن الحلىّ إنما تُسْتَخْرَج من البحر المِلْح فقط، وإن كان القرآن قد ذكر البحرين معا. يريدون أن يقولوا: إن العرب كانت تغلّب فى مثل هذه الحالة أحدَ الطرفين على الآخر. بل إن بعضهم، محاولةً منهم الالتصاقَ بالآية وعدم الرغبة فى اللجوء إلى المجاز هنا، قد قالوا إن المقصود بالبحر العذب هو ماء المطر، بمعنى أن اللؤلؤ والمَرْجان لا يتم تكونهما إلا إذا نزل ماء المطر على صَدَفهما فى البحر فانعقد لؤلؤا ومَرْجانا. وهذا كله خَبْطٌ خاطئ، فالمطر لا يُسَمَّى: "بحرا"، فضلا عن أن القرآن الكريم قد نَصَّ على أن الحُلِىّ تُسْتَخْرَج من كلٍّ من البحرين، لا من مجموعهما كما يقول مفسرونا القدامى، ولهم العذر رغم أنهم جاؤوا بعد الوحى بعِدّة قرون كانت الحضارة الإسلامية قد قطعت أثناءها أشواطا فى مجال العلم والفكر فسيحة، إذ إن المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع لم تُكْشَف إلا فى العصر الحديث كما بيّنّا فى الفقرات الأخيرة. وقد كانت هذه الحجة جاهزة فى يدى فى إحدى المناظرات التلفازية التى شاركتُ فيها منذ أعوام ضد من ينادون بإبعاد العلوم الطبيعية عن القرآن الكريم وعدم الاستعانة بها فى تفسيره بشبهة أنه كتاب عقيدة وتشريع وأخلاق لا كتاب كيمياء أو فيزياء أو فلكٍ أو طبٍّ مثلا، إذ ها هم أولاء كبار المفسرين واللغويين يتجاهلون التركيب النحوى الواضح للعبارة القرآنية بسبب عدم توفر المادة العلمية بين أيديهم، فيعاملون تركيب "ومن كلٍّ..." على أن المراد به: "ومن مجموعهما..."، مع أن هذا غير ذاك تمامًا.
تذييل:
لا بد أن أنوِّه هنا بأن الترجمات الألمانية التى أتى ذكرها فى هذه الدراسة كانت قد أهدتنيها منذ سنواتٍ المستشرقةُ الألمانيةُ د. مارينا هاوكه (Marina Hauke)، التى أخبرتنى فى آخر خطاب أرسلته لى، وكنت حينها أعمل فى السعودية فى تسعينات القرن المنصرم، أنها قد تزوجت. وكانت تقيم فى تركيا آنذاك، ولا أدرى لماذا أحسست أنها تزوجت تركيًّا. وقد سبق أن أهدتنى كذلك نسخة من رسالة الدكتوراه الخاصة بها. لذا وجب علىّ أن أنتهز هذه السانحة وأُعِيد توجيه الشكر لها على هذه الهدايا القيمة، ولعله يقدَّر لها أن تطَّلع على هذا المقال فتعرف أن المعروف لا يضيع.
ملاحظة: فيما يلى النص الفرنسى للمقال الذى ترجمتُه وعلقتُ عليه
Le non mélange des eaux douces et salées
Dans le Coran, on parle en trois endroits d'une barrière séparant deux mers, l'une d'eau douce, l'autre d'eau salée, qui se rencontrent sans se mélanger (25:53, 35:12 et 55:19-20):
"Il (Dieu) a donné libre cours aux deux ondes, pour qu'elles se rencontrent ;comme il y a entre les deux une zone intermédiaire, elles ne s'en veulent pas. Eh bien, vous deux, lequel des bienfaits de votre Seigneur traiterez-vous de mensonge ?" Sourate 55:19-21
Le mot traduit ici par "zone intermédiaire" (barzakh) signifie "intervalle", "barrière", "fossé", "barre", "obstruction", "isthme".
"Et c'est Lui qui donne libre cours aux deux ondes : celle-ci, douce, rafraîchissante, celle-là, salée, amère. Et assigne entre les deux une zone intermédiaire et barrage barré." Sourate 25:53
"Les deux mers ne sont pas identiques: [l'eau de] celle-ci est potable, douce et agréable à boire, et celle-là est salée, amère. Cependant de chacune vous mangez une chair fraîche, et vous extrayez un ornement que vous portez. Et tu vois le vaisseau fendre l'eau avec bruit, pour que vous cherchiez certains [de produits] de Sa grâce. Peut-être serez vous reconnaissants" Sourate 35:12
Ces versets révéleraient selon certains interprètes musulmans, l'existence du non mélange des eaux fluviales dans la mer à l'embouchure car le mélange des eaux ne s'opère parfois que loin au large.
Cela est possible, mais ne sommes nous pas là devant une simple observation d'un phénomène naturel bien connu, qui est le non mélange immédiat des eaux de l'Euphrate et du Tigre avec celles de la mer, à leur débouché dans le golfe persique?
En effet, on peut observer à Bassorah (en Iraq), les eaux douces du Tigre se déverser dans l'Océan Indien. Dans la marée haute, on voit une masse d'eau salée de couleur verte côtoyant une masse d'eau douce de couleur rougeâtre sans qu'il y ait entre elles le moindre mélange.
Vous en conviendrez que ce spectacle impressionnant pour un homme d'aujourd'hui, devait l'être d'une plus ample mesure encore pour un homme du septième siècle!
Ceci dit, examinons ce que nous enseigne un conte de mythologie Babylonienne datant de plus de 3000 ans avant le Coran :
"A l'origine il n'y avait que Nammou, la mer primitive, l'océan cosmique. Elle engendra An et Ki, le ciel et la terre (...). Enki, enfin, parce qu'il est le dieu des eaux douces qui, en tant qu'elles s'opposent aux eaux salées de Nammou la mer primordiale, doivent être situées du côté du ciel, comme eaux de pluies". Conte babylonien
A cette lecture, nous constatons que le Coran n'a rien révélé!
De ce fait, si des musulmans aiment encore à alléguer, que ces versets coraniques révéleraient une vérité scientifique, il faudrait alors adopter la même attitude face aux textes mythologiques babyloniens, et en conclure qu'il y aurait là, une révélation divine faite aux Babyloniens, qui rappelons-le, sont polythéistes. Je ne pense pas qu'il faille en venir jusque là, mais simplement être honnête et se résoudre au fait que ces versets coraniques ne ressortent que d'une simple observation d'un phénomène naturelle, qui a été rapporté par d'autres hommes étant de civilisations antérieures de plusieurs millénaires à Mohammed.
Signalons aussi, que d'autres interprètes ont fait plus fort, et prétendent que le Coran révélerait ici l'existence de masses marines différentes l'une de l'autre, tant au niveau de la température, de la salinité, des organes vivant, de la solubilité de l'oxygène, ...
Examinons, ce que dit le Coran: celui-ci nous parle d'un non mélange d'eau douce (potable, rafraîchissante et agréable à boire) et d'une eau salée (amère). Le Coran n'indique en rien, la distinction de températures des eaux, des organes vivant, de la solubilité de l'oxygène. Ceci ne trouve aucune base dans le Coran alors que le Coran se dit être un exposé DETAILLE de TOUTE chose où RIEN n'est omis avec des versets bien clairs.
Le Coran parle juste d'une eau douce potable, et agréable à boire, mais cela n'existe pas des mers d'eau potable! C'est même un danger pour l'homme de croire en telles choses. En effet, boire de l'eau salée, risque de rendre la personne sujette à la folie...
Il n'est décidément pas bon pour le Coran d'y chercher des vérités scientifiques... D'autant plus que comme explicité, si malgré cela on accorde ici une révélation scientifique au Coran, il faut par conséquent agir de même vis-à-vis du mythe babylonien, et ainsi le Coran n'a rien révélé, mais a alors simplement répété ce qui a déjà été dit, ceci il y a plus de 3000 ans! Nous en arrivons toujours à la même conclusion, à savoir : être honnête et conclure que ces versets ne proviennent que de la simple observation d'un phénomène naturel.
En conclusion
Contrairement à ce qu'affirment certains commentateurs musulmans, de la lecture de ces versets, il ressort plutôt une méconnaissance scientifique et une ignorance qui considérées comme vérités scientifiques pourraient même mettre en danger la vie de personnes (voir eau de mer potable). Si néanmoins, certains refusaient de cesser de voir dans ces versets coraniques une révélation scientifique, il faudra en faire de même pour le conte babylonien... et ainsi, le seul miracle coranique se réduirait à répéter ce que d'autres ont déjà dit...
فضيحة بجلاجل للعلمانيين في برنامج
"الاتجاه المعاكس"
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
بثت قناة الجزيرة مساء الثلاثاء 5/ 10/ 2004م حلقة من برنامجها الأسبوعى: "الاتجاه المعاكس"، الذى يقدمه د.فيصل القاسم المتخصص فى إشعال الحرائق الفكرية واستخراج ما فى مستكن أفئدة ضيوفه بطريقته المعروفة للمشاهدين. وقد دارت الحلقة حول مدى ترحيب المسلمين بحذف نصوص دينية إسلامية معينة من المناهج الدراسية، وكانت نتيجة تصويت المشاهدين فى صالح الرفض لهذا الحذف بأغلبية ساحقة، بل إنه ليمكن القول بأن الإجماع تقريبا قد صبَّ فى هذا الاتجاه إذا أخذنا فى الاعتبار أن نسبة الـ7% التى صوتت عبر الهاتف بالموافقة يدخل فيها غير المسلمين، سواء من العرب أو من غير العرب أيضا، إذ لا أظن أن هناك مصفاة فنية تمنع من ليسوا عربًا من الاشتراك فى هذا التصويت!
والواقع أن هذه الحلقة بالذات كانت بكل المقاييس "فضيحة بجلاجل" للعلمانيين المتغربين السائرين فى ركاب أعداء هذه الأمة الراقصين على ما يعزفونه لهم من أنغام، النابحين كل شريف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلما شامُوا فى الأمة ضعفا، والمسارعين إلى الدخول فى أوجارهم أذلّةً ضاغين ضارعين إذا استقام ميزان الأوضاع وعادت الأمور لطبيعتها الأصلية. أما كيف كانت "فضيحة بجلاجل" لأولئك الخَلْق فإليك، أيها القارئ، التفصيل:
لقد ظهر من مناقشات أولئك الخَلْق أنهم لا يحترمون القرآن ولا الحديث، وهما أساسا الدين لهذه الأمة، وبغيرهما لا يكون المسلم مسلما. كما ظهر من هذه المناقشات قدرتهم العجيبة على الكذب والتدجيل دون أن يطرف لهم جَفْن ولا هُدْب، مما يدل على أن هذه الآفة سجية متأصلة فيهم، وأن الواحد منهم "كذاب قرارى" كما يقول المصريون! أو كذاب من الطراز الأول بامتياز كما نقول فى الفُصْحى حماها الله! وفضلا عن هذا وذاك هناك الجرأة الخبيثة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية، والقرآنية يالذات، تفسيرا ما أنزل الله به من سلطان. ومن لا يعجبه هذا التفسير العجيب فليشرب من البحر، أو إذا لم يكن قريبا من البحر فليخبط رأسه فى الجدار الذى أمامه أو الذى وراءه (لا يهم! المهم أن يخبطه، والسلام!)، ولا يجشم نفسه تعب القيام من مكانه للذهاب إلى البحر! وهذه الجرأة الوقحة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية يرفدها جهل غليظ لا يستحى صاحبه من إعلانه على الناس. ولِمَ يستحى، والأمر إنما يتعلق بالإسلام، وهو دينٌ بلا صاحب، أو هو فى أحسن الأحوال دينٌ ليس لدى أهله قنابل أو صواريخ أو أسلحة نووية كما عند ماما (أو بالأحرى: امرأة بابا) أمريكا ومن لفَّ لِفَّها، دينٌ ها هى ذى الدنيا تستعد لتشييعه إلى مثواه الأخير كما تخيل لهم أوهامهم النجسة مثلهم، ولا عزاء فيه لأحد: لا للسيدات ولا للرجال، ولا حتى للأطفال الصغار؟ ترى هل يستطيع أحد من المسلمين أن يجرؤ على فتح فمه؟ هكذا يفكر أولئك الخلق! وفوق هذا وذاك فالقوم لم يعودوا يخفون شيئا من أهدافهم ونياتهم: فهؤلاء هم المسلمون يُذَبَّحون وتُدَكّ بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس الذين نفضوهم وتُغْتَصَب حرائرهم وتُلَطَّخ أجساد رجالهم بالخراء ويُكْرَهون على أن يأتى الأب منهم أولاده، والأولاد أباهم، بأوامر اللوطيين والسحاقيات من أبناء وبنات العمّ سام (عَمَى الدِّبَبَة)، وتُسَلَّط الكلاب المتوحشة عليهم تأكل أعضاءهم التناسلية وهم عرايا مقيدون قد أُبْعِد ما بين ساقيهم بآلات حديدية حتى لا يستطيعوا أن يداروها عن الكلاب المتلمظة التى يسلطها عليهم كلاب البشر! رهيب! رهيب! رهيب! ثم يأتى أولئك الخلق فيصيحون بنا أنْ كونوا متحضرين أيها الأغبياء يا من لا تزالون تعيشون وتعششون كالخفافيش فى عصر الظلام الذى كان يعيش فيه محمد وأصحابه البدو المتخلفون! ما لكم تريدون أن ترجعوا عقارب الساعة إلى الوراء، وقد مات ذلك الـ"محمد" منذ أربعة عشر قرنا وشبع موتا، وينبغى أن يلحق به قرآنه وحديثه اللذان لا مكان لهما فى عالم اليوم الذى استولت فيه أمريكا على عرش الألوهية بقوة السلاح كما استولت على بلاد الهنود الحمر بعد أن أبادتهم وجعلتهم أثرا من بعد عين، وحوَّلتهم إلى حكايات تُرْوَى وأفلام تُمَثَّل على الشاشة للتسلية وإدخال السرور على قلوب المشاهدين، ولم يعد هناك مكان لإله محمد يا أيها الحمقى، بل يا أيها البهائم؟ ألا تريدون أبدا أن تفيقوا من هذيانكم وظلامكم وتكونوا، ولو مرة واحدة، قوما متحضرين؟ استيقظوا وافركوا أعينكم وقلوبكم وعقولكم جيدا، فهذا الأوان أوان "الكاوبوى بوش" لا "محمد راعى الجِمَال" يا أيها الصُّمّ البُكْم العُمْى الذين لا يبصرون ولا يسمعون ولا يتكلمون كلاما يفهمه العاقلون! هذا، أيها القراء، هو الأمر باختصار، ومن يرد مزيدا من البيان فليتابع معنا غير مأمور، بل له كل الاحترام، وله كذلك الثواب من رب الثواب: رب محمد بطبيعة الحال كما لا أظننى بحاجة إلى التوضيح، فأنا من أولئك الذين ما برحوا، رغم كل شىء، يؤمنون بمحمد ودين محمد ورب محمد، لا أعرف لى دينًا ولا نبيًّا ولا ربًّا سواه!
لقد بدأت الحلقة، ولم نكن نعرف مَنْ ضيفاها، ولكن ما إن رأيت د.إبراهيم الخولى حتى شعرت بالسرور، إذ سبق لى أن شاهدته (ولأول مرة فى حياتى) فى الحلقة التى قارع فيها د.محمد أركون العام الماضى فقَرَعه بل أجهز عليه بالضربة القاضية حتى لقد رأيت أركون وقد استولى عليه الذهول عند انتهاء الحلقة، وهو يكاد يضرب كفا بكف (أو ربما ضربهما فعلا) لأن الحلقة قد انتهت دون أن يستطيع شيئا مما ظن أنه فاعله، تصوُّرًا منه أن د. الخولى رجل أزهرى (أى "دقة قديمة")، فهو يقدر أن يضحك عليه بكلمتين من كلامه الذى يترجمه له حواريّه هاشم صالح (الذى كتب عقب حوار بينه وبين أستاذه فى العاصمة الفرنسية قائلا إنه يتطلع إلى اليوم الذى تنتشر فيه الخمارات فى أرجاء البلاد الإسلامية كما تنتشر فى باريس) معلنًا فى جرأة لم أرها ولم أسمع بها فى الغابرين ولا فى المحدثين، ولا أحسب أحدا سوف يُكْتَب له أن يسمع بها فيما يُسْتَقْبَل من الزمان إلى يوم الدين، أن الإسلام قبل أركون ليس هو الإسلام بعد أركون! مَدَدْ يا سيدى أركون! مَدَااااادْ! والحمد لله أنه لم يَدْعُ إلى ترك التقويم الهجرى والميلادى والقبطى والعبرى والفارسى والصينى والجريجورى وتدشين تقويم جديد للعالم كله يحمل اسم شيخ طريقته أركون، فيقال: حدث هذا فى السنة الرابعة والخمسين مثلا أو فى القرن العاشر من ميلادِ (أو من وفاةِ، أو من صدور أول كتابٍ لـ)سيدنا أركون، صلى "الغرب" عليه وسلّم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين يضعانه فى آخر المطاف يوم القيامة فى المكان الذى يستحق جزاءً وفاقًا على ما صنعت يداه! ولا شك أن هذا منتهى التواضع: من الشيخ الأكبر، ومن الدرويش الأصغر على السواء! لكن الذى حدث هو أن الدكتور الأزهرى قد لقن الشيخ الأكبر درسا لا أظنه هو ولا من وراءه أو أمامه أو عن أيمانه أو عن شمائله من دراويشَ تابعين أو سادةٍ متبوعين سيَنْسَوْنه أبد الآبدين ولا دهر الداهرين! لقد بدأ الدكتور الأزهرى كلامه بالحمد لله والصلاة على النبى واستعاذ بالله من شرور النفس ومن سيئات الأعمال، وأطال فى هذه الديباجة، وأنا أستحثه بينى وبين نفسى أن يدخل فى الموضوع خوفا من أن يقاطعه فيصل القاسم فى الوقت الحرج ويقول له كعادته: "الوقت يداهمنا". لكنى لم أكن أعرف أن كلمات الشيخ ستنزل على رأس الأركون كما تنزل "تعزيمة الرفاعى" على رأس الحَنَش الذى يريد استدراجه من داخل الجدار، فتطيّر صوابه فلا يستطيع حولا ولا طَوْلا، بل يقع فى يده ويستسلم كما يخرج الثعبان من الشق الذى يختبئ فيه رافعًا الراية البيضاء لراقى الثعابين! أعاذنا الله من الثعابين ومن شر الثعابين: من المنسوبين إلى جنس الآدميين، قبل ثعابين الحَيَاوين! قولوا معى بصوتٍ واحد، وعلى قلب رجلٍ مؤمنٍ واحد: آمين، يا رب العالمين! وأسمعونى كذلك الصلاة على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين! المهم أننى من يومها كلما جاءت سيرة الحلقة أجدنى أردد قائلا: "لقد أكل الشيخُ الأزهرى البروفسيرَ السربونى!". لهذا، ولكل هذا، ولا شىء غير هذا، ألفيتُنى أبتهج لمرأى د.الخولى وأتشوق إلى متابعته مرة أخرى وهو يتكلم بطريقته المميزة راسمًا بذراعه ويده اليسرى زوايا قائمة فى الهواء ومشيرًا بسبابته فى حسمٍ وحدّةٍ ناحية الخصم كأنه يفقأ بها عين الباطل اللئيم مضيفا على نحو مفاجئٍ خاطفٍ كلمةَ: "ثمّ"، ومتمهلا قليلا قبل أن يشفعها بالجملة التالية ثم سائر الجمل من بعدها بحروفها التى تبدو وكأنها صادرة جميعها من الحلق، وعلى رأسه طاقيته الداكنة المكبوسة الظريفة التى يكمن فيها السحر والظرف كله! وأشهد أن الشيخ الأزهرى لم يخيب ظنى ولا رجائى هذه المرة أيضا، بل إنى لأعتقد أنه قد تفوق فيها على نفسه. وكان من بركاته أن استفز خَصْمُه مقدِّمَ الحلقة منكرًا ما كان قد قاله قبل الدخول إلى مكان التصوير وأعلن فيه ما تكنه أطواء ضميره من كراهية للإسلام وحملة تجاوزت جميع الحدود على آيات القرآن مما لم يستطع أن يواجه به الجمهور ولا أن يصمد به للشيخ فى الحوار الذى دار بينهما على الهواء أمام الملايين، فما كان إلا أن وجَّه له د. فيصل القاسم بدوره لكمة أخرى جعلته يترنح وهو يتصايح مُنْكِرًا دون جدوى، والقاسم يؤكد بقوة واستخفاف أن كل شىء قاله قبل بدء الحلقة مسجَّل، وأنه لا يفترى عليه فى قليل أو كثير! وهكذا لحق محمد ياسر شرف بأركون (الذى جعله الله سَلَفًا ومثَلاً للآخِرين) غير مأسوف على أى منهما! والدكتور شرفٌ بالمناسبة، حسبما أخبرنى صديقٌ حلبىّ البارحةَ عقبَ انتهاء البرنامج، هو أستاذ سورى كان يشتغل ناظرا لإحدى المدارس الثانوية بدمشق قبل أن يسافر للعيش فى لندن.
وهكذا بدأت الحلقة، وكانت بداية القصيدة كفرا، إذ لم يترك لنا د.شرف فرصة نستعد فيها لما يقول، بل أخذ يمطرنا من البداية باتهام معلِّمى اللغة العربية والدين فى المدرسة جميعا بالكذب قائلا إن مدرس العربية يكذب على التلميذ زاعما له أنه سوف يبدأ معه من الآن دراسة العربية، أما ما كان يتكلمه قبل ذلك فليس من تلك اللغة فى شىء. ومن ثم فهذا المدرس، حسب زعم د.شرف، يحكم على الفترة التى قضاها الطفل قبل أن يبدأ درس النحو بأنها ضاعت من حياته دون جدوى! ولا أدرى أين يوجد ذلك المدرس خارج أوهام صاحبنا الرديئة السخيفة. لقد درَسْنا القواعد النحوية والصرفية فى المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، فلم نقابل مثل هذا الأستاذ. بل إن كثيرا من أساتذة اللغة العربية ليشرحون دروسهم بالعامية. وكل ما يمكن أن يقوله الواحد منهم فى هذا الصدد أن الفصحى هى لغة القراءة والكتابة، أما العامية فللكلام والمطالب اليومية فى البيوت والشوارع والمقاهى والأسواق وما إليها، مثلما قلنا ونقول، وسنظل نقول، إن المنامة للبيت والسرير، بخلاف البدلة، فهى للحفلات والمناسبات الاجتماعية والرسمية الهامة. فأين الكذب هنا؟ والعجيب أن الرجل كان يتكلم بلغة فصحى سليمة إلى حد كبير، ودون تلكؤ أو تلعثم. والفضل بطبيعة الحال، بعد الله، لمدرسى اللغة العربية الذين جازاهم سعادته جزاء سنمار! ترى بأية لغة غير العامية المتخلفة كان سيتكلم لولا فضل هؤلاء الأساتذة الذين يرميهم سيادته بالكذب جريا على أسلوب المثل السائر: "رمتنى بدائها، وانسلَّتِ"؟ ثم لماذا يَقْصِر الاتهام بالكذب على مدرسى اللغة العربية دون سائر المدرسين، وهؤلاء يقعون فيما هو أشد مما يتهم به أولئك زورا وبهتانا؟ ألا يقول مثلا مدرس الكيمياء لتلاميذه إن ذرة الماء تتكون من ذرة أوكسجين وذرتى هيدروجين؟ أوقد عاين أىٌّ منا ذلك؟ إننا لا نعرف ماءً إلا ذلك الذى ينزل من الصنبور أو يجرى فى الترع والقنوات أو يهطل من السماء! لكن الأستاذ المتكلم إنما قصد ذلك قصدًا بغية التحقير من شأن اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم رغم أن موضوع الحلقة لا تربطه أية واشجة بدروس النحو والصرف! وهذا ما عناه القرآن المجيد حين تحدث عن طائفة من الناس فنبَّه الرسولَ عليه السلام إلى أن من السهل معرفتهم من لحن القول، وهو شىءٌ قريب مما نسميه الآن بـ"فلتات اللسان".
وكما قصد الرجل أن يحقر من لغة القرآن باتهام مدرسيها ضلالاً منه ومَيْنًا بأنهم، حين يعلّمون التلاميذ قواعد النحو والصرف، إنما يمارسون كذبا بشعا عليهم، كذلك قصد الإساءةَ الجِلْفَة الغبية للدين حين اتهم مدرسى الفقه، ضلالاً أيضا منه ومَيْنًا، بأنهم إنما يكذبون أفظع الكذب على التلاميذ حين يقولون لهم إن ما يُغْسَل من أعضاء الجسم فى آخر الوضوء هو الرِّجْلان إلى الكعبين، بينما الذى يحدث فى الواقع هو غسل المشطين إلى الكعبين، وهو خطأ فى زعمه، إذ الرِّجْل عنده إنما هى الساق والفخذ. وهذا كلام فى منتهى الخطورة، فتهمة الكذب والجهل فيه موجهة، فى الحقيقة، لا إلى مدرسى الفقه، بل إلى الرسول والقرآن. ترى من أين أتى مدرسو الفقه بتفسيرهم هذا؟ أليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذن فلو كان هناك كذب وجهل لكان مصدرهما هو الرسول، الذى لم يشأ صاحبنا أن يتهمه اتهاما مباشرا، بل آثر أن يلدغ لدغته السامة على نحو خبيث خفى، فلا يمكن المشاهد اكتشافها إلا فيما بعد عندما يبدأ ذهنه بالعمل، ويكون سعادة الأستاذ قد فَطَّ راجعا إلى لندن! نفس الطريقة الخبيثة التى تحدث عنها أخ له من قبل فى مصر قائلا إن أسلوبه (يقصد أسلوبه فى الكيد للإسلام) هو: اضرب، واهرب قبل أن يتمكنوا من الإمساك بك!
والواقع أن الكذب والجهل إنما هما نصيب من يتهم الرسول والقرآن بهما، فـمعروف أن أول معنى من معانى "الرِّجْل" فى اللغة هو "القدم". وهذا واضح من قولنا: فلان راجل، أو ماشٍ على رجليه، أو مترجِّل عن دابته. ومنه قول القرآن فى الآية الخامسة والأربعين من سورة "النور": "والله خلق كل دابّة من ماء: فمنهم من يمشى على بطنه، ومنهم من يمشى على رِجْلَيْن، ومنهم من يمشى على أربع"، وقوله فى الآية المائة والخامسة والتسعين من سورة "الأعراف": "ألهم أرجلٌ يمشون بها؟". ومنه أيضا قوله عز شانه: " َلأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجُلكم من خِلاف" (الأعراف/ 124، والشعراء/ 49)، وقوله جل جلاله: "يومَ يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (العنكبوت/ 55)، وقوله سبحانه لعبده داود: "اركض برِجْلِك" (ص/ 42)... إلخ. أم ترى الفلحاس يفهم من تلك العبارات أنهم يمشون على أفخاذهم وسيقانهم أو أن العذاب سوف يأتيهم من تحت أفخاذهم وسيقانهم أو أن داود عليه السلام كان يركض على فخذيه وساقيه؟ إن مصير من يفهم مثل هذا الفهم لمعروف، ألا وهو أخذه إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية! وعلى هذا فلا كذب ولا جهل إلا عند الشتّام الهجّام بلا وازع أو لجام! وحتى لو أدخلنا فى معنى "الرِّجْل" الفخذ والساق ، فالمفهوم أن تكون بداية الرِّجْل من القدم لا من الساق أو الفخذ، إذ القدم هى الجزء المنفصل من الرِّجْل، أما الساق والفخذ فهما متصلان بغيرهماـ وعلى ذلك فعندما يقول القرآن: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" فليس لذلك من معنى فى حالة الوضوء إلا غسل القدمين من أسفلهما صعودا إلى الكعبين، وإلا فهل يريد حضرته منا، إذا ما أردنا أن نتوضأ ونغسل أرجلنا فى المسجد، أن نخلع سراويلاتنا وتبابيننا ونكشف عن سوآتنا على ملإ من الناس أجمعين؟ وهل تراه هو يفعل ذلك، أقصد: هل كان يفعل ذلك أيام أن كان يصلى ويتوضأ؟ انظروا إلى هذا التنطع الثقيل الظل والروح لتعرفوا إلى أى مدى يتساخف تلامذة الاستعمار والمستشرقين والمبشرين فى حربهم للإسلام!
وكان الرجل قد أتى للحلقة ليدعو بما يدعو به الأمريكان من وجوب حذف النصوص القرآنية والحديثية التى تحض على الجهاد فى سبيل الله أو تصف من لا يؤمن بمحمد والقرآن بالكفر، من المقررات الدراسية. ومن الواضح أنه، فى النقاش الذى دار بينه وبين د. فيصل القاسم قبل بدء الحلقة، قد أعلن عن نفسه وأهدافه بكل وضوح، أما على الهواء وأمام الجمهور فكان يلف ويدور، ولكن عَلَى من؟ عَلَى بابا؟ لقد كانت اللعبة مكشوفة تماما رغم الزعم الكاذب بأنه لا يريد حذف هذه النصوص، بل مجرد تأجيلها لمرحلة لاحقة. إلا أن هذه البهلوانيات اللفظية والفكرية لم تستطع أن تخفى سوأة نياته وأهدافه، إذ لما سئل: ومتى يمكن للتلاميذ أن يتعلموا هذه النصوص؟ كان جوابه أن قراءتها لا بد أن تقتصر على المتخصصين لا تعدوهم. أى أنه لن يقرأ هذه النصوصَ إلا المشايخ الكبار، ولا سبيل إلى وضعها بين أيدى غيرهم بأية حال، وهو ما يعنى أنها ستتحول إلى نصوص ميتة لا غناء فيها، اللهم إلا لمن يريد أن يبلّها ويتناولها على الرِّيق فتطرد البلغم من صدره، والديدان من أمعائه، وتحمِّر خدوده، وتبرم كعوبه! وسلِّم لى على الجهاد والعزة والكرامة يا أبو كرامة! أما أنتِ يا أمريكا فقد "خلا لك الجوّ، فبِيضِى واصْفِرى، ونقِّرى ما شئت أن تنقِّرى". نعم خلا لك المجال الجوى فى بلاد المسلمين فطِيِرى بطائراتك وأطلقى صواريخك فيه وامرحى على راحتك تماما، واصفرى بقنابلك التى تدمر البيوت على رؤوس من فيها من المساكين الوادعين الذين لم يدوسوا لك على طرَف، وانقرى عيونهم وابقرى بطونهم ولا تأخذك بأحد منهم رحمة، فهم أولاد كلب وخنازير لا يستحقون مصيرا أفضل بل أسوأ من مصير الهنود الحمر! أليسوا أبناء محمد؟ أليسوا قد تخرجوا من مدرسة القرآن؟ اضربى يا أمريكا بكل ما عندك من وحشية وجبروت، فالفرصة الآن سانحة كما لم تسنح لك من قبل، فها هو فريق من أبناء المسلمين أنفسهم ينصرك على بنى قومه، ويمدك بما تريدين أن تعرفيه من أخبارهم، وينشر بينهم التخذيل والإحباط والتيئيس وروح الهزيمة والتشكيك فى القرآن والحديث ونبوة محمد وحضارة العرب والإسلام، ويقوم بدلا منك بالمهام القذرة. ترى ماذا تريدين أفضل من هذا؟ اضربى! اضربى الرجال والنساء والأطفال والبيوت والمدارس والمستشفيات والمصانع والمتاحف والمساجد والمخابئ والحقول والجسور والمطارات والسيارات... اضربى بكل قسوةٍ هؤلاء البهائم الذين لا يفهمون ولا يتحضرون ولا يريدون أن يسلّموا لك رقابهم طواعية كى تجزريهم وتمصمصى عظامهم براحتك دون أن يعكّر عليك الجَزْرَ والمصمصمةَ مجاهدٌ منهم لئيمٌ أو عالـمٌ زنيم. ثم ما هذه السحنة العابسة المكرمشة التى يطالعك بها أمثالُ الشيخ إبراهيم الخولى؟ وما هذه اللغة الأزهرية التى أكل عليها الدهر وشرب؟ لماذا لا يتقمَّع ويتقمَّش ويتحذلق بمصطلحاتك الفارغة من المضمون والتى تخترعينها وتغادين بها الدنيا صباح مساء لتبرجلى بها عقول المتخلفين ويبتسم تلك الابتسامات اللزجة السخيفة التى يبتسمها المستر شرف والمسيو أركون؟ لا، لا. اقتلوه هو وأمثاله يَخْلُ لكم وجه الدنيا وبترولها وكل لذائذها. لقد فعلتموها بكل نجاح واقتدار مرة من قبل مع الهنود الحمر، وفعلها الإسبان مع أجدادهم فى الأندلس، وها هى ذى الفرصة مواتية الآن تمام المواتاة لكى تفعلوها كرة أخرى، فهيا هيا يا أبناء العم سام يا سادة العالم، وأَرُوا هؤلاء البهائم النجوم فى عز الظهر الأحمر! ثم لا تنسَوْا فى ذات الوقت أن تتهموا أولئك الجواميس والأبقار بالإرهاب. قولوا لهم: أنتم قتلة! أنتم لا تحترمون إنسانية الآخر. أنتم ما تزالون تؤمنون بدينكم، وهذا يزعجنا وينغص علينا بالنا، أفلا تفهمون؟ إننا سادة العالم، ولا نريد لأحد أن يفتح فمه أمامنا بكلمة. وأنتم لا تكفون عن الكلام، فليس لكم عندنا إلا الإبادة. إننا نعرف أن كثرة كلامكم ليست إلا مظهرا من مظاهر عجزكم عن الدفاع عن أنفسكم فى مواجهتنا، لكننا لا نريد منكم ولا حتى الكلام لأنه مزعج لراحتنا وآذاننا.
وبالمناسبة فهذه الدعوة إلى حذف بعض النصوص القرآنية التى تزعج اللصوص والقتلة الدوليين المتخصصين فى سرقة الأوطان من شعوبها وإبادة أهليها ليست وليدة اليوم، ولا هذه الجهود الوقحة الآثمة الكافرة لوضع هذه الدعوة الإجرامية موضع التنفيذ هى بنت اللحظة الراهنة، بل قامت الجهات الصهيونية والصليبية العالمية من قبل فى الستينات من القرن الماضى بتحريفات فى مائة ألف نسخة من المصحف الشريف وزعها الأوغاد فى بعض جهات إفريقيا وآسيا بلغت المئات حذفوا فيها حروف النفى من مثل قوله تعالى: "وقالت اليهود: ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شىء" (البقرة/ 113)، وقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبَل منه" (آل عمران/ 85)، بل إنهم حذفوا نصوصا أخرى كاملة من المصاحف التى وزعوها فى أرض فلسطين المباركة مثل قوله سبحانه: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يُخْرِجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم. إن الله يحب المُقْسِطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَوَلَّوْهم, ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة/ 8- 9). ويعلق د.لبيب السعيد على هذا الإجرام والكفر قائلا إن الهدف من وراء ذلك "هو صرف الأنظار عن جرائم إسرائيل التى ارتكبتها فى حق العرب وإخراجهم من ديارهم" (انظر كتابه "الجمع الصوتى الأول للقرآن أو المصحف المرتل"/ ط2/ دار المعارف/ 372). وهؤلاء المجرمون، إذ يفعلون هذا، إنما يجرون على سنة التحريف التى جَرَوْا عليها فى كتبهم من قديم، فهم لا يأتون شيئا غريبا عن طبائعهم. وهذا يعطينا فكرة عما جُبِلوا عليه من دناءة وخسة لا تليق بمن يزعمون أنهم يريدون تحضرنا وتقدمنا، فهذه الأساليب ليست أساليب الأطهار الشرفاء، ولا هى تلائم التحضر والتقدم فى شىء.
كذلك انبرى د.محمد ياسر شرف هو ومعضِّداه اللذان دخلا على الخط من أوربا فى فاصل من الحِنِّيّة والعطف والتباكى على أهل الكتاب المساكين الملائكة الطيبين الذين كتب عليهم حظهم التعيس أن يعيشوا فى بلاد الإسلام، متهمين المسلمين بأنهم ينفون الآخر ولا يعترفون بحقه فى الاعتقاد على النحو الذى يريد! ولو أن الكلام اقتصر على هذا السخف لهان الأمر ولما بالينا بالرد عليه، فالمسلمون الآن لا يستطيعون أن يقتلوا ذبابة، والأقليات فى بلادهم هى أعز الأقليات فى العالم جانبا هم ودور عبادتهم وأوقافهم ورجال دينهم، بل هى فى بعض الأحيان أعز منهم هم أنفسهم. لكن الطامة العظمى أن المتكلمين قد اندفعوا فى معزوفة من المغالطات الوقحة والاتهامات الحقيرة الموجهة إلى الرسول الكريم والقرآن العظيم الذى جاء به بما لا يمكن أن يكون له من معنى إلا أن محمدا هو مؤلف القرآن وأنه كان شخصا ميكيافيليا فى أخلاقه وسياسته، جريئا على تطويع النصوص والتلاعب بها حسبما يحلو له بما يخدم مصلحته ويتناقض مع كل قيمة أخلاقية كريمة دون أن يَزَعه عن ذلك وازع! كيف ذلك؟
لقد ادعَوْا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أثنى على أهل الكتاب فى مكة حين كانت العلاقة بين الفريقين صافية لم تتكدر كما تكدرت لاحقا فى المدينة بعد مهاجَره عليه السلام إليها واحتكاكه باليهود ثم النصارى من بعدهم واشتعال الخلافات والمعارك بينه وبينهم مما كان من نتيجته توالى الآيات التى تلعنهم وتكفّرهم، ناسيا أنه كثيرا ما شهد لهم بالإيمان فى قرآنه أيام مكة قبل أن تتوتر بينهما الأمور. وهو بعينه ما يقوله المستشرقون والمبشرون، أى أن أصحابنا لم يأتوا بشىء من عندهم. وهو كلام قديم لا يكف الدارسون الغربيون عن لَوْكه فى تنطع وسخف ما بعده سخف رغم معرفتهم التامة أنهم يكذبون. وهذا مثل دعوى بوش وبلير بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل رغم معرفتهما التامة أن ذلك كذبٌ أبلق، لكن الهدف البعيد يستحق أن ترتكب أمريكا وبريطانيا له الكذب والقتل والتدمير للعراق وأهل العراق وحضارة العراق، مع تشغيل الإسطوانة المشروخة بأنهم إنما جاؤوا للعراق ليعيدوا إعماره وينشروا فيه الديموقراطية! ومن الطبيعى أن إعادة الإعمار تستلزم أن يكون هناك خراب، ولما لم يكن العراق على أيام صدام خربا كان لا بد من نشر الخراب والدمار فيه حتى يمكن أن يكون هناك إعمار. كذلك فالعراقيون الحاليّون غير مستعدين للديمقراطية، أو لا يستحقونها بالأحرى، ومن ثم فلا بد أيضا من استئصالهم وإفساح الطريق أمام جيل جديد يستطيع أن يتذوق الديمقراطية التى جلبتها له أمريكا: فهذا شىء لزوم الشىء!
والواقع أن فى كل من الآيات المكية والمدنية ثناءً على أهل الكتاب وتبشيرا لهم بحسن العاقبة، وتكفيرًا لهم كذلك ولعنًا، فليس الأمر إذن كما زعم أصحابنا كذبا ومَيْنا أن الساسة الميكيافيلية هى التى اقتضت أن يمدح محمد أهل الكتاب فى مكة، ثم ينقلب عليهم فيذمّهم فى المدينة! لكن يبقى هناك سؤال مهم، ألا وهو لماذا مدحهم القرآن أحيانا، وذمَّهم أحيانا أخرى؟ وجوابنا أن لكل فرد أو جماعة من البشر عدة جوانب بحيث يمكن أن نمدحهما باعتبار، ونعيبهما باعتبار آخر، وأهل الكتاب لبسوا بدعا بين البشر حتى يمكن استثناؤهم من ذلك. والقرآن حين يمدح أحدا من أهل الكتاب فإنه لا يمدحه بوصفه يهوديا أو نصرانيا بل بوصفه مسلما قد آمن بمحمد وانصاع للحق الذى جاء به، ولم يدفعه التعصب الأعمى لما ألفى آباءه عليه إلى رفض الدعوة النبيلة العظيمة التى أتى بها الرسول من لدن رب العالمين. وسوف أجتزئ ببعض الآيات من كل من الوحى المكى والمدنى للتدليل على ما أقول حتى يسقط الهراء الباطل السفيه الذى يصدّعنا به الباحثون ورجال الدين الغربيون ومن جرى فى ركابهم وتعلق بأذيالهم من بيننا.
لقد ادعى أصحابنا الثلاثة، كما رأينا، أن القرآن الذى نزل بمكة لا يذكر أهل الكتاب إلا بخير، فما رأيهم فى النصوص المكية التالية التى تحمل عليهم حملة شديدة وتدمغهم بأحكام عنيفة؟ قال تعالى: "ومِنَ الذين هادوا حرَّمْنا كل ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمْنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون" (الأنعام/ 146). وفى سورة "الأعراف" التالية لسورتنا هذه يحكى القرآن الكريم فى آيات بعد آياتٍ قصة موسى مع بنى إسرائيل، فلم يترك مثلبة إلا ودمدم بها على رؤوسهم ولعنهم وتوعدهم بمصيرٍ فظيعٍ جرّاءَ عنادهم وكفرهم بنبيهم وكتابهم وعصيانهم لربهم وصلابة رقابهم وعقولهم وقلوبهم مما يجده القارئ بدءا من الآية 138 حتى الآية 178، ومثله موجود فى سورة "طه". فما القول فى هذا أيضا؟ كما نجد فى أوائل سورة "الإسراء" نبوءة خاصة بالإفسادين اللذين سيرتكبهما بنو إسرائيل والتأديب الذى قدّره الله عليهم جزاء لهم على الإفساد الأول منهما... إلخ. فما القول فى هذا أيضا؟ كذلك نسمع فى ختام صدر سورة "مريم" حملة على ما انحرف إليه بعض أتباع عيسى من عبادتهم له عليه السلام وُصِفوا أثناءها بالكفر فى عبارة صريحة لا تحتمل لبسا ولا تأويلا: "ذلك عيسى بن مريم قولَ الحق الذى فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ مِنْ وَلَد. سبحانه! إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون* وإن الله ربى وربكم، فاعبدوه. هذا صراطٌ مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم، فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم"، ومثله موجود فى سورة "الزخرف". فما القول فى هذا أيضا؟ بل إن المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة وجدوا أنفسهم، بسبب من هذه الآيات، فى حَرَجٍ أمام النجاشى وحاشيته وبطارقته عندما سُئِلوا، بتحريض من رسولَىْ قريش اللذين لحقا بهم ليؤلبا عليهم الملك ورجاله، عن حقيقة اعتقادهم فى المسيح، لكنهم رضى الله عنهم لم يداهنوا فى دينهم وقرأوا الآيات متوكلين على الله، فلم يخذلهم بل حنَّن عليهم قلب الملك الطيب الذى استطاع بنبل بصيرته أن يرى عظمة دين محمد والذى أرجع الرسولين القرشيين بخُفَّىْ حُنَيْن!
هذا فى جانب الذم، أما فى جانب المدح فإلى القارئ هذه الشواهد التى يمكنه أن يقيس عليها ما لم نذكره. قال سبحانه: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنْزِل إليك" (الرعد/ 36). فما القول فى هذا؟ وقال أيضا عز شأنه: "وقرآنا فرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونَزَّلناه تنزيلا* قل: آمِنوا به أو لا تؤمنوا. إن الذين أُوتُوا العلم من قبله إذا يُتْلَى عليهم يخِرّون للأذقان سُجَّدا ويقولون: سبحان ربنا! إنْ كان وعد ربنا لَمفعولا* ويخِرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" (الإسراء/ 106- 109). فما القول فى هذا أيضا؟ وقال جل جلاله: " ولقد وصَّلْنا لهم القولَ لعلهم يتذكرون* الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون* وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنّابه. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين" (القَصَص/ 51- 53). فما القول فى هذا أيضا؟
ومثل هذا فى المعنى والتفسير ما نجده من ثناء على بعض أهل الكتاب فى الوحى المدنى من مثل قوله جل جلاله: "وإِنّ مِنْ أهل الكتاب لمََنْ يؤمن بالله وما أُنْزِل إليكم وما أُنْزِل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم" (آل عمران/ 199). فما القول فى هذا؟ ولقد استشهد د.شاكر النابلسى (أحدُ من اتصلوا بالبرنامج لمناصرة د.محمد ياسر شرف،) بالآية 114 من سورة "آل عمران" زاعما أنها تمدح أهل الكتاب وتصفهم بأنهم "يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنْهَوْن عن المنكر"، مع أن الآية السابقة عليها مباشرة تنص نَصًّا على أن الكلام إنما يدور على طائفة منهم فقط لا عليهم كلهم، قائلة عن أفراد هذه الطائفة إنهم "يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون"، بما يعنى أنهم كانوا قد آمنوا بالقرآن وباتوا ليلهم يتلون آيات الكتاب الذى نزل على محمد، ويسجدون لربّ محمد سبحانه وتعالى، فضلا عن أن وصفهم بالإيمان بالله واليوم الآخر لا يدل إلا على شىء واحد لا غير، ألا وهو الإيمان بمحمد ودينه وكتابه، إذ إن رفض الإيمان ولو بنبىٍّ واحد معناه الكفر بالله واستحقاق العذاب المهين حسبما وضحتْ لنا الآيات 150- 152 من سورة "النساء"، كما أن من شروط الإيمان بالآخرة الإيمان بالقرآن كما جاء فى الآية 92 من سورة "الأنعام".
ويلاحظ القارئ أن د.النابلسى قد مزَّق آية "آل عمران" عن أختها السابقة عليها التى تشير إلى أن أهل الكتاب الذين تمدحهم إنما هم الذين دخلوا فى الإسلام وصاروا من أتباع محمد عليه السلام، وكانوا يقضون ليلهم فى تلاوة كتاب الله. وهذا التمزيق هو شِنْشِنَةٌ معروفة عند كل من يحاربون القرآن استغفالاً منهم للمستمع الذى لا يكون عنده فى مثل هذه الظروف من الوقت ولا من فراغ البال ما يساعده على التنبه لهذا التزوير الجلف! ود.النابلسى، لمن لا يعرف، هو كاتب أردنى مقيم بأمريكا ويناصر ما تفعله أمريكا بالعراق من قتل وتدمير للبيوت والمتاحف والجسور والشوارع، واغتصاب للحرائر وتلطيخ للرجال بالخراء وإجبارهم على أن يفعل الأب منهم بأولاده والأولاد بأبيهم الفاحشة وغير ذلك من بشاعات وفظائع مما انكشف أمره من أهوال سجن أبو غريب، وسرقةٍ لنفط العراق وتهديدٍ لسائر الدول والشعوب العربية بنفس مصير العراق، زاعما أن هذا الإجرام البربرى الوحشى الذى لا يدع شيئا إنسانيا أو حضاريا إلا دمره كما كان يفعل المغول قديما، ليس احتلالا ولا استغلالا، وأن الذين يقولون بغير ذلك إنما هم متشنجون عُمْىٌ لا يستطيعون أن يبصروا الأمل الذى جاءت جيوش الاحتلال الأمريكى المجرم لتحقيقه! ويمكن الرجوع فى ذلك لما كتبه هو نفسه فى مقاله المنشور بالصفحة السادسة عشرة من جريدة "الراية" القطرية يوم الثلاثاء 12 أكتوبر 200 م عن الإرهاب بالعراق. يقصد الكفاح المقدس ضد قوات الشيطان الأمريكى المجرم فى ذلك البلد العزيز. وهو يعزو هذا الإرهاب إلى عدة عوامل على رأسها ما يسميه: "أنظمة التعليم الدينى" فى بلادنا! وعلى نفس الوتيرة يشن هذا الرجل (الذى قرأت أنه فلسطينى يتنكر لأصله) على الكفاح البطولى العظيم لأهل فلسطين هجوما ناريًّا حاقدا متهما العمليات الاستشهادية بأنها انتحار لا معنى ولا موضع له فى حياتنا السياسية المعاصرة، ومدافعا عن إسرائيل وأمريكا فيما تفعلانه بحجة أنهما تعتمدان على الشرعية الدولية، إذ إن قيام إسرائيل على أرض فلسطين يمثل فى نظره تلك الشرعية الدولية، وعلى العرب والمسلمين والفلسطينيين أن يخرسوا فلا يفتحوا أفواههم بكلمة (صحيفة "العراق الجديد" الألكترونية/ 16أكتوبر 2004م بعنوان "هل حقا أن القرضاوى يعتبر داعية وسطيا معتدلا؟"). وهو يرى فى مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذى تدعو إليه أمريكا هذه الأيام ، والذى يهدف إلى تركيع العرب والمسلمين للهيمنة الأمريكية والصهيونية، هِبَةً ثمينة يريد العم سام (عليه السَّام، والموت الزُّؤَام) أن ينشر من خلالها الديمقراطية والحكم الصالح وبناء المحتمع المعرفى. بل لقدوصف أمريكا بأنها رَبَّة هذا الكون، أى هى المسؤولة عن مصلحته، ومن حقها إذن أن تتدخل فى شؤون الدول لتعديل المعوج من أوضاعها بغية القضاء على الإرهاب العالمى (حلقة "الاتجاه المعاكس"بتاريخ الثلاثاء 16/ 3/ 2004م). وفى موضع آخر نراه يكتب مؤكدا بكل قوة أن الدولة التى أقامها الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدون لا تصلح لنا الآن لتخلفها عن الآماد التى بلغها تقدم الدولة الحديثة. وهذا الكلام موجود فى جريدة "الحوار المتمدن" اليسارية الألكترونية فى عددها رقم 981 الصادر فى 9/ 10/ 2004م تحت عنوان "الإجابة على سؤال: لماذا دولة الرسول والخلفاء الراشدين لا تصلح لنا الآن ؟". وبالمثل نجده يتغنى بخلال ملك الأردن الرفيعة التى لا يستطيع شعبه المتخلف أن يجاريه فيها (نفس المصدر/ العدد 911/ 31 أغسطس 2004م)، كما لا يعجبه من مشايخ الأزهر على بكرة أبيهم إلا د.محمد سيد طنطاوى، الذى يجلّه غاية الإجلال ويراه المنفتح الوحيد بينهم (نفس المصدر/ العدد971/ 29 سبتمبر 2004م). أرأيت، أيها القارئ الكريم، السر وراء تشنج هذا الفريق كى يشطبوا، من المناهج الدراسية فى أوطان الإسلام، الآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية التى تحض المسلمين على المناضلة من أجل عزة دينهم وأوطانهم وأنفسهم؟ إنها "ماما أمريكا" الحنون دائما وأبدا والتى أخذت فى أحضانها الدافئة كاتبنا الفلسطينى بعد الهجرة إليها من السعودية، التى كانت أما حنونا أيضا أيام الاتجاه الفكرى الأول، ولكن "كان زمان" كما تقول كوكب الشرق!
والعجيب الغريب أن د.النابلسى كان من أعنف المهاجمين للحضارة الغربية التى كان يتهمها بأنها حضارة مادية بحتة، على عكس الإسلام الذى يجمع بين المادى والروحى معا، ومن المنتقدين بقوة للنظام السياسى الغربى متهما إياه بالنفاق واللاإنسانية وازدواج المعايير حتى إنه ليفضل الديكتاتورية التى تنتهجها دول الكتلة الشرقية على الديمقراطية الرأسمالية لصراحتها فى رفض الديموقراطية وعدم التشدق الكاذب بها، كما كان من أشد المتحمسين للإسلام حضارةً وديمقراطيةً وعدالةً اجتماعية، مؤكدا أن الغرب قد أفاد من هذا الدين أعظم إفادةـ، وأن التنمية القائمة على أساس من مبادئ الإسلام خير من نظيرتها الغربية التى تفتقر إلى العنصر الإنسانى، وهو ما تجلى فيما حققته السعودية فى هذا المجال حيث استطاعت أن تختزل مراحل التنمية المتعددة التى كان على الغرب أن يمر بها كلها، وأن سياسة أمريكا الخارجية تقوم على "الظلم والقهر والاستبداد والحمق"، وأن إسرائيل هى جزء لا يتجزأ من نظامها السياسى، بل ولاية من الولايات الأمريكية، وليست مجرد دولة حليفة لها، وأن الشارع العربى يكره أمريكا إدارةً ودولةً وسياسةً ومنهاجًا، وأن شعوب العرب إذا كانت صابرة الآن عليها وعلى ما تفعله بها صبر أيوب فإن ذلك لا يمكن أن يظل قائما إلى الأبد، إذ لا بد يوما أن تثور على الذين أذاقوها كؤوس المذلة والهوان وسلطوا عليها أشقياء الأرض والعابثين فيها، وأنه لا مصداقية للعم سام فى إقامة الحق والعدل والسلام فى منطقتنا! وهو يدعو بكل قوة إلى عدم مهادنة إسرائيل والاستمرار فى حمل البندقية لإرهاقها واستنزافها، معطيا القضية الفلسطينية بعدها الدينى الذى يرى أنه لا يحتمل أى جدال أو تهوين، ومناديا بخروج اليهود من أرض فلسطين التى قدستها السماء إلى أرض الشتات التى جاؤوا منها، وموصيا أمته بالصبر والنفس الطويل، ومحذرا إياها من أن تصير إلى ما صار إليه الهنود الحمر على يد أمريكا، ومعضدا رأى من ينادون بضرورة قيام الوحدة بين الشعوب العربية على أساس إسلامى مستمد من الكتاب والسنة! بل إنه ليصف اللغة العربية بـ"المقدسة"، كما يهاجم عادل إمام هجوما أخلاقيا عنيفا متهما إياه بأنه، بأفلامه التافهة، مسؤول عن إفساد الأجيال الحالية، ومؤكدا أن المال الذى يكسبه من هذه الأفلام هو مال حرام! ويستطيع القارئ أن يرى مصداق ما نقوله فى كتبه: "الزمن المالح" و"محاولة للخروج من اللون الأبيض" و"قطار التسوية والبحث عن المحطة الأخيرة" مثلا التى صدرت له عام 1986م عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" فى بيروت. فما عدا مما بدا؟ هذه مسألة تحتاج إلى من يدرسها ليعرف الأسباب التى أدت إلى هذا التحول المريب فى حياة الرجل الذى سمعناه يصرخ فى حلقة برنامج "الاتجاه المعاكس" المذكورة متهمًا القرآن بالتناقض، زاعما أن التشريعات التى يتضمنها إنما هى أمور خاصة بمحمد وزوجاته ذات طبيعة آنية، ومن ثم لا تصلح لأن تكون تشريعات دائمة لأمة الإسلام!
وعودًا إلى ماكنا فيه نقول إنه حتى آيات سورة "المائدة" الخاصة بالنصارى والتى كثيرا ما يساء تفسيرها عمدا وخبثا أحيانًا، وعن سذاجة من جانب بعض المسلمين الذين لا يفهمون أحيانًا أخرى، هذه الآيات لا تمدح ذلك الفريق من أهل الكتاب بوصفه من أتباع النصرانية التى تسفِّهها كثير من الآيات السابقة عليها بدءا من الآية الرابعة عشرة، بل تمدحه لمسارعته للإيمان بالرسول محمد والآيات التى أنْزِلت عليه، ولخشوع قلبه وفيضان دمعه من شدة الوجد والتأثر بكلمات القرآن المجيد! والآيات موجودة لمن يريد أن يقرأها مفتوح العينين والقلب، وأرقامها هى 82- 86. وتبقى النصوص المدنية التى تحمل على أهل الكتاب، وهذه لا تمثل أية مشكلة، ومن ثم فلست أجد أى داع لإيراد شىء منها.
والآن، هل تشكِّل هذه الآياتُ التى تصم هؤلاء القوم بالكفر عدوانا على حقوق الإنسان؟ أبدا لا تمثل شيئا من هذا القبيل على الإطلاق، فكل أهل دين ومذهب وفلسفة ونظام، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا، يعتقدون أنهم على الحق، وغيرهم على الباطل. وإن أمريكا نفسها التى برعت فى الآونة الأخيرة فى رفع هذه اللافتات والشعارات لتردد جهارا نهارا أن نظامها السياسى وقيمها الاجتماعية وفلسفتها الاقتصادية هى المثال الأعلى الذى يجب على البشر جميعا، شاؤوا أم أبَوْا، أن يعتنقوه، وهاهى قد أتت للعراق لكى تسقيه لنا، لا بالملعقة الصينى التى كان يُضْرَب بها المثل قديما على الترف والدلال، بل بالملعقة الأمريكانى، أقصد بالجزمة الأمريكانى التى لا توقِّر شيئا ولا أحدا فى الدنيا مهما كان قدره! بل إن مسؤوليها ليتسابقون إلى شتم ديننا ورسولنا وربنا، فإذا ما اعترض بعضنا ممن لا يفقهون قيل لهم: هذه حرية تفكير وتعبير! طيب يا أخى، نحن أيضا نحب عيشة الحرية كما عبّر بالنيابة عنا منذ عشرات السنين موسيقار الأجيال! أليس كذلك؟ بلى هو كذلك ونصف وثلاثة أرباع، لكننا قد نسينا شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو أننا لسنا أمريكيين، وهنا مربط الفرس (أو الحمار، لا فرق)، وطُظّ فينا وفى موسيقار الأجيال وكل الملحنين والمطربين معه أيضا فوق البيعة! إذن فليس فى الاعتقاد بأننى ناج يوم القيامة، ومن يخالفنى ذاهب فى ستين داهية، ما يمكن أن يكون افتئاتا على أحد، وبالمناسبة فهذا الآخر يعتقد بدوره فِىَّ ما أعتقده فيه. كل ما هو مطلوب ألا يكون مثل هذا الاعتقاد سببا فى عدوان أى منا على الآخر، سواء بالقول أو بالعمل. والمسلمون لا يقولون: "شَكَل للبيع"، فهم يقرأون قرآنهم لأنفسهم، ولا يجبهون به غيرهم. أما إذا آذاهم هذا الغير فى دينهم ولم يحترم رسولهم أو كتابهم فإنهم لا يملكون إلا الرد على هذا التهجم، ولا معنى فى هذه الحالة لاعتبارات المجاملة الزائفة التى تكبلّهم وتذلّهم وتحرّم عليهم أن يدفعوا عن أنفسهم صائلة العدوان. فهل فى الإسلام ما يتعارض مع هذا الكلام المنطقى الإنسانى؟ ولا شَرْوَى نقير! إن الإسلام يحرِّم على أتباعه تحريما قاطعا أن يبدأوا أحدا بالعدوان مهما كانت كراهيتهم له (المائدة/ 8)، بل إنه ليمنعهم حتى من سب الأوثان كيلا يكون ذلك سبيلا إلى سب الذات الإلهية واندلاع الفتنة من ثم، منبِّها المسلمين إلى أن كل قوم يَرَوْن دينهم أحسن الأديان (الأنعام/ 108).فأى خطإٍ فى هذا يا خَلْق هُوه؟ إننا لا نستطيع أن نتناول موسى أو المسيح وأمه عليهم جميعا السلام بكلمة سوء واحدة، على حين أن اليهود والنصارى لا يكفّون عن شتم سيد البشر والنبيين واتهامه بكل منقصة. ومع هذا يُتَّهم المسلمون، ويتظاهر غيرهم بأنهم حملان وديعة. أرأيتم خبثا وكيدا ولؤما كهذا اللؤم والكيد والخبث؟ على أية حال فالسبيل إلى إزالة هذا الخلاف هو أن يحتذى الطرفان الآخران ما يفعله المسلمون، فيكفّوا عن الشتائم البذيئة فى حق الرسول الكريم وقرآنه وأتباعه، ويدخلوا فى الإيمان به مثلما يؤمن المسلمون بموسى وعيسى ومريم ويدفعون عنهم قالات السوء التى يروجها عنهم سفلة البشر، أو على الأقل أن ينصرفوا إلى دينهم يمارسونه كما يحلو لهم دون أن يتطاولوا على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ترى هل فى ذلك شىء من الغموض أو الافتئات على أحد؟
Home
الاجتهاد فى الإسلام على الطريقة الأمريكية
"شيخة الإسلام السحاقية"
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
كانت البداية مقالاً بعنوان "الكاتبة إرشاد مانجي تطلق حملة الاجتهاد لدعم الإصلاح في الإسلام " نشرته صحيفة "صوت الوطن" المشباكية الفلسطينية فى 9/ 5/ 2005م ومعه التعليقات التى علق بها بعض القراء، ومنها تعليقٌ جزى الله صاحبه خيرا أشار فيه إلى موقع الكاتبة، وهو بالإنجليزية، على المشباك، فانتقلتُ إليه فى الحال، وهناك قرأت بعض المقالات عنها، ووجدت ترجمة عربية لكِتَابها "مشكلة الإسلام اليوم"، إلا أننى لم أجد النص الإنجليزى. لذا اكتفيتُ بمطالعة الترجمة العربية، فألفيتُ جرأة على الإسلام وقحة وأفكارا خبيثة مدمرة، ووجدت أنه لا بد من التعليق على ما قرأت، فكانت هذه الدراسة التى سيطالعها القارئ بعد قليل. ولكن علينا أولا الاطلاع على مقال جريدة "صوت الوطن".
الكاتبة إرشاد مانجي تطلق حملة الاجتهاد لدعم الإصلاح في الإسلام
غزة-دنيا الوطن
تستعد المؤلفة الكندية المسلمة من أصل باكستاني إرشاد مانجي، التي تصفها وسائل إعلام غربية بالكابوس الأسوأ الذي يواجهه أسامة بن لادن، تستعد لإطلاق حملة "الاجتهاد" من أجل تحقيق تعددية الآراء في الإسلام وتأسيس هيئة تساعد في خلق جيل من الشباب الإسلامي الإصلاحي لاستكشاف ودعم المزيد من الآراء الجديدة.
وفي هذا السياق قالت إرشاد مانجي في تصريحات لصحفية "الغارديان" البريطانية إنه لا يمكن لأي مجتمع أو عرق أو دين البقاء بعيدا عن احترام حقوق الإنسان. وتضيف مانجي في حديثها لـ"الغارديان" صباح اليوم الاثنين 9-5- 2005 "نحن المسلمون نتآمر ضد أنفسنا وفي أزمة حقيقة لأننا نجر بقية العالم معنا وإذا كانت ثمة لحظة مناسبة للإصلاح فهي الآن".
وتوضح مانجي حملتها الجديدة "الاجتهاد" عبر الإشارة إلى عقول إصلاحية عديدة في الإسلام "إلا أننا جميعا نعمل بشكل منعزل ونتحاج لتطوير علاقاتنا ونعتمد على بعضنا البعض في ذلك". ويبدو حسب الصحيفة البريطانية أن إرشاد مانجي تزور لندن حاليا للقيام بسلسة محاضرات حول حملتها الجديدة "الاجتهاد" لجمع المزيد من المناصرين لها في العالم الإسلامي.
وقالت مانجي أيضا بأنها تشعر بقرب النساء المسلمات منها أينما حطت رحالها و"هن في شوق لمعرفة كيف يمكن الانشقاق عن الآراء التقليدية المسيطرة والتمسك بالإيمان في الوقت نفسه". وتتابع "نحن بحاجة الآن لتحويل هذا التوق السري للتغيير إلى ظاهرة صريحة ومعلنة".
وكانت أصدرت إرشاد مانجي كتابا عن الإسلام هو من أكثر الكتب مبيعا في الغرب واسمه "الخلل في الإسلام دعوة إلى الصحوة من أجل الأمانة والتغيير" الذي نشر في باكستان وسينشر قريبا في العراق وتركيا والهند.
ومعلوم أن صحيفة "نيويورك تايمز" وصفتها "بالكابوس الأسوأ" الذي يواجهه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن كما قالت عنها صحيفة "جاكرتا بوست" بأنها واحدة من ثلاث نساء تصنعن تغييرا إيجابيا في الإسلام.
والآن إلى الدراسة التى عرضتُ فيها لكتاب المدعوّة "إرشاد مانجى"، صاحبة "الحملة ”اجتهاد”"، ونبدأ بإيراد السطور التالية من صفحة الشكر فى أول الكتاب:
" شكر وتقدير: إني ألبسُ خاتمين: خاتم يرمز إلى حبي لله، وخاتم للتعبير عن آصرة ارتباطي بشريكتي ميشيل دوغلاس. لذا سأبدأ بشكر الله، وأكثر ما أشكره عليه هو ميشيل. فمن بين كل ما منحتْني إياه منحتْني أيضا التولُّع بالعَدْو. وبسبب هذه الهواية أنهيتُ نصف ماراثون في الأيام الأولى من تأليف هذا الكتاب. وخلال تلك الساعتين اللتين توقف فيهما العقل رأيتُ أشجارا على يساري، وشلال ماء على يميني، وأبنية امامي، وشعرتُ من صميم قلبي بالتوحيد، بوحدة خلق الله، الذي يصدف كونه أول ركن من أركان الاسلام. ومن نواحي أكثر مما يتسنَّى لي تعدادها فإن ميشيل هي صفحة الشكر والتقدير.
آن كولينز من دار "راندوم هاوس: Random House" تأتي أيضا على رأس القائمة، أولا لشجاعتها في نشر هذه الرسالة- الكتاب. ولكن هذا ليس كل شيء، فالأمانة التي تحدثتُ بها عن الإسلام قابَلَتْها آن بأمانة مماثلة في كل ما يتعلق بالمخطوطة. وآن بوصفها حاضنة تحتاج إلى ممارسة، ولكن بوصفها محررة وناشرة ما كان لي أن أطمح بأفضل منها. كما يستحق بيل كامبل وفريقه في دار "ماينستريم ببليشنغ: Mainstream Publishing" كل التقدير لموافقتهم على هذا النص في وقت ابتعد عنه ناشرون بريطانيون آخرون. وهذا تذكير في محله بأن "الاتجاه السائد" لا يعني بالضرورة اتجاها "تقليديا".
كان هناك آخرون مَنَّ الله عليّ بهم، فإن بول مايكلز ساعدني على إقامة اتصالات، وفي مجرى ذلك أصبح صديقا موثوقا. وأنا أعتزُ بصحبته المتألقة فكريا. والجوقة ذات القلوب الكبيرة في مركز هارت هاوس الطلابي بجامعة تورنتو، وعلى رأسها مارغريت هانكوك، وفَّرتْ لي مكتبا فاخرا ومكتبة للعمل منهما. وقد أتاح لي ما وهوبه من مكان أن أنكبّ على عملي في البحث والتنقيب مع الإبقاء على علاقتي في البيت سالمة. فشكرا هارت هاوس. أشكرُ أيضا، على ما يبدو في ذلك من غرابة، جهازي المحمول لاستخدام البريد الإلكتروني "بلاكْبري: Blackberry"، الذي سجلتُ وحفظتُ فيه ملاحظات مستفيضة وَجَدتْ طريقها إلى نص الكتاب. بل إني حتى استخدمتُ جهازي هذا لكتابة مقطع نقدي لم يتحمل الانتظار الى أن أمتشق القلم والورق من أجل تسطيره. وفي أوقات كهذه أهيمُ بتضافر التكنولوجيا والإيمان.
رغم أن هذا الكتاب استغرق زمن حياة كاملة قبل أن يختمر فلم يكن لدي سوى عام لكتابته. وبمثل هذا الجدول الزمني الضيق أسهم كثيرون بسقْطهم: فإن فال روس وجون بيرس وكندال أندرسن ساعدوني على تشذيب الأفكار من لحظة الانطلاق الأولى، ونشأ طابور دولي من المشاركين في مجال البحث ـ والذين تطوروا إلى مساعدين هم سمارة حبيب وكارولين فيرنانديز وميكي سيراك. وكانت معونة ريك ماثيوز وصموئيل سيغيف كبيرة في تدقيق الحقائق. وإن مداخلات فرانك كلارك وأماندا ساسمان ولينساي هندرسن حققت لي لقاءات هامة، في حين أن النقاشات المحتدمة مع جيرالدين شيرمان وروبرت فولفورد وأنا بورتر وأنا مورغان وأماتزيا بارام ودوغ سوندرز ودون حبيبي وطارق ونرجس فتاح قادتني إلى معارف هامة (ينبغي أن أُشير إلى أن الزوجين فتاح يختلفان تماما مع وجهة النظر التي أبديتها عن فلسطين، وكذلك مع ما أُوجهه من اتهام بوجود تواطؤ إسلامي مع الهولوكسوت (المحرقة). ويفضي هذا إلى سبب آخر للتعبير عن شكري لهما على عدم سماحهما للاختلاف الحاد بأن يُفسد في الود قضية ). كما كان مهما في ثقافتي عملي مع منافذ إعلامية مختلفة بينها "غلوب أند ميل: Globe and Mail "، و"ستي تي في: Citytv "، و"ماكلينز: Maclean’s"، و"فيشن تي في:Vision TV "، و"ناشنال بوست: National Post "، و"غلوبال تي في:Global TV "، و"هيئة الإرسال الكندية"، و"هُورايْزُونْز: Horizons"، وفي المقام الأول "تي في أونتاريو: TVOntario"حيث للأفكار الكبيرة أهميتها.
إن الدعم الذي أبداه الأصدقاء في لحظات هبوط المعنويات هو ما أُثمنّه أعظم تثمين. وفي هذا المجال أخصُّ بالذكر سمانثا هايوود وأدريانا سالفيا وأندرو فيدوسوف وميشال لامورو ومايكل سافج وعصبة بوشكونغ لايك. أما الذين لا يجدون أسماءهم في هذه القائمة المختصَرة فبإمكانهم التعويل على وجبة عَشاء على حسابي (لم أذكر إلا أكثر الأصدقاء بذخا لكي لا ينتهي بي المطاف إلى الإفلاس). وبمناسبة الحديث عن تفادي الإفلاس فمنِّي أعمق التقدير لوكيل أعمالي مايكل لايفاين وساعده الأيمن، ماكسين كوينغلي".
هذا ما كتبته المدعوّة إرشاد مانجى الباكستانية الكندية فى كلمة الشكر التى صدَّرتْ بها كتابها: "مشكلة الإسلام اليوم"، وهو الكتاب التى تقول إنها كتبته لكى تساعد المسلمين على الخروج من مستنقع التخلف الذى هم فيه، والذى تصوِّر نفسها عبر صفحاته على أنها فقيهة مجتهدة تعمل على تقديم فهم متنور للقرآن والإسلام يناسب العصر ويضمن للمسلمين أن يتبوأوا المكان الذى ينبغى أن تشغله الأمم المتحضرة. وكما يقولون فأول القصيدة كفر، إذ إن الشكر الذى وجهته الكاتبة لله سبحانه وتعالى هو شكره على أنه قد وهبها ميشيل. أتدرون من ميشيل؟ إنها صديقتها التى تعيش معها كما يعيش أى رجل وامرأة متزوجين، وتمارس معها السِّحاق. والذى فهمتُه أنها هى الفاعلة، وميشيل هى المفعول بها، علاوة على أن منظرها أقرب إلى الذكورة منه إلى الأنوثة، كما أن التمرد الذى تبديه والاقتحام الذى تعمل على إحداثه فى جدار الحصن الإسلامى لا يناسب الجانب السلبى من الشذوذ الجنسى، أى لا يناسب المفعول بل الفاعل. لعنة الله على الفاعل والمفعول والمرفوع والمنصوب والمشبوح جميعا وكل أبواب النحو الخاصة بالفاعلين (ونواب الفاعلين بالمرة فوق البيعة من أجل خاطر هذه الشاذة ومن يشاكلها، وكثيرٌ ما هُمْ، وكثيراتٌ ما هُنّ بين الملاحدة والمتواطئين مع أعداء الإسلام، وهو ما كنت أردده دائما ويستغربه منى بعض من لا علم لهم بطبيعة هذه النفوس الوضيعة، ويتأكد لى كل يوم أثناء تقليبى فى حيوات المتمردين والمتمردات على دين محمد الكريم، هذا الدين الذى لا يحبه إلا من كان كريما مثله). قلت: لعنة الله على الفاعلين وعلى نواب الفاعلين. ولعنة الله كذلك على المفاعيل، سواء كانت مفعولا به أو فيه من أمثال ميشيل، ننّوسة عين الباجسة المتمردة السليطة اللسان النجسة المعتقد والقلب، أو مفعولا لأجله، أى الغربيين والصهاينة وأجهزة مخابراتهم. ولقد افتتحت السحاقية كتابها بذكر شذوذها والمفاخرة به، وإلا ما تنبهتُ إلى مغزى الشكر الذى وجهتْه إلى الله والثناء الذى أغدقته على ميشيل فى النص السابق، ولظننتُ العلاقة بينهما مجرد صداقة عادية كأية علاقة من هذا النوع بين فتاتين أو امرأتين طبيعيتين!
وهذا ما قالته البنت المفعوصة التى ضحكوا عليها وأوهموها أنها ستكون مجتهدة الإسلام للقرن الخامس عشر للهجرة، عصر اللوطيين والسحاقيات فى الغرب وأمريكا وكندا، و"يا ما فى جراب الحاوى"، وما أكثر ما ستَرَوْنَ أيها المسلمون من البهلوان الأمريكى العجيب وأرانبه وكتاكيته، وكذلك خنازيره، التى يخرجها من كمه (أو من قبعته. لا فرق، المهم أنه يخرجها والسلام، وإن كان العرض البهلوانى لا يبعث على السرور، بل على الغم والهم والرعب لأنه عرض الدمار والخراب والقتل والأحقاد الشيطانية المتسكنة فى قلوبهم السُّود لم تبرد أو يهدأ لها أُوَار على مدى القرون الطوال من عينة ما تَرَوْنه فى فلسطين وأفغانستان والعراق، والبقية تأتى، لا جعلها الله تأتى رغم أننا لا نستحق أن يعفينا الله من العقاب، فنحن المغفَّلون والخونة لأنفسنا بامتياز! هل رأيتم أمة تقدم رقابها للذبح إلى الجزار راجيةً إياه أن يشرّفها بالقتل بسكينه المتحضر، ومعطيةً إياه المال بالمليارات، ومزودةً إياه بالجنود والمخابرات، كى يستطيع إتمام المهمة؟ إذا لم تكونوا قد رأيتم أو سمعتم، فالمثَل الحىّ أمامكم. إنه نحن: أنا وأنتم على السواء!). أقلت إنهم ضحكوا عليها وأوهموها؟ لا ضحك ولا يحزنون، بل هو مجرد تعبير تقليدى مما يجرى على اللسان والقلم دون قصد، لأن أمثالها إنما يذهبون إلى وكر الشيطان بملء حريتهم، تحفزهم إلى ذلك النجاسة المشتركة والخبث المنحط الذى يربط بينهما! قالت شيخة إسلام آخر زمن دون أن يختلج لها جفن أو تعتمل فى أعماقها رفّة ندم أو حياء إن هناك سؤالين تريد أن تطرحهما مدخلا لاجتهادها الفقهى فى هذا الكتاب، ثم تبدأ بالسؤال الأول قائلة: "كيف يمكن التوفيق بين المِثْلِيّة والإسلام؟ فأنا سحاقية بصراحة (أّنْعِمْ وأَكْرِمْ!). وأختار "الإفصاح" عن توجهي الجنسي لأني بعدما نشأتُ في بيت تعيس برعاية أب يحتقر الفرح ، لستُ الآن بصدد تخريب الحب المتبادل الذي يمنحني البهجة في سن البلوغ. التقيتُ أولى صديقاتي في العشرينات من عمري، وبعد أسابيع أخبرتُ أمي بالعلاقة. استجابتْ كعهدي بها أمًّا حنونًا (يا للحنان الأموى الرهيف! ألذلك جُعِلَت الجنة تحت أقدام الأمهات؟). وبالتالي فان مسألةَ ما إذا كان بمقدوري أن أكون مسلمة وسحاقية في الوقت نفسه بالكاد كدَّرتني. فذاك دين، وهذه سعادة. وكنتُ أعرف أيهما أحتاج أكثر (وهل فى ذلك ريب؟ السِّحَاق طبعا!). واصلتُ حياتي أدرس الإسلام بصورة متقطعة، وأتعلم الفن الجميل لإقامة علاقات مع النساء (موضوع كتاب آخر بحد ذاته)، وأنتج برامج للتلفزيون، وأعيش على العموم الحياة متعددة الاتجاهات لشابة في العشرين ونيف في أميركا الشمالية.
وعندما جعلني عملي في التلفزيون شخصية عامة أكثر شهرة تطوَّر أملي في التوفيق بين مثليَّتي والإسلام إلى واحد من انشغالاتي. وكان المشاهدون يريدون مني أن أُبرِّر حالتي الاستثنائية في الجمع بين هويَّتين. وقد دُفِعْتُ إلى نوبة حادة من المراجعة، بل راودتني حتى إمكانية التخلي أخيرا عن الإسلام من أجل الحب. اسمعوا: أيُّ حافز أفضل من هذا الحافز للتضحية بأي شيء؟ ولكني كلما أصل إلى حافة إقصاء نفسي كنتُ أتراجع ، لا بدافع الخوف وإنما من باب الإنصاف، إنصاف نفسي. وكان سؤال واحد يتطلب مزيدا من التفكير: إذا كان الله العليم القدير لا يريد أن يجعلني سحاقية فلماذا خلقني سحاقية؟ (صحيح: لماذا؟ أسعفينا بالجواب، جزاك الله عنا خيرا) هل خلق أحدا آخر بدلا مني؟
التحديات العدائية لـ"تبرير نفسي" أصبحت حدثا يكاد يكون يوميا بعد عام 1998. ففي ذلك العام بدأتُ أستضيف برنامج "تلفزيون شاذ: Queer Television"، وهو مسلسل تلفزيوني يُبَثّ على الإنترنت أيضا عن ثقافَتَيِ المثليين والسحاقيات. وكان البرنامج يتعلق ببشرٍ مثلنا بعيدا عن الإباحية والخلاعة. ومع ذلك فإن مسلمين أتقياء انضموا إلى أصوليين مسيحيين في الاحتجاج ضد ظهوري على شاشات تلفزيوناتهم. وفي الواقع أني ما كنتُ أتوقع أقل من ذلك، ولكن هل كنتُ من السذاجة كي أتوقع أكثر قليلا من ذلك: مناظرة بدلا من مجرد الإدانة؟".
ولعل القارئ لم يفته أن الذين وقفوا يعضّدون هذه السحاقية كلهم من الغربيين واليهود، وأن الذين شجعوها على تأليف الكتاب ووفّروا لها الجو والمراجع والمال وراحة البال (مع مستلزمات ممارسة الشذوذ الجنسى بدءًا بميشيل، وانتهاءً بما لا أدرى ماذا) ونشروه لها هم مسؤولو دار "راندم هاوس: Random House"، وهى دار نشر يهودية. وبالمناسبة فالكتاب قد تُرْجِم إلى كل اللغات الرئيسية فى القارات الخمس، ويوزَّع الآن فى كل أرجاء الأرض على أوسع نطاق مع أنه الكتاب الثانى فقط الذى يحمل اسمها. فإذا أضفنا أنه يفيض بالتغزل فى اليهود والأمريكان، والغرب بوجه عام، ويرمى المسلمين والإسلام ورسوله وإلهه بكل نقيصة من أجل سواد عيونهم (أو زرقتها على الأصح) اتضحت لنا ملامح الصورة، وعرفنا أسرار ما يجرى خلف الأستار! ولكى نزوِّد القارئ بعينة سريعة مما تلقته من تربيةٍ فى صباها تلك البنتُ السحاقية التى يَسْعَوْن لتكون أول شيخة إسلام فى التاريخ، وكذلك أول من يلبس من المشايخ الطاقية اليهودية بدلا من العمامة)، لكى نزود القارئ بعينة مما تلقته من تربيةٍ فى صباها هذه البنتُ التى تشتم المسلمين فى كل صفحة من صفحات كتابها وتشنِّع عليهم وعلى دينهم ولا ترى فيه أو فيهم إلا كل شر وقبح وغباء، مثلما لا تستطيع أن تبصر فى اليهود والغربيين ودينهم إلا كل ما هو نبيل كريم ذكىّ متحضر، أَسُوق هذه السطور من حديثها عن المدرسة النصرانية التى أخذت تتردد عليها فى بيئتها الجديدة التى انتقلت إليها أسرتها إثر مغادرتها أوغندا فى أيام عيدى أمين حسبما تقول:
"بعد عامين على استقرار عائلتي اكتشف والدي توافر خدمات مجانية للعناية بالأطفال أثناء غياب الوالدين، في كنيسة "روز أوف شارون المعمدانيةRose of Sharon Baptist : Church" (ما أن تقول كلمة "مجانا" للمهاجر حتى تتراجع الانتماءات الدينية إلى موقع ثانوي أمام الصفقة المتاحة في اليد). وكلَّ أسبوع عندما كانت والدتي تغادر المنزل لبيع منتجات "إيفون" بالطواف على البيوت كان والدي، الذي لا يكن حبا كبيرا للأطفال، يترك صغاره في الكنيسة. وهناك كانت السيدة الجنوب آسيوية المشرفة على دراسة الكتاب المقدس تُبْدِي من الصبر معي ومع شقيقتي الأكبر سنًّا ما تُبْديه مع ابنها الذي من دمها ولحمها. وهي التي غرست فيّ القناعة بأن أسئلتي كانت جديرة بأن تُسأل. وبديهي أن الأسئلة التي كنتُ أطرحها طفلةً في السابعة من العمر ما كان لها إلا أن تكون أسئلة بسيطة: من أين أتى المسيح؟ متى عاش؟ ماذا كان يشتغل؟ ممَّ تزوج؟ هذه الأسئلة لم تضع أحدا في مأزق، ولكن مقصدي أن فعل السؤال، ثم السؤال، كان دائما يَلْقَى ابتسامة أخَّاذة.
لعل هذا هو الحافز وراء فوزي، في الثامنة من العمر، بجائزة "أفضل المسيحيين الواعدين لهذا العام". وكانت جائزتي طبعة مصورة بألوان زاهية لمائة قصة وقصة من الكتاب المقدس. أنَظْرُ إلى الماضي الآن وأحمدُ الله أن المطاف انتهى بي في عالمٍَ لا يتعين أن يكون القرآن كتابي الأول والأوحد فيه كأنه الغذاء الروحي الوحيد الذي تقدمه الحياة إلى المؤمنين. زد على ذلك أن طبعة الـ 101 قصة من الكتاب المقدس سحرتني بصورها. كيف ستبدو 101 قصة من القرآن؟ في حينه لم أرَ شيئا من هذا القبيل. واليوم ليس هناك شُحٌّ في كتب الأطفال التي تتناول الإسلام بما فيها كتاب "حرف الألف مفتاح لكلمة الله" من تأليف يوسف إسلام (المعروف سابقا باسم كات ستيفينز: Cat Stevens)، فالمجتمعات الحرة تتيح إعادة اختراع الذات وتَطَوُّر الديانات. بعد فترة وجيزة على فوزي بلقب "أفضل المسيحيين الواعدين" اقتلعني والدي من الكنيسة، فإن مدرسة دينية إسلامية جديدة ستُفتَح قريبا، وهذه المتشاطرة الصغيرة لا تستطيع الانتظار. وقياسًا على تجربتي في مدرسة أيام الأحد ستكون المدرسة الإسلامية مسلِّية، أو هكذا افترضتُ ببراءة". ولست بحاجة إلى أن أوضح للقارئ أن المدرسة الإسلامية التى أخذت تتردد عليها السحاقية البريئة الطاهرة أعطتها خازوقا كبيرا، إذ طلعت مدرسة "تقرف الكلب" كما صوَّرَتْها! وهذا أمر طبيعى تماما، وهل كان يمكن أن نتوقع غيره فى حالة تلك البائسة؟
وكنت قرأت منذ وقت قريب كتاب "النوافذ المفتوحة" الذى يترجم فيه شريف حتاتة لنفسه، وهو شيوعى معروف، فلفت نظرى منه أشياءُ مما لفت نظرى فى كتاب إرشاد مانجى ككراهيته للإسلام وشعائره، والرقة فى ذات الوقت مع الديانات الأخرى، فهو مثلا يتقبل كل الأصوات العالية المزعجة فى قريته التى عاد للحياة فيها بعد أن تقدمت به السن، اللهم إلا صوت الأذان، الذى ينعته بالتشنج والوعيد، ويرى فى علوّه دليلا على الجهل والكذب والنفاق، مع أن مبلغ علمى أن الأذان فى قريتهم هو نفسه الأذان فى قريتى وفى كل القرى والمدن المصرية والعربية والإسلامية، وأنهم فى مساجدهم يقولون مثلما نقول: "حى على الصلاة، حى على الفلاح"، ولا يقولون: "هيا يا أوغاد! تعالَوْا يا أوباش! إلى الصلاة يا غجر! لعنكم الله أيها المجرمون!" مثلا. ثم إننى لا أدرى كيف يمكن أن يكون الأذان خفيضا. أتراه يريد من المؤذنين أن يظلوا يصعدون فى المئذنة حتى تنقطع أنفاسهم، ثم بعد ذلك يكتفون بالهمس به فى أكمامهم لا يُسْمِعونه أحدا؟ ومما لفت نظرى عنده أيضا المباهاة دائما، بمناسبة وبغير مناسبة، بتربيته الإنجليزية المتحضرة على يد أمه (وإن لم ينس أيضا ذكر خليلات أبيه وإدمانه للقمار وكثرة مشاجرتها له بسبب مصروف البيت)، وأنه قد تلقَّى تعليمه أثناء صغره فى مدرسة نصرانية، وتحمّس لديانة الصليب وفكّر فى اعتناقها فى تلك السن وفى تهيئة نفسه للقُسُوسة عندما يكبر لولا أن سارع أبوه بسحبه من المدرسة وتحويله لمدرسة أخرى. كما أن الإطار اليهودى موجود أيضا فى حالته، إذ كانت أمه الإنجليزية الجنسية ذات جذور يهودية، وإن كانت قد تنصَّرت تبعًا لأهلها، ثم أعلنت إسلامها بعد زواجها من أبيه ومجيئها إلى مصر، فشكَّك هو فى هذا الإسلام مُرْجِعًا إياه إلى دوافع مصلحية، وهو ما لم يفعله حين أشار إلى تنصُّرها وتنصُّر أسرتها من قبل، بل تقبَّل الأمر تقبلا طبيعيا غير واجد فيه ما يدعو إلى التشكيك.
وكمثل كتاب مانجى أيضا هناك نصيب للشذوذ الجنسى فى كتاب "النوافذ المفتوحة"، فقد وصف لنا صاحبه بالتفصيل الحى، وبالصوت والصورة (واللمس أيضا) ما فعله به خادمهم النوبى فى صباه حين...حين ماذا؟ يحسن أن يرجع القراء بأنفسهم إذا أحبوا كى يطالعوا اللوحة الناطقة التى رسمتها ريشة الكاتب لهذه الحادثة فلم تترك شاردة ولا واردة إلا أوردتها، حتى لهاث الخادم وهو يعمل عملته واحمرار عينيه وعملية الإنزال والمكان الذى تمت فيه من جسده وما أحسّه من دفء السائل اللزج على أفخاذه، وكيف ذهب إلى دورة المياه بعدها ليغسل المنىّ عن نفسه وملابسه، وقد أمسك بالسروال فى يديه بعد أن سقط عند قدميه، وكيف كان حذاؤه يصدر صوتا وهو يسير فى أرجاء البيت بسبب ما تسرب إليه من ماء أثناء التنظيف! وكنت قرأت فى الصيف الماضى كذلك كتاب "بيضة النعامة" لأحد الشيوعيين المصريين، وفيه هو أيضا كلام عن انتشار الميول المثليّة بين الشيوعيين فى السجن وتلذذهم بذلك دون أى حرج على الإطلاق رغم ما يتظاهرون به أمام الناس من النفور من هذا الشذوذ، وهو ما أثار حنق الكاتب فاتهمهم بالنفاق والمراوغة، إذ يراهم يستنكرون فى العلن ما يأتونه فيما بينهم ولا يجدون فيه أدنى مؤاخذة، بل يُضْفُون عليه غلالة شاعرية دافئة!
كما ينتفض فى الذاكرة الآن ما قرأتُه أوائل ثمانينات القرن العشرين فى رواية نجيب محفوظ: "رحلة ابن فطومة" مما رآه بطل الرواية فى رحلته إلى البلاد التى ترمز فى الرواية إلى أوربا وأمريكا من تساهل المسلمين الموجودين هناك فى مسألة الخمر وقيام طائفة منهم بالتظاهر دفاعا عن ممارسة الشذوذ الجنسى. وقد أثار استغرابى ألا يجد المؤلف من مشاكل مسلمى الغرب ما يستحق معالجته إلا هذين الموضوعين، فضلا عما لاحظتُه من تعاطف الرواية مع هاتين النزعتين بشبهة الحاجة إلى تفهم ظروف المسلمين فى تلك البلاد وما يسودها من نزوع إلى الحرية، مع أن هاتين القضيتين هما آخر ما ينبغى أن يفكر المسلمون فى تقليد الغرب فيهما، إذ لا ينقصنا بحمد الله ألوان التقهقر حتى نضيف إليها ما يثبِّت تخلفنا ويضاعف الخلل لدينا. ومما أثار استغرابى فى الأمر أن مسألة اشتراك مسلمى الغرب فى تظاهرات المطالبة بحق ممارسة الشذوذ الجنسى لم تكن واردة آنذاك، بل لم أسمع أصلا، وأنا فى بريطانيا أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم، أن هناك مسلمين شواذ، فضلا عن أن يتظاهروا من أجل تقرير حقهم هم وأمثالهم فى ممارسة اللواط والسحاق، بل لا أذكر أنه كانت هناك مظاهرات لهذا الغرض قام بها غير المسلمين. وهذه أول مرة أسمع بأن هناك مسلمين ومسلمات شواذّ فى كندا وأمريكا وأوربا يعضّدون سحاقيتنا هذه ويشتركون فى مؤتمرات خاصة بالشذوذ الجنسى ويتصلون بها أثناء تقديمها برنامجها الشاذ فى التلفاز يظاهرونها على ما تقوله وتدعو إليه، ولهم منظمة تدبّر شؤونهم...إلخ.
من أين استمد نجيب محفوظ إذن فكرته هذه الاستباقية؟ أنقول إنها عبقرية الإبداع الأدبى التى تستبصر المستقبل قبل وقوعه؟ لكن مبلغ علمنا أن الأستاذ محفوظ لم يكن يوما من "ضاربى الودع"، بل إنه لم يسافر قط إلى أوربا أو أمريكا، فما الذى لَمَّ الشامى على المغربى وجعل شيخ الروائيين العرب وتلك المفعوصة الشاذة ينزعان عن قوس واحدة رغم تنائى الزمان والمكان والبيئة والخُلاّن! ألا إنه لأمر غريب! لقد كتبت دراسة تحليلية لرواية "رحلة ابن فطومة" يجدها القارئ فى الفصل الأخير من كتابى: "فصول من النقد القصصى" فى أواسط الثمانينات من القرن الماصى، أبديت فيها استغرابى لموقف عمنا الكبير، ولم يكن فى حسبانى أن هناك فصلاً آخر لم يئن أوانه بعد سوف أطلع على أحداثه على موقع من مواقع المشباك بعد نحو عشرين عاما. ولعلنا كذلك لم ننس ما كتبه توفيق الحكيم فى أخريات حياته عن أفلام ممارسة الجنس التى شاهدها فى إحدى سفرياته الأخيرة إلى "عاصمة النور" فى ذلك الوقت، والهالة المتألقة التى رسمها لجو الوقار والاحترام الذى يقول إنه كان يسود صالة العرض آنذاك، وكأن المشاهدين فى محراب علم، ودعانا إلى أن نتأسى بالفرنسيين فى سلوكهم هذا الوقور المحترم! وبالمثل ينبغى ألا ننسى شغف الروايات التى يحبِّرها جمال الغيطانى بالشذوذ الجنسى لدرجة أنه فى إحدى رواياته قد تريث عند مضاجعة أحد الفحول لصحفى (أو وزير. لا أذكر بالضبط)، وبالصوت والصورة أيضا. كما قرأت لفاروق عبد القادر فى كتابه الذى صدر العام الماضى فى سلسلة "كتاب الهلال" أن الغيطانى فى رواية أخرى من رواياته قد أخذ راحته على الآخر فى وصفٍ عجائبىٍّ (أرجو مسامحتى على استخدامى لهذا المصطلح الذى يتهوَّس به الحداثيون) لِذَكَر بطل الرواية يدل على خيال غير طبيعى. لا بأس أيها القراء، فنحن فى مولد للشذوذ الجنسى. شىء لله يا مولد!
ونعود الآن إلى شيخة الإسلام السِّحاقيّة لنقلِّب حججها الشاذة التى تشهرها فى وجوه خلق الله الأسوياء فى الدفاع عن انحرافها إلى مضاجعة مثيلاتها من بنات حواء بدلا من الزواج برجل كما تفعل سائر إماء الله الطبيعيات: "ترى إذا كان الله العليم القدير لا يريد أن يجعلني سحاقية فلماذا خلقني سحاقية؟ وكيف يمكن للقرآن أن يستنكر في آنٍ واحدٍ المثليةَ ويعلن أن الله يخلق كل شيء على أحسن تقويم كما جاء فى الآيتين6-7 من سورة "السجدة": "ذلك عالِم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كلَّ شيء خلَقَه، وبدأ خَلْق الإنسان من طين"؟ كيف يفسر مَنْ ينتقدونني حقيقة أن الله ، حسب الكتاب الذي يلتزمون به التزاما صارما، خلق عن سابق إصرار ما في العالم من تعددية أخَّاذة، وكما جاء فى الآية 26 من سورة "ص": "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النار"، وما جاء كذلك فى الآية 48من سورة "آل عمران" على لسان مريم عليها السلام: "قالت: ربِّ، أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال: كذلكِ الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون"؟".
ومن بين الحجج التى شهرتها فى وجوه الأنقياء الذين لا يشاطرونها هذا الدنس قولها عن الرسائل التى تلقتها تعليقًا على إحدى حلقات برنامجها المرنائى الذى تقدّمه فى التلفاز الكَنَدىّ عن اللوطيين والسحاقيات والدفاع عن ميولهم المنحرفة والعمل على ترويجها بين الطبيعيين الذين لم تتلوث فطرتهم الأصلية بهذا القَذَر المنتن: "كلما كنتُ أبثّ تعليقات معادية للمثليين من مسيحيين يستشهدون بالكتاب المقدس، كان من المحتم أن يعقبهم مسيحيون آخرون بتأويلات متسامحة مضادة. هذا لم يحدث قَطّ عندما كان مسلمون يتهجمون عليّ، إذ لم يكن هناك شك، على ما يبدو، في أن المتهجمين ينطقون باسم الإسلام، كل الإسلام. ولا يعني هذا أن المسلمين كافةً دون استئناء يعترضون على المثليين، فإن "الفاتحة" (من الافتتاح الذي يفيد معنى الصدارة في الطليعة) هو اسم مجموعة من المثليين المسلمين لديها فروع في مدن كبرى في عموم أميركا الشمالية وأوروبا. وفي تورنتو على الأقل يحقق حفلُ عشائها السنوي حضورَ بعض الآباء والأمهات المسلمين. ولكن حتى إذا كان الكثير من المسلمين لا يشاطرون إسلامَ الاتجاه السائد أحكامَه المتحاملةَ فإننا لسنا بالعدد الكافي لفتح حوارات مع الاتجاه السائد، وإلا كيف نفسر السبب في أنه ما من مسلم واحد كتب إلى برنامج "تلفزيون شاذ" أو اتصل به ليسوق تأويلا بديلا رحيما للقرآن؟".
ومن هنا كان الإسلام، حسبما أفتت شيخة الإسلام السحاقية، "أكثر جمودا اليوم من نظيريه الروحيين: المسيحية واليهودية... ما كنتُ أعرفه أن المؤمنين في الديانات التي خضعت تاريخيا للإصلاح لا يتصرفون قطعا بعقلية القطيع كما يتصرف المسلمون. فالقادة المسيحيون يدركون التنوع الفكري في صفوفهم. وفي حين أن لكل منهم أن ينفي صلاحية التأويلات الاخرى، والكثير منهم ينفونها، فلا أحد منهم ينكر وجود جملة كاملة من التأويلات. أما اليهود فهم متقدمون بمسافة بعيدة عن الباقين. والحق أن اليهود يشيعون الاختلافات القائمة بإحاطة نصوصهم المقدسة بالتعليقات ودمج المناظرات بالتلمود نفسه. وعلى النقيض من ذلك فإن غالبية المسلمين يتعاملون مع القرآن على أنه وثيقة تُحاكَى ولا تؤوَّل خانقًا قدرتنا على التفكير المستقل". يعنى بالعربى الفصيح أن على المسلمين خلط قرآنهم بما يقوله شيوخهم حتى يصبح البساط أحمديا ويبقى زيتنا فى دقيقنا كما صنع الحاخامات اليهود بالتوراة فى تلمودهم. وبهذه الطريقة لا يكون أحد أحسن من أحد. أى أن على المسلمين مداواة داء اليهود بأن يصابوا به هم أيضا بحيث يفضّونها سيرة فلا يرتفع لهم بعد ذلك صوت فى التنديد بما أحدثه اليهود والنصارى من تحريف فى كتابهم، إذ من ذا الذى يمكن أن تواتيه نفسه عندئذ من المسلمين على أن يفتح فمه بكلمة انتقاد واحدة لأهل الكتاب؟ والله لقد احترنا واحتار دليلنا مع هؤلاء الناس! إنهم يوجعون دماغنا ليل نهار فى إفهام أمخاخنا الزَّنِخَة أن القرآن والحديث فقط (أو القرآن وحده، وطُظّ فى الحديث!) هو الذى ينبغى أن نتمسك به، أما أقوال حاخاماتنا (أقصد مشايخنا. حاجة تبرجل المخ، صحيح!) فهى بنت عصرها الذى لا يصلح أن يكون معيارا لعصرنا. وها هم أولاء الآن يعودون فينادون بأن نخلط أقوال مشايخنا بالقرآن الكريم حتى يصبح لنا تلمود كما لليهود تلمود، ولا نشعر بالدونية تجاههم. يا جماعة، ارسوا على برّ: نفتح الشباك أم نغلق الشباك؟ ولا إخال القارئ بحاجة إلى أن أقول له إن الهدف فى الحالتين جميعا هو قطع رقبة الإسلام، كلٌّ بطريقته وسِكِّينه!
ومما له مغزاه فى هذا السياق أنها قد وضعت على رأس الفصل الثانى الذى نقلنا منه النص السابق هذا العنوان الموحى: "سبعون حورية". وهذا أمر طبيعى، إذ إن سحاقية مثلها لا يمكن أن تعجبها جنة المسلمين النظيفة التى يستمتع فيها أهلها الاستمتاع الفطرى الطاهر، وتريدها أن تكون جنة شاذة يمارَس فيها اللواط والسحاق، وبالمرة "السادية والمازوكية" (ولم لا؟ هل سندفع لهم شيئا من جيبنا؟)، وذلك حتى تكتمل القعدة وتحلو وتصبح آخر صهللة! وإلا فكيف يستمتع الشواذ بجنة ينقصها تلك الأطباق المتبَّلة التى لا يكون طعام الشواذ شهيًّا بدونها كما تقول كتبهم وأفلامهم وأدبهم؟ (آسف! أقصد قلة أدبهم!). ومما له مغزاه أيضا ألا يجد اللواطيون والسحاقيات اسما يطلقونه على منظمتهم الشاذة إلا "الفاتحة" (أول سورة فى القرآن الكريم) محاولةً منهم وممن وراءهم تدنيس طهارة المصحف (مثلما لم يجد سلمان رشدى اسما يطلقه فى روايته: "الآيات الشيطانية" على الماخور الذى يزعم أنه كان موجودا على أيام الرسول إلا "الحجاب"، وهو ماخور يضم تسع نساء يسمَّيْن: عائشة وحفصة وزينب بنت خزيمة... إلى آخر الأسماء الكريمة لأمهات المؤمنين الطاهرات)، وإن زعمت السحاقية أن اسم منظمة المثليين مأخوذ "من الافتتاح الذي يفيد معنى الصدارة في الطليعة"! ومرة أخرى نجد أنفسنا فى هذا السياق مع التقدميين والشيوعيين، فهم الذين يسمّون أنفسهم بــ"الطليعة" و"الطليعيين"! وبالمناسبة فقد كان الشيوعيون أيضا من بين من رفعوا أصواتهم حتى بُحَّتْ حناجرهم دفاعا عن حق سلمان رشدى فى ممارسة إبداعه، مثلما كانوا على رأس من هبّوا لنصرة حيدر حيدر وتمجيد روايته: "وليمة لأعشاب البحر"، التى حشد فيها كل قواه لدفع الفتاة المسلمة إلى الزنا وإغرائه لها بمقارفته بذريعة أنها إنما تحطم بهذا الانحرافِ البائسِ قيودَ المجتمعِ المسلمِ الرجعىِّ المكبلةَ لحريتها، وتمارس حقها الطبيعى فى الاستمتاع بجسدها كما يحلو لها دون زواج، كما أنه لم يترك شيئا يعتز به المسلمون إلا تعمد إهانته وسبَّه وتحقيره: بدءا من الله سبحانه وتعالى، ومرورًا بالرسول الكريم والقرآن المجيد الذى جاء به، وانتهاء بالشريعة والعبادات!
على أننا إذا أتينا إلى حُجّتها (أو بالأحرى: شُبْهتها) التى تسوغ بها شذوذها السحاقى وجدناها تردد كلام المشركين الذين كانوا إذا دعاهم الرسول الأكرم إلى نبذ كفرهم وأوثانهم أجابوه فى عناد غبى: "لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرَّمْنا من شىء" (الأنعام/ 148). وعجيب أن تردِّد سحاقيتُنا هذا الكلام البدوى المتخلف، وهى التى لا يعجبها الإسلام لأنه، كما تقول بسلامتها، دين قبلى (مثلما لا يعجب البقرةَ الجاحظةَ فتسميه: "ثقافة البعير". ما علينا! خَلِّنا فى إرشاد، فنحن فى غنى عن إضافة بلوى جديدة إلى بلايانا). إننا لو اتبعنا منطق "إرشاد" (لاحظوا أيها القراء كيف أن أحوال هذه البنت كلها معكوسة، فهى تسمَّى: إرشاد، على حين أنها كلها إضلال فى إضلال)، أوقل: إننا لو اتبعنا منطق "إضلال" هذه فلن يكون لذلك من معنى إلا أن نترك أمور الدنيا كلها على ما هى عليه، بحجة أن هذا هو خلق الله. وعلى هذا فلا ينبغى أن نكافح فقرا أو مرضا أو فوضى أو وساخة أو جلافة أو جهلا، أو نسعى إلى تغيير أى شىء أو أى وضع، فهكذا هى الدنيا التى خلقها الله، وإلا فلو كان الله يريد منا أن نغير فيها شيئا لكان قد غيره هو بمعرفته منذ البداية! ثم لماذا كتبت هى كتابها هذا؟ أليست كتبتْه لدعوة المسلمين إلى أن يتغيروا؟ طيب، ماذا لو أن المسلمين طقّتْ فى دماغهم، ولهم عندئذ كل الحق، وقالوا: راسنا وألف برطوشة قديمة لا تغيُّر ولا تغيير؟ فالله قد خلقنا هكذا، بالضبط مثلما خلق إرشاد مانجى سحاقية، ولا يصح أن يفكر أحد فى تغيير خلقة الله، لأنه سبحانه وتعالى لو كان يريد منا أن نتقدم ونتحضر ونَحُوز رضا المفعوصة السحاقية ومن يقفون وراءها ويَؤُزُّونها علينا لَغَيَّرَنا هو بنفسه ولما أحوجَنا إلى تجشم كل هذا التعب وخوتة الدماغ! هذا هو المنطق الذى تتبعه شيخة الإسلام الجديدة! أم تراها قائلة: "إن هذه الحجة لا تصلح إلا لتسويغ السحاق فحسب، وعندى أنا وحدى، ومن بعدى الطوفان؟". لكن فاتها أن المبدأ الأخلاقى لا بد أن يتميز بالشمولية، فإما أن نأخذ به فى كل مجالات الحياة ونعمِّمه على كل الناس، وإما أن نطرحه بعيدا عنا غير مأسوف عليه.
إن الله قد خلق كل شىء فأحسن خلقه فعلا، لا يشاحّ أحد من المؤمنين فى هذا ولا طرفة عين، إلا أن المقصود بالآية الكريمة هو عكس ما تقوله هذه السحاقية تماما، فالله عندما خلق البشر إنما خلقهم ذكرا وأنثى ليتزاوجوا لا ليلوطوا ويتساحقن، ثم لم يكتف سبحانه بهذا، بل حذرهم اللواط والسحاق ونبههم إلى أن هذا الانحراف إنما هو رِجْسٌ من لدن الشيطان، الذى يوسوس فى صدور بنى آدم فيُصِيخون له أو يُعْرِضون عنه حسبما يختارون فى ضوء ما سبق تنبيههم إليه وما يراه العقل السليم الذى لم يلوثه الهوى المأفون والشهوة المنحرفة المنحطة. لكن سحاقيتنا تريد منا أن نعبث بالقرآن كما عبث أهل الكتاب بكتابهم كى نحلل لها ما هى مرتكسة فيه من شذوذٍ مُنْكَرٍ وَسِخ، وإلا هددتْنا بترك الإسلام، وكأن تركها الإسلام سيقلب موازين الدين والحياة رأسا على عقب! أو كأن الإسلام يريد بقاء هذا العفن فى بيته المعطَّر النظيف، أو كأنها لا تزال مسلمة بعد كل الذى قالته فى حق الله والرسول والقرآن، وبعد كل الذى أتته وتأتيه وتدعو إليه من تصرفات وأفعال شائنة تبعث على القىء! لا يا شيختاه، الإسلام فى غنى عنك وعن شذوذك، فهو كما قلنا دين طاهر كريم، وإلهه طيب لا يقبل إلا طيبا. وما دمت تحبين اليهود وتتفتتين وتذوبين فى هواهم وترَيْنَهم أفضل الخلق، فلماذا تتعبين قلبك مع المسلمين "أولاد الذين" بدلا من أن تأخذى الطريق من قصيره وتلتحقى بسلالة يعقوب الذين يناسبونك ويوافقونك بما سجله عليهم العهد القديم من مخزيات، بدلا من أولاد إسماعيل المفقود منهم الأمل، وكفى الله اللوطيين والسحاقيات متاعب تأليف الكتب وإعداد البرامج التلفازية فى الدعوة إلى الشذوذ؟
لقد سبق أن سمعناها تقول ما تقول فى الموازنة بين الإسلام والشذوذ الذى ابتُلِيَتْ به، وبدلا من أن تستتر بهذه العورة الأخلاقية نراها تجاهر بها وتفاخر وتتهم الأطهار الشرفاء فى أذواقهم وعقولهم وعقيدتهم وتهدد بأنه إما أن يوافق المسلمون على سحاقيتها، وإما أن تترك الإسلام: "عندما جعلني عملي في التلفزيون شخصية عامة أكثر شهرة تطوَّر أملي في التوفيق بين مثليّتي والإسلام إلى واحد من انشغالاتي. وكان المشاهدون يريدون مني أن أُبرِّر حالتي الاستثنائية في الجمع بين هويَّتين. وقد دُفِعْتُ إلى نوبة حادة من المراجعة، بل راودتني حتى إمكانية التخلي أخيرا عن الإسلام من أجل الحب. اسمعوا: أيُّ حافز أفضل من هذا الحافز للتضحية بأي شيء؟". وها هى ذى تكرر هذا المعنى بطريقةٍ غير مباشرةٍ مفهمةً إيانا أنها إن كانت لا تزال حتى الآن مسلمة فذلك بفضل سعة الأفق والتفهم الذى تجده فى القارة الأمريكية ليس إلا. تقصد أنهم لا يجدون فى شذوذها عِوَجًا ولا أَمْتًا، بل يحبونها ويشجعونها ويفتحون لها التلفاز على مصراعيه لتطل من شاشته بطلعتها البهية، وتنشر على الملإ دعوتها السحاقية اللواطية: "روح الاستطلاع هذه هي الهواء الذي أشعر بالامتنان لأميركا الشمالية عليه. ففي كثير من بقاع العالم الاسلامي، إذا كان المرء أكثر مما مقرر له أن يكون، تكون قيمته أقل. وفي كثير من أميركا الشمالية يتمتع المسلمون بالحرية في أن يكونوا ذوي أبعاد متعددة. وهذه هي حال أُناس من شتى الأعراق. وكان من ضحايا 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك الأب ميكال جادج، وهو قس كاثوليكي مِثْلِيّ نعاه الإطفائيون الذين رعاهم طيلة سنوات (قطَّعْتِ قلبنا يا شيخة على هذا القس المأبون!). تعددية البشر، تعددية الأفكار. ولكم أن تجدوا العلاقة بين الاثنين. أنا وجدتُها، وهذه العلاقة أنقذت إيماني بالإسلام، حتى الآن. لو نشأتُ في بلد مسلم لصرتُ على الأرجح ملحدة في قرارة نفسي. ولأني أعيش في هذا الركن من العالم حيث أستطيع أن أُفكر وأختلف وأغور أعمق في أي موضوع، فقد تعلمتُ لماذا ينبغي أن لا أفقد الأمل بالإسلام بعد". إنها تحمد لله على أَنْ لم تفقد الأمل بالإسلام بعد، فما زال الأمل يراودها فى أن تكسب المسلمين إلى صف دعوتها الشذوذية النجسة! ونحن بدورنا أيضا نحمد الله، الذى لا يُحْمَد على مكروهٍ سواه!
إن العاشقة المغرمة صبابة بميشيل تتساءل باستنكار: "كيف نفسر السبب في أنه ما من مسلم واحد كتب الى برنامج "تلفزيون شاذ" أو اتصل به ليسوق تأويلا بديلا رحيما للقرآن؟". وهى لذلك تتهم الإسلام بأنه "أكثر جمودا اليوم من نظيريه الروحيين: المسيحية واليهودية... ما كنتُ أعرفه أن المؤمنين في الديانات التي خضعت تاريخيا للإصلاح لا يتصرفون قطعا بعقلية القطيع كما يتصرف المسلمون. فالقادة المسيحيون يدركون التنوع الفكري في صفوفهم. وفي حين أن لكل منهم أن ينفي صلاحية التأويلات الاخرى، والكثير منهم ينفونها، فلا أحد منهم ينكر وجود جملة كاملة من التأويلات. أما اليهود فهم متقدمون بمسافة بعيدة عن الباقين. والحق أن اليهود يشيعون الاختلافات القائمة بإحاطة نصوصهم المقدسة بالتعليقات ودمج المناظرات بالتلمود نفسه. وعلى النقيض من ذلك فإن غالبية المسلمين يتعاملون مع القرآن على أنه وثيقة تُحاكَى ولا تؤوَّل خانقًا قدرتنا على التفكير المستقل". باختصار تريد أن ينزل الإسلام على صوت انحرافها وشذوذها، وما هذا تكون الأديان. إن دينا يمهد الطريق لمزاولة كل منحرف انحرافه، وممارسة كل شاذ شذوذه، لا يمكن أن يكون دينا سماويا، بل دينا من لدن الشيطان.
إن الأديان، يا هذه، إنما جاءت لتهذب الغرائز وتحميها من الانحراف والانجراف، أما النفخ فى ضرامها فلا، إذ الشهوات والغرائز ليست بحاجة إلى من ينفخ فيها، فهى مشتعلة بطبيعتها، بل تحتاج إلى من يتعامل معها باحتراس ولباقة. كذلك لم تأت الأديان بمصادرة الغرائز. كلا لا يقول بهذا عاقل. وعلى أية حال لم يأت الإسلام بذلك، بل أتت به أديان أخرى، ولمّا لم تستطع أن تصادر الغرائز وتقمعها بلا رحمة أو هوادة استدارت من الناحية الأخرى وأرخت لها الزمام تماما وتركتها تفعل ما تشاء. والسحاقية المفعوصة تريد منا أن نتلاعب بدين محمد الصافى النقى كما تلاعب غيرنا بدينهم ونسمح لها بالسحاق، وللرجال ممن هم على سُنَّتها باللواط! إننا لو أخذنا بمنطقها هذا الشاذ المنحرف لما بقيت قيمة واحدة كريمة فى الأرض، بل لما بقى دين أو إسلام: فالقاتل الذى يجد لذة فى إزهاق النفوس البشرية سيطالبنا بأن نكون رحماء فنقدم له تأويلا لآيات القرآن الكريم التى تتوعد القتلة بنار جهنم يَقْلِب معناها بحيث تجوِّز له القتل، والسارق الذى يجد لذة فى اغتصاب ما عند الآخرين دون وجه حق سيطالبنا بأن نكون رحماء به ونقدم تأويلا لآيات القرآن الكريم التى تنادى بقطع يد السارق وتهدده بعقاب الآخرة يجعلها تسمح له، لا بتسلق المواسير، فتلك مهمة خطرة، بل بالدخول على أهل البيت الذى يريد سرقته من الباب وفى عز النهار، فيدخل ويقُشّ ما يريد قَشَّه ويخرج مشيعا بالدعوات والأمنيات الطيبة. ويا حبذا لو زاد كَرَمُ المؤوِّل حبتين فأوجب على أهل البيت أن يجهزوا للِّص ما يريد سرقته منهم بعد أن يتصل بهم قبلها بيومين بحيث لا يضيع وقته فى الانتظار فى الصالة، بل يذهب فيجد الصُّرَّة التى تحوى كل ما لذ وطاب مما غلا ثمنه وخف وزنه جاهزة، فيأخذها ويمضى لحال سبيله وهو يغنى "لحن الوفاء" لميشيل وعاشقة ميشيل، لكن بعد توزيعه توزيعا موسيقيا جديدا يناسب المرحلة! ترى هل تريد عاشقة ميشيل أن يكون عندنا آيات شيطانية تجرى على هذا النحو مثلا: "واللص واللصة أكرموهما وانزلوا لهما عما يريدان سرقته منكم، ومن يشفع ذلك بالدعاء لهما وهما خارجان يحملان ما أخذاه فله ثواب عظيم"، أو "إن اللوطيين والسحاقيات، والساديّين والساديّات، والمازوكيّين والمازوكيّات، أعدت أمريكا لهم ولهن ميشيلين وميشيلات يلوطون بهم ويساحقنهن ويتلذذون بهم وبهن إلى أبد الآبدين، ابتهاجًا بوساخة مقصوفى الرقبة الملاعين". حَنَانَيْكِ يا شيخة الإسلام!
حتى رشاد خليفة المتنبئ الكذاب وأتباعه، الذين كان أحرى بهم، ما داموا يعيشون فى أمريكا ويتبعون ما يخططونه لهم هناك، أن يقولوا بإباحة الشذوذ الجنسى بين الرجال والنساء كما تريد هذه الملعونة الدنسة، هذا النبى الكذاب وأتباعه لم يقولوها رغم ذلك ودانوا هذا الخروجَ على الفطرة التى فطرنا الله عليها، إذ قال متنبئهم تفسيرا لقوله تعالى: "واتَّقُوا فتنةً لا تُصِيبَنَّ الذين ظَلَموا منكم خاصّةً، واعلموا أن الله شديد العقاب" (الأنفال/ 25): "إن الأمة التى تتسامح مع الشذوذ الجنسى مثلا يمكن أن يعاقبها الله بزلزال: A community that tolerates homosexuality, for example, may be hit by an earthquake"، كما كتب أحد أتباعه فى موقعهم المشباكى، وهو م. صديقى، أنه مثلما يخلق الله بعض الناس عُمْيًا فلا يعفيهم عماهم من وجوب اتّباع القانون الإلهى، ويخلق بعض الناس صُمًّا ولا يعفيهم صَمَمهم من وجوب اتّباع ذلك القانون...، فكذلك ينبغى أن يكون الأمر مع مَنْ عندهم ميول جنسية، إذ لا تعفيهم هذه الميول من وجوب اتباع القانون الإلهى ومكافحة ذلك الشذوذ فى أنفسهم بكل وسيلة: طبيةً كانت أو اجتماعية أو نفسيةً أو دينية...إلخ، ولسوف يبرؤون منها إذا صدقت العزائم. وليس فى القرآن ما يمكن أن يسوغ الشذوذ الجنسى بأى حال، وكل من يستسلم لتلك النوازع الشاذة وينزل على حكمها لا على حكم الله فلسوف ينال العقاب الإلهى. أى أن ذلك النبى الكذاب وأتباعه لم يرضَوْا أن يَتَدَهْدَوْا إلى هذا الدَّرْك المنحط من وساخة الجسد والنفس والخلق. وهذا كلام صديقى بنصه كما ورد بموقعهم على المشباك ردًّا على سؤال وجهه أحد رُوّاد الموقع له، وهو سؤال يتكرر كثيرا من القراء حسبما يقول فى التقدمة:
This is a reply to a question like many others we receive on our web site.
QUESTION:<< My question concerns the issue of homosexuality.
Please provide a Quranic spotlight on this contentious issue. Is
homosexuality normal/natural? Is it accepted in Quran? How to
deal with people who are homosexual? Can homosexuals be
submitters?>>
Homosexuality is a sin. Men and women should abstain from any practice
of Homosexuality.
Homosexuality is prohibited in Quran per the example of the people of Lot.
The following verses will make this clear, God willing.
[7:80-81]
Lot said to his people, "You commit such an abomination; no one
in the world has done it before! "You practice sex with the men,
instead of the women. Indeed, you are a transgressing people."
[26:165-166]
"Do you have sex with the males, of all the people? "You forsake
the wives that your Lord has created for you! Indeed, you are
transgressing people."
The Quran forbids any sexual relationship other than in a marriage
between a man and a woman. Many homosexual men and women
claim that they are born with their sexual preferences and that they
have no choice. Although this point is very much in dispute in the
medical world, it has no support in the Quran. Even then, irrespective
of the nature of homosexuality, this matter would not affect the laws
spelled out clearly in the Quran .
We know that this life is a test. Everyone of us has his/her own test.
For example someone may be born blind, but that person is expected
to live his/her life according to God's law. Others are born poor, short,
tall, weak, missing fingers, having big nose...etc but all of them are
expected to follow God's law. Some men or women may never marry in
their life, or spend part of their life without a spouse. As per the Quran
they still have to live a chaste life and avoid any sexual contacts outside a
marriage. They have to suppress their sexual feelings to follow God's law.
It is a major test and not an easy one for many. Only those who submit to
God will do everything they can to follow His law. They know that their
salvation and eternal happiness rests in doing so.
Since God condemns homosexuality, then we have to believe that a
man or a woman with homosexual feelings is expected to behave like
any other human being and follows God's laws if he/she truely believes in
them. He/she shall resist his/her feelings , maintains abstinence , use all
available resources of help including medical, social and behavioral
therapies to overcome their behavior and feelings.
They should pray to God to help them getting over it and submit to God's
law that sees homosexuality as gross sin. Only those who steadfastly
persevere in obeying God's law will they pass their test and confirm their
submission to God.
For a person who asks, "why me?" We know God is the Most
Merciful and Just (16:90) and He will give each one of us a fair
test and a fair chance. He assigns the tests to suite each one of us
and we believe that He will never burden any soul beyond its
means (23:2).
على أن فسوق عاشقة ميشيل عن الإسلام لا يقف عند هذا الحد رغم أنه بهذه الطريقة فسوق بلا حدّ، وفسوق عن كل حدّ. إنها تؤكد أن الإسلام ليس شيئا آخر غير ما جاءت به اليهودية، ومن ثم فلا داعى لاعتقاد المسلمين بأفضلية دينهم لأن هذا الدين الذى يفاخرون به إنما هو مأخوذ من ديانة اليهود: "انتقلتُ إلى ملف ضخم آخر من ملفات حقوق الإنسان: معاملة الذميين. فبسبب التقاليد اليهودية- المسيحية التي يتحدر منها الإسلام فإن لدى القرآن الكثير مما يقوله عن اليهود والمسيحيين. وهو يكيل المديح على إبراهيم، أب الديانات التوحيدية الثلاث. وُيطري عيسى بوصفه "المسيح" أكثر من مرة. ويأتي على ذكر مريم أم عيسى اليسوع إيجابا عدة مرات. يضاف إلى ذلك أن القرآن يذكِّرنا بكون اليهود ينتمون الى أمة "مُفَضَّلة" هي بنو اسرائيل! مفَضَّلون؟ اليهود؟ دقَّقْتُ في بعض الترجمات الإنجليزية للتوثق. إزاء هذه العواطف الحارة تجاه أجدادنا الروحيين يكون من المنطقي أن يشير القرآن على اليهود والمسيحيين بأن يطمئنوا أنْ "لاخوف عليهم ولا هم يحزنون" ما داموا مؤمنين بالله واليوم الآخر كما تنص عليه كتبهم المقدسة.
من جهة أخرى يعتبر القرآن بصراحة أن لا دين إلا الإسلام. غريب. أم يا تُرى أهو حقا غريب؟ فثمة فكرة في غاية الأهمية هنا لا شيء يفوقها أهمية في أوقاتنا المشتتة، وهي تتعلق بسبب ظهور الإسلام أصلا. كل ما ينبغي أن يؤمن به المسلمون نزل على اليهود قبلنا بآلاف السنين. وقد حدث ذلك عندما سار بعض اليهود في طريق الضلال عن الحقيقة المنزَّلة بتحولهم إلى عبادة الأصنام مثل العجل الذهبي، فاستثاروا عليهم غضب الله. (أدري، أدري: أي خالق هذا الذي يغار من مولود بقرة؟ أحسبُ أنه خالق يسعى الى الصلح بين قبائل في احتراب دائم مع بعضها بعضا من خلال المحور الجوهري المتمثل في ديانة مشتركة). نعود الى البقرة. فإن انبعاث الوثنية اقتضى إرسال واحد آخر من أبناء إبراهيم لتذكير عالم الساميين بحقيقة ربه، فكان مجيء اليهود، وكذلك نزول الكتاب المقدس الذي يجمع كتب موسى العبرانية (تُعرَف عند المسيحيين باسم العهد القديم ). ولكن في النهاية بدأ بعض المسيحيين يدَّعون أن المسيح هو الله، فضلا عن كونه ابن الله، وليس رسولا آدميا اصطفاه الله الواحد الأحد. لقد كانت الوثنية تهدد برفع رأسها (أو رؤوسها) من جديد.
لذا في حوالي سنة 610 ميلادية عاد الله إلى قائمة المرشحين للنبوة واختار محمدا، وهو حفيدٌ آخَرُ من أحفاد إبراهيم، لتطهير كلامه المنزَّل من الفساد الذي أعاثه فيه اليهود والمسيحيون. وأينما فتحتُ القرآن لم أكن قط بعيدة عن رسالةٍ كثيرا ما تتكرر بأن ما سبقه من كتب مقدسة جدير بالتبجيل. مرحبا بكم إلى الفكرة ذات الأهمية البالغة التي لمَّحتُ إليها قبل لحظات: أن الجهل القَبَلي لا يمكن أن يكون حقيقة. وعندما أعدتُ قراءة القرآن للتبصر في "الآخر" وجدتُ أن اليهود ليسوا كلهم الذين يُقال للمسلمين أن يجتنبوهم، بل فقط أولئك الذين يسخرون من الإسلام بوصفه دينا كاذبا على نحو متأصل. وينبغي على المسلمين أن لا ينكروا صحة الديانة اليهودية، وإلا فإنهم يسيئون إلى دينهم ذاته.
ولكن إذا كانت اليهودية والإسلام ديانة واحدة فما هي الحكمة في جعلهما كيانين منفصلين؟ وعلى الغرار نفسه ما الحكمة من الإبقاء على المسيحية؟ أو الهندوسية؟ أو البوذية؟ أو السيخية؟ ولكم أن تملأوا الفراغات التي تلي ذلك. لماذا لا نتخلى عن إحساسنا الدفين بالتفوق وننظر إلى بعضنا بعضا على أننا من صنع خالق واحد؟ القرآن لا يتهرب من هذا السؤال الأكثر تنكيدا من الأسئلة الأخرى كلها، فهو يقول إن الله جعل لكل قوم شرعة لحفزهم على التسابق من أجل عمل الخير معترفا أن عمل الخير لن يكون ممكنا إذا اشتبكنا في خلافات على مَنْ هو "الأحق" في تنفيذ مشيئة الله. أنا وأنتم لا علم لنا، وعلينا أن نتخطى هذه المعضلة. والقرآن يؤكد لنا أن الله سيتكفل بتسوية خلافاتنا المذهبية حين إليه نعود. في هذه الأثناء فإن التسابق على عمل الخير إنما هو دعوة تحولت من الشطارة في عالم المال والأعمال إلى الإبداع الفني في تناول الطينة المقدسة ذاتها والدأب على تحسين جمال ما صُنع منها. ويتلازم مع هذه الممارسة الدافع الآخر لقرار الله أن يخلقنا أقواما ومِلَلاً شتى: لكي نشعر بوجود حافز يغرينا بالتعارف على بعضنا بعضا. فالأمر كما لو أن الخالق يريد لنا أن نستخدم الاختلاف كاسحة جليد بدلا من استخدامه ذريعة للانكفاء إلى زوايا متقابلة.
أقر بأن هذا ما بودي أن يكون المعنى من الألف إلى الياء. ولكن كل شيء مطروح للتأويل لأن القرآن يشير على المسلمين بأن لا يتخذوا من اليهود والمسيحيين أصدقاء لهم كيلا نصبح "منهم". وهو يتحدث عنـ"ـهم" بوصفهم من "القوم الظالمين" الذين لا يهديهم الله. وثمة كلام عن إنزال أذى شديد وضرب رقاب وفرض الجزية على أهل الكتاب أتاوة لقاهريهم المسلمين. كلام مخيف بحق، وهذه المقاطع تضفي صدقية على أولئك المسلمين الذين يديرون ظهورهم إلى الوئام بين الأديان. وعند هؤلاء يجوز للذميين أن يوجَدوا، ولكن قطعا ليس على أساس من التكافؤ مع المسلمين، وقطعا ليس على مستوى واحد معهم، لأن الإسلام ليس مجرد دين آخر يضاف إلى بقية الأديان، بل يعلو عليها جميعا بحكم كونه دين الحق، ورسوله خاتم الأنبياء في خدمة الواحد الأحد. إنه لخيار أن يُقْرَأ القرآن على هذا النحو. أوَليس كذلك؟ ولكننا لسنا واعين بهذا الخيار.
لعل أحدكم يحتج قائلا: "تمهلي، فأنا لا أختار هذا التأويل بالمرة. وأنا لا أُريد أن أضرب جاري لاحتفاله بعيد هانوكا، فلا تحسبيني على كارهي اليهود. إني إنسان حسن الطوية بحق السماء". نعم، إنك على الأرجح حسن الطوية. فلتسأل نفسك من باب هذه الطيبة: هل اخترتُ أن أتحدى الاعتقاد الشائع بين مسلمي الاتجاه السائد بأن الإسلام متفوق على المسيحية واليهودية؟ إننا غارقون في نرجسيتنا الروحية حتى أن غالبية المسلمين لا يفكرون مرتين، أو حتى مرة، في الضرر الذي يمكن أن يُلْحِقه هذا الموقف بالعالم. نحن نتقبله فطريا مطلِّين بين حين وآخر من تحت الرمال حيث دفنَّا رؤوسنا لنلحظ وجود "المتطرفين"، وأحيانا لا نلحظ وجودهم حتى وقتذاك".
ولا بد فى البداية من التنبيه إلى أن كل اعتماد الكاتبة السحاقية فى دراسة القرآن واستخلاص أحكامها منه وعليه، كما ذكرت هى، على الترجمة الإنجليزية لا غير، فلا محاولة لتعلم اللغة العربية لقراءته فى أصله العربى بدلا من الترجمة التى لا يمكن أن تنقل الأصل أبدا مهما كانت عبقرية المترجم كما هو معروف، كما أنها لم تَسْعَ بتاتًا لمعرفة أسباب النزول أو المكى والمدنى مثلا أو كيفية التفرقة بين الخاص والعام من النصوص القرآنية، أو للاطلاع على وقائع السيرة من مصادرها الإسلامية، وهذا إن صدَّقْنا أنها هى مؤلفة هذا الكتاب، ولم يؤلفه أحد المستشرقين أو المبشرين وانحصر دورها فى وضع اسمها على غلافه، إذ إن الروح التى تسود الكتاب هى روح عدائية لكل ما هو مسلم وإسلامى، سواء تعلق الأمر بالقرآن أو الرسول أو المسلمين، فهو يدين المسلمين والإسلام دائما، ويسوّغ ما يفعله الغرب واليهود بهم على طول الخط، والخطأ باستمرار من نصيبهم، والصواب ضربةَ لازبٍ من نصيب أعدائهم. بيد أن هذه مسألة أخرى لا أقف عندها الآن، وقد يكشف حقيقتَها التاريخ. وبالإضافة إلى ذلك فهو مكتوب بحِرْفِيّة واضحة، والروح السارية فيه روح غربية مخابراتية لا تخطئها العين ولا الأذن، والخبث والدهاء اللذان يغلِّفانه: سواء فى الأسلوب الكتابى أو فى طريقة العرض أو فى التلاعب بمنطق العقل ونصوص القرآن، وإن كانا لا ينطليان على من عنده مُخّ، أكبر من أن تستطيعهما فتاةٌ غِرَّةٌ وسحاقيّة مثلها، بل يتطلب نابًا شيطانيًّا أزرق من عتاة المستشرقين الكارهين للإسلام من أمثال برنارد لويس اليهودى وشيعته.
إنها تخلط بين الأمور خلطا شنيعا: فالقرآن مثلا يتحدث عن التوراة والإنجيل بوصفهما كتابين سماويين صحيحين، فتأتى هى وتتحدث عن أن المقصود هو كتب اليهود والنصارى الحاليّة رغم ما ورد فى القرآن أيضا أن ما بأيدى القوم الآن هو شىء آخر غير ما نزل على أنبيائهم، فقد حرَّفوا كتبهم ونَسُوا بعضها وعبثوا ببعضها، وإلا أفيمكن أن يكون ما نقرؤه فيها عن تصوير الله فى مواضع غير قليلة من العهد القديم تصويرا وثنيا يجسِّده سبحانه، وعن آدم وأنه ابن الله، وعن نوح وسُكْره وانكشاف سوأته، وعن لوط وسَقْى بنتيه إياه خمرا ومضاجعة كل منهما له وحبلهما منه، وعن إبراهيم ورضاه بالتدييث على زوجته، ويعقوب ومصارعته لله وتكتيفه إياه، وعن هارون وصنعه العجل الذهبى ليعبده بنو إسرائيل، وداود وزناه بزوجة جاره وقائده العسكرى وقتله إياه تآمرا وغدرا، وسليمان ومساعدته لزوجاته فى عبادة آلهتهن الوثنية فى بيته ونَظْمه لــ"نشيد الأناشيد" المفعم بالعهر وتزيين الشهوات الجنسية، والمسيح وتعمُّده على يد يحيى، والمفروض أن يحيى ما هو إلا واحد من عباده ما دام هو الله، وطمع إبليس فى اختبار إيمانه وأخلاقه رغم أنه هو رب إبليس وكل الأباليس الذين فى الدنيا أجمعين، وموته على الخشبة رغم ما جاء فى العهد القديم من أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون، وتأكيده أنه ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله ثم نقْضه للتوّ لكل النواميس التى أتى بها موسى، ثم بولس وزعْمه أنه رأى الله (أى المسيح) فى السماء عيانا بيانا وتخبُّطه فى الحديث الذى ادعى أنه دار بينهما بما لا يدخل العقل...، أفيمكن أن يكون هذا كله وأمثاله، وهو كثير جدا، هو ما يقول القرآن عنه إنه وحى سماوى ويوجب على المسلمين تصديقه والإيمان به؟ لذلك فإن المسلم يؤمن أن ما جاء به محمد هو وحده الدين الصحيح. ولسوف نرى بعد قليل أن اليهود يرَوْن أن دينهم هو وحده الدين الصحيح. ولم يقل أحد لهم شيئا، فكل إنسان حر فى أن يعتقد ما يشاء، ويوم القيامة نمثل أمام الديان فيحاسبنا على ما كنا نقول ونعتقد، ويتبين الحق من الباطل، والرشد من الغَىّ.
أما قوله تعالى الذى استشهدتْ به مانجى من أن اليهود والصابئين والنصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا يعنى ما تريد أن تُدْخِله فى رُوع القراء من أن أولئك الأقوام داخلون الجنة حتى لو بَقُوا على أديانهم المنحرفة، بل تعنى أن الباب فى الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعا للإيمان بدعوة محمد والنجاة من ثمّ فى الآخرة حتى لو لم يكونوا من العرب الذين آمنوا فى البداية بمحمد، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلا. ولهذا نجد أن الإسلام قد علَّق تلك النجاة على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات: "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (المائدة/ 69). وفى البقرة آية أخرى مشابهة لهذه هى الآية 62)، والإيمان بالله واليوم الآخر لا يصح إلا إذا آمن الشخص بجميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم، بل وعلى رأسهم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك واضح من الآيات التالية: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينا" (النساء/ 150- 151)، "وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدِّقُ الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها. والذين يُؤْمِنون بالآخرة يُؤْمِنون به، وهم على صلاتهم يحافظون" (الأنعام/ 92)، "قال: عذابى أُصِيبُ به من أشاء، ورحمتى وسِعَتْ كل شىء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون* الذين يتَّبِعون الرسولَ النبىَّ الأُمّىَّ الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويُحَرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصَروه واتَّبَعوا النور الذى أُنْزِل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/ 156- 157)، وغير ذلك. وما من مرة أثنى القرآن على أحد من أهل الكتاب إلا كان بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء يَبْغُون منا أن نقرأ النصوص القرآنية بقلوب مريضة وعيون عمياء، لكن كيف يبصر الأعمى ومن فى قلبه مرض؟ وعلى هذا فليس فى القرآن أى تناقض، لا فى هذه القضية ولا فى غيرها كما تزعم مانجى أو من كتبوا لها الكتاب، بل ينبغى أن نقرأ كتاب الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين. وإذا دقق القارئ فى الطريقة الترقيمية التى كُتِبَتْ بها الآية السابقة فسوف يتضح له ما أقصد. ونستطيع أن نعيد كتابتها بطريقة ترقيمية أخرى كى تزداد الأمور اتضاحًا: "إن الذين آمنوا (والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أى المسلمين، وهم الطائفة المذكورة فى بداية الكلام، إذ هم مؤمنون فعلا، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا قبلا من خلال آيات القرآن الكريم.
وقد عادت مانجى لترديد ذات الكلام فى ردها على فتاة تقول إنها كانت مسلمة ثم لم تجد سكينة روحها فى الإسلام، فتركته إلى اليهودية حيث تعيش الآن فى سعادة وسلام، لكنها تخشى أهلها الذين يهدِّدونها بأن دمها الآن أصبح مهدَرًا بسبب ارتدادها (ياى! ياى!)، فردّت مانجى قائلة لها: إنك تستطيعين أن تجيبى أهلك بأنك، وإن ارتددت عن الإسلام، فإنك الآن واحدة من أهل الكتاب، الذين يكنّ لهم الإسلام كل احترام ويبشرهم بالنجاة فى العالم الآخر، أى بالجنة! وأرجح الظن، بل لا أظننى أجازف ولا ذرةً من مجازفة إذا قلت إننى متيقن بنسبة 99,9% على طريقة نتائج الانتخابات العربية، أن السؤال والجواب مصنوعان صناعةً من أجل تجرىء المسلمين على الردة عن طريق طمأنتهم على مصيرهم فى العالم الآخر، ولكن بعد خراب بصرة إن شاء الله. وليقابلونى إن راحوا رائحتها ولو على بُعْد سبعين خريفا! وهو نفسه ما ضحك به مستشرق فرنسى على السيدة زبيدة المصرية زوجة مينو القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر، الذى أعلن إسلامه كذبا ونفاقا واتخذها زوجة حتى ينسبك الدور على المصريين ويطمئنوا إلى الاحتلال الفرنسى، إذ بعد أن فشل الاحتلال ورجع هذا القائد إلى بلاده ارتد عن الإسلام بعد أن لم تعد به حاجة إلى تمثيل الدور الخسيس، وأراد تعميد ابنه منها وتحويله إلى النصرانية، فجاء المستشرق المذكور وزعم لأم الطفل المسكين أن القرآن يسوى بين المسلمين وأهل الكتاب فى أنهم جميعا لهم الجنة كما تقول سحاقيتنا البائسة، أو بالأحرى: كما يقول من كتبوا لها الكتاب. وعلى كل حال هذا هو السؤال والجواب فى لغتهما الأصلية كما وجدتُهما فى موقع المفعوصة:
"About a year ago, I chose to leave Islam and convert to Judaism. I went through the one-year Judaism course and was more and more convinced that I had done the right thing. For the first time, I was able to really feel God’s presence and worship him. The struggle against my family and society was very difficult. I was told by the local Imam and by my family that I am Kafir [unbeliever facing eternal damnation] and that it is allowed by Islam to kill me because changing one’s faith is even worse than murder. If I could only explain to them that this is EXACTLY why I left why I left Islam – because it has become so violent and primitive. When I read your book, I was filled with hope. Maybe one day, people who choose to leave Islam will not be legitimate targets and will be able to express themselves freely.” - RJ
Irshad replies: You might wish to remind your family that, as Jew, you’re still part of “Ahl al-Kitab” or “People of the Book.” According to the Koran, People of the Book are to be respected: “Believers, Jews, Christians, and Sabaeans — whoever believes in God and the Last Day, and who does what is right — shall be rewarded by their Lord; they have nothing to fear or regret” (2:62)".
هذا عن الكتاب المقدس فى عجالة سريعة، فماذا عن اليهود؟ إن الإسلام لا يدعو إلى كراهيتهم ولا يغرى أتباعه بالعدوان عليهم ولا على أى أمة أو شعب آخر، فالعدوان فى الإسلام مرفوض ومجرَّم عند الله كما بينتْ آيات وأحاديث كثيرة معروفة لكل إنسان، لكن ليس معنى هذا أن يسكت المسلم على ما يوجَّه له ولدينه من عدوان تحت شبهة أن عليه احترام الآخرين، لأنه إذا لم يحترمنى الآخرون فمن واجبى أن آخذ حقى بيدى. فما بالنا لو كان الأمر أدهى من ذلك وأطمّ على نحو ما هو حادث بيننا وبين الغرب منذ قرون من سبّه لديننا وإساءته إلى رسولنا (وما القرآن الأمريكى المزيَّف المسمَّى زورا وبهتانا بــ"الفرقان الحق" ببعيد، لا ولا تدنيس المصاحف بإلقائها فى مراحيض معتقلات جوانتانامو بممكن نسيانه أو التغاضى عنه إلا إذا كان قد فُقِد منا الأمل البتة)، وكذلك احتلاله بلادنا واغتصابه ثرواتنا واعتداؤه على حريتنا واقتطاعه جزءا غاليا عزيزا من أرض الإسلام وإعطاؤها لليهود الذين لم يكذِّبوا خبرا فانقضوا على الفلسطينيين تقتيلا وتهجيرا وهدما للمنازل ومصادرة للحقول وخلعا لأشجار الزيتون وتضييقا عليهم فى السفر والعودة، وكلما أنّ الفلسطينيون وقاموا بعشر معشار ما ينبغى أن يقوموا به دفاعا عن وجودهم وأرضهم وأولادهم ونسائهم هَبَّ أمثال هذه السحاقية يولولون ويجأرون بالصراخ والعويل أسًى على اليهود المساكين المسالمين واتهامًا للفلسطينيين المتوحشين اللاإنسانييين! ترى ما هو المراد منا؟ أن نسكت على ما ينزل بنا من هوان وعسف وتقتيل ونسف للبيوت وهتك لأعراض النساء واغتيال لأحلام الحاضر والمستقبل؟ إن الغرب يضربنا بالسلاح النووى ويوقع منا القتلى بعشرات الآلاف وينسف البيوت والمساجد والمؤسسات نسفًا، فإذا فكَّر أحدنا أن يردّ عليه بحجر أو بطلقة بندقية أو بقنبلة أو بسيارة مفخَّخة تُوقِع قتيلين أو عشرة أو حتى عشرين هاجَتِ الدنيا علينا وماجَتْ وقيل إننا قتلة وحشيون!
وفى ضوء هذا ينبغى النظر إلى ما جاء من آيات تهاجم اليهود والنصارى وتدعو إلى قتالهم كقوله تعالى فى الآية 29 من سورة "التوبة" مثلا: "قاتلِوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دِينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"، فالبنت السحاقية التى تريد أن نرسِّمها حاخامةً للإسلام تولول وتلطم خديها وتشد شعرها كالمجانين استعظاما واستنكارا، متجاهلة (هى أو من كتب لها الكتاب) أن الكلام هنا ليس عن أهل الكتاب بإطلاق، بل عن النصارى، وليس النصارى بإطلاق، بل عن الروم، وليس الروم بإطلاق، بل الروم فى سياقٍ معيَّنٍ هو سياق تآمرهم على الدولة الإسلامية الناشئة وتحريكهم الجيش إلى حدود بلاد العرب للاحتكاك بالمسلمين وتوجيه ضربة غادرة إليهم، فكان لا بد أن يقول القرآن لهم: لا تتركوا هؤلاء العلوج يفلتون دون عقاب! لكن السحاقية البائسة التى تحرِّض الغرب كله على المسلمين على طول الكتاب وعرضه كانت تريد من الرسول والصحابة أن يفتحوا بلادهم على مصاريعها ويرحّبوا بكلاب الروم.
مثال آخر: لقد كان اليهود فى المدينة إذا ما سمعوا الأذان سخروا بالمؤذِّن وشبهوه بالحمار الذى ينهق وتهكَّموا بالحركات التى يأتيها المصلون تهكمًا سفيهًا، فنزلت الآيات التالية: "وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخَذوها هُزُوًا ولَعِبًا. ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون* قل: هل تنقمون منا إلا أن آمنّا بالله وما أُنْزِل إلينا وما أُنْزِل من قبلُ وأن أكثركم فاسقون؟* قل: هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله؟ مَنْ لَعَنه الله وغَضِب عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت. أولئك شرٌّ مكانًا وأضلّ عن سواء السبيل" (المائدة/58- 60). (لا بد أن أصارح القراء هنا بأنى لا أستطيع أن أنسى ما قاله شريف حتاتة فى حق الأذان والمؤذنين!). ثم إن الذى يسمع كلام هذه الشاذة الموتورة ولا يعرف حقيقة الأمر قد يصدِّق ما تقوله عن اليهود وسماحتهم وسعة أفقهم ورقَّتهم مع مخالفيهم فى الدين واستعدادهم لفدائهم بأرواحهم، على حين أن الواقع يفقأ عينها هى ومن يتشدد لها. ولقد أُجْرِىَ استطلاع للرأى فى أوربا منذ وقت غير بعيد، فكان رأى الأغلبية أن إسرائيل هى أكبر مهدِّد للسِّلْم العالمى. ولا ننس أن الأوربيين هم الذين يقومون بمطالب إسرائيل بعد الأمريكان، وأنهم هم الذين تآمروا على العرب والمسلمين لمصلحتهم وخلقوا إسرائيل خلقا، فلا يمكن أن يتهمهم متهم بالانحياز للعرب والإجحاف باليهود.
ثم لماذا نجد اليهود على مدى التاريخ مكروهين من جميع الأمم التى عاشرتهم، وعلى رأسهم الأوربيون الذين ظلوا يذيقونهم صنوف الأذى والتنكيل حتى العصر الحديث حين خططوا لاتخاذهم شوكة مسمومة يغرسونها فى خاصرة المسلمين، فعندئذ (وعندئذ فحسب) رأيناهم يغيرون أسلوبهم فى التعامل معهم؟ وبالمناسبة فإن شهر العسل الذى يقوم أحيانا بين اليهود ومن يوادّونهم لهذا السبب أو ذاك مما يمثل الشذوذ على القاعدة لا يدوم طويلا كما تقول كلمة التاريخ التى لا تكذب. ولا نظن أن مصير شهر العسل الغربى- اليهودى سيكون أفضل من الشهور السابقة التى كانت بينهم وبين الأمم الأخرى. وعلى أية حال فالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يفيض باللعنات والدمدمات على اليهود، ويتهمهم بالكفر والارتكاس فى مستنقع الوثنية الدنس دائما أبدا، ويشتمهم ويسبهم سبًّا لم يسبه لهم أشد خصومهم: لعنات ودمدمات من الله ومن رسلهم وأنبيائهم. أفلا يكفى هذا لكى تكفّ المسكينة التاعسة البائسة عن كذبها وجنونها المستعر ضد الإسلام والمسلمين؟ ثم إن كتابهم هذا ينهاهم عن إبداء أى قدر من الرحمة أو الفهم فى التعامل مع الأمم الأخرى فى الحرب ويشرِّع لهم إفناءهم بما فى ذلك الحيوان الأعجم بحيث لا يتركون كائنا واحدا يتردد فى صدره نَفَس من حياة، كما يدعو على تلك الأمم ويتفنن فى تصوير ما ينتظرهم من وبالٍ ونكالٍ، ودمارٍ وبوار! فضلاً عن أن التلمود، حسبما يقول العارفون به، يقنِّن لليهودى أن يصنع بالأممى ما يشاء دون أن يكون عليه لوم، يستوى فى ذلك السرقة والربا والغدر والخداع والقتل والزنا... المهم أن يتأكد أنه لا يعرّض نفسه بهذا إلى أية مسؤولية! "ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا فى الأميين سبيل" كما سجل عليهم القرآن الكريم!
وقد قرأتُ فى أحد المواقع المِشْبَاكِيَّة اليهودية التى تتحدث عن التلمود، وهو موقع "Judaism 101"، ما يقول الحاخامات فيه عن مصير غير اليهود فى العالم الآخر: فالمسلمون الصالحون المتمسكون بدينهم، رغم إيمانهم بالله الذى يعبده بنو إسرائيل مع اختلاف تسميته عندهم، لن يكون لهم مكان فى ذلك العالم لأنهم لا يؤمنون بالتوراة الموجودة فى أيدى اليهود حاليًّا (وهى التوراة التى يعتقد المسلمون أنها قد حُرِّفت وأعطينا أمثلة منها قبل قليل تدل على أنها لا يمكن أن تكون نزلت من عند الله على وضعها هذا، على عكس التوراة الحقيقية التى اختفت والتى يؤمن بها المسلمون من كل قلوبهم ويجلّون الرسول الذى حملها وأتى بها إلى قومه). كما أنهم، وإن آمنوا بوصايا نوح السبعة تمام الإيمان (إذ الشرك والوثنية والتجديف فى حق الله والقتل والزنا والسرقة ولحم الحيوان الحى، كل ذلك حرام عندهم ويجرِّمونه)، لن يُكْتَب لهم الخلود رغم ذلك فى الآخرة لأنهم لا يؤمنون بها من خلال التوراة الموجودة فى أيدى البهود الآن. أما النصارى فرغم إيمانهم بأن التوراة التى بأيدى اليهود حاليا قد نزلت من عند الله لن يُكْتَب لهم الخلود فى الدار الآخرة رغم ذلك، بل سينالهم الفناء بسبب إيمانهم بالثالوث، الذى يؤكد اليهود أنه لون من الوثنية. وهذا هو نص الكلام فى أصله الإنجليزى:
“Not all religious Gentiles earn eternal life by virtue of observing their religion: While it is recognized that Moslems worship the same God that we do (though calling him Allah, He is the same God of Israel), even those who follow the tenets of their religion cannot be considered righteous in the eyes of God, because they do not accept that the Written Torah in the hands of the Jews today is the original Torah handed down by God and they do not accept the Seven Laws of Noah as binding on them.
While the Christians do generally accept the Hebrew Bible as truly from God, many of them (those who accept the so-called divinity of Jesus) are idolaters according to the Torah, punishable by death, and certainly will not enjoy the World to Come. But it is not just being a member of a denomination in which the majority are believers in the Trinity that is idolatry, but personal idolatrous practice, whatever the individual's affiliation”…
According to Torah tradition, God gave Noah and his family seven commandments to observe when he saved them from the flood. These commandments, referred to as the Noahic or Noahide commandments, are learned by tradition but also suggested in Genesis Chapter 9, and are as follows:
1. not to commit idolatry
2. not to commit blasphemy
3. not to commit murder
4. not to have forbidden sexual relations
5. not to commit theft
6. not to eat flesh cut from a living animal
7. to establish courts of justice to punish violators of the other six laws.
These commandments may seem fairly simple and straightforward, and most of them are recognized by most of the world as sound moral principles. But according to the Torah only those Gentiles who observe these laws because God commanded them in His Torah will enjoy life in the World to Come: If they observe them just because they seem reasonable or because they think that God commanded them in some way other than in the Torah, they might as well not obey them so far as a part in the World to Come is concerned
ولنقرأ كذلك هذه النصوص التلمودية عن المسيح التى زوَّدَنا بها مايكل هوفمان 2 فى موقعه الذى يفضح فيه ما يقوله اليهود فى تلمودهم عن ذلك النبى عليه السلام: "يقول السنهدرين B 107:"...نصب المسيح حجرا، ثم اتخذه صنما وركع له. كما أنه قد مارس السحر وحرَّض بنى إسرائيل وأضلَّهم". (التلمود البابلى/ مجلد 21/ تراكتيت سنهدرين/ ج 7/ ترجمه إلى الإنجليزية الحاخام آدين شتاين زالتس/ راندم هاوس/ نيويورك/ حقوق الطبع محفوظة لمعهد إسرائيل للمنشورات التلمودية 1999م)... والآن إلى نصٍّ تلمودىٍّ آخَرَ حول المسيح من السنهدرين B43: "وفى ليلة الفصح أُعْدِم يسوع الناصرى. لقد مارس السحر وحرض بنى إسرائيل وأضلهم... ترى أكان يستحق البحث عن حجة للدفاع عنه؟ لقد كان محرِّضًا، وجاء فى التوراة: لا ينبغى أن تَعْفُوا عنه، ولا أن تخفوه!... إن بعض طبعات الجيتين 57a التى خضعت للرقابة والمتابعة تستبدل باسم "المسيح" اسم "مذنب (أو مذنبى) بنى إسرائيل". ويتضمن الجيتين 57a من التلمود هجوما بذيئا وفاضحا على المسيح يتعلق بنوع من العقاب يُفْتَرَض أنه يقاسيه بعد وفاته. وكالعادة نرى الــ"إيه دى إل" تتجنب إيراد كلام الجيتين 57a، ومن ثم كان علينا أن نفضح المحتوى القبيح والمريض لهذا القسم من التلمود. وهذا هو النص المقصود: "ثم مضى ( أى الحاخام) وأقام بتعويذاته مُذْنِبى بنى إسرائيل من الأموات، وسألهم:... ما عقوبتكم؟ فردّوا قائلين: هى إلقاؤنا فى خراءٍ يغلى".
والغريب أن يصدّع واضع الكتاب أدمغتنا بالكلام عن الخشونة التى يعامل بها المسلمون اليهود، ناسيًا أن العهد القديم يذكر عن بنى إسرائيل وعن قوادهم، بفخرٍ مجلجلٍ، ما يدل على ما كانوا يعاملون به الآخرين من قسوة مفرطة ليس فيها أدنى مراعاة لضميرٍ أو قانونٍ، فضلاً عن أنه يَعْزوه إلى بركة الله ورضاه عنهم. من ذلك مثلا ما جاء فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "التكوين" على النحو التالى: "1وَخَرَجَتْ دِينَةُ ابْنَةُ لَيْئَةَ الَّتِي وَلَدَتْهَا لِيَعْقُوبَ لِتَنْظُرَ بَنَاتِ الأَرْضِ 2فَرَآهَا شَكِيمُ ابْنُ حَمُورَ الْحِوِّيِّ رَئِيسِ الأَرْضِ وَأَخَذَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَأَذَلَّهَا. 3وَتَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِدِينَةَ ابْنَةِ يَعْقُوبَ وَأَحَبَّ الْفَتَاةَ وَلاَطَفَها. 4فَقَالَ شَكِيمُ لِحَمُورَ أَبِيهِ: «خُذْ لِي هَذِهِ الصَّبِيَّةَ زَوْجَةً». 5وَسَمِعَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ نَجَّسَ دِينَةَ ابْنَتَهُ. وَأَمَّا بَنُوهُ فَكَانُوا مَعَ مَوَاشِيهِ فِي الْحَقْلِ فَسَكَتَ يَعْقُوبُ حَتَّى جَاءُوا. 6فَخَرَجَ حَمُورُ أَبُو شَكِيمَ إِلَى يَعْقُوبَ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ. 7وَأَتَى بَنُو يَعْقُوبَ مِنَ الْحَقْلِ حِينَ سَمِعُوا. وَغَضِبَ الرِّجَالُ وَاغْتَاظُوا جِدّاً لأَنَّهُ صَنَعَ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِمُضَاجَعَةِ ابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَ«هَكَذَا لاَ يُصْنَعُ». 8وَقَالَ لَهُمْ حَمُورُ: «شَكِيمُ ابْنِي قَدْ تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِابْنَتِكُمْ. أَعْطُوهُ إِيَّاهَا زَوْجَةً 9وَصَاهِرُونَا. تُعْطُونَنَا بَنَاتِكُمْ وَتَأْخُذُونَ لَكُمْ بَنَاتِنَا 10وَتَسْكُنُونَ مَعَنَا وَتَكُونُ الأَرْضُ قُدَّامَكُمُ. اسْكُنُوا وَاتَّجِرُوا فِيهَا وَتَمَلَّكُوا بِهَا». 11ثُمَّ قَالَ شَكِيمُ لأَبِيهَا وَلإِخْوَتِهَا: «دَعُونِي أَجِدْ نِعْمَةً فِي أَعْيُنِكُمْ. فَالَّذِي تَقُولُونَ لِي أُعْطِي. 12كَثِّرُوا عَلَيَّ جِدّاً مَهْراً وَعَطِيَّةً فَأُعْطِيَ كَمَا تَقُولُونَ لِي. وَأَعْطُونِي الْفَتَاةَ زَوْجَةً». 13فَأَجَابَ بَنُو يَعْقُوبَ شَكِيمَ وَحَمُورَ أَبَاهُ بِمَكْرٍ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَجَّسَ دِينَةَ أُخْتَهُمْ: 14«لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ هَذَا الأَمْرَ أَنْ نُعْطِيَ أُخْتَنَا لِرَجُلٍ أَغْلَفَ لأَنَّهُ عَارٌ لَنَا. 15غَيْرَ أَنَّنَا بِهَذَا نُواتِيكُمْ: إِنْ صِرْتُمْ مِثْلَنَا بِخَتْنِكُمْ كُلَّ ذَكَرٍ. 16نُعْطِيكُمْ بَنَاتِنَا وَنَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِكُمْ وَنَسْكُنُ مَعَكُمْ وَنَصِيرُ شَعْباً وَاحِداً. 17وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لَنَا أَنْ تَخْتَتِنُوا نَأْخُذُ ابْنَتَنَا وَنَمْضِي». 18فَحَسُنَ كَلاَمُهُمْ فِي عَيْنَيْ حَمُورَ وَفِي عَيْنَيْ شَكِيمَ بْنِ حَمُورَ. 19وَلَمْ يَتَأَخَّرِ الْغُلاَمُ أَنْ يَفْعَلَ الأَمْرَ لأَنَّهُ كَانَ مَسْرُوراً بِابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَكَانَ أَكْرَمَ جَمِيعِ بَيْتِ أَبِيهِ. 20فَأَتَى حَمُورُ وَشَكِيمُ ابْنُهُ إِلَى بَابِ مَدِينَتِهُِمَا وَقَالاَ لأَهْلَ مَدِينَتِهُِمَا: 21«هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ مُسَالِمُونَ لَنَا. فَلْيَسْكُنُوا فِي الأَرْضِ وَيَتَّجِرُوا فِيهَا. وَهُوَذَا الأَرْضُ وَاسِعَةُ الطَّرَفَيْنِ أَمَامَهُمْ. نَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِهِمْ زَوْجَاتٍ وَنُعْطِيهِمْ بَنَاتِنَا. 22غَيْرَ أَنَّهُ بِهَذَا فَقَطْ يُواتِينَا الْقَوْمُ عَلَى السَّكَنِ مَعَنَا لِنَصِيرَ شَعْباً وَاحِداً: بِخَتْنِنَا كُلَّ ذَكَرٍ كَمَا هُمْ مَخْتُونُونَ. 23أَلاَ تَكُونُ مَوَاشِيهِمْ وَمُقْتَنَاهُمْ وَكُلُّ بَهَائِمِهِمْ لَنَا؟ نُواتِيهِمْ فَقَطْ فَيَسْكُنُونَ مَعَنَا». 24فَسَمِعَ لِحَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنِهِ جَمِيعُ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. وَاخْتَتَنَ كُلُّ ذَكَرٍ - كُلُّ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. 25فَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذْ كَانُوا مُتَوَجِّعِينَ أَنَّ ابْنَيْ يَعْقُوبَ شِمْعُونَ وَلاَوِيَ أَخَوَيْ دِينَةَ أَخَذَا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ وَأَتَيَا عَلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْنٍ وَقَتَلاَ كُلَّ ذَكَرٍ. 26وَقَتَلاَ حَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَأَخَذَا دِينَةَ مِنْ بَيْتِ شَكِيمَ وَخَرَجَا. 27ثُمَّ أَتَى بَنُو يَعْقُوبَ عَلَى الْقَتْلَى وَنَهَبُوا الْمَدِينَةَ لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا أُخْتَهُمْ. 28غَنَمَهُمْ وَبَقَرَهُمْ وَحَمِيرَهُمْ وَكُلَُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا فِي الْحَقْلِ أَخَذُوهُ. 29وَسَبُوا وَنَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتِهِمْ وَكُلَّ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَاءَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي الْبُيُوتِ. 30فَقَالَ يَعْقُوبُ لِشَمْعُونَ وَلاَوِي: «كَدَّرْتُمَانِي بِتَكْرِيهِكُمَا إِيَّايَ عِنْدَ سُكَّانِ الأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِيِّينَ وَأَنَا نَفَرٌ قَلِيلٌ. فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ وَيَضْرِبُونَنِي فَأَبِيدُ أَنَا وَبَيْتِي». 31فَقَالاَ: «أَنَظِيرَ زَانِيَةٍ يَفْعَلُ بِأُخْتِنَا؟».
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك الأمنيات التى يتمنَّى بنو إسرائيل وقوعها بالأمم الأخرى، وهى أمنياتٌ بشعةٌ تكشف ما فى قلوبهم من أحقاد لا ينطفئ لها لَظًى. ولنأخذ فقط بعض ما ينوبنا نحن المصريين من هذا الحب، ولنقرأ ما جاء فى نبوءة أَشَعْيَا فى الإصحاح التاسع عشر: "1وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. 2وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ: مَدِينَةٌ مَدِينَةً وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً. 3وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالْعَازِفِينَ وَأَصْحَابَ التَّوَابِعِ وَالْعَرَّافِينَ. 4وَأُغْلِقُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ فِي يَدِ مَوْلىً قَاسٍ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ عَزِيزٌ يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ. 5«وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ. 6وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسَلُ. 7وَالرِّيَاضُ عَلَى حَافَةِ النِّيلِ وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلاَ تَكُونُ. 8وَالصَّيَّادُونَ يَئِنُّونَ وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصّاً فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ. وَالَّذِينَ يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ 9وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ. 10وَتَكُونُ عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ. 11«إِنَّ رُؤَسَاءَ صُوعَنَ أَغْبِيَاءَ! حُكَمَاءُ مُشِيرِي فِرْعَوْنَ مَشُورَتُهُمْ بَهِيمِيَّةٌ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِفِرْعَوْنَ: أَنَا ابْنُ حُكَمَاءَ ابْنُ مُلُوكٍ قُدَمَاءَ. 12فَأَيْنَ هُمْ حُكَمَاؤُكَ؟ فَلْيُخْبِرُوكَ. لِيَعْرِفُوا مَاذَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْجُنُودِ عَلَى مِصْرَ. 13رُؤَسَاءُ صُوعَنَ صَارُوا أَغْبِيَاءَ. رُؤَسَاءُ نُوفَ انْخَدَعُوا. وَأَضَلَّ مِصْرَ وُجُوهُ أَسْبَاطِهَا. 14مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا رُوحَ غَيٍّ فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ. 15فَلاَ يَكُونُ لِمِصْرَ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنَبٌ نَخْلَةٌ أَوْ أَسَلَةٌ. 16فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ مِصْرُ كَالنِّسَاءِ فَتَرْتَعِدُ وَتَرْجُفُ مِنْ هَزَّةِ يَدِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّتِي يَهُزُّهَا عَلَيْهَا. 17«وَتَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْباً لِمِصْرَ. كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا. 18«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ الْجُنُودِ يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ». 19فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا. 20فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ فَيُرْسِلُ لَهُمْ مُخَلِّصاً وَمُحَامِياً وَيُنْقِذُهُمْ. 21فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ وَيَعْرِفُ الْمِصْريُّونَ الرَّبَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْراً وَيُوفُونَ بِهِ. 22وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِباً فَشَافِياً فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ. 23«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ سِكَّةٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَشُّورَ فَيَجِيءُ الأَشُّورِيُّونَ إِلَى مِصْرَ وَالْمِصْرِيُّونَ إِلَى أَشُّورَ وَيَعْبُدُ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ الأَشُّورِيِّينَ. 24فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلْثاً لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ بَرَكَةً فِي الأَرْضِ 25بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ»".
أتُرَى شيخة الإسلام السحاقية لا تعرف هذا؟ إن الذين كتبوا لها الكتاب يعرفون هذا وأفظع من هذا، لكنها الحرب المعنوية التى يراد منها تكسير نفوسنا وتدمير عقيدتنا وديننا، ومن هنا استقدامهم لهذه السحاقية ووضع هذا الكلام فى فمها كى يكون الإيلام الذى يريدون إنزاله بنا أوجع وأفظع! ثم إنها ترجم المسلمين تحقيرا وتشكيكا فى أخلاقهم ونفسياتهم ودينهم، ولا تكاد تترك أحدا من علمائهم دون أن تهاجمه هجوما رهيبا. حتى شيخ الأزهر، الذى يبدى من المرونة ما يثير عليه الدنيا ويتهمه الكثيرون بالمسارعة إلى التساهل فيما لا يمكن التفريط فيه بحال، حتى شيخ الأزهر لا يدخل مخَّها ولا يملأ عينها، بل تشتمه وتتهمه بمعاداة السامية والإرهاب وتحرّض المسؤولين الغربيين عليه. واللعبة مكشوفة! إنهم يريدون منه أن يبصم على كل ما يريدون لا على بعضه فقط، ولن يرضَوْا عنه مع ذلك فى نهاية المطاف مهما أبدى مزيدا ومزيدا ومزيدا ومزيدا ومزيدا من المرونة. إننا هنا نتعامل مع ناس بلا قلب، ناس يخطِّطون لمحو أمم كاملة من على وجه الخريطة كما فعلوا مع الهنود الحمر مثلا، وكما يريدون أن يفعلوا مع الفلسطينيين لو استطاعوا. شخصان اثنان فقط فى مصر حازا القبول والرضا والثناء الحار الجميل، هما جابرعصفور، الذى يستشهد واضع الكتاب مرارا بمقاله المنشور فى "New Perspectives Quarterly, Winter 2002" بعنوان: "Osama bin Laden: Financier of Intolerant ‘Desert’ Islam: أسامة بن لادن مموِّل الإسلام الصحراوى المتعصب"، وسعد الدين إبراهيم، الذى تكررت الإشارة إلى كلمته في "بيت الحرية: Freedom House" فى واشنطن بتاريخ 21 أكتوبر 2002م والاقتباس منها.
والآن أضع تحت عين القارئ الكريم ما كتبتْه (أو كُتِبَ باسم) فقيهتنا السحاقية عن شيخ الأزهر وجابر عصفور وسعد الدين إبراهيم حتى تكون لديه فكرة عن الطريقة التى تتبعها شيخة الإسلام الأمريكى فى تقويمها لنا والأسس التى تستند إليها فى ذلك. وها هو ذا كلامها عن شيخ الأزهر: "خذوا قضية محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، وما أدراك ما الأزهر بسمعته التي لا تُضَاهَى؟ فإن فريد زكريا يصف الأزهر بأنه "أهم مركز لإسلام التيار السائد في العالم العربي". وإلى جانب كون طنطاوي المسؤولَ الأولَ في الإسلام السائد فهو أيضا راعي "منتدى الديانات الثلاث" الذي يتخذ من بريطانيا مقرا له. والمنتدى منظمة هدفها مساعدة المسيحيين واليهود والمسلمين على تحقيق التفاهم المتبادل بينهم. يبدو الأمر لطيفا، ولكن دَعُونا نَجْلُوا الخطابية وننبش ما تحت السطح. ففي موعظة في إبريل ( نيسان ) 2002م ترجمها "معهد الأبحاث الإعلامية في الشرق الأوسط" وَصَف طنطاوي اليهودَ بأنهم "أعداء الله وأبناء الخنازير والقرود". وفي مؤتمرٍ عُقِد عام 1999م حول الطاقة النووية في مصر حَضَّ الشيخُ المسلمين على "امتلاك أسلحة نووية ردًّا على التهديد الإسرائيلي"، وقطع عهدا بأنه "إذا كانت لدى إسرائيل أسلحة نووية ستكون أول المهزومين لأنها تعيش في عالم لا خوف فيه من الموت". هذه الأقوال ينبغي ألا يُستهان بها كنُبَاحٍ بلا أنياب من رجلٍ أوصله المستنقع الفلسطيني إلى الجنون. فحتى عندما كانت عملية السلام لم تزل على قيد الحياة أطلق طنطاوي تعليقات مماثلة. وفي يناير (كانون الثاني) 1998م أجرت قناة "الجزيرة" مقابلة مع الشيخ الذي كان قد اجتمع مؤخَّرا بكبير حاخامات إسرائيل في لقاء بالقاهرة أثار زوبعة في الصحافة المصرية. وتساءل مقدِّم "الجزيرة" إن كانت هناك فائدة من مثل هذه اللقاءات. نعق طنطاوي مؤكدا فائدة مثل هذه اللقاءات، وأشار إلى أنه هاجم الحاخام وأثبت له أن الإسلام هو دين الحق... وباعتقاده أن كل من يرفض اللقاء مع العدو ليصفعه في وجهه جبان طالما أن في مثل هذا اللقاء ما يخدم الإسلام. أهذه هي نظرة شيخنا ذي الكف المتحرقة شوقا لتوجيه الصفعات، إلى رعايته لمنتدى الديانات الثلاث؟ باعتبارها فرصة لإنزال اللطمات بمزيد من اليهود؟ أم إن مثل هذا الموقف يُراد به إسماع الآذان العربية فقط؟ لستُ متأكدة، فبعد الإجابة عن سؤالٍ أوَّلَ مني قطع "منتدى الديانات الثلاث" خط الاتصالات عندما سألتُ: لماذا يُقْبَل طنطاوي صاحبُ اللسان المسموم راعيا للمنتدى؟ وأيًّا يكن من أمر فإن رب طنطاوي ليس رب التجديد بل رب الخداع. وأنا، من بين آخرين، لستُ مسيحية بما فيه الكفاية كي "أُدير الخد الآخر". وعلى مَنْ يُريدون إصلاح الإسلام أن يخوضوا كفاحا مع الخداع لتحقيق شيء ما في الواقع. وهذا يتطلب المضيّ أبعد من الحوار بين الأديان".
ونأتى إلى جابر عصفور، الذى تتغير معزوفتها تماما عند الحديث عنه: "جابر عصفور كاتب مصري يُبدي ارتياعه إذ يرى زحف "إسلام الصحراء" على ما في بلده من تقليد في التبادل الصاخب بالأخذ والرد. وهو يشير إلى أن إسلام الصحراء يتعارض مع ما في "حياة "الحارة" من تعددية ومساومات، إذ انه متعصب". وعلى غرار بَدْو القرن السابع (أرجو أن يأخذ القارئ باله من عبارة "بدو القرن السابع" هذه!) الذين كانوا يرَوْن في كل منعطف ثأرا يتربص بهم فإن الإسلاميين الذين يستوحون حياة الصحراء يرتابون فورا بـ"الآخر"، وحتى يضمرون له الكراهية. و"الآخر" هو اليهود، والغربيون، والمرأة التي يقول عصفور إن ثقافة الصحراء تعدُّها "مصدرا للغواية والشر". وهو يزعم أن أموال النفط التي تدفقت على العربية السعودية أسهمت في إشاعة عادات الصحراء القاسية. دون شك. ولكني أعتقد أن هذه العادات حدَّدت شكل الإسلام زمنا أطول بكثير مما نريد الاعتراف به".
ثم يبقى سعد الدين إبراهيم، وها هو ذا ما جاء عنه فى الكتاب الذى نحن بصدده: "ففي يوليو ( تموز ) أُودِع سعد الدين إبراهيم السجن للمرة الثانية خلال عامين. وقال ناشر صحيفة "القاهرة تايمز: Cairo Times" إن الحكم عليه بالسجن سبع سنوات مع إمكانية الأشغال الشاقة "يكاد يكون شهادة وفاة" تعلن موت الحقوق المدنية في مصر. ما أوصل أستاذ السوسيولوجيا البالغ من العمر 65 عاما إلى السجن يبقى غامضا، فهو صديق قديم للرئيس المصري حسني مبارك، وهو الأستاذ الذي أشرف على رسالة السيدة سوزان مبارك لنيل شهادة الماجستير وكاتب خطابات لها. وكان إبراهيم يستضيف برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا عن التنمية الاجتماعية، وله أبحاث رائدة في دوافع المتشددين الإسلاميين، وقام بتمثيل مصر في مؤتمرات دولية حول حقوق الإنسان. ولكن هذا كله كان قبل 30 يونيو ( حزيران ) 2000م ليلة القبض عليه. وخلال الأشهر الأربعة والعشرين التالية من التوقيفات المديدة والمحاكمات الصورية وفترات الحبس بات واضحا له أن "الذين أغضبتُهم قرروا التحرك لإلغاء سعد الدين إبراهيم من الحياة العامة في مصر". المرجَّح أن غضب خصومه الأسْوَد كان يغلي منذ منتصف التسعينات. ذلك أن إبراهيم، بوصفه رئيس مركز ابن خلدون للدراسات التنموية في القاهرة، شعر أن من واجبه إشباع عمله بروح صاحب الاسم الذي أطلقه على مركزه. فإن ابن خلدون، الذي كان من آخر عمالقة الفكر في عصر الإسلام الذهبي، حوَّل التاريخ والسوسيولوجيا إلى فرعين محترمين من فروع المعرفة. وعلى أكتاف هذا المفكر الرائد سطع اسم إبراهيم، في العالم العربي المسلم على الأقل، في عام 1994م. فقد بادر إلى تنظيم مؤتمر حول حقوق الأقليات، وفي حينه كانت مصر تتمسك بقانون يفرض على المسيحيين الأقباط أن ينالوا موافقة الرئاسة قبل أن يتمكنوا من ترميم كنائسهم. وإذ طعن إبراهيم في نهج مصر الرسمي القائل إن المسلمين يعيشون في وئام تام مع المسيحيين، اعتبر الأقباط أقلية تعاني من اضطهاد النظام. وهنا كانت الضربة الأولى. فبعد عام راقب وآخرون من أنصار الديمقراطية الانتخابات البرلمانية التي جرت في مصر وكشفوا عن ممارسة التزوير بحجمٍ ما كان ليمكن التفكير فيه سابقا إزاء صورة البلد بوصفه واحة للتنوير العربي. ثم كانت الضربة الثانية. فإن ما توصل إليه إبراهيم كان نذيرا بالاتجاه الذي لم تكن مصر تنزلق فيه فحسب، بل وتحث الخُطَى صَوْبَه: استبداد فاسد بدلا من ديمقراطية هشة أصلا".
والآن إلى ما تقوله الكاتبة (إن صح أنها هى التى كتبت الكلام) عن عمليات المقاومة التى يحاول بعض المسلمين أن يدرؤوا بها العدوان الأمريكى المدمر عن أمتهم وعن بلادهم. وسوف أنقل ما قيل عن الشبان الذين قيل إنهم هم الذين شنوا هجوم سبتمبر 2001م على البنتاجون ومركز التجارة العالمى فى نيويورك لأن هذا هو الذى وجدتُه فى الكتاب. لنستمع: "اسمحوا لي أن أفك لكم مفاتيح هذه اللغة المألوفة في أفلام الدرجة الثانية: أن عطا والشباب كانوا يتوقعون أن يدخلوا بحرية مطلقة على عشرات العذراوات في الجنة. وهم ليسوا وحدهم في ذلك. فقبل شهر من 11 سبتمبر ( أيلول ) قال مسؤول عن كسب أنصار لحركة حماس الفلسطينية التي تحولت من المقاومة إلى الإرهاب في تصريح لمحطة "سي بي إس" التلفزيونية إنه يلوّح بمرأى 70 حوريّة أمام المرشحين لتنفيذ عمليات انتحارية. يبدو الأمر وكأنه رخصة أبدية للقذف عند بلوغ الذروة الجنسية مقابل الاستعداد للتفجير. وقد زُعِم منذ زمن بعيد أن القرآن يَعِد بمجازاة المسلمين الذين يُسْتَشْهَدون. ولكن لدينا سببا للاعتقاد أن هناك متاعب في الجنة، فإن خطأ بشريا وجد طريقه إلى القرآن، إذ تفيد الأبحاث الجديدة ان ما يمكن للشهداء توقعه مقابل تضحياتهم ليس حوريّات، وإنما زبيبات! ذلك أن الكلمة التي قرأها فقهاء القرآن طيلة قرون على أنها كلمة "حور" قد تُفهم فهما أدق بمعنى "الزبيب الأبيض" (لا تضحكوا، ليس بإفراط على أية حال. فالزبيب في الجزيرة العربية خلال القرن السابع كان من الطيبات الثمينة بما فيه الكفاية لأن يُعْتَبَر طبقا من أطباق الجنة). ولكن أن يكون الزبيب هو المقصود بدلا من الحُور؟ حاشا لله. كيف يمكن للقرآن أن يرتكب مثل هذه الغلطة؟
المؤرخ الذي يسوق هذه الحجة ، كريستوف لوكسمبرغ Christoph Luxemberg ، (الصواب: "Luxenberg" بالنون لا بالميم)، خبير متخصص بلغات الشرق الأوسط. وهو ينسب وصف القرآن للجنة إلى عملٍ مسيحيٍّ كُتب قبل ثلاثة قرون على ظهور الإسلام في شكل من أشكال اللغة الآرامية التي كانت على الأرجح لغة المسيح. وإذا كان القرآن متأثرا بالثقافة اليهودية- المسيحية، الأمر الذي ينسجم انسجاما تاما مع دعواه بأنه يعكس ما سبقه من كتبٍ منزَّلة، فإن الآرامية كانت ستُتَرْجَم بيدٍ بشريةٍ إلى العربية، أو تُساء ترجمتها في حال كلمة "الحُور" والله أعلم كم من الكلمات الأخرى.
ماذا لو كانت عبارات وجُمَل كاملة قد جرى تصورها تصورا مغلوطا؟ فإن النبي محمد، الذي كان تاجرا أميا ، اعتمد على كتّاب لتسجيل ما كان ينزل عليه من كلام الله. وأحيانا كان النبي نفسه يبذل محاولات مضنية لفك أسرار ما كان يسمعه. وهكذا، على ما يُذكر، نالت مجموعةٌ من "الآيات الشيطانية"، مقاطعُ تؤلِّه الأوثان، قبولَ محمد وسُجِّلت على أنها نصوص حقيقية في متن القرآن. وقد عمد النبي لاحقا إلى إسقاط هذه الآيات متهما الشيطان وأحابيله بالمسؤولية عنها. ولكن الحقيقة الماثلة في أن الفلاسفة المسلمين تناقلوا سرد هذا القصة على مر القرون ، تؤكد شكوكا غابرة القدم في كمال القرآن. والآن أكثرَ من أي وقت مضى نحتاج إلى إحياء هذه الشكوك.
ماذا كان سيحدث لو تربى محمد عطا على أسئلة تبحث في الروح عن إجابات بدلا من تربيته على يقينيات بسيطة؟ وعلى أقل تقدير، ماذا لو عرف هذا الطالب الجامعي أن من الممكن المِراء في أصول كلمات مختارة، كلمات محورية عن الآخرة؟ وأنها قد لا تكون بالمرة "كلمات خالق الأرض والأجرام السماوية"؟ وأن جزاء تدمير الذات، ناهيكم عن القتل الجماعي، سيكون مكافأة مشكوكا فيها؟ وأن وعد الجنة هو رجم في الغيب وليس وعدا مضمونا؟ ربما كان حينذاك سيغير رأيه ويتراجع. ربما. فالاحتمال يستحق النظر فيه باهتمام. إنّ فِعْل وضْع القرآن موضعَ تساؤل هو ذاته جزء أساسي من حل لغز الإصلاح لأنه يشير إلى الغناء خارج السرب. وهو يعني عدم قبولكم بأن الإجابات معطاة أو أنها ستُعطى لكم. قال لي ضباط مخابرات في تورنتو يعملون مع خبراء بمكافحة الإرهاب في أنحاء العالم إن الانتحاريين كثيرا ما يرتدون أكثر من لباس داخلي واحد أو يَحْشُون المنطقة الحساسة من جسمهم بالجرائد لحماية أعضائهم التناسلية من قوة الانفجار".
وتعليقا على هذا نبادر أولا فنقول إن السخف والتفاهة فى المزاعم المضحكة حول ورق الصحف الذى يحشو به الاستشهادى المنطقة الحساسة من جصده لحمايتها من الانفجار لا تدل إلا على عقلية خائبة فى الدعاية الكاذبة رغم خبثها الشيطانى. كذلك لا يمكن لقائل ذلك الكلام أن يزعم صادقا أنه مسلم، إذ كيف يكون مسلما من لا يؤمن بأن هذا القرآن من عند الله، بل يصر على أنه اسْتُقِىَ من مصادر أخرى، وأنه كان عرضة للعبث والهوى وسوء الفهم حتى من الرسول نفسه. ونحن حين نقول هذا نقول معه أيضا إن هذه البنت حرة تماما فيما تقوله وتعتقده، كما أنها حرة تماما فى أن تكون سحاقية أو امرأة طبيعية. ذلك حقها فى الاختيار، مثلما هو من حقنا أن نكشف الستار عما يحاك لنا فى الغرب، ومنه بكل تأكيد إعدادُ أمثالها ورَمْيُهم فى طريقنا يُجْلِبون علينا، ويحاولون أن يُشِيعوا الاضطراب فى صفوفنا ويشككونا فيما نؤمن به من دين وقيم ومبادئ، وييئّسونا من جدوى الوسائل التى نتخذها للدفاع عن مقومات وجودنا وحاضرنا ومستقبلنا ودنيانا وأخرانا. وواضح أن كاتب الكلام قد وضع نصب عينيه تكسير مجاديف المجاهدين فى سبيل الله، أولئك الأبطال الذين يجرِّعون أمريكا الصاب والعلقم ويطيّرون النوم من عيونها ويستنزفون ملياراتها ويوقعون عشرات الآلاف من القتلى والجرحى من جنودها رغم قلة مواردهم وتخلف وسائلهم وأسلحتهم، ورغم التضييق الخانق المضروب عليهم واشتراك أطراف الأرض كلها تقريبا فى عداوتهم وحصارهم واقتفاء أثرهم والتبليغ عنهم بما فى ذلك كثير من أفراد أممهم حكامًا ومحكومين. إن الأمريكان يبذلون كل غالٍ ونفيس ويتمنَّوْن، ولو بخلع الضرس، بل ولو بقلع العين، أن يقضوا على روح الجهاد التى يخلقها الإسلام فى نفوس أتباعه، والتى لولا هى لكانت أمريكا قد انتهت منا والتهمتنا منذ زمن طويل، وذلك رغم كل التخلف والعيوب التى نعانى منها على كل الأصعدة والمستويات تقريبا. فما بالكم لو أن المسلمين قد استيقظوا كلهم على بَكْرَة أبيهم وهبَّتْ فيهم نسمة الحياة وتحركت نخوتهم وكرامتهم وانتفضوا يعملون ويجِدّون ويكِدّون ويبدعون ويستكشفون وينتجون ويتقنون، ولم يلقوا بالهمّ والمسؤولية كلها على عاتق تلك الطائفة القليلة منهم التى لم تستسلم ولم تَهِن أو تَهُن، بل ما زالت تحاول القيام بالمهمة وحدها فتُوَفَّق أحيانا وتُخْفِق فى كثير من الأحيان لأنها تتحرك فى إطارٍ مُعَادٍ أو على الأقل غير مبالٍ؟ ولا ينبغى أن يغيب عن بالنا ما ورد فى كلامها السابق عن العلاقة بينها وبين بعض رجال المخابرات والمعلومات التى يمدّونها بها مما يؤكد ما قلته عن دور تلك المؤسسة وأمثالها فى تأليف هذا الكتاب.
إن واضع الكتاب يتساءل: "ماذا كان سيحدث لو تربى محمد عطا على أسئلة تبحث في الروح عن إجابات بدلا من تربيته على يقينيات بسيطة؟ وعلى أقل تقدير، ماذا لو عرف هذا الطالب الجامعي أن من الممكن المِراء في أصول كلمات مختارة، كلمات محورية عن الآخرة؟ وأنها قد لا تكون بالمرة "كلمات خالق الأرض والأجرام السماوية"؟ وأن جزاء تدمير الذات، ناهيكم عن القتل الجماعي، سيكون مكافأة مشكوكا فيها؟ وأن وعد الجنة هو رجم في الغيب وليس وعدا مضمونا؟"، ثم يجيب على النحو التالى: "ربما كان حينذاك سيغير رأيه ويتراجع". وهى بالتأكيد إجابة صحيحة، لكنها ليست إجابة كاملة. أما تكملتها فهى أنه بعد أن يغير رأيه ويتراجع سوف يصيبه اليأس وسوف ينضم، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى طابور العملاء الأمريكيين الذين يخونون بلادهم وشعوبهم ويفسدون كل شىء عليها، مما يمدّ فى سطوة أمريكا على بلاد المسلمين ويفتح شهيتها الجشعة النهمة المجرمة لابتلاع كل شىء، أما فى ظل العمليات الاستشهادية الآن فإن ثمة شوكة بل أشواكا ناشبة فى حلقها تنغِّض عليها الأكل. وأملُنا مع الأيام أن تتحقق من أنها لن تستطيع أبدا التخلص من هذه الأشواك فتنصرف عن التهام ثرواتنا ووجودنا نفسه، وبمشيئة الله لن يكون ذلك بعيدا، اللهم إلا إذا استمرأت جماهير العرب والمسلمين هذا الخُمَار الذى يغيِّب عقلها ويضيِّع عليها الفرص الكثيرة التى يتيحها الله لها. وعندئذ قد نكون من الأمم التى تُوُدِّع منها فيستبدل الله بها أمما أخرى أكثر عزة وصلابة وصمودا واستعصاء على الالتهام لتتحمل مسؤولية نصرة هذا الدين العبقرى العظيم الذى فرَّطْنا فيه بغباء نادر، ولم نستطع أن نستلهم ما يستكنّ في أعماقه من إبداع كفيل بإبلاغنا الذُّرَى لو عَقَلْنا ونَشِطَتْ إرادتنا الخائرة المتهافتة التافهة التى لا تستطيع أن تنظر إلا إلى ما تحت أقدامها فلا تبصر السماء والنور والقمم! أيُعْقَل أن تكون هذه الأمة هى أمة محمد؟ والله إنه لحرام! إن فى قلبى، وأنا أخط هذه السطور، لَغُصَّةً ثقيلة! كيف وصل الأمر يا إلهى أن تتجرأ علينا "حِتّة عَيِّلة سحاقيّة مفعوصة" (سواء كانت هى مؤلفة الكتاب أو لم تكن) فتوبخنا وتعيث جهلا وإفسادا فى ديننا وتاريخنا وتنصر أعداءنا علينا، ثم يبلغ من بجاحتها أن تقول إنها هى مجتهدة العصر التى ستقدم الفهم الصحيح للإسلام، مساويةً هكذا رأسها برأس الشافعى وأبى حنيفة والطبرى والغزالى وابن تيمية والسيوطى والشوكانى وابن باديس وشلتوت والمودودى وغيرهم من الفطاحل الكرام؟ لقد هُنَّا هوانًا فظيعًا، ونحن للأسف مستحقّوه! إننى لا أستطيع أن أستقر فى مجلسى أمام الحاسوب، بل أقوم بين الفينة الفينة وأدور فى البيت كالملدوغ!
ومن إرشاد مانجى إلى كريستوف لوكسنبرج يا قلبى لا تحزن. ومرة أخرى يغلبنى التعبير التقليدى الذى لا يعبر عن الواقع، إذ الواقع يقول إنى حزين، ومن ثم كان ينبغى أن أقول: ومن إرشاد إلى كريستوف لوكسنبرج احزن يا قلبى واحزن واحزن على حالنا الذى لا يسر أحدا. تقول الكاتبة، أو يقول من كتب باسمها الكتاب، إن "هناك متاعب في الجنة، فإن خطأ بشريا وجد طريقه إلى القرآن، إذ تفيد الأبحاث الجديدة أن ما يمكن للشهداء توقعه مقابل تضحياتهم ليس حوريات، وإنما زبيبات! ذلك أن الكلمة التي قرأها فقهاء القرآن طيلة قرون على أنها كلمة "حُور" قد تُفْهَم فهمًا أدقّ بمعنى "الزبيب الأبيض" (لا تضحكوا، ليس بإفراط على أية حال. فالزبيب في الجزيرة العربية خلال القرن السابع كان من الطيبات الثمينة بما فيه الكفاية لأن يُعْتَبَر طبقا من أطباق الجنة). ولكن أن يكون الزبيب هو المقصود بدلا من الحُور؟ حاشا لله. كيف يمكن للقرآن أن يرتكب مثل هذه الغلطة؟". وهذا الهراء قد نقلته من مقال نشرته النيويورك تايمز للصحفى ALEXANDER STILLE بتاريخ 2 مارس 2002م بعنوان "Radical New Views of Islam and the Origins of the Koran "، وقد بحثتُ عن المقال حتى وجدته فقرأته ورأيت أن أنقل للقراء الفقرة التى تهمنا فى هذا السياق، وهى الفقرة الخاصة بالخطإ الذى يزعم الأغبياء أنه وقع فى القرآن فجعل علماء المسلمين يفسّرون "حُور" الجَنّة بأنهن النساء الجميلات، على حين أن المعنى الصحيح هو الزبيب الأبيض. وحتى لو كان المعنى هو الزبيب الأبيض، أليس هذا بالله عليكم أفضل من قعر سَقَر، الذى سيُشْوَى فيه المضلِّلون الجهلة الكافرون، كلما نضجت جلودهم بدّلهم الله جلودا غيرها ليستمروا فى مقاساة العذاب؟ على أية حال هذا هو النص:
"For example, the famous passage about the virgins is based on the word hur, which is an adjective in the feminine plural meaning simply "white." Islamic tradition insists the term hur stands for "houri," which means virgin, but Mr. Luxenberg insists that this is a forced misreading of the text. In both ancient Aramaic and in at least one respected dictionary of early Arabic, hur means "white raisin."
Mr. Luxenberg has traced the passages dealing with paradise to a Christian text called Hymns of Paradise by a fourth-century author. Mr. Luxenberg said the word paradise was derived from the Aramaic word for garden and all the descriptions of paradise described it as a garden of flowing waters, abundant fruits and white raisins, a prized delicacy in the ancient Near East. In this context, white raisins, mentioned often as hur, Mr. Luxenberg said, makes more sense than a reward of sexual favors".
كما وجدتُ فى موقع "Beith Drasha Discussion Forum" مقالا بعنوان "Giving the Koran a history" للصحفى Jim Quilty يتناول ما زعمه بعض المستشرقين من وقوع تغييرات فى النص القرآنى وفهمه، وفيه إشارة إلى لوكسنبرج وما قاله عن الحُور والزبيب، وهذا نص كلامه:
"Another more contentious conclusion was picked up by journalists at the New York Times and the Guardian after Sept. 11, 2001, because it seems to have direct implications for the aspirations of those hijackers, and Muslim suicide bombers generally. It concerns the houris, the angels or virgins whom, it is written, await those who attain paradise. Luxenberg argues that “hur” are not virgins but grapes or raisins, specifically white grapes which were considered a great delicacy at the time. Luxenberg’s restored version of the houris lines thus reads: “We will let them (the blessed in Paradise) be refreshed with white (grapes), (like) jewels (of crystal).” It is a less sensual notion of everlasting life to be sure, but, given that the virgins have always been said to be female, a less patriarchal one as well".
وخلاصته أن قوله تعالى: "وحُورٌ عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون" (الواقعة/ 22) ينبغى أن يفسَّر على النحو التالى: "ومتَّعناهم بزبيب أبيض كأمثال جواهر الكريستال". ويعلق الصحفى شامتا متهكما بأن معنى الآية قد أصبح بكل تأكيد أقل شهوانية، لكنه أصبح كذلك أقل إساءة للنساء (طبعا أقل إساءة للنساء السحاقيات اللاتى لا يردن الرجال، بل يغلبهن السعار إلى الشاذات مثلهن من بنات جنسهن).
وهذا كله كلام سخيف لا طعم له فى دنيا العلم ولا ولون ولا رائحة، فمن الواضح أن المستشرق الذى ينقل عنه هذان الصحفيان إما جاهل أو يستبله، والعلم لا يصلح فيه هذا أو ذاك. كيف؟ إنه يفعل ما يفعله كثير من المستشرقين حين يلدغهم الثعبان إذا ما جاءت سيرة القرآن فيزعمون أن هذه اللفظة القرآنية مأخوذة من الآرامية أو السريانية أو العبرية. المهم أنها ليست عربية، والسلام. ومقطع الحق فى هذه القضية أنه كانت هناك عدة لغات فى منطقة الشرق الأوسط، بعضها لا يزال حيا مستعملا حتى الآن، قد لاحظ المستشرقون بينها شبها فى الألفاظ والصيغ والتراكيب، فاستنتجوا من ذلك أن هذه اللغات هى فى الأصل فروع من لغة أصلية اندثرت فى الزمان الأول هى اللغة السامية. أما الفروع المشار إليها فهى السومرية والأكادية والآشورية والعبرية والسريانية والآرامية والعربية... بل إن بعض هؤلاء المستشرقين أنفسهم يقولون إن العربية هى تلك اللغة السامية الأم التى تفرعت منها اللغات المذكورة. وعلى كل حال فسواء قلنا إن العربية ما هى إلا فرع من اللغة السامية أو إنها هى هذه اللغة السامية نفسها، فالنتيجة التى ينبغى أن ننتهى إليها أنه لا يصح القول دائما وعلى نحو آلى كما يفعل المستشرقون بأن هذه اللغة السامية أو تلك (الآرامية والعبرية والسريانية بالذات، وهى اللغات التى ترتبط بالكتاب المقدَّس وأتباعه) هى الأصل الذى استعارت منه العربيةُ اللفظَ الفُلاَنىّ كما يحلو لبعض المستشرقين أن يقولوا كلما أرادوا أن ينفوا الأصالة عن القرآن الكريم. فالمشكلة إذن عندهم هى القرآن لا العربية فى حد ذاتها. والآن فإن مادة "ح و ر" موجودة فى العربية على نطاق واسع، والمعنى المحورى فيها هو البياض والصفاء. و"الأحور" هو الأبيض الصافى، و"الحوراء" صفة تُطْلَق على المرأة الشديدة بياض العين وسوادها. ولتكن هذه الكلمة بعد ذلك فى الآرامية ما تكون، فإن معناها هناك لا يلزمنا فى شىء، إذ المهم ماذا تعنى عندنا نحن؟ ثم ها هى ذى آيات القرآن التى وردت فيها هذه الكلمة، وكلها تتحدث عن سعادة المؤمنين فى الجنة مع أزواجهم: "كذلك، وزوَّجناهم بحُورٍ عِين" (الدخان/ 54)، "متكئين على فُرُشٍ بطائنها من إستبرقٍ، وزوّجناهم بحُورٍ عِين"الطور/ 20)، "حُورٌ مقصوراتٌ فى الخيام" (الرحمن/ 73)، "وحُورٌ عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون" (الواقعة/ 22). ترى هل يمكن عاقلا أن يقول إن الكلمة هنا تعنى "الزبيب الأبيض"؟ فمتى كان الزبيب الأبيض أو الأحمر أو الأزرق (أو "المهبّب بهباب أسود" كقلوب هذا الصنف من المستشرقين وعقولهم) يتزوج به الرجال؟ هل رأيتم زبيبة تُزَفّ إلى رجل؟ يا ألطاف الله، أدركينى! إن الزبيبة هى هذا المستشرق الذى ليس له عندى إلا: "طول عمرك يا زبيبة، وانت فى... العود". ثم دَعُونا من "الحُور العين"، التى يصر المستشرق الجاهل الحقود أنها لا تعنى إلا "الزبيب الأبيض"، فماذا نحن فاعلون فى الآيات الأخرى التى تذكر "العُرُب الأتراب" و"قاصرات الطَّرْف اللاتى لم يَطْمِثْهُنّ إنسٌ من قبل ولا جانّ" و" المؤمنين الذين هم وأزواجهم فى ظلالٍ على الأرائك متكئون"...إلخ، أهذا كله زبيب أبيض؟ يا عالم، اختشوا! صحيح: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"! وهؤلاء قوم لا يستحون ولا يختشون! ومع هذا كله فلن نكتفى بما مضى، بل سنمضى خطوة أخرى ونورد هذه الأبيات من الشعر الجاهلى الذى لم يكن أصحابه ولا مستمعوه يعرفون شيئا عن الجنة ولا ضَحِكَ عليهم بن لادن ولا الدكتور الزهّار وأوهماهم أن فى الجنة سبعين حورية، أى سبعين امرأة جميلة لا سبعين زبيبة كما ينبغى أن يكون معنى الكلام، ومنها البيت الذى يقوله ابن إسرائيل اليهودى (اليهودى، لاحظ! فلا هو مسلم ولا حتى عربى، وهذا من أبلغ البراهين على كذب ما يقول المستشرق). والأبيات لابن إسرائيل وامرئ القيس وعاجبة الهمدانى وعَبِيد بن الأبرص وعمرو بن قميئة وسلامة بن جندل ومالك بن فهم الأزدى والأعسر الضَّبِّى والمرقِّش الأكبر وعرفجة بن جُنَادة على الترتيب:
وعَدَتْ بوصلٍ، والزمانُ iiيُسَوِّفُ
نَـظَـرَت إِلَـيكَ بِعَينِ iiجازِئَةٍ
فَـأَسْرَعتُ الإِيابَ بِخَيرِ iiحالٍ
وَإِذ هِـيَ حَوراءُ المَدامِعِ iiطَفْلَةٌ
لَـهـا عَينُ حَوْراءَ في رَوضَةٍ
وَعِـنـدَنـا قينَةٌ بَيضاءُ iiناعِمَةٌ
وَجـعدةَ بنتَ حارثَة بن iiحَربٍ
حُـورٍ نَـواعِـمِ قَد لَهَوتُ iiبها
وفـيـهـنَّ حُورٌ كمثلِ iiالظِّباء
فـرَوْضُ ثُوَيْرٍ عن يمينٍ iiرَويّةٍ
حَـورَاءُ ناظِرُها حُسَامٌ iiمُرهَفُ
حَـوراءَ حـانِـيَـةٍ عَلى iiطِفلِ
إِلـى حَـوراءَ خَـرعَبَةٍ iiلَعوبِ
كَـمِـثـلِ مَـهاةٍ حُرَّةٍ أُمِّ فَرقَدِ
وَتَـقْرُو مَعَ النَبْتِ أَرْطًى iiطِوالا
مِثلُ المَهاةِ مِنَ الحُورِ الخَراعيبِ
مـن الـحُور المُحَبَّرةِ iiالحِسَانِ
وَشَـفَـيـتُ مـن لذّاتِها iiنَفسي
تَـقَـرَّوْا بأعلى السليلِ iiالهَدالا
كـأن لـم تـرَبَّعْه أوانسُ iiحُورُ
ومع ذلك كله هل يعتقد حقًّا هؤلاء الناس أن الشبان الاستشهاديين حين يضحّون بحياتهم إنما يضعون نُصْبَ أعينهم "الحُور العِين" (أى النساء الجميلات فعلا) بهذا المعنى الهلواسىّ كما يزعمون؟ أنا مثلا واحد من الذين يفكرون دائما فى الجنة، وكل ما أتطلع إليه هو الراحة الأبدية الشاملة والسعادة النقية المبرَّأة من الأكدار (وعلى رأس هذه الأكدار الاستعمار وجيوشه من المستشرقين والمبشرين والصحافيين الكاذبين المخادعين الضالين المضلين!). إننا لا نزعم النفور من مُتَع الجنة ومسرّاتها، لكننا نقول إن هذه المتع لا تكون حاضرة فى الذهن بالمعنى الذى يحاول هؤلاء المستشرقون أن يخيِّلوه لنا. ثم أليس مضحكا أن يسخر أولئك اللوطيون والسحاقيات من "الحُور العِين"؟ لكن ما المضحك فى الأمر، وهم ناس شَوَاذّ، والشَّوَاذّ لا يفهمون معنى الاستمتاع بالمتع الطاهرة النظيفة ولا يقدرون عليه؟ إنهم يريدونها جنة شاذة مثلهم! انظر مثلا كيف يتحدث الكتاب الذى يحمل اسم إرشاد مانجى عن فتوى أصدرتها منظمتان إنجليزيتان للُّوطيّين والسِّحاقيّات (ردًّا على ما قيل إنها فتوى كانت قد أفتت بها جماعة إسلامية فى بريطانيا بمحاكمة كاتب بريطانى ألف مسرحية صورت المسيح على أنه شاذ جنسى ووزعتها فى أنحاء المملكة المتحدة) وجاءت على النحو التالى: "ردا على الشيخ (...) أصدرت مجموعتان للدفاع عن حقوق المثليين، هما "Lesbian Avengers" و"Outrage"، "فتوى شاذة" ضده. وقيل إن الفتوى حكمت على (...) "بتعذيبه من خلال اللواط به دون توقف لمدة ألف عام". مسكين ذلك الشخص الذي سيتولى تعذيبه بهذه الطريقة"! بل مسكينة أنت وأمثالك من اللوطيين والسحاقيات، يا من لا تستطيعون أن تفهموا أو تستطعموا إلا لذائذ الخراء، فهنيئا لكم هذا الطبق الشهىّ الذى تجدون فيه بغيتكم كما تجد الديدانُ القذرةُ بغيتها فى الرِّمَم المنتنة! وبالمناسبة فبالإمكان الرد على هذه "الفتوى الشاذة" بفتوى أخرى فيها الدواء والشفاء، من داء الأُبْنَة العَيَاء، الذى حار فيه الأطباء، ألا وهى حَشْو دُبُر كل واحد منهم بقليل من مسحوق الشطة السودانى، وأنا زعيمٌ بأنهم سوف يتوبون بعدها توبة نصوحًا ويمشون كالأَلِف لا يلتفتون يمنة أو يسرة! والله عال يا لُمَامَة المجتمع! لم يبق إلا اللوطيون والسحاقيات يتهكمون على الكرام الأطهار بدلاً من أن يتوارَوْا خجلا ويتمنَّوْا أن تنشقّ الأرض وتبتلعهم!
ونختم كلامنا بما أشار إليه الكتاب مما يسمَّى: "قصة الغرانيق"، التى تتلخص فى الزعم بأن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : "اللات والعُزَّى ومَنَاة"، ثم حُذِفتا منها فيما بعد. يريدون القول بأن محمدا، عليه الصلاة والسلام، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم لـه ولأتباعه، ومن ثَمَّ أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله: " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى؟" (النجم /19– 20) على النحو التالى: "إنهنّ الغرانيق العُلا* وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته، بل لم يكن نبيا بالمرة، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه. وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبة، مع أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعضّ عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه!
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يعقل أن يبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقيب ذلك قوله تعالى: " ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟* تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى* إنْ هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إنْ تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل!
هذا، وقد أضفتُ طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية، إذ نظرتُ فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة. كيف ذلك؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة "افتعل" . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة "، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تغنى، يملك".
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية: " قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟" (يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 1)، " أفرأيتم الماء الذى تشربون؟* أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟* لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" ( الواقعة/ 68– 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف)+ ضمير (اسمها)+ اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ"ذات عاقلة" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله، كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبو / إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً"، ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى (تحقيق أحمد زكى/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 19) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثَمَّ فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم"، وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعض المشركين ما سيأتى بعد ذلك فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحـــديث إلى المـــدح بــــدلا من الــــذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/ 26)، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب. ولتقريب الأمر أسوق للقارئ مثالا على هذه الطريقة كنت من شهوده، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: "إن ما بينى وبينك عميق!"، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه!
ونختم كلامنا بنقل المقال التالى الذى كتبه أ. حسن السرّات فى جريدة الشعب بتاريخ الجمعة 13/ 5/ 2005 عن الشذوذ الجنسى وانتشاره كالوباء بين الأوربيين والكوارث الصحية والأخلاقية التى تترتب عليه، والقوم رغم ذلك لاهون وماضون فى إشعال الحرائق كما فعل نيرون الطاغية بروما. ونحن نؤمن إيمانا جازما أن ذلك سيكون من العوامل التى تؤدى إلى انهيار العالم الغربى رغم كل القوة والجبروت التى هو عليها، وإن كان هذا لا يعنى بالضرورة أننا نحن المسلمين نصلح بأوضاعنا الحالية لقيادة العالم بعده. على كل حال لنقرإ المقال ولنعتبر:
"الاشتراكيون الأوروبيون والشذوذ الجنسي"
"إسبانيا الكاثوليكية تبيح للشواذ الزواج وفرنسا تترقب"
صوت البرلمان الإسباني ذو الأغلبية الاشتراكية على مشروع قانون يعترف للشواذ الجنسيين بالزواج فيما بينهم وتبني الأطفال وتكوين أسرة، وبتصويت 183 نائبا برلمانيا لصالح مشروع القانون في مقابل 136 من الرافضين وامتناع 6 عن التصويت يوم الخميس 21 أبريل 2005، تكون إسبانيا على عهد الحكومة الاشتراكية بقيادة زاباتيرو أول حكومة أوروبية ستغير مدونتها المدنية لفتح المجال أمام زواج الشواذ وتبني الأطفال في الوقت الذي ما تزال حكومة دول أخرى في مرحلة نقاش وأخذ ورد. بينما اعترفت كل من هولندا وبلجيكا للشواذ بالزواج من دون تبني أطفال عام 2003.
وقد قوبل مشروع القانون بابتهاج جماعات الدفاع والضغط لصالح زواج الشواذ، إذ كان بعضها حاضرا يوم التصويت، كما أنها قامت بعدة مسيرات ومظاهرات احتجاجية وعمليات ضغط مستمرة، ومن المرتقب أن ينظموا مسيرة حاشدة للاحتفال بهذا "الانتصار التاريخي" في عهد الاشتراكيين في شهر يوليوز القادم، بعد أن كانوا ممنوعين من الظهور على عهد فرانكو ومن الاعتراف بالزواج على عهد خوسي ماريا أزنار زعيم الحزب الشعبي اليميني رئيس الحكومة السابقة.
وفي الجهة الأخرى، أعربت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية عن معارضتها الشديدة لهذا الاعتراف في بيان وصفت فيه هذا القانون بأنه "ظالم بشكل جذري وضار بالمصلحة العامة"، وأن "المصلحة العليا للأطفال تقتضي ألا يصنعوا في المختبرات ولا أن يتبناهم أشخاص من جنس واحد". وأضاف البيان أن "صناعة عملة مزورة هو إهدار لقيمة العملة الأصيلة، وأن مساواة زواج الشواذ بالزواج السوي إدخال لعنصر خطير لتفسخ النظام الاجتماعي".
وفي السياق ذاته، دعا الكاردينال ألفونسو لوبيز تروخييو، رئيس المجلس البابوي للأسرة، إلى معارضة هذا القانون، معتبرا أن من واجب المسيحيين أن يعارضوا هذا "القانون الظالم"، وصعد الكاردينال من لهجته وهو يجيب عن أسئلة صحيفة "كوريير ديلا سيرا" قائلا "على كل المسيحيين أن يكونوا مستعدين لدفع الثمن اللازم والغالي، ولو اقتضى ذلك ضياع فقدان مناصب عملهم.
وفي فرنسا، قررت الإدارة المركزية للحزب الاشتراكي دعم "حقوق" الشواذ في الزواج ومساواتهم في هذا مع الأسوياء جنسيا، ويشتغل الحزب، الذي توجد في داخل هيئاته هيئة تمثل الشواذ الاشتراكيين الأمميين، منذ مدة على إعداد مشروع قانون في هذا السياق ليتقدم به إلى البرلمان. وكان السكرتير الأول للحزب فرانسوا هولند قد صرح بأن "الزواج ينبغي أن يفتح للجميع". كما أن عمدة باريس الاشتراكي برتراند دولانوي لا يتردد في الكشف عن شذوذه والدفاع عن حق الشواذ في الزواج، وسجل ذلك في كتاب وقع بعض نسخه في المغرب أثناء زيارة له في مطلع سنة 2005. وقد سبق للزعيم الاشتراكي ليونيل جوسبان عندما كان في الحكم أن أباح الزواج المدني "الباكس" للشاذين، بينما يعارض اليمين الفرنسي والرئيس جاك شيراك ووزيره الأول رافاران زواج الشاذين وتبنيهم للأطفال.
في يوم الجمعة 4 يناير 2005، نشرت الجمعية الوطنية الفرنسية للوقاية من الأنكولوجيا والأديكتولوجيا نتائج أول تحقيق حول سبب تصاعد انتشار شرب الخمور وأخذ أقراص نفسية منشطة وعلاقة ذلك بالشذوذ الجنسي. وكشف التحقيق أن تناول الخمور أصبح مفرطا متجاوزا التردد الأسبوعي إلى التردد عدة مرات في اليوم لدى الفئة العمرية 18-25 سنة بين الشواذ (10 في المئة بين الشواذ في مقابل 3 في المئة لدى عامة السكان). ولا يتوقف الأمر عند تناول الخمور ولكن يتعزز ذلك بتناول الأقراص النفسية المنشطة والمخدرات بمختلف أنواعها مما يعتبر دلالة قوية على درجة الاضطراب والانهيار النفسي والاجتماعي الذي تعيشه هذه الفئة. كما أن دراسات كندية أثبتت ارتفاع نسبة الانتحار بين الشاذين الكنديين والأمريكيين.
وبالإضافة إلى انتشار السيدا بين الشواذ وعودة الأمراض التنقلة جنسيا، كشفت آخر الأخبار الطبية عن ظهور مرض جلدي متنقل جديد بين الشواذ (ل.جي.في أو مرض نيكولا-فافر)، وقد سجلت -منذ يناير 2004- 142 حالة في فرنسا و136 في هولندا وكذلك في ألمانيا والمملكة المتحدة وإسبانيا.
غير أن أخطر انزلاق ينحدر إليه "المناضلون" الشواذ هو الميل الجنسي للأطفال (البيدوفيليا) وسعيهم إلى تطبيعها وممارستها والدفاع عنها، وقد عرف في تاريخ أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، عدة كتاب وزعماء من اليسار ممن دعوا إلى الاعتراف بالبيدوفيليا و"التسامح" معها. وتعتبر حالة عمدة مدينة بريم مايكل إنجلمان (35 سنة) عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة جيرهار شرودر ورئيس فيدرالية الاشتراكيين الشواذ حالة نموذجية إذ ضبط متلبسا بالتعاطي للبيدوفيليا مما دفعه إلى تقديم استقالته.
في فرنسا دائما يدوراليوم نقاش واسع حول حقوق المدرسين الشواذ في الظهور والخروج من الظل إلى واضحة النهار، ويتولى مطالبهم، بالإضافة إلى التنظيم الدولي للشاذين والسحاقيات، نقابات خاصة بهم، وقد شاركوا في مسيرات عيد الشغل تحت يافطات خاصة بهم.
يذكر أن الشواذ الجنسيين منظمون على الصعيد العالمي تنظيما محكما، ولهم جمعية دولية تتولى تمثيلهم والدفاع عنهم وعن السحاقيات من النساء، كما أن لهم قوى ولوبيات للضغط، ووسائل إعلامية معتبرة، ويستعدون حاليا لتنظيم مسيرة عالمية في دولة الكيان الصهيوني، موازاة مع مسيرات أخرى في مدن عالمية. وإذا كانوا قد استطاعوا الحصول على عدة "حقوق" في البلدان الغربية، فإن البلدان الإسلامية تمثل لهم قلاعا لم تفتح بعد في وجوههم للظهور العلني، ولديهم خطط خاصة بعدة دول الإسلامية للضغط عليها وتحطيم بعض القوانين المانعة لشذوذهم، ومنها تشكيل تنظيمات من الشواذ الجنسيين "المسلمين" حسب كل قطر، وتحريضهم ليكشفوا عن أنفسهم حتى إذا ما قمعتهم السلطات وأرجعتهم إلى منطقة الظل سارعت عدة جمعيات شاذة إلى تولي الدفاع عن "مظلوميتهم"، وقد عرف المغرب ومصر حالات مثل هذه تدخلت فيها منظمات دولية وإقليمية، بل وشخصيات سياسية من الخارج.
ومن الأساليب التي يستخدمها الشواذ للتغلغل إلى العالم الإسلامي الزعم بأن الدين الإسلامي لا يعارض الشذوذ الجنسي، والتصريخ بذلك على لسان شخصيات تقول إنها مسلمة مثلما وقع في إسبانيا في شهر أبريل 2005 حينما دعا "برادو" على موقعه الإلكتروني "ويب إسلام" إلى فتح حوار حول مسألة الشذوذ الجنسي في الإسلام. ولم يستبعد برادو إمكانية تزويج الشواذ من المسلمين في إسبانيا وفق القانون الذي يبيح زواج الشواذ في أسبانيا. كما استنكر برادو في حوار له مؤخرا مع مجلة "ديالوجار" الأسبانية ما أسماه "ملاحقة الشواذ في البلدان الإسلامية". موقف استنكرته الجمعيات الإسلامية الإسبانية كلها وطالبت بإقالته من منصبه.
Home
إرسال تعليق